بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: تفسير الكَرْمانِي (غَرَائِبُ التَّفْسِيرِ وعَجَائِبُ التَّأْوِيلِ)
المؤلف: تاج القراء / محمود بن حمزة الكَرْمانِي
دار النشر: دار القبلة للثقافة الإسلامية - جدة
مؤسسة علوم القرآن - بيروت
عدد الأجزاء: 2
تنبيه:
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(فائدة مهمة لفهم هذا الكتاب)
قال مصنف الكتاب -رحمه الله تعالى - عند تفسيره سورة الفلق:
" وكل ما وصفته بالعجيب ففيه أدنى خلل ونظر ".(1/86)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رب يَسر وتَمم بالخيرِ
قال الشيخُ الإمام، سعد الإسلام، برهان الدين، ضياء الأئمة.
جمال العلماء، قطب الأفاضل، زين المفسرين ورئيس الفريقين، تاج
القراء أبو القاسم محمود بن حمزة بن نصر الكرماني - رحمه الله وبرد
مضجعه -: نَبْدَأ بسمِ الله ونحمده ونعبدهُ ونَستعينه ونستهديه، ونصلي على محمد خيرِ البرية وعلى آلهِ ونسلم تسليماً. وبعد:
فَإن أكثرَ العلماء والمتعلمين في زماننا يرغبون في غرائب تفسير
القرآن وعجائب تأويله، ويميلون إلى المشكلاتِ المعضلات في أقاويله.
فجمعت في كتابي هذا منها، ما أقدر أن فيه مقنعاً لرغبتهم ومكتفىً(1/87)
لطلبتهم، لِمَا روي عن النبي - صلي الله عليه وسلم - أنه قال - "أعَرِبوا
القرآنَ والتمسُوا غرَائبَة، فإن الله يحب أنْ تعربَ آي القرآن "، ولما ذكر
ابن عباس - رضي الله عنه -: أن هذا القرآن ذو شجونٍ وفنون
وظهور وبطونٍ، لا تنقضي عجائِبه، فمن أوغلَ فيه برفقٍ نجا.
ومن أوغل فيه بعنف هوى".
وأوجزت ألفاظهُ من غيرِ إطناب، فإن مجتَنى كنوز العلم في
اختياره وحسنِ جَمْعهِ واختصارِهِ.
ولم أشتغل بذكرِ الآيات الظاهرة والوجوه المعروفة المتظاهرة.
ولا بذكر الأسباب والنزولِ والقصص والفصولِ.
فإني قد أودعت جميع ذلك في كتابي الموسوم بـ " لباب التفاسير".
من غير إفراطٍ مني فيه ولا تقصير.
مستعيناً بالله ومعتمداً عليه إنه ولي الإعانة والتوفيق.(1/88)
سورة الفاتحة
من غريب ما ذكر فيه، أن أصله [بسِمِ - بثلاث كسرات - كسرة الباء.
وهي] مختصة به، لأنه تجرد لعمل الَجر، فجعل من عمله عليه علامة.
وكسرةُ السين، وهي على لغة من قال: سِم - بكسر السين -، وأنشد:
بِسمَ الذي في كلِّ سورَة: سِمُه.
وكسرةُ الميم، وهي إنجرارهُ بالباء، فسكن السين، لتوالي
الكسرات، وهو مما رفض من كلامهم، حتى لم يأت في الأصول كسرتان
متواليتان، إلا في قولهم " إبِل " و " إطِل " و " امراةُ بلز " أي عجوز، و "أتان"(1/89)
"إبِد"، أي تلد كل عام.
وقال بعضهمْ بِسم - بضم بين كسرتين -.
والضم فيه لغة، وأنشد البيت بالوجهين، ثم سكن السين، إذ ليس في
كلامهم خروج من كسر إلى ضم بناءً لازما. وهذان القولان أشد موافقة
للإمام، لأنه فيه بغير ألف.
وفي الاسم لغات، اِسم، واُسْمُ - بالضم -، وسِم - بالكسر -.
وسُم - بالضم -، وسمى مثل هدى، واشتقاقه من السمو، لأن الاسم
يسمو مسماه، ويعلوه، وأصله سِمْو كقِنْو وحِنْو، نُقل الإعراب من اللام
إلى العين، وحذِفَ اللام، ونقِل سكون العين إلى الفاء على غير قياس.
فتعذر الابتداء به، لسكونه، فَزِيدَ في أولهِ ألف الوصل تَوصلاً إلى النطق به.
وليكون جبرا له من حذف لامه، وإذا جمع رُدَّ إلى الأصل، وكذلك في
التصغير، تقول في الجمع: أسماء كأقناء وأحناء، وفي التصغير، سُمي كقُني
وحني.
وذهب الكوفيون إلى: أن اشتقاقه من السِمة، وأصله وسم،(1/90)
والاسم سمة للمسمى وعلامة له، ثُم حذِف فاؤه وزيدَ في أَولهِ ألف الوصل.
وذهب بعض منهم إلى: أن الواو قلِب همزة كإعاء وإشاح، ثم كثر
استعماله، فجعل ألف وصل، والجمع والتصغير، والفعل سَمي تسمية.
وعدم النظير يدل على بطلان قولهم.
وعند الجمهور: أصل بسم باسْمِ، كما في قوله: (اقْرَأ باسْم
ربكَ " و " فَسح بِاسْم رَبَك"، و " بئس الاسْم الفسُوق)
لكنًّ الألفَ حذِفَ من الخطَ لعلتين، إحداهمَا: كونه ألفَ وصل.
والثانيةْ كثرة الاستعمال، ولم تُوجدْ إحدى العلتين في باسم ربك و " بئس
الاسم " فلم تحذف. وهاتان العلتان غير كافيتين، لأنهما وجدتا في ألف الله
من "بسم الله " ولم تحذف، وإنما يتم إذا أضيفت إليهما علة أخرى. -
فقلت: ولاتصال الباء بـ " اسم " وامتزاجه به، بحيث لا يمكن فصله
عنه، بخلاف اتصال بسم بالله، فإنه يمكن فصله عنه والوقف عليه في
الإِملاء والاستملاء.
ووزن اسم عند البصريين على اللفظ إفعٌ، ووزن "سِم " فعٌ "
ووزنه عند الكوفيين "إعلٌ " أو " فعل "، على من جعل الهمزة بدلًا من(1/91)
الواو. ومحل "بسم الله " من الإعراب رفع عند البصريين، وتقديره:
ابتدائي بسم الله، فحذف المبتدأ، وعند الكوفيين نصب بإضمار فعل هو خبر
أو أمر، نحو: أبدأُ بسم الله أو أبدأ بسم الله.
العجيب: " بسم الله " قسم في أول كل سورة.
وأجاز الأخفش والكسائي حذف الألف من (اقْرأ بِاسْمِ
رَبًكَ، و " فسبح باسْم رَبك " و (بئس الاسْمُ) .
وخالفا في ذلك جميع القراء - والله أعلَم -.
ومن عجيب ما ذكر فيه: قول سليمان بن يسار: الباء: بريء من
الأولاد، والسين: سميع الأصوات، والميم: مجيب الدعوات. وقول سهل
بن عبد الله التستري: الباء: بهاء الله، والسين: ثناء الله، والميم:(1/92)
مجده. وقول أبي بكر الوراق: الباء من بسم الله على ستة أوجه: بارىء
خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه هو الله الخالق البارىء، ثم أخذ يعد
الوجوه، قال: والسين على خمسة أوجه:
والميم على اثني عشر وجهاً. وعد
الوجوه. وهذه وأمثالها يجب الاستغفار منها، لأن هذا ربما يسوغ في المقطعة
من الحروف، وأما ما ألفت وجعل اسما، وأفعالاً وأدوات فلا يسوغ فيها
هذا بوجه من الوجوه.
وحكى الفراء عن الكسائي: أن العرب تقول: اسم - بكسر
الألف -، وأسم - بضمها -، فإذا طرحوا الألف، قال الذين لغتهم كسر
الألف: سِم - بالكسر -، وقال الذين لغتهم ضم الألف: سُم - بالضم -، وقال بعضهم: هو أمر من سما يسمو، جعل اسما. وذهب أبو عبيدة إلى: أن الاسم زيادة، زِيد للفرق بين اليَمينِ والتيَمن. وأنشد:
إلى الحوْلِ ثُمَّ اسم السلامِ عَلَيْكمَا. . . وَمَنْ يبْكِ حَوْلًا كَامِلاً فَقَد اعْتَذَرْ
أي ثم السلام عليكم. وقال بعضهم: السلام في البيت هو الله، فلا
يكون الاسم زيادة.(1/93)
ومن غريب ما ذُكرَ في لفظ الله عز اسمه: أنَّ أصله لاها
بالسريانية، حذف الألف من آخره وزيد الألف واللام في أوله. وقريب منه
عند النحاة قول من قال: إلى أنه اسم علم غير مشتق.
ومن عجيب ما ذكر فيه، ما حكاه أبو القاسم بن حبيب في تفسيره
عن جماعة: أن أصل الله، هاء الكنابة، وذلك أنَّهم أشاروا إليه بما وضع
في نفوسهم من دلائل الفطرة، إذْ لم يعلموا له اسماً موضوعاً، ثم أدخلوا
على الكناية لام الملك، فصار له يعنون له الخلق والأمر، ثم مدّوا بها
أصواتهم تعظيماً وتفخيماً، فقالوا: لاه، ثم وصلوا بلام المعرفة فصار الله.
واعتماد المحققين على قول سيبويه: أحدهما: أنَّ أصله إِلَه.
والثاني: أن أصله ل ي هـ "لَيه" وقوله - سبحانه -: (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ) يشهد للقول الأول، وقراءة من قرأ - وإن كانت شاذة - تشهد للقول الثاني، وهي: "في السماء لاه وفي الأرض لاه ". وما حكاه أبو زيد: الحمد لاه رب العالمين، يحتمل الوجهين، لأنّ أصله لله
__________
(1) قال السمين:
و «الله» في «بسم الله» مضافٌ إليه، وهل العاملُ في المضاف إليه المضافُ أو حرفُ الجرِّ المقدََّرِ أو معنى الإِضافة؟ ثلاثةُ أقوال خَيْرُها أوسطُها. وهو عَلَمٌ على المعبودِ بحق، لاَ يُطلق على غيره، ولَم يَجْسُرْ أحدٌ من المخلوقين أن يَتَسَّمى به، وكذلك الإِله قبل النقل والإِدغامِ لا يُطْلق إلا على المعبودِ بحقٍّ. قال الزمخشري: «كأنه صار عَلَماً بالغلَبة» ، وأمّا «إله» المجردُ من الألف واللام فيُطلق على المعبود بحقٍّ وعلى غيره، قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ، {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] ، { [أَرَأَيْتَ] مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الفرقان: 43] . واختلف الناسُ هل هو مُرْتَجَلٌ أو مشتق؟ ، والصوابُ الأولُ، وهو أعرفُ المعارف. يُحْكى أن سِيبوِيه رُئيَ في المنام فقيل [له] : ما فعلَ اللهُ بك؟ فقال: خيراً كثيراً، لجَعْلِي اسمَه أعرفَ المعارفِ.
ثم القائلونَ باشتقاقِه اختلفوا اختلافاً كثيراً، فمنهم مَنْ قال: هو مشتقٌّ من لاهَ يليه أي ارتفع، ومنه قيل للشمس: إلاَهة بكسر الهمزة وفتحها لارتفاعها، وقيل: لاتخاذِهِم إياها معبوداً، وعلى هذا قيل: «لَهْيَ أبوك» يريدونَ: للهِ أبوك، فَقَلَب العينَ إلى موضع اللام. وخَفَّفه فَحَذَفَ الألفَ واللامَ وحَذَفَ حرفَ الجرِ. وأَبْعد بعضُهم فَجَعَلَ مِنْ ذلك قولَ الشاعر:
24 ألا ياسَنا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمى. . . لَهِنَّكَ من برقٍ عليَّ كريمُ
قال: الأصلُ: لله إنك كريمٌ عليَّ، فَحَذََفَ حرف الجر وحرف التعريف والألفَ التي قبل الهاء من الجلالة، وسَكَّن الهاءَ إجراءً للوصل مُجْرى الوقف، فصار اللفظ: لَهْ، ثم أَلقى حركة همزة «إنَّ» على الهاء فبقي: لَهِنَّك كما ترى، وهذا سماجَةٌ من قائلِه. وفي البيت قولان أيسرُ من هذا.
ومنهمَ مَنْ قال: «هو مشتقٌّ من لاه يَلُوه لِياهاً. أي احتجَبَ، فالألف على هذين القولين أصليةٌ، فحينئذ أصلُ الكلمة لاَهَ، ثم دخل عليه حرفُ التعريف فصار اللاه، ثم أُدْغِمت لام التعريف في اللام بعدها لاجتماعِ شروطِ الإِدغام، وفُخِّمت لامُه. ووزنُه على القولين المتقدِّمين إمَّا: فَعَل أو فَعِل بفتح العين أو كسرِها، وعلى كل تقدير: فتحرَّك حرفُ العلة وانفتحَ ما قبلَه فقُلِب ألفاً، وكان الأصلَ: لَيَهاً أو لَيِهاً أو لَوَهاً أو لَوِهاً.
ومنهم مَنْ جَعَلَه مشتقاً من أَلَه، وأَلَه لفظٌ مشترك بين معانٍ وهي: العبادةُ والسكون والتحيُّر والفزع، فمعنى «إله» أنَّ خَلْقَه يعبدونه ويسكنون إليه ويتحيَّرون فيه ويفزعون إليه. ومنه قولُ رؤبة:
25 لِلَّهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ. . . سَبَّحْنَ واسْتَرْجَعْنَ مِنْ تألُّهي
أي: من عبادتِه، ومنه {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127] أي عبادتك. وإلى معنى التحيُّر أشار أمير المؤمنين بقوله: «كَلَّ دون صِفاته تحبيرُ الصفات وضَلَّ هناك تصاريفُ اللغات» وذلك أن العبد إذا تفكَّر في صفاته تحيَّر، ولهذا/ رُوي: «تفكروا في آلاء الله، ولا تتفكروا في الله» وعلى هذا فالهمزةُ أصلية والألفُ قبل الهاء زائدةٌ، فأصلُ الجلالة الكريمة: الإِله، كقولِ الشاعر:
26 معاذَ الإِله أن تكونَ كظبيةٍ. . . ولا دُمْيَةٍ ولا عَقِيْلَةٍ رَبْرَبِ
ثم حُذِفت الهمزةُ لكثرةِ الاستعمال كما حُذفت في ناس، والأصل أُناس كقوله:
27 إنَّ المَنايا يَطَّلِعْ. . . نَ على الأُناس الآمِنينا
فالتقى حرفُ التعريفِ مع اللامِ فأُدْغِم فيها وفُخِّم. أو نقول: إن الهمزة من الإِله حُذِفت للنقل، بمعنى أنَّا نَقَلْنا حَرَكتَها إلى لام التعريف وحَذَفْناها بعد نقل حركتها كما هو المعروف في النقل، ثم أُدغم لامُ التعريف كما تقدَّم، إلا أنَّ النقلَ هنا لازِمٌ لكثرةِ الاستعمال.
ومنهم مَنْ قال: هو مشتقٌ من وَلِهَ لكونِ كلِّ مخلوقٍ والِهاً نحوَه، وعلى ذلك قال بعض الحكماء: «الله محبوب للأشياءِ كلها، وعلى ذلك دلَّ قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] ، فأصله: وِلاه ثم أُبدلت الواو همزةً كما أُبدلت في إشاح وإعاء، والأصلُ: وِشاح ووِعاء، فصار الفظُ به: إلاهاً، ثم فُعِل به ما تقدَّم مِنْ حَذْفِ همزتِه والإِدغام، ويُعْزَى هذا القول للخليل، فعلى هذين القولين وزنُ إلاه: فِعال، وهو بمعنى مَفْعول أي: مَعْبود أو متحيَّرٌ فيه كالكِتاب بمعنى مكتوب.
وُردَّ قولُ الخليل بوجهين، أحدهما: أنه لو كانت الهمزةُ بدلاً من واو لجاز النطق بالأصلِ، ولم يَقُلْه أحد، ويقولون: إشاح ووشاح وإعاء ووعاء. والثاني: أنه لو كان كذلك لجُمع على أَوْلِهة كأَوْعِية وأَوشِحَة فتُرَدُّ الهمزة إلى أَصلها، ولم يُجْمع» إله «إلا على آلهة.
وللخليل أن ينفصِلَ عن هذين الاعتراضين بأنَّ البدلَ لزِم في هذا الاسمِ لأنه اختصَّ بأحكامٍ لم يَشْرَكَهْ فيها غيرُه، كما ستقف عليه، ثم جاء الجمع على التزامِ البدل.
وأمَّا الألفُ واللامُ فيترتَّب الكلامُ فيها على كونِه مشتقاً أو غيرَ مشتقٍّ، فإنْ قيل بالأول كانَتْ في الأصل مُعَرِّفةً، وإنْ قيل بالثاني كانت زائدةً. وقد شَذَّ حذفُ الألفِ واللامِ من الجلالة في قولهم» لاهِ أبوك «، والأصل: للهِ أبوك كما تقدم، قالوا: وحُذِفَت الألفُ التي قبل الهاء خَطَّاً لئلا يُشْبَّهَ بخط» اللات «اسم الصنم، لأن بعضهم يقلبُ هذه التاء في الوقف هاءً فيكتُبها هاءً تَبَعَاً للوقف فمِنْ ثمَّ جاء الاشتباه.
وقيل: لئلا يُشَبَّه بخط «اللاه» اسمَ فاعل من لها يلهو، وهذا إنما يَتِمُّ على لغة مَنْ يحذف ياءَ المنقوص المعرَّف وقفاً لأن الخطَّ يتبعه، وأمَّا مَنْ يُثْبِتُها وقفاً فيثبتها خطَّاً فلا لَبْس حينئذ. وقيل: حَذْفُ الألف لغةٌ قليلة جاء الخط عليها، والتُزمَ ذلك لكثرة استعماله، قال الشاعر:
28 أقبلَ سَيْلٌ كان من أمر اللهْ. . . يَحْرِدُ حَرْدَ الجَنَّة المُغِلَّهْ
وحكمُ لامِه التفخيمُ تعظيماً ما لم يتقدَّمْه كسرٌ فترقّقُ، وإن كان أبو القاسم الزمخشري قد أطلق التفخيمَ، ولكنه يريد ما قلته. ونقل أبو البقاء أنَّ منهمِ مَنْ يُرَقِّقُها على كل حال. وهذا ليس بشيءٍ لأن العربَ على خِلافِه كابراً عن كابرٍ كما ذكره الزمخشري. ونقل أهلُ القراءة خلافاً فيما إذا تقدَّمَه فتحةٌ ممالةٌ أي قريبة من الكسرة: فمنهم مَنْ يُرَقِّقها، ومنهم مَنْ يُفَخِّمُها، وذلك كقراءة السوسي في أحدِ وَجْهَيْه: «حتى نَرَى اللهَ جَهْرةً» .
ونقل السهيلي وابن العربي فيه قولاً غريباً وهو أنَّ الألف واللام فيه أصليةٌ غيرُ زائدةٍ، واعتذرا عن وَصْلِ الهمزةِ بكثرة الاستعمال، كما يقول الخليل في همزةِ التعريف، وقد رُدَّ قولهُما بأنه كان ينبغي أن يُنَوَّن لفظُ الجَلالةِ لأنَّ وزنَه حينئذ فَعَّال نحو: لآَّل وسَآَّل، وليس فيه ما يمنعه من التنوينِ فدلَّ على أنَّ أل فيه زائدةٌ على ماهيةِ الكلمةِ.
ومن غريبِ ما نُقِل فيه أيضاً أنه ليس بعربي بل هو مُعَرَّب، وهو سُريانيُّ الوَضْعِ وأصله: «لاها» فَعَرَّبَتْه العربُ فقالوا: الله، واستدلُّوا على ذلك بقول الشاعر:
29 كحَلْفَةٍ من أبي رياحِ. . . يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبارُ
فجاء به على الأصلِ قبل التعريبِ، ونقل ذلك أبو زيد البلخي.
[ومِنْ غريب ما نُقل فيه أيضاً أنَّ الأصل فيه الهاءُ التي هي كنايةٌ عن الغائب] قالوا: وذلك أنهم أثبتوه موجوداً في نظر عقولِهم فأشاروا إليه بالضمير، ثم زِيدَتْ فيه لامُ المِلْك، إذ قد عَلِموا أنه خالقُ الأشياء ومالِكُها فصار اللفظ: «لَهُ» ثم زِيدت فيه الألف واللام تعظيماً وتفخيماً، وهذا لا يُشبه كلامَ أهل اللغة ولا النَحْويين، وإنما يشبه كلامَ بعض المتصوفة.
ومن غريب ما نُقل فيه أيضاً أنه صفةٌ وليس باسم، واعتلَّ هذا الذاهب إلى ذلك أنَّ الاسم يُعَرِّفَ المُسَمَّى والله تعالى لا يُدْرَكُ حِسَّاً ولا بديهةً فلا يُعَرِّفُه اسمه، إنما تُعَرِّفه صفاتُه، ولأن العَلَم قائمٌ مقامَ الإِشارة، واللهُ تعالى ممتنعٌ ذلك في حقه. وقد رَدَّ الزمخشري هذا القولَ بما معناه أنك تصفه ولا تَصِفُ به، فتقول: إله عظيم واحد، كما تقول: شيءٌ عظيم ورجلٌ كريم، ولا تقول: شيء إله، كما لا تقول: شيء رجل، ولو كان صفةً لوقع صفةً لغيره لا موصوفاً، وأيضاً فإنَّ صفاتِه الحسنى لا بُدَّ لها من موصوف تَجْري عليه، فلو جَعَلْتَها كلَّها صفاتٍ، بقيت غيرَ جاريةٍ على اسمٍ موصوفٍ بها، وليس فيما عدا الجلالة خلافٌ في كونِه صفةً فَتَعَيَّن أن تكونَ الجلالةُ اسماً لا صفةً.
والقولُ في هذا الاسم الكريمِ يحتمل الإِطالةَ أكثرَ ممَّا ذكرْتُ لك، إنما اختصرْتُ ذلك خوفَ السآمة للناظر في هَذا الكتاب. اهـ (الدر المصون / للسمين الحلبي. 1 / 23 ـ 29)(1/94)
حذف الجار اكتفاءً بدليل عمله عليه، وهو الجر، وحذف لام التعريف.
لأنَّ حذف التنوين يدل عليه، وبقى لاه، يجوز أنْ يكون من القول الأول بعد حذف الهمزة، ويجوز أنْ يكون من الثاني.
ويختص اسم الله تعالى بأشياء لا يشاركه فيها غيره من أسماء الله
سبحانه، ولا من سائر الأسماء، أحدها: أنْ ينادى بـ " يا "، والاسم إذا كان فيه الألف واللام ينادى بيا " أيها ". والثاني: قطع أَلِفه في باب النداء أيضاً، نحو: يا ألله بقطع الألف.
والثالث: زيادة الميم المشددة في آخر - اللهم -
عوضاً عن ياء النداء، وقد تحذف الألف واللام مع الميم، قال الشاعر:
لا هُمَّ إنَّ عامرَ بن الجَهمَ
والرابع: إدخال التاء عليه في القسم، نحو: تالله، ولا يجوز
تالرحمن ولا غيره.
الخامس: أنْ يبقى بعد حذف الجار مجروراً، وذلك
في القسم أيضاً تقول: الله ما فعلت كذا. والسادس: تفخيم اللام إذا
انفتح ما قبله أو انضم، نحو: إن الله، ويضرب الله، ومن القراء من يفخمه
من الكسرة أيضاً، وفد ذكرت هذا مشروحا في شرح كتاب الغاية"، ولا
يجوز تفخحم اللام في شيء سوى الله إلّا شاذا، وقول من قال أصله ولاه.
غير مرضي عند النحاة، لأنه لا دليل لقائله عليه.
ومن غريب ما ذكر في الرحمن الرحيم قول ثعلب، قال: الرحمن(1/95)
اسم عجمي، ولهذا أنْكَرَتْه العرب على ما جاء في القرآن من قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ) .
قال: وهو بالسربانية الرخمن - بخاءٍ معجمة وأَنْشدَ:
أو تتركون إلى القسس هجرتكم. . . ومسحكم صلب الرخمن قربانا
الحسن: الله والرحمن اسمان ممنوعان لا يجوز لأحد من الخلق أنْ
ينتحلهما، وهذا إجماع.
قال الكسائي: الرحمن كان معروفاً عند العرب.
وأنشد بيتاً جاهلياً:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها. . . ألا قطع الرحمن منها يمينها
وكانوا يسمون مسيلمة الكذاب رحمان اليمامة. قال شاعرهم:
سموت في المجد يا ابن الأكرمين أبا. . . وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
ومسيلمة تسمى بهذا الاسم جهلا منه - لعنه الله -.
ومن غريب ما جاء في - الحمد: أنه مقلوب "المدح، والفرق بينهما: أنَّ
المدح يقع على صفات الذات وصفات الفعل، والحمد يختص بصفات
الفعل، وقيل: الحمد والشكر واحد، والفرق بينهما: أن الله سبحانه يحمد
ذاته، ولا يشكر، لأن الشكر يستدعي سابقة إحسان.(1/96)
والألف واللام في الحمد للجنس، وقيل: للعهد، وقيل: للتفخيم
والتعظيم، و "الحمد " رفع بالابتداء، والله خبره عند الجمهور. وحكى
ابن حبيب قولاً غريباً، فقال: (الحمد) جواب الباء في قوله بسم الله " لأن
هذا الباء يقتضي خبراً فكأنه قال بسم الله الحمد لله، فعلى هذا القول
" الحمد " رفعاً بالابتداء و "بسم الله " خبره تقدم عليه، و"لله" حال من الحمد.
وجل المفسرين على أن القول في الكلام مضمر تقديره، قولوا: الحمد لله.
فتكون الجملة في محل نصب.
"رب العالمين ".
"الرب" من التربية، والتربية تبليغ الشيء إلى كماله على التدريج. وفي
الفعل منه أقوال، أحدهما: رب الشيء يربه فهو راب، والشيء
مربوب. والثاني: رباه تربية، قال (أَلَم نربكَ)
والثالث: رببه تربيباً.
وهذا أصله ربي، قلب الثالث من الباءات، ياء، والرابع: وهو غرب ربت
تربيتاً، قال:
سميتُها إذ ولِدت تَموت. . . والقبر صِهر ضامن زِمِّيت.
ليس لمن ضمَّنة تربيت
وليس هذا من تركيب الرب، إنما هو من تركيب "ربت"، ولعل هذا
القائل، إنما ذهب إلى هذا، لأنه لم بجد على ترتيب ربت غير هذا، وله(1/97)
وجيه، وهو أن يقال: قلب الباء، ياء - كما ذكرت - ثم قلب الياء تاء.
و (العالمين) جمع عالم، والعالم، اسم لأشياء مختلفة لا واحد له من
لفظه، واختلفوا في المَعْنِي بهم في الآية فذهب الحسين بن الفضل:
إلى أَنهم الناس لقوله: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) .
عطية العوفي: الجن والإنس، لقوله: (ليكون للعالمين نذيراً) .
وقيل: الملائكة والإنس والجن، لأن اشتقاقه من العلم، والموصوفين بالعلم
هم هؤلاء الثلاثة. وقيل: كل ذي روح، لأن لفظ الرب المنبىء عن
التربية يدل عليه، وقيل: جميع الخلق، لقوله (رَبُّ كُلِّ شيْءٍ) ، وقيل:
أهل كل زمان، لقوله: (وَفَضَّلْنَاهْمْ عَلَى العالمين) وجُل المفسرين
على أن العالمين لا يحصى ولا يعرف عددهم، لقوله: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) .
مقاتل بن سليمان: لو فسرت العالمين لاحتجت إلى ألف(1/98)
جلد، كل جلد ألف ورقة. وذهب بعضهم إلى جواز ذلك. أبي بن
كعب: العالمون: هم الملائكة، وهم ثمانية عشر ألف ملك، أربعة آلاف
وخمسمائة بالمشرق، ومثله بالمغرب، وكذلك بالكتف الثالث والرابع. مع
كل من الأعوان ما لا يعلم عددهم إلا الله، ومن ورائهم أرض بيضاء
كالرخام، عرضها مسيرة الشمس أربعين يوماً، وطولها لا يعلمها إلا الله.
مملؤة ملائكة، يقال لهم: الروحانيون، ولهم زجل بالتسبيح والتهليل، لو
كشف عن صوت أحدهم هلك أهل الأرض من هول صوته، فهم العالمون
ومنتهاهم إلى حملة العرش.
وهب: لله ثمانية عشر ألف عالم، الدنيا عالم
منها، وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في الصحراء. عطاء بن أبي
رباح: العالمون عشرة أصناف، الملائكة وآدم وذريته وإبليس وذريته.
والجان وذريته، والبهائم والوحوش والسباع والطيور والهوام ودواب البحر.
وأبو هريرة أطنب في ذكر العالمين، ثم قال: ومنهم مائة جزء في بلاد
الهند فيهم ساطوح، رؤوسهم مثل رؤس الكلاب، ومالوخ وهم أناس أعينهم على صدورهم، وماسوخ، وهم أناس آذانهم كآذان الفيلة، ومالوق، وهم أناس لا تطاوعهم أرجلهم يسمون ذوال ياي، ويصير كلهم إلى النار.
الضحاك: رأى ذو القرنين أمتين، بينهما طول الأرض كلها، أمة عند
مغرب الشمس، يقال لها: ناسك، وأمة عند مطلعها، يقال لها: منسك.
وأمتين بينهما عرض الأرض، أمة في الأيمن، يقال لها: هاويل، وأمة في(1/99)
الأيسر، يقال لها: تاويل، قال وهب: اسمهما: ناريس وماريس، وأمماً وسط الأرض، منهم الجن والإنس، ويأجوج ومأجوج.
قال الفراء: العالمين في الرفع والنصب والجر بالياء. ذكره في كتاب
لغات القرآن " له.
النقاش: العرب تقول فى الأحوال الثلاث: العالمين
- بالياء - إلا قوماً من بني كنانة، وقوماً من بني أسد، فإنهم يقولون في الرفع: العالمون.
(الرحمن الرحِيم) .
تكرار فيمن جعل "بسم الله الرحمن الرحيم من السورة. وفي تكراره
قولان: أحدهما: تأكيد، وأنشد علي بن عيسى:
هَلّا سَألْتَ جُموعَ كـ. . . ندة يَوْمَ وَلَّوا أَيْنَ أَيْنَا
فقال: كرر "أين للتأكيد. والثاني: ما قاله ابن حبيب: أي وجب
الحمد لله، لأنه الرحمن الرحيم. قلت: إنما كُرّر لأن الرحمة هي الإنعام
على المحتاج، ولم يكن في الآية الأولى ذكر المنعم عليهم، فأعادها مع
ذكرهم، فقال: رب العالمين الرحمن لهم يرزقهم، الرحيم بالمؤمنين يوم
الدين.
قال النقاش: زعم قوم أن فيها تقديماً وتأخيرا، تقديره: الحمد لله
الرحمن الرحيم رب العالمين، ثم قال: هذا تعسف شديد ما قاله أحد من(1/100)
المتقدمين. قلت: أراد هؤلاء القوم بالتقديم تقديم "الرحمن" فحسب.
لأنه يشبه الأعلام، والعلم بالتقديم أولى، وقدم الله على الرحمن لأنه ليس
فيه شائبة وصف، وكأن معنى العلمية فيه أظهر.
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) .
الأظهر فيه أنه نكرة، فلا يجري وصفاً على ما قبله، لأن إضافة اسم
الفاعل إلى المعرفة، إذا كان بمعنى الحال والاستقبال لا يفيد تعريفاً، ولهذا
قرىء مالكٍ - بالتنوين -، "يومَا - بالنصب -، كما قُرىء (موهنٌ
كيدَ) ، و (بَالِغٌ أَمرَهُ) ، وجاز وصف النكرة به، كقوله: "هَدْياً بالغَ
الْكَعْبَة) ، "عَارضٌ مُمْطرنا)
وله وجهان: أحدهما، أن أَكْثر ألْفَاظ القيامة جاء بلفظ الماضي تحقيقا، فكان هذا أيضاً محمولًا على معنى المضي، فأفاد التعريف، والثاني: أنه مجرور بالبدل، والبدل يجري بين الأسماء على اختلاف أحوالها.
واليوم: عبارة عن امتداد الضياء العام، واليوم من أيام الدنيا: عبارة عن
وقت طلوع الفجر الثاني إلى وقت غروب الشمس. والعرب تقول: ليلة
ليلاء، ويوم يَمِن وتقول لليوم الشديد: يوم ذو أيام، ويوم ذو أيائيم.(1/101)
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) .
في تقديم " إياك " قولان: أحدهما: تعظيماً لله - سبحانه - والثاني:
قطعاً لمجال العطف، فإنّك إذا قلت: أضربك، أمكنك أنْ نقول: وزيداً.
وليس كذلك إذا قدمت فقلت: إياك أضرب.
و (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، وكرر "إِيَّاكَ"، لأنَّ كل واحِد منهما متصل بفعل
يقتضيه، ولم يقتصر على أحدهما اقتصاره عليه في قوله: (ألَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً
فآوى، وَوَجَدَكَ ضَالا فْهَدى) ، لأنه إذا حذف لم يدل على التقديم، وفي
تأخير (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، وحقه التقديم، أربعة أقوال: أحدها: أن الواو للجمع لا للترتيب، والثاني: حقه التقديم وأخر للفاصلة، فإن الآي فواصل تجري مجرى القوافي للشعر، والثالث: تقديره إياك نعبد وإياك نستعين على عبادة أخرى نستأنفها.
الرابع: نستعين على الهداية، وهي الثبات عليه. وفي محل
الكاف " من إياك " ثلاثة أقوال: أحدها: لا محل له من الإعراب، وهو
مذهب الأخفش، قال: إن "إيَّا" اسم مبهم يكنى به عن المنصوب، حولت
الكاف والهاء والياء والواو والنون بيانا عن المقصود ليعلم المخاطب من
الغائب ولا موضع لها من الإعراب، كالكاف فى ذلك وأَرَأَيتك. والثاني:
محله يخفض بالإضافة، وهو مذهب الخليل والمبرد والزجاج.
قال الخليل: "إيَّا" اسم مضمر أضيف إلى الكاف، وهو شاذ لا يعلم اسم مضمر أضيف غيره.
وقال المبرد: "إيا" اسم بهم أضيف للتخصيص، ولا يعلم(1/102)
اسم مبهم أضيف غيره. وقال الزجّاج: "إيَّا" اسم للمضمر
المنصوب، إلا أنّه ظاهر يضاف إلى سائر المضمرات، نحو إيّاك ضربت.
وموضع الكاف خفض بإضافة "إيَّا" إليها. والثالث: محله نصب وهو
مذهب ابن كيسان، قال: إنَّ الكاف هو الاسم وإيّا أتي بها ليعتمد
الكاف عليها، إذْ لا تقوم بنفسها، وللكوفيين قول رابع: وهو "إياك" بكماله اسم مضمر، وقالوا لا يعرف بتغير آخره فنقول فيه إياه وإيّاها وإيّاكم غير هذا.
واختار أبو علي قول الأخفش وزيف ما سواه.
(اهْدِنَا الصّراطَ) .
كرر ذكر "الصراط لأن الصراط هو المكان المهيأ للسلوك، ولم يكن
مع الأول ذكر للسالكبن، فأعاده مع ذكرهم، فقال: (صِرَاط الّذِيَن أَنعَمْتَ
عَلَيْهمْ) ، أي من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، كما كرره في
قوله "صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ) .
لأنَّه لم يكن مع الأول ذكر المهىء، فكرره، فقال: صراط الله، أي الصراط الذي هيأه الله للسالكين.
(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) .
قال أبو علي: هو مجرور بكونه وصفا للذين أنعمت عليهم، لأن(1/103)
حكم كل مضاف إلى معرفة أنْ يصير معرفة، وإنَّما تنكر "غير" و "مثل" مع
إضافتهما إلى المعارف، من أجل معناهما، وهو الشياع والعموم، لأنك إذا
قلت: جاءني غيرك، فكل شيء سوى المخاطب غيره، فأما إذا كان
الشيء معرفة وله ضد واحد، ثم أضفت إلى ذلك الضد كان معرفة لا
محالة، نحو عليك بالحركة غير السكون، والمنعم عليهم ضدهم المغضوب
عليهم فغير المغضوب عليهم معرفة.
وذهب غيره، إلى أنَه مجرور بالبدل، وقال بعضهم: لماكان الذين أنعمت عليهم لم يقصد بهم قصد أشخاص بأعيانهم قرب من النكرة , (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) وإن كان نكرة قريب من المعرفة للإضافة إلى المعرفة فتوافقا.
(وَلَا الضَّالِّينَ) .
قال الكوفيون: "لا" بمعنى غير، وتقديره، غير المغضوب عليهم
وغير الضالين. وقال البصريون، "لا" زائدة، زيدت لِتَضَمّن غير معنى
النفي، ولهذا جاز أنا زيداً غير ضارب، ولم يجز أنا زيداً مثل ضارب.
والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف، لأن ذلك محمول على
المعنى، تقديره: أنا زيداً لست بضارب.
وفي الفائدة في زيادة "لا" ثلاثة أقوال:
أحدها، ليعلم قطعاً أنَّه معطوف على المغضوب عليهم، لا على
الذين أنعمت عليهم، لأنَّ اللفظ يحمل ذلك، وإنْ كان المعنى يأباه، ألا
ترى أنك إذا قلت مررت بالقوم غير زيد والأمير، جاز أن يكون الأمير مجرورا بالعطف على زيد، وجاز أنْ يكون معطوفا على القوم. والثاني: لزوال توهم أنه وصف للمغضوب عليهم، لأن العرب قد تعطف النعت بالواو تقول: مررت بزيد الفقيه والأديب والشاعر.
قال:(1/104)
إلَى الْملِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الْهُمام. . . وَلَيْثِ الْكَتِيبةِ فِي الْمزْدحَمْ
والثالث: أفاد إفادة نفيهما مجموعين ومتفرقين.
والمراد بـ "المغضوب عليهم"، اليهود، و "الضالين" النصارى، وقيل:
"المغضوب عليهم" اليهود والنصارى، وكان الله أنعم عليهم، ثم غضب
عليهم لمّا كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والضالين سائر الكفرة، وقيل: المغضوب عليهم، اليهود والنصارى وسائر الكفرة، والضالين، أهل البدع.
"آمين"
المعروف فيه المد والقصر.
والغريب: ما أجازه بعضهم من التشديد بمعنى قاصدين، وتقديره:
ندعوك قاصدين بابك، راجين رحمتك، وقيل: نعبدك ونستعينك، قاصدين.
وفيه بعد وخلاف الجمهور - والله أعلم -.(1/105)
سورة البقرة
مدنية، وهي فسطاط القرآن، وفيها خمسة عشر مثلاً، وخمسمائة حكم، وفيها آية الدين، وهي أطول آية في القرآن، كلماتها مائة وثلاثون، مشتملة على أربعة عشر حكما، وفيها آخر آية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ) ، وعاش النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزولها سبعة أيام.
بسم الله الرحمن الرجم
(الم) .
افتتاحها بالحروف، ومثلها معها تسع وعشرون سورة، ثلاث منها
حروفها موحدة، ص - ق - ن، وتسع مثناة، طه - طس - يس - حم،(1/107)
وثلاث عشرة - الر - طسم، واثتان، رباع، المص المر، واثنتان
على خمسة، كهيعص - حم عسق، والأقاويل المعروفة سبقت
في "كتاب لباب التفاسير"، وأذكر في هذا الكتاب الغريب منها على
الشرط المذكور أول الكتاب.
وجميع ما قالوا فيها - مع كثرتها - ترجع إلى ستة أصول:
أحدها: أنها حروف التهجي بعينها، اقتصر على ذكر
بعضها، كما قال:
لما رأيت أمرها في حطي. . . وأخذت في كذب ولطِّ
أخذت منها بقرون شمط. . . فلم يزل ضربي لها ومعطي
حتى علا الرأس دم يغطي
أي لما رأيت أمرها في أبجد، أي في أمر الصبيان واللط.
والمعط: التمزيق. وأبجد وهوز وحطى وكلمن وسعفص وقرشت.
أسماء ملوك مدين، في قول الشعبي. قال شاعرهم:
ملوك بني حطي وهوز منهم. . . وسعفص أهل في المكارم والفخر
هم صبحوا أهل الححاز بغارة. . . كمثل شعاع الشمس أوطالع الفجر
قال الضحاك: إنّها أسماء الأيام الستة التي قال الله تعالى في القرآن(1/108)
(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) .
قال هشام بن عروة: إنها أسماء مَن وضع الكتابة، وضعوها على أسمائهم، ثم ألحق بها الروادف، وهي
ستة: ثخذ ضظغ. وروى معاوبة بن قرة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن
" أب ت ث " حروف من أسماء الله تعالى.
والقول الثاني أنها حروف ينبىء كل واحد منها عن اسم أو فعل.
والثالث: أنها أسماء الله أقسم بها أو أسماء القرآن، أو أسماء السور.
والرابع: أنها أسرار لا يمكن الوقوف عليها.
والخامس: أنها المتشابهات (وما يعلم تأويله إلا الله) .
والسادس: أن بعضها أفعال.
ومن غريب ما ذكر فيه: قول ابن عباس: ان "الر، حم، ن ": هو
الرحمن، وهذا قريب من القول الثاني.
وعن سعيد بن جبير: أن هذه الحروف إذا ألفت كانت أسماء الله، وإنْ كنا لا نقف على تآليفها، لقول ابن عباس: الر حم ن هو الرحمن، وكذلك سائرها، إلا أنا لا نقدر على وصلها، والجمع بينها.
قلت: تأملت في هذه الحروف وفي أوصاف الله(1/109)
سبحانه، فاجتمع منها غير مكررة هذه الأسماء: هو حكم قسط علي ناصر.
والعذر عن الواو أنها زيادة تتبع هاء الكناية.
ومن الغريب: قول أبي العالية، ما منها حرف إلا في مدة قوم
وآجال آخرين، فبنى على هذا القول، وقيل: إن هذه الحروف من حساب
الجمل، وهي تدل على مدة بقاء الِإسلام، والمدة ستمائة وثلاث وتسعون
سنة، ثم تقوم القيامة.
قلت: وهذا باطل من ثلاثة أوجه:
أحدها أنَّ هذا دعوى معرفة القيامة وذلك مما استأثر الله بعلمه، فقال: (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ) ، وأمثالها من الآيات.
والثاني: أن العرب لم تكن تعرف حساب الجمل، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، وإنما كان هذا علماً يتعاطاه اليهود في ذلك الزمان، بدليل الخبر الذي رواه الكلبي عن أبي صالح عن
ابن عباس في (الم) قال: إن رهطاً من اليهود منهم كعب بن الأشرف
وحُيي وجُديْ أبناء أخطب، وأبو لبابة دخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألوه عن: " ألف لام ميم "، وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو، أحق أنها أتتك من السماء) :
فقال - صلى الله عليه وسلم -: نعم كذلك نزلت، فقال حُيي: لئن كنت(1/110)
صادقاً إني لأعلم أجل هذه الأمة من السنين، ثم نظر إلى أصحابه: فقال:
كيف ندخل في دين رجل إنما منتهى أجل أمته إحدى وسبعون سنة، فقال له
عمر: وما يدريك أنَّها إحدى وسبعون؟
قال حي: أخذناها من حساب الجمل، فالألف واحد، واللام ثلاثون والميم أربعون، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال حُيي: هل غير هذا، قال نعم، قال: وما هو؟.
قال: المص قال حُيي: هذه أكثر من الأولى، هذه مائة وإحدى وثلاثون سنة، وقد تبين لنا أن في هذه تفسير الأولى، لأنه قال: (لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) ، فنحن المتقون الذين آمنا بالغيب قبل أنْ يكون، فهل غير
هذا.
قال: نعم، (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) ، قال حُيي: هذه
أكثر من الأولى والثانية، وقد أحكم فيهن، وفَصَّلَ، فنحن نشهد، لَئِنْ
كنت صادقاً فما ملك أمتك إلا إحدى وثلاثون ومائتا سنة، فاتق الله ولا
تقل إلا حقاً فهل غير هذا، قال: نعم (المر) إلى قوله: (لا يؤمنون)
قال حُيي:، فنحن نشهد وأنا من الذين لا يؤمنون، ولا ندري بأي قولك
نأخذ. فقال أبو ياسر، أما أنَا فأشهد بما أنزل على أنبيائنا إنَّهم قد أخبروا عن ملك هذه الأمة ولم يوقتوا كم يكون، فإنْ كان محمد صادقاً فيما يقول، إنّي لأراه سيجمع له هذا كله، فقام اليهود، وقالوا: أشبهت علينا أمرك، فلا ندري أبالْقَليل نأخذ أم بالكثير، فأنزل الله تعالى: (مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)(1/111)
يعني بالمتشابهات: (الم والمص والمر) .
والثالث: أنه أخذ حساب الجمل غير مكرر، ولو أخذه مكرراً لكان
أضعافاً.
ومن العجب فيها: ما ذكر في (حم عسق) أنَّ المراد بها رجل يقال
له: أبو عبد الله ينزل على نهر من أنهار المشرق يبني عليه مديتين. حكاه في
تفسيره الثعلبي، ورواه مرفوعاً أيضاً.
ومن العجب في حم عسق: قول من قال: الحاء: حرب علي
ومعاوية، والميم: ولاية المروانية، والعين: ولاية العباسية، والسين: ولاية
السفيانية. والقاف: قدرة مهدي، ثم قال: أردت بذكر ذلك أن تعلم أن فيمن يدعى العلم أيضاً حمقى.
ومن الغريب: ما حكاه النقاش في تفسيره: أن الله تعالى لما بشر أهل
الكتاب بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أخبرهم بعلامته، وعلامات كتابه، وكان "الم" من تلك العلامات التي أخبرهم بها، فقال "الم ذلك" أي الم علامات ذلك الكتاب الذي بشرتم به.
ومن العجيب جدا: ما حكاه ابن حبيب في تفسيره: أنه قال بعضهم:
معنى ألف، ألف الله محمداً فبعثه نبياً، ومعنى لام، لامه الجاحدون، ومعنى
ميم، مِيمَ الجاحدون المنكرون، من الموم وهو البرسام.
قال: وقال(1/112)
بعضهم: (الم) تنبيه، معناه ألم كقوله: (ألَمْ ترَ كيْفَ) ، قال: وهو لا
يفيد معنى، إذا قلت: "الم ذلك الكتاب"، قال: وقال بعضهم: هو
جواب التلبية، جعله من الإلمام - والله أعلم -.
(ذَلِكَ الْكِتَابُ) .
إشارة إلى ما تقدم من القرآن، وقيل: إشارة إلى الموعود.
وقيل: "ذلك " بمعنى هذا.
وقيل: الإشارة إذا كانت إلى غير عين جاز بذلك، وبهذا كقوله: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ) .
ثم قال: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ) ، (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ)
ثم قال: (ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) .
وذهب جماعة إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله
وعدني حين بعثني إلى قريش وسائر الناس، أنْ يُنْزل عليَّ كتاباً لا يمحوه
الماء، فلما نزل، قال: ذلكَ الكتابُ، أي الذي وعدتك أنّى أنْزله
عليك ".
والكتاب القرآن، وقيل: اللوح المحفوظ، وقيل: التوراة.
وقيل: القدر، واشتقاقه من الكتابة، أي من شأنه أنْ يكتب، وقيل من
الكَتْب وهو الجمع، فِعَال بمعنى مفعول.(1/113)
(لَا رَيْبَ فِيهِ)
اعترضت الملحدة، وقالوا: ما معنى (لَا رَيْبَ فِيهِ) ؟
وقد نرى من يرتاب فيه، فأجاب عن هذا جماعة، فقالوا: هذا نفي معناه
النهي، أي لا ترتابوا فيه، كقوله: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) ، أي لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا.
وقال بعضهم: تقديره لا ريب أن فيه هدى، والقول الأول فيه نظر دقيق في العربية، وذلك أن قوله: "فيه" غير متعلق بالريب، لأنَّ ذلك يستدعي تنوين (ريب) ، بل هو متصل بمقدر كسائر الظروف، وإذا جعلته فعلاً اتصل به ضرورة، اللهم إلَّا أنْ يجعل من باب ما قضيته الإعراب يخالف المعنى، كما قيل:
عَجِبْت لِمَسْرَاهَا وَأنى تَخَلَّصَتْ. . . إليَّ وَبَابُ السجِن دوني مُغْلَقُ
فمعنى البيت: عجت لِمسراها وتخلصها إلي، والباب مغلق.
والإعراب يأبى هذا، لأن قوله: "وأنى تخلصت استفهام "، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
والقول الثاني فيه بعد أيضاً، لأن إضمار "أن " لا يجوز، لا تقول
علمت زيداً قائم، وأنت تريد علمت أن زيداً قائم.
وقيل: معناه لا سبب ريب فيه.
وقيل: لم يقصد بهذا الخبر إضافة ذلك إلى الاعتقاد والمعتقدين.
وإنَّما أراد أنًه صدق وحق في نفسه، كقول الشاعر:
لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ. . . إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الكَذُوبُ
وقيل تقديره: ذلك الكتاب غير شك هدى، والجواب المرضي ما قاله:
ابن بحر: إِنه نفى ما نسبوا إلى القرآن من السحر والكهانة والشعر.(1/114)
والريب: الشك من تهمة للمشكوك فيه، والشك: تردد بين معتقدين.
تقول: أنا شاك في طلوع الفجر، ولا تقول: أنا مرتاب.
ومحل "هدى":
رفع، أي هو هدى، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ، أي ذلك الكتاب هدى.
ويجوز أنْ يكون خبراً بعد خبر، الخبر الأول: لا ريب فيه. والثاني: هدى.
ويجوز أنْ يكون رفعاً بالابتداء
"فيه" خبره، ويجوز أن يرتفع ب "فيه" عند الكوفيين، فهذه خمسة أوجه. ويجوز أن يكون نصبا من وجهين.
أحدهما: أنْ يكون حالاً من الكتاب، كقوله تعالى: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا) . والثاني أن يكون حالاً من الهاء، والعامل فيه الظرف.
قالت الملحدة: إذا قال (هدى للمتقين) فقد علم أنه ليس بهدى لغير المتقين.
الجواب: خص المتقون بالذكر لانتفاعهم به، وتخصيص الشيء بالذكر لا
يدل على نفي ما عنداه.
(بِالْغَيْبِ) .
قيل: هو الله تعالى، وقيل: القرآن، وقيل: لا إله إلا الله، وقيل: الآخرة وما فيها: وقيل: القدر.
وقال الأخفش: يؤمنون بما غاب عنهم من علم القرآن على التفصيل، ويصدِّقون بجملته أنه حق لا ريب فيه.
و"بالغيب" مفعول به، وقيل: يؤمنون بظهر الغيب، كقوله: (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) ، ومحله نصب على الحال، والمفعول محذوف، أي
يؤمنون بالمعارف، ومحل (الذين) و (الذين) جر بالصفة، ويجوز أنْ يكون(1/115)
رفعا بالخبر، أي هم الذين، ويجوز أن يكون نصباً على المدح، بإضمار
أعني، ويجوز أن يرتفعا بالابتداء.
و"أولئك" الخبر، ويجوز أنْ يكون، "والذين" قطعا للأول رفعاً بالابتداء، "أولئك" خبره.
قوله: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ)
فيه سؤالان، أحدهما: للملحدة، وهو: أنهم قالوا: الكافر أيضاً ينفق من رزقه، والثاني للقدرية، وهو: أنهم قالوا: إنَّ الله مدحهم على إنفاقهم من رزقهم، فدل على أن الحرام ليس برزق.
والجواب عن الأول من وجهين:
أحدهما: أنَّ الإنفاق في الآية الزكاة والصدقة، وليس ذلك من فعل الكفار، والثاني: أن الكافر لا يقر بأنه ينفق من رزق الله بخلاف المؤمن.
والجواب عن الثاني: أن الرزق قد يكون حلالاً، وهو ما يكون من ملكك، وقد يكون حراما، وهو ما يكون من ملك غيرك، ولا يزول عنه اسم الرزق لامتناعه عن الدخول في الملك، فإن البهائم مرزوقة، وإنْ لم يكن لها ملك.
(وَبِالْآخِرَةِ) .
أي بالدار الآخرة، وقيل: بالنشأة الآخرة، وسميت الآخرة، لأنَّها
تأخرت عن الخلق، كما سميت الأولى دنيا لدنوها منهم، وقيل: لتأخرها عن
الدار الأولى.
(يوقنون)
فيه زيادة وصف لم يدخل تحت الِإيمان، لأن المقلد مؤمن غير موقن، واليقين علم يحصل بالدليل.
قوله: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ) .
أعاد ذكر الهدى، وكان في ذكر الأولى معنى، لبيان أن الهدى
المذكور من الله لا من غيره، كما زعم بعضهم، أنَّ الهدى من عند أنفسهم.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ) .(1/116)
فإنْ قيل: فما الفائدة في بعث الرسل إذا، قيل: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) .
فإنْ قيل: قد آمن كثير منهم، ولا خلفَ في إخباره سبحانه - لامتناع الكذب عليه، قيل: الآية نزلت في أقوام أخبر أنهم لا يؤمنون، فكان كما أخبر، فصار آية لنبيه ومعجزة لنبوته.
واختلف المفسرون فيهم، فقال بعضهم: نزلت في أبي جهل وخمسة من
أهل بيته، وقيل: نزلت في الذين فتُلوا يوم بدر، وقيل نزلت في قوم من
أحبار اليهود كتموا نعته وصفته حسدا وعنادا، وقيل: نزلت في قوم من
المنافقين من الأوس والخزرج.
وقيل: في (الذين ختم الله على قلوبهم) ، الأية.
قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ) رفع بالابتداء. (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) الخبر.
وخلو الجملة من العائد لا يمنعها من الخبر، كقول الشاعر:
حرامٌ عليَّ لا أرى الدهرَ باكياً. . . على شَجْوِه إلا بَكَيْتُ على صَخْرِ
ولا يجوز أن يجعل الجملة مبتدأ، و "سواء" خبره، لأنها لا تقع مبتدأ
قط، ولأن الاستفهام لا يتقدم عليه خبره.
وأما قوله: (سَوَاءً الْعَاكِفُ) ، ف "سَوَاءً" الخبر، وهو مصدر لا يثنى، وكذلك إذا قلت: سواء على الإنذار وترك الإنذار، لأن العلة زالت، وهي كونها جملة، والألف فيه للتسوية.
وقوله: (لَا يُؤْمِنُونَ)
يجوز أنْ يكون خبراً بعد خبر لـ "إنَّ" ويجوز أنْ يكون(1/117)
هو الخبر و (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) اعتراض، ويجوز أنْ يكون
(لَا يُؤْمِنُونَ) استئنافاً أي " هم لا يؤمنون، ويجوز أنْ يكون دعاء أي لا
آمنوا، ولا يمتنع أن يكون حالًا من "هم" كما تقول: جاءني زيد لا يضحك، أي غير ضاحك.
قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ)
مجاهد: الرين أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الإِقفال، والإقفال
أشد ذلك، وعن مجاهد أيضاً: أن القلب مثل الكف، فإذا أذنب العبد
ذنبا ضم منه كالأصبع، فإذا أذنب ذنبا ثانياً ضم منه كالأصبع الثانية، حتى
يضم جميعه، ثم يطبع عليه بطابع.
وفي معنى الختم أقوال:
والغريب منها هو: حفظ ما في قلوبهم حتى يجازى عليه، من ختم ما
يراد حفظه، وقيل: تشبيهاً لما شد وختم عليه، وقيل: هذا ذم من الله لهم
وإخبار عن إعراضهم، وقيل: نكتة تعرفهم الملائكة بها.
قوله: (وَعَلَى سَمْعِهِمْ) ، إنما وحد لأنَّه مصدر، وقيل: اكتفى
بجمع المضاف إليه، كقول الشاعر:
كُلُوا في بعض بَطْنِكُم تَعِفُّوا. . . فإنَّ زمانَكمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
وقيل: لوقوعه بين جمعين، وقيل: جمع سامع، كأنه جعل الأذن عضواً
سامعاً.
(وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ، من المفسرين من أجاز تضعيف العذاب
على جزء واحد، ومنهم من لم يجز، وقيل: إنَما هو دوام العذاب(1/118)
بحيث لا يتخلله فرجة، قال، ولا يكون الشيء أسود من آخر، بل يتخلل أحدهما شيء من البياض، ووقف بعضهم على قوله "وسمعهم" وجعل الغشاوة على البصر خاصة، لقوله: (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) ، وهو قول ابن جريج.
والغشاوة: الغطَاء.
أبو حذيفة: هي المكبَّة، وقيل: هي العمى، وليس من لفظه فعل، والأكثرون على أن "غشى" من بنات الواو، قلب الواو ياء كرضيَ بدليل الرضوان، والغشيان، يقوي القول الأول.
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ)
قال مجاهد: أربع آيات من أول سورة البقرة نزلت في المؤمنين.
وآيتان في الكافرين، وثلاث عشرة في المنافقين يعني منافقي اليهود.
قوله: (وَمَا هُمْ)
جمع، لأن الناس اسم جمع، وقيل: لأنَّ (مَنْ)
اسم مبهم، ولفظه موحد مذكَّر، ومعناه، قد يكون جمعاً وتثنية -
قال الشاعر:
تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتني لا تخونُني. . . نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبان(1/119)
ومؤنثاً كقوله تعالى: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا) ، وذهب بعض النحويين، إلى أنه إذا حمل على معنى الجمع
لا يجوز الرجوع إلى لفظ الواحد، وقد جاء في القرآن بخلاف ذلك، وهو
قوله (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) .
(يُخَادِعُونَ اللَّهَ) .
قيل: تقديره: يخادعون رسول الله، فحذف المضاف. وقيل: ذكرِ الله
ها هنا للتعظيم وإنكار على جرأتهم، كما ذكر للتعظيم أيضاً في: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) - وسياتي في موضعه إنْ سْاء الله -، وقيل: يخادعون عند
أنفسهم، على التقدير، والجمهور: على أن المعنى يعملون عمل المخادع
وفاعَلَ ها هنا بمعنى فعل، كقوله: عافاه الله، وعاقبت اللص.
(وَمَا يَخْدَعُونَ) على الأصل، وقيل، هو من باب قامرته فقمرته.
أي قصدوا الخداع، ثم لم يخدعوا إلا أنفسهم.
قوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ)
أي لا يعلمون أنًهم يخدعون أنفسهم، والشعر:
يطلق على علم دقيق ثتق عن الشعر، وقيل: علم يحصل بِالْحس.
من من الشعار، وهو الثوب الذي يلي الجسد ويحس به.
(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) .
أي ظلمة، قال الشاعر:
في ليلةٍ مَرِضَتْ من كلِّ ناحيةٍ. . . فما يُحَسُّ بها نَجمٌ ولا قَمَرُ(1/120)
وقيل: غم وشك ونفاق. وحقيقة المرض خروج المزاج من الاعتدال.
(فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) قيل: إخبار، وقيل: دعاء.
(بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)
الكذب نقيض الصدق، وهو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه، والتكذيب نسبة المخبر إلى الكذب.
وقول الشاعر:
فإِذا سمعتَ بأَنَّنى قد بِعْتُه * بوِصالِ غانِيَة فقل كُذُّبْذُب
قال أبو زيد: معناه كاذب.
قال أبو عمرو: معناه كذب.
وقولهم:
كذب عليك إخباره بفقده مع تحريض على تحصيله.
قوله: (كَمَا آمَنَ النَّاسُ) .
علي بن الحسين بن واقد: هو النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ)
قالوها تعريضاً لا تصريحاً. وقيل: قالوها في خلواتهم.
قوله: (خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) .
مضوا إليهم، تقول: خلا معه وإليه وبه.
قال الأخفش: ويقال خَلَا
بِهِ إذا هزىء به.
قال الحسن: الشياطين مردة الجن، وإبليس أصلهم،(1/121)
وشياطن الإنس مردتهم، وآدم عليه السلام أبوهم، (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ، سمى الثاني باسم الأول ازدواجاً للكلام، وقد يسمى الأول
باسم الثاني، كقوله: (كما تدين تدان) ، والأول ليس بجزاء، وقيل: استهزاء الله بهم ما أظهر لهم في الدنيا خلاف ما أعدَّ لهم في العقبى.
قوله: (اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى) .
الباء في الاشتراء يدخل المبذول، وفي البيع يدخل المطلوب.
واشتقاقه من الشروى وهو المثل.
(فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ)
فجاز وسعة، كإضافة (مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) .
(وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) إلى الدين، وقيل: إلى التجارة.
(اسْتَوْقَدَ) : بمعنى أوقد، وقيل: سأل غيره أن يوقد.
(ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)
"الباء" هنا بمنزلة "الألف" في "اذهب"، وليست كالباء في "مررت به" فإنك تقول: ذهب بزيد فهو ذاهب، ومررت بزيد فهو ممرور به.
(أَوْ كَصَيِّبٍ) .
"أَوْ" هنا - كالواو عند بعضهم: وعند الزجاج: للتخيير،(1/122)
ولا يكون ذلك إلا مع الأمر، فإن قدرت مثلهم به أو بهم استقام كلامه.
والتقدير: كأصحاب صيب. فحذف.
والصيب: المطر.
ابن عباس: الصيب: السحاب.
قوله: (فيه) يعود إلى الصيب. وقيل: إلى السماء فيمن ذكر
قال:
فلو رَفَعَ السماءُ إليه قوماً. . . لَحِقْنَا بالسماءِ مَعَ السحابِ
وقيل: إلى الليل كناية عن غير مذكور.
الرعد: اسم ملك موكل بالسحاب، سمي صوته باسمه رعداً، وقيل: ريح تختنق تحت السحاب، وقيل: صوت اصطكاك أجرام السحاب، والبرق: ضرب الملك بسوط من نور.
علي - رضي الله عنه - الرعد ملك، والبرق ضربه بمخراق من حديد، وقيل: ما ينقدح من اصطكاك الأجرام، واحد الأصابع
أصبع، كلما يمكن أن ينطق به في الأصبع من الأبنية فقد تكلموا به.
(عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
الشيء: ما يذكر ويخبر عنه، وهو أعم العموم وأخص الخصوص، هذا
إذا أشرت به إلى واحد بعينه بحضرتك.
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) .
الأسماء إذا كان فيها الألف واللام، لا تنادى ب "يا"، لأن "يا"
للتعريف، والألف واللام للتعريف، فلا يجمع بينهما إلا في اسم الله خاصة.
وقد سبق، فتوصلوا إلى ندائه بواسطة "أي"، وهو اسم مبهم لا يستعمل إلا(1/123)
مضافاً في الاستفهام والخبر والشرط، فزيدَ فيه هاء التنيه عوضا عن الإضافة.
وقول الكسائي: أصله يا أيهذا الرجل، فحذف "ذا" غير مرضي عند
البصريين، والناس صفة لازمة لـ "أي"، وهو مرفوع، لأن البناء لما اطرد في المفرد تشبه بالمرفوع.
قال الأخفش: الناس صلة لـ "أي"، والتقدير: يا أيها هو الناس، فحذف هو من الصلة. ولم يوافق الأخفش أحدٌ من البصربين.
وأجاز المازني، في "الناس" النصب على القياس في وصف المفرد
المفرد، ولم يوافقه أحد، ولا قرىء به.
قوله: (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)
قيل: وحد وه، وقيل: (طيعوه.
قوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)
موضوع (لعل) للشك، والله سبحانه منزه عن الشك، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: قول سيبويه، قال، ذلك للمخاطين أي افعلوا ذلك على الرجاء والطمع أن تتقوا، ومثله: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) ، أي اذهبا إليه على رجائكما.
والثاني: قول قطرب، وأبي علي، قالا: هو بمعنى "كي"، أي لتتقوا. والثالث: قال أبو بكر بن الأخشيد:(1/124)
معناه التعرض للأمر، أي افعلوا متعرضين. للتقوى، حكاه ابن عيسى.
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً)
الفَرش: البَسط، والفراش: المبسوط للتوطئة.
ابن عباس: الفراش المنام، أي مناماً للخلق، والبناء. الوضع على الأساس. الزجاج: ما علا الأرض بناء.
استدل أكثر المفسرين على أن شكل الأرض بسيط، قالوا:
وكل سماء منطبقة على الأخرى مثل القبة.
والسماء الدنيا ملتزقة بالأرض فيها أطرافها.
غيرهم: شكله كرى، والسماء بمعزل عنها.
(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ) أي من جهة السماء، قيل: من السحاب.
وقيل: من سماء الملائكة، وفيها بحارمن ماء وجبال من برد.
قوله: (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
قيل: المراد به ها هنا تعقلون.
(مِنْ مِثْلِهِ) .
"الهاء" تعود إلى "مَا" وهو القرآن: و (مِنْ) صلة.
وقيل: للتبعيض، وقيل: للتبيين، وقيل: إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - وقيل: إلى الأنداد، كقوله: (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) ، وقيل: الخطاب لعلماء(1/125)
اليهود، أي فلتحضروا سورة من مثل القرآن، يعني التوراة، حتى تعلموا
أوفاقهما، فيكون الهاء عائداً إلى القرآن، والمثل هو التوراة.
(وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
أي من يشهد أنه مثل القرآن.
قوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) .
ذهب جماعة من المفسرين: إلى أن التقدير، فإن لم تفعلوا هذا فيما
مضى ولن تفعلوا فيما يستقبل، وهذا غير مرضي عند الفقهاء والنحاة، لأنه إذا قال: إنْ دخلت الدارَ فأنتِ طالق، وإن لم تدخلي الدار فأنت طالق، يقع
على دخول مستأنف، ولا يتعلق بالماضي ألبتة، وهذا إجماع.
وقال النحويون: "لَمْ" إذا دخل المستقبل نقله إلى معنى الماضي، وإن
الشرطية إذا دخل الماضي أو ما بمعنى الماضي نقله إلى معنى المستقبل.
واستثنى الزجاج "كان" من الباب، واستدل بقوله (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ)
فرد عليه أبو علي، وقال: تقديره: إن أكن قلته، وكذلك إذا قال: إن كنت دخلت الدار فأنت طالق، أي إن تكوني دخلت فالطلاق يقع بقوله: دخلت، وهو ماض، كما كان، لأن "إن" مسلط على تغيير ما يليه فحسب.
ومثله (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ)
وقول الشاعر:
إذا ما انْتَسَبْنا لم تَلِدْني لئيمةٌ. . . ولم تجدي من أن تقري به بُدَّا
أي لم تجدي مولود لئيمة، وقول الآخر:
أتغضَبُ إنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّنا. . . جِهاراً ولمْ تَغْضَبْ لِقتْلِ ابن حازم(1/126)
تقديره: أن يقع مثل هذا الغضب، وقال بعضهم: تقديره (وادعوا
شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ولن تفعلوا) ، وهذا ضعيف، لإِزالة
الشيء عن موضعه بلا موجب، ووجهه عند المحققين، أنه اعتراض فيه
تشديد، قطع تردد معنى الشرط من الكلام، ولا محل له من الإعراب.
وقوله: (وَالْحِجَارَةُ)
قيل: هي الأصنام، لقوله: (حَصَبُ جَهَنَّمَ) ، وقيل: هي الكبريت، وقيل: حجارة يضربون بها، وقيل: هي كنوز الذهب والفضة، وكلها حجارة من قوله (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا) .
قوله: (مِنْ تَحْتِهَا)
أي من تحت أشجارها، فحذف المضاف، وقيل: من تحت نازلها، وهم في الغرفات، وقيل: من تحتها، أي من جهتها.
قلتُ ويحتمل منابعها من تحت الجنات، وإضافة الجري إلى الأنهار مجاز، لأن الجاري هو الماء لا الأنهار.
قوله: (مِنْ قَبْلُ)
قيل، في الجنة من قوله (بُكْرَةً وَعَشِيًّا) .
وقيل: في الدنيا. وقيل: معناه وعدناه في الدنيا.
قوله: (مُتَشَابِهًا) ، أي أجزاؤه متشابهة، ليس فيها ما ينقى ويطرح.
وقيل: مُتَشَابِهًا في الصورة واللون، مختلفا في الطعم، وقيل مُتَشَابِهًا في
الأسماء، قال ابن عباس: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء.
قال الأخفش: مُتَشَابِهًا في الفضل، أي كل واحد له من الفضل نحوه مثل
الذي للآخر في نحوه.
قال ابن عيسى: وخطأ الأخفش في هذا القول بعضهم، وزعم أنه خالف الإجماع.(1/127)
(أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ) هن الحور العين بالإجماع.
قال الحسن: هن عجائزكم الغمص الرمص العمش) ، طُهرْن من قذرات الدنيا.
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا) .
الحياء، انقباض يدل على خلق كريم، والله - سبحانه - غير موصوف
به، ومعناها ها هنا الترك، أي لا يترك ضرب المثل ترك ما يستحي منه.
وقيل: لا يمتنع، وقيل: لا يخشى. و (أَنْ يَضْرِبَ) في محل نصب من أن
يضرب.
وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا)
قيل: تم كلام الكفار ها هنا، ثم قال الله (أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) ، وعند بعضهم: تم الكلام على قوله: (مَثَلًا) وعند بعضهم كلامهم يمتد إلى قوله: (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا) .
ثم قال الله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) .
قوله: (مَثَلًا مَا)
في "مَا" ثلاثة أقوال:
أحدها: زائدة للتوكيد والتصميم. و (بَعُوضَةً) نصب على البدل من المثل، وقيل: مفعول به، وضرب المثل يتعدى إلى مفعولين لأنه بمعنى جعل.
والثاني: أنه للنكرة، و (بَعُوضَةً) صفة له.
قال الفراء: منصوب بنزع الخافض، وتقديره: ما بين بعوضة فما فوتها.
قال: ومثله: مطرنا ما زبالة فالثعلبية، أي ما بين زبالة إلى الثعلبية.
والثالث: أنه الموصولة، وهذا على قراءة من قرأ (بَعُوضَةٌ فَمَا فَوْقَهَا) .
قيل، في الصغر، وقيل: في الكبر، لأن البعوضة النهاية في الصغر.
(مَاذَا) يأتي على وجهين(1/128)
أحدهما: أن يكون اسماً واحداً، ويكون محله ها نصباً بـ (أراد)
والثاني: أن يكون (ما) مبتدأ و "ذا" بمعنى الذي وهو خبره، والجملة بعده
صلته.
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ) .
استفهام معناه الإنكار والتعجب والتوبيخ، وليس للتعجب، لأنه لا يليق
به - سبحانه -.
(وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا) ، أي نُطَفًا، لأن ما فارق الحي ميت.
وقيل: مواتًا، وهو التراب.
وقيل: خاملي الذكر (فَأَحْيَاكُمْ) في الدنيا، (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء آجالكم.
(ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) في القبور والنشور، وقيل: (يُحْيِيكُمْ) في القبور، (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) للبعث والنشور.
(خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) .
(جَمِيعًا) نصب على الحال من "مَا"، واستدل من يقول بالإباحة بهذه
الآية، وعنه جوابان:
أحدهما: لتعتبروا ببعضه ولتنتفعوا ببعضه على وجه ييينه الشارع، كقوله (حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) ، وقوله:
(لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا) .
والثاني: (خَلَقَ لَكُمْ) دليلأ على الوحدانية
(ثُمَّ اسْتَوَى) الكلام فيه يطول.
والغريب فيه: ما قيل: إنه عبارة عن أنه لم يخلق بعد خلق ما في
الأرض إلاَّ السماء، فيمن جعل الأرض قبل السماء، وهو الأظهر، وهذا في
الكلام كثير، وفي كلام العجم أكثر.
(فَسَوَّاهُنَّ)
جمع حملاً على المعنى، لأنه اسم الجنس، وقيل: جمع سماؤه، والسبع نصب على البدل، وقيل أراد منهن فحذف "من" فيكون مفعولا به.(1/129)
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ) .
أبو عبيدة: إذ زائدة، وأنشد:
فَإِذَا وَذلِكَ لاَ مَهَاةَ لذِكْرِهِ. . . وَالدَّهْرُ يَعْقُبُ صَالِحاً بِفَسَادِ
وأنكر الزجاج وغيره هذا، وليس في البيت أيضاً ما استدل له، وقال
بعضهمٍ: خلقكم إذ قال، وقيل: واذكر إذ قال، وعلى هذا يكون مفعولاً به، لا ظرفا، ويحتمل أنه ظرف، لقوله: "قالوا".
(لِلْمَلَائِكَةِ) هو جمع ملك (1) .
نضر بن شميل: العرب لا تشتق فعله ولا تصرفه، وهو مما فات علمه.
غيره: مشتق من الألوك، وهو الرسالة، وسميت ألوكاً، لأن صاحبها يألكها
في فيه، من قولهم: الفرس يألِك اللجام. وأصله مائلك ثم قلب فصار
ملاكاً، ثم نقل فصار ملكاً، فلما جمع ردت الهمزة وزيدت الهاء لتأنيث
الجمع، وقيل، للمبالغة، ووزنه على هذا مَفاعِله، وإنما قلب لأن معناه قد
يأتي مقلوباً في نحو قولك: ألِكْني إلى فلان، أي كن رسولي إليه.
قال:
ألِكني إليها عمرَك اللَّهَ يا فتى. . . بآية ما جاءت إلينا تَهاديا
وأصله ألاكني، فنقلت الحركة في الهمزة إلى اللام.
وقول الهذلي:
ألِكْنِي وَخَيْرُ الرَّسُو. . . لِ أَعْلَمُهُمْ بنواحِي الخَبَرْ
__________
(1) قال السمين:
و «للملائكة» متعلِّقٌ ب «قال» واللامُ للتبليغ. وملائكةٌ جمع مَلَك. واختُلِف في «مَلَك» على ستة أقوال، وذلك أنهم اختلفوا في ميمِه، هل هي أصليةٌ أو زائدةٌ؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا، فقال بعضهم: مَلَك ووزنه فَعَل من المُلْك، وشذَّ جمعُه على فعائِلة فالشذوذ في جَمْعِه فقط. وقال بعضهم: بل أصلُهُ مَلأّك، والهمزةُ فيه زائدةٌ كشَمْأَل ثم نُقِلَت حركةُ الهمزة إلى اللام وحُذِفَت الهمزةُ تخفيفاً، والجمعُ جاء على أصلِ الزيادةِ فهذان قَوْلان عند هؤلاء. والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضاً، فمنهم مَنْ قال: هو مشتقٌّ من «أَلَك» أي: أرسل ففاؤُه همزةٌ وعينه لام، ويدلُّ عليه قوله:
أَبْلِغْ أبا دَخْتَنُوسَ مَأْلُكَةً. . . غيرَ الذي قد يُقال مِلْكَذِبِ
وقال آخر:
وغلامٌ أَرْسَلَتْه أمُّه. . . بِأَلوكٍ فَبَذَلْنَا ما سَأَلْ
وقال آخر:
أَبْلِغِ النُّعْمانَ عني مَألُكا. . . أنَّه قد طالَ حَبْسي وانتظاري
فأصل مَلَكَ: مَأْلَك، ثم قُلِبت العينُ إلى موضع الفاء، والفاءُ إلى موضع العين فصارَ مَلأَكاً على وزنَ مَعْفَل، ثم نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى اللامِ وحُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً، فيكونُ وزنُ مَلَكَ: مَعَلاً بحَذْفِ الفاء. ومنهم مَنْ قال: هو مشتقٌّ من لأَك أي أرسل أيضاً، ففاؤُه لامٌ وعينُه همزةٌ ثم نُقِلَت حركةُ الهمزةِ وحُذِفَت كما تقدَّم، ويَدُلُّ على ذلك أنه قد نُطِقَ بهذا الأصلِ قال:
فَلَسْتُ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ. . . تَنَزَّلَ من جَوِّ السماء يَصُوبُ
ثم جاء الجمعُ على الأصلِ فَرُدَّتِ الهمزةُ على كِلا القَوْلينِ، فوزن ملائِكَة على هذا القول: مفاعِلَة، وعلى القولِ الذي قبلَه: معافِلَة بالقلب. وقيل: هو مشتقٌّ من: لاكَه يَلُوكه أي: أداره يُديره، لأنَّ المَلَكُ يُديرُ الرسالةَ في فيه، فأصل مَلَك: مَلْوَك، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى اللامِ الساكنةِ قبلها، فتحَرَّك حرفُ العلة وانفتح ما قبلَه فَقُلب ألفاً فصارَ ملاكاً مثل مَقَام، ثم حُذِفَت الألفُ تخفيفاً فوزنُه مَفَل بحذفِ العينِ، وأصلُ ملائكة ملاوِكة فقُلبت الواوُ همزةً، ولكنَّ شرطَ قلبِ الواوِ والياءِ همزةً بعد ألفِ مفاعل أن تكونَ زائدةً نحو عجائز ورسائل، على أنه قد جاء ذلك في الأصليّ قليلاً قالوا: مصائِب ومنائِر، قُُرئ شاذاً: «معائِش» بالهمز، فهذه خمسةُ أقوال. والسادس: قال النضر بن شميل: «لا اشتقاقَ للملك عند العرب» .
والهاء في ملائكة لتأنيث الجَمْع نحو: صَلادِمة. وقيل للمبالغة كعلاَّمة ونسَّابة، وليس بشيء، وقد تُحْذَفُ هذه الهاء شذوذاً، قال الشاعر:
أبا خالدٍ صَلَّتْ عليكَ الملائِكُ. اهـ (الدر المصون. 1 / 249: 251)(1/130)
يحتمل أن معناه أرسِلْني إليه، ويحتمل، كن رسولي إليه، وقال
بعضهم: مشتق من لأك يلأك، إذا أرسل، ولأك مهمل، أو هو مقلوب ألك، وأصله على هذا مفاعلة.
الأصم: اشتقاقه من المُلْك وهو الشدة والقدرة.
والهمزة فيه زيادة، ووزنه فعايلة، وهم أجسام لطاف أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع، لا يعصون الله ما أمرهم.
ومن ذهب إلى أن الملائكة إنما هي النجوم، فهو كافر باللهِ، راد على رسوله وما جاء من عند الله.
واختلفوا في المخاطبين، فقال بعضهم: هو عام لجميع ملائكة الله، وقال بعضهم: خطاب لمن كانوا سكان الأرض من الملائكة.
(إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)
قيل: هي الغبراء، التي عليها مستقر الخلق، وقيل: هي مكة.
(خَلِيفَةً)
أي قوم يخلف بعضهم بعضاً، إذا مات واحد خلفه آخر، وقيل: خَلِيفَةً عنكم ياملائكتي، وقيل: خَلِيفَةً عن الجن، وقيل: خَلِيفَةً عني يأمر وينهى ويحكم ويقضي، ويجري الأنهار ويغرس الأشجار ويحرث ويحصُد.
(قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا)
أي من تفسد ذريته فيها، وقيل: تقديره من فيهم أو منهم من يفسد، لأن آدم - عليه السلام - لم يكن بهذه الصفة، ولا رسل الله وأنبياؤه وأولياؤه وصالحو المؤمنين، والاستفهام للتقرير.
وقيل: للاستعلام، وليس للإنكار، وفي معرفتهم ذلك أقوال:
أحدها: أنهم رأوا ذلك في اللوح المحفوظ، وهو مشتمل على الكائنات، وقال بعضهم: قاسوا على الغائب، وكانت الجن بهذه الصفة، وأول من قاس الملائكة، وقيل، عرفوا ذلك من لفظ الخليفة، فإن الخليفة من يقوم مقام الأول، موصوفا بصفته، وقيل: كان خطاب الله إياهم إني جاعل في الأرض خليفة يفسدون فيها ويسفكون الدماء، فحذف ذلك لأن ما بعده يدلّ عليه. وقيل: تقديره:(1/131)
(أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ، أم نترك التسبيح والتقديس، شكوا في حال أنفسهم، وقيل: تقديره: أتجعل فيها من يفسد كالجن، أم يسبح ويقدس معنا ونحن نسبح ونقدس معهم، وقيل: أذن اللُه لهم في السؤال عن وجه الحكمة فيه.
(ثُمَّ عَرَضَهُمْ) . أي المسمين بالأسماء.
(سُبْحَانَكَ) . مصدر أميت فعله.
والغريب فيه: ما ذكره المفضل: أنه مصدر سبحَ صوتَه إذا رفعه
بالدعاء، وذكر الله، وأنشد:
قَبَحَ الإله وجوهَ تَغْلِبَ كلّما. . . سَبَح الحجيج وكَبّرُوا إهلالاَ
(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ)
في "أنت" ثلاثةُ أوجه:
أحدها: فصل، و" العليم" خبر "إن".
والثاني: أنه مبتدأ، "العليم " خبره والجملة خبر عن اسم "إن"
والثالث: أنه يقع تبعاً للكاف، ومحله نصب، وجاز ذلك لكونه تبعا، تقول
ضربتك أنت ومررت بك أنت.
(إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ) .
الظاهر فيهما أنهما فعل المتكلم، وأجاز بعضهم أن يكون أعلم بمعنى
عالم، و "غَيْبَ السَّمَاوَاتِ" منصوب به وحذف تنوينه، لأنه لا ينصرف، وما
يجوز أن يكون نصباً، ويجوز أن يكون خفضا بالإضافة، وهذا خلاف قول(1/132)
أبي علي، فإنه قال في (هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ) منصوب بفعل دل عليه
أعلم. وهو يعلم.
(اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) .
قيل: كان انحناء يدل على التواضع، وقيل: كان خرورا على الذقن.
وقل: أمرهم بالخضوع له والانقياد لأمره، وقيل: معناه اقتدوا به في السجود لله، فسجد وسجدوا بسجوده، وقيل: إنهم أدلوا بتسبيحهم وتقديسهم، واعتقدوا أنهم أفضل من غيرهم، فأمرهم بالسجود لآدم ليزول عنهم ما اعتقدوا من الإدلال والتفضيل.
(إِلَّا إِبْلِيسَ)
قيل: الاستثناء متصل، وكان من قبيلٍ من الملائكة يقال لهم الجن، وكان اسمه عزازيل، وكان من ذوي الأجنحة الأربعة.
الكلبي: عن أبي صالح عن ابن عباس، أن الله خلق الأرض وجعل
سكانها الجن، فاقتتل الجن بنو الجان فيما بينهم وعملوا بالمعاصي وسفكوا
الدماء، فبعث الله إبليس ومعه جند من الملائكة من السماء الدنيا، فأجلوا
الجن منها، وألحقوهم بجزائر البحور، وسكن إبليس والملائكة الذين كانوا(1/133)
معه في الأرض، وقيل: الاستثناء منقطع، ولم يكن من الملائكة ولا طرفة
عين. هذه عبارة الحسن.
وقال وهب: إن الله خلق الجن في الأرض فعصوا وأفسدوا، فبعث الله عليهم ملائكة فقتلتهم، فاستوهب ملك من الملائكة إبليس من ربه فارتفع به إلى السماء فعبد الله مع الملائكة، وكان أشدهم
عبادة واجتهاداً، وهو معنى قوله: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ) ومعنى قوله: (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) ، وقيل: كان منهم في علم الله. وقيل: (كان) بمعنى صار.
وإبليس: اسم عجمي ولهذا لا ينصرف، وقيل: مشتق من أبلس.
ولم ينصرف، لأنه شابه الأعجمي، حيث لم يستعمل إلا علماً.
وقيل: تقدير الآية: قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا، فقلنا لإبليس: اسجد لآدم فأبى، ولم يكن في الخطاب الأول.
(اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) .
هي حواء خلقت من الطين الذي خلق منه آدم، وقيل: خلقت من
ضلع آدم، وهي القصيرى في الجنة، وقيل: في الأرض.
وأَنكر بعض أهل الكلام هذا، وقال: لا يجوز أن يكون النبي ناقصاً. والجواب: إن هذا النقصان كالختان والمرض والعمى والموت، فلا يقدح في النبوة.
(الْجَنَّةَ)
هي جنة الخلد التي وعد المتقون، وقيل: كانت جنة في السماء، سوى جنته
الموعودة، وقيل: كانت جنة في الأرض.
والأول: مذهب السنة والجماعة.
(وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا)
ذكر في هذه السورة بالواو وذكر في الأعراف(1/134)
بالفاء، لأن الفاء للتعقيب. معنى التعقيب أن يقع الثاني بعد الأول
متصلاً به.
ولقوله: (اسْكُنْ) معنيان:
أحدهما: اتخذاها مسكنا من قولهم:
هذه الدار لك سكنى.
والثاني: لازمها. والأول يحتمل لفظ الفاء، لأن له نهاية وتعقيباً، فكان ما في الأعراف أليق به، لأن ما قبله قوله: (اخرجْ منها)
فليست الجنة لك سكنى، واتخذاها سكنى فكلا عقيب اتخاذكماها سكنى
من حيث شئتما، ولم يحتمل المعنى الآخر الفاء، لأنه لا غاية له، فعطف
بالواو على معنى الجمع، أي اجمعا بين لزومكماها والأكل من حيث شئتما.
وقيل: ما في البقرة خطاب قبل الدخول، وما في الأعراف بعد الدخول.
وزاد في البقرة: (رغدا) لأنه ذكر بلفظ التعظيم، فزاد في الكرامة والنعيم.
وهو قوله: (قلنا) ، وفي الأعراف: (قال) .
(وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)
قيل: هي الحنطة، وقيل: العنب، وقيل: التين، وقيل: النخلة، وقيل: الكافور، وقيل: شجرة العلم. أي شجرة من أكل منها علم الخير والشر، وقيل: شجرة الخلد التي تأكل منها الملائكة، وقيل: شجرة من أكل منها أحدث، وقيل: شجرة الحنظل.
وقال ابن حبيب: إن بعض الأغبياء قال: إن الشجرة محمد، وأكل آدم منها إعلان سِر كان استكتم آدم فعصى، فهذا تَلَعُّب بالدِين وتمويهٌ، وقائل هذه المقالة غير مصدق بدين ولا نبوة.
وإنما مراده تشكيك الناس والتلبيس عليهم (1) .
(مُسْتَقَرٌّ) موضع قرار، وقيل: موضع قورهم.
و (مَتَاعٌ) معاش "إلى حين " إلى وقت الموت، وقيل: إلى القيامة.
__________
(1) جميع هذه الأقوال لا دليل عليها، والأولى تفويض علمها إلى الله تعالى، ولو كان في تعيين الشجرة فائدة، لصرح القرآن باسمها، والغيب يقتصر فيه على ما أخبر صاحب الغيب - عز وجل - ومن ثَمَّ وجب التوقف في تعيين هذه الأمور وأمثالها. والله أعلم.(1/135)
(قُلْنَا اهْبِطُوا) .
كرر الأمر بالهبوط، لأن الأول من الجنة، والثاني من السماء، وقيل:
للتأكيد، ويحتمل أن التقدير، ومتاع إلى حين فإما يأتينكم، لكن لما قُبِلَ
بقوله: (فَتَلَقَّى آدَمُ) الآية، أعاد فقال: (قُلْنَا اهْبِطُوا) .
(وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) .
فحذف الأول، لأن الثاني يدل عليه، وقيل: تقديره: فَارْهَبُونِ، فحذف
الفعل الأول، وجعل الضمير المتصل منفصلا.
(أَوَّلَ) وزنه أفعل، وفاؤه وعينه واوان، ولا نظير له إلَّا كوكب وأيَّل وددن. وهذا مذهب سيبويه. عند الكوفيين: هو أفعل من وال
قلبت الهمزة واواً، ثم أدغمت الواو فيها، وقيل: أفعل من آل يؤول.
وتقديره: أول كافر به. والهاء تعود للقرآن، وقيل: للتوراة، وقيل:
لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: الأول زيادة، لأن الكفر منهي عنه أولًا وآخراً، وتقديره: ولا تكونوا كافرين. ومثله (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) ، (فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) .
(وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا)
إنْ قيل: الباء تدخل الثمن، كقوله: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ) فَلم دخل آياتي؟
قيل له: قد سبق أن الباء في باب الاشتراء تدخل المبذول، ولما نهاهم عن بذل الآيات، دخلها الباء، والمراد بالثمن في الآية "ذا ثمن".(1/136)
قوله: (وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) .
يجوز أن يكون نصباً، ويجوز أن يكون جزماً.
(وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) .
"الهاء" تعود إلى المصدر، أي وإن الاستعانة، كما تقول: من صدق
كان خيراً له، وقيل: تعود إلى الصلاة، وقيل: للصبر والصلاة، ونُزِّلا منزلة الجمع ما لم يلتبس قياساً على باب (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) .
وقيل: تقديره: واستعينوا بالصبر وإنه لكبير، واستعينوا بالصلاة وإنها لكبيرة، فاكتفى بذكر أحدهما، وعلى هذه الوجوه الأربعة يحمل أمثاله.
وقيل: وان إجابة محمد - عليه السلام - لكبيرة.
قوله: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي) .
(يَوْمًا) منصوب على أنه مفعول به، ولا يجوز أن يكون ظرفاً، لاختلاف
زمنيهما، وقوله (لَا تَجْزِي) صفة لليوم، والتقدير: لا تجزى فيه، فحذف
الجار وتعدى الفعل إليه من غير واسطة جارة، ثم حذف الضمير قياساً
للوصف على الوصل.
(وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ)
قدم الشفاعة في هذه الآية وأخّر العدل، وقدّم العدل في الآية الأخرى من هذه السورة وأخر الشفاعة، لأن اليهود قالوا: يشفع لنا آباؤنا الأنبياء، وقالت الكفرة: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، فأيسهم الله منها، وأخرها في الآية الأخرى، لأنها جارية مجرى الجواب، والتقدير في الآيتين معاً، لا تقبل منها شفاعة فتنفعها تلك الشفاعة، لأن الانتفاع بعد القبول وقدم العدل هناك ليكون لفظ القبول مقدما في الآيتين.
(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) .(1/137)
ذهب بعض من يقول بالتاسخ إلى: أن القوم كانوا بأعيانهم، فلما
تطاولت مدة التلاشي نسوا فذكروا، وهذا محال من قائله، وقلة معرفة بكلام العرب، فإن الخطاب فيما بينهم بمثل هذا أكثر من أن يحصى، تقول
قتلناكم يوم كذا وهزمناكم في حرب كذا، يعنون الجد الأعلى، والأب
الأبعد، وقيل أيضاً: تقدير الآية، واذكر إذ قلنا لبني إسرائيل في زمان موسى نجيناكم من آل فرعون، فلا يكون على هذا اعتراض، والجواب الأول هو جواب الجمهور.
قوله: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ)
في هذه السورة بغير واو على البدل، وفي سورة إبراهيم (وَيُذَبِّحُونَ) على العطف، لأن ما في البقرة من كلام الله، ولم يرد تعداد المحن عليهم، وما في إبراهيم حكاية كلام موسى فعدَّد المحن عليهم، وكان مأمورا بذلك في قوله في إبراهيم: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ) .
وفي قوله: (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) ثلاثة أقوال:
أحدها: يستبقونهم أحياء من الحياة، وذلك: أن فرعون رأى في
المنام أن ناراً جاءت من قبل بيت المقدس فأحرقت بيوت مصر ومن فيها من
القبط دون بني إسرائل، فسأل المعبرين عنها، فقالوا: إنه يخرج من هؤلاء
الذين أقبلوا من بيت المقدس - وهم بنو إسرائيل - رجل يكون هلاك القبط
وخراب مصر على يديه، فأمر فرعون بذبح كل غلام يولد لبني إسرائيل.
ونهى عن ذبح الجواري.
الثاني: كانوا يفتشون أحياء النساء عما في بطونهن من الجنين وعما يلدن من الأولاد.
والثالث: يستحيون من الحياء المحمود فلا يتعرضون للخنا صيانة لهن - وعلى هذا الوجه يكون نعمة، وفيه بعد.(1/138)
قوله: (بِكُمُ الْبَحْرَ) .
أي سببكَم، وقيل: حال، أي وكنتم فيه، كما تقول: خرجوا
بسلاحهم، أي متسلحين.
قوله: (وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ)
يرِيد آلَ فرعون وفرعون، فحذف لدلالة المضاف إليه عليه، ويحتمل آل فرعون نفس فرعون، فيكون التقدير أغرقنا آل
فرون وجنوده.
وآل: اسم فيه فخامة لا يستعمل إلا لمن له صيت وذكر.
وأصله أهل، قلبت الهاء همزة ثم قلبت الهمزة ألفاً، بدليل: التصغير.
تقول في تصغير "آل " أهيل، ويأتي آل مشتقاً من آل يؤول، وتصغيره أويل، وروى أبو عبيدة عن الكسائي: أن العرب تقول: آل فلان إذا ذكر
صريح اسم الرجل، أو كنيته، أو اسم المرأة، ولا يقال مع المكنى آله، ولا
آل البصرة والكوفة.
قلت: لعل الكسائي جعل قول المسلمين: اللهم صل على محمد وعلى آله، من الذي أصله آل يؤول، لا من الآل الذي أصله أهل.
قوله: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)
إلى انطباق البحر عليهم بعد خروجكم منه، وقيل: وأنتم تعلمون، لأنهم كانوا في شغل عن معاينة ما يجري، وقيل: وأنتم تنظرون أن يقع بكم مثل ذلك العذاب، وقيل: فيه تقديم وتأخير، تقديره ويستحيون نساءكم وأنتم تظرون.(1/139)
قوله: (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) .
نصب، لأنه مفعول به وتقديره: وَاعَدْنَا مُوسَى تتمة أربعين ليلة.
فحذف المضاف، والمراد بالليلة الليل والنهار، وقيل: نصب على الظرف
للوعد، أي كنا نعده أربعين ليلة، فتكون الليلة دون النهار.
وقال أبو بكر النقاش: أمر أن يصوم أربعين يوماً يواصل الصيام فيها، فلما قال أربعين ليلة، علم أنه أمر بأن لا يفطر بالليل، ليكون الصيام وصالاً.
(ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ)
أي صنعتم شكلَ عجل كما تقول: اتخذتُ آنيةً، وقيل: تقديره: اتخذتم العجل إلهاً، كما تقول: اتخذت زيداً وكيلاً، فحذف المفعول الثاني، وعلى هذين الوجهين يحمل قوله (بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ) .
وكان العجل من ذهب يخورُ بحيل احتالها السامري.
وقيل: صار لحماً ودماً، لقوله: (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) ، ولقوله:
(لَنُحَرِّقَنَّهُ) .
قال أبو العالية: سمى ما اتخذه السامري عجلاً لأنهم عجلوه، فاتخذوه إلهاً.
(وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ) .
قيل: هو التوراة أيضاً، وكرر لاختلاف الاسمين. وقيل: "الفرقان "
القرآن، وتقديره: آتينا موسى الكتاب ومحمداً الفرقان، فاكتفى بذكر كتابه عن ذكره.(1/140)
(جَهْرَةً) .
قيل: حال، أي غير مستور عنا بشيء، وقيل: صفة مصدر، أي رؤية
جَهْرَةً، وقيل: متعلق بالقول، أي قلتم مقالة جَهْرَةً، أي جهرتم بتلك المقالة.
(مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) .
قيل: كان موتا فارقهم الروح، وقيل: كان نَوْما.
(الْمَنَّ) .
الطرنجبين، وقيل: كان شيئاً يقع على الأشجار، وقيل: الصمغة، وقيل: الزنجبيل.
الربيع: كان ماء يشربونه.
وهب: الخبز الرقاق، وقيل: المن، العسل، ما من الله عليهم مما لا تعب فيه ولا نصب.
(السَّلْوَى)
الجمهور على أنه طير، وروي عن الخليل أنه قال: واحدها سلواة، وأنشد:
وإني لَتَعْروني لِذِكْراكِ سَلْوَةٌ. . . كما انتفضَ السَّلْواةُ مِنْ بَلَلِ القَطْرِ
فالألف على هذا تكون للإِلحاق بجعفر لا للتأنيث، وقيل: السلوى.
العسل وأنشد:(1/141)
وقاسَمَهم بِاللَّهِ جَهْداً لأنتم ألذُّ. . . من السلوى إذا ما نشروها
قال المفضل: أخطا الشاعر في هذه الاستعارة، وإنما أراد به نصيدها
قلت: ويحتمل أن المراد بالسلوى ما كان لهم في التسلي عن الطعام، وزان
قول الزجاج في المن.
(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا) .
ذكر هنا بـ "الفاء" وفي الأعراف بـ "الواو"، لأن الدخول سريع
الانقضاء فيعقبه الأكل، وفي الأعراف (اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا) ، لأن
المعنى لازموها، وذلك ممتد، فذكر بالواو، أي اجمعوا بين السلوى والأكل.
وزاد في هذه السورة (رَغَدًا) ، لقوله: (قُلْنَا) ، وفي الأعراف (قيل) ، وقد
سبق.
وقدم (وَادْخُلُوا الْبَابَ) في هذه السورة، وأخرها في الأعراف، لأن
السابق في هذه السورة ادخلوا فبين كيفية الدخول في اسكنوا، وفي هذه
السورة (خَطَايَاكُمْ) إجماع، لأن الصيغة للجمع الكثير فمغفرتها أليق ب "قلنا"، وفي هذه السورة (وَسَنَزِيدُ) بالواو، ليكون أشد اتصالًا بالأول، وحذف في
الأعراف "الواو" للاستئاف، وفي هذه السورة (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ
وفي الأعراف (مِنْهُمْ قَوْلًا) ، لأن في الأعراف (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ) ، و (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ) ، فالحق هذا بذَاك.
(وَقُولُوا حِطَّةٌ) أي لا إله إلَّا الله، وقيل: نستغفر الله، وقيل: حط(1/142)
عنا ذنوبنا، وقيل: أمروا بهذه اللفظة من غير توفر للمعنى، وقيل: قولوا
هذا الأمر حق، وقيل: حط باب البلد، وقيل: باب المسجد، فبدلوا وقالوا: حطى سمعانا، وقيل: هطا سمعانا، ومعناه حنطة حمراء، وقيل: قالوا حنطة فيهاشعيرة.
قوله: (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ) .
كان عصاه من آس الجنة، عشرة أذرع على طول موسى - عليه
السلام - واسمها عليق، والألف واللام في الحجر قيل: للجنس، أي حجر
كان، وقيل: للعهد، وكان حجرا مربعا، وكان مدوراً يضيء كالمرآة، عليه اثتا عشرة هنة مثل ثدي المرأة، إذا ضربه موسى جرت منه اثتا عشرة عينا، وقيل: كان يضربه اثنتي عشرة مرة، وقيل: كان من رخام، وقيل: من الكدان، حجارة رخوة، فيه اثنا عشرة حفرة، وقيل: كان مع كل سبط حجر يحملونه على حمار (1) ، وقيل: الحجر الذي جاء في الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدَر، قال: فذهب مرة يغتسل فوضع ثيابه على حجر، ففر الحجر بثوبه، فخرج موسى في أثره، يقول: ثوبي يا حجر ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى موسى، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، قال: فقام إلى الحجر بعد ما نظروا إليه، فأخذ ثوبه وطفق يضرب الحجر ضرباً، وهو من قوله: (آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) (2) .
وحكى ابن حبيب في تفسيره" سمعت
__________
(1) أقوال تفتقر إلى سند صحيح، وهي من الإسرائيليات المنكرة.
(2) صحيح البخارىِ غسل 1 / 61.(1/143)
بعض الجهال يقول: إن الحجر كان رجلاً كنى عنه، وضرب موسى إياه
سؤاله، وخروج الماء علم، ونسأل الله سلامة الدين.
(فانفَجَرَتْ) ، أي فضرب فانفجرت، انفتحت من الحجر.
قوله، (عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ) .
من جعل المن ماء يشربونه فلا سؤال عليه، ومن جعله طعاماً، قال:
كان يأتيهم المن زماناً فانقطع ثم أتاهم السلوى، وقيل: كانوا يعجنون بهما
وفيصيران طعاماً واحداً.
الغريب: ما قيل: إنهم استنكفوا من تساويهم فيه، وأرادوا الامتياز في
الأطعمة.
قوله: (يُخْرِجْ)
قيل: جواب لقومه ادع، أي ادع لنا ربك أن يخرج.
وقيل: جواب فعل مضمر، أي وقيل له اخرج يخرج، وقيل: إنه دعاء، أي
ليخرج فحذف اللام.
قوله: (وَفُومِهَا)
قيل: هو الثوم، قلبت الثاء فاء، كجدف وجدث.
وحرف ابن مسعود: يدل عليه، وهو أليق بالبصل، وقيل: هو الحنطة
وسائر الحبوب أيضاً يلحقها اسم القوم، وأنشد ابن عباس:
قد كنتُ أغْنَى الناسِ شخصاً واحداً. . . نَزَل المدينةَ عن زِراعة فُوْمِ
الزجاج: ومحال أن يطلب القوم طعاماً لا بُرَّ فيه، وهو أصل الغذاء.
وقيل: الفوم، الخبز، تقول العرب: فومت إذا خبزت.(1/144)
والغريب: ما قيل: الفوم كل لقمة كبيرة، وقطعة من اللحم عظيمة.
(أدنى)
أقرب قيمة وأقل ثمنا، من قوله: "هذا شيء مقارب".
وقيل: أصله، أدناء - بالهمز - من الدناءة، وهي الخسة، وقرىء في الشواذ - بالهمز - فحذف همزه على غير قياس، وقيل: هو مقلوب أدون من الدون.
قوله: (وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ) .
وقال في الحج: (وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى) .
وقال في المائدة: (وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى) .
لأن النصارى مقدم على الصَّابِئِينَ في الرتبة، لأنهم أهل كتاب.
فقدمهم في البقرة. والصابئون مقدمون على النصارى في الزمان، لأنهم كانوا
قبلهم، فقدمهم في الحج. وراعى في المائدة المعنيين فقدمهم في اللفظ
وأخرهم في التقدير، لأن تقديره عند البصريين، وأكثر الكوفيين التأخير على
معنى والصابئون كذلك، وأنشدوا:
فَمَنْ يَكُ أَمْسى بالمدينةِ رَحْلُه. . . فإني وقَيَّارٌ بها لَغَريبُ
أي فإني لغريب وقيار كذلك -
قوله: (قِرَدَةً خَاسِئِينَ) .
الجمهور على أنَهم صاروا قردة، وكل شيء مُسِخَ لم يأكل ولم يشرب
حتى مات. وقيل: عاشوا حتى صار لهم نسل وأولاد.
الغريب: قول مجاهد: مسخت قلوبهم، وإن هذا مثل(1/145)
كقوله (كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) .
وقول الجمهور أظهر، لقوله (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا) .
قال أبو روق: الخاسئون، هم الذين لا يتكلمون.
غيره: الخاسىء المتباعد بطرد، تقول: خسأته فخسأ.
و"خاسئين" خبر بعد خبر، وقيل: صفة القردة، وقيل: حال من المضمرين في "كونوا"، والعامل فيه كان.
(لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) . أي لمن يراها.
قوله: (مَا هِيَ) .
أجمع المفسرون على أن "مَا هِيَ" بمعنى كيف، وليس بسؤال عن
الماهية، فإِنهم عرفوا ما البقرة، قالوا وهو في قوله: (ما لونها) للسؤال عن
الماهية، والصحيح أنه أيضاً للكيفية، لأنهم عرفوا ما اللون أيضاً، وإنما سألوا
عن كيفية لون تلك البقرة، و "مَا" محله رفع و "لونها" خبره، أو على الضد.
ولم يعمل فيها "يُبَيِّنْ" لأن الاسنفهام لا يعمل فيه ما قبله.
قوله: (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ)
أي بين السنَّين، لأن بين يضاف إلى شيئين فصاعداً، وذلك قد يقع موقع التثنية والجمع، قال:
إن لِلخيرِ ولِلشر قِرى. . . وَكِلا ذلك قول وعَمَل
وقول من قال "لأن ذلك يقع موقع الجمل وينوب عنها" سهوْ من
وجهين:
أحدهما" أن "بين" يستدعي جملة، والجملة عند النحويين عبارة عن
الحدث والمحدث عنه، وإنما يستدعي اسماً عطف على اسم، والثاني: أن
ذلك لا يقع مواقع الجمل في الصلة، وغيرها، وقول القائل في جواب ظننت(1/146)
زيداً قائما ظننت ذلك إنما هو إشارة إلى الظن، وهو المصدر، أي ظننت
ذلك الظن.
(صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا) .
بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ
قل: سوداء، وأنكره جماعة، وقالوا: الصفرة بمعنى السواد
يستعمل في الإبل خاصة، وقوله (فَاقِعٌ) تأكيد للصفرة أيضاً، دون السواد.
وفاقع للون دون البقرة، ومن وقف على فاقع، قال: لما كان تبعا، لم يحتج
إلى علامة التأنيث، كقول الشاعر:
واني لأسقي الشربَ صفراءَ فاقعاً. . . كاَنَّ ذكيَّ المسك خيرٌ يفتق
قال: وجاز تأنيث اللون لإضافتيهما إلى مؤنث، قال الله تعالى: (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) و (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) وغيرها.
قوله: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) ، ذكر الفعل حملاً على الجنس.
وقرىء في غريب الشواذ "تشابهنَّ" - بالتشديد - وتاء التأنيث، وأجمعوا على خطئه، وقال ابن مهران في الشواذ: إن العرب قد تزيد على تفعل في
الماضي تاء فتقول: نتفعل، وأنشد:
تتقطت بي دونك الأساب.(1/147)
وهذا القول منه ليس بمرضٍ، ولا البيت بمقبول، وله عندي
غريب، وهو: أن نجعل التاء من البقرة والفعل اشابهت، وكتب
المصحف على اللفظ، كقراءة الكسائي (ألَا يسجدوا) ، وكقول
عبيد: (ولات حين) .
وأعجب من هذه قراءة من قرأ (يشَّابهَ - بالياء والتشديد وفتح الهاء
وهذا لا وجه له، لأن نواصب الفعل لا تتجمع ها هنا، ولا وجه لبنائه
الفتح أيضاً.
قوله: (لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) .
جل المفسرين على أنه الإشارة والسقي جميعاً، ووقف سهل
جماعة على "ذَلُولٌ"، فلما وقف لم يحسن زيادة "لا" مع (الواو) ، قلت:
كقوله: (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ) ، وسقط الاعتراض.
(قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) .
(الْآنَ) عبارة عن الزمان الموجود، وأصله عند الكوفيين الأوان، قلبت
الواو - لتحركها وانفتاح ما قبلها - ألفاً، فاجتمع ساكنان فحذف أحدهما.
وروي عن الكسائي أن أصلها آن من أأن يائن فجعل اسماً ودخله اللام.(1/148)
وعند البصريين مبنىِ على الفتح لتضمنه لام التعريف، والألف واللام فيه
زاندتان كما في - " الذي" و "مائة".
قوله: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ)
قيل لغلاء ثمنها، لأن صاحبها أبى أن يبيعها إلّا بملء مسكها ذهبا.
وقيل: إلا بوزنها ذهباً، فاشتريت بمال القتيل.
وقيل: تم ثمنها على بني إسرائيل، أصاب كل رجل منهم درهم.
وقيل: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) خشية العار.
والغريب: ما قال عكرمة: إنهم امتنعوا خشية العار، ولم يكن
ثمن البقرة إلا ثلاثة دنانير.
وتقدير الآية، وما كادوا يفعلون، قبل أن بينت لهم، وقيل: تقديره:
وكادوا لا يفعلون، كما قال:
ولا أراها تزالُ ظالمةً. . . تُحدثُ لي قُرحَةً وتَنْكُؤها
(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا) .
هذه أول القصة عند الجمهور، اسم القتيل عاميل، قال ابن الحبيب:
نكار.
قال صاحب النظم القصة محمولة، على أنها نزلت في فصلين، وفي
وقتين مختلفين، وفي معنيين غير متفقين.(1/149)
قوله: (اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا) .
قيل: بذنبها: وقيل: بفخذها اليمنى، وقيل: بلسانها، وقيل:
بعجبها، وقيل بغضروفها.
الغريب: قول الحسين بن الفضل، قال: أولى الأقاويل، اللسان لأن
المراد من القتيل كلامه، وقال يمان: أولى الأقاويل العَجْب، لأنه أول ما
يخلق وآخر ما يبلى.
وقال النقاش: وخليق بأن ضرب بالغضروف، وهو أصل الأذن وفيه الحياة. قال: ألا ترى أن الحي إذا ضرب في ذلك الموضع لم يعش.
وقيل: إن الله أمرهم بذبح البقرة دون غيرها من الحيوان ودون أمر
آخر، لأنهم عبدوا العجل، فعظم أمر البقر عندهم، فأراد الله أن يزيل عن
قلوبهم ذلك، ويهونه عندهم.
قوله: (كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى)
أي فضرب فحييَ، كذلك يحيي الله الموتى، والتشبيه في الإحياء فقط.
قوله: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ) .
"الهاء" تعود إلى "مَا".
(وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ)
مجاهد: كل حجر تفجر منه الماء أو تشقق عن ماء أو تردى من رأس
جبل، فهو من خشية الله نزل به القرآن.
وقال غيره: هذا بعد أن جعل فيه التمييز، كقوله: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا) .(1/150)
والغريب: أن الحجر المنفجر منه الماء والمتشقق عن الماء حجر
موسى، من قول (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ) : وإن الحجر الذي هبط من
خشية الله من جبل موسى من قوله: (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) الآية.
والعجيب: ما قيل: إن الحجارة في الآية البرد، وهو الذي يتفجر منه
الأنهار ويشقق فيخرج منه الماء ويهبط، أي ينزل من خشية الله، قال ومعنى
خشية الله، أي من إخشاء الله الناس بذلك، كقوله: (يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) أي للإخافة والإطماع.
ومن العجيب أيضاً: قول من قال: (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ) يعود إلى
القلوب، والمعنى: تطمئن وتسكن.
قوله: (يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ) .
يعني التوراة. "ثم يحرفونه " والتحريف: على وجهين:
تحريف لفظ بزيادة أو نقصان كما حرفوا صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان فيها: أكحل العين ربعة، جعد الشعر، فجعلوه: أزرق العين، طُوالاً، سبط الشعر.
وتحريف معنى: وهو أن يؤول على غير ما قصد له.
وقيل، المراد بهم السبعون الذين اختارهم موسى، سمعوا كلام الله ومناجاة موسى، فلما رجعوا حرف بعضهم، وقال، سمعنا الله في آخر كلامه، إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم فلا تفعلوا ولا بأس عليكم.
والغريب: ما حكاه ابن حبيب: أن عطاء قال: يسمعون كلام الله يعني
القرآن.(1/151)
قال ابن حبيب: وأرى أنه أراد بالقرآن التوراة، كما جاء في الخبر.
أن داود - عليه السلام - كان يأمر بدابته أن تسرج فيفتح القرآن فيقرأه إلى أن يفرغ من إسراج دابته.
وكان داود يقرأ الزبور، فسماه قرآناً.
قال. وقد قرأت في أخبار الأنبياء - عليهمٍ السلام - في صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - إني منزل عليه توراة أفتح به أعيناً عُميا وآذانا صماً، وقلوباً غلفا، فسمى القرآن توراة.
قلت: ويحتمل أن عطاء: أراد القرآن بعينه، وتحريف اليهود نسبتهم القرآن إلى التقول، وأنه يعلمه بشر، وإلى الكهانة، وغيرها مما قالوا فيه - لعنهم الله.
قوله: (بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) .
أي علمكم من الفتح، وقيل: حكم عليكم من الفتاح وهو القاضي.
وقيل: فتح الله عليكم من العذاب والمسخ من فتح الباب.
(إِلَّا أَمَانِيَّ) .
أي أكاذيب، وقيل: تتمنون على الله باطلا، وقيل: بلاؤه، والاستثناء
عند الجمهور منقطع، لأن ما بعده ليس من الكتاب ولا من العلم في شيء.
وإنما هو كقوله: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) .
قال الشاعر:
حَلَفْتُ يميناً غيرَ ذي مَثْنَوِيَّةٍ. . . ولا عِلْمَ إلا حُسْنُ ظنٍّ بصاحبِ
قوله: (يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) .
تقييده بقوله: (بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد كقوله: (يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) .
قال ابن السراج: أي كتبوه من تلقاء أنفسهم، ثم جعل الويل لهم
ثلاث مرات.(1/152)
والغريب: ما رواه الأعمش عن إبراهيم أنه كره أن تكتب
المصاحف بالأجرة، لهذه الآية. قال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكرهون بيع المصاحف.
قال سعيد بن المسيب ابتعها ولا تبعها، يعني المصاحف.
والعجيب: ما قاله أبو ملك، قال: كان عبد الله بن سعد بن أبي
سرح، يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيملي عليه النبي، غفوراً رحيماً، فيكتب عليماً حكيماً، ثم يقول: أوحي إلي، فنزل فيه، (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) الآية، والمفسرون على خلافه.
قوله: (إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) .
أي قلائل، وقيل: معلومة، وجاء في هذه السورة (مَعْدُودَةً) ، وفي
آل عمران (مَعْدُودَاتٍ) ، لأن المعدودة هي القياس لاطراد هذه الصيغة
فيهما واحدها مذكر أو مؤنث، تقول في جمع كوز كيزان - مكسرة -، وليس بأصل أن تقول: مكسرات، وتقول في جمع جمجمة جماجم مكسرة
ومكسرات، قال الله تعالى: (سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) ، وقد يدخل إحداها على الأخرى، فتقول: سرر مرفوعات وأكواب موضوعات ونمارق مصفوفات وأيام معدودات وقيل: لأن التقدير:(1/153)
ثلاثة أيام معدودة، ثم تجمع فيقال: مثلاً تسمع أيام معدودات، فجاء في البقرة على الأصل، لأنها الأولى، وجاء في آل عمران على الفرع، لأنها الثانية
- وقيل: في قوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) : أي في ساعات
أيام معدودات، يريد التكير عقيب الصلوات، فحذف الموصوف، وهو
المضاف وبقي المضاف إليه والصفة.
قوله: (لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) .
أي بأن لا تعبدوا، فلما حذف "أن" رفع الفعل كقوله:
أَلا أَيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى. . . وأَنْ أشهدَ اللذاتِ هل أَنْتَ مُخْلِدي
أبو علي: الأخذ من الألفاظ التي تجري مجرى القسم، وتقديره:
حلَّفناهم لا يعبدون، قطرب: حال، أي غير عابدين - الفراء: نفي والمراد
به النهي، وكذلك الكلام في (لَا تَسْفِكُونَ) .
قوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)
"الباء" معلق بفعل دل عليه (إِحْسَانًا) ، أي أحسنوا بالوالدين، كقوله: أحسن بي، وقيل: عطف على المعنى، أي ووصيا بالوالدين، ولا يتعلق بقوله: (إِحْسَانًا) ، لأن معمول المصدر لا يتقدم على المصدر.
وقوله: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) ، قيل: عام في جميع الأفعال، وقيل:
قولوا في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم -، من قرأ (حُسْنًا) أي ذا حسن، ومن قرأ (حَسَناً) [بفتح الحاء والسين] جعله وصفاً للمصدر أيضاً: أي قولاً حَسَناً (1) ، وقرىء في الشواذ
__________
(1) قال العلامة الدمياطي:
واختلف في حسنا فحمزة والكسائي وكذا يعقوب وخلف ووافقهم الأعمش بفتح الحاء والسين صفة لمصدر محذوف أي قولا حسنا والباقون بضم الحاء وإسكان السين وظاهره كما قال أبو حيان أنه مصدر وأنه كان في الأصل قولا حسنا إما على حذف مضاف أي ذا حسن وإما على الوصف بالمصدر لإفراط حسنه
وعن الحسن بغير تنوين بوزن القربى والعقبى أي كلمة أو مقالة حسنى. اه (إتحاف فضلاء البشر فى القراءات الأربعة عشر. ص: 183) .(1/154)
"حسنى"، والجمهور على أنه خطأ، لأن فعلى وصفاً لا تأتي إلّا بالألف
واللام، وله وُجَيه، وهو أن يجعل حسنى مصدر إلى الرجعى، فيكون التقدير
أيضاً قولًا ذا حسنى. (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أعرضتم.
الغريب: (تَوَلَّيْتُمْ) قتلتم، خطاب ليهود المدينة.
(ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ) .
موصول، و "تَقْتُلُونَ"، صلته، وقيل: أنتم مبتدأ، وهؤلاء، توكيد
وتخصيص، "تَقْتُلُونَ" خبره، وقيل: أنتم مبتدأ، وهؤلاء خبره و"تقتلون" حال لـ (هؤلاء) لازم لزوم النعت للمبهم.
قوله: (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ) .
جماعة من المفسرين: حكوا قول السدي: إن الله أخذ عليهم أربعة
عهود، ترك القتال، وترك الإخراج، وترك المظاهرة، وفداء أسراهم.
فأعرضوا عن كل ما أمروا إلا الفداء، والظاهر: أن العهود ثلاثة، فإن قوله: (تَظَاهَرُونَ) حال، وليس معه واو العطف أيضاً.
قوله: (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ) .
قيل: هو كناية عن الأمر والشأن، وقيل: كناية عن الإخراج، فلما حيل
بينهما بقوله، (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى) ، فسر، لأن تقديره، وتخرجون فريقا
منكم من ديارهم وهو محرم عليكم، وقيل: كناية بشريطة التفسير.
وله عندي وجه غريب: وهو أن نجعل "هو" كناية عن الفريق، لأن الفريق واحد في اللفظ جمع في المعنى، كالقوم، و "مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ" خبره، و "إِخْرَاجُهُمْ" اسم لما لم يسم فاعله، وإن شئت جعل "إِخْرَاجُهُمْ" مبتدأ ثانياً "مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ" خبره تقدم عليه، والجملة خبره.(1/155)
قوله: (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ)
يجوزُ أن يكونَ استفهاماً، ويجوز أن يكون نفياً.
قوله: (بِرُوحِ الْقُدُسِ) .
يعني جبريل، والْقُدُس: هو الله، أضيف إليه تشريفاً، كبيت الله
وناقة الله، وقيل: القدس: الطهارة والبركة، فيكون من باب إضافة الشيء
إلى صفته. وقيل: روح القدس، الإنجيل، وسمي روحاً كما سمي القرآن
روحا في قوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) .
وقيل: (روح القدس) ، اسم الله الأعظم، الذي كان به يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص وغيرها.
والغريب: (روح القدس) روح عيسى، وصف بالقدس لأنه لم تتضمنه
أصلاب الفحولة ولا أرحام الطوامث.
وجاء في الغريب أيضاً: أن الله لما أخرج الذرية من ظهر آدم وأشهدهم على أنفسهم، ردها إليه إلا روح عيسى - عليه السلام - فإنه أمسكه إلى وقت خلقه.
(أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ)
نصب على الظرف، وتحقيقه: أن "مَا" مع الفعل في تأويل المصدر، والمضاف محذوف، وهو الوقت، و "كل" مضاف إلى الوقت، وتقديره، أَفكل وقتِ مجيءِ رسول.
(وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)
أي قتلتم، وجاء بلفظ المستقبل مراعاة لفاصلة الآي.
وقيل: معنى تقتلون تعتقدون جواز قتلهم، وقيل: الواو للحال.
وتقديره، فريقاً كذبتم في حال قتلكم فريقاً.(1/156)
قوله: (فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ)
في "مَا" خمسة أوجه:
وجهان حسنان، ووجهان غريبان، ووجه عجيب.
فالحسن: أن يكون وصفاً لمصدر محذوف تقديره يؤمنون إيمانا قليلاً، فحذف المصدر، وبقي الوصف.
والثاني فبقليل يؤمنون، فحذف الجار وتعدى الفعل إليه بغير الواسطة.
والغريب: أن "مَا" بمعنى "مَن"، أي فقليلا من يؤمنون.
والثاني: "مَا" مع الفعل في تأويل المصدر، أي فقليلا إيمانهم.
وإنما قلت: غريب لأنه لا ناصب لقوله: "قليلاً" في الآية، ومن أضمر كان وصار استغرب.
والعجيب: أن "مَا" للنفي، وتقديره ما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً، لأن ما
بعد "مَا" النفي لا يتقدم عليه.
قوله: (مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ) .
أي يصدق التوراة، لأن مجي المخبر به يجعل المخبِر صادقاً، وقيل:
موافق لما معهم، وقيل: يصدق التوراة والإنجيل أنهما من عند الله.
قوله: (يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا)
الجمهور، على أن معناه يستنصرون، وذلك أن اليهود كانوا إذا قاتلوا غلبوا ودعوا الله، وقالوا: اللهم انصرنا على أعدائنا بالنبي الذي وعدتنا أن تبعثه في آخر الزمان، فينصرون.
وقيل: يسألون الله القضاء بينهم وبين عدوهم به، وقيل: معنى (يَسْتَفْتِحُونَ)
يخبرون بصحة أمره.
والغريب: يستعجلون الناس، هل ولد فيهم من هو بصفة محمد - صلى الله عليه وسلم.
(فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)
"لَمَّا" إذا دخل الماضي يكون ظرفاً، وهو اسم يستدعي جواباً، وإذا دخل المستقبل جزم، وهو حرف وقد يأتي بمعنى إلاّ، وجوابه في الآية مضمر، وهو كفروا به، وجاز إضماره، لأن الثاني يدل عليه، وقيل: أجيب "ولما" و"فلما" بجواب واحد، وهو كفروا به، وقيل: (كَفَرُوا بِهِ) ، جواب لقوله: "وَلَمَّا" ولكن لما أطال الكلام أعاد(1/157)
ذكره، وهذا كقوله: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ) الآية، وقيل: (كفرو) جواب
"فلما"، و "فلما" مع جوابه جواب "ولما جاءهم".
(بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) .
اشترى، ابتاع، وشرى، باع، هذا هو الأصل، ثم يوضع أحدهما
مكان الآخر، وخصوصاً إذا كان التبايع بغير الذهب والفضة، لأن كل واحد منهما بائع ومشتر، و "مَا" في الآية بمعنى باع. و"بئس" كلمة وضعت لغاية الذم خلاف "نعم"، ويستدعي فاعلاً فيه عموم وشياع، وقد يضمر الفاعل ويفسّر بنكرة يكون هو المذموم، ويرتفع بالابتداء، والجملة المتقدمة خبره.
وقيل: يرتفع بالخبر، والمبتدأ محذوف، و "مَا" في الآية نكرة، ما بعده صفته، و (أَنْ يَكْفُرُوا) رفع بالابتداء، وهو المذموم، أي بئس شيئاً اشتروا به
أنفسهم، الكفر وقيل: "مَا" هى الموصولة، وما بعده صلته، أىِ بئس الذي
اشتروا به أنفسهم الكفر.
وعند الكوفيين: "مَا" مع بئس اسم واحد
كـ "حبذا" و (أَنْ يَكْفُرُوا) خبر بالبدل من الهاء في "به".
قوله: (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ) .
لا يسوغ إجراؤه على الظاهر، لا تقول أضرب أمس، وعدَّه
سيبويه، في المجاز.
والغريب: ما قال ابن السراج: إن هذه أمثلة جاز وقوع بعضها موقع
بعض إذا لم يورث التباساً. والذي في الآية بمعنى الماضي، و (مِنْ قَبْلُ) دل
عليه، وقيل إنما جاز ذلك، لأن المعنى لم تعتقدون صحة ما فعل آباؤكم من
القتل من قبل.(1/158)
والغريب: معناه لم يقصدون قتل محمد - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء هنا محمد - عليه السلام - وحده، وقد قصد اليهود قتله.
والعجيب: إنه متعلق بالاستخبار الذي تضمنه معنى "لم"، أي أخبرني
من قبل، كما يقول المناظر الذاب، لم تجوزون الوضوء بغير النية من قبل؟
أي أخبرني عن هذا قبل الشروع في المسائل، ويحتمل أن التقدير قل من
قبل فلم تقتلون.
(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ)
أعاد، لأن الأولى: لعداد النعم، وختمها بقوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) ، والثانية: للاحتجاج، وختمها بقوله: (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .
(قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا) .
للجمهور قولان: أحدهما: سمعنا قولك وعصينا أمرك.
والثاني: قالوا: سمعنا ولم يقولوا عصينا لفظاً، بل حالهم دل على ذلك.
والغريب: ما قال الحسن: أولئك آمنوا طوعاً أو كرها، وإنما هو من
كلام من أدرك محمدا - صلى الله عليه وسلم -، ثم رجع إلى ذكر آبائهم فقال: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) ، أي حب العجل، وهو من قولهم هو مشرب عمره؛ لأنك لا تقول أشرِبتهُ بعض سقيته، ولفظ أكثر المفسرين: سقوا حب العجل، وقيل: سقوا الماء الذي في سحالة العجل من قوله: (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا) .
قال في هذه السورة: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) ، وفي الجمعة (وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ) ، لأن دعواهم في هذه السورة بالغة قاطعة، وهو كون الجنة لهم
بصفة الخلوص، فبالغ في الرد عليهم بـ "لَنْ"، وهي أبلغ ألفاظ النفي،(1/159)
ودعواهم في الجمعة قاصرة مترددة، وهي زعمهم أنهم أولياء الله فرد
بـ "لا".
قوله: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) .
عطف على معنى (أَحْرَصَ النَّاسِ) ، لأن المعنى أحرص من جميع الناس ومن الذين أشركوا، ومن جعله مستانفا، أي ومن الذين أشركوا من يود، أو قوم يود، ففي قوله بعد، لأنه لا يجوز حذف الموصول، وإقامة الصلة
مقامه أصلاً، ولا يجوز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، إذا كانت
جملة، وإنما يجوز إذا كانت اسماً مثله.
(وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ) ، هو كناية عن التعمير، وأَنْ يُعَمَّرَ
تفسيره.
والعجيب: قول من قال: هو كناية عن الأمر، فان "الباء" لا تدخل
الجملة، وكذلك من جعله عماداً، لأن خبر "مَا" لا يتقدم على اسمه.
(مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) .
خصّا بالذكر بعد الملائكة لشرفهما، و "الواو" فيه للتفصيل لا للجمع.
علي بن عيسى: "الواو" بمعنى أو، وليس للجمع، لأن ذلك يؤدي إلى
تسهيل عداوة الواحد منهم إذا انفرد.
والغريب: قول من قال أنهما ليسا من الملائكة، والمعطوف غير
المعطوف عليه، وجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل أمراء الملائكة.
والملائكة كالأتباع والجنود لهم، ولفظ الجند لا يشتمل على الأمير، ولهذا(1/160)
جاز إضافة الجند إليه، تقول جند الأمير، وجواب الشرط مضمر تقديره: فإنه كافر والله عدو للكافرين.
قوله: (وَاتَّبَعُوا) .
عطف على (نَبَذَ) .
(مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ)
قيل تتبع، وقيل: تقص وتقرأ، والتقدير، ما كانت الشياطن تتلوا، وقيل: حكاية الحال، وقيل، مستقبل وقع موقع
الماضي، ويحتمل أنه على أصل الاستقبال، أي تتلو الآن، لأن ذلك قد امتد
إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم.
(عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ)
أي في عهده وزمانه، قال:
فَهي على الأفْق كعَينِ الَأحولَ.
وقيل: مملكته وسلطنته، ودل على الكذب كما تقول: قال عليه.
وروى عليه، قال:
وما كل مَن تظَنني أَنا مُعتبٌ. . . وما كُل من يَروي عليَّ أَقول
(وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ)
جواب لليهود حين قالوا: إن سليمان لم يكن
نبيا، وإنما ملك الِإنس والجن والطير بالسحر.
وفي سب معتقدهم ذلك قولان:
أحدهما: لما كثر السحر في بني إسرائيل، اطلعَ الله سليمان - عليه
السلام - عليه، فاستخرجه من أيديهم، ودفن تلك الكتب تحت كرسيه.
والثاني: أن الشياطين كتبوها ودفنوها في خزانته حين فتن سليمان، فلما
مات - عليه السلام - استخرجها الشياطين، وقالوا هذا سحر سليمان وبه كانت(1/161)
تتم أموره، فبرأه الله - عز وجل - من ذلك بقوله: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا)
بنسبة السحر إليه، وقيل: كفروا باستخراج السحر.
(يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)
بأن ألقوا في قلوبهم تعلمه، وقيل: بأن دلوا على تلك الكتب، وقيل: التعليم في الآية بمعنى الإعلام، وفي السحر
أقوال: أحدها: أنه قلب الأعيان واختراع الأجسام وتغيير صور الإنسان وفعل المعجزات كالطيران وقطع المسافات في أسرع زمان، قال القفال:
ومدعي هذا كافر، وكذلك من يصدقه، لأن في هذا التباس علامات النبوة
بسحر السحرة.
والثاني: أنه تمويهات وشعوذة ومخاريق وتخيل لما لا حقيقة له، من قوله: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) الآية.
وصاحب هذا فاسق، لأنه مقر بأنه مموه.
والثالث: أنه أخذ بالمعنى، من قوله: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) الآية.
والرابع -: تضريب وتمويه وتخويف يزعم المبلغ أنه حق، فيؤثر فيه.
والخامس: أنه ضرب من استخدام الجن.
قوله: (وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ)
في "مَا" قولان: أحدهما: أنه الموصول.
والثاني أنه للنفي، وكلا القولين عن ابن عباس، ومن جعله الموصول.
ففيه قولان: أحدهما: أنه لما كثر السحر فيما بين الناس والتبس أمر الأنبياء
بعث الله ملكين يبينان ماهية السحر ومِمّ يكون وكيف يكون
والوجوه التي فيها يتوصل السحرة إلى الاحتيال على الجهال لستخف الناس
بالسحر ويعرفوا حقيقته، وكانا لا يعلمان أحداً ولا يكشفان وجوه الاحتيال فيه حتى يبذلا له النصيحة، ويقولا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر ولا تستمعه
لتستعمله فيما نُيهتَ عنه، ولكن إذا وقفت عليه تحرز من أن ينفذ لساحر(1/162)
عليك تمويه، واعلم أنهم مبطلون.
والثاني: امتحن الناس يومئذ بالمَلكين
وجعل المحنة في الكفر والإيمان أن تقبل القابل تعلم السحر، فيكفر بتعلمه
ويؤمن بترك العلم، ولله أن يمتحن عباده بما يربد.
والعجيب: إنهما ملكان كلفا تكليف بني آدم، وركب فيهما
الشهوة، حين قالوا: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) ، وأنزلا من السماء
ليحكما بين الناس، فجاءتهما زهرة، واسمها بالنبطية ناهيد، وبالفارسية
بيدخت، تخاصم زوجها، فافتتنا بها وشربا الخمر وزنيا بها وقَتَلا رجلاً اطلع
على فعلهما، وعلَّما زهرة اسم الله الأعظم، فصعدت إلى السماء ومسخت
كوكباً.
وزاد الربيع بن أنس، وأخرجت لهما صنماً فسجدا له، ثم انطلقا
إلى رجل صالح فقالا له: اشفع لنا، وذكر بعضهم أنه كان إدريس - عليه
السلام - فدعا لهما، فَخُيِّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فهما معلقان في بئر منكوسين يعذبان بسياط من نار، ومن ثم
استغفرت الملائكة لبني آدم من قوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) :
وهما يعلمان الناس السحر، وإذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له لا
تكفر، فإنْ أبى، قالا له ائت هذا الرماد وَبُلْ فيه، فإذا بال خرج منه نور
يصعد إلى السماء، وهو إيمانه، ويأتيه دخان يدخل مسامعه، وإذا أخبرهما
بذلك علَّماه.
وروي عن عائشة: من دنا منهما سمع كلامهما ولم يرهما.
وعن الكلبي: أنهم كانوا ثلاثة عزار وعزايا وعزابيل، فاستقال عزابيل ربه.
فأقاله، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لعن الله سهيلا فإنه كان(1/163)
عشاراً باليمن، ولعن الله زهرة فإنها فتنت الملكين" (1) ، وروى عن ابن
عمر أنه كان إذا رأى زهرة قال: لا مرحبا بها ولا أهلا، إنها كانت بغياً
من بني إسرائيل، لقي الملكان منها ما لقيا، وهذا من العجيب، لأنه غير
مرضي عند كثير من المفسرين، ولم بذكره كثير منهم.
ومحل "مَا" نصب عطفاً على السحر، وقيل: عطف على (مَا تَتْلُو)
وقل: محله جر بالعطف على ملك سليمان، ومن جعل "مَا" اللنفي.
قال: هذا رد على من زعم من سحرة اليهود، أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل، فيكون جبريل وميكال هاروت وماروت، والمحل جر بالبدل من الملكين، وقيل: أما داود وسليمان، واسمها هَارُوت وَمَارُوت بالعبرانية، وقيل: هما قبيلان من الشياطن، والمحل نصب بالبدل من (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ) ، وقيل: بدل من الناس.
وقال الحسن. هما علمان.
(بِبَابِلَ) قيل: هي بابل العراق، حيث تبلبلت الألسن، وقيل:
بابل المغرب، وقيل: جبل نهاوند، وقيل: وهدة في الأرض.
وقوله: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ)
من جعل "مَا" إثباتاً فهو من كلام الملكين، ومن جعل "مَا" نفيا، قال:
إنما هذا كقول الخليع الغاوي أنا في ضلال فلا ترد ما أنا فيه.
(فيتعلمون)
قيل عطف على المعنى، أي فيأبون عليهما وُيلِحَّان
__________
(1) قال في مجمع الزوائد ما نصه:
عن ابن عمر أنه كَانَ إذا رأى سهيلاً قال لعن الله سهيلاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كَانَ عشاراً من عشاري اليمن يظلمهم فمسخه الله فجعله حَيْثُ ترون. وَفِي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر سهيلاً فقال كَانَ عشاراً ظلوماً فمسخه الله شهاباً. رواهما البزار والطبراني فِي الكبير والأوسط ولفظه إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كَانَ عشاراً يظلمهم وينصبهم أموالهم فمسخه الله شهاباً فجعله حَيْثُ ترون. وضعفه البزار لأن فِي رواته إبراهيم بن يزيد الجوزي وهو متروك وَفِي الأخرى ميسر بن عبيد وهو متروك أيضاً. اهـ (مجمع الزوائد. 1 / 121) .(1/164)
فيتعلمون، وقيل: عطف على يعلمان، وتقديره، فلا تكفر فيعلمان فيتعلمون
وقيل: عطف على يعلمون، وأنكر الزجاج، وقيل: استئناف.
قوله: (مِنْهُمَا) أي من هاروت وماروت، وقيل: من السحر والكفر.
ويحتمل من السحر وما أنزل فيمن جعله إثباتاً.
والغريب: قول ابن جرير: إن من جعل "مَا" جحداً، والملكين
جبريل وميكائيل، جعل "مِن" في قوله: "منهما" بمعنى البدل كالمكان
لقول الشاعر.
فَلَيْتَ لنا من ماءِ زَمَزَم شَرْبَةً. . . مبَرّدَةً باتت على طَهيان
فيكون التقدير، فيتعلمون مِن مكان علمائهم.
(مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)
هو أن يؤخذ كل واحد منهما من صاحبه ويبغض إليه.
القفال في جماعة: إذا عمل بالسحر كفر فحرمت عليه امرأته.
قوله: (مِنْ أَحَدٍ) ، "مِنْ" زيادة.
(إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) بعلمه وقضائه السابق وقدره، وليس بالمعنى بإذنه في السحر.
قوله: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ) الآية.
"اللام" لتوطئة القسم، و"من" الشرط، "مَا لَهُ" جزاؤه، والتقدير، فوالله مَا لَهُ، وهذا حكم يطرد في "لَمَنِ" حيث وقع بجواب القسم، وقيل: في "مَن" في الآية ابتداء "مَا لَهُ" في الآية خبره.
قوله: (لو كانوا يعلمون) مع قوله: (ولقد علموا) محمول على(1/165)
وجهين: أحدهما: لو كانوا يحلمون بعلمهم، والثاني: أن بعضهم علم، وهم العلماء، وبعضهم لم يعلم، وهم المتعلمون.
قوله: (لَمَثُوبَةٌ) .
مصدر وقع موقع الفعل، أي لأُثيبُوا ما هو خير لهم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا) .
هذه اللفظة في العربية تحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: صيغة الأمر من راعى يراعي، وهو قول الجمهور، وتقول العرب: راعي سمعك وأرعي سمعك، أي استمع مني.
الثاني: وهو غريب: أنه من الرعونة، وهي الاضطراب، والأصل
فيه راعناً بالتنوين، كقراءة من نوَّن، لكنهم قلبوا التنوين ألفاً في الوصل
قياساً على الوقف، وما أجري فيه الوصل على حكم الوقف كثير.
والثالث: وهو عجيب: أن أصله راعينا، فحذف الياء، أي يا راعيَ
إبلنا، قال:
كنَواحِ ريشِ حَمامةٍ نَجْديةِ. . . ومَسَحْتَ باللِّثتين عَصْفَ الإِثْمِدِ
وكان المسلمون يقولونها للنبي - صلى الله عليه وسلم - على المعنى الأول، فسمعت اليهود ذلك، فجعلوا يقولونها للنيي - صلى الله عليه وسلم - على المعنى الثاني أو الثالث. وقيل: بل كان سبًّا قبيحاً بلغتهم.
قال القفال: كانت اليهود تقول راعونا، يوهمون(1/166)
التعظيم، وهو فاعولاً من الرعونة، فنهى الله المؤمنين عن التلفظ بهذه
اللفظة، كيلا تجد اليهود إلى ذلك سبيلاً، وقيل: إنما نهى المسلمين لأنها
تنبىء عن المساواة على أصل باب المفاعلة، وهم مأمورون بأن يخاطبوا
النبي - صلى الله عليه وسلم -، بما يدل على التعظيم في قوله: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) وقيل: معناه لا تقولوا قولاً راعناً، أي فيه اضطراب على ما قلت، أصلهُ التنوين.
قال الحسن: لا تقولوا حمقاً.
وقيل: هي كلمة كانت تجري مجرى السخرية فيما بينهم، فنهى الله المسلمين أن يقولوها بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والعجيب: ما قيل: إن في الآية ناسخاً ومنسوخاً، أي نسخ قوله:
(راعنا) بقوله: (انظرنا) ، وفيه بعد، لأن النسخ إنما يرد على شيء أمَر الله به ثم ينسخه.
ومعنى: "انظرنا"، أمهلنا وتوقف حتى نفهم ما تقول، ونسألك عما
يشكل علينا، وقيل: انظر إلينا، فحذف الجار.
(واسمعوا) اقبلوا ما يأمركم به الرسول.
الحسن: اسمعوا ما يأتيكم به.
قوله: (مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) .
الأولى زائدة، والثانية لابتداء الغاية، وتقديره، أن ينزل عليكم خير
مبدَاه من الله.
(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) .
قالت اليهود: إن محمداً - صلى الله عليه وسلم - في حيرة من أمره، يأمر أصحابه اليوم شيئا، ويرجع عنه غدا، ما هذا القرآن إلا كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله هذه(1/167)
الآية، والنسخ: رفع الشيء وقد كان يلزم العمل به إلى مدة ببدل منه.
من قول العرب: نسخت الشمس الظل، أي أزالته وقامت مقامه، وإجماع
المسلمين على أن في القرآن ناسخاً ومسوخا.
والجمهور على أنه يأتي على ثلاثة أوجه.
أحدهما: ما نسخ حكمه وبقي لفظه، وهو الكثير في القرآن.
كقوله: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) وأشباهه، فإنها منسوخة بقوله:
(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ، و (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ، وهذه
الآية تسمى آية السيف.
والثاني: ما نسخ لفظه، وبقي حكمه، وذلك ما روي، أن ابن عباس قال: خطبنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: كنا نقرأ: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة، نكالا من الله، والله عزيز حكيم، ولولا أني أكره أن يقال: زاد عمر في القرآن لزدتها.
والثالث: ما نسخ لفظه وحكمه، وذلك ما روي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال: كنا نقرأ: "لا ترغبوا عن آبائكم إنه كفر".
والغريب: ما نسخ لفظه ولم يكن له حكم، وذلك، كما روي عن
أنس أنه قال: كانت تُقْرَأُ مرة: "أخبروا قومنا أنا لقينا ربنا فأرضانا ورضي
عنا" وروى أيضاً: كنا نقرأ في القرآن: لو أن لابن آدم واديين من ذهب
لابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب (1) .
وكذلك الخامس: ما نسخ لفظه وبقي بعض حكمه، وذلك ما روي
عن عائشة - رضي الله عنها، قالت: كان فيما نزل من القرآن عشر رضعات
__________
(1) شتان بين هذه التعبيرات وبين تعبير القرآن الكريم.(1/168)
معلومات فنسخن إلا خمساً معلومات يحرمن، قالت: وتوفي رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وهو ما يقرأ في القرآن.
ومن الغريب جداً - وهو السادس -: قول من قال: كل استثناء في
القرآن فهو الناسخ لما قبله.
والعجيب: قول من قال: ليس في القرآن ناسخ ولا منسوخ، ثم
أوّل لكل منسوخ وجهاً محتملاً، وهذا قريب من قول اليهود، حيث قالوا:
النسخ بداء، والبَدَاءُ على الله ليس بجائز.
ومن العجيب أيضاً: قول من أجاز أن يدخل النسخ الخبر، وهذا يؤدي
إلى نسبة الكذب إلى الله تعالى، تعالى الله عن ذلك، بل النسخ يدخل الأمر
والنهي، وما بمعناهما.
وأعجب من هذين قول من قال: إن ذلك إلى الإمام ينسخ ما يرى
المصلحة في نسخه، ويثبت ما يرى المصلحة في إثباته.
وهذه الأقوال الثلاثة مرغوب عنها مردودة على قائليها.
قوله: (أَوْ نُنْسِهَا)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
نذهبها من قلبك، من النسيان، وقيل: نتركها ولا ننسخها.
وزيّف هذا، لأن قوله: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا) أي بخير مما نسخ لا مما ترك.
ومن همزها. فمعناه نؤخرها فلا ننسخها (1) .
وقيل: ما ننسخ من
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (ننسها) الآية 106 فابن كثير وأبو عمرو بفتح النون والسين وهمزة ساكنة تليها من النسأ وهو التأخير أي نؤخر نسخها أي نزولها أو نمحها لفظا وحكما وافقهما ابن محيصن واليزيدي والباقون بضم النون وكسر السين بلا همز من الترك أي نترك إنزالها قال الضحاك وعن الحسن بالخطاب. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 189) .(1/169)
آية من اللوح المحفوظ للإنزال عليك ونؤخر إنزالها عليك نأت بخير منها من
الثواب، وقيل: أخف على المكلف بها، أو مثلها في الثواب والتكليف.
قوله: (وَدَّ كَثِيرٌ) .
وَدَّ وتمنَّى يتعديان إلى المعاني دون الأعيان، وقد يقعُ "لو" بعد (وَدَّ)
معناه: أنَّ (كُفَّارًا) حال من ضمير المخاطبين في (يَرُدُّونَكُمْ) وقيل: مفعول
قوله: (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) متصل ب (وَدَّ) ، والمعنى: وَدَّوا من عند
أنفسهم لم يؤمروا به، وأنكر الزجاج، أن يكون متصلا ب (حَسَدًا) وقال: لأن (حَسد الإنسان لا يكون إلا من عند نفسه.
وأجازهُ علي بن عيسى على وجه التوكيد كقوله: (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) : و (حَسَدًا) نصب على المفعول.
قوله: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) .
يريد، وقالت اليهود: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا، وقالت
النصارى لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ نَصَارَى، فأخبر عنهما معًا إيجازًا، وله
في القرآن نظائر، وهو جمع هائد كغائط وغوط، وحائل وحول.
وهائد هو التائب.
قال النقاش: هو مشتق من التهود، وهو السير السريع، وقيل: أصله
يهودي جمع على يهود، كرومي وروم، ثم حذف الياء الأولى. وقيل: أجري مجرى المصادر، أي ذو هود وذو نصارى، وقيل: هود واحد وحد على لفظ (مَنْ)
قوله: (مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) .(1/170)
للجمهور فيها قولان: أحدهما: أنها بيت المقدس.
والثاني: أنها المسجد الحرام.
والغريب: أن "مَسَاجِدَ اللَّهِ"، الأرض، من قوله: "جُعِلَت لي الأرض مسجداً وَطهوراً".
قوله: (أَنْ يُذْكَرَ)
في محل نصب، بدل من المساجد، وقيل: تقديره، من أَنْ يُذْكَرَ.
والغريب: أن نجعل مفعِولًا ثانيا لـ (مَنَعَ، كقول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: " لو مَنعوني عِقالاً ".
قوله: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) .
قيل: نزلت رخصة للتحري حالة الاشتباه، وقيل: في التطوع على
الراحلة.
والغريب: قول القفال: زعمت اليهود، أن الله لما خلق الأرض
صعد إلى السماء من الصخرة، فاتخذوها قبلة، والنصارى استقبلوا المشرق
لولادة مريم من جهته.
والعجيب: قول من قال: إنها ناسخة للقبلة الأولى، والمعنى، (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) الذي أمركم بالتوجه إليه، وهو الكعبة، فتوجهوا إليها، فإنه
ممكن، والتقديم والتأخير لا يمنع صحة هذا التأويل.
وقال القفال: ليس في الآية ذكر القبلة والصلاة، وإنما أخبر عن علمه بهم ولحوق سلطانه إياهم، حيث كانوا كقوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا) الآية.
قوله: (كُنْ فَيَكُونُ) .(1/171)
فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أن هذا عبارة عن سرعة الإيجاد، وأن لا نَصَب هناك ولا تَعَب، والأمر أو القول مجازان، لأن المعدوم لا يخاطب، والموجود لا يؤمر بالوجود.
والثاني: أن جميع ما هو كائن في علم الله كالموجود، فَصَحَّ الخطابُ. والثالث: أن هذا خاصٌّ في الموجودات التي أراد الله سبحانه أن ينقلها بحالة أخرى، كقوله: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَ) الآية.
ومثله (كُونُوا قِرَدَةً) ، وقيل: معنى (لَهُ) لأجلِهِ.
قوله: (فَيَكُونُ)
الرفع هو الوجه، أي فهو يكون على الوجه الذى قدره الله.
والنصب على الحمل على اللفظ، لأنه صيغة الأمر، وكذلك
قال الأخفش: في قوله (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا) .
قوله: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) .
وقال في هذه السورة أيضاً: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) .
فجعل مكان (الَّذِي) "مَا" وزاد "مِن"، لأن العلم في الأول علم بالكمال ليس
وراءه علم، لأن معناه بعد الذي جاءك من العلم بالله وبصفاته، وبأن (الهدى
هدى الله) : ومعناه بأن دين الله الإسلام، وأن القرآن كلام الله، وكان لفظ (الَّذِي) أليق به من "مَا"، لأنه في التعريف أبلغ، وفي الوصف أقعد، بيان ذلك أن الذي تُعَرِّفُه صلتُه ولا يَتنَكَّرُ قط ويتقدمه أسماء الإشارة نحو قوله: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ) (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ) ، فيتكنَّفُهُ بيانان.
الإشارة والصلة ويلزمه الألف واللام، ويثنى ويجمع، و "مَا" ليس فيه شيء
من ذلك، لأنه يتنكر مرة ويتعرف أخرى، ولا يقع وصفاً لأسماء الِإشارة،(1/172)
ولا يدخله الألف واللام، ولا يُثَنَّى ولا يجمع، وخص الثاني ب "مَا"، لأن المعنى بعد ما جاءك من العلم أن قبلة الله هي الكعبة، وذلك قليل من كثير من العلم، وزِيدَ معه "مِن"، التي لابتداء الغاية، لأن تقديره من الوقت الذي
حال العلم فيه بالقبلة، لأن القبلة الأولى نسخت بهذه الآيات، وليس الأول
مؤقتا بوقت، وختم الآية الأولى بغليظ في الجواب، فقال: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ) الآية، لعظم شأن الأول، وختم
الثانية بقوله: (إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) : لَما كان الثاني منحطاً عن الأول.
وقال في سورة الرعد: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) ، فعبر
بلفظ "مَا" ولم يزد "مِن" لأن (الْعِلْمِ) ها هنا هو الحكم العربي، أي القرآن.
وكان بعضاً من الأول، ولم يزد "مِن" لأنه غير مؤقت، وختم أيضاً بغليظ من
الخطاب، فقال: (مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ)
إن اتبعتَ أهواءهم، لأنه وإن كان بعض الأول، فهو مشتمل على الكل - والله أعلم -.
قوله: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ) .
المعروف خمس في الرأس، وخمس في البدن، وقيل: ثلاثون
خصلة عشر في براءة، وعشر في قد أفلح وعشر في الأحزاب.
والغريب: هي مسألة في القرآن سألها إبراهيم ربه، وقيل: هي قوله:
(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) .(1/173)
ومعناه عندهم أب رحيم -، وقيل: مشتق من البرهمة، وهي شدة النظر، وجمع إبراهيم براهيم وإسماعيل سماعيل، وقال بعض أهل اللغة: براهمة وسماعلة.
والهاء بدل من الياء، المبرد: جمعهما، أباره وأسامع وأباريه وأساميع.
قال: وأما إسرائيل فجمعه أساريل وأسارلة.
ومن الكلمات: الختان، واختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة، وقيل: اختتن بقدوم، من صرفه جعله اسم آلة، ومن لم يصرفه قال اسم موضع.
المبرد: قرية بالشام، وهي باقية.
قوله: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)
قيل: العهد، النبوة، وقيل: الإمامة، وقيل: الرحمة، وعن ابن عباس: ليس للظالمين عهد، فإذا
عقد عليك في ظلم فأنقضه.
الغريب: سأل إبراهيم ربَّه أن يجعل الخاص عاماً والعام خاصاً، فلم
يستجبه، أما الخاص الذي سأله أن يجعله عاماً، فالنبوة أو الإمامة والرحمة.
بقوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ، وأما العام الذي
سأله أن يجعله خاصا فهو الرزق، حيث قال: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ) ، قال الله: (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا) ، أي ارزقه في
الدنيا، وقال بعضهم لولا هذا الواو لمات الكفار جوعا، وقيل: لما قال الله
له، (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) ، اختص إبراهيم في طلب الرزق، " وخص
المؤمنون به قليلاً، أي متاعاً، وقيل: زمانا قليلا، إلى حين موته.
__________
(1) قال السمين:
و» إبراهيم «عَلَمٌ أَعْجَمي، قيل: معناه قبل النقلِ: أبٌ رحيمٌ، وفيه لغاتٌ تسعٌ، أشهرُها: إبراهيم بألف وياء، وإبراهام بألِفَيْن، وبها قرأ هشام وابنُ ذكوان في أحدِ وَجْهَيْهِ في البقرةِ، وانفرَدَ هشام بها في ثلاثةِ مواضعَ من آخرِ النساءِ وموضِعَيْنِ في آخرِ بَراءة وموضعٍ في آخرِ الأنعام وآخرِ العنكبوت، وفي النجم والشورى والذاريات والحديد والأول من الممتحنة، وفي إبراهيم وفي النحل موضعين وفي مريم ثلاثة، فهذه ثلاثة وثلاثون موضعاً منها خمسةَ عشرَ في البقرة وثمانيةَ عشرَ في السور المذكور. ورُوي عن ابن عامر قراءة جميع ما في القرآن كذلك. ويروى أنه قيل لمالكِ بنِ أنس: إنَّ أهلَ الشامِ يقرؤون ستةً وثلاثين موضعاً: إبراهام بالألف، فقال: أهلُ دمشقِ بأكل البطيخ أبصرُ منهم بالقرآءة. فقيل: إنَّهم يَدَّعون أنها قراءةُ عثمانَ، فقال: هذا مصحفُ عثمانَ فَأَخْرجه فوجَدَه كما نُقِل له. الثالثة: إبراهِم بألفٍ بعد الراء وكسرِ الهاءِ دون ياءٍ، وبها قرأ أبو بكر، وقال زيدٌ بن عمرو بن نفيل:
عُذْتُ بما عاذَ به إبراهِمُ. . . إذ قالَ وَجْهي لك عانٍ رَاغِمُ
الرابعة: كذلك، إلا أنه بفتحِ الهاءِ. الخامسة: كذلك إلا أنه بضمِّها.
السادسة: إبْرَهَم بفتح الهاء من غير ألفٍ وياء، قال عبد المطلب:
نحنُ آلُ اللهِ في كَعْبته. . . لم نَزَلْ ذاكَ على عهد ابْرَهَمْ
السابعة: إبراهوم بالواو. قال أبو البقاء: «ويُجْمع على أَباره عند قومٍ وعند آخرين بَراهم. وقيل: أبارِهَة وبَراهِمَة، ويجوز أَبَارهة» وقال المبرِّد: «لا يقال: بَراهِمَة فإنَّ الهمزةَ لا يَجُوز حَذْفُها» . وحكى ثعلب في جمعِه: بَراه، كما يُقال في تصغيره: «بُرَيْه» بحذفِ الزوائدِ.
والجمهورُ على نصبِ «إبراهيم» ورفعِ «ربُّه» كما تقدَّم، وقرأ ابن عباس وأبو الشعثاء وأبو حنيفة بالعكس. قالوا: وتأويلُها دَعَا ربَّه، فسَمَّى دعاءَه ابتلاءً مجازاً لأنَّ في الدعاءِ طلبَ استكشافٍ لِما تجري به المقاديرُ.
اهـ (الدر المصون. 2 / 97: 99) .(1/174)
قوله: (مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) .
أي يثوبون إليه كل عام، وقيل: مثابة من الثواب، أي يحجون
فيثابون، وقيل: المثابة للمجتمع، والمثاب والمثابة واحد، كالمقام
والمقامة، وقيل: الهاء للمبالغة.
(وَأَمْنًا) أي ذا أمنٍ. والمعنى آمِنٌ أهله من قوله: (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) .
وقيل: من التجأ إليه أمِن، وقيل: من حَجَّ البيتَ أمِن مِنْ عذابِ اللهِ، وقيل: من شاء لم يُؤَّمن كما أن من شاء ثاب ومن شاء لم يثب.
(وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)
قيل: متصل بمضمر، تقديره: وإذ جعلنا وقلنا اتخذوا.
والغريب: قول القفال: إنه خطاب لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. ثم رجع إلى الأول فقال: (وَعَهِدْنَا) .
ومن قرأ بالفتح جعله في محل جرعطفاً على (جَعَلْنَا) .
(مُصَلًّى) قيل: موضع صلاة. وقيل، مَدْعى.
(رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا) ، وفي إبرإهيم (هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)
لأن هذا إشارة إلى الوادي المذكور في قوله: (أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) قبل بناء البيت، وفي إبراهيم إشارة إلى البلد بعد البناء.
فيكون (بَلَدًا) في هذه السورة المفعول الثاني. و (آمِنًا) صفته، و (الْبَلَدَ) في
إبراهيم المفعول الأول و (آمِنًا) المفعول الثاني، وقيل: الإشارة سواء
وتقديره في البقرة هذا البلد بلدا آمناً، فحذف البلد اكتفاء بالإشارة، وقيل: لأن النكرة إذا تكررت صارت معرفة، ولفظ "هذا" يدفع هذا التأويل.(1/175)
(وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ)
جاء في التفسير عن عطاء أن الله بعث جبريل إلى الشام فقلع الطائف من موضع الأردن، ثم طاف بها حول الكعبة أسبوعا، فلذلك سميت الطائف، ثم أتى بها تهامة (1) - والله أعلم -.
قوله: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) .
وجاء في التفسير أن إبراهيم كان يبنيه وإسماعيل يناوله الحجر، فجاز
وصفهما بالرفع، وحكى ابن حبيب: أن إبراهيم كان يتكلم بالسريانية
وإسماعيل بالعربية، وكان كل واحد منهما يعرف ما يقول صاحبه ولا يمكنه
التفوه به، وكان إبرإهيم يقول بلسانه لإسماعيل هب لي كبباً، يعني ناولني
الحجر، ويقول إسماعيل: هاك الحجر.
وقوله: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) متصل بِمضر، أي ويقولان: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا، ومن القراء من وقف على البيت، ورفع إسماعيل بالابتداء، وجعل البناء من إبراهيم، والدعاء من إسماعيل، والوجه هو الأول، لقوله: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ)
والجمهور على أن المعنى: ابنياه على الطهارة.
(وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) .
أي ثابتين على الإسلام، وقيل: مستسلمين منقادين.
(وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)
يعني العرب، وأحال بين الواو وبين المعمول بالظرف.
والشيخ أبو علي أنشد في ذلك:
ويوما تَراها كَشبهِ أرديةِ. . . العَضبِ ويوماً أديمَها نَغِلا
وهذا لا يمتنع في الفعل، وإنما يمتنع في اسم الفاعل وحرف الجر.
__________
(1) كلام يفتقر إلى سند صحيح.(1/176)
قوله: (رَسُولًا مِنْهُمْ) .
يعني محمدا - صلى الله عليه وسلم - قال: " أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى
عيسى، ورؤيا أمي ".
قوله: (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) .
فخفف، وقيل: سفه في نفسه، فحذف الجار، وقيل: تمييز، وهو
ضعيف، لأن التمييز، لا يكون إلا نكرة، وله وجه آخر، وإن كان ضعيفاً.
فليس بأضعف مما ذكر وهو أن يجعل "مَن" في محل نصب، قياساً على
قراءة ابن عامر (ما فعلوه إلا قليلاً) ، وهذا قياس لا ينكسر، وتكون
نفسه" تأكيداً له وبدلا كما تقول: ما جاء القوم إلا زيداً نفسه، وقريب منه
قراءة من قرأ (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبَهُ) بنصب (الباء) ، على أنه بدل من الهاء.
وذكر المبرد أن سفُه - بالضم - لازم، وسفِه - بالكسر - متعد، ومعناه ضيع نفسه.
قوله: (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)
أي الفائزين، وقيل: من
الأنبياء و "في" متعلق بمضمر، أي إنه صالح في الآخرة من الصالحين، ولا يجوز أن يتعلق بالصالحين، لأن ما يتعلق بالصلة لا يتقدم على الموصول.
وقيل: بيان، فصح تقدمه، وقيل: الألف واللام للتعريف وليسا بمعنى(1/177)
الذي، فجاز تقديم الجار عليه مع تعلقه به ومثله (وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) ، (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) ، وقيل: تقديره، ولقد
اصطفيناه في الآخرة وإنه في الدنيا لمن الصالحين، ولا وجه لهذا في
العربية.
(إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) .
قيل: متصل بقوله: (اصْطَفَيْنَاهُ.. إِذْ قَالَ) ، وقيل: واذكر إِذْ قَالَ.
ويحتمل أنه ظرف لـ (قَالَ أَسْلَمْتُ) .
(وَوَصَّى بِهَا) .
قيل: بالملة، وقيل: بكلمة الإسلام
(إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ)
بَنِيهِ، فحذف، لأن "الباء" تدل عليه.
(يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ) كسر "إن" لأن الوصية قول، وقيل" أنْ يا بني، كقوله: (أن امشوا) وهكذا هو في حرف ابن مسعود.
قوله: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ) .
أي بل أكنتم شهداء، (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ)
أي أسبابه، (إِذْ قَالَ) بدل من الأول، وقيل: ظرف لـ (حَضَرَ) .
(مَا تَعْبُدُونَ) أي من، وذكر بلفظ "مَا" ليكون أعم.
(إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) بدل من آبائك، وعدّ إسماعل في الآباء - وهو عم - مجازاً، وقرىء "أبيك".(1/178)
فيحتمل أن يكون مفرداً وإبراهيم وحده بدل عنه، ويحتمل أن يكون جمعاً.
فقد جمع أب على أبين وأخ على أخين.
قال:
ليس جَدي خيرَ جدٍ. . . وأبي خيرَ الأبين
وقال:
فإنك مجهولُ الأبين هجينُ
قوله: (إِلَهًا وَاحِدًا)
حال من إلهك، وقيل: بدل منه، وأفاد التوحيد.
(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) .
في الآية سؤالان:
أحدهما: أن هذا معلوم بالبديهة، فما الفائدة في ذكره؟
والثاني: لم كرر الآية. الجواب عن الأول من وجهين: أحدهما: أنه
أفاد بيان المعدلة والنصفة، ومثله (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ، والتحذير من
الاتكال على عمل الآباء والأجداد والاستدعاء للمبادرة بالطاعات.
والثاني: أفاد بطلان دعوى أهل الكتاب، أن لزوم دينهم وشرعهم مما أوجبه الله على سلفهم وخلفهم.
قال القفال: لها ما دانت في عصرها، ولكم ما تدينون
به الآن، فإن الله يشرع منا ما يشاء، وينقل عما يشاء إلى ما يشاء، والجواب عن الثاني: أن المراد بالأول الأنبياء - عليهم السلام - وبالثاني أسلاف اليهود والنصارى، وقيل: الأول لإثبات ملة إبراهيم لهم جميعاً، والثاني: لنفي اليهودبة والنصرانية عنهم.(1/179)
(بَلْ مِلَّةَ) .
أي بل نتبع ملة إبراهيم، فهو مفعول به، وقيل: اتبعوا، وقيل: نصب
على الإغراء، وقيل: بل نكون ملة إبرإهيم، أي أهل ملته.
قوله: (حَنِيفًا) حال عن ملة إبراهيم، وقيل: عن إبراهيم، والحال
عن المضاف إليه قليل.
وقيل: أعني حنيفاً، والحنيف: المائل عن سائر الأديان، من حنف القدم، وقيل: مستقيما، وسمِّي المِعْوَجِّ القدم أحنف تفاؤلاً. كالبصير للأعمى، على هذا الوجه.
قوله: (وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا) .
فيه سؤالان: أحدهما: لم قال: هنا (إلينا) وفي آل عمران (علينا) ولم زاد في البقرة (وَمَا أُوتِيَ) وحذف هناك؟
الجواب: لأن "إلى" للانتهاء إلى الشيء من أي جهةٍ كان، والكتب منتهية إلى الأنبياء وإلى الأمم جميعاً، وفي هذه السورة خطاب للأمة لقوله، (قولوا) فلم يصح إلا "إلى"
و"على" يختص بجانب واحد وهو فوق، فكان مختصاً بالأنبياء، لأن الكتب
منزلة عليهم، ولا شركة للأمة فيه، وكان في آل عمران "قل" وهو خطاب
للنبي - صلى الله عليه وسلم - دون أمته، فكان الذي يليق به "على"، وزيد في هذه السورة (وَمَا أُوتِيَ) ، لأن في آل عمران قد تقدم ذكر الأنبياء في حق الأنبياء، حيث قال: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ) .
قوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ) .(1/180)
قيل: "الباء" زائدة، وتقديره، فإن آمنوا بما آمنتم به.
والغريب: بمثل ما آمنتُم بِهِ، أي بالقرآن، وما آمنتم به التوراة.
(بَيْنَ أَحَدٍ) : أي بين واحد، وقيل: (أَحَدٍ) ها هنا للعموم.
والغريب: (بَيْنَ) ها هنا: الدين، وهو كما تقول: شق عصا
المسلمين، إذا فارقهم، ويحتمل على هذا التأويل أن يكون قوله: (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) من هذا، أي شقوا العصا وخالفوا المسلمين.
(صِبْغَةَ اللَّهِ) .
قيل: بدل من ملة إبراهيم، وقيل: اتبعوا صبغة الله، وهي الدين.
وقيل: هي الخلقة الأولى، كقوله: (فِطْرَتَ اللَّهِ) ، وكقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة ".
وعن ابن عباس: أن الأصل في تسمية الدين صبغة من جهة عيسى ابن مريم، حين قصد يحيى بن زكريا، فقال: "جئتك لأصطبغ منك، وأغتسل في نهر الأردن، فلما خرج نزل عليه روح
القدس، وكانت النصارى إذا ولد لأحدهم ابن وأتى عليه سبعة أيام صبغوه
في ماء لهم، يقال له "المعمودية" ليطهروه بذلك، ويقولون: هذا
مكان الختان، فإذا فعلوا ذلك قالوا: الآن صار نصرانيا حقا، فأنزل الله (صِبْغَةَ اللَّهِ) .
وروى القفال، في ماء يقال له: المعمودية، قال ويسمون ذلك
التغمير، ومنهم من يسميه الصبغ، قال: وفي الإنجيل - بزعمهم - في ذكر يحى(1/181)
الصابغ، وفي بعض تراجمهم المعمداني، وهذا الصنف من النصارى يقال
لهم المعمودية.
قال: ووقعت العبارة عن الدين بلفظ الصبغة لخروج الكلام
مخرج المحاجة والمقابلة، وسمي الدين صبغة لبيان أثره على الإنسان من
الصلاة والصوم والطهور والسكينة، وسمي الختان صبغة لظهور أثر الدم على
صاحبه.
(قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) .
وقد أخبر أن إبراهيم وإسماعبل وإسحاق ويعقوب والأسباط سبقوا
اليهودية والنصرانية، وما كانوا إلا على الدين الذي نحن عليه بعد ظهور
كذبكم في قولهم كانوا هوداً أو نصارى.
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ)
الظاهر أن قوله: (مِنَ اللَّهِ) صفة للشهادة، وهي صفة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
الغريب: قول من قال: تقديره، ومن أظلم منكم يا معشر اليهود
والنصارى إن كتمتم عن الله شهادة عندكم، وفي كتابكم أنهم لم يكونوا هودا
ولا نصارى.
العجيب: قول القفال وابن عيسى: إن المعنى: فلا أظلم من الله إن
كتم الشهادة.
و"مِن" الأولى، بمعنى "في" والثانية للتفصيل.
قوله: (إِلَّا لِنَعْلَمَ) .
كان هشام بن الحكم يقول: بحدوث العلم لله، ويحتج بالآية،(1/182)
وليس هذا مذهب السنة والجماعة.
ولهذه الآية وأمثالها تأويلات "
أحدها: أن المراد به علم المشاهدة، وهو الذي يستحق به الثواب والعقاب، وعلم الغيب لا يستحق به ذلك، وقيل: ليعلم أولياؤنا، وقيل: لنعلم علم المختبر الذي كأنه لا يعلم، وقيل: لنرى، وقيل: لنميز، فيعبر عنه بالعلم، لأن التمييز لا يقع إلا به.
الغريب: إلا لتعلموا أيها المخاطبون، قال إن يقول أحد: الحطب
يحرق النار، ويقول الآخر: بل النار يحرق الحطب، فيجمع بين النار
والحطب لنعلم أيهما يحرق صاحبه، أي لتعلم أنت.
قوله: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً)
قيل: كانت التولية، وقيل: القبلة، وقيل: الصلاة إليها، و "إِنْ" هي المخففة من الثقيلة، ويلزمها لام للفرق بينها وبين النافية والشرطية، ومن جعل "إِنْ" نفيا، و "اللام" بمعنى "إلا" فقوله مزيَّف بعيد، لأنه لم يأت في كلام العرب " لام" بمعنى "إلا"، فيجري هذا عليه.
(قِبْلَةً تَرْضَاهَا) .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راضيا بالقبلة الأولى غير ساخط، فقيل: معناه تحبها طبعا، لأنه كان يرى أن الصلاة إليها أدعى لقومه.
الغريب: ترضى عاقبتها بما يعرف المعتقد من المتردد والمتحير.(1/183)
قوله: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) .
في تكرار هذه الآية ثلاث مرات مع استواء حكمها، أقوال:
أحدها: الأولى في مسجد المدينة، والثانية خارج المسجد، والثالثة خارج البلد.
وقيل: الأولى نسخ القبلة. والثانية لسبب وهو قوله: (وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، والثالثة للعلة، وهو قوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) : وقيل: في الآيات الثلاث خروجان: خروج إلى مكَان يرى فيه الكعبة، وخروج إلى مكان لا يرى فيه الكعبة، أي الحالتان فيه سواء.
والغريب: ما قلت أن إحداهما: لجميع الأحوال، والأخرى لجميع
الأزمان، والثالثة لجميع الأمكنة.
والعجيب: ما قلت أيضاً إن في الآية الأولى (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ) .
وليس فيها (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ، وفي الآية الثانية: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ، وليس فيها (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ) ، فجمع في الآية الثالثة بين قوله: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ، وقوله: (وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ)
ليعلم أن النبي والمؤمنين في ذلك سواء.
قوله: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) .
في الاستثناء قولان:
أحدهما: أنه منقطع، وهو أن تكون "إِلَّا" فيه بمنزلة "لكن" أي: "لكن ظَلَمُوا مِنْهُمْ يأتون الشبه ويجعلونها مكان الحجة"، وذلك أن المشركين، قالوا: إن محمداً علم أنَّا أهدى سبيلاً منه، فتوجه إلى قبلتنا، وهذا قول الجمهور. والثاني: أن الاستثناء متصل، والمراد با لحجة، الاحتجاج.(1/184)
والغريب: قول أبي عبيدة:، أن "إلا" بمعنى الواو أي ولا الذين
ظلموا. وأنشد:
ما بالمدينةِ دارٌ غيرُ واحدةٍ. . . دارُ الخليفةِ إلا دارُ مروانا
وليس مذهب البصريين ولا أكثر الكوفيين.
والعجيب: قول قطرب: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا) في محل جر
ب "على" أي إلا على الذين ظلموا، وهذا بعيد لفظا ومعنى.
قوله: (كَمَا أَرْسَلْنَا) .
في "الكاف" قولان: أحدهما: أنه متصل بما قبله، ومحله نصب صفة
لمصدر محذوف، وفي ذلك المصدر قولان:
أحدهما: إتماماً كما أرسلنا، أي النعمة في أمر القبلة كالنعمة في أمر الرسول. والثاني: تهتدون هداية كما أرسلنا، والمعنى: ذكراً يوازي إنعامنا عليكم لإرسالنا رسولا بالصفة المذكورة في الآية.
والغريب: أنه حال من المضمرين في "عليكم"، كما تقول: خرج كما أراد.
قوله: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ) .
نزلت في شهداء بدر، كان الناس يقولون: مات فلان وذهب عنه نعيم
الدنيا ولذاتها، فأنزل الله، بل هم أحياء، أي في البرزخ يرزقون، كقوله:
بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) .(1/185)
وجاء في الخبر: "أرواحُ الشهداء في أجوافِ طيرٍ خُضرٍ تسرحُ في الجنةِ".
واستبعد هذا قوم، وليس فيه استبعاد، لأن حياتهم ورزقهم وفرحهم في القبر
مع امتناع أجسامهم عن التصرف تشبه حال النائم، وقد قال الله: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) ، ثم إنه يرى في نومه أنه يأكل ويشرب ويفرح
ويغتم، وجثته غير متصرفة كنكاح النائم.
والغريب: ما ذكره القفال: (بَلْ أَحْيَاءٌ) ، أي سيحيون فيثابون، وقال
أيضا: لا تقولوا أموات بل هم أحياء في الدين، وهذا كقوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) ، وقال أيضاً: نهوا أن يقولوا للشهداء أموات وأمروا أن
يسموهم "شُهداء" حرمة لهم.
قوله: (وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ)
أي تُحسون بحياتهم: والشعر: علم يحصل بطريق الحواس الخمس.
قوله: (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ) .
أراد بشيءٍ من الخوف وشيء من الجوع، وشيء من نقص الأموال
والأنفس والثمرات، ولم يقل بأشياء، كيلا يتوهم أنه بأشياء من كل واحد.
(الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) .
يجوز أن يكون نصباً على الصفة، ويجوز أن يكونَ مبتدأ.
(أُولَئِكَ) خبره.
قوله: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) .
أي مغفرة، وقيل: ثناء حسن، وقيل: رحمة بعد رحمةِ.(1/186)
(وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) .
وعن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: نعم العدلان ونعم العلاوة.
(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ) .
هما جبلان: وكان على أحدهما صنم يقال له إساف، وعلى الآخر
صنم يقال له نائلة، قتَحرج المسلمون الطواف بينهما، فأنزل الله هذه
الآية: وقيل: كانت الأنصار قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا
يعبدون بالمشلل، وكان من أهل بها ليتحرج أن يطوف بالصفا والمروة، فأنزل فيهم، ومن وقف على (جُنَاحَ) وابتدأ (عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) ، ففيه بعد من وجهين:
أحدهما: أن قوله ولا جناح يكرر في القرآن، وصلته عليه، والثاني: أنه
زعم أن "عليه" إغراء، والإغراء إنما يكون للمخاطب دون الغائب.
قوله: (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) .
هم الملانكة والمؤمنون، بدليل قوله: (لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) : وقيل: اللاعنون: الدواب والهوام، تقول: منعنا القطر بذنوبهم.
وجمع جمع السلامة لما وصفت بفعل العقلاء، وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - "إذا تلاعن اثنان رجعت اللعنة على المستحق لها، فإن لم يستحق واحد
منهما، رجعت على اليهود".(1/187)
قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) .
تقديره: لا إله للخلق إلا هو، وهو رفع بالدل من "إِلَهَ" على المحل.
ولا يجوز فيه النصب ها هنا، لأن الرفع يدل على أن الاعتماد على الثاني.
والنصب يدل على أن الاعتماد على الأول.
و (الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) خبر مبتدأ محذوف، أي هو الرحمن الرحيم، أو هو. بدل من الضمير، ولا يجوز أن يكون وصفا لـ (هُوَ) لأن الضمير لا يوصف.
قوله: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
قيل: (الخلق) زياَدة، لأن الآيات في المشاهد. وقيل: الخلق، هيئة.
وقيل: الخلق: المخلوق.
قوله: (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ)
الرياح، أربع: الجنوب ومهبها من مطلع سهيل، والشمال، ومهبها من مطلع بنات نعش، والصبا ومهبها من مطلع الشمس، ويقال لها: القبول أيضاً، والدبور مهبها من مغرب الشمس.
وكل ما جاء في القرآن بلفظ الجمع، فهو خير، وما جاء بلفظ الواحد، فهو شر، ولهذا قال - عليه السلام -، - كلما هب الريح -: "اللهُم اجعلها رياحاً ولا تَجعلها ريحاً ".
وقيل: إن الدبور من بينها مذمومة، والثلاث الأخر محمودةْ.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " نُصرْتُ بالصِبا، وأُهلِكت عادٌ بالدبور".
قوله: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) .
هو مصدر مضاف للمفعول، والفاعل مقدر، قال بعضهم: كحبهم الله.
وقال بعضهم: كحب المؤمنين الله، وفي هذا ضعف لقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) ، وقال بعضهم: كالمحبة التي يجب أن تكون لله.
قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ)
أي أكثر وألزم حُبًّا لِلَّهِ من الكافر للأنداد.(1/188)
والغريب: قول الطاعن إن عبدة الأصنام والهنود يحرقون أنفسهم بين
يدي الأصنام ويطلونها بالشمع والقطران حبا لها فكيف يكون حب المؤمنين
أشد؟
الجواب: الكافر يزعم أن الصنم أمره به وأحب ذلك منه، والمؤمن لو
علم أن الله يحب ذلك منه أو أمر به، لكان أسرع إليه من الكافر، ولأن الكافر يفعل ذلك، إذا رأى معبوده، والمؤمن يرى معبوده سبحانه في الجنة. وعن سعيد بن جبير: إن الله سبحانه يأمر من أحرق نفسه على حب الصنم أن يدخلوا جهنم مع أصنامهم، فيأبون، ثم يقول للمؤمنين بين يدى الكفار: إن كنتم أحبائي فادخلوا جهنم، فيقتحم المؤمنون النار، فينادي مناد من تحت العرش: (الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) .
قوله: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) .
من قرأ بالياء جعل (الَّذِينَ) فاعل و (أَنَّ الْقُوَّةَ) و (أَنَّ اللَّهَ) المفعول.
والمعنى: لو رأى الذين ظلموا حينَ يرونَ العذابَ، أو يريهم الله، فيمن
قرأ يُرون بالضم. وجواب "لَوْ" محذوف، أي لآمنوا، ومن قرأ بالتاء
جعل المخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به غيره، والذين ظلموا المفعول وتقديره، لعلمت أن القوة لله.
ومن كسر (إِنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَإِنَّ اللَّهَ) (1) جعل الكلام مستأنفاً
وجواب "لَوْ" محذوفاً، وكذلك المفعول فيمن قرأ بالياء، ويحتمل أن يضمر
القول، فيكون جواباً لـ "لَوْ"، أي لقلت إن القوة، وقيل: إن القوة بدل من المفعول، وفيه ضعف.
قوله: (لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) .
"أَنَّ" في محل رفع، أي وقع لنا كرور فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ، نصب على الجواب.
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (ولو ترى الذين) / الآية 165 فنافع وابن عامر وكذا ابن وردان من طريق النهرواني عن ابن شبيب عن الفضل بن شاذان عنه ويعقوب بالمثناة من فوق خطابا له ويرى إلى أمته والذين نصب به وإذ ظرف ترى أو بدل اشتمال من الذين على حد قوله تعالى إذ انتبذت وجواب لو محذوف على القراءتين أي لرأيت أمر فظيعا وافقهم الحسن والباقون بمثناة من تحت على إسناد الفعل إلى الظالم لأنه المقصود بالوعيد والذين رفع به وإذ مفعوله وأمال يرى الذين وصلا السوسي بخلف عنه ووقفا أبو عمرو وابن ذكوان من طريق الصوري وحمزة والكسائي وخلف وبالصغري الأزرق
واختلف في (يرون العذاب) الآية 165 فابن عامر بضم الياء على البناء
للمفعول على حد يريهم الله والباقون بفتحها على البناء للفاعل على حد (وإذا رأى الذين)
واختلف في (أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب) الآية 165
فأبو جعفر ويعقوب بكسر الهمزة فيها على تقدير إن جواب لو لقلت أن القوة لله في قراءة الخطاب ولقالون في قراءة الغيب ويحتمل أن تكون على الاستئناف والباقون بفتحهما والتقدير لعلمت أن القوة لله ولعلموا.
اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 196 - 197) .(1/189)
لأن "لَوْ" ها هنا بمعنى التمني، ومثله (فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .
قوله: (كَذَلِكَ) ، قيل: متصل بالأول، أي تجرؤوا كذلك، وقيل:
منفصل، أي الأمر كذلك، وقيل: متصل بما بعده، أي (يُرِيهِمُ اللَّهُ) ، والضمير المفعول الأول، (أَعْمَالَهُمْ) ، المفعول الثاني (حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ) المفعول الثالث، أراه كذلك.
قوله: (مَا أَلْفَيْنَا) .
أي صادفنا، وفيه سؤالان:
أحدهما: لم خص في البقرة بـ (أَلْفَيْنَا) وقال في المائدة (وَجَدْنَا) وفي لقمان (وَجَدْنَا) ؟
الجواب: لأن ألفيت يتعدى لمفعولين، تقول: ألفيت زيداً صادقاً، وألفيت عمرا على كذا، و "وجدت " مشترك يتعدى مرة لمفعولين، ومرة لمفعول واحد، تقول: وجدت الضالة، ووجدت درهما، ولا تقول: ألفيت الضالة، فكان الموضوع الأول باللفظ الأخص أولى، لأن غيره إذا وقع موضعه في الثاني والثالث علم أنه بمعناه.
والسؤال الثاني: لِمَ قال في البقرةِ (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ) ، وفي المائدة (لَا يَعْلَمُونَ) ؟
الجواب: لأن العلم أبلغ درجة من العقل، ولهذا جاز وصف الله سجانه بالعلم ولم يجز وصفه بالعقل، وكان دعواهم في المائدة أبلغ، لقولهم (حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا) ، فادعوا النهاية بلفظ حسبنا، فنفى ذلك بالعلم، وهو النهاية، وقال في البقرة: (قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا) .
ولم تكن نهاية، فنفى بما هو دون(1/190)
العلم لتكون كل دعوى منفية بما يلائمها، وفي الآيتين ضمير تقديره:
أتتبعونهم.
قوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ) .
فيه أقوال:
أحدها: مثل دعاءُ الذين عبدوا الأصنام، كمثل الناعق، وهو راعي الأغنام
والثاني: مثل الذين كفروا معك يا محمد كمثل الناعق مع الغنم، فحذف من كل طرف ما يدل عليه الطرف الآخر، وله في القرآن نظائر، وهو أبلغ ما يكون من الكلام.
والغريب: قول ابن عيسى: إن مثل الذين كفروا كمثل الناعق ودعائه
الصدى في الجبل وما يشبهه يخيل إليه أنه يجاب، وليس وراء القول شيء
والعجيب: قول الفراء وأبي عبيدة: وضع الناعق موضع المنعوق
والمعنى: مثل الكفار مثل الأغنام.
وأنشد:
كانت فريضةُ ما تقولُ كما. . . كان الزِّناءُ فريضةَ الرَّجْمِ
قوله: (وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ) .
فيه ثلاثة أسئلة "
أحدها: لم قدم به في البقرة وأخره في المائدة والأنعام والنحل؟
الجواب: لأن تقديم "الباء" الأصل وهو يجري مجرى الألف، والتشديد في التعدي، فصار كحرف من الفعل، وكان الموضع الأول
أولى بما هو الأصل ليعلم ما يقتضيه اللفظ، ثم قدم فيما سواه ما هو
المستنكر، وهو الذبح لغير الله، وتقديم ما هو الغرض أولى، ولهذا جاز(1/191)
تقديم المفعول على الفاعل والحال على ذي الحال والظرف على العامل
فيه إذا كان ذلك أكثر الغرض في الأخبار.
والثاني: لِمَ قال في البقرة: (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) ولم يقل في غيرها من
السور الثلاث، لأنه لما قال في الموضع الأول (فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) صريحاً.
واكتفى في غيره تضميناً لأن قوله: (غَفُورٌ رَحِيمٌ) يدل على أنه لَا إِثْمَ عَلَيْهِ.
والثالث: لم قال: (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : وفيما سواها (فَإِنَّ اللَّهَ) .
الجواب: لأنه قد سبق في سورة الأنعام ذكر ما في تربية الأجسام من قوله:
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ) .
وفيها ذكر الحبوب والثمار، وأتبعها بذكر الحيوان من الحيوان الضأن والمعز والبقر والإبل، فكان ذكر الرب فيها أليق.
قوله: (مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) .
الجمهور: على أن البطون ذكرت نفياً للمجاز، لأن الأكل قد يذكر
ويراد به التصرف، تقول العرب: فلان يأكل بلد كذا، أو يذكر ويراد به
الإهلاك، تقول أكل فلان ماله من الضياع والعقار، أي أهلكها، وقيل:
تقديره، يأكلون، فيحصل في بطونهم.
و"في" متصل "به" لا بالأكل، لأن الأكل لا يكون في البطون، وقيل: (فِي بُطُونِهِمْ) حال للنار، وتقدم عليها، أي (إِلَّا النَّارَ) مستقرة في بطونهم، وسمى ما يأكلون ناراً أي مآل آكله إلى النار، وقيل: يصير عين ذلك ناراً في بطونهم يوم القيامة، فسمَّاه باسم ما يؤول إليه.
قوله: (وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ)
أي بكلام وتحية وسلام، وقيل: لا يبعث(1/192)
إليهم الملائكة في التحية، وقيل: لا يسمعون كلامه، والمؤمنون يسمعونه.
وقيل لا يسمعون كلاماً يسرهم.
والغريب: لا يكلمهم كناية عن الغضب، كما تقول: فلان لا يكلم
فلاناً.
سوال: لِمَ قال في البقرة: (أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) .
وقال في آل عمران: (أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ) .
الجواب: بالغ في البقرة فوق ما بالغ في آل عمران، لأن في الآيات التي تقدمت أكثر، والوعيد في البقرة أكثر.
قوله: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) .
قيل: "مَا" للاستفهام، وقيل: للتعجب، وقيل: للتوبيخ لهم.
والتعجب للمؤمنين. ومعنى: (أَصْبَرَهُمْ) قيل: أجرأهم وحكي عن
الكسائي عن القاضي باليمن، أنه اختصم إليه رجلان، فحلف أحدهما:
فقال له صاحبه ما أصبرك على الله، يريد ما أجرأك، وقيل: ما أبقاهم في
النار.
وقيل: ما أدومهم على عمل أهل النار، وقيل: جهنم.
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ) .
أي ذلك العذاب سببُه، أن الله نزلَ الكتابَ، يعني التوراة بِالْحَقِّ.
فَكتموهُ، ودل أن الذين يكتمونَ عليه، وقيل: نزل التوراة بِالْحَقِّ.
فاختلفوا فيه، ودل أَن الذينَ اختلفوا عليه، وقيل: نَزل القرآن بِالْحَقِّ فلم
يؤمنوابه.(1/193)
والغريب: ذلك الكتمان والجزاء بأن نزل القرآن بِالْحَقِّ، وأخبر فيه
أنهم لا يؤمنون، يعني: (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) .
فكان كما أخبر.
قوله: (لَيْسَ الْبِرَّ) .
أي لا تقع القربة إلى الله باستقبال القبلة للصلاة وحده، ولكن بأمور
أخر، ثم عدها.
قتادة: ليس البر ما عليه النصارى من التوجه للمشرق
وما عليه اليهود من التوجه للمغرب.
(وَلَكِنَّ الْبِرَّ) ، أي البار (مَنْ آمَنَ) .
وقيل: ذا البر، فحذف المضاف، وقيل: ولكن البِر بِر من آمن بالله واليوم
الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والإيمان بهذه الخمسة إيمان بجميع ما يلزم العبد من المعارف.
(وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ)
"الهاء" تعود إلى الله، وقيل: إلى المال، وقيل: إلى الإيتاء.
والفعل يدل على المصدر.
والغريب: (عَلَى حُبِّهِ) المال أو الله - سبحانه - أو الإيتاء، وعلى هذا
يكون الحب مضافاً إلى الفاعل، وفي الأول مضاف إلى المفعول.
العجيب: على حب الله الإيتاء.
قوله: (وَابْنَ السَّبِيلِ)
يريد المسافر، وسمي بذلك لملازمته الطريق، ولم يجمع الابن، لأنه مجاز ها هنا، وقيل: ابن السبيل: الضيف
(وَفِي الرِّقَابِ)
إعانة المكاتب، وقيل: في ابتياع الرقاب وإعتاقها، وهو قريب.
قوله: (وَآتَى الزَّكَاةَ)
قيل وآتى المال تطوعاً، وآتى الزكاة فرضاً.
الشعبي: في المال حق غير الزكاة، وقيل: ذكر في الأول من توضع فيهم
الزكاة، ثم ذكر الزكاة ليعلم أن المراد بالمال الزكاة.(1/194)
(وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا) مع الله والناس.
و (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ)
هما مصدران لا وصفان.
(وَحِينَ الْبَأْسِ) وقت القتال.
قيل: الصوم والحج داخلان في الصبر، فاشتملت الآية على جميع الواجبات كاشتمالها على جميع المعارف.
و (الْمُوفُونَ) رفع من أربعة أوجه: العطف على خبر لكن، والعطف على محل اسم لكن، والمدح، أي فهم الموفون، والعطف على ضمير من آمن، وفيه بعد لأنه لا يعطف عليه ما لم يؤكد بالمنفصل.
و (الصَّابِرِينَ) نصب على المدح عند الجمهور.
والغريب: قول الزجاج: إنه عطف على ذوي القربى لأنه لا يحال
بين الصلة وبين المعطوف على الصلة بأجنبي منها، (وَالْمُوفُونَ) أجنبي منها إلا
على الوجه الضعيف.
ويحتمل أن يكون نصباً على العطف على اسم لكن.
(الْحُرُّ بِالْحُرِّ) .
أي يقتل الحر بسب قتله الحر.
(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ)
أي ترك، وقيل: تفضل عليه، وقيل: هو من عفا إذا سهل، وقيل: من عفا إذا كثر.
"له" الهاء تعود إلى "مَن" وهو ولي الدم، وقيل: إلى القاتل.
قوله: (مِنْ أَخِيهِ)
قيل: هو الولي، وقيل: القاتل، وقيل: المقتول.
(شَيْءٌ) هو الدم، وقيل: شيء من الدم إذا عفا بعض الأولياء.
(فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) على الطالب.
(وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) أي على المطلوب منه.
وقيل: كلاهما على المطلوب منه.(1/195)
(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) .
أي في شرع القصاص حياة من همَّ أن يقتل، ومن همَّ أن يقتله.
وقيل: لأنه لا يقتل بالمقتول إلّا قاتله، خلافا للجاهلية.
العجيب: قول من قال: القصاص: هو قصص القرآن، واستدل بقراءة
أبي الجوزاء "ولكم في القَصَصِ" - بالفتح -، وهو بعيد.
قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) .
الجمهور: على أن التقدير، وكتب عليكم، لكن الكلام الأول لما طال
تم حذف الواو، ويحتمل أنه تأخر عنها نزولا، فلم يحتج إلى الواو، والمراد
بقوله: (الْمَوْتُ) أسبابه، وقيل هو أن تقول إذا مت فافعلوا كذا.
و (الْوَصِيَّةُ)
رفع من وجهين: أحدهما: ب (كُتِبَ) ، والثاني: بالابتداء. وخبره
(لِلْوَالِدَيْنِ) ، وقيل: عليه مضمر فيكون، (كُتِبَ) بمعنى قيل، تكون الجملة
محلية، وهذا أحد قولي الفراء، وإلى هذا ذهب الأخفش أيضاً، فقال:
(إِنْ تَرَكَ) شرط، وجزاؤه (الْوَصِيَّةُ) فحذف الفاء. وفي قوله ضعف، لأن
حذف الفاء من جواب الشرط بعيد، وفي ارتفاع الوصية ب (كُتِبَ) كلام، لأن المصدر لا يعمل فيما قبله، فيبقى إذاً بلا عامل.
وقول النحاس: النية التقديم على تقدير كتب الوصية إذا حضر.
سهو لأن المصدر مثلاً إذا تقدم تقدم بصلته، وإن تأخر تأخر بصلته، ولا يجوز أن يتأخر البعض ويتقدم البعض، وقيل: العامل فيه الِإيصاء، وتقديره، كتب الإيصاء إذا حضر(1/196)
فيحسن الوقف على (الْمَوْتُ) ، على قول الأخفش، وعلى (خَيْرًا) على قول
الفراء، وعلى (بِالْمَعْرُوفِ) عند سائر القراء.
والكلام فيه يطول.
قوله: (فَمَنْ بَدَّلَهُ) .
قيل: قول الموصي، وقيل: الإيصاء.
قوله: (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) .
أي بين الموصَى لهم، ولم يتقدم ذكرهم، لكن لفظ الوصية دل عليهم.
الغريب: أصلح بين الموصي والموصى لهم ساعة الإيصاء.
قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) .
قيل:التشبيه في الصوم فحسب، وقيل: كتب عليكم صيام شهر
رمضان كما كتب على غيركم، فبدلوا وغيروا، وقيل: الصيام من العتمة
فنسخ بقوله (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ) .
قوله: (كما) قيل: صفة مصدر محذوف، وقيل حال من الصيام.
(أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) .
قيل: نصب ب (كُتِبَ) على أنه مفعول به على السعة، وقيل: نصب
بالصيام، فمن جعل كتب صفة للمصدر، لم بجز أن يعمل الصيام في الأيام.
لأنه حينئذ حيل بين المصدر والمعمول بأجنبي، فلا يعمل فيه، وإن جعلته
حالا عن الصيام جاز، ويحتمل أن (أَيَّامًا) منصوبة ب (تَتَّقُونَ) أي تتقون الأكل والشرب أَيَّامًا.
قوله: (فَعِدَّةٌ) ، تقديره: فأفطر، فعليه عدة.
والغريب: قول من قال: إن المريض والمسافر لو صاما لا يقع صومهما
عن الفرض، لقوله: (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) .(1/197)
قوله (أُخَرَ) لا ينصرف لاجتماع الوصف والعدل، لأنه معدول عن الألف واللام.
قوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ)
مبتدأ وخبره (الَّذِي أُنْزِلَ) : وقيل: (الَّذِي أُنْزِلَ) صفته وخبره (فَمَنْ شَهِدَ) الجملة.
وقيل: تقديره: كتب عليكم الصيام صيام شهر رمضان، فحذف المضاف، وقيل: تلك الأيام أيام شهر رمضان.
قوله: (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)
فيه أقوال:
أحدها: أنزل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في شهر رمضان، ثم نزل به جبريل نجما نجما، وقيل: كان ينزل من اللوح إلى السماء مقدار ما يحتاج إليه قابل، وقيل: كان ابتداء إنزاله في شهر رمضان.
والغريب أن قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) هي ليلة القدر وليلة القدر في شهر رمضان لقوله (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أي في وجوب صومه.
والثاني: أنزل في شأنه ومنزلته، كما تقول: أنزل في عليٍّ كرم الله وجهه سورة (هل أتى) (1) .
قوله: (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)
المفعول محذوف، والشهر ظرف، تقديره: شهد المصرَ في الشهر.
__________
(1) ذكر أن قوله تعالى في سورة الإنسان: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} ،: أنها نزلت في على، وفاطمة، والحسن والحسين، مع أن السورة كلها مكية!!!.(1/198)
قوله: (فَلْيَصُمْهُ)
أي فيه، فحذف الجار، فنصب نصب المفعول به.
قوله: (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا)
أعادَ ذكرَ المريض والمسافرِ، ليعلم أنهما على ما كانا عليه من الخيار.
وقيل: لأن الأولى نزلتَ في خيارهما للصوم أو الفداء، وهذه للخيار بين الصوم أو الإفطار والقضاء.
قوله: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ)
أي الأيام المعدودات، وقيل: عدة ما أفطر المريض والمسافر.
والواو عطف على مضمر تقديره، يريد الله بكم اليسر.
ليسهل عليكم ولتكملوا العدة ولتكبروا الله أمركم ما أمركم. وله نظائر.
وقيل: يريد الله بكم اليسر وتكميل العدة، وقيل: الواو زيادة، وهذا بعيد.
قوله: (فَإِنِّي قَرِيبٌ) .
جواب لمَن سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه، أي قريب بالسماع، وقيل، قريب الإجابة، أي سريعها، وقيل: قريب بالعلم، وقيل: قريب بالرحمة من قوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ) ، وليس من قرب المكان - سبحانه - لأن العباد في أمكنة متباعدة، فيوجب قربه من واحد بعده من آخر.
أو يوجب الأجزاء وكثرتها، والله منزه عنها.
قوله: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)
منهم من قال: الإجابة واجبة، وإنها تجري مجرى ثواب الأعمال، ومنهم من قال: الإجابة تفضل. وإن السؤال رغبة وطلب، هذا إذا استجمع شرائط الطلب من التوبة والاستغفار وأكل الحلال فإن لم يستجمعها فإجابته غير جائزة عند بعضهم وجائزة عند البعض، ومنهم من قال أجيب دعوته إذا استخار بقوله: أجبني إن كان لي الخيرة فيها.
وقيل: تقديره، أجيب إن شت من قوله: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) .(1/199)
الغريب: معنى (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ)
أتَقبل طاعةَ المطيع، من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الدعاء هو العبادة ".
العجيب: معنى (أُجِيبُ) أسمع، كما أن معنى (سمع الله) ، أجاب.
وقيل أُجيبها إما عاجلاً وإما آجلاً في العقبى.
قوله: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي)
أَي فليطيعوني، أي فليجيبوني.
قوله: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ) .
نزلهن مع الرجال منزلة اللباس، لما بينهما من الاجتماع والتضام.
قال: َ
إذا ما الضجيعُ ثُنَى جيدَها. . . تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا
الغريب: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ) ، أي سكن، من قوله: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) ، ثم سماها لباساً، كما سمى الليل سكناً في قوله: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) ، ثم سماه لِبَاسًا، فقال: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا) .
العجيب: قول من قال: هن فِراشٌ لكم وأَنتم لحاف عليهن، فإنه
شنيع.
قوله: (لَيْلَةَ الصِّيَامِ)
أي ليلة اليوم، الذي يصبح في غداته صائماً.(1/200)
(الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)
عداه ب "إلى" لأن معناه الإفضاء
(مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)
قيل: الولد، وقيل: الرخصة.
الغريب: الحلال.
العجيب: ليلة القدر.
قوله: (الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ)
أي الصبح الصادق (مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ)
الصبح الكاذب. وقيل: يظهر لكم الخيط الأبيض، يعني الفجر مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) : أي مما كان مكانه من الظلام.
وقيل: النهار من الليل.
وسمي خيطا؛ لأنه أول ما يظهر يكون دقيقاً كالخيط ثم ينتشر.
وعن سعد بن سهل، إنه نزل من الخيط الأسود، ولم ينزل من الفجر، وكان رجال، إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله خيطا أبيض وخيطا أسود، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين لونهما، ويروى تتبين له الأشياء منهما. فأنزل الله (مِنَ الْفَجْرِ) .
وعن عدي بن حاتم، قال: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اني وضعت تحت رأسي عقالين أسود وأبيض، فلم يتبين لي شيء، فقال: " إنك إذاً لعريضُ الوساد "، ويروى " لعريض القفا، إنما ذاك سواد الليل وبياض
النهار".
والغريب: قول أبي عبيدة: الخيط: اللون. وقول المبرد: الخيط: العلم.
العجيب: قول حذيفة: الخيط الأبيض: ضوء الشمس، وقال: كان(1/201)
النبي - صلى الله عليه وسلم - يتسحر وأنا أرى مواقع النبل.
وهذا خلاف الإجماع.
قوله: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا)
سؤال: لِمَ قال في هذه الآية (فَلَا تَقْرَبُوهَا) ، وقال في هذه السورة أيضاً (فَلَا تَعْتَدُوهَا) ؟
الجواب: حَدٌّ هو أمر، وحَدٌّ هو نهي فما كان أمراً لا تجوز مجاوزته وهو الاعتداء، وما كان نهيا لا تجوز مقاربته، وما في الآية الأولى نهي وهو
(وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) ، وما في الثانية بيان عدد الطلاق، فإن العرب كانت تطلق وتراجع من غير تمييز عدد.
قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) .
هي جمع هلال، وجاز جمعه لتجدده كل شهر، والهلال ليلتان.
وقيل: ثلاث ليال، وقيل: حتى يحجر، وتحجيره أن يستدير بخطة دقيقة.
تقول: أُهِل الهلال واستهِلّ بلفظ المجهول وأهلَلْنا شهر كذا، أي دخلنا
فيه. واسم القمر: الزِبرِقان، واسم دارته الهالة، واسم ضوءِهِ الفَخْت.
واسم ظله: السَمَر (1) .
وحكى الزجاج في "معاني القرآن" قال أبو زيد يقال
للقمر ابن ليلة هتمة سحيلة حل أهلها برميلة، وابن ليتين حديث أمتين
بكَذِب وَمَين، ورواه ابن الأعرابي بكِذْب وميَن، وابن ثلاث "حديث قينات
غير جد مؤتلفات"، وقيل، ابن ثلاث قليلُ اللباث، وابن أربع عتمة
__________
(1) قال السمين:
وإنما جُمِعَ الهلالُ وإنْ كان مفرداً اعتباراً باختلافِ أزْمَانِهِ، قالوا من حيث كونُهُ هلالاً في شهرٍ غيرُ كونِهِ هلالاً في آخرَ. والهلالُ هذا الكوكبُ المعروفُ. واختَلَفَ اللغويون: إلى متى يسمى هِلالاً؟ فقال الجمهورُ: يُقال له: هلالٌ لِلَيْلَتَيْنِ، وقيل: لثلاثٍ، ثم يكونُ قمراً. وقال أبو الهيثم: «يُقال له هلالٌ لليلَتْين من أول الشهر ولَيْلَتين من آخره وما بينهما قمرٌ» . وقال الأصمعي: «يقال له هلالٌ إلى أن يُحَجِّرَ، وتحجيرُه أن يستديرَ له كالخيطِ الرقيق» ، ويُقال له بَدْرٌ من الثانيةَ عشرةَ إلى الرابعةَ عشرةَ، وقيل: «يُسَمَّى هلالاً إلى أن يَبْهَرَ ضَوءُه سوادَ الليل، وذلك إنَّما يكونُ في سبعِ ليالٍ» ، والهلالُ يكونُ اسماً لهذا الكوكبِ، ويكونُ مصدراً، يقال: هَلَّ الشهرُ هلالاً.
ويقال: أُهِلَّ الهلالُ واسْتُهِلَّ مبنياً للمفعولِ وأَهْلَلْنَاه واسْتَهْلَلْنَاهُ، وقيل: يقال: أَهَلَّ واسْتَهَلَّ مبنياً للفاعلِ وأنشد:
865 - وشهرٌ مُسْتَهِلٌّ بعدَ شهرٍ. . . وحَوْلٌ بعدَهُ حولٌ جَدِيدُ
وسُمِّي هذا الكوكبُ هلالاً لارتفاعِ الأصواتِ عند رؤيتِه، وقيل: لأنه من البيان والظهورِ، أي: لظهورهِ وقتَ رؤيَتِهِ بعد خَفَائِهِ، ولذلك يُقال: تَهَلَّلَ وَجْهُهُ: ظَهَرَ فيه بِشْرٌ وسرورٌ وإنْ لم يَكُنْ رفَعَ صوتَه. . . ومنه قول تأبَّط شرّاً.
866 وإذا نَظَرْتَ إلى أَسِرَّةِ وَجْهِه. . . بَرَقَتْ كبَرْقِ العارضِ المُتَهَلِّلِ
وقد تقدَّم أن الإِهلال الصراخُ عند قولِه: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [البقرة: 173] وفِعال المضعَّفُ يَطَّردُ في تكسيرِه أَفْعِلة كأَهِلَّة، وشَذَّ فيه فِعَل كقولهم: عِنَن وحِجَج في: عِنَان وحِجاج.
وقَدَّر بعضُهم مضافاً قبلَ «الأهِلَّة» أي: عَنْ حكمِ اختلافِ الأهِلَّة لأن السؤال عن ذاتِها غيرُ مفيدٍ، ولذلك أُجيبوا بقولِه: «قل هي مواقيتُ» وقيل: إنهم لَمَّا سألوا عن شيء قليلِ الجَدْوى أُجيبوا بما فيه فائدةٌ، وعَدَلَ عن سؤالِهم إذ لا فائدة فيه، وعلى هذا فلا يُحْتاجُ إلى تقديرِ مضافٍ.
اهـ (الدر المصون) .(1/202)
ربع لا جامع ولا مُرضَع.
وعن ابن الأعرابي عتمة أم الربع وابن خمس حديث وانس.
قال أبو زيد: عشاء خلعات قعس.
وابن ست سر وبت، وابن سبع دلجة الضبع وابن ثمان مر أضحيان، وابن تسع يقطع الشسع. قاله أبو زيد.
وعن غيره يُلتَقط فيه الجِزع. وابن عشر ثلث الشهر، عن أبي زيد.
وعن غيره محنق الفجر.
قوله: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)
فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا البيوت من أبوابها، يتحرجون من أن يحول بينهم وبين السماء سقف، وكان إذا عَنتْ لأحدهم حاجة يقتحم الجدار من وراء، إلا الحُمْس.
والثاني وهو الغريب: كان إذا خرج منهم واحد إلى سفر لحاجة حاجةٍ.
فإن رجع غير مقضي الحاجة، لم يدخل من باب بيته إلى الحول، تطيراً، بل
ينقب خلفه ثقبا يدخل فيه ويخرج منه.
والثالث: هذا مثل ضربه، أي ائتوا البر من وجهه.
قوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) .
قيل: هي أول آية نزلت في القتال.(1/203)
قوله: (وَلَا تَعْتَدُوا)
قيل: مبتدأ، وقيل: بقتل الصبيان والنساء.
وقيل: بترك القتال، ثم نسخ بما في براءة وقيل: ثابتة.
قوله: (مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) : أي من مكة.
الغريب: بسب إخراجهم إياكم.
قوله: (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) .
سؤال: قال هنا، (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) ، وقال في الأنفال: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ"؟
الجواب: لأن القتال في هذه السورة مع أهل مكة
فحسب، وفي الأنفال مع الكافة، فقيد بقوله "كُلُّهُ".
قوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) .
سمى الثانية اعتداءً للمزاوجة، ولها نظائرها، منها: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ، (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ) ، (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) .
قال ابن عيس: المزاوجة، أحد أنواع المبالغة، وهي أربعة: المزاوجة والمجانسة، كقوله: (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ) ، والمطابقة، كقوله، (مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا) ، أي ليطابق الجواب السؤال، والمقابلة وهي كقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25) .(1/204)
قوله: (بِأَيْدِيكُمْ) .
"الباء" زائدة، وقيل: المفعول محذوف، وتقديره: ولا تُلقوا أنفسكم
بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ.
وفي معناها، أربعة أقوال:
أحدها: بالامتناع من الإنفاق في سبيل الله.
والثاني: بارتكاب المعاصي واليأس من مغفرة الله.
والثالث: بتقحم الحرب من غير نكاية في العدو.
والغريب: بالإسراف في الإنفاق الذي يأتي على النفس.
قوله: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) .
أي منعكم خوف عدو ومرض.
والغريب: إنْ منَعكم حابس قاهر، لأنك تقول: أحصره المرض
والخوف، وحَصَرهُ العدو والسلطان. وأجاز الفراء في هذا: اُحصر أيضاً.
قوله: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) أي فعليه ذلك.
قول: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا) ، يريد به القروح على الرأس.
(أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ) ، يعني الهوام في الرأس.
(فَفِدْيَةٌ) أي فحلق، فعليه فدية..
الغريب: تقديره، (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا) ، فلبى، (أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ) ، فحلق، فعليه فدية وقيل: فالواجب عليه فدية.
قوله: (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) أي في حجه، وهو إذا كان
محرمأ، والأيام في العشر، وقيل: أيام اتثريق. (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ)(1/205)
أي إلى أوطانكم، وقيل، إذا فرغتم من الحج.
قوله: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)
فيه سؤال: لمَ قيد الثلاثة والسبعة بالعشرة، وتلك بالبديهة معلومة.
فعنه ثمانية أجوبة:
جوابان من التفسير، وجواب من الفقه، وجواب من النحو، وجواب من اللغة، وجواب من المعنى، وجوابان من الحساب.
أما التفسير " فالجواب الأول: أن المقصود ذكر الكمال لا العشرة، وأن
المعنى (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) عن شَاةٍ.
والثاني: تقديره، فصيام عشرة أيام، ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجعتم، وأما الفقه: فإن الكفارات وجبت متتابعة، ولما فصل ها هنا بينهما بالإفطار، قيد ليعلم أنها كالمتصلة.
وأما النحو، فإن الواو قد يذكر مع الشيء في العطف، والمراد به أحدهما.
كقوله: (مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ) ، فقيد، ليعلم أنهما كليهما مرادان.
وأما اللغة فإن السبع يذكر والمراد به الكثرة، لا العدد الذي فوق الست ودون الثمان، روى أبو عمرو وابن الأعرابي عن العرب.
سبع الله لك الأجر، أي أكثر لك أراد التضعيف
وقال الأزهري: في قوله: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) هو جمع السبع، الذي يستعمل للكثرة، ألا ترى أنه لو زاد على السبعين لم يغفر لهم، ولهذا جاء في الأخبار، وله سبع وسبعون وسبع مائة.
وأما المعنى، فإن الثلاثة لما عطفت عليها سبعة
__________
(1) قال بعضهم: معنى ذلك: فصيام الثلاثة الأيام في الحج والسبعة الأيام بعد ما يرجع إلى أهله عشرة كاملة من الهدي. اهـ (تفسير الطبري. 3 / 103.(1/206)
احتمل أن تكون بعدها ثالثة، فقيد بالعشرة، ليُعلَم أنها كملت.
وأما الحساب، فإن السبعة المذكورة عقيب الثلاثة تحتمل أن تكون مع الثلاثة كما في قوله سبحانه: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ)
أي مع اليومين اللذين ذكرا في قوله: (خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) ، ولا بد من هذا لدفع التناقض في الآية، وسياتي في موضعه - إن شاء الله -، فقيد بقوله: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) ليعلم أنها سواها.
والثاني: أن عادة الحساب قد جرت بذكر الجملة بعد التفصيل.
كقول الشاعر:
ثلاثٌ واثنتانِ فهنَّ خمسٌ. . . وسادسةٌ تميلُ إلى ثماني
لأن العدد، إما أن يذكر مفصلا، ثم يقال: "فذلك" كذا، فيذكر
مجملاً، كما في الآية، وإما أن يذكر مجملاً ثم يقال: "منها"، فيذكر
مفصلاً، كما في الآية الأخرى: (اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) .
قوله: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) .
فيه تقديران أحدهما: أشهر الحج أشهر، فحذف المضاف من المبتدأ.
والثاني: الحج حج أشهر، فحذف المضاف من الخبر، أي إلا ما تفعله
النسأة من قوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) .
والغريب: قول أبي علي: جعل الأشهر حجا لكثرة وقوعه فيها.
قوله: (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ)
الفعل مجزوم بـ "مَا" و "مَا" منصوب بالفعل.(1/207)
قوله: (مِنْ عَرَفَاتٍ) .
التنوين فيها كالتنوين في الزيدين، وهي جمع، فإن سميت شيئاً به جاز
حذف النون وإثباته، ولم يجز النصب، وأجاز الأخفش والكوفيون نصبها
كعرفة.
قوله: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) .
أي أكثر، وقيل: ارفع به صوتا، وكانت العرب إذا قضت مناسكها.
وقفت وعددت مناقب آبائهم وأحسابهم، فأمروا أن يجعلوا ذلك الذكر لله
تعالى، وقيل: كانت العرب تحلف بالآباء، فنهوا عن ذلك.
وقيل: واذكروه بالاستكانة والتضرع، كما يذكر الصبي أباه أول ما يفتح فاه.
والغريب: اغضبوا له كما تغضبون لآبائكم.
والعجيب: أي وحدوه ولا تشركوا معه، كما - تستنكرون لو نسبتم إلى
غير واحد، وعلى هذا المعنى يكون (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) قطع مجاز تستعمله
العرب بقولهم الوالدان والأبوان، أي لا تشركوا معه لا حقيقة ولا مجازا.
قوله: (آتِنَا فِي الدُّنْيَا) .
فحذف المفعول: لأن الآية الثانية تدل عليه.
قوله: (فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) .
أي ساعات أيام) ، وقد سبق.
مْوله: (فِي يَوْمَيْنِ)
هو يوم وبعض الثاني، فثني لوجود بعض الثاني.
كما جمع لوجود بعض الثالث في قوله ((الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ) .
قوله: (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
يجوز أن يعلق الجار بالمصدر، أي في أمور دنيوية، ويجوز أن يتعلق
بـ (يُعْجِبُكَ) .(1/208)
قوله: (أَلَدُّ الْخِصَامِ)
جمع خصم أي ألد منهم، وقيل: مصدر، أي شديد الخصومة.
قوله: (كَافَّةً) .
حال من المخاطبين، أي جميعاً، وقيل: حال عن السلم، أي ادخلوا
في جميع الإسلام.
قوله: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) .
فيه وجهان: أحدهما: أنه من سأل يسأل، نقلت حركة الهمزة إلى
السين، فاستغنت عن ألف الوصل، والثاني: هو أمر من سأل يسأل.
كـ "هب " من هاب يهاب، و "سال" لغة في سأل.
سَالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشَةً. . . ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سَالَتْ ولم تُصِبِ
و"سأل" يأتي على وجهين:
أحدهما: بمعنى الطلب، وهو يتعدى إلى مفعولين نحو: سألت الله المغفرة، وقد يقتصر على أحدهما، نحو (وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ) .
والثاني: بمعنى البحث عن الشيء، فيتعدى إلى الثاني بعن.
نحو (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) و (عَنِ السَّاعَةِ) و (عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ) .
وقد يأتي مع عن للطلب، نحو قوله (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ)(1/209)
فيمن جعله للطب، وقيل: يتعدى بالباء أيضاً نحو (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ)
(فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) على أحد الوجهين، وقد يقع موقع الثاني
جملة مستفهمة نحو سألت زيداً كم ماله، (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ) ، وأما قولك (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا) فـ (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) ، بدل عن (السَّاعَةِ) ولا يعمل (سَلْ) في "كَمْ" لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، ويعمل فيه ما بعده، و "كَمْ" في الآية منصوب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون ظرفاً، أي كم مرة آتيناهم، وقوله: (مِنْ آيَةٍ)
المفعول الثاني، و "من" زائدة. والثاني: انه المفعول الثاني و (مِنْ آيَةٍ)
تفسير لـ "كَمْ"، أي كم آية آتيناهم.
والثالث: أنه المفعول الأول، بإضمار فعل تقديره كم آتينا آتيناهم، كما تقول: زيداً ضربته.
والغريب: محله رفع بالابتداء، أي أتياهموه، فحذف الهاء كما تقول:
زيد ضربت.
ومن العجيب: ما حكى الزجاج عن الكسائي، أن أصل "كَمْ"، "كما"
فحذف الألف مثل عمَّ وممّ ولمَ وفيمَ، وقيل: لو كان كذلك لقيل: كم - بفتح الميم - كـ "لمَ" و"عمَّ".
قوله: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
فيه ثلاثة أسئلة:
أحدها: أنه متصل بالفاعل، وهو الله - سبحانه - أي لا يحاسب في ذاته، والثاني: أنه متصل بالمفعول، أي يعطيه ويحاسبه به في العقبى، وقيل: يتصل بالمعطى أي كثيراً لا يدخل تحت العد والإحصاء.(1/210)
والغريب: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) ، بغير كفاية، بل فوق الكفاية.
العجيب: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) ، أي من حيث لا يحتسب القليل محسوباً.
قال:
ما تمنعِي يقظي فقد تُؤْتينه. . . في النَّوْم غيرَ مُصَرَّدٍ محسوبِ.
قوله: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) .
أي اختلف غيرهم. وقيل: اختلفوا هم وغيرهم، وتقديره فهدى الله
الذين آمنوا لبيان ما اختلفوا.
والغريب: فيه تقديم، أي للحق مما اختلفوا فيه.
قوله: (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) الآية.
فيه أربعة أوجه:
أحدها: ذكروها استعجالاً لوقت النصر، فأجابهم الله بقوله (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) .
والثاني: استبطؤا النصر، وإليه ذهب القتبي، وفيه بعد؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - واثقون بوعد الله، منتظرون لأمر الله.
الثالث: أن التقدير، حتى يقول الذين آمنوا (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) .
ويقول الرسول (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) ، كما سبق في قوله: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى) .
والغريب: إن الكلام قد تم عند قوله: (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) ، ثم قال
لمحمد - صلى الله عليه وسلم - (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) .
قوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) .
(قِتَالٍ) بدل من الشهر بدل الاشتمال.
(قُلْ قِتَالٌ فِيهِ) مبتدأ وخبره (كَبِيرٌ) ،(1/211)
ولم يعرفه بالألف واللام، كما تعرف النكرة إذا تكررت، لأن الثاني ليس
بالأول، وهذا كقوله: (مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) .
(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)
مبتدأ وما بعده عطف عليه، "في" خبره.
قوله: (وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)
في المعطوف ثلاثة أقوال:
أحدها: "الهاء" في قوله: "بِهِ" وهذا بعيد، لأنه لا يجوز العطف على ضمير المجرور إلا بإعادة الجار.
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ
والثاني: سبيل الله، وفيه بعد أيضاً، لأنه لا يحال بين صلة المصدر وما يعطف
عليها، وقد حيل ها هنا بقوله: (وَكُفْرٌ بِهِ) .
والثالث: (الشَّهْرِ الْحَرَامِ) ، فيكون سؤالهم عن الشهر الحرام والمسجد الحرام.
قوله: (وَالْمَيْسِرِ) .
الْمَيْسِر: القمار كله، مشتق من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه.
وقيل مشتق من التجزيء، وكل شيء جزأته، فقد يسرته، والميسر:
الجزور لأنه يُجزأ أجزاء، وكانوا يقامرون عليها، وهو ضرب القداح على
أجزاء الجزور.
قال القتبي: الأقداح عشرة، سبعة منها عليها خطوط.
(الفذ) ، وله نصيب، و "التوام" وله نصيان، و "الرقيب"، وقيل: " الضريب "، وله ثلاثة، و "الحلس" وله أربعة، و "النافس"، وله خمسة.
و"المسيل"، وقيل: "المصفح"، وله ستة، و "المعلى"، وله سبعة.
وثلاثة أغفال لا نصيب لها، وهي: المنيح والسفيح والوغد.
قوله: (مَاذَا يُنْفِقُونَ) .
فيه وجهان، أحدهما: أن "مَا" مبتدأ، ومحله رفع و "ذا" بمعنى الذي.
و (يُنْفِقُونَ) ، صلته، وهو رفع بالخبر.
والثاني: (مَاذَا) كلمة ومحله نصب(1/212)
بـ (يُنْفِقُونَ) ، ويراعى في جواب (ماذا) المطابقة في الرفع رفعاً وفي النصب
نصبا.
قوله (فِي الدُّنْيَا) .
يجوز أن يتعلقَ ب "يتفكرون " ويجوز أن يتعلق بـ (يبين) .
قوله: (عَنِ الْيَتَامَى)
جمع يتيم على غير قياس، والفعل منه يتم
- بالكسر - يُتْماً ويَتْماً، وحكى الفراء: يتُم - بالضم -.
والغريب: أنه جمع يتمان، ويتمان كندمان ونديم.
قوله: (فَإِخْوَانُكُمْ) أي فهم إِخْوَانُكُمْ.
قوله: (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ) .
أي خيرٌ نكاحاً مِنْ مُشْرِكَةٍ، أي في حرة مُشْرِكَةٍ، و (أَمَةٌ) من بنات
الواو، تقول: أمة بينة الأموة، ووزنها فعلة، كـ "أكمة".
وجمعها إماء كـ "إكام"، حذف لامه فوزنه على اللفظ فَعة.
قوله: (عَنِ الْمَحِيضِ) .
أي عن الحيض، تقول: حاضت تحيض حيضاً ومحيضاً ومحاضاً.
ومثله: كال يكيل كيلاً ومكيلاً ومكالاً.
والحيض صالح للمصدر ولزمان الحيض ولمحل الحيض.
قوله: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) - بالتخفيف. ينقين بانقطاع الدم، - وبالتشديد - يغتسلن.
والغريب: أن يجعل المشدد بمعنى المخفف، كـ تقطَّع وانقطع
وتكسَّر وانكسر، ويحمل على ما دون العشرة.
قوله: (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ)
أي أمركم باجتنابه، وقيل: أي في الطهر لا في الحيض.(1/213)
والغريب: معناه بالنكاح لا بالسفاح.
وقيل: فأتوهن ما لم تكن صائمة أو محرمة أو معتكفة.
قوله: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ) .
أي موضع حرث، وهذا تشبيه شبه بالزراعة، والنطفة بالبذرة، والرحم
بالأرض، والولد بالنبات.
قوله: (عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ) .
علة حجة، وقيل: هذا نهي عن الجرأة على الله بكثرة الحلف.
وقيل: قوة لأيمانكم
(أَنْ تَبَرُّوا) وتقديره، أَنْ لا تَبَرُّوا، وقيل: كراهة أَنْ تَبَرُّوا.
فحذف المضاف، وقيل: معنى عرضة مانعاً من أن تبروا فلا يحتاج إلى
إضمار.
الزجاج: (أَنْ تَبَرُّوا) مبتدأ، وما بعده عطف عليه، وخبره (خير لكم) ، وهو محذوف.
قوله: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) .
"مِنْ" متعلق بما في "اللام" من معنى الاستقرار، أي استقر منهن، وهو
كما تقول: لي من الأمير الرزق وله مني الدعاء.
والغريب: أن يكون صفة لقوله: (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) ، تقدم فانتصب
على الحال.
والعجيب من جعله متصلا بالِإيلاء، وفيه بعد وعنه استغناء.
قوله: (يَتَرَبَّصْنَ) خبر بمعنى الأمر، وقيل: ليتربصن، فحذف اللام.
قوله: (ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) .
واحدها، قَرء - بالفتح -، وهو الحيض، وقيل: هو الطهر.
أبو عمرو: الزمان فيصلح لهما، وجمعه القليل أقرؤ على غير القياس.(1/214)
وقوله: ((ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ)
وكان القياس ثلاثة أقراء، لأن من الثلاثة إلى العشرة يضاف إلى الجمع القليل، وعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: لما ذكر النساء، وكان لكل واحدة ثلاثة أقراء، جاء لكثرتهن بلفظ الكثير.
والغريب: قول ابن عيسى: لما جاء أقراء على غير القياس، لم يعتد
به، فصار كثلاثة في قُرُوءٍ.
والعجيب: ما قيل: ثلاثة أقراء قروء، فحذف المضاف.
قوله: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ)
أي للنساء حقوق من النفقة والمهر مثل الذي عليهن من الأمر والنهي.
وقيل: المماثلة في الأداء والتأدية لا في جنس المؤدى.
الغريب: لهن من اللذة مثل ما عليهن.
قوله: (بِالْمَعْرُوفِ)
الجار متعلق بما في "اللام" من معنى الفعل.
قوله: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ) .
أي عدد الطلاقِ مرتان، والمرتان في الحقيفة ظرف، لكنه اتسع فيه
فارتفع. والتقدير، فطلقها مرتين.
الغريب: مجاهد: معناه البيان عن تفريق الطلقات على الأقراء.
قوله: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ)
أي فعليه إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ.
قوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " هو التطليقة الثالثة ".
(إِلَّا أَنْ يَخَافَا) الاستثناء منقطع، (أَلَّا يُقِيمَا) ، مفعول، كقوله
"تَخَافُونَهُمْ"، ومن ضم (يُخَافَا) ، فإن (أَلَّا يُقِيمَا) مخفوض عند الخليل، ونصب
عند غيره، بنزع الخافض، لأنه المفعول الثاني، ومعنى (يَخَافَا) يوقنا، وقيل:
يعلما وقيل: يظنا.
قوله: (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي في الخلع.(1/215)
والغريب: قال ابن عباس: الفدية فسخ، ألا ترى إلى قوله: (فَإِنْ طَلَّقَهَا) ولو كانت الفدية طلاقا لكانت، هذه تطليقة رابعة.
غيره: (فَإِنْ طَلَّقَهَا) بالفدية أو بالتسريح.
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
الغريب: مجاهد: (فَإِنْ طَلَّقَهَا) تفسير قوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ) ، لقوله - صلى الله عليه وسلم (1) .
العجيب: قال صاحب (النظم: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ) اعتراض.
والتقدير: الطلاق مرتان، (فَإِنْ طَلَّقَهَا) ، أي الثالثة: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) ، أي غير المطلق ثلاثا، والدخول شرط
بالإجماع.
العجيب: قال ابن المسيب: تحل له بمجرد العقد..
قوله: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ) .
إجماع لقوله: (إِمْسَاكٌ) وأمسكوهن.
(وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ)
يجوز أن يكون رفعاً بالابتداء، (يَعِظُكُمْ) خبره.
ويجوز أن يكون نصباً بالعطف على (نِعْمَتَ اللَّهِ) ، (يَعِظُكُمْ بِهِ) حال من المُنزِل
أو المنزَّل عليهم أو المنْرَل، فإن لم تجعله خبراً أو حالاً، وجب أن يكون
جزماً بجواب الأمر.
قوله: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) .
خطاب للأولياء، وقيل: خطاب للأزواج، والمعنى: لم يبقَ لكم
__________
(1) قوله - صلى الله عليه وسلم - " هو التطليقة الثالثة ".(1/216)
عليهن سبيل، ويكون أزواجهن تسمية بما يؤول إليه، كما هي تسمية في
القول الأول بما كان عليه
قوله: (لَا تُضَارَّ) .
بالرفع على النفي، والفتح على النهي، والراء المدغم، يحتمل الكسر
والفتح على القراءتين (1) .
قوله: (وَعَلَى الْوَارِثِ)
أي وارث الولد، وقيل: وارث الوالد، وقيل: هو الصبي إذا ورث مالا.
قوله: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) ولم يقل على الوالد.
لأن الوالد ربما لا يلزمه رزقهن، وهو إذا كان عبداً، وفي غيره من المسائل.
قوله: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا) أي فطاما.
الغريب: أراد الوالدان مفاصلة بالفرقة والطلاق.
قوله: (تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ)
أي لأولادكم، فحذف الجار.
قوله: (يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) مبتدأ، (يَتَرَبَّصْنَ) خبره، وفي العائد ثلاثة أقوال: أحدها: أزواجهم يتربصن، وقيل: يتربصن بعدهم.
الغريب: الضمير في (يَتَرَبَّصْنَ) يعود إلى مضاف إليهم، أي يتربص
أزواجهم، وقيل: عدل إلى الإخبار عن الأزواج.
قوله: (وَعَشْرًا) أي عشر ليال، فحذف المضاف إليه، لأن لفظ الشهر
يدل عليه من حيث أن أول الشهر ليلة الهلال.
الغريب: قال أبو العالية وابن المسيب: إنما زاد على أربعة أشهر
عشراً، لأن الله ينفخ الروح في الجنين في هذه العشر.
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (لا تضار) الآية 233 فابن كثير وأبو عمرو وكذا يعقوب برفع الراء مشددة لأنه مضارع لم يدخل عليه ناصب ولا جازم فرفع فلا نافية ومعناه النهي للمشاكلة من حيث أنه عطف جملة خبرية على مثلها من حيث اللفظ وافقهم ابن محيصن واليزيدي وقرأ أبو جعفر بسكونها مخففة من رواية عيسى غير طريق ابن مهران عن ابن شبيب وابن جماز من طريق الهاشمي وكذلك ولا يضار كاتب آخر السورة قيل من ضار يضير ويكون السكون لإجراء الوصل مجرى الوقف وروى ابن جماز من طريق الهاشمي وعيسى من طريق ابن مهران تشديد الراء وفتحها فيهما ولا خلاف عنهم في مد الألف للساكنين وعن الحسن براءين مفتوحة فساكنة والباقون بفتحها مشددة على أن لا ناهية فهي جازمة فسكنت الراء الأخيرة للجزم وقبلها راء ساكنة مدغمة فالتقى ساكنان فحركنا الثاني لا الأول وإن كان الأصل للأول وكانت فتحة لأجل الألف إذ هي أختها
اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 204) .(1/217)
قوله: (لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا) .
ما نهيتم عنه جهراً، فيكون نصباً على الحال، أي مسرين.
قوله: (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا) استثناء منقطع.
(وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ) أي عقده.
الغريب: لا تباشروا ولا تعقدوا عقدة النكاح.
قوله: (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ) .
"مَا" للمدة، وهو نصب على الظرف، والمعنى، أي وقت كان بخلاف
المدخول بها.
الغريب: هي الموصولة، أي النساء اللواتي لم تمسوهن.
العجيب: للشرط، أي إن لم تمسوهن.
قوله: (مَتَاعًا)
نصب على المصدر، أي متعوهن متاعاً.
(حَقًّا) نصب على المصدر، أي حق ذلك عليهم حقاً من قوله: حققت عليه القضاء، أوجبت، وقيل: حال، أي عرف ذلك حقاً.
قوله: (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) .
أي يهبن، أَوْ (يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) الولي، وقيل: الزوج.
فيكمل لها المهر.
قوله: (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) .
أفردت بالذكر بعد دخولها في الصلوات لفضلها، أو لأن المحافظة
عليها أشد.
ابن عباس في جماعة، هي العصر، وقرىء في الشواذ
"والصلاة الوسطى صلاة العصر" فهي العصر لا غير، وقرىء في الشواذ
أيضاً "والصلاة الوسطى وصلاة العصر" فلا تكون العصرَ على هذا.(1/218)
ابن عمر: هي الظهر، لأنها في وسط النهار.
قبيصة: هي المغرب، لأنها الوسطى في الطول والقصر، ولأنها بين الليل والنهار.
جابر بن عبد الله: صلاة الفجر، لأنها بين الليل وبين النهار، وبين الظلمة والضياء، وبين صلاتي الجهر وصلاتي العجماوين.
والغريب: العشاء، لأنها بين صلاتي طرفي النهار.
والعجيب: عن ابن عباس أيضاً: (وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) الفجر.
(وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) ، داعين فيها بالقنوت غير ساكتين، نهوا بذلك
عن الكلام في الصلاة.
قوله: (فَإِنْ خِفْتُمْ) . أي العدو.
قوله: (إِلَى الْحَوْلِ) .
الإجماع على أن هذه الآية منسوخة بالآية التي قبلها، وهي ناسخة.
ووقعت المنسوخة في التلاوة بعدها لا في النزول، وهو عجيب لا نظير له
أيضاً.
وقيل: في سورة الأحزاب نظيره (1) ، وقيل: في هذه السورة له نظير
أيضاً، وهو قوله: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، نزلت بعد قوله: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) .
والغريب: لم ينسخ الحول وإنما نسخ ما زاد على أربعة أشهر وعشر.
__________
(1) المراد قوله تعالى: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ)
قيل: هذه الآية ناسخة للآية قبلها في نفس السورة (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ. . .) الآية.(1/219)
والعجيب: قول ابن بحر، إنها ثابتة رخصة إن أوصى لها بالإقامة
حولًا.
قوله: (مَتَاعًا) أي متعوهن متاعاً، وقيل: جعل ذلك متاعاً.
والغريب: قول المبرد: إنه حال عن أزواجهم، أي لأزواجهم ذوات
متاع.
وقوله: (غَيْرَ إِخْرَاجٍ)
حال أيضاً، أي غير مخرجات، وقيل: صفة لمتاع.
قوله: (وَهُمْ أُلُوفٌ) .
اختلف في عددهم، ولفظ ألوف يدل على أنهم كانوا أكثر من عشرة
آلاف، لأن (أُلُوفٌ) صيغة الكثير، ولا يستعمل للعشرة وما دونها، وصيغة القليل آلاف، والآلاف تستعمل من الثلاثة إلى العشرة.
والغريب: جمع إلف - بالكسر - أي كانوا جد مؤتلفين.
(حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول له، أي خوفاً من الوباء والطاعون، وقيل: أمرهم
بالجهاد فجبنوا فأماتهم ثم أحياهم وأمرهم بالقتال، وهو قوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) .
ابن عباس: أماتهم ثمانية أيام، ثم أحياهم فتوالدوا وبقيت سَحنة الموت في وجوههم، لم يلبسوا ثوباً إلا عادَ دَسما مثل الكفن.
ابن عباس، توجد اليوم في ذلك السبط تلك الريح، وقيل: ماتوا، وأتى عليهم زمن طويل، تفرقت أوصالهم ونغيرت أحوالهم، ثم أحياهم الله بسؤال نبي كان في ذلك الزمان، قال: وهب: اسمه شمويل، وقيل: حزقيل،(1/220)
وقيل: هو ابن العجوز، وقيل: يوشع، وقيل: شمعون، لأن الله سمع دعاء أمه.
(مَنْ ذَا الَّذِي) .
هذا لفظ يدل على المسارعة والسبق، و (مَنْ) مبتدأ، (ذَا) خبره.
و (الَّذِي) صفته أو عطف بيان، ولا يكون (مَنْ) مع (ذَا) اسماً كما قلنا في
(ماذا) .
(فَيُضَاعِفَهُ)
المضاعفة، أكثر من التضعيف، قيل: هي سبعمائة.
وقيل: قوله (كَثِيرَةً) لا يدخل تحت العد، لأن ما لا نهاية له لا يدخل في
الحد.
قوله: (يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ)
يضيق ويوسع، وقيل: يقل ويجازي، وقيل: يقبض الصدقات ويبسط بالخلف في الدارين، وقيل: يسلب ما أنعم عن قوم، ويوسع على آخربن، وقيل: هو من ضيقة القلب، وسعته.
(وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)
إلى الله تصيرون، وقيل: إلى ثواب الله أو عقابه.
الغريب: قتادة: إلى التراب تعودون.
(عَسَيْتُمْ) .
الفتح هو المعروف، والكسر لغة. روى أبو زيد: عَسِيَ يعسى فهو.
عَسٍ، وضمير المخاطبين فاعله (أَلَّا تُقَاتِلُوا) خبره والشرط اعتراض.
(وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ)
فيه أربعة أقوال:
أحدها: "أنْ" زائدة، وتقديره ومالنا لا نقاتل، فيكون لا نقاتل حالاً.
الثاني: قال الفراء: ما يمنعنا أن نقاتل، قال ومثله (مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) : أي ما يمنعك أن تكون،(1/221)
والثالث، ما لنا في أن لا نقاتل، فحذف الجار.
والرابع، وهو غريب: ما لنا وأن لا نقاتل، أي مالنا وترك القتال، فحذف الواو، وقيل: "مَا" للنفي، أي ليس إلى ترك القتال سبيل.
(وَأَبْنَائِنَا)
أي وأفردنا من أبنائنا بالسبي.
قوله: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) .
إنما أنكروا ملكه، لأنه كان من سبط ابن يامن بن يعقوب، وكانوا
قد عملوا ذنباً، وهو أنهم كانوا ينكحون النساء على ظهر الطريق نهارا جهاراً فغضب الله عليهم، ونزع الملك والنبوة منهم، وكان طالوت دباغا، وقيل: سقاء على حمار.
ابن حبيب: خَرَبَنْدَجا لَفْظُه.
(وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ)
أي وليس له مال فيملك به إذا فاته الحسب.
قوله: (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ)
أي علم الحرب، وقيل: عام في العلوم.
والغريب: أتاه وحي.
(وَالْجِسْمِ) ، كان أجمل رجل في بني إسرائيل وأقواهم.
الغريب: ابن حبيب: إنما سمي طالوت لطوله.
قوله: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ)
أي واسع الفضل والعطاء.
ابن عيسى: موسع، وقيل: واسع ذو سعة، كـ "تام"، و "لابن".
قوله: (فِيهِ سَكِينَةٌ) .
أي في التابوت.
والغريب: في الإتيان.
(وَبَقِيَّةٌ)
عطف على التابوت، واختلف في السكينة، فقيل: طست من
ذهب تغسل فيه قلوب الأنبياء.
علي - كرّم الله وجهه - ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان.
مجاهد: له رأس كرأس الهرة وجناحان.(1/222)
وهب: روح من الله يتكلم بالبيان عند وقوع الاختلاف.
عطاء: آية يسكنون إليها (1) .
والسكينة للنفوس كالسكون للأجسام، وهي مصدر كالضريبة والعزيمة.
الغريب: كانت التوراة وكتابا آخر.
وقيل: كان فيها صور الأنبياء.
هبط بها آدم من الجنة وبقية عصا موسى وهارون وثيابهما ونعلاهما
وقفيز من المن.
(تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ)
أي في الهواء، من حيث يرون التابوت ينزل من علو.
وقيل: كان أصحاب جالوت غلبوا عليه فأصابهم أذى بسبب ذلك.
فحملوه على ثورين وساقوهما نحو ناحية بني إسرائيل، وكانت الملائكة
تسوق الثورين، فيكون كقول بعضهم: حملت متاعي إلى بلد كذا.
(بِالْجُنُودِ) .
"الباء" للتعدي، وقيل: أي انفصل، كقوله تعالى: (فَصلتِ العِيرُ) .
و"الباء" للحال.
(فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) من ماء النهر.
الغريب: من احتسى من النهر بِفيه.
(وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) يذقه، (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ) استئناء من الجملة الأولى.
(غُرْفَةً) - بالضم - قليل من الماء مفعول به، (غَرْفَةً) - بالفتح - مرة واحدة مصدر، والمفعول به محذوف.
(فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)
الجمهور: جاوز النهر هو والمؤمنون.
الغريب: القفال: جاوز الكفار والمؤمنون، ثم اعتزل الكفار عند اللقاء.
وقيل: جاوز المؤمنون ثم اعتزل بعض المؤمنين أيضاً عند اللقاء.
__________
(1) جميع هذه الأقوال من الإسرائيليات المنكرة.
قال الدكتور محمد أبو شهبة - رحمه الله - ما نصه:
ومن الإسرائيليات، التي التبس فيها الحق بالباطل: ما ذكره غالب المفسرين في تفاسيرهم: في قصة طالوت، وتنصيبه ملِكًا على بني إسرائيل، واعتراض بني إسرائيل عليه، وإخبار نبيهم لهم بالآية الدالة على ملكه، وهي التابوت، وذلك عند قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
فقد ذكر ابن جرير، والثعلبي، والبغوي، والقرطبي، وابن كثير، والسيوطي في: " الدر" وغيرهم في تفاسيرهم كثيرا من الأخبار عن الصحابة والتابعين، وعن وهب بن منبه، وغيره من مسلمة أهل الكتاب في وصف التابوت، وكيف جاء، وعلام يشتمل، وعن السكينة وكيف صفتها.
فقد ذكروا في شأن التابوت: أنه كان من خشب الشمشاد، نحوًا من ثلاثة أذرع في ذراعين، كان عند آدم إلى أن مات، ثم عند شيث، ثم توارثه أولاده، إلى إبراهيم، ثم كان عند إسماعيل، ثم يعقوب، ثم كان في بني إسرائيل، إلى أن وصل إلى موسى عليه السلام فكان يضع فيه التوراة ومتاعا من متاعه، فكان عنده إلى أن مات، ثم تداوله أنبياء بني إسرائيل إلى وقت شمويل، وكان عندهم حتى عصوا، فغلبوا عليه؛ غلبهم عليه العمالقة.
وهذا الكلام وإن كان محتملا للصدق والكذب، لكننا في غنية ولا يتوقف تفسير الآية عليه.
وقال بعضهم: إن التابوت إنما كان في بني إسرائيل، ولم يكن من عهد آدم عليه السلام، وأنه الصندوق الذي كان يحفظ فيه موسى عليه السلام التوراة، ولعل هذا أقرب إلى الحق والصواب، وكذلك أكثروا من النقل في: " السكينة"، فروى عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه هي: ريج فجوج هفافة، لها رأسان ووجه كوجه الإنسان.
وقال مجاهد: حيوان كالهِرِّ، لها جناحان، وذَنَب، ولعينيه شعاع، إذا نظر إلى الجيش انهزم، وقال محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه: السكينة: رأس هرة ميتة، إذا صرخت في التابوت بصراخ هر أيقنوا بالنصر، وهذا من خرافات بني إسرائيل وأباطيلهم، وعن وهب بن منبه أيضا قال: السكينة: روح من الله تتكلم، إذا اختلفوا في شيء تتكلم، فتخبرهم ببيان ما يريدون.
وعن ابن عباس: السكينة طست من ذهب، كانت تغسل فيه قلوب الأنبياء، أعطاه الله موسى عليه السلام.
والحق أنه ليس في القرآن ما يدل على شيء من ذلك، ولا فيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هذه من أخبار بني إسرائيل التي نقلها إليها مسلمة أهل الكتاب، وحملها عنهم بعضهم الصحابة والتابعين ومرجعها إلى وهب بن منبه، وكعب الأحبار وأمثالهما.
التفسير الصحيح للسكينة:
والذي ينبغي أن تفسر به السكينة: أن المراد بها: الطمأنينية، والسكون الذي يحل بالقلب، عند تقديم التابوت أمام الجيش، فهي من أسباب السكون، والطمأنينة، وبذلك: تقوى نفوسهم، وتشتد معنوياتهم فيكون ذلك من أسباب النصر، فهو مثل قوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه} أي طمأنينته، وما ثبت به قلبه، ومثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} .
وقوله: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} .
فالمراد بالسكينة طمأنينة القلوب، وثبات النفوس.
ويعجبني في هذا ما قاله الإمام أبو محمد: عبد الحق، ابن عطية حيث قال: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة، من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك، وتأنس، وتقوى.
وكذلك: ذكروا في مجيء التابوت أقوالا متضاربة، يرد بعضها بعضًا، مما يدل على أن مرجعه إلى أخبار بني إسرائيل، وابتداعهم، وأنه ليس فيه نقل يعتدُّ به. اهـ (الإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير صـ 170: 173}(1/223)
(قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ)
الطاقة: اسم من أطاق، كالطاعة، من أطاع، والجابة من أجاب.
(وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) .
أي يشاء الله، وقيل: يشاء داود.
قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) .
كرر تكذيباً ورداً على من زعم أنه لم يكن بمشيئة الله.
الغريب: أراد بالأول: الجميع، والثاني: المؤمنين.
(وَلَا شَفَاعَةٌ) أي للكفار.
قوله: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) .
يجوز أن يكون وصفا، لقوله: (اللَّهُ) أو خبراً بعد خبر، أو بدلاً من هو.
أو خبر مبتدأ محذوف، أي هو الْحَيُّ الْقَيُّومُ، أو يكون (الْحَيُّ)
مبتدأ خبره (الْقَيُّومُ) .
(الْقَيُّومُ) : فيعول، من قام، لا فعول، لأنه لو كان فعولا
لكان يجب أن يكون قووماً، وذلك لا يصح، لأن القيوم من قام، فقلبت
الواو ياء في قيوم، لاجتماعهما، وسبق أحدهما بالسكون.
(لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ)
بدأ بالسِّنة بموجب الارتقاء من القليل إلى الكثير.
تقول: وسِن يَوْسن وَسَنا.
والغريب: ما حكاه ابن حبيب: قال عكرمة: إن موسى سأل
الملائكة: هل ينام ربنا، فأوحى الله إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه
ثلاثا، ثم أعطوه قارورتين في يديه، فأمسكهما، وحذروه أن يكسرهما فجعل
ينعس وهما في يديه فينبهونه حتى نعس نَعْسة، فضرب إحداهما بالأخرى
فكسرهما.
قال معمر: فهذا مثل ضربه الله له.(1/224)
قوله: (مِنْ عِلْمِهِ)
أي معلومه، لأن علم الله لا يبعض ولا يتبعض.
الغريب: الهاء في، (عِلْمِهِ) تعود إلى ما في قوله " يَعْلَمُ مَا".
(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ)
هو السرير دون العرش، وقيل: كُرْسِيُّهُ ملكه.
وقيل: قدرته.
ابن عباس:كُرْسِيُّهُ علمه، والكراسة منه، لما فيها من العلم.
والكرسى: العالِم.
قال:
حُفُّ بهم بيضُ الوجوه وعُصْبَةٌ. . . كراسِيُّ بالأحداثِ حين تَنُوبُ
الغريب: كُرْسِيُّهُ: سِرُّهُ:، وقيل: عَرْشُه.
العجيب: قول جرير: الكرسي: الأهل.
أي وسع عباده السماوات والأرض.
(وَلَا يَئُودُهُ) الهاء تعود إلى الله.
الغريب: تعود إلى الكرسي.
(الطَّاغُوتُ) الشيطان، وقيل: الكاهن، وقيل: الساحر، وقيل: الأصنام، وقيل: هودة الإنس والجن. واشتقاقه من الطغيان، ووزنه فاعوت، يأتي واحداً وجمعا.
قوله: (يُخْرِجُهُمْ) .
ولم يكونوا دخلوا فيه، أي لولا عصمته لدخلوا فيه.
قوله: (الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ) .
هو نمرود بن كنعان
(فِي رَبِّهِ) ، في توحيده وإثباته سبحانه،(1/225)
والهاء يصلح عائداً إلى إبراهيم وإلى الذي حاج.
(أَنْ آتَاهُ)
أي لأن، و "الهاء" تعود إلى الذي حاج، أي بطرُ الملكِ حمله على ذلك، وقيل: تعود إلى إبراهيم - عليه السلام -
و (الملك) ملك النبوة، من قوله: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) .
(إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ)
كأنَّه قال له: من ربُّك، (قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) فقتل واحداً وأطلق آخر من السجن.
الغريب: أحيي بالمباشرة وإلقاء النطفة، وأميت بالقتل والسخطة.
فَلضا مَوَّهَ، قال إبراهيم: (فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ) ، بالدليل الأول، وقيل: بهما، َ وليس هذا بانتقال من
دليل إلى دليل، بل دليل بعد دليل.
وقال المفسرون: لم يذكر نمرود لإبراهيم: فليأت ربك بالشمس من المغرب لأن الله صرفه عن ذلك.
العجيب: الحسن: ما تحتمله الآية من التأويل، وذلك أن إبراهيم لما
قال ربي الذي يحيي ويميت، قال نمرود، فإِذن أنا ربك، أنا أحيي وأميت.
والإحياء والإماتة لدي لا من نسبت إليه، وكان يدعي الربوبية بإجماع من
المفسرين، فلما رأى إبراهيم - عليه السلام - افتراءه العظيم وادعاءَه الباطل تمويهاً، قال له واقترح عليه أن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، فبهت وانقطع، ولم يقل قل لربك أن يفعل ذلك، لأنه لم يكن يسلم الربوبية لغيره - والله أعلم -.
(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) .
(أَوْ) للتخيير، والكاف محمول على المعنى، أي أرأيت كالذي حاج.
أو كالذي مرّ.
الأخفش: الكاف: زائدة.
قال صاحب النظم: هو عطف(1/226)
على قوله (كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ) ، أي كذلك أو كالذي مر على قرية - واختلف في المار، والجمهور، على أنه عزير، وقيل: أرميا.
الغريب: الخضر - عليه السلام -.
الحسن: كان كافراً.
وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)
واختلف في القرية: فقيل: سلما باد، وسابر اباد، ودير هرقل، وبيت
المقدس، بعدما خربه بختنصر، وقيل: هي التي خرج منها الألوف -
(وَهِيَ خَاوِيَةٌ)
قيل: ساقطة من خوي - بالكسر - يخوَى خوى، مقصور، وقيل، من خوى - بالفتح - يخوى خواء - بالمد - إذا خلا.
قوله: (عَلَى) متصل بـ (خَاوِيَةٌ) ، أي ساقطة عليها، وقيل: بدل من على قرية، و (عُرُوشِهَا) أي سقوفها، أي سقطت السقوف، ثم سقط عليها الجُدُر، وقيل: (عُرُوشِهَا) بِنْيتها، من قوله: (يَعْرِشُونَ) أي يبنون، وقيل: عروش كرومها، وقيل: جمع عرش، وهو السرير.
الغريب: أبو عبيد: خاوية لا أنيس بها.
(عَلَى عُرُوشِهَا) هي الخيام بيوت الأعراب.
قوله: (قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)
الجمهور: نامَ أول النهار ثم أحياه الله بعد المائة آخر النهار، فقال: لَبِثْتُ يَوْمًا، ثم التفت فرأى بقية الشمس، فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
والغريب: "يَوْمًا أو يوماً وبعض يوم، لأنه لما التفت إلى الشمس رآها
أقرب إلى المطلع منها ساعة نومه.
قوله: (لَمْ يَتَسَنَّهْ)
من قولهم: سَنِهَ الطعام، إذا تغير،(1/227)
وقيل: من السِّنَة فيمن جعل أصلها سنهة، ومن حذف "الهاء" جعلها من السنة فيمن قال
سنوات.
الغريب: لم يتسنن - بنونين - أي لم يتغير، قلبت: النون هاء، ثم حذف.
قال الفراء: ومنهم من يقول في تصغير السنَةِ سنينة، فيكون من لفظ
السنة من ثلاثة أوجه: من قال سنه محذوف اللام ففي لامه ثلاثة أقوال.
قال بعضهم: لامه، هاء، والدليل عليه، قولهم: سُنيهات، تصغير سنيهة.
ومنهم من قال: لامه واو بدليل: سنوات، ومنهم من قال: لام فعله نون.
وهو ضعيف.
وقوله: (لَمْ يَتَسَنَّهْ) من جعل أصله من الهاء، فالهاء لام الفعل.
ومن جعل من الواو والنون، فالهاء للاستراحة.
وقول الفراء مخرج على هذه الوجوه، والمعنى، لم تغيره السنون.
والعجيب: قول من قال: هو من أسن الطعام، إذا تغير، وهو خطأ (1) .
قوله: (وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ)
الجمهور: كان معه حمار فهلك وبليت عظامه.
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا
الغريب: إن حماره كان حياً كما كان.
العجيب: إن حماره نفسه، قال الشاعر:
فازجر حِمَارك لايرتع بروضتنا. . . إذن يُرد وقَيدُ العيرِ مكروبُ
قوله (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ)
أي عظام الحمار، وقيل: عظام نفسك.
__________
(1) قال السمين:
قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال. وزعم بعضُهم أن المضارعَ المنفيَّ ب «لم» إذا وَقَع حالاً فالمختارُ دخولُ واوِ الحال وأنشد:
بأَيْدي رجالٍ لم يَشِيْموا سيوفَهُمْ. . . ولم تَكْثُر القَتْلى بها حينَ سُلَّتِ
وزعم آخرون أنَّ الأَوْلَى نفيُ المضارعِ الواقعِ حالاً بما ولمَّا وكلا الزعمين غيرُ صحيحين. لأنَّ الاستعمالَيْنِ واردان في القرآنِ، قال تعالى: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174] ، وقال تعالى: {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93] فجاء النفيُ ب لم مع الواوِ ودونِها.
قيل: قد تقدَّم شيئاَن وهما «طعامِك وشرابِك» ولم يُعِدِ الضميرَ إلا مفرداً، وفي ذلك ثلاثةُ أجوبةٍ، أحدُها: أنهما لمَّا كانا متلازِمَيْنِ، بمعنى أنَّ أحدَهما لا يُكْتَفَى به بدونِ الآخر صارا بمنزلةِ شيءٍ واحدٍ حتى كأنه [قال:] فانظُرْ إلى غذائِك. الثاني: أنَّ الضميرَ يعودُ إلى الشراب فقط، لأنه أقربُ مذكورٍ، وثَمَّ جملةٌ أخرى حُذِفَتْ لدلالةِ هذه عليها. والتقديرُ: وانظرْ إلى طعامِكَ لم يَتَسَنَّهْ وإلى شرابِك لم يَتَسَنَّهْ، أو يكونُ سكتَ عن تغيُّرِ الطعامِ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، وذلك أنه إذا لم يتغيَّرِ الشرابُ مع نَزْعَة النفس إليه فَعَدَمُ تغيُّر الطعامِ أَوْلَى، قال معناه أبو البقاء. والثالث: أنه أفردَ في موضِعِ التثنيةِ، قاله أبو البقاء وأنشد:
فكأنَّ في العينين حَبَّ قَرَنْفُلٍ. . . أو سُنْبَلٍ كُحِلَتْ به فانْهَلَّتِ
وليس بشيءٍ.
وقرأ حمزةُ والكسائي: «لم يَتَسَنَّهْ» بالهاء وقفاً وبحذفها وصلاً، والباقون بإثباتِها في الحالين. فأمَّا قراءتهما فالهاءُ فيها للسكتِ. وأمَّا قراءةُ الجماعَةِ فالهاء تحتملُ وجهين، أحدُهما: أن تكونَ أيضاً للسكتِ، وإنما أُثبتت وصلاً إجراء للوصلِ مُجْرى الوقفِ، وهو في القرآن كثيرٌ، سيمرُّ بك منه مواضعُ، فعلى هذا يكون أصلُ الكلمةِ: إمَّا مشتقاً من لفظ «السَّنة» على قولنا إنَّ لامَها المحذوفةَ واوٌ، ولذلكَ تُرَدُّ في التصغير والجمع، قالوا: سُنَيَّة وسَنَوات، وعلى هذه اللغة قالوا: «سانَيْتُ» أُبْدِلَتِ الواوُ ياءً لوقوعِها رابعةً، وقالوا: أَسْنَتَ القومُ، فقلبوا الواوَ تاءً، والأصل أَسْنَوُوا، فأَبْدَلوها في تُجاه وتُخَمة كما تقدَّم، فأصله: يَتَسَنَّى فحُذِفَتْ الألفُ جزماً، وإمَّا مِنْ لفظ «مَسْنون» وهو المتغيِّرُ ومنه {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] ، والأصل: يتَسَنَّنُ بثلاثِ نونات، فاسْتُثْقِلَ توالي الأمثال، فَأَبْدَلْنَا الأخيرةَ ياءً، كما قالوا في تَظَنَّنَ: تظَنَّى، وفي قَصَّصْت أظفاري: قَصَّيْت، ثم أَبْدَلْنَا الياء ألفاً لتحرُّكِها وانفتاح ما قبلَها، ثم حُذِفَتْ جزماً، قاله أبو عمرو، وخَطَّأَه الزجاج، قال: «لأنَّ المسنونَ المصبوبَ على سَنَنِ الطريق» .
وحُكِيَ عن النقاش أنه قال: «هو مأخوذٌ من أَسِنَ الماءُ» أي تغيَّر، وهذا وإن كان صحيحاً معنىً فقد رَدَّ عليه النحويون قولَه لأنه فاسدٌ اشتقاقاً، إذ لو كان مشتقاً من «أَسِنَ الماء» لكان ينبغي حين يُبْنَى منه تفعَّل أن يقال تأسَّن.
ويمكن أَنْ يُجَابَ عنه أنه يمكنُ أن يكونَ قد قُلِبَت الكلمةُ بَنْ أُخِّرَتْ فاؤها - وهي الهمزة - إلى موضِع لامِها فبقي: يَتَسَنَّأ بالهمزةِ آخِراً، ثم أُبْدِلَت الهمزةُ ألفاً كقولِهم في قرأ: «قَرَا» ، وفي استَهْزا «ثم حُذِفَتْ جزماً.
والوجه الثاني: أن تكونَ الهاءُ أصلاً بنفسِها، ويكونُ مشتقاً من لفظ» سنة «أيضاً، ولكن في لغةِ من يَجْعَلُ لامَها المحذوفَةَ هاءً، وهم الحجازيون، والأصلِ: سُنَيْهَة، يَدُلُّ على ذلك التصغيرُ والتكسير، قالوا: سُنَيْهَة وسُنَيْهات وسانَهْتُ، قال شاعرهم:
وليسَتْ بِسَنْهَاء ولا رُجَّبِيَّةٍ. . . ولكنْ عرايا في السنينِ الجوائِحِ
ومعنى» لم يَتَسَنَّهْ «على قولِنا: إنه من لفظِ السَّنَة، أي: لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه، بل بقي على حالِه، وهذا أَوْلى من قولِ أبي البقاء في أثناءِ كلامه» من قولك أَسْنى يُسْنِي إذا مَضَتْ عليه سِنونَ «لأنه يَصِيرُ المعنى: لم تَمْضِ عليه سنونَ، وهذا يخالِفُهُ الحِسُّ والواقعُ.
وقرأ أُبَيّ:» لم يَسَّنَّه «بإدغام التاء في السين، والأصل:» لم يَتَسَنَّه «كما قرىء {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ} [الصافات: 8] ، والأصل: يَتَسَمَّعون فَأُدْغِم. وقرأ طلحة بن مصرف:» لمئة سنة «.
اهـ (الدر المصون) .(1/228)
وأول ما خلق منه عيناه، وهذا ضعيف، لأنه خوطب وأجاب بقوله: "كم
لبثتَ" وكيف يخاطب ويجيب وهو بعد رميم.
(وَلِنَجْعَلَكَ)
قيل الواو زائدة، وقيل: عطف على مضمر، أي انظر إلى حمارك لترى كيف يحيي الله الموتى، ولنجعلك آية.
وقيل: هو متصل بمضمر، أي ولنجعلك آية للناس فعلنا بك ما فعلنا. (كَيْفَ نُنْشِرُهَا) من قوله: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ)
وبالزاي من النشز وهو المكان المرتفع (1) .
وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا
قوله: (أَرِنِي)
من رؤية العين، أي أرنيها عياناً.
(كَيْفَ) منصوب بقوله: (تُحْيِي الْمَوْتَى) أي بأي حال.
(قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) ، إيجاب وتقرير، ولم يكن شاكا
(قَالَ بَلَى وَلَكِنْ) سألتك ليطمئن قلبي ولأزداد يقيناً، وأعلم أنك اتخذتي
خليلًا، ولأتقوى بها عند الخصام وتزول عني وسوسة الشيطان.
الغريب، أراد أن يكلمه ربه ويناجيه، فيشرف بذلك.
العجيب كل العجيب: ما ذكره ابن فورك في تفسيره: كان لإبراهيم
صديق، ووصفه بأنه قلبه، أي ليسكن هذا إلى هذه المشاهدة إذا رآها عِياناً.
وهذا بعيد جداً.
(قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ)
الجمهور: ديك وطاووس وغراب وحمام.
ابن عباس بدل الحمام نسر، وخص الطير، ليكون جامعاً لخواص
الحيوان، ولو كان شيئاً غير الطير لبقي خاصةُ الطيران.
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (ننشزها) الآية 259 فابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف بالزاي من النشز وهو الارتفاع أي يرتفع بعضها على بعض للتركيب وافقهم الأعمش والباقون بالراء المهملة من أنشر الله الموتى أحياهم ومنه إذا شاء أنشره وعن الحسن فتح النون وضم الشين من نشر
اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 208) .(1/229)
(فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) - بالضم - أملهن إليك، و - بالكسر - قطعهن.
[واجمعهن] (1) إليكَ (2) .
(عَلَى كُلِّ جَبَلٍ)
أي جبل بقربك، وهي أربعة أجبل.
الغريب: إنما خص أربعة أجبل، إشارة لنواحي الدنيا، ومهاب الريح.
من الجنوب والشمال والصبا والدبور، وجعل الطير أربعة ليكون جامعاً
للطباع الأربع، لأن كل واحد منها مخصوص بطبع
(ثُمَّ ادْعُهُنَّ)
تعالين بإذن الله.
الغريب: الدعاء ها هنا بمعنى الإرادة، أي أراد إتيانهن.
(يَأْتِينَكَ سَعْيًا)
قوله: (يَأْتِينَكَ) حال، أي يسعين سَعْيًا، فهو مصدر وقع موقع الحال.
وقيل: يسعين على أرجلهن، ويحتمل يطرن بسرعة.
الغريب: خص بهذه الطيور، إشارة إلى ترك طول الأمل، فان النسر
موصوف بطول الأمل. وترك الحرص، والغراب موصوف بالحرص، وترك
الشهوة، والديك موصوف بالشهوة، وترك الرعونة، والطاووس موصوف
بالرعونة.
العجيب، قول ابن بحر: ما قطع إبراهيم الطير أجزاء ولا أمر به.
وانما هو مثل إحياء الله الموتى، وهذا خلاف الجمهور.
قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) .
أي مثل إنفاق الذين.
قوله: (حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ)
هذا تمثيل ولا يشترط وجوده، وقيل: يوجد ذلك في الدُّخْن، والتقدير، كمثل حبة بذرت فأنبتت.
(وَاللَّهُ يُضَاعِفُ) هذا التفعيف (لِمَنْ يَشَاءُ) .
وقيل: يضاعف على هذا أضعافاً.
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيادة ضرورية من تفسير القرطبي.
(2) قال السمين:
قوله: {فَصُرْهُنَّ} قرأ حمزة بكسر الصادِ، والباقونَ بضمِّها وتخفيفِ الراء. واختُلِف في ذلك فقيل: القراءتان يُحتمل أَنْ تكونا بمعنىً واحدٍ، وذلك أنه يقال: صارَه يَصُوره ويَصِيره، بمعنى قَطَعه أو أماله فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين، والقراءتان تَحْتَمِلهما معاً، وهذا مذهبُ أبي عليّ. وقال الفراء:» الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين، وأمَّا الكسرُ فمعناه القطعُ فقط «. وقال غيرُه:» الكسرُ بمعنى القَطْعِ والضمُّ بمعنى الإِمالةِ «. ونُقِل عن الفراء أيضاً أنه قال:» صَارَه «مقلوبُ من قولهم:» صَراه عن كذا «أي: قَطَعه عنه. ويقال: صُرْتُ الشيءَ فانصار أي: قالت الخنساء:
فلو يُلاقي الذي لاقَيْتُه حَضِنٌ. . . لَظَلَّتِ الشمُّ منه وَهْيَ تَنْصارُ
أي: تَنْقَطِعُ.
واختُلف في هذه اللفظةِ: هل هي عربيةٌ او مُعَرَّبة؟ فعن ابنِ عباس أنها مُعَرَّبةٌ من النبطية، وعن أبي الأسود أنها من السريانية، والجمهورُ على أنها عربيةٌ لا معرَّبةٌ.
و «إليك» إنْ قلنا: إنَّ «صُرْهُنَّ» بمعنى أمِلْهُنَّ تعلَّق به، وإنَّ قلنا: إنه بمعنى قَطِّعْهُنَّ تعلَّقَ ب «خُذْ» .
وقرأ ابن عباس: «فَصُرَّهُنَّ» بتشديد الراءِ مع ضَم الصادِ وكسرِها، مِنْ: صَرَّه يَصُرُّه إذا جَمَعه؛ إلا أنَّ مجيءَ المضعَّفِ المتعدِّي على يَفْعِل بكسر العين في المضارعِ قليلٌ. ونقل أبو البقاء عَمَّنْ شَدَّد الراءَ أنَّ منهم مَنْ يَضُمُّها، ومنهم مَنْ يفتَحُها، ومنهم مَنْ يكسِرُها مثل: «مُدَّهُنَّ» فالضمُّ على الإِتباعِ، والفتحُ للتخفيفِ، والكسرُ على أصلِ التقاءِ الساكنينِ.
ولمَّا فَسَّر أبو البقاء «فَصُرْهُنَّ» بمعنى «أَمِلْهُنَّ» قَدَّر محذوفاً بعده تقديرُه: فَأَمِلْهُنَّ إليك ثم قَطِّعْهُنَّ، ولمَّا فسَّره بقطِّعْهن قَدَّر محذوفاً يتعلَّق به «إلى» تقديرُه: قَطِّعْهُنَّ بعد أَنْ تُميلَهُنَّ [إليك] .
ثم قال: «والأجودُ عندي أن يكونَ» إليك «حالاً من المفعولِ المضمرِ تقديرُه: فَقَطِّعْهُنَّ مُقَرَّبةً إليك أو ممالةً أو نحوُ ذلك.
اهـ (الدر المصون) .(1/230)
قوله: (وَمَغْفِرَةٌ) .
أي عفو عن السائل إذا استطال عليك حين رددته، وقيل: ستر لما يعلم
من خلة المختل، وقيل: سلامة عن المعصية، ويحتمل، قول معروف، أي
رد جميل عن عذر صدق ومغفرة من الله خير من صدقة يتبعها أذى.
قوله: (كَالَّذِي يُنْفِقُ) .
أي لا تبطلوا ثواب صدقاتكم كإبطال الذي ينفق ماله رئاء الناس.
ثوابها.
و"رئاء الناس" صفة مصدر، أى إنفاقاً ورياء، وقيل: مفعول له.
وقيل: حال، أي مرائيا.
(صَفْوَانٍ) الحجر الصافي من الرمل، الواحدة: صفوانة.
الكسائي: (صَفْوَانٍ) واحد، والجمع صفوان غير صفوان - بالكسر -
جمع صفا كأخٍ وإخوان.
قوله: (ضِعْفَيْنِ) .
أي مثلين، والضعف، المثل. وقيل: أربعة أمثاله، والضعف المثلان
الغريب: قول من قال: ضعفين ثلاثة أمثاله.
ولا نظير لهذا في العربية.
والعجيب: استدلاله بقول أبي عبيدة: ضعفين في سورة الأحزاب
ثلاث مرات، لأن في السورة يضعف لها العذاب، والدرهم إذا ضعفته مرة
صار درهمين، وإذا ضعفته مرتين صار ثلانة دراهم، فيكون العذاب
والضعفان ثلاثا، بخلاف ما إذا قال أوصيت له بضعفي نصيب فلان، ونصيب فلان درهم، فإن الدرهم حق فلان، ولا يجعل للموصى له وإنما يجعل له مثله أو مثلاه.(1/231)
قوله: (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ)
أي فإن لم يكن أصابها وابل (فَطَلٌّ) ، فالذي أصابها طَلٌّ.
وقيل: أصابها طَلٌّ.
(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) .
أيتمنى أَحَدُكم، والود والتمني يستعملان للماضي والمستقبل، والحب
خاص في المستقبل، ولهذا جاز عطف الماضي عليه في قوله: (فَأَصَابَهَا) .
الفراء: يجوز ذلك في الود، لأنه يتلقى مرة ب "أن"، ومرة ب "لو"، فيقدر
أحدهما مكان الآخر، فصار كأنه قال: أيود أحدكم لو كانت له جنة بهذه
الصفة، فأصابها إعصار فيه نار.
قوله: (أَحَدُكُمْ) رفع بفعله، (أَنْ تَكُونَ) مفعول "له" خبر تكون تقدم على الاسم.
(جَنَّةٌ) اسم تكون، (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) صفة لـ (جَنَّةٌ)
(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) صفة لها، وإن جعلت (تَكُونَ)
تامة، فـ "تجري" صفة لـ "جَنَّةٌ" أيضاً، وقيل: حال لها، لأنها قد وصفت
(لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) ، حال "أحدكم"، و "أَصَابَهُ الْكِبَرُ" عطف على
الحال، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في "لَهُ فِيهَا"، "وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ"
حال ثانٍ، ويجوز أن يكون حالًا من الهاء في أصابه.
قوله: (فِيهِ نَارٌ) صفة " لـ (إِعْصَارٌ) ، وترتفع النار بها، لأن الظرف إذا
جرى وصفا على النكرة أو حالاً لذي الحال، ارتفع ما بعده عند البصريين
أيضاً.
قوله: (مِنْهُ تُنْفِقُونَ) .
الضمير يعود إلى "مَا"، وقيل: إلى "الخبيث".
قوله: (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أي إلا بإِغماض.
الغريب: قال الفراء: كان في الأصل "إن" الشرط دخل عليه "إلّا"
ففتحها، قال: والدليل عليه: أن المعنى: إن أغمضهم فيه أخذتموه،(1/232)
وبنى على هذا (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) : و (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) : وليس هذا مذهب
البصريين.
قوله: (فَنِعِمَّا) .
أي نعم شيئاً هي، و "مَا" ها هنا نكرة.
قال الزجاج: فنعم الشيء هي.
ورد عليه أبو علي، وقال: إنما تصير "مَا" معرفة بصلته، وليس "هو" في الآية موصولاً.
قال الشيخ: ويحتمل أن الزجاج أراد فنعم الشيء شيئاً هي.
لأن شيئاً المنكور هي بيان الشيء المضمر وتفسير له.
قوله: (وَيُكَفِّرُ)
من جزم، عطفه على محل جزاء الشرط، ومن رفع فعلى الاستئناف.
ويكفر - بالياء - مسند إلى الله سبحانه، ويجوز أن يكون عطفاً، أي فهو خير، وهو يكفر.
(وَمَا تُنْفِقُوا) .
"مَا" جازم للفعل، والفعل ناصبة.
(وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ)
نفي معناه النهي، وقيل: حال تقديره، وما تنفقوا من خير وما تنفقون إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ فلأنفسكم، أي ثوابه.
الزجاج: اشئناف، أي وأنتم لا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ.
الغريب: قال القفال: أنتم لا تصيرون مستحقين لهذا الاسم حتى
تبتغوا بذلك وجه الله.
قوله: (لِلْفُقَرَاءِ) .
أي الصدقات التي تقدمت للفقراء.(1/233)
الغريب: إن تبدوا الصدقات للفقراء، وقيل: وما تنفقوا من خير
للفقراء، وقيل: لام التعقيب، وقيل: بدل من اللام في قوله:
(فلِأَنْفُسِكُمْ) : كأنَّه نزل الفقراء منزلة الأنفس، كقوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) .
قوله: (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ)
أي الجاهل بحالهم، يَحْسَبُهُمُ أَغْنِيَاءَ.
قوله: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً) .
تقديره، بالليلِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وبالنهارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً.
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إِن الأية نزلت في أصحاب الخيل.
وقال - عليه السلام - "إن الشيطان لا يخيل أحداً في بيته فرس عتيق من الخيل".
وعن ابن عباس: نزلت في علي - كرم الله وجهه - كان عنده، أربعة دراهم، فتصدَّق بها.
وقيل: عام في جميع المسلمين في جميع الصدقات.
قوله: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) .
جواب من الله لهم على قولهم (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا) .
الغريب: يحتمل أنه من تمام كلامهم على وجه الاعتراض على الله
سبحانه، وذلك كفر.
قوله: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ) .، غريماً لكم.
(فَنَظِرَةٌ) أي عليه نظرة.
والجمهور على أنها عام في جميع الديون.
الغريب، ما ذهب إليه شريح، وإبراهيم: أن هذا في دين الربا
خاصة.(1/234)
والربا: من بنات الواو، والتثنية ربوان، وأجاز الكوفيون فيما كان
مكسور الأول أو مضمومة نحو ربا، وضحى أن يثنى بالواو، تقول: ربيان
وضحيان، وأما المفتوح الأول فبالواو لا غير.
(بِدَيْنٍ) ، بعد قوله: (تَدَايَنْتُمْ)
قطع للمجاز، إذ قال: يقال تداينا، يريد تعاطينا وتجازينا.
قوله: (بِالْعَدْلِ) أي من غير زيادة في المال والأجل ولا نقص.
الغريب: معنى العدل أن يكون متفقا عليه بين أهل العلم لا يرفع إلى
قاض فيجد سبيلاً إلى إبطاله بألفاظ لا يسع فيها التأويل، فيحتاج القاضي
إلى التوفف.
(وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ)
أي لا يمتنعن من أن يكتب بالعدل، وقيل، ولا يمتنع عن الكتابة، إذا استكتب.
السدي: فرض على الكفاية، وقيل: واجب عند الفراغ.
عطاء: واجب، والجماعة على أنها نسخت بقوله: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ) .
الغريب: كما علمه الله متعلق بما بعده، أي كما منَّ الله عليه، بتعلم
الكتابة، فليكتب جزاء وشكراً.
قوله: (وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا)
الضمير يعود إلى الذي عليه الحق.
الغريب: يحتمل أن يعود إلى الكاتب. قاله الشيخ الإمام رحمه الله.
قوله: (وَلِيُّهُ)
يعود إلى الذي عليه الحق، وقيل ولي الحلف.(1/235)
قوله: (فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ) هذا الشرط لا غيره له كما في قوله: (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) ، وقوله: (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) .
قوله: (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ)
الأخفش، فليكن رجل وامرأتان.
وقيل: فليثسهد رجل وامرأتان.
وقيل: فرجل وامرأتان يشهدون.
وقيل: فالشاهدون رجل وامرأتان.
قوله: (فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى)
إن نسيت إحداهما الشهادة ذكرتها الأخرى.
الغريب: قول من جعل من التذكير ضد التأنيث، أي تلحق إحداهما
الأخرى بالذكور، أي بالرجال في الشهادة.
(صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا)
حالان من الهاء في أن يكتبوه.
الغريب: يعود إلى أول الآية، أي بدين صغير أو كبير.
(وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) أي للأداء.
الغريب: للتحمل.
قوله: (أَقْسَطُ)
من القِسط - بالكسر - وهو العدل، وليس له فعل من
لفظه إنما يقال: أقسط.
قوله: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ) استثناء منقطع.
(تِجَارَةً) ، من نصب أضمر الاسم، أي تكون التجارة تجارة، ومن رفع فله وجهان: أحدهما: أنه بمعنى تقع.
الغريب: اسم كان (حَاضِرَةً) صفته، (تُدِيرُونَهَا) خبره.
قوله، (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ)
من جعله ناسخاً، فوزنه يُفاعَل - بالفتح - ومن قال نهى الله الكاتب والشهيد عن الضرار، وهو أنْ(1/236)
يكتب ما لا يحل عليه وأن يشهد بما لم يعلمه.
وقيل: هو أن يمتنحا عن الكتابة والتحمل، فوزنه يُفاعِل - بالكسر -.
قوله: (أَلَّا تَكْتُبُوهَا) أي في أن، فحذف، قوله: (وَإِنْ تَفْعَلُوا) أي ما نهيتم عنه من المضارة، فإنه أي فعل ذلك، (فُسُوقٌ بِكُمْ) خروج عن أمر الله.
قوله: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ)
ابن عباس: منسوخة بقوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) .
وعنه أيضاً ثابتة. مغفورٌ للمؤمنين يُعَذَّبُ بِهِ الكافرون.
الغريب: إنها مخصوصة بكتمان الشهادةِ.
مجاهد: إنها في الشك واليقين.
قوله: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ناسخة كما سبق.
الغريب: إنها دعاء، أي لا تكلفنا.
(بَيْنَ أَحَدٍ)
أي بين أحدٍ وآخر، وقيل: (أَحَد) للعموم، كقوله: (مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) قوله: (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ)
أي لا تكلفنا ما لا نُطيق، وقيل: ما يشقق علينا فعله على الدوام.
وقيلَ: (مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) من عقوبة ذنوبنا.
الغريب: حديث النفس.
العجيب: الحب والعشق.
(فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
بالغلبة والسلطان والحجة والبرهان.(1/237)
سورة آل عمران
(الم الله) .
فيه ثلاث قراءات، فتح الميم وكسره وسكونه، أما الفتح، فهو
المجمع عليه، وله ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه حرك لالتقاء الساكنين من كلمتين، وهما الميم واللام من - الله -، واختير الفتح كراهة اجتماع ثلاث كسرات، كسرة الميم الأول، وكسرة الميم الثاني، وكون الياء بينهما، وهي أخت الكسرة.
وحرك من الله - بالفتح - أيضاً استثقالاً للجمع بين
كسرتين، والوجه الثاني: وهو الغريب: أنه حرك لالتقاء الساكنين من كلمة
واحدة، وهما الميم والياء، فيه بعد، لأن الحروف كلها مبنية على السكون.
وجاز الجمع بين الساكنين فيها لأن النية بها الوقف عليها، وإن مدة الساكن
الأول تنوب عن حركة، واستدلال هذا القائل بالقراءة الشاذة "صاد".
و"قاف" لا يصح لأن ذلك شاذ وهذا إجماع.
والوجه الثالث وهو العجيب. أنه حرك بحركة همزة الوصل، وهذا خطأ(1/239)
لأن الألف للوصل، وهو يذوب ويزول إذا رمت الوصل، فمن أين تبقى له
حركة، واستدلال هذا القائل بقولهم: ثلاثة أربعة، باطل، لأن ألف أربعة ألف قطع، والقراءة الثانية: ألمِ الله - على ما يوجبه التقاء الساكنين من
كلمتين، وهو شاذ لا يعرج عليه، لما ذكرت.
والقراءة الثالثة: (الم الله) مقطوع ووجهه أنه أجري الوصل مجرى الوقف، وله نظائر كثيرة شذت كلها عن القياس.
(نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) .
أي القرآن، الكتاب المفعول الأول، و "عَلَيْكَ" المفعول الثاني، "بِالْحَقِّ"
بسبب إثبات الحق، وقيل: حال، أي محقاً.
(وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ)
التنزيل والإنزال لما جاء مجتمعاً.
(هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ) .
متصل بالتوراة والإنجيل، وقيل: متصل بالفرقان، وهو القرآن على
تقدير وأنزل الفرقان هدى للناس، وسماه كتاباً وهدى، وقيل: الفرقان أيضا
متصل بالتوراة والإنجيل، وهو الفرق ببن الحق والباطل.
وفي التوراة قولان:
أحدهما: أنهما من وَرِيَ الزندُ يَرِي.
الثاني: وهو الغريب: أنها من وَرَّى تَورِية، لأن فيها كتابات كثيرة، وفي وزنه قولان: أحدهما فوعلة كحوقلة، قلب واوها تاء كتخمة وتكلان، وصارت الياء ألفا لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وهذا قول البصريين.
والثاني: فيه قولان:
أحدهما تفعله - بالفتح - كتنقله فيمن رواها بالفتح، والثاني: تفعلة - بالكسر - كتوصية، فقلب إلى الفتح(1/240)
كجارية وجاراة، وناصية وناصاة، وهذا قول الكوفيين، وقول البصريين
أولى، لأن فوعَلة أكثر في الكلام من تفعله، لأن قولهم ناصية وناصاة
لا يطرد، لا يقال في توقية توقاة، ولا في توشية توشاة.
والإنجيل: إفعيل من النَّجْل أو النَّجَل، لأنه منبع علوم أو متسع علوم (1) .
قوله: (فِي الْأَرْضِ) .
متصل بيخفى.
الغريب: صفة لشيء، أي شيء في الأرض ولا شيء في السماء.
قوله: (مِنْهُ آيَاتٌ) .
يجوز أن يكون مبتدأ وخبراً، والجملة حال الكتاب، ويجوز أن يكون
"مِنْهُ" حالاً و "آيَاتٌ" رفع به عند البصريين.
قوله: (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ)
وحد لأن التقدير كل آية أم.
الغريب: وحد لأن الأم لا تكون إلا واحدة، والكتاب بعدها واحد في
اللفظ.
(وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)
أي وآيات أخر، وهي لا تنصرف للوصف والعدول عن الألف واللام.
لأن أفعل لا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع إلا مع الألف واللام، وكونها وصفا لنكرة لا يمتنع أن يكون معدولا عن الألف واللام، لأن ذلك مقدر من وجه غير مقدر من وجه كما قلنا في لا يَدَيْ لك بهذا.
وما حكاه الثعلبي وقال: لم يصرف لأنه مثل جُمع وكُتع، سهو.
__________
(1) قال السمين:
قوله: {التوراة والإنجيل}
اختلفَ الناسُ في هاتين اللفظتين: هل يَدْخُلُهما الاشتقاق والتصريف أم لا يدخلانِهما لكونِهما؟ أعجميين؟ فذهب جماعةٌ كالزمخشري وغيرُه إلى الثاني. قالوا: لأنَّ هذين اللفظين اسمان عِبرانيَّان لهذينِ الكتابَيْنِ الشريفين. قال الزمخشري: «وتَكَلُّفُ اشتقاقِهِما من الوَرَىْ والنَّجْل، ووزنُهما بتَفْعِلة وإفْعِيل إنما يَثْبُتُ بعد كونهما عربيين» . [قال الشيخ: «وكلامُه صحيح، إلا أن فيه استدراكاً وهو قوله: تَفْعِلَة، ولم يذكُرْ مذهب البصريين] وهو أنَّ وزنَها فَوْعَلة، ولم ينبِّه على تَفْعِلَة: هل هي بكسر العين أو فتحها» قلت: لم يَحْتج إلى التنبيه لشهرتِهما، وإنما ذكر المستغربَ.
ويؤيدُ ما قاله الزمخشري من كونها أعجميةً ما نقله الواحدي، وهو أنَّ التوراة والإِنجيل والزبور سريانيةُ فَعَرَّبوها قال: «ولذلك يقولون فيها بالسريانية: تُوري ايكليونُ زَفوتا» فعرَّبوها إلى ما ترى.
ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا: فقال بعضُهم: التَوْرَاة مشتقة من قولهم: ورِي الزَّنْدُ إذا قَدَح فظهرَ منه نارٌ. يقال «وَرِيَ الزَّنْدُ» و «أَوْرَيْتُه أنا» . قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ} [الواقعة: 71] فثلاثيُّهُ قاصرٌ ورباعيةُ متعدٍّ. وقال تعالى: {فالموريات قَدْحاً} [العاديات: 2] ، ويقال أيضا: «وَرَيْتُ بكل زِنادي» فاستُعْمِلَ الثلاثيُّ متعدياً، إلا أن المازني يزعم أنه لا يُتجاوز به هذا اللفظ، يعني فلا يُقاس عليه، فيقال: «وَرَيْتُ النارَ» مثلاً. إذا تقرر ذلك فلما كانت التوراة فيها ضياءٌ ونورٌ يُخْرَجُ به من الضلال [إلى] الهدى، كما يُخْرَج بالنور من الظلام إلى النور سُمِّي هذا الكتابُ بالتوراة، وهذا هو قولُ الفراء، وهو مذهبُ جمهور الناس.
وقال آخرون: بل هي مشتقةٌ من «وَرَّيْتُ في كلامي» من التورية وهي التعريض. وفي الحديث: «كان إذا أراد سفراً وَرَّى بغيره» وسُمِّيَت التوراة بذلك لأنَّ أكثَرها تلويحاتٌ ومعاريضُ، وإلى هذا ذهبَ المؤرج السدوسي وجماعة.
وفي وزنها ثلاثةُ أقوالٍ أحدُها: وهو قولُ الخليل وسيبويه أن وزنَها فَوْعَلَة، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو: الدَّوْخَلة والقَوْصرة والدَّوْسَرة والصَّوْمَعَة، والأصل: وَوْرَيَة بواوين، لأنها إمَّا من وَرِي الزَّنْدُ، وإمَّا من وَرَيْتُ في كلامي، فأُبدلت الواو الأولى تاءً وتحرَّك حرفُ العلةِ وانفتح ما قبلَه فقُلب ألفاً فصار اللفظُ: تَوْرَاة كما ترى، وكُتبت بالياءِ مُنْبَهَةً على الأصل، كما أُميلت لذلك، وقد أَبْدَلتْ العربُ التاءَ من الواو في ألفاظ نحو: تَوْلَج وتَيْقور وتُخَمَة وتُكَأَة وتُراث وتُجاه وتُكْلان من: الوُلوج والوَقار والوَخَامة والوِكاء والوِراثة والوَجْه والوَكالة. ونظيرُ إبدال الواو تاءً في التوراة إبدالُها أيضاً في قولهم لِما تَراه المرأة في الطهر بعد الحيض: «التَّرِيَّة» هي فَعِيْلَة من لفظ الوراء لأنها تُرى بعد الصُّفْرَة والكُدْرَة.
الثاني: وهو قولُ الفراء أن وزنَها تَفْعِلَة بكسر العين، فأُبْدِلَت الكسرةُ فتحةً، وهي لغةٌ طائية، يقولون في الناصية: ناصَاة، وفي بَقِي: بَقَى قال الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. بحِرْبٍ كناصاة الأغَرِّ المُشَهَّرِ
وقال آخر:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. نفوساً بُنَتْ على الكَرَمِ
وأنشد الفراء:
وما الدنيا بباقاةٍ علينا. . . وما حيٌّ على الدنيا بباقٍ
وقد ردَّ البصريون ذلك بوجهين، أحدُهما: أنَّ هذا البناءَ قليلٌ جداً أعني بناءَ تَفْعِلة بخلاف فَوْعَلة فإنه كثير، فالحَمْلُ على الأكثر أولى. والثاني: أنه يلزمُ منه زيادةُ التاءِ أولاً والتاء لم تُزَدْ أولاً إلا في مواضِعَ ليس هذا منها بخلافِ قَلْبِها في أولِ الكلمة فإنه ثابت، وذلك أنَّ الواو إذا وَقَعَتْ أولاً قُلِبَتْ: إمَّا همزةً نحو: أُجوه وأُقِّتَتْ وأَحَدَ وأَناة وإشاح وإعاء في: وجوه ووُقِّتَتْ ووَحَدَ ووَنَاة ووِشاح ووِعاء، وإمَّا تاء نحو: تُجاه وتُخَمة. . . الخ، فاتِّباع ما عَهِدَ أولى من اتِّباع ما لم يُعْهَدُ.
الثالث: أنَّ وزنَها تَفْعَلَة بفتحِ العين وهو مذهبُ الكوفيين، كما يقولون في: تَتْفُلة بالضمِّ/ تَتْفَلَة بالفتح، وهذا لا حاجة إليه وهو أيضاً دعوى لا دليل عليها.
وأمال التوراةَ حيث وردَتْ في القرآن إمالة مَحْضَة أبو عمرو والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان، وأمالها بينَ بينَ حمزةُ وورش عن نافع، واختُلف عن قالون: فرُوِيَ عنه بينَ بينَ والفتحُ، وقرأها الباقون بالفتح فقط. وَوَجْهُ الإِمالة إن قلنا بأنَّ ألفَها منقلبةٌ عن ياء ظاهرٌ، وإنْ قلنا إنها أعجمية لا اشتقاق لها فوجهُ الإِمالة شبهُ ألفها لألف التأنيث من حيث وقوعُها رابعةً فسببُ إمالتها: إمَّا الانقلابُ وإما شبهُ ألفِ التأنيثِ.
والإِنجيل: قيل: إفعيل كإجْفيل. وفي وزنه أقوال، أحدها: أنه مشتقٌّ من النَّجْل وهو الماء الذي يَنُزُّ من الأرض ويَخْرُج منها، ومنه: النَّجْلُ للولد، وسُمِّي الإِنجيل لأنه مستخرجٌ من اللوح المحفوظ. وقيل: من النَّجْل وهو الأصلُ، ومنه «النَّجْلُ» للوالدِ فهو من الأضداد، إذ يُطْلق على الولد والوالد، قال الأعشى:
أَنْجَبَ أيَّامُ والِداهُ به. . . إذ نَجَلاه فنِعْمَ ما نَجَلا
وقيل: من النَّجَل وهو التوسِعَة، ومنه: العَيْنُ النجلاءُ لسَعَتها، وسُمِّي الإِنجيلُ بذلك؛ لأن فيه توسعةً لم تَكن في التوراة، إذ حُلِّل فيه أشياءُ كانت مُحَرَّمةً.
وقيل: هو مشتقٌّ من التَناجل وهو التنازُع، يقال: تَنَاجل الناسُ أي: تنازعوا، وسُمِّي الإِنجيلُ بذلك لاختلاف الناسِ فيه قاله أبو عمرو الشيباني.
والعامَّةُ على كَسْرِ الهمزةِ من «إنجيل» . وقرأ الحسنُ بفتحِها. قال الزمخشري: «وهذا يَدُلُّ على أنه أعجمي لأنَّ» أفعيلا «بفتح الهمزة عديمٌ في أوزان العرب» . قلت: بخلاف إفعيل بكسرها فإنه موجود نحو: إِجْفيل وإخْريط وإصْليت.
اهـ (الدر المصون) .(1/241)
وكذلك ما قال آخر: لا يعرف لأنه مبني على واحده في ترك الصرف وواحده أخرى، سهو عجيب، لأنه لا يلزم أن لا ينصرف كل ما واحدُه لا ينصرف.
قوله: (آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)
الكلام في المحكم والمتشابه كثير، وقد أوردته في "لباب التفاسير".
والغريب فيه: أن القرآن كله محكم، لقوله: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) ، أي أحكمت بالنظم العجيب والمعنى البديع. وكله متشابه.
لقوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا) ، أي يشبه
بعضه بعضاً، لا خلاف فيه ولا تناقض.
والمحكم في الآية: ما لا يتطرق إليه النسخ.
والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، من إخراج الدابة من الأرض، وخروج الدجال، ونزول عيسى - عليه السلام -.
قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)
ذهب مجاهد والربيع والقُتَبي، إلى: أن الراسخين عطف على الأول، وأنهم
يعلمون تأويل المتشابه، وجعلوا "يقولون" حالًا، وأنشدوا:
الريحُ تَبْكِي شَجْوَها. . . والبرقُ يلْمَع في الغَمامَهْ
أي البرق يبكي لامعا، والجمهور على أنه استنئاف يقولون خبره، وهذا
هو المرضي عند الجمهور، لأنهم، وإن زعموا إنا لا نعلم بعض المتشابه،(1/242)
فلا بد لهم من القول بالعجز عن البعض، وهو علم الساعة وأشراطها وما
عطف عليه في قوله: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) الآية.
ولأن في بعض المصاحف "إلا الله ويقول الراسخون في العلم"، وهذا قاطع.
ولأن الحال يقتضي أن يكون من المعطوف والمعطوف عليه، وهو فاسد.
قوله: (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)
أي كل ذلك، فحذف المضاف إليه وبفي (كُلٌّ) معرفة ولم يبنى بناء "قبل"
و"بعد" وأخواتهما، لأنها تكون معرفة
ونكرة، وأعربت في حال النكرة، وبنيت في حال المعرفة للفرق، و "كل" في جميع الأحوال معرفة، فلم يحْتج إلى فرق.
(بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) .
قيل: "إِذْ" زيادة، وقيل: "بَعْدَ" زيادة.
والغريب: "بَعْدَ" مضاف إلى "إِذْ"، والتقدير بعد وقت هدايتك إيَّانا.
قوله: (جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ) .
أي لجزاءِ يوم وقيل "اللاًم" بمعنى "في"، أي في يوم.
(لَا رَيْبَ فِيهِ) قيل: في اليوم، فيكون محل (لَا رَيْبَ فِيهِ) خبراً، وقيل: في الجمع، أي جامع الناس جمعاً (لَا رَيْبَ فِيهِ) ، فيكون محله نصباً.
قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)
سؤال، لِمَ قال: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) ، وقال في آخر السورة: (إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ) . وكلاهما خطاب؟
الجواب عنه من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن أول السورةِ، قد تقدم فيه ذكر الله سبحانه، وأوصافه مرة بعد أخرى صريحا، ولم يتقدم ذكر الكناية إلا مرة، فعدل من الخطاب إلى الغيبة، لأنها الأغلب، وأما آخر السورة، فالغلبة للكناية فثبت عليها.
والثاني: أن اتصال ما في أول السورة،(1/243)
بما قبلها معنوي، وتقديره، فقنا شرَّه وهو المطلوب، بقوله: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ) ، وقيل: المطلوب الثبيت على الهداية.
وإن اتصال ما فيً آخر السورة لفظي ومعنوي، وهو قوله: (مَا وَعَدْتَنَا) .
والثالث: أن ما في أول السورة استئناف من الله يجري مجرى الاستجابة.
وأن ما في آخر السورة حكاية عنهم، ثم ذكر عقيبها، (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) .
قوله: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) .
"الكاف"، إذا كان بمعنى "مثل" محكوم عليه بالنصب أو الرفع أو
الجر، فيجوز أن يكون محله رفعاً بالخبر، أي دأبهم كدأب آل فرعون.
ويجوز أن يكون نصباً بقوله: (لَنْ تُغْنِيَ) ، أي لن تغنى إغناء مثل ما لم
تغن عن آل فرعون، ويجوز أن يكون نصباً بما دل عليه.
ووقود النار أي: يتوقدون توقداً مثل توقد آل فرعون.
(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) محله رفع بالابتداء، وخبر الابتداء "كَذَّبُوا"، وقيل جر بالعطف على آل فرعون.
وقوله: (كَذَّبُوا) استئنات، وقيل: حال، و " قد" مقدر.
والغريب: محل "الذين" نصب بالعطف على اسم إن من قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ) .
سؤال: لِمَ قال: (بِآيَاتِنَا) ، ثم قال: (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) ، ولم يقل:
فأخذناهم؟
الجواب: لما عدل في قوله، (إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) إلى لفظ الغيبة، كذلك ها هنا، ليكون الكلام على منهاج واحدٍ.
قوله: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) .
قُرئ "بالياء والتاء" (1) "الياء" محمول على المعنى، أي يرى المؤمنون الكافرين مثلي المؤمنين، يريد على الشرط المذكور في قوله:
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (ترونهم) الآية 13 فابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وكذا خلف بالغيبة وافقهم ابن محيصن واليزيدي والأعمش والباقون بالخطاب. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 219) .(1/244)
(فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) .
و"التاء" محمول على الخطاب، أي ترون أيها المخاطبون، وهم اليهود الفئة الكافرة مثلي المؤمنين، وكانت الغلبة للمؤمنين.
الغريب: قول الفراء: المراد بقوله: (مِثْلَيْهِمْ) ثلاثة أمثالهم.
قال: وهذا كما تقول: عندي ألف، وأنا محتاج إلى مثليه. أي إلى ثلاثة
آلاف، أي يرون الفئة الكافرة ثلاثة أمثال المؤمنين، ثم كانت النصرة والغلبة
للمؤمنين.
والعجيب: قول من قال: ترى الفئة الكافرة المؤمنين مثلي الكافرين.
أو ثلاثة أمثالهم، واللفظ يحتمل، ويأباه النص، وهو قوله: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) (1)
والرؤيةُ رؤيةُ العَين، لقوله: (رَأْيَ الْعَيْنِ) .
والرأي والرؤية والرؤيا، مصادر رأيت، والضمير المفعول.
(مِثْلَيْهِمْ) حال، وقيل من رؤية العلم، والضمير المفعول الأول: (مِثْلَيْهِمْ)
المفعول الثاني، و (رَأْيَ الْعَيْنِ) صفة مصدر محذوف، أي رؤية مثل (رَأْيَ الْعَيْنِ) ، ومنزلة منزلها.
قوله: (وَالْقَنَاطِيرِ) .
جمع قنطار، والقنطار: ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم، عن
__________
(1) قال شيخ الإسلام / زكريا الأنصاري
قوله تعالى: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ..) .
أي ترى الفئةُ الكافرةُ المسلمةَ بمثليْ عدد نفسها، أو بالعكس على الخلاف.
إن قلتَ: هذا ينافي قوله في الأنفال " وإذْ يريكموهُمْ إِذِ التقيتُم في أعينكُمْ قَليلاً وُيقلِّلُكُمْ في أعينِهمْ " إذ قضيَّتُه أن كلاً منهما ترى الأخرى قليلة؟
قلتُ: التقليلُ والتَّكثيرُ في حاليْنِ:
قلَّلَ اللهُ المشركين في نظر المؤمنين، وعكسه أولاً، حتى اجترأت كلٌّ منهما على قتال الأخرى.
ثمَّ كثر اللهُ المؤمنين في نظر المشركين لما التقتا، حتى جَبُنوا وفَشِلوا.
وكثر الله المشركين في نظر المؤمنين، وأراهم إيَّاهم على ما هم عليه - وكانوا في الحقيقة أكثر من المؤمنين - ليعلموا صدق وعد الله في قوله " فإن يكنْ منكم مائةٌ صابِرَةٌ يَغْلبوا مائتين " فإن المؤمنين غلبوهم في هذه الغَزَاةِ وهي " غَزَاةُ بدرٍ " مع أنهم كانوا أضعاف عدد المؤمنين. اهـ (فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن. ص: 81.(1/245)
الحسن وابن عباس ألف ومائتا دينار.
ابن عمر: ألف ومائتا أوقية.
قتادة: ثمانون ألف درهم. عطاء سبعون ألف دينار، أبو نصرة:
ملء مَسْك ثور ذهباً أو فضة.
أبو عبيدة: ليس بمحدود.
الغريب: قال الحكم.: القنطار ما بين السماء والأرض من مال.
العجيب: قول من قال: القناطير، العقاد والعقد، فإن في القرآن من
الذهب والفضة.
قوله: (الْمُقَنْطَرَةِ)
المضاعفة، فهي ستة، وقيل: تسعة، وقيل: المضروبة دراهم ودنانير.
الغريب: قال يمان: المدفونة يقال قنطر، أي كنز.
قوله: (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ) .
فيه قولان، أحدهما: أنه متصل ب (خير) ، أي بخير مما تقدم للذين
اتقوا عند ربهم، ثم ابتدأ، فقال: (جَنَّاتٌ) ، أي هو جَنَّاتٌ.
والثاني: أن قوله: (جَنَّاتٌ) ابتداء (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا) خبره تقدم عليه.
(الَّذِينَ يَقُولُونَ) .
جاز أن يكون جراً، صفة للعباد، وكذلك الصابرين إلى آخره، ويجوز
أن يكون نصبا على المدح، أعني الذين، وكذلك الصابرين إلى آخره،(1/246)
ويجوز أن يكون رفعاً بالخبر، أي هم الذين ويكون، الصابرين " وما بعده نصباً على المدح، ولا يمتنع أن يكون جرا، وإن حيل بين الموصوف والصفة.
قوله: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) .
فيه قولان، أحدهما: المصلين بِالْأَسْحَارِ، والثاني: السائلين المغفرة
أوقات السحر، ومثله: (وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) .
والعجيب: قول الواحدي: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) ، المصلين صلاة
الصبح، فإن الإجماع على أن للصائم أن يتناول الطعام في السحر.
فكيف تصح صلاة الصبح فيه.
قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) .
كرر، لأن الأول جار مجرى شهادة حكم الحاكم بصحة ما شهدوا به.
وما ذكر بعض المفسرين، أن الصابرين محمد - صلى الله عليه وسلم - والصادقين، أبو بكر، والقانتين، عمر، والمنفقين، عثمان، والمستغفرين بالأسحار، علي - رضي الله عنهم أجمعين، فليس بصحيح ولا مرضي أيضاً، وإن كل واحد منهم موصوف بالصفات الخمس، اللهم إلا أن يحمل على معنى الازدياد فيه، كما قال - عليه السلام -: "أفقهكم معاذ، أفرضكم زيد، أقرأكم أبي "، لأن أفعل تقتضي الاشتراك في الوصفية أولا، ثم الازدياد.
قوله: (بَغْيًا) .
نصباً على المفعول له.
قال الأخفش: تقديره، وما اختلفوا بَغْيًا،(1/247)
إلا من بعد ما جاءهم العلم.
الزجاج: العامل مضمر تقديره، اختلفوا بَغْيًا، وقيل: نصب على المصدر، أي بغوا بَغْيًا، وقيل: مصدر وقع موقع الحال، أي باغين.
قوله: (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) .
رفع بالعطف على ضمير المتكلم، ولم يؤكد لطول الكلام، وقيل:
رفع بالابتداء، والخبر محذوف، أي ومن اتبعني أسلم.
الغريب: محله جر بالعطف على الله.
العجيب: نصب على المفعول معه.
قوله: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) .
مستقبلان وقعا موقع الماضي، لأنهم قتلوا يحى وزكريا وغيرهما، على
ما سبق، وقيل: هو على ظاهره، ومعناه يعتقدون صحة ذلك.
الغريب: يقصدون القتل والقتال مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكون (النَّبِيِّينَ) محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وجازَ جمعه لأن من قاتله قاتَلهم.
قوله: (فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ) .
أي فكيف حالهم، الزجاج: كيف يكون حالُهم.
الغريب: يقول: فكيف يفعلون إذا جمعناهم، وموضعه نصب على
الحال، والعامل فيه ما سبق.
قوله: (إِذَا جَمَعْنَاهُمْ)
ظرف، والعامل فيه ما هو مقدر بعد كيف.(1/248)
قوله: (اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ) .
الميمان فيه بدل من ياء النداء، ولا يجوز الجمع بينهما إلا شاذا.
الغريب: قول الفراء: أصله، يا ألله اُمّنا بخير، فكثر في الكلام.
فحذفت الهمزة، وألقيت حركتها على ما قبلها (1) .
(مَالِكَ)
نصب على النداء، قال الزجاج: نصب على صفة (اللَّهُمَّ) .
الغريب: قال أبو رجاء العطاردي: هذه الميم التي في قوله:
(اللَّهُمَّ) تجمع سبعين اسماً من أسمائه.
ومن الغريب: قال الله تعالى في بعض كتبه: أنا الله مالك الملوك.
قلوب الملوك بيدي ونواصيهم، فإن العباد إذا أطاعوني جعلتهم عليهم
رحمة، وإن العباد إذا عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسِّب
الملوك، ولكن توبوا إليَّ أعطفهم عليكم.
قوله: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ)
أن تؤتيه الملك، وكذلك ما بعده.
قوله: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) أي خير الدنيا وخير الآخرة، وخص الخير
بالذكر، لأن رغبة العبد إلى الله أن يفعل الخير به.
وقيل: أراد الخير والشر، فاكتفى بذكر أحد الضدين.
الغريب: ذكر الخير صريحاً وذكر الشر تضمينا في قوله: (إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
__________
(1) قال السمين:
قوله تعالى: {اللهم} :
اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظة الكريمة. فقال البصريون: الأصلُ يا الله، فحُذِفَ حرفُ النداء، وعُوِّضَ عنه هذه الميمُ المشددة. وهذا خاصٌّ بهذا الاسمِ الشريف فلا يجوزُ تعويضُ الميمِ من حرفِ النداء في غيره، واستدلُّوا على أنَّها عوضٌ من «يا» أنهم لم يَجْمَعوا بينهما فلا يُقال: يا اللهمَّ إلاَّ في ضرورةٍ كقوله:
وما عليكِ أَنْ تقولي كلما. . . سَبَّحْتِ أو هَلَّلْتِ يا اللهم ما
أرْدُدْ علينَا شَيْخَنا مُسَلَّما. ..
وقال الكوفيون: الميمُ المشددةُ بقية فعلٍ محذوفٍ تقديرُه: «أُمَّنا بخير» أي: اقصُدْنا به، مِنْ قولك: «أمَّمْتُ زيداً» أي قصدتُه، ومنه: {ولا آمِّينَ البيت الحرام} [المائدة: 2] أي: قاصِديه، وعلى هذا فالجمعُ بينَ «يا» والميمِ ليس بضرورةٍ عندهم، إذ ليسَتْ عوضاً منها. وقد رَدَّ عليهم البصريون هذا بأنه قد سُمع «اللهم أُمَّنَا بخير» وقال تعالى: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ} [الأنفال: 32] فقد صَرَّح بالمدعوِّ به، فلو كانَتِ الميمُ بقيةَ «أمَّنا» لفسد المعنى فبان بطلانُه. وهذا من الأسماء التي لَزِمَت النداءَ فلا يجوزُ أَنْ يقعَ في غيرِه، وقد وَقَع في ضرورةِ الشعرِ كونُه فاعِلاً. أنشد الفراء:
كحَلْفَةٍ من أبي دِثار. . . يَسْمَعُها اللهُمَ الكُبارُ
فاستعملَه هنا فاعلاً بقوله: «يَسْمَعُها» ولا يجوزُ تخفيفُ ميمِه، وجَوَّزه الفراء وأنشد البيت: «يَسْمَعُها اللَهُمَ/ الكُبار» بتخفيفِ الميم؛ إذ لا يمكنُه استقامةُ الوزن إلاَّ بذلك. قال بعضُهم: «هذا خطأٌ فاحِشٌ، وذلك لأنَّ الميمَ بقيةُ» أُمَّنا «وهو رأيُ الفراء، فكيف يُجَوِّزُ الفراء؟ وأجاب عن البيت بأنَّ الروايةَ ليسَتْ كذلك، بل الروايةُ: يَسْمَعُها لاهُه الكُبارُ. قلت: وهذا [لا يُعارِضُ الروايةً الأخرى، فإنه كما صَحَّتْ هذه صَحَّتْ] تَيْكَ. وردَّ الزجاج مذهبَ الفراء بأنه لو كان الأصل:» يا لله أُمَّنا «لَلُفِظَ به مَنْبَهَةً على الأصل كما قالوا في: وَيْلُمِّه: ويلٌ لأُمِه.
ومن أحكام هذه اللفظةِ أيضاً أنها كَثُرَ دَوْرُها حتى حُذِفَتْ منها الألف واللامُ في قولِهم:» لاهُمَّ «أي: اللهم، وقال الشاعر:
لا هُمَّ إنَّ عامرَ بنَ جَهْمِ. . . أَحْرَم حَجَّاً في ثيابٍ دُسْمِ
وقال آخر:
لا هُمَّ إنَّ جُرْهُما عِبادُكا. . . الناسُ طَرْفٌ وهمُ بِلادُكا
وفي هذه الكلمةِ أبحاثُ كثيرةٌ موضِعُها غيرُ هذا.
اهـ (الدر المصون) .(1/249)
قوله: (الْمَيِّت) .
وزنه فيعل، وأصله ميوت، فقلب الواو ياء وأدغم الياء في الياء.
ووزن ميت على التخفيف قيل: فعل. والأول هو أحسن.
وقال الكوفيون: أصله مويت على وزن فعيل، كطويل وقصير.
قوله: (مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) .
تقديره: في شي، من الله، فقدم وانتصب على الحال.
قوله: (تُقَاةً)
مصدر، وأصله وقاه، قلب واوه ياءً.
والغريب: قول مَن قال جمع تقيّ كمي وكماة فيكون نصباً على
الحال.
قوله: (وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)
أي بَطْشَة، والتقدير عذاب نفسه.
الغريب: "النفس" هنا، تأكيد، أي يحذركم الله إياه.
(يَوْمَ تَجِدُ) .
نصب بمضمر، أي اذكر أو اتَّقِ، فيكون مفعولا به.
قال الزجاج: وهو عجيب: (يَوْمَ تَجِدُ) نصب بقوله: (يُحَذِّرُكُمُ) .
قال ويجوز أن ينتصب بقوله: (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ يَوْمَ تَجِدُ) ، وكلا قوليه بعيد، لأن التحذير موجود، واليوم موعود، فكيف يحمل فيه، وانتصابه بالمصبر لا يصح، لأنه قد حيل بينهما بآية، ولا يحال بين المصدر وصلته بأجنبي ولا
ينتصب أيضاً بقوله: (قدير) ، لأن قدرة الله سبحانه لا تختص بيوم دون يوم.
قوله: (مُحْضَرًا)
إن جعلت تجد من باب حسبت، فمحضراً(1/250)
المفعول الثاني، وإن جعلته من وجدان الضالة، فمحضراً حال من قوله:
(مَا عَمِلَتْ) ، وقيل: حال عن الهاء المحذوف من الصلة، أي عملته.
وقوله: (وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) مبتدأ، (تَوَدُّ) خبره، وقيل: عطف على الأول، و "تَوَدُّ" استئناف، وقيل: حال عن المضمر في عملت، وقيل: جر بالوصف، لقوله: (مِنْ سُوءٍ) ، وقيل: "مَا" شرط تقديره، فهي تَوَدُّ، وفيه بعد.
قوله: (وَآلَ إِبْرَاهِيمَ) .
يريد إبراهيم وآله، وقيل: (آلَ إِبْرَاهِيمَ) ، شخصه، وقد سبق.
قوله: (وَآلَ عِمْرَانَ) يريد موسى وهارون.
الغريب: الحسن: (وَآلَ عِمْرَانَ) ، عيسى وأمه.
قوله: (ذُرِّيَّةً) .
قيل: نصب على البدل منهم، وقيل: حال منهم، أي متناسبين.
قوله: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ) .
أبو عبيدة: "إذ" زيادة، وزيَّفه الزجاج.
غيره: اذكر إذ قالت.
الغريب: سميع عليم إذ قالت. وفيه ضعف، لأن سمعه وعلمه
سبحانه، لا يختص بزمان دون زمان.
العجيب: قول الزجاج: اصطفى إذ قالت، لأن الاصطفاء سابق
على مقالتها، فلا يصلح أن يكون ظرفاً له.
وامرأة عمران هي، حنة أم مريم.
(وَضَعْتُهَا) الضمير يعود(1/251)
إلى "مَا"، وأنثَ حملاً على المعنى.
و (أُنْثَى) حال من هاء الضمير. وقيل: بدل.
و"مَرْيَم" معناها بالعبرية الخادم، ومعنى مريم في اللغة: المرأة التي
تغازل الفتيان.
قال
قلْت كَزِيرٍ لَم تصلهُ مريمُه.
قوله: (الرَّجِيمِ) ، قيل: الملعون.
الغريب: الرَّجِيمِ بالنجوم.
العجيب: الرجيم بمعنى الراجم، أي يرجم المؤمنين بقبيح فعله -
قوله: (بِقَبُولٍ) .
"الباء" زائدة، وقيل: للسبب، ووضع "قَبُول" موضع يقبل، ومن
المصادر التي جاءت على فعول القَبول والوَلوع والطهور والوَضوء، حكاها
سيبويه.
(وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا) ، أي إنبانا.
الغريب: أنبتها فنبتت.
(زَكَرِيَّاء) ، لا ينصرف ممدوداً ومقصوراً للتأنيث والمعرفة، لأن ألفَهُ
للتأنيث، لا من الأصل ولا للإلحاق، ولا ينصرف في المعرفة والنكرة.
قوله: (كُلَّمَا دَخَلَ)
نصب على الظرف، وما مع الفعل في تأويل المصدر، أي كل وقت دخول، والعامل فيه "وجد".
قوله: (رِزْقًا)
قيل: فاكهة الصيف فى الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف.
الغريب: كان عنباً، ولم يكن في تلك البلاد عنب.(1/252)
قوله: (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)
كان يأتيها بذلك الملائكة من الجنة.
الغريب: كان يأتيها بذلك رجل صالح.
قوله: (هُنَالِكَ) .
موضوع للمكان، وقد يستعمل للزمان اتساعا، وقيل: هناك للمكان.
وهُنَالِكَ للزمان، والظاهر في الآية أنه للزمان.
ويحتمل في الغريب: أن يكون للمكان ويكون إشارة إلى المحراب.
أو إشارة إلى الجنة على قول العامل فيه (يرزق) ، والتقدير، يرزق من شاء
بغير حساب، هنالك في الجنة، ثم استأنف، فقال: دعا زكريا، والجمهور.
على أن العامل فيه دعا.
قوله: (ذُرِّيَّةً) ، أي ابناً يقويه قوله: (مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) .
(طَيِّبَةً) حملاً على اللفظ، كما قال:
أبوكَ خليفةٌ وَلَدَتْهُ أخرى. . . وأنت خليفةٌ، ذاك الكمالُ
(يَحْيَى) .
اسم عجمي، وقيل: عربي، أي أحياه الله بالإيمان، وقيل: حَيِيَ به رحم أمه.
الغريب: سمي يَحْيَى لأنه استشْهِد، والشهداء أحياء.
العجيب: معناه كالمفازة والسليم.
قوله: (وَسَيِّدًا) أي كريماً، وقيل: شريفاً.
الغريب: ابن المسيب: فقيهاً.
الضحاك: الحسن الخُلُق.(1/253)
(مِنَ الصَّالِحِينَ)
صفة لقوله "نبياً"، وخص الأنبياء بذكر الصلاح، لأنه لا يتخلك صلاحهم بخلاف ذلك.
قوله: (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) .
أي بلغني بحدوثه في.
الغريب: بلغته على القلب.
قوله: (عَاقِرٌ) أي ذات عُقر، كتامِرٍ ولابِنٍ، وليس باسم الفاعل، لأن فعله
"عُقرت " - بالضم، والاسم: عقيرة على وزن فعيلة.
قوله: (كَذَلِكَ) .
منصوب، صفة للمصدر، أي يفعل ما يشاء فعلاً مثل ذلك، وقيل: رفع أي الأمر كذلك.
الغريب: تقديره، يكون لك الولد كذلك، أي كما أنت، فيكون حالًا.
قوله: (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) .
أي علامة ذلك أن يمتنع لسانك عن الكلام ثلاثة أيام.
الغريب: أمر بالصوم ثلاثة أيام، وكانوا لا يتكلمون في الصوم.
العجيب: قتادة: ربأ لسانه في فيه، عقوبة على سؤاله بعد أن شافهه الملائكة
بذلك.
قوله: (إِلَّا رَمْزًا)
كل ما أشِرتَ به من شفة أم يد أم غيره مما يقع به
البيان رَمْر وأصله الحركة تقول: ارتمز الشيء إذا تحرك الشيء.(1/254)
قوله: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا)
لم يمتنع لسانه عن التسبيح، وقيل: واذكر بالقلب.
وقيل: واذكر بعد ذلك.
قوله: (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) .
الواو لا يقتضي الترتيب، وقيل: كان في شرعهم كذلك.
الغريب: يحتمل أن السجود من الركعة الأولى واركعي من الثانية.
قوله: (مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي في الجماعة، وغلب الرجال على النساء.
وقيل: افعلي كفعلهم.
قول: (أَقْلَامَهُمْ) سهامهم.
الغريب: عصِيُّهم.
العجيب: أقلامهم التي كانوا يكتبون التوراة بها، وكانت من الحديد.
فقام قلم زكريا منتصبا على الماء، وقيل: استقبل جرية الماء، وذلك أنهم
تشاحُّوا عليها وتقارعوا في كفالتها طلباً لمرضاة الله.
الغريب: تقارعوا، لأنهم كانوا في زمن محل.
العجيب: كفلها زكريا بعد هلاك أمها، ثم أصابت الناس سَنة فضعف
عن تربيتها، فتقارعوا، فخرج السهم على رجل يقال له جريج، وقيل:
يوسف.
قوله: (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) ، أي في كفالتها، ويختصمون بمعنى
اختصموا، لأن "إذ" اسم لما مضى.
قوله: (إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) .
بدل من المسيح "ابن مريم" رفع بالخبر أي هو ابن مريم، ولا بوصفٍ
للمسيح ولا لعيسى (1) .
__________
(1) قال السمين:
«اسمه» مبتدأ، و «المسيح» خبرُهُ. و «عيسى» بدلٌ منه أو عطفُ بيان. قال أبو البقاء: «ولا يكونُ خبراً ثانياً لأنَّ تَعَدُّدُ الأخبارِ يُوجِبُ تعَدُّدَ المبتدأ، والمبتدأُ هنا مفردٌ، وهو قولُه:» اسمهُ «ولو كان عيسى خبراً آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها على تأنيث الكلمة» قلت: هذا على رأي، وأما من يجيز ذلك فقد أعرب عيسى خبراً ثانياً، وأعرَبه بعضُهم خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هو عيسى، فهذه ثلاثةُ أوجهٍ في «عيسى» ، ويجوز على الوجهِ الثالث وجهٌ رابعٌ وهو النصبُ بإضمار «أَعْني» لأنَّ كلَّ ما جازَ قَطْعُهُ رَفْعاً جازَ قطعُهُ نصباً.
والألفُ واللامُ في «المسيح» للغلبَةِ كهي في الصَّعِق والعَيُّوق وفيه وجهان، أحدُهما: أنه فَعِيل بمعنى فاعِل مُحَوّل منه مبالغة، فقيل: لأنه مَسَحَ الأرض بالسِّياحة، وقيل: لأنه يَمْسَح ذا العاهة فيبرأُ، وقيل: بمعنى مَفْعول لأنه مُسِحَ بالبركةِ أو لأنه مَسِيحُ القدمِ، قال:
باتَ يُقاسيها غلامٌ كالزَلَمْ. . . خَدَلَّجُ الساقَيْنِ ممسوحُ القَدَمْ
أو لِمَسْحِ وجهِهِ بالمَلاحة، قال:
على وَجْهِ مَيٍّ مَسْحَةٌ من مَلاحة. ..
والثاني: أنَّ وَزْنَهُ مَفْعِل من السياحةِ وعلى هذا كله فهو منقولٌ من الصفة. وقال أبو عبيد: أصلُه بالعبرانية: «مسيخاً» فَغُيِّر، قال الشيخ: «فعلى هذا يكونُ/ اسماً مرتجلاً ليس مشتقاً من المَسْح ولا من السِّياحة» قلت: قولُه «ليس مشتقاً» صحيحٌ، ولكنْ لا يَلْزَمُ من ذلك أن يكونَ مرتجلاً ولا بُدَّ، لاحتمالِ أن يكونَ في لغتِهِم منقولاً من شيء عندهم.
وأتى بالضمير في قوله: «اسمُه» مذكَّراً وإنْ كان عائداً على الكلمة مراعاةً للمعنى، إذ المرادُ بها مذكر.
و «ابنُ مريم» يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً لعيسى، قال ابن عطية: «وعيسى خبرُ مبتدأٍ محذوف، ويَدْعُو إلى هذا كونُ قولِهِ» ابنُ مريم «صفةً لعيسى، إذ قد أَجْمَعَ الناسُ على كَتْبِه دونَ ألفٍ، وأمَّا على البدل أو عطفِ البيان فلا يجوزُ أن يكونَ» ابنُ مريم «صفةً لعيسى، لأنَّ الاسمَ هنا لم يُرَدْ به الشخصُ. هذه النزعةُ لأبي عليّ، وفي صدرِ الكلام نظَرٌ» انتهى. قلتُ: فقد حَتَّمَ كونَه صفةً لأجلِ كَتْبِهِ بدونِ ألف، ثم قال: «وأمَّا على البدلِ أو عطفِ البيان فلا يكونُ ابنُ مريم صفةً لعيسى» يعني بدلَ عيسى من المسيح، فَجَعَلَهُ غيرَ صفةٍ له مع وجودِ الدليلِ الذي ذكره وهو كَتْبُه بغير ألف.
وقد مَنَعَ أبو البقاء أن يكونَ «ابنُ مريم» بدلاً أو صفة لعيسى قال: «لأنَّ ابنَ مريم ليس باسمٍ، ألا ترى أنَّك لا تقولُ:» هذا الرجلُ ابنُ عمرو «إلا إذا كان قد عَلِقَ عليه علماً» قلت: وهذا التعليلُ الذي ذكره إنما ينهَضُ في عَدَمِ كَوْنِهِ بدلاً، وأمَّا كونُه صفةً فلا يمنعُ ذلك، بل إذا كان اسماً امتنع كونُه صفةً، إذ يصيرُ في حكمِ الأعلامِ، والأعلامُ لا تُوصَفُ به، ألا ترى أنك إذا سَمَّيْتَ رجلاً بابن عمرو امتنعَ أن يقَع «ابن عمرو» صفةً والحالةُ هذه.
وقال الزمخشري: «فإنْ قلت: لِمَ قيل: اسمُه المسيح عيسى ابن مريم، وهذه ثلاثةُ أشياءَ: الاسمُ منها عيسى، وأمَّا المسيحُ والابنُ فَلَقَبٌ وصفةٌ؟ قلت: الاسمُ للمُسَمَّى علامةٌ يُعْرَفُ بها ويتميَّز مِنْ غيرِه، فكأنه قيل: الذي يُعْرف ويتميَّز مِمَّن سواه بمجموعِ هذه الثلاثةِ» انتهى فَظَهَرَ من كلامِهِ أَنَّ مجموعَ الألفاظ الثلاثةِ إخبار عن اسمِهِ، بمعنى أنَّ كلاً منها ليس مستقلاً بالخبرية بل هو من باب: هذا حلوٌ حامِض، وهذا أَعْسَرُ يَسَرٌ ونظيرُهُ قولُ الشاعر:
كيف أصبحْتَ كيف أمسَيْتَ مِمَّا. . . يزرعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريمِ
أي: مجموعُ كيف أصبحْتَ، وكيف أمسيْتَ، فكما جاز تعدُّدُ المبتدأ لفظاً مِنْ غيرِ عاطف والمعنى على المجموعِ فكذلك في الخبرِ، وقد أَنْشَدْتُ عليه أبياتاً كقوله:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . فهذا بَتِّي. . . مُقَيِّظٌ مُصَيِّفٌ مُشَتِّي
وقد زعم بعضُهم أنَّ «المسيح» ليس باسمِ لقبٍ له بل هو صفةٌ كالضارب والظريف، قال: «وعلى هذا ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، إذا المسيح صفة لعيسى والتقدير: اسمُه عيسى المسيحُ» . وهذا لا يجوزُ، أعني تقديمَ الصفةِ على الموصوفِ، لكنه يعني هو صفةٌ له في الأصل، والعربُ إذا قَدَّمَتْ ماهو صفةٌ في الأصل جَعَلوه مبنيَّاً على العاملِ قبلَه وجعلوا الموصوفَ بدلاً مِنْ صفتِهِ في الأصلِ نحو قولِه:
وبالطوِيلِ العمْر. . . عُمْراً حَيْدَرا
الأصل: وبالعمرِ الطويلِ، هذا في المعارف، وأمَّا في النكراتِ فينصِبون الصفةَ حالاً.
وقال الشيخ: «ولا يَصِحُّ أَنْ يكون» المسيح «في هذا التركيب صفةً لأن المُخْبَرَ به على هذا لُفِظَ، والمسيحُ من صفةِ المدلولِ لا من صفةِ الدالِّ، إذ لفظُ عيسى ليس المسيح، ومَنْ قال: إنهما اسمان قال: فَقُدِّمَ المسيحُ على عيسى لشهرتِهِ. قال ابن الأنباري:» وإِنَّما قُدِّمَ بُدِىء بلقبه لأن المسيحَ أشهرُ من عيسى لأنه قَلَّ أن يقعَ على سُمَىً يَشْتَبِهُ به، وعيسى قد يقع على عدد كثير فقدَّمه لشهرتِهِ، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهرُ من أسمائِهِم «، فهذا يَدُلُّ على أنَّ المسيحَ عند ابن الأنباري [لقبٌ] لا اسمٌ. وقال أبو إسحاق:» وعيسى مُعَرَّبٌ من أَيْسوع وإنْ جَعَلْتَه عربياً لم تَصْرِفْهُ في معرفةٍ ولا نكرةٍ، لأنَّ فيه ألفَ التأنيث، ويكون مشتقاً مِنْ عاسَه يَعُوسه إذا سَاسَه، وقام عليه «، وقال الزمخشري:» ومُشْتَقُّهُما يعني المسيح وعيسى من المَسْح والعَيْس كالراقمِ على الماء «. وقد تقدَّم الكلامُ على عيسى ومريم واشتقاقِهما وما ذَكَرَ الناسُ في ذلك في سورة البقرة فَأَغْنى عن إعادته.
اهـ (الدر المصون) .(1/255)
قوله: (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) .
أي تمثالا كهيئة الطير، وقيل: "الكاف" اسم فيكون مفعولاً به.
وقيل: صفة مصدر محذوف، أي أخلق خلقاً كهيئة الطير، وهذا عجيب بعيد.
والهيئة، الحال الظاهرة. تقول: هاء يَهاءُ والهَيّءُ: الحسن الهيئة من كل
شيء: والمهايأة أمر يتهايأ عليه القوم ويتراضون به.
قوله: (فَأَنْفُخُ فِيهِ)
في المهيأ، وقيل: في الطير، وقيل: في الطين.
الغريب: يعود إلى الكاف، وهو اسم.
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة "فِيهِ"، وقال في المائدة "فِيهِا"؟
الجواب: لأنه في هذه السورة إخبار قبل الفعل، فوحد.
وفي المائدة خطاب من الله له في القيامة، وقد سبق من عيسى ذلك الفعل مرات فجمع.
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة "بِإِذْنِ اللَّهِ" مرتين، وقال في المائدة
"بِإِذْنِي" أربع مرات؟.
والجواب لأن ما في هذه السورة إخبار عن كلام عيسى، فما تصور أن يكون من فعل الشر، أضاف إلى نفسه، وهو الخلق الذي المراد به التقدير والنفخ الذي هو إخراج الريح من الفم، وما لم يتصور فيه أضاف إلى الله وهو قوله: (فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ) ، وإبراء الأكمه وإزالة البرص مما يكون من طرف البشر، فأضافهما إلى نفسه، لأن الأكمه عند بعضهم الأعشى، وعند بعضهم، الأعمش، وعند بعضهم، الذي يولد أعمى.
وإحياء الموتى من فعل الله وحده، فأضافه إليه، فقال: (وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ)(1/256)
وأما في المائدة فهو من كلام الله، فأضاف كل ذلك إلى صنعه إظهاراً لعجز البشر، وإن فعل العبد مخلوق لله سبحانه، وقيل: (بِإِذْنِ اللَّهِ)
في هذه السورة، يعود إلى الأفعال الثلاثة، وكذلك الثانية، يعود الى
الثلاثة الأخر.
قوله: (وَلِأُحِلَّ) .
قيل: "الواو" زائدة، وقيل: عطف على مضمر، أي جئتكم لأصدق
وَلِأُحِلَّ.
قوله: (بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ)
جاء في التفسير، أنه لحوم الإبل والثروب وأشياء من الطير والحيتان والفول.
الغريب: إن البعض بمعنى الكل، وهو ضعيف، وما أنشد من قوله:
أو يَرْتَبِطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها.
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
فليس فيه حجة، لأنه أراد ببعض النفوس نفسه.
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ، وفى مريم: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ، وقال في الزخرف في هذه القصة: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ، بزيادة "هُوَ"؟
الجواب: إنما يذكر هو في مثل هذا الموضع للتأكيد، وإن المبتدأ مقصور على هذا الخبر مقصور عليه دون غيره، والذي في آل عمران، وقع بعد عشر آيات نزلت في قصة مريم وعيسى - عليهما السلام -، فاستغنى عن التأكيد بما تقدم من الآيات والدلالات على أن سبحانه ربه وخالقه، لا أبوه ووالده كما زعمت النصارى، وكذلك في سورة مريم وقع بعد عشرين آية من قصتها، وليس كذلك ما في الزخرف،(1/257)
فإنه ابتدأ كلام منه فحسن التأكيد بقوله: "هُوَ" يصير المبتدأ مقصوراً على
الخبر المذكور في الآية، وهو إثبات الربوبية ونفي الأبوة - تعالى الله - عن ذلك.
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة (بأنَّا) بحذف النون، وفي المائدة (بأنَّنَا) ؟
الجواب: لأن ما في المائدة أول كلام الحواريين، فجاء على
الأصل، والثاني حكاية كلامهم، فجاء فيه التخفيف، لأن التخفيف فرع عن الأصل، والحكاية فرع عن الشيء السابق، والنون المحذوف من "أنَّا" غير النون المحذوف من إني، فإن المحذوف من "أنَّا" أحد نوني أن، والمحذوف
من إنني هو الذي يقع قتل ياء الضمير في ضربني، بدليل: ليتني ولعل.
قوله: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) .
أضاف المكر إليه سبحانه ازدواجا للكلام، وقد سبق.
الزجاج هو استدراج الله إياهم من حيث لا يعلمون، وقيل: مكره إبطال مكرهم.
الغريب: قال ابن حبيب: سأل رجل الجنيد، كيف رضي سبحانه
المكر لنفسه، وقد عاب به غيره، فقال: لا أدري ما تقول ولكن أنشدني فلان الطبراني:
فَديتُكَ قد جُبِلت على هَواكا. . . فَنَفْسي لا تُنازِعني سواكا
أحِبُّك لا ببَعْضِي بَلْ بِكلي. . . وإن لم يُبقِ حُبُّكَ لي حِراكا
ويَقْبُحُ من سواكَ الفعل عندي. . . وتَفعلهُ فيحسن مثلُ ذاكا(1/258)
فقال الرجل: أسالك عن آية من كتاب الله وتجيبني بشعر الطبراني.
فقال ويحك قد أجبتك إن كنت تعقل.
قوله: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) .
قيل: هو من التوفي بمعنى التسليم، أي قابضك، وقيل: من
الاستيفاء، أي رافعك وافياً تاماً لم ينالوا منك، وقيل: منيمك، من توفى
النوم.
الغريب: من توفي الموت ثلاث ساعات ثم رفع، وزعم النصارى، أن
الله أماته سبع ساعات، ثم أحياه ورفعه، والنحاة على أن التقدير، أي رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد النزول من السماء. والواو لا يقتضي ترتيبا.
العجيب: ما أنشده الثعلبي للاستدلال في الآية، وهو:
جمعتَ وعيباً غيبةً ونميمة. . . ثلاثَ خصال لستَ عنهن تَرعَوي.
لأن ما في البيت تقديم المعطوف بالواو على المعطوف عليه.
وأنشد أيضاً:
ألا يا نخلةُ من ذاتِ عِرقِ. . . عليكِ ورحمةُ الله السلامُ
وهذا كالبيت الأول، وذهب بعضهم إلى أن "ورحمة الله" عطف على
المضمر في عليك، تقديره، السلام عليك ورحمة الله.(1/259)
قوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .
"الهاء" تعود إلى آدم، وهو استئناف، وليس بوصف لآدم، لأن الجملة
نكرة، فلا تقع وصفا عن المعرفة، وليس بحال، لأن الماضي لا يقع حالاً إلا
مع قد.
ومعنى (خَلَقَهُ)
قدره قالباً من تراب.
وفي "ثُمَّ" أقوال: أحدها:
للتراخي على أصله فيكون الخلق عبارة عن إيجاد الجثة، والتكوين عبارة
عن نفخ الروح فيها وإتمامها.
والثاني: أن "ثُمَّ" قد تأتي مع الجملة دالاً على التقدم كقوله: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) ، والاهتداء سابق، وكقوله: (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ) ، وقوله: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) .
قال:
إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ. . . ثُمَّ قَدْ سَادَ بَعْدَ ذَلِكَ جَدُّهُ.
والثالث: أن التراخي في الإخبار، وتقديره أخبركم أنه خلقه من تراب
ثم أخبركم أنه قال له كن.
الغريب: (خلقه) "الهاء" تعود إلى آدم، (له) يعود إلى عيسى.
العجيب: الضميران يعودان إلى عيسى.
ولقوله: (خلقه) وجهان
أحدهما: أن عيسى خلق من مريم، ومريم خلقت من التراب.
والثاني، في الأخبار أن الله سبحانه يأمر ملكا فيأتي بالتراب الذي قدره الله أن يكون قبره منه، فيذر على النطفة فيدفن فيه لأنه يموت به.
قوله: (فَيَكُونُ)
بمعنى كان، ولهذا أجمعوا على الرفع فيه.
قوله: (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) .
رفع بالابتداء، وخبره الظرف، وقيل: رفع بالظرف،(1/260)
وقيل: هي أن لا نعبد، وقيل: محله جر بالبدل من "كَلِمَةٍ".
ومعنى "سَوَاءٍ" مستوية أو ذات سواء.
قرله: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ) .
قيل أراد ءأنتم، فقلب الهمزة هاء، ومحله رفع بالابتداء، (هَؤُلَاءِ)
عطف بيان، (حَاجَجْتُمْ) خبره، وقيل: (هَؤُلَاءِ) خبر (هَا أَنْتُمْ) .
وهو بمعنى الذين، (حَاجَجْتُمْ) صلته.
الغريب: (ها) دخل على محذوف.
وقيل: دخل على الجملة كقوله: "هلم".
العجيب: يا هؤلاء.
قال الشيخ الإمام: ويحتمل في الغريب أيضاً أن نجعل (أَنْتُمْ) مبتدأ.
و (هَؤُلَاءِ) مبتدأ ثانياً، ويقدر فيما بعده ضمير يعود إليه، تقديره: حَاجَجْتُمْ
معهم، فيكون (أَنْتُمْ) اليهود، و (هَؤُلَاءِ) المؤمنون.
ومثله قوله: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ) .
قوله: (أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) .
فيه قولان:
أحدهما: أنه متصل بكلام اليهود، وقوله: (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) اعتراض، والتقدير ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد النبوة إلا اليهودي.
فيكون محله خفضاً عند الخليل، ونصبا عند سيبويه.
وقوله: (أَوْ يُحَاجُّوكُمْ)
عطف عليه، أي أو بأن يحاجوكم، وقيل أو ها هنا بمعنى حتى.
أي ولا تؤمنوا إلاَّ أن يحاجوكم عند ربكم على الاستبعاد.
والثاني: أنه من كلام الله، وهو خطاب للمؤمنين، وتقديره، (قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ) خصصتم به إلا أن يؤتى وكراهية أن يؤتى أحد من خالفكم في دينكم مثل ما أوتيتم.(1/261)
والغريب: قول من قال: إن "أن" بمعنى "لا" وتقديره لا يؤتى أحد مثل
ما أوتيتم.
ومن قرأ بالاستفهام فصله عن الأول، لا غير، لأن الاستفهام لا يعمل
فيه ما قبله.
قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ
ومحل (أَنْ يُؤْتَى) رفع بالابتداء، وخبره مضمر، تقديره: تصدقونه.
وقيل: نصب، كما تقول: أزيداً ضربته.
وفي معنى: (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ)
ثلاثة أقوال:
أحدها: أن اللام زيادة، وما بعده استثناء من قوله (أَحَدٌ) .
والثاني: أنه زيادة، أي لا تصدقوا (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ، فيكون مفعولا
به.
والثالث: أنه غير زائد، ومعناه، لا تقروا (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) بأن يؤتى
أحد، وجاز تعلق الجارين به بعد أن لا يتعلق بفعل واحد جاران لأنه شابه
الظرف، فصار كقوله: مررت به في البيت ونزلت عليه في الدار.
والضمير في قوله: (يُحَاجُّوكُمْ) يعود إلى (أَحَدٌ) ، لأنه بمعنى العموم.
قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ) .
فيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: ميثاق النبيين وأممهم، فاكتفى بذكرِ النبيينَ عن الأمم.
الغريب: أراد ميثاقَ أمم النبيين، فحذف المضاف.
العجيب: ميثاق النبيين، والمراد بهم الأمم، كما يرد الخطاب
للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به الأمة.
قوله: (لَمَا آتَيْتُكُمْ)
فيه قراءتان. الفتح: وله وجهان:
أحدهما: أن "مَا" هي الموصولة، و (آتَيْتُكُمْ) صلته والعائد محذوف، أي آتيتكموه، وقوله:
(ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ)
عطف على الصلة، وفي العائد قولان:
أحدهما: مضمر تقديره، جاءكم رسول به، أي بتصديقه.
والثاني: أن يقع المظهر موقع المضمر، لأن ما معكم هو ما آتيتكم.(1/262)
قال أبو علي في الحجة: وهذا يجوز على قول الأخفش ولا يجوز على مذهب سيبويه، لأنه لا يرى وقوع المظهر موقع المضمر.
ومحله رفع بالابتداء واللام لام الابتداء، وخبره (لَتُؤْمِنُنَّ) ، و "اللام متعلق بقسم مضمر، أي والله لَتُؤْمِنُنَّ.
و"الهاء" تعود إلى "مَا"، و "الهاء" في (لَتَنْصُرُنَّهُ) تعود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والوجه الثاني: أن "مَا" للشرط، ومحله نصب بـ "آتَيْتُكُمْ"
وآتيتكم وجاؤكم جزم به، واللام لام توطئة القسم، كما في لئن ولام تؤمننن لام
جواب القسم.
والقراءة الثانية: "لِما" بكسر اللام، فتكون "مَا" موصولة لا غير.
واللام متعلق بـ (أخذ) ، وهي لام العلة.
قوله: (طَوْعًا وَكَرْهًا) .
أي طائعين وكارهين، قيل: طَوْعًا المؤمنون، وَكَرْهًا الكافرون عند أخذ
الميثاق، وقيل: عند النزع، وقيل طَوْعًا الملائكة والأنبياء وَكَرْهًا غيرهم.
الغريب: الطواعية والكراهية في إسلام أهل الأرض.
وأما أهل السموات فطوعاً لا غير.
العجيب: له أسلم من في السماوات طبعاً.
ومن العجيب أيضاً: وله أسلم من في السماوات طوعا، أي استسلموا
وانقادوا طائعين.
و (طَوْعًا) متعلق بـ (أَسْلَمَ) و "كَرْهًا"، متعلق ب "يُرْجَعُونَ"
والمراد به الموت، وكراهةُ الحيوان الموت ظاهر.(1/263)
قوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) .
(الْبِرَّ) الجنة، وقيل: ثواب بِرِّكُم، وقيل: برُّ الله بكم.
الغريب: أن تصيروا أبراراً.
قوله: (مِمَّا تُحِبُّونَ)
أي المال، لأنه محبوب كل أحد.
وقيل: تحبون ادخاره.
الغريب: أي في صحة وسلامة.
قوله: (وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا) .
قيل: من عذاب الله، وقيل: آمنا من الخلق.
الغريب: إنه ابتداء حكم من الله، أي إذا جنى جان ثم لاذ به فهو آمن
لا يقام عليه فيه الحد، وللفقهاء فيه خلاف.
قوله: (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) .
أي صرتم، والضمير اسم أصبح، و (إِخْوَانًا) خبره، ويجوز أن يكون
أصبح، أي دخل في الصباح، و (إِخْوَانًا) حال وهو الغريب.
قولَه: (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا)
الضمير يعود إلى (شَفَا) ، وأنث لإضافته لمؤنث.
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ) .
قيل من للبيان فيلزم الجميع الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر، وقيل: مِن للتبعيض وهو فرض على الكفاية.
الغريب: المفضل أي يكونوا أمة بهذه الصفة، وهذا من كلام
العرب فصيح، يقولون للرجل ليكن منك قائماً بهذا، أي كن قائماً به.(1/264)
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ) .
الجمهور على أن المراد به بياض اللون وسواد اللون.
الغريب: أنهما مثلان، كقوله: (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) أو يقال لمن نال
أمنيته: ابيضَّ وَجهُه.
قوله، (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) أي فيقال لهم أكفرتم.
قوله: (كننم خير أمةٍ) .
(كان) ها هنا هي الناقصة، والمعنى كنتم في اللوح المحفوظ بهذه
الصفة، وقيل: معناه وقع و (خير أمةٍ) حال، وقيل: معناه صرتم.
وقيل: زيادة.
الغريب: هي متصلة بقوله (هم فيها خالدون)
ويقال لهم في القيامة (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) .
العجيب: كان ها هنا للدوام، كقوله: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا) .
قوله: (لَيْسُوا سَوَاءً) .
الضمير يعود إلى اليهود، وقد تقدم ذكرهم، أي ليسوا كفرة معاندين.
بل منهم أمة قائمة.
الغريب: قال أبو عبيدة: هذا على لغة من يقول: أكلوني البراغيث.
وأمة اسم ليس، وفيه بعد. لأن الضمير في قوله أكلوني البراغيث لم يمكن
حمله على شيء سابق.
العجيب قول الفراء: أمة ترتفع بـ (سَوَاءً) ، وفيه بعد من وجهين:
أحدهما: أن سواء ليس يجري على الفعل.
والثاني: أن خبر ليس يبقى جملة لا عائد فيها إلى اسم ليس.(1/265)
قوله: (آنَاءَ اللَّيْلِ) ساعاته، واحدها أنَي وأنِيّ وإنِيّ.
الغريب: إنوّ.
قوله: (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) ، قيل: يصلون.
الغريب: يحتمل يسجدون سجدة التلاوة، لقوله: (يتلون) .
(مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ) .
أي مثل إهلاك اللهِ ما ينفقون كمثل إهلاك ريح.
الغريب: ابن عيسى: مثل ما ينفقون كمهلكِ ريح.
قوله: (فِيهَا صِرٌّ)
الجمهور على أنه بَرْد، وقيل: (صِرٌّ) صوت لهيب النار في تلك الريح.
قوله: (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ)
بالكفر، فدُعِيَ اللهُ عليهم.
الغريب: (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) في غير موضع الزرع، أو غير وقت الزرع.
قوله: (هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ) .
تقديره عند البصريين أأنتم هؤلاء، وقيل: هؤلاء أنتم، فحيل بين:
"هَا" وبين "أُولَاءِ" بقوله: (أَنْتُمْ) كما تقول: ها أناذا، وربما كرروا نحو، ها
أنتم هؤلاء، وأجاز الزجاج: أن تكون أولاء" موصولة، وقوله: (تُحِبُّونَهُمْ) صلته، أو حالاً.
الغريب: "أَنْتُمْ" مبتدأ "أُولَاءِ" خبره، كما تقول، زيد قمر، والمعنى:
إذا صافيتموهم وكأنكم هم.
العجيب: يحتمل "أَنْتُمْ" مبتدأ "أُولَاءِ" مبتدأ ثانٍ، "تُحِبُّونَهُمْ" خبره.
ويحتمل أن يكون "أُولَاءِ" في محل نصب نحوْ؛ أنا زيداً ضربته.(1/266)
قوله: (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ) : تقديره، وَتُؤْمِنُونَ ولا يُؤْمِنُونَ هم.
قوله: (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) ، "على" متعلق ب "عَضّ".
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا
كما قال الشاعر:
إذا رأوني أطالَ الله غيظهم. . . عَضوا من الغيظِ أطرافَ الأباهِيمِ
ومثله قولُهم: فلان يحرقُ الأدم.
العجيب: قول من قال: من الغيظ عيكم، لأن صلة المصدر لا تتقدم
على المصدر.
قوله: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ)
قرىء بكسر الضاد، من ضاره يضيره.
وقرىء "لا يضركم"، فحرك الراء بالضم موافقة للضاد نحو لا تمدوا.
الغريب: ما ذهب إليه الفراء: أن التقدير: فلا يضركم، لأن الفاء لا
تضمر، وأنشد:
فَإنْ كَانَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي. . . إلَى قَطَرِيٍّ لا إخَالُكَ رَاضِيا
ومن الغريب أيضاً: قول من حمله على التقديم وتقديره لا يضركم أن
تصبروا،(1/267)
قال:
إنَّكَ إنْ يُصْرَع أخُوكَ تُصْرَعُ
العجيب: يحتمل أنه جواب القسم تقديره وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم
كقوله: (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
وكقوله: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) ، (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) .
قوله: (كيدهم شيئا) ، نصب على المصدر، أي ضرراً، لأن ضرّه ونفعه
يتعديان لمفعول واحد، وكذلك قوله: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى)
أي ضراراً.
قوله: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) .
"الهاء" تعود إلى الإمداد، وقيل: إلى الإنزال، وقيل: إلى النشور.
وقيل: إلى المدد، و "هم" إلى الملائكة أو إلى العدد، وهو خمسة آلاف
وثلاثة آلاف.
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة بزيادة (لَكُمْ)
وقال في الأنفال: (إِلَّا بُشْرَى) ؟.
سؤال: لِمَ أخر في هذه السورة (بِهِ) وقدم في الأنفال وقال: (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) ؟.
الجواب: لما كان البشرى للمخاطبين بيّن فقال: لكم، وأما في الأنفال:(1/268)
فاكتفى بما تقدم من قوله: (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ) ، لأنه قد علم أن البشرى
للمخاطبين، وراعى في آل عمران الازدواج بين كناية المخاطبين، وذلك
أولى فقال: (لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ) ، وراعى في الأنفال الازدواج بين
كناية الغيبة لما عدم الخطاب، فقال: (وما جعله الله إلا بُشْرَى ولتطمئن به) .
سؤال: لِمَ قال في الأنفال: (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) .
وفي آل عمران: (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ؟
الجواب: ما في الأنفال قصة بدر، وما في آل عمران قصة أحد.
وبدر سابق على أحد، فذكر في الأنفال على وجه الإخبار، أي النصر من عند الله الغالب القادر الحكيم الذي يضع النصر موضعه، لا من الملائكة والعدة والعدد، وذكر في آل عمران بلفظ الصفة، إذ قد سبق الخبر به.
قوله: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا) .
قيل: اللام متصل بقوله: (نَصَرَكُمُ اللَّهُ) ، وقيل: بقوله: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) .
الغريب: متصل بـ (يمددكم) ، وقيل: (لِيَقْطَعَ طَرَفًا) نصركم، وجاز أن
يكون لام القسم على أمدَّ سهل، وإلى هذا ذهب، في قوله: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ) .
قوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) .
قيل: عطف على (لِيَقْطَعَ طَرَفًا) ، وقوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) .(1/269)
اعتراض وقيل: "أو" هنا بمعنى (حتى) ، وقيل: بمعنى "إلى أن ".
وقيل: بمعنى "إلا أن" والكل واحد.
قوله: (أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) .
أي أجلاً بعد أجل، وقيل: تضاعفون المال بالربا.
قوله: (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) .
الجمهور: كعرض السماواتِ والأرض، وخص العرض بالذكر، لأن
العرض دون الطول أبدا، َ وقيل: عرضها: سعَتها، تقول: بلاد عريضة، أي واسعة، وهذا تمثيل بأعظم ما يقع في نفوس الخلق.
الغريب: وجنة عرضها السماوات والأرض، لكل واحد من المؤمنين.
العجيب: علي بن عيسى: هو من عرض الشيء للبيع، أي لو كانت
السماوات والأرض ملك غيره سبحانه لكانت للجنة ثمناً.
قوله: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ) .
عطف على المعنى، أي: نداولها بين الناس ليتعظوا وليعلم.
وقيل: الواو زائدة، وقيل: وليعلم الله نداولها، والمفعول الثاني محذوف أي
متميزين.
قوله: (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) .
نصب على الصرف، أي صرف عن الجزم، والمعنى: نفي اجتماع
الثاني والأول، أي لم يقع العلم بالجهاد والعلم بصبر الصابرين.
قوله: (تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ.
أي القتال، ومل: أسباب الموت، لقوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) ، فإن
من لقي الموت مات.(1/270)
قوله: (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ)
أي تتأملون الحال في ذلك، يريد: هي رؤية تأمل وتثبيت.
لا رؤية لمح وتخيل، الأخفش: تأكيد.
الغريب: ينظرون إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) .
إن مات محمد، لكن الشرط والجزاء لمّا تنرلا منزلة جملة واحدة صار
دخوله على الشرط كدخوله على الجزاء، وكذلك في باب المبتدأ والخبر.
يدخل المبتدأ نحو أزيد قائم، وهل عمرو جالس، وإنما المستفهم عنه.
الخبر، هذا مذهب سيبويه.
وذهب يونس إلى أن الاستفهام متصل بالجزاء، وهو مرفوع وحقه التقديم. تقول: إن تأتيني آتيك، وإن تعطني أعطيك وإن تضربني أضربك بالرفع، أي آتيك إن تأتني وأعطيك إن تعطني.
واحتج سيبويه عليه بالفاء، فقال: إذاً يصير تقدير الآية انقلبتم على أعقابكم
فإن مات، وكذلك الآية الأخرى: (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) ، يكون
تقديره: أفهم الخالدون فإن مت، وهذا لا يستقيم، وزيادة الفاء مما لا يسوغ القول به، ويحتمل للمحتج عن سيبويه أن يقول: لو كان الأمر على ما قال يونس، لوجب أن يكون مكان انقلبتم تنقلبون، لأنه إذا نوى به التقديم أخرجه عن باب الشرط والجزاء، فلا يقع الماضي موقع المستقبل، إنما ذلك في باب الشرط والجزاء، وفي باب الدعاء فحسب.
قوله: (وَكَأَيِّنْ) .
"النون" فيه بدل من التنوين، ولهذا وقف عليه بعض القراء كأي بحذف
النون قياساً على زيد وعمرو، وأكثرهم يقفون عليه بالنون مراعاةً للإمام.
وأصله "أي"، دخل عليه كاف التشبيه، كما دخل ذا من كذا،(1/271)
وقراءة ابن كثير، (وكائِنْ) إنما هو كأين، قدم الياءين على الهمزة، فصار كيائن، ثم خفف وقلب ألفا (1) .
قال الشاعر وهو جرير:
وكائن بالأباطحِ مِنْ صديقٍ. . . يَراني لو أُصِبْتُ هو المُصَابا.
قوله: (وما اصتكانوا" هو استفعل، من كان يكون، أي لم يكونوا بصفة
الوهن والضعف.
الغريب: هو من أكانه إذا أخضعه، وفلان بِكِينَةِ سَوءٍ وَحِينَةِ سَوءٍ.
العجيب: هو افتعل من السكون، وأصله استَكَنَ، وأشبع الكاف وظهر
منه الألف، كقول الشاعر:
لو أن عندي مائتي درهام. . . لجاز في آفاقي خاتامي
وإليه ذهب ابن عيسى.
قوله: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا) .
جعل "قولهم " الخبر، لأن (أَنْ قَالُوا) أشد تعريفاً لامتناعه عن
الوصف.
قوله: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ) .
قل: جوابه محذوف، أي حتى إذا فَشِلْتُمْ وتنازعتم امتَحنَكم.
الفراء: إذا تنازعتم، عصيتم وفَشِلْتُمْ، وقيل: " الواو" زائدة.
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
وقرأ (وكأين) الآية 105 بألف ممدودة بعد الكاف بعدها همزة مكسورة ابن كثير وكذا أبو جعفر لكنه سهل الهمزة مع المد والقصر ووقف على الياء أبو عمرو ويعقوب والباقون بالنون
اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 336) .(1/272)
الغريب: يجوز أن تكون كناية للفعل فلا يحتاج إلى جواب.
[قوله: (أَمَنَةً) .
مفعول له، و "نُعَاسًا" مفعول به، ويجوز أن يكون "أَمَنَةً" مفعولا به.
و"نُعَاسًا" بدلاً منه] (1) .
قوله: (وَطَائِفَةٌ) .
الواو فيها واو الحال، وقيل: واو الابتداء.
الغريب، هو بمعنى إذ.
قوله: (وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ)
قل: الواو زائدة، وقيل: عطف على مضمر تقديره، ليقضي الله أمراً وَلِيَبْتَلِيَ.
الغريب: ابن بحر: عطف على قوله: "لِيَبْتَلِيَكُمْ"، وأعاد يَبْتَلِيَكُمْ لما
طال الكلام.
قوله: (وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ) .
أي منهم ولأجلهم، لأن هم غيب.
قوله: (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) .
لا تؤكد بالنون وهي لام جواب قسم مضمر دل عليه لما تقدم صلته
عليه، وهي إلى، ودخل اللام الصلة كما دخل سوف في قوله: (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) .
قوله (هُمْ دَرَجَاتٌ) .
قيل: لهم درجات، وقيل: هم ذوو درجات، فحذف المضاف.
الغريب: ابن عيسى: أي لاختلاف أعمالهم صاروا كمختلفي
الذوات.
__________
(1) ما بين المعقوفتين ذكر بعد قوله تعالى (وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ) فقدَّمْتُه مراعاةً لترتيب الآيات الكريمة.(1/273)
قوله: (قالوا لإخوانِهم وَقَعَدوا) .
هو منل الأول قعدوا اعتراض بين القائلين والمقول.
قوله: (يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) .
أي يخوفكم أولياءه، وقيل: يخوفكم بأوليائه.
الغريب: يخوف أولياء الله.
قوله: (فَلَا تَخَافُوهُمْ)
يعود إلى الشيطان، كقوله: (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) .
قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) .
قرىء بالياء والتاء، فمن قرأ بالياء، جعل (أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) ، قائماً مقام مفعولي "يَحْسَبَنَّ"، لاشتماله على اسم وخبر، ومن
قرأ بالتاء ففيه كلام، ذهب بعضهم إلى أنه لا وجه له، لأنك إذا جعلت
"الذين" المفعول الأول وجب كسر إن على أنه جملة وقعت موقع المفعول
الثاني، كما تقع أي خبر المبتدأ، نحو إن زيداً أباه قائم، أو نصب "خَيْرٌ"
على تقدير لا تحسبن الذين كفروا إملاءنا لهم خيراً لأنفسهم، فيكون إملاؤنا
لهم بدلاً من "الذين"، و "خَيْراً" المفعول الثاني، وله وجهان:
أحدهما: أن نجعل التقدير، ولا تحسبن إنما فعْلُ الذين كفروا خير.
والثاني: وهو الغريب: أن تجعل التاء للتأنيث، وتقديره، لا تحسبن القومُ الذين، كقوله: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ) :
وقوله: (مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ) ، فيكون "الذين" صفة موصوف محذوف، ويجوز أن يكون للمصدر، فلا يحتاج للعائد.(1/274)
قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) الآية.
قرىء بالياء والتاء، والمصدر في الآية مضمر على القراءتين فمن قرأ
بالياء جعله بدلا من الذين، ومن قرأ بالتاء جعله المفعول الأول.
و (خَيْرًا) في الوجهين المفعول الثاني، وقوله: (هُوَ خَيْرًا) هو فصل وعماد في القراءتين.
والعجيب: قول الواحدي: إن (هُوَ) كناية عن البخل، قاسه على
قوله: (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) ، وهذا منه سهو.
قوله: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) .
قاله: فنحاص بن عازوراء.
وفي تأويله ثلاثة أوجه:
أحدها استبطاء الرزق، فقالوا: لا يجد ما يعطينا، وقيل: إنهم قالوها إنكاراً: لقوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) ، أنه كلام الله.
الغريب: إنهم اعتقدوا في الأجسام أنها لا يمكن فيها الزيادة.
واعتقدوا في المال أنه لا يمكن في القدرة تغييره، وأن الذهب والفضة قد
حصلا في الأيدي، فلهذا قالوا - لعنهم الله - إن الله فقير ونحن أغنياء، ووقف بعض القراء على "فقير"، أي: قال الله ونحن أغنياء -
قوله: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) .
في الآية سؤال: وهو أن يقال: لِمَ زاد في سورة فاطر "الباء"، فقال:
(وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ) ، وحذفها في هذه السورة؟
الجواب: لَأن ما في سورة آل عمران وقع في كلام بني على(1/275)
الاختصار مع وضوح المعنى، وأول الآية، (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) ، والأصل يكذبوك، فوضع الماضي - وهو أخف - موضع المستقبل - وهو أثقل - وبنى الفعل
للمجهول، ولم يسم فاعله - مع العلم به - تخفيفاً، كذلك جعل آخر الكلام كأوله في الاختصار، مع وضوح المعنى.
قوله: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا) .
قرىء بالياء والتاء (1) : فمن قرأ بالتاء جعل الذين يفرحون المفعول الأول.
وفي المفعول الثاني قولان:
أحدهما: أنه مضمر، أي فائزين، وقيل: لما طال الكلام أعاد (فلا تحسبنهم) ، والفاء زائدة، و (بِمَفَازَةٍ) المفعول الثاني.
قوله: (مُنَادِيًا) .
أي نداءَ منادٍ، لا حاجةَ إلى هذا الإضمار، لأن "سَمِعَ" يتعدى
لمفعولين، أحدهما: جسم، والآخر: صوت: نحو، سمعت خالداً حديثاً.
وسمعت زيداً يقرأ، كذلك الآية، فإن المنادي محمد - صلى الله عليه وسلم - و (يُنَادِي) جارٍ مَجرى الصوت، وقيل: المنادي، القرآن، فيكون ينادي مجازاً.
قوله: (لِلْإِيمَانِ) أي لأجل الإيمان، وقيل: إلى الإِيمان، و "اللام" بمعنى إلى.
قوله: (أَنْ آمِنُوا) قيل: بأن آهوا، وقيل: "أن" هي المفسرة.
قوله: (عَلَى رُسُلِكَ) : أي على ألسنة رسلك.
قوله: (وَقُتِلوا) .
أي قُتِل بعض منهم، و" الواو" لا يقتضي الترتيب، فجاز وقتلوا
وقاتلوا (2) .
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (لا يحسبن الذين يفرحون. . . فلا يحسبنهم) الآية 188 فابن كثير وأبو عمر وبالغيب فيهما وفتح الباء في الأولى وضمها في الثاني وافقهم ابن محيصن واليزيدي والفعل الأول مسند إليه أو غيره والذين مفعول أول والثاني بمفازة أي لا يحسبن الرسول الفرحين ناجين والفعل الثاني مسند إلى ضمير الذين ومن ثمة ضمت الباء لتدل على واو الضمير المحذوفة لسكون النون بعدها فمفعوله الأول والثاني محذوف تقديره كذلك أي فلا يحسبن الفرحون أنفسهم ناجية والفاء عاطفة وقرأ عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف بتاء الخطاب فيهما وفتح الباء فيهما معا وافقهم الأعمش إسناد فيها للمخاطب والثاني تأكيد للأول والفاء زائدة أي لا تحسبن الفرحين ناجين لا تحسبنهم كذلك وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر بياء الغيب في الأول وتاء الخطاب في الثاني وفتح الموحدة فيهما إسناد للأول إلى الذين والثاني إلى المخاطب وافقهم الحسن وفتح السين في الفعلين ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو جعفر. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 233: 234) .
(2) واختلف في (وقاتلوا وقتلوا) الآية 195 وفي التوبة (فيقتلون ويقتلون) الآية 111 فحمزة والكسائي وخلف ببناء الأول للمفعول والثاني للفاعل فيهما إما لأن الواو لا تفيد الترتيب أو يحمل ذلك على التوزيع أي منهم من قتل ومنهم من قاتل وافقهم المطوعي والباقون ببناء الأول للفاعل والثاني للمفعول لأن القتال قبل القتل ويقال قتل ثم قتل ومر قريبا تشديد قتلوا لابن كثير وابن عامر. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 234) .(1/276)
قوله: (ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)
نصب على المصدر فإن معنى: (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ) لأثيبنَّهم.
الغريب: حال.
الفراء: تفسير قوله: "مَتَاعٌ قَلِيلٌ" أي تَقلبهم متاع.
قوله: (نُزُلًا) .
نصب على المصدر، لأن في الخلود معنى النزول.
قوله: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تفلحوا، وقيل: لتكونوا على رجاء فلاح.(1/277)
سورة النساء
قوله: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) .
يريد آدم، والتأنيث للنفس.
فإن قيل: كيف قال: "خَلَقَكُمْ"، قبل
خلق حواء؟
الجواب: تقدير الآية: خلقكم من نفس واحدة خلقها وخلق منها زوجها، يعني حواء، خلقها الله من قصيري آدم.
الغريب: خلقها من بقية طين آدم، فيكون التقدير، وخلق من بقية
النفس، فحذف المضاف.
قوله: (رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً) ، كثيرة، فاكتفى بأحدهما عن الآخر.
قوله: (وَالْأَرْحَامَ)
عطف على (وَاتَّقُوا اللَّهَ) ، ومن جر، فـ "باء" محذوف
دل عليه "الباء" في قوله "بِهِ"، وأجاز الكوفيون أن يكون عطفاً على
المضمر المجرور، واستدلوا بقول الشاعر:
تُعَلَّقُ في مثلِ السَّوارِي سيوفُنا. . . وما بينها والأرضِ غَوْطٌ نَفانِفٌ.(1/279)
الغريب: (وَالْأَرْحَامِ) جر بواو القسم، "إن الله" جواب القسم.
قوله: (وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ) .
سمّاهم بعد البلوغ يتامى باسم ما كانوا عليه.
الغريب: وَآتُوا الْيَتَامَى إذا بلغوا أَمْوَالَهُمْ.
قوله: (إِلَى أَمْوَالِكُمْ) أي مع أموالكم، أي لا تضيفوها إلى أموالكم
في الأكل.
(حُوبًا) ، إثماً، والحوب: المصدر، واشتقاقه من حَوَّبَ، زجر الِإبل.
قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ) .
طغى بعض أهل الِإلحاد في تلفيق الآية، وله وجوه:
أحدهما: إن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح اليتامى، فإن الأمر فيهن وفي مهورهن على المتزوج ضيِّق، فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم وهو قول: عائشة والحسن.
الثاني: إن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى وهمكم ذلك، فكذلك
خافوا في النساء، قاله: قتادة والضحاك.
الثالث: ابن عباس: إن خفتم الحيف والجوع في إنفاقكم أموال اليتامى، فقد حظرت أن تنكحوا أكثر من أربع.
الرابع: مجاهد: إن تحرجتم عن أكل مال اليتيم، فتحرجوا عن
الزنا، وانكحوا ما طاب لكم من النساء.
الغريب: تقديره، (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)
وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى لكثرة مؤن الزوجات، واحتياجكم إلى(1/280)
أكل مال اليتيم، فواحدة، فلما حيل بينهما بقوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ) ، أعاد (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً) .
قوله: (مَا طَابَ لَكُمْ)
"مَا" بمعنى "مَن"، وقيل: "مَا" للمصدر، أي الطيب لكم وهو الحلال.
قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) ، ومحل "مَا" في الآية النصب عطفاً
على "مَا طَابَ"، وتقديره، فانكحوا من الحرائر أو مما ملكت أيمانكم.
وقيل: محله جر عطف على قوله: (مِنَ النِّسَاءِ) ، وتقديره، مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ، أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.
وقيل: عطف على قوله "فَوَاحِدَةً"، أي فانكحوا واحدةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ.
وهذه الوجوه تدل على أن للحر أن يتزوج أربعا من الإماء مع قدرته على نكاح الحرة، لأنه خير بين نكاح الحرة والأمة، بقوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) .
الغريب: في بعض التفاسير: "فواحدةً" أو اقتصر على ما ملكت
أيمانكم، وفي بعضها: فواحدةً أو اتخذ مما ملكت أيمانكم، وفيه ضعف.
لإضمَاركَ ما لا حاجة إليهِ.
قوله: (أَيْمَانُكُمْ) جمع اليمين، التي هي الجارحة.
العجيب: جمع اليمين التي هي الحلف، ويدل هذا القائل
بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نذر في معصيةٍ، ولا فيما لم يملك ابن آدم".
وقال هذا القاثل: معنى (مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) ، أي ما ينفذ من أقسامكم، حكاه الثعلبي.
قوله: (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) .
في محل نصب على البدل من ما، وقيل: على الحال، وتقديره(1/281)
فانكحوا العدد الذي يطيب لكم مثنى وثلاث ورباع، وهي لا تنصرف
لاجتماع عِلَّتين العدل والصفة، كقوله: (أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ، وقيل: العدل والتأنيث، لأن العدد مؤنث.
الغريب: الفراء: معدول عن الإضافة فيه الألف واللام، ومعدول عن
الألف واللام كأنَّ فيه الإضافة، وقيل: العدل والجمع، وقيل: معدول لفظا
ومعنى، وقيل: العدل إنه عدل على غير أصل العدل، لأن العدل إنما يكون
في المعارف، والقول هو الأول، وهو اختيار أبي علي، وذهب الرافضة
إلى جواز الجمع بين تسعة نسوة.
قال الزجاج: وهذا باطل من جهات:
أحدهما: أن مثنى لا يصلح إلّا لاثنين اثنين، أو اثنتين اثنتين.
ومنها أنه يصير إعياء كلام لو قال قائل في موضع تسمة أعطيتك ثلاثة
واثنتين وأربعة، قيل له: تسعة تغنيك عن هذا، وبعد، فيكون على قولهم:
من تزوَّج أَقل من تسعة أو أكثر من واحدة عاصياً، لأنك إذا قلت لغيرك: ادخل هذا المسجد في اليوم تسعاً أو واحدة، فدخل غير هاتين اللتين حددتهما له من لمرات فقد عصاك.
وله وجهان: آخران:
أحدهما: أن الواو بمعنى أو، كقوله: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) .
والثانى: الغريب: مثنى مع واحدة وثلاث مع مثنى ورباع مع ثلاث.
ومثله: (وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) ، أي مع اليومين اللذين تقدما.
وقد شرحت هذا في لباب التفاسير.(1/282)
قوله: (أَلَّا تَعُولُوا) أي لا تجوروا وتميلوا.
الغريب: ما روي عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه فسر (أَلَّا تَعُولُوا) أن لا تُكْثِروا عيالكم، وأنكره الجمهور، وقالوا: إنما يقال أعال
الرجل إذا كثر عياله، وأجازه قوم، وقالوا: هو من قولهم: عالت الفريضة إذا زادت.
قوله: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) .
الخطاب للأزواج.
الغريب: الفراء: الخطاب لأولياء النساء، لأنهم لم يكونوا يعطون
النساء من مهورهن شيئاً في الجاهلية، وكذلك الخلاف في (فَكُلُوهُ) .
قوله: (هَنِيئًا مَرِيئًا)
نصبت على الحال من الهاء، وقيل: نصب على
المصدر، أي هَنُؤ ذلك لكم هَنِيئًا ومرُءَ مَرِيئًا.
قوله: (وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ) .
الجمهور على أنهم الصبيان والنساء.
الغريب: هم المفسدون من الأولاد، والمعنى: لا تعط مالك الذي
جعله الله قواما لمعاشك ولدك وامرأتك، ثم تنظر إلى ما في أيديهم ينفقون
عليك مالك.
العجيب: وإن السفيه من استحق أن يحجر عليه في ماله، ومعنى
أموالكم على هذا أموال السفهاء، فأضاف إلى المخاطبين، كقوله تعالى
(فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ) والمعنى على هذا:(1/283)
لا تعطوا لهم أموالهم التي جعلكم الله عليها قُوَّاما حفَظه.
ومعنى قوله: (وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا) أي تأديباً وتقويماً. وعلى القول الأول عِدة جميلة.
قوله: (قِيَامًا)
مصدر قام كالصيام مصدر صام، وقرىء (قِيَمًا) ، وهو مثل الأول حُذف ألفه.
الغريب: جمع قيعة، أي أموالكم التي جعلها الله قيمة الأشياء.
قوله: (بَلَغُوا النِّكَاحَ) .
أي الحلم في الغلام، والحيض في الجارية.
الغريب: قال مالك: بلغت الجارية التزويج ما لم تَعْنُس.
قوله: (إِسْرَافًا وَبِدَارًا)
مصدران وقعا موقع الحال، وقيل: مفعول له، و (أَنْ يَكْبَرُوا) في موضع نصب، بقوله "بِدَارًا".
قوله: (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)
بِالْمَعْرُوفِ، أي بقدرِ الأجرة، وقيل: بالقرض.
الغريب: (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) من مال نفسه، حتى لا يحوجه الفقر إلى
أكل مال اليتيم.
(وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)
الباء زائدة، والله - سبحانه - هو الفاعل، والمفعول محذوف، أي كفاكم الله، و "حَسِيبًا" حال.
الغريب: هو في المعنى أمر، أي كفايتك بالله حَسِيبًا.
قوله: (نَصِيبًا مَفْرُوضًا) .
قيل: نصب على الحال، وقيل: على المصدر.(1/284)
قوله: (حَضَرَ الْقِسْمَةَ) أي قسمة الميراث.
(فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) أي من الميراث أو المقسوم.
وقوله: (فَارْزُقُوهُمْ) دليل على جواز إضافة لفظ "الرزق" إلى غير الله، وعلى
هذا قوله "خَيْرُ الرَّازِقِينَ"، ورزق الجند، وأنت حي ترزق.
قوله: (يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) .
سماه باسم ما يؤول إليه، وقيل: يأكلون في القيامة ناراً.
وقوله: (فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) وعيد وتأكيد، لأن الأكل قد بستعمل لغير المطعوم.
قوله: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ) .
أي يأمركم ويعرض عليكم في أولادكم، أي في أولاد ميتكم، فحذف
المضاف، والمعنى في أولاد من مات منكم وترك مالا
(لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، إلى آخر الآيتين، تفسير لـ (يُوصِيكُمُ) .
قوله: (فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً)
الضمير يعود إلى ما دل عليه الأولاد من الإناث، لأن الاولاد يكونون ذكوراً وإناثاً، وقد صرح بقوله: (حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) .
قوله: (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ)
ذهب بعضهم إلى أن "فَوْقَ" صلة، وفيه ضعف، لقوله "فَلَهُنَّ"
والجمهور على أن في الآية بيان الواحدة من البنات.
وبيان الجمع وليس فيها بيان التثنية، فألحقت التثية بالجمع، لأن إلحاقها
بالجمع أولى منه بالواحد، وقياساً على الأختين في قوله: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) .
الغريب: مذهب ابن عباس: أن للاثنتين النصف، وكذلك قال في
قوله: (فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) أنه لا يحجب أقل من ثلاثة.
وقال: من لا يرث لا يحجب، وجعل السهم المحجوب للإخوة، وقال في(1/285)
قوله: (فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ)
إن الام ترثُ ثلثَ جميعِ المالِ مع الزوجين أيضاً.
قوله: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)
قدم الوصية على الدين في اللفظ، لأن الوصية مندوب إليها، والدين يقع نادرا، و "أو" لا يدل على الترتيب، والتقدير، من بعد أحد هذين.
قوله: (آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا)
في الآخرة بالشفاعة، وقيل: في الدنيا، وقيل: بالموت، فتنتفعون بتركته، وقيل: معناه الله تولى قسمته، ولو فوضها إليكم لوضعتموها غير موضعها.
الغريب: يحتمل أنه نهي عن تمني موت مَن إذا مات ورثْتَه.
قوله: (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ)
رفع بالابتداء، ولم يعمل ما قبله فيه، لأنه معلق محمول على معنى العلة، وأي في الأصل استفهام.
قوله: (فَرِيضَةً)
قيل: حال، أي لهؤلاء ما ذكر مفروضاً.
وقيل: مصدر من غير لفظ يوصيكم، بل من لفظ معناه.
قوله: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً) .
الكلالة: الورثة إذا لم يكونوا الوالدين ولا الأولاد.
وقيل: الكلالة: الميت إذا لم يكن له الوالدان ولا الولد، والأظهر في الآية أنها الميت، وإن أضمرت ذا، فهي الورثة، أي يورث ذا كلالة، ومن قرأ يورث - بكسر الراء - فالأظهر أنها الورثة.
و"كَانَ" في الآية بمعنى وقع و "يُورَثُ" صفته، و "كَلَالَةً" حال.
وقيل: كان هي الناقصة، و "كَلَالَةً" خبر كان.
الغريب: الكلالة: المال يرثه غير الوالدين وغير الولد، قاله عطاء.
واشتقاقها من تكلله النسب، إذا أحاط به، وقيل: هي من كَلَّ(1/286)
بَصَري إِذا أعيا، وكَلَّ السكين، أي لم يقوَ نسبهم قوة الوالد والولد.
الغريب: هي مشتقة من قوله: (كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ) ، أي ثقل، أي
هم بمنزلة الثقل عليه.
قوله: (أَوِ امْرَأَةٌ) عطف على قوله (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ) .
قوله: (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) ، أي لأم، وهكذا هو في مصحف ابن مسعود.
قوله: (فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ)
الشركة عند الإطلاق تقتضي المساواة، وإن قيد تقيد.
قوله: (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ) .
الْفَاحِشَة: الزنا.
(فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ)
الخطاب للازواج، أي اطلبوا من قذفهن أن يأتي بأربعة شهداء، وقيل: الخطاب للأولياء والحكام، أي فاسمعوا شهادة أربعة عليهن.
(فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِا)
أي اجعلوا بيوتَكم عليهن سجناً.
الغريب: معنى امسكوهن في البيوت، لا تجامعوهن.
قوله: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ) .
قيل: الرجلان، وقيل: الرجل والمرأة، وقيل: البكران، والآية نزلت
فيهما، والأولى في الثيب.
الغريب: هذه الآية سابقة على الأولى نزولا، وكان الأولى الأذى ثم
الحبس ثم الجلد ثم الرجم، والآيتان منسوختان.
العجيب: ابن بحر: الأولى في المساحقات، والثانية: نزلت في
أهل اللواط، والتي في النور في الزانين.
وهذا في الظاهر حسن لكنه بناء على أصل فاسد، لأنه زعم أن لا ناسخ في القرآن ولا منسوخ.(1/287)
قوله: (وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا)
رفع بالابتداء، ودخل الفاء في الخبر لما كان موصولا بجملة فعلية، ولم ينصب لإضمار فعل، وإن كان خبر المبتدأ أمراً كما نصب:
هريرةَ ودِّعها وإنْ لام لائمُ
لأن المبتدأ إذا وصل بالجملة الفعلية شابه الشرط مشابهة قوية، فلم
يحسن أن يعمل فيه ما قبله، كما لم يجز أن يعمل في الشرط، فإن وصله
بجملة ظرفية ووقع الأمر في الخبر، فالنصب أحسن، لأن المشابهة لم تقو.
ويجوز الرفع كما يجوز النصب في الأول، لأنه وإن شابه الشرط، فليس
بشرط، والاختيار في الفعلية الرفع وفي الظرفية النصب. هذا مذهب سيبويه، فإن حذفت الفاء من الأمر ونصبت الموصولة لم يجز، لأن الفاء تمنع من
ذلك، وإن نصبته بفعل دل عليه الصلة لم يحسن.
قوله: (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ) .
في محل جر عطفاً على الذين يعملون.
الغريب: في بعض المصاحف "وللذين" بلامين، فيكرن رفعاً
بالابتداء، (أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا) خبره.
(أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا) .
أى مال النساء، وقيل، عين النساء، أي نكاحهن
قوله (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ)
نصب بالعطف على أن، وقيل: جزم بالنهي.
قوله: (إِحْدَاهُنَّ) ، جمع حملاً على الزوجات.
قوله: (خَالِداً فِيهَا) ، حال مقدْر، وكذلك (خَالِدِينَ) .(1/288)
العجيب: قول من قال: (خَالِداً فِيهَا) صفة لقوله: (ناراً) ، لأن
اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له أبرز ضميره، فيقتضي الآية ناراً
خالداً فيها هو.
قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) الآية.
حرم من النسب سبع، وهن إلى قوله (وَبَنَاتُ الْأُخْتِ)
ومن غير النسب سبع وهن إلى قوله تعالى (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ) ، أي ذوات الأزواج فلا يحللن لغير أزواجهن.
الغريب: سئل ابن عباس عن المحصنات في الآية مَن هن.
فقال: لا أدري من المعني بها، وجعل السابعة (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) ، وقال مجاهد: لو وجدت من يعرفها لضربت إليه أكبادَ الإبل.
قوله: (أُخْت) وزنها فعَلَ - بفتحتين - نقل إلى فعْل، ورُدَّ في الجمع إلى
الأصل، وبِنْت أصلها فعَل - بفتحنين - نقل إلى فِعْل.
والتاء في أخت بدل من الواو، وفي بنت بدل من الياء، وقيل: من الواو.
قوله: (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) صفة لقوله: (مِنْ نِسَائِكُمُ) .
الغريب: ذهب بعض الفقهاء إلى أنه وصف للنسائين، وهذا سهو، لأن
الأولى مجرورة بالإضافة، والثانية مجرورة بمن ولا يجوز حمل وصف على
موصوفين مختلفي العامل.(1/289)
قوله: (كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) .
نصب على المصدر، لأن معنى حرمت عليكم تحريمة.
وقيل: منصوب بفعل مضمر، أي الزموا كتاب الله.
الغريب: نصب على الإغراء، والتقدير، عليكم كباب الله، فقدم.
كقول الشاعر:
يا أيُّها المائحُ دَلْوي دونَكَا. . . إني رأيْتُ الناسَ يَحْمَدونكا
وهذا بعيد، لأن ما انتصب على الإغراء لا يتقدم على ما ينصبه.
قوله: (مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ)
قتادة، (مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) مما ملكت أيمانكم.
وقيل: ما وراء ذوات المحارم من أقربائكم.
والظاهر ما وراء الأربعَ عشرة.
ومعنى ما وراء ذلكم ما بعْدَ ذلكم، وقيل: ما سوى ذلكم.
قوله: (أَنْ تَبْتَغُوا) بدل من (ما) .
وقيل: لأن تبتغوا، فحذف الجار.
قوله: (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ) ، شرط، (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) جزاؤه.
و"مَا" رفع بالابتداء، (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) ، رفع بخبر الابتداء، والمعنى
من تمتعتم بهن فآتوهن مهورهن.
(فَرِيضَةً)
نصب على الحال، أي التي فرضتم لهن فريضة، وقيل: نصب على المصدر، وذهب ابن عباس وعمران بن حصين: إلى أن المراد بالآية المتعة، وهو أن ينكح الرجل امرأة إلى - أجل معلوم، فإذا انقضى الأجل أعطاها أجرها، ثم إن أرادها قال لها: زيديني في الأجل أزدك في الأجر، فإن شاءت فعلت وإن شاءت(1/290)
مضت لسبيلها، ولا عدة عليها ولا طلاق ولا ميراث، وأوَّل قولَه:
(وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) .
وقال: إنما نزل فما استمتعتم به منهن إلى أجَل مسمى، قآتوهن أجورهنّ، وعلى قول ابن عباس يقول
الشاعر:
أقول للرَّكْب إذْ طال الثَّوَاء بنا. . . يا صاح هل لك في فُتْيَا ابنِ عباسِ
في بَضّةٍ رَخْصة الأطراف ناعمةٍ. . . تكون مَثْواك حتى مَرجعِ الناس
وهذا بإجماع من المسلمين حرام، وقيل: كان مشروعاً فنسخ.
الغريب: الشافعي - رضي الله عنه - إنه قال: لا أعلم في الإسلام شيئاً
أحل ثم حرم غير المتعة.
وجاء عن علي - كرم الله وجهه - إنكارها على ابن عباس وقال: إنك رجل تائه، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المتعة.
وجاء عن ابن عباس أنه رجع عن قوله بالمتعة.
وعن سعيد بن جبير: قال: قلت لابن عباس ما هذا الذي تقوله للناس
وأنشده البيتين، أقول للركب. . . .، فجزع جزعاً شديداً، فقال والله ما هكذا قلت ولا بهذا أمرت، وما أحللتها إلا لمضطر فإنها عندي كالميتة والدم ولحم الخنزير.
وروي عن ابن عباس أيضاً أنه قال عند موته: اللهم إني أتوب
إليك من قولي في المتعة.
قوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا) .
غنى وسعة، وقيل: نيلاً وقدرة.
(أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ) أي الحرائر.
(فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) أي فلينكح مما ملكت أيمانكم.
فحذف فلينكح، لأن ما قبله وما بعده بدلان عليه.
قوله: (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي كلكم بنو آدم فلا تستنكفوا من نكاح الإماء، وقيل: معناه كلكم مؤمنون.(1/291)
أبو علي: فلينكح بعضكم من بعض.
و (طَوْلًا) نصب ب (يَسْتَطِعْ) ، و (أَنْ يَنْكِحَ) منصوب بقوله (طَوْلًا) لأنه مصدر طال فلان فلاناً إذا غلبه.
وقيل: طولًا لأن ينكح وإلى أن ينكح.
العجيب: قول من قال: تقديره، من لم يستطع منكم أن ينكح
المحصنات عدم طول، فقدم وأخر وأضمر وحذف ونصب طولًا على التمييز.
وهذا بعيد.
الغريب: (طَوْلًا) هوى فيكون المعنى، من لم يستطع أن ينكح حرة لِما
في قلبه من هوى أمة، فله أن ينكح تلك الأمة، وإليه ذهب جماعة.
ومن الغريب أيضاً قول من قال، من لم يستطع، أي من ثقل عليه، كقولك: هل تستطيع أن تفعل كذا أي هل تفعله.
ومنه قوله تعالى (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) ، أي هل يفعل.
قال و (طَوْلًا) نصب على الحال أي فمن ثقل عليه في حال يساره تزوج الحرائر فليتزوج الإماء. حكاه الكرابيسي.
ومن العجيب البعيد قول من قال: المحصنات في الآية العفايف.
(فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) أيمانكم البغايا من الإماء. وهذا بعيد جداً، والآية تدل على أن المراد لمن لم يستطع نكاح الحرائر وخشي العنت أن ينكح من الإماء، وليس فيها ذكر من استطاع، والتخصيص بالذكر لا يدل على أن ما عداه بخلافه.
قوله: (غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ)
أي زواني علانية، وأصله من سفح الماء باطلاً.
(وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) زواني سراً.
وكانت العرب لا تستنكف من ذلك في الجاهلية.
العجيب: كانت لهم في الجاهلية في باب النكاح أمور قبيحة،(1/292)
منها اتخاذ الأخدان، ومنها: أن المرأة كانت تجمع زوجاً وخِلْما، فتجعل للزوج النصف الأسفل، وذلك ممنوع في الخِلْم، وللخلم النصف الأعلى، لا يمنع من تقبيلها وترشفها، وعد ذلك، قال أحد الخلوم لزوج صاحبته:
وَهل لَكَ في البِدال أبا جروبِ. . . فأرضى بالأكارع والعجوبِ
ابن بحر: (وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ) السواحق.
قوله: (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ)
أي عن الزنا، وقيل: عن نكاح الإماء.
(وَأَنْ تَصْبِرُوا) مبتدأ، و (خَيْرٌ لَكُمْ) خبره.
قوله: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) .
اللام " تزاد مع الإرادة والأمر، كقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)
و (يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) و (أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ) .
وقيل: الفعل محمول على معنى المصدر، أي إرادته هذا وأمره
لهذا، وقيل: المفعول محذوف، أي أراد ما أراد ليبين لكم، وأمرت ما أمرت
لأن أكون، فتكون "اللام" للعلة.
وقال الكوفيون: "اللام" بمعنى أن، وذلك أن الإرادة والأمر يقعان على المستقبل دون الماضي وعلم الاستقبال أن، وأنكره البصريون، وأنشدوا:
أردت لكيما لا ترى لى عثرة ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل(1/293)
فدخلت هذه اللام كي، ولو كان بدلْا من "أن" لم يدخلها، لا يجوز
أريد أن كي تجلس.
قوله: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) .
أي لا يصبر عن الجماع.
قول: (كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ) : سبق.
الغريب: الكبائر ما في أول النساء إلى رأس الثلاثين.
العجب: معاصي الله كلها كبائر، الصغيرة والكبيرة يذكران للإضافة.
وتأويل الآية إنْ تجتنبوا أكبر ما تنهون عنه يعني الشرك نكفر عنكم سيئاتكم
أي سائر الذنوب.
ولقوله: (وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ.
فيه وجهان: أحدها: ولكل تركة مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا
موالي، أي ورثة يستحقونها، فيكون "مِمَّا تَرَكَ" صفة للتركة، وفيه ضعف
للإحالة بين الموصوف وصفته، مما يعمل في الموروث، فإن جعلت التقدير
يؤتون مما ترك استقام الكلام.
الثاني: ولكل ميت جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون، أي ممن خلفه، فنكون "مما" صفة لموالي وفيه ضعف، لخروج الأولاد منهم.
الغريب: ولكل وارث جعلنا موالي، أي ورثة فيما ترك الوالدان
والأقربون من المال، فأعطوهم نصيبهم منه، ولا تستبدلوا به فعل الجاهلية
في حرمان النساء والأطفال.
قوله: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ)
أي بالإخاء والحلف والعهد، (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ، أمرهم بالوفاء، ثم نسخ بآية المواريث.
الغريب: عقدت أيمانكم يريد الثلث.(1/294)
العجيب: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) يريد الزوج والزوجة، واليمين اليد
تبدل عند عقد النكاح، كما تدل في البيع.
قوله: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ) .
تقول: الرجل قوام المرأة وقَيمها، قال:
الله بَيني وبين قَيِّمِها. . . يفرُّ مني بِها وأتَّبعُ
قوله: (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ)
يجوز أن يكون (ما) هي الموصولة، ويجوز أن يكون للمصدر، وقراءة أبي جعفر "بِمَا حَفِظَ اللَّهَ" - بفنح هاء الجلالة - (1) أي أمر الله، لا تحتمل المصدر، لأنه يبقى الفعل بلا فاعل.
قوله: (وَاهْجُرُوهُنَّ)
هو من الهجر، أي ليولها ظهره في المضجع ولا يجامعها.
وقيل: يهجر فراشها.
الغريب: يجامعها ولا يتكلم معها، وذلك مما يغيظها.
ومن الغريب: الحسن: قولوا لهن هجراً.
العجيب: ابن جرير: ليست من الهِجْران ولا من الهُجْر، إنما هو من
الهِجار، وهو حبل تشد به رجل البعير: أأي تشد رجلها، ليقهرها على
الجماع عند النشور. وأنكره ابن عيسى وقال: هذا تصف.
قوله: (إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا)
الضميران يحتملان أربعة أوجه:
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) الآية 34 فأبو جعفر بفتح هاء الجلالة وما موصولة أو نكرة موصوفة وفي حفظ ضمير يعود إليها على تقدير مضاف إذ الذات المقدسة لا يحفظها أحد أي بالبر الذي أو بشيء حفظ حق الله أو دينه أو أمره ومنه الحديث أحفظ الله يحفظك والباقون بالرفع وما إما مصدرية أو موصولة أي بحفظ الله إياهن أو بالذي حفظه الله لهن.
اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 241) .(1/295)
قوله: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) .
القرابة في النسب، القريب منك داراً، وقيل: المسلم. و "وَالْجَارِ الْجُنُبِ" البعيد في النسب، وقيل: البعيد داراً، فقد جاء عن النبي البعيد داراً، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ألا إن أربعين داراً جوار"
وقيل: غير المسلم. والصاحب بالجنب قيل الرفيق في الطريق، وقيل:
المرأة، وقيل: من يحل بك حاجته.
وابن السبيل، هو المسافر، وقيل: الضيف.
الغريب: هوالذي يريد سفراً ولا يجد نفقة، وفيه ضعف، لأنه ما لم يسافر لا يسمى ابن السبيل.
العجيب: قال سهل: الجار ذي القربى القلب، والجار الجنب النفس
والصاحب بالجنب، العمل وابن السبيل: الجوارح.
قوله: (وَأَعْتَدْنَا) .
هيأنا، من العتيد، وهو الحاضر.
الغريب: أصله، أعددنا قلب الدال تاء.
قوله: (رِئَاءَ النَّاسِ) .
مفعول له، وقيل: حال عن الذين ينفقون، فلا يجوز حينئذٍ أن يكون
(وَلَا يُؤْمِنُونَ) عطفاً على (يُنْفِقُونَ) لإحالتك بين الصلة والمعطوف
عليها بحال الموصول، فإن جعلته حالًا من الضمير في (يُنْفِقُونَ) لم يمتنع.
قوله: (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) زنة نملة صغيرة.(1/296)
العجيب: يزيد بن هارون، الذرة النملة الحمراء، ليس لها وزن.
لعله أراد إذا وزن واحدة منها، وأما الكثير فلا، وقيل: مثقال ذرة: رأس
نملة، وقيل: الذرة: ما يقع في الكوة عند الشمس.
الغريب: الذرة، الخردلة، الحسن: ميزان الآخرة يثقل بالذرة والخردلة.
قود: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ) .
من باب القلب، لأنهم ودوا أن يصيروا مثل الأرض، لا أن تصير
الأرض مثلهم.
قوله: (وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا)
متصل بالتمني. أي بعد ما نطقت جوارحهم، وقيل: هو استئناف.
قوله: (لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) .
أي لا تصلوا، وقيل: موضع الصلاة، (وَأَنْتُمْ سُكَارَى) حال، يريد
من الخمر.
الغريب: من النوم.
والعجيب: من البول، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلين أحدكم وهو زَناء ". أي حاقن بوزن جبان.
(وَلَا جُنُبًا) عطف على الحال.
(إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ) نصب على الحال، والمعنى: مسافرين.
ومن حمل الصلاة على مواضع الصلاة: قال: إلا مجتازين.
(حَتَّى تَغْتَسِلُوا) أي من الجنابة، وفي التقدم مقدم، معناه(1/297)
ولا جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل.
قوله: (صَعِيدًا) ، هو وجه الأرض: وقيل: هو التراب.
الغريب: ابن علية: يجوز التيمم بالمسك والزعفران.
العجيب: الأوزاعي يجوز بالثلج.
قوله: (طَيِّبًا) أي طاهراً، وقيل: مجرداً عن لطخ.
الغريب: (طَيِّبًا) حلالاً، وقيل: تراب الحرث.
قوله: (وَأَيْدِيكُمْ) إلى المرافق كما في الوضوء.
الغريب: عمار بن ياسر، إلى الزندين، كما في السرقة.
العجيب: الزهري، إلى المنكبين، والتيمم من الحدث والجنابة
واحد.
العجيب: لا تيمم للجنب، عن عمر وابن مسعود والنخعي.
قوله: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) .
أي قوم يحرفون، فحذف الموصوف، وفيه كلام.(1/298)
الغريب: متعلق بقوله: (نَصِيرًا) ، كقوله: (فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ) .
ومن الغريب: إنه صفة للذين أوتوا نصيبا من الكتاب.
العجيب: قال الفراء: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ) ، لأنه لا يجوز
حذف الموصول وإقامة الصلة مقامه.
قوله: (غَيْرَ مُسْمَعٍ)
كانوا يقولونه ذما له، والمعنى: اسمع لا سمعت، وقيل: اسمع أهمل الله سمعك، وقيل: اسمع غير مجاب إلى ما تدعو.
الغريب: اسمع أماتك الله، لأن الميت لا يسمع.
العجيب: هذا ثناء من قول العرب: أسمعته القبيح.
قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) .
قوله: (لِمَنْ يَشَاءُ) لا تخرجه عن العموم، كما في قوله (يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ)
فإن الرزق عام.
الغريب: الفعل في قوله (يَشَاءُ) لمن أي من يَشَاءُ أن يغفر له الله بأن
يتوب ويستغفر.
سؤال: لمَ ختم هذه الآية بقوله: (فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)
وختم قوله في الآية الثانية: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) بقوله: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) ؟
الجواب: لأن الآية الأولى في اليهود، وهم عرفوا صحة نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - من التوراة، فكذبوا وافتروا على الله ما لم يكن في كتابهم.
والثانية: نزلت في مشركي العرب، ولم يكن عندهم كتاب فيرجعوا(1/299)
إليه، فكان ضلالهم أشد وبعدهم عن الرشاد أتم، وإن كانوا كلهم ضلالاَ
مفترين.
قوله: (بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) .
سبق بيانه في "لباب التفاسير".
الغريب: الجبت، الجِبْس، وهو الذي لا خير فيه، قلبت السين
تاء. والجبت مهمل.
ومن الغريب: الجبت رئيس اليهود، والطاغوت رئيس النصارى
وهذا قريب من قول ابن عباس، الجبت: حيي بن أخطب.
والطاغوت: كعب بن الأشرف.
العجيب: الجبت، الهوى، والطاغوت، النفس الأمارة بالسوء، ومن
العجيب جداً: ما حكاه النقاش: الجبت، مأخوذ من الاجتباء، ومنه حيَّاه
وبيَّاه، وهذا فيه ضعف، لقوله: (مَا يُبَيِّتُونَ) .
قوله: (غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ) .
التاء لتأنيث الطائفة، ويجوز أن يكون الخطاب لنبي - صلى الله عليه وسلم - أي تقول أنت وتأمر.
قوله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) .
التدبر، تصرف القلب بالنظر في العواقب. والتفكير، تصرف القلب
بالنظر في الدلائل.
والمعنى: هلا تأملوا في تفسيره وتدبروا في تأويله وتفكروا في حججه ودلائله، فيُقِرُّوا بعجزهم عن الإتيان بمثله، أو بعشر سور مثله أو بسورة مثله، إنه كلام رب العالمين. وهذا يبطل قول من زعم من الرافضة: أن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول - عليه السلام - أو تسفير الإمام.(1/300)
قوله: (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)
الاختلاف على وجهين:
اختلاف تناقض، وهو ما يدعو فيه أحد الشيئين إلى خلاف الآخر، كما زعم
بعض الملحدة في بعض من الآيات، وستأتي في مواضعها مبيناً لا تناقض فيه
ولا تباين - بحمد الله تعالى -.
واختلاف تلازم، وهو ما يوافق الجانبين، كاختلاف وجوه القراءات ومقادير السور والآيات، واختلاف الأحكام من الناسخ والمنسوخ والأمر والنهي والوعد والوعيد.
قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) .
أي لولا لطفه ومنته، وقيل: لولا محمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن (إِلَّا قَلِيلًا)
استثناء من الضمير في "اتَّبَعْتُمُ"، إلا قليلًا ممن هُدي للاسلام قبل محمد
والقرآن من طلاب الدين، كزيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل وغيرهما.
وقيل: اذاعوا به إلا قليلاً، لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ إلا قليلاً.
العجيب: يمكن أن يحمل الاستثناء على كل ضمير جمع سبق في
الآية، نحو قوله ولما جاءهم إلا قليلاً لم يجئه حيث لم يقصدوا بالإخبار.
وكذلك سألوا ما في الآية.
قوله: (حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ) هي الإسلام.
الغريب: التحية، العطية والهبة، أي كافئوا بمثلها أو أكبر منها
ليقطع حق الرجوع، وإلا فله أن يرجع فيها إذا كان الموهوب أجنبيا.
قوله: (حَسِيبًا) قيل: فعيل بمعنى فاعل أي حافظاً، وقيل بمعنى
مفاعل، أي مجازياً.
العجيب: فعيل بمعنى مُفعِل أي كافيا من أحسبني الشيء، أي كفاني
و"على" تدفع هذا.(1/301)
قوله: (فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ)
نصب على الحال، وذو الحال الضمير في "لكم" والعامل في الحال ما
تضمنته اللام من معنى الفعل، أي ثبت لكم في هذه الحالة، ومثله مهطعين
ومعرضين.
الفراء: ما لك قائما، والقائم، وقاسه على باب كان وظننت.
قال ومثله ما بالك قائما، وما شأنك جالسا، ولا يجوز عند البصريين نصبه.
إذا كان معرفة.
قوله: (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) .
محله نصب على الحال، و "قد" مقدرة معه، تقويه قراءة يعقوب (1)
وقيل: بدل من "جاؤكم"، وقيل: محله نصب لنكرة محذوفة أي جاءكم قوم
حصرت صدورهم.
الغريب: محلها جر صفة لقوله "قوم".
العجبب: لا محل لها من الإعراب، وهي استئناف دعاء عليهم.
وفيه ضعف، لأنه يصير دعاء لهم، لقوله أو يقاتلوا قومهم.
قوله: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) .
قيل: نفي ومعناه النهي، وأفاد دخول كان أن هذا لم يزل هكذا.
وقيل: ما كان فيما أمر الله عباده به، والاستثناء منقطع، أي لكن إن قتله خطأ فجزاؤه، ما ذكر، وقيل: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا) فلا يقتص إِلَّا خَطَأً.
الغريب: صاحب النظم، تقديره ما كان مؤمن ليقتل مؤمنا.
قال: والاستثناء من النفي إثبات، ويكون (إِلَّا خَطَأً) إثبات خبر لا إطلاقاً، وقيل الخطأ في المقتول هل هو مؤمن أو لا، لا في نفس الفعل.
العجيب: قتل المؤمن المؤمن يخرجه عن كونه مؤمناً، إلا أن يكون
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) الآية 90 فيعقوب بنصب التاء منونة على الحال (حَصِرَةً) بوزن تبعة وافقه الحسن والباقون بسكون التاء فعلا ماضيا على أصله في الوقف بالهاء فيما رسم بالتاء وافقه الحسن.
اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 244) .(1/302)
خطأ، فيكون الاستثناء صحيحا، وهذا ضعيف، وليس بالمذهب.
ومن العجيب: معنى (إِلَّا خَطَأً) ولا خطأ أي لا عمداً ولا خطأ.
قوله: (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)
قيل: منسوخ بآية الفرفان، وقيل: ذلك منسوخ بهذا، والصحيح، أنهما ثابتان، لأن النسخ لا يدخل الخبر، وقيل: مؤمنا متعمدا أي معتقدا جواز قتله، لأنه يصير مرتداً.
والأكثرون على أنه نزل في مقيس بن ضبابة، وذلك أنه وجد أخاه هشام
مقتولا في بني النجار، وكان مسلماً، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معه رسولاً من بني فهر، وقال: ائت بني النجار وأقرئهم السلام وقل لهم: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمركم إن علمتم قاتل هشام أن
تدفعوه إلى أخيه فيقتص منه، وإن لم تعلموا له قاتلاً أن تدفعوا إليه ديته.
فأبلغهم الفهريُّ ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا سمعاً لرسول الله وطاعة والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي الدية، فأعطوه مائة من الإبل، ثم انصرفا راجعين إلى المدينة، فأتاه الشيطان فوسوس إليه، أي شيء فعلت، أخذت دية أخيك، فتكون مسبة عليك، اقتل الفهري فتكون نفس مكان نفس والدية فضل فرمى الفهري بصخرة فشدخ رأسه، ثم ركب بعيراً وساق بقيتها راجعا إلى مكة يقول في طريقه:
قَتَلْتُ بِهِ فِهْراً وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ. . . سراةَ بني النَّجَّارِ أربابَ فَارِعِ
حَللْتُ بِهِ وِتْرِي وأدْرَكْتُ ثورتي. . . وكنتُ إلى الأوثانِ أَوَّلَ راجِعِ
، فنزلت فيه هذه الآية، وقيل: (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) إلا أن يتوب، وقيل:
(فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) ، أي جازاه.
الغريب: ومن يقتل موْمنا لإيمانه كقوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)(1/303)
أي لسرقتهما، وكذلك (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) أي لزناهما.
العجيب: عن أبي عمرو بن العلاء قال: ترك الوعيد كرم وترك الوعد
خلف وأنشد:
وإنِّي مَتَى أوعدته أو وعدته. . .
لَمُخْلِف إيعادي وَمُنْجِزُ مَوْعِدي
قوله: (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)
(خَالِدًا) حال من الهاء، والعامل فيه فعل مقدر، أي يجزيه خالداً، ولا يعمل فيه المصدر، لأنك قد أحلت بينه وبين المصدر بخبر
المبتدأ وهو جهنم، وذلك لا يجوز.
قوله: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ. . . .. وَالْمُجَاهِدُونَ) .
العجيب: نزلت هكذا، فقال ابن أم مكتوم: وكيف وأنا أعمى، فأنزل الله
(غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) وقرىء "غَيْرُ" بالرفع والنصب، وقرىء في الشواذ
بالجر.
والنصب على الاستثناء، وقيل: على الحال، والرفع على الصفة، وقيل: على البدل، وقيل: على الاستثناء من النفي والجر على صفة المؤمنين، وقيل: على البدل.
قوله: (دَرَجَةً) ، سؤال: لمَ قال في الآية الأولى (دَرَجَةً) وفي الثانية (دَرَجَاتٍ) ؟
الجواب: قيل: لأن الأولى في الدنيا وهي الغنيمة، والثانية في الجنة.
وقيل: الأولى بالمنزلة، والثانية بالمنزل وهو الجنة ودرجاتها.
الغريب: لأن الأولى على القاعدين بعذر، والثانية على القاعدين بغير عذر.
ونصب درجات لأنه بدل من قوله: (أَجْرًا عَظِيمًا) ، أي أجر درجات، وقوله: (وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً)
أي غفر لهم مغفرة ورحمهم رحمة فحذف فعلاهما اكتفاء بالمصدر.
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ) .
يجوز أن يكون ماضياً ويجوز أن يكون مستقبلاً حذف إحدى تاءيه، بدليل قراءة
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) الآية 95 فابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة ويعقوب برفع الراء على البدل من (القاعدون) أو الصفة له وافقهم اليزيدي والحسن والأعمش والباقون بنصبها على الاستثناء أو الحال من القاعدون. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 245) .(1/304)
ابن كثير بالإدعام، وخبر "إن" (فِيمَ كُنْتُمْ) : وقيل: خبره (فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) .
قوله: (فِيمَ كُنْتُمْ) ، أصله: فيما، و "مَا" الاستفهام إذا دخل عليه حرف جر
حذف ألفه للفرق بينه وبين الموصولة.
(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) .
استثناء من "الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ"، وقيل: من "مَأْوَاهُمْ" (لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ) حالان من "الْمُسْتَضْعَفِينَ".
قوله: (إِنْ خِفْتُمْ) .
الجمهور على أنه صلاة السر، وكان الغالب في ذلك الوقت الخوف، فنزل
مشروطا بالخوف، ثم صار عاما، وقيل: هذا شرط غير معتبر، كما في قوله: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) ، وقوله: (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) .
الغريب: تم الكلام على قوله (مِنَ الصَّلَاةِ) ثم قال: (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ) شرط، وجزاؤه (إِنَّ الْكَافِرِينَ) ، وتقديره فالخوف في موضعه.
فإنهم أعداؤكم.
العجيب: (إِنْ خِفْتُمْ) متصل بقوله: (وإذا كنت فيهم)
وهي صلاة الخوف.
ومن العجيب: (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) ، نزلت في صلاة الخوف، قال:
وليس في هذه الآيات ذكر صلاة السفر.
قوله: (فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) أي وطائفة تجاه العدو.
قوله: (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ)
أمر للطائفة التي تجاه العدو، وقيل: أمر للجميع، فيأخذ المصلي سيفا أو سكيناً.(1/305)
قوله: (أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ) ، أي في أن تضعوا، فهو في محل خفض
عند الخليل، ونصب عند سيبويه.
قوله: (وَعَلَى جُنُوبِكُمْ)
حال عطف على الحال قبله أي مضطجعين.
قوله: (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ) ، أي تؤملون.
الغريب: تخافون، وأنكره الفراء: وقال: إنما ذلك في النفي
قوله: (بِالْحَقِّ) .
الباء، للحال أي محقاً، لأن أنزلنا قد استوفى مفعوليه منصوباً ومجروراً.
قوله: (مِنْ نَجْوَاهُمْ) .
من مسارَّتهم، فهو مصدر، وقيل: جمع.
الغريب: ابن سماعة، لا تكون النجوى إلا من ثلاثة.
وقوله، (إِلَّا مَنْ)
إن جعلت (نجوى) جمعاً فـ "مَن" في محل جر، أي إلا ممن أمر، وإن جعلت (نجوى) مصدرا، جاز أن يكون جراً أيضاً، أي إلا نجوى من أمر ويجوز أن يكون محله نصباً على أصل الاستثناء، أو على الاستثناء المنقطع، ويجوز أن يكون ذلك رفعاً كما روى:
731، إلا الأواريُّ. . . . . ..
بالرفع.(1/306)
قوله: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ) .
سؤال: لِمَ أظهر يشاقق في هذه السورة، وفي الأنفال، وأدغمه في الحشر؟
الجواب: إذا تحرك الثاني من المثلين بحركة لازمةٍ لا يجوز إظهاره
في باب المضاعف، ألا ترى أنك تقول: أرددتم لا يجوز أرددا، وأرددوا.
وأرددي لأنها، تحركت بحركة لازمة، والحركة في قوله: (وَمَنْ يُشَاقِقِ)
وإن كانت لالتقاء الساكنين حركة لازمة، لأن الألف واللام في اسم الله
سبحانه - لازم، وليست كذلك في الرسول، وأما في الأنفال، فلوقوع
"ورسوله" في العطف لم يكن لازما، لأن التقدير فيه، أن القاف اتصل بهما
جميعا، فإن الواو توجب ذلك.
قوله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) .
أي ليس الثواب بِأَمَانِيِّكُمْ.
قوله: (مِنَ الصَّالِحَاتِ) صفة للمفعول، أي شيئاً من الصالحات.
قوله: (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى)
حال من يعمل أو من الضمير في يعمل.
قوله: (وَمَا يُتْلَى) .
محله رفع عطفاً على اسم الله، وأجاز فيه الكوفيون الجر عطفاً على
الضمير في "فِيهِنَّ" على أصلهم في جواز العطف على ضمير المجرور.
قوله: (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ)
جر عطفاً على اليتامى، وكذلك (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى) ، وقيل: "وَأَنْ تَقُومُوا" مبتدأ خبره "خير لكم" فحذف.(1/307)
قوله: (أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) (1) .
أي في أن يصلحا، وقرىء: "يصالحا" بالوجهين، بضم الياء من
أصلح، تقول: أصلح الرجلان بينهما، وبالفتح والتشديد من تصالح، والأكثر فيه أن يقال تصالح الرجلان من غير لفظ بين، و (صُلْحًا) نصب على المصدر في القراءتين، وله وجهان:
أحدهما: أنه أقيم مرة مقام إصلاح، ومرة مقام تصالح، كما يقام مصدر أصل مقام مصدر أصل آخر إذا اشتركا في أصل التركيب.
والثاني: أن فعله مقدر معه، أي فيصلح الأمر صلحا.
كقوله: (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) .
وذهب أبو علي في الحجة أن (صُلْحًا)
مفعول به قال: كما تقول: أصلحت ثوباً، وقال: تفاعل قد جاء متعدياً.
وأنشد في الآية وفي قوله: (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا) ، أبياتاً منها قول امرىء
القيس:
ومثلكِ بيضاءَ العوارضِ طَفلةٌ
لَعوبٌ تناساني إذا قمتُ سربالي
أي تنسيني.
الغريب: يحتمل أن يكون بينهما المفعول به أن يصلحا فراقهما.
وصلحا نصب على المصدر، وكذلك في القراءة الأخرى.
قوله: (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ) .
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (أن يصلحا) الآية 128 فعاصم وحمزة والكسائي وخلف بضم الياء وإسكان الصاد وكسر اللام من غير ألف من أصلح وافقهم الأعمش والباقون بفتح الياء والصاد مشددة وبألف بعدهما وفتح اللام على أن أصلها يتصالحا فأبدلت التاء صادا وأدغمت. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 246) .(1/308)
الجمهور: دين الله، وقيل: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقيل -
الخِصاء والوجاء.
الغريب: خضاب الئيب.
العجيب: اللواط والححاق.
قوله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) .
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) .
وقال في سورة المائدة: (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) .
الجواب: (بِالْقِسْطِ)
متعلق في السورتين بـ "قَوَّامِينَ" وفعله يتعدى إلى المفعول بالباء
و"شُهَدَاءَ" يجوز أن يكونَ حالا من الضمير في "قَوَّامِينَ"، ويجوز أن يكون خبراً ثانيا لـ "كان"، ويجوز أن يكون صفة لـ "قَوَّامِينَ"، و"الله" في هذه السورة متعلق بالشهادة، وهي المراد من الآية بدليل قوله: (وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) ، اشهدوا لله لا للميل إلى الأقربين.
والله" في المائدة متعلق ب "قَوَّامِينَ"، والخطاب للولاة بدليل قوله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) ، أي كونوا قوامين لله لا لنفع، فإنكم شهداء على الناس، كقوله (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) .
قوله: (بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) .
رأيت يأتي على ثلاثة أوجه:
أحدها: من رؤية العين.
والثاني: من الاعتقاد، تقول: هذا رأي فلان، أي معتقدُهُ.
والثالث: من العلم. ثم إن الأول والثاني يتعديان إلى مفعول واحد، فإذا عديته بالألف تعدى إلى مفعولين نحو أريت زيداً الهلال وأريت زيداً مذهب السُنةِ.
وأما الثالث، الذي بمعنى العلم فمتعدٍ إلى مفعولين، وبالألف يتعدى إلى ثلاثة(1/309)
نحو أريتُ زيداً عمرا فاضلا.
والتي في هذه الآية من الاعتقاد، وتقديره أراكه الله، فالكاف المفعول الأول، والهاء الثاني، فحذف.
قوله: (أَوْلَى بِهِمَا) .
ثُنيَ الضمير معَ أو، لأن تقدير الآية إن يكن المشهود عليه، غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا، فالله أَولى بالغني والفقير، وليس التقدير أولى بالمشهود له أو عليه.
(مُذَبْذَبِينَ) (1) : حال.
قوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) الآية.
قيل: المنافق شر من الكافرِ المصرِحِ، لأن الله تعالى لم يشترط للكافر
ما اشترط للمفافق من التوبة والإصلاح والاعتصام والإخلاص، كما قال:
(فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ، ولم يقل هم المؤمنون، ثم قال: (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ) ولم يقل يؤتيهم، وسوَّف جزاء المؤمنين لانضمام المناففين إليهم.
قوله: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ) .
استفهام تقرير.
الغريب: "مَا" للنفي.
قوله: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا) .
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا)
وقال في الأحزاب (إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا) ؟
الجواب: لأن في هذه السورة وقع في مقابلة السوء المذكور في قوله:
(لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ)
فاقضت المقابلةُ أن يكون بإزاء السوءِ الخيرُ.
وأما في الأحزاب، وبعد قوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ) ، فاقتضى العموم و"شيء" من أعم العموم.
قوله: (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) .
__________
(1) ذكر تفسير هذه الآية بعد قوله تعالى في حق عيسى - عليه السلام - (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا) ، فتم وضعها هنا مراعاةً لترتيب آيات السورة الكريمة.(1/310)
محله رفع على البدل من المضمر الذي هو فاعل الجهر بالسوء من
القول، وقيل: نصب على الاستثناء المنقطع.
قوله: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ) .
أي فَبِنَقْضِهِمْ، و "مَا" صلة، والمعنى: فَبِنَقْضِهِمْ الفظيع.
الغريب: هو جار مجرى حقا، أي فبما نقضهم ميثاقهم حقا.
العجيب: "مَا" نكرة، ومحله جر "نَقْضِهِمْ" بدل منه و "الباء" متصل
بمضمر، أي لعناهم، وقيل: متصل بقوله: (حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ) .
قوله: (فَبِظُلْمٍ) بدَل من (فَبِمَا نَقْضِهِمْ) .
قوله: (عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ) ، أي بزعمه.
الغريب: (رَسُولَ اللَّهِ) من كلام الله يريد أعني رسول الله.
قوله: (إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) استثناء منقطع.
قوله: (وَمَا قَتَلُوهُ)
"الهاء" تعد إلى عيسى.
الغريب: يعود إلى العلم، تقول العرب: قتلت الشيء علما، إذا
استقصى نظره فيه، وأنشد.
كَذَاكَ تُخبر عنهَا العالماتِ بها
وَقد قَتلت بعلميَ ذَاكم يَقنا
قوله: (يَقِينًا)
صفة للمصدر، أي قتلا يَقِينًا.
الغريب: فيه تقديم، والتقدير بل رفعه الله إليه يَقِينًا.
(وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) أي شُبِّهَ عيسى.
الغريب: شُبِّهَ الخَبر بقتلِهِ.(1/311)
في حديت غيره غير القرآن.
الغريب: غير الكفر والاستهزاء.
(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) . أي أحد.
(إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) قوله " (بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) ، قيل: "بِهِ" تعود إلى عيسى: وقيل: إلى الله، وقيل: إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -
و (مَوْتِهِ) تعود إلى الكتابي وقيل: كلاهما يعود إلى عيسى، وذلك بعد نزوله من السماء.
قوله: (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ) .
قيل: محله جر عطفاً على "مَا" أي يؤمن بالقرآن وسائر الكتب
وبالمقيمين الصلاة، أي بالمؤمنين، فيصير مثل قوله: (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) .
والجمهور على نصب على المدح لأن العرب إذا أرادت المبالغة
في الذم أو المدح عدلت عن إعراب الاسم الأول إلى النصب بإضمار (أعني) ، أو إلى الرفع بإضمار (هو) ، وهذا إنما يصح فيمن جعل الخبر (يُؤْمِنُونَ) .
ومن جعل الخبر (أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ) لا يجوز أن ينصب على المدح، لأن
المدح والذم إنما يكون بعد تمام الكلام.
الغريب: عطف على الكاف، أي قبلك، وقيل: المقيمين، وهذا على
مذهب الكوفيين.
العجيب: قول من قال: هذا غلط من الكاتب، لأن كتاب الله منزه(1/312)
عن مثل ذلك، ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - عن آخرهم لم يكونوا
يرضون به لو كان غلطا.
(فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ) .
أي إيمانا خيراً لكم، وقيل: وأتُوا خيراً لكم، وقيل: آمنوا الإيمان خيرا
لكم. فهو حال من مصدر مقدر وهو الغريب (1) .
والعجيب: قول من قال: ليكون الإيمان خيراً لكم، ولا يجوز عند
البصريين، إضمار كان واسم كان، لا يجوز زيداً المقتول، أي كن زيداً المقتول.
قوله: (وَرُوحٌ مِنْهُ) صفة لعيسى.
الغريب: (وَرُوحٌ) جبريل، قال: وهو عطف على الضمير في " ألقَاهَا".
قوله: (وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) أي من رحمتِهِ.
الغريب: استدل قوم بهذه الآية على: أن الملائكة خير من الإنس كلهم، وقالوا: هذا كما تقول: هذا لا يعرف زيداً ولا شيخه، فقد فضلت
شيخه عليه.
الجواب هذا إذا لم تقدم ذكر شيخه، أما إذا تقدم فلا، وقد
تقدم ذكر الملائكة في قولهم "الملائكة بنات الله " و "عيسى ابن الله"
فأجاب الله (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ، وجواب آخر: أي ولا الملائكة المقربون بكثرتهم، فتكون لهم المرتبة عليهم بالكثرة لا بالفضل.
قوله: (إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) .
مفعول به، وقيل: حال عن الصراط.
الغريب: ذا صراط، لحذف المضاف، ونصب على الحال من الضمير.
__________
(1) قال السمين:
قوله: {خَيْراً لَّكُمْ} في نصبه أربعة أوجه، أحدها - وهو مذهب الخليل وسيبويه - أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ واجبِ الإِضمار تقديره: وأتوا خيراً لكم، لأنه لَمَّا أمرهم بالإِيمان / فهو يريدُ إخراجَهم من أمر وإدخالَهم فيما هو خيرٌ منه، ولم يذكر الزمخشري غيره قال: «وذلك أنه لمَّا بعثهَم على الإِيمان وعلى الانتهاءِ من التثليث علم أنه يَحْمِلُهم على أمر فقال: خيراً لكم، أي: اقصِدوا وأتوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثلث» . الثاني: - وهو مذهب الفراء- أنه نعت لمصدر محذوف أي: فآمنوا إيماناً خيراً لكم. وفيه نظر، من حيث أنه يُفْهِم أنَّ الإِيمان منقسم إلى خير وغيره، وإلاَّ لم يكنْ لتقييده بالصفةِ فائدةٌ، وقد يُقال: إنه قد يكون لا يقول بمفهوم الصفة، وأيضاً فإن الصفة قد تأتي للتأكيد وغيره ذلك. الثالث: - وهو مذهب الكسائي وأبي عبيد - أنه منصوبٌ على خبرِ «كان» المضمرةِ تقديرُه: يكنِ الإِيمانُ خيراً. وقد ردَّ بعضُهم هذا المذهب بأن «كان» لا تُحْذَف مع اسمها دونَ خبرها إلا فيما لا بد له منه، ويزيد ذلك ضعفاً أنَّ «يكن» المقدرةَ جوابُ شرط محذوف فيصير المحذوفَ الشرطُ وجوابُه، يعني أنَّ التقديرَ: إنْ تؤمنوا يكنِ الإِيمانُ خيراً، فَحَذفْتَ الشرطَ وهو «إنْ تؤمنوا» وجوابَه، وهو «يكن الإِيمان» ، وأبقيتَ معمولَ الجواب وهو «خيراً» وقد يقال: إنه لا يُحتاج إلى إضمار شرطٍ صناعي وإن كان المعنى عليه، لأنَّا نَدَّعي أن الجزم في «يكن» المقدرةِ إنما هو بنفس جملة الأمر التي قبله وهو وقوله: {فَآمِنُواْ} من غير تقدير حرفِ شرط ولا فعلٍ له، وهو الصحيح في الأجوبة الواقعة لأحد الأشياء السبعة، تقول: «قم أكرمْك» ف «أكرمك» جواب مجزوم بنفس «قم» لتضمُّن هذا الطلبِ معنى الشرط من غير تقدير شرط صناعي. الرابع: - والظاهرُ فساده- أنه منصوبٌ على الحال، نقله مكي عن بعض الكوفيين، قال: «وهو بعيد» ونقله أبو البقاء أيضاً ولم يَعْزُه. اهـ (الدر المصون) .(1/313)
قوله: (فِي الْكَلَالَةِ) متعلق ب (يُفْتِيكُمْ) .
الغريب: متعلق بقوله: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ) ويسألونك عن كذا.
قوله: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ)
يرتفع بإضمار فعل، ما بعده يدل عليه، أي إن هلك امرؤ.
وهذا مذهب سيبويه، فيه وفي أمثاله، وأجاز غيره أن يرتفع
بالابتداء.
قوله: (فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) .
الغريب: قد ترث الأخت النصف مع الولد، يعني البنت، ويسمَّى ما بقي.
قوله: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ)
قال الأخفش: وإن كانتا من خَلَّف اثنتين، ومَن بمعنى أختين فثنى حملا على المعنى.
المازني: أفاد العدد مجردا من الصغير والكبير، وكانوا لا يورثون الصغار من الأولاد ولا النساء.
العجيب: قول من قال: هذا على لغة من يقول: أكلوني البراغيث.
لأن ذلك يقتضي أن يكون اثنان بالألف.
قوله: (أَنْ تَضِلُّوا) أي كراهة أن تضلوا، وقيل: أن لا تضلوا.
الغريب: يبين الله لكم الضلال فلا تضلوا، كقوله: (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) .
أصول الفرانض ثمانية عشر، اثنا عشر أصلا في أول السورة، وأربعة
في آخر السورة، واثنان منها بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - العَصبةُ وفريضة الجَدة، وقيل: التاسع عشر قوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) .(1/314)
سورة المائدة
قوله: (بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ) .
البهيمة: كل حي لا يُمَيِّز، وأضافها إلى الأنعام من باب إضافة الشيء
إلى جنسه، كثوبِ خزٍ.
الغريب: البهيمة، زائدة، والقدير: أُحِلَّتْ لَكُمْ الْأَنْعَامِ.
وقيل: البهيمة: الوحش.
العجيب: بهيمة الأنعام: الجنين إن خرج ميتاً أكل.
قوله: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ)
حال عن الضمير في (أوفُوا) ، وقيل: حال عن الضمير في "لكم".
الغريب: نصب على الاستثناء، أي إلا محلي الصيد.
قوله: (وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) حال عن الحال.
قوله: (وَلَا الْقَلَائِدَ) .
المضاف محذوف، أي ولا أصحاب القلائد، وقيل: ولا ذوات
القلائد.
الغريب: نهوا عن نزع لحاء شجر الحرم، وكانوا يقلدون الهدي
بذلك.
العجيب: هي الْقَلَائِد نفسها من حذاء أو نعل، لأن ذكر الهدي قد(1/315)
تقدم والمعنى: لا تحقروا من شعائر الله حتى النعل أو الجلد يقلد به
الهدي.
قوله: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ) .
أي لا يحملنكم، تقول جرمني على هذا، أي حملني.
وقيل: لا يكْسِبنكم، والجريمة الكاسث.
الغريب: الأخفش، لا يَحِقَّنَّ لكم من قوله: (لا جَرَمَ) أي حقاً.
قوله: (شَنَآنُ) - بالفتح - مصدر، ومعناه البغض، (شَنْآنُ) - بالسكون -
اسم ومعناه البغيض.
الغريب: (شَنْآنُ) - بالسكون - مصدر أيضاً كَاللَيَّان، ويكون متعدياً
كقوله: (إِنَّ شَانِئَكَ) .
قوله: (أَنْ صَدُّوكُمْ) ، - بالفتح - ظاهر، أي لأن. والكسر غريب
وجهه، لأن هذا أمر كان قد وقع، والشرط لا يكون إلا في المستقبل.
ووجهه أن يقال: معناه، إن داموا على هذا، أو إن يقع مثل هذا.
قال الشاعر:
إذا ما انْتَسَبْنا لم تَلِدْني لئيمةٌ. . . ولم تجدي من أن تقري به بُدَّا(1/316)
أي لم تجديني مولود لئيمة، ومثله:
أتغفب أن اذنا قتيبةَ جُرتا
أتغضَبُ إنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّنا. . . جِهاراً ولمْ تَغْضَبْ لِقتْلِ ابن حازم
قوله: (النَّطِيحَةُ) .
فعيل، بمعنى مفعول، وكان القياس أن لا يدخلها الهاء كـ "كف
خضيب وعن كحيل".
ولها وجهان: أحدهما:
أن النَّطِيحَة اسم، والهاء تحذف منه إذا كان وصفا.
والثاني: إذا فصلت الوصف عن الموصوف، أنثته، نحو خضيبة وكحيلة إذا لم يذكر معها الكف والعين.
الغريب: النَّطِيحَة، فعيل، بمعنى فاعل، أي نطحت حتى هلكت.
قوله: (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ) أي منه.
قوله: (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ)
هو استفعال من القِسم - بالكسر -
وهو النصيب، أي تطلبوا ما قسم لكم.
الغريب: هو استفعال من القَسَم، أي اليمين، أي حرم عليكم أن
تلزموا أنفسكم ما خرج به الأزلام.
قوله: (بِالْأَزْلَامِ) ، هي سام ثلاثة مكتوب على واحد منها، أمرني
ربي، وعلى واحد، َ نهاني، والثالث، غُفْل، فإذا أرادوا أمرا له خطر.
أجالوها، فإن خرج أمرني ربي، لم يكن له بد من فعله، وإن خرج، نهاني
لم يكن له بد من تركه، وإن خرج الغفل، أجالها ثانياً. وقيل: الأزلام.
الجزور وهي عشرة.(1/317)
الغريب: مجاهد: هي كعاب فارس والروم يظ مرون بها.
الغريب: سفيان بن وكيع، الشطرنج.
العجيب: سعيد بن جبير: هي خصَيات يستقسمونَ بها) . (.
قوله: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ) .
شرط، ومحل من رفع بالابتداء.
(غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) حال، وفيه إضمار، تقديره، فأكل منها. (فَإِنَّ اللَّهَ) جزاء الشرط، وخبر المبتدأ، والعائد محذوف، أي: فإن الله غفور يغفر له رحيم يرحمه.
قوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) .
محله رفع بالابتداء والخبر، ولم يعمل فيه (يَسْأَلُونَكَ) ، لأنه استفهام لا
يعمل فيه ما قبله.
قوله: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ)
أي وصيد ما علمتم، فحذف المضاف.
قوله: (مِنَ الْجَوَارِحِ) جمع جارحة، وهي الكاسبة.
الغريب: قال محمد بن الحسن: من الجراحة، فإن صاد ولم يجرح
بناب، أو مخلب أو كسر فمات لا يحل أكله.
قوله: (مُكَلِّبِينَ)
أي معلمين إياه الصيد، وقيل: معنى مكلبين مضَرِّين، من التضرية، وهي الحث والحمل على الصيد.
الغريب: ابن عمر والضحاك ومجاهد: لا يحل ما صيد بغير الكلب(1/318)
من الفهد والبازي، وغيرهما، لقوله: (مُكَلِّبِينَ) ، وقوله: (وما غئمتم)
محله رفع على العطف.
الغريب: "مَا" للشرط، فكلوا "جزاؤها.
قوله: (مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)
من زائدة، وقيل: للتبعيض، أي ما يمكن أكْلُه منه.
قوله: (اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ)
أي على الإرسال، وقيل: على الأكل.
الغريب: الحسن، لا يجوز أكل ما صاده كلب المجوس، وإن أرسله
مسلم.
قوله: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) .
أي ذبائحهم، لأن سائر الطعام كالخبز والجبن والدهن، لا يختلف
حكمه بأن عمله مسلم أو كتابي أو مجوسي.
قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ) أي بالمؤمن به.
الغريب: برب الإيمان، وقيل: محمد - صلى الله عليه وسلم.
قوله: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) .
أي إذا أردتم القيام إليها وعزمتم عليها، وقيل: قمتم من النوم.
العجيب: إذا قمتم من الطعام، وغدا على قول من قال: الوضوء مما
مسته النار.
العجيب: إذا قمتم إلى الطهارة، فسماها صلاة لأنها بها تتم.
وقيل: إذا قمتم محدثين.
العجيب: إجراؤه على الظاهر، كما روي أن عمر
وعليا كانا يتوضآن لكلِ صلاة، وذلك محمول منهما على ندب أو
استحباب.
قوله (فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)
أي خاسر في الآخرة(1/319)
من الخاسرين، ولا يتعلق في (الْخَاسِرِينَ) لمكان الألف واللام.
الغريب: قيل: إذا لم يحمل الألف واللام على معنى الذين، جاز أن
تعمل فيما قبله.
قوله (فَاغْسِلُوا)
الفاء جواب الشرط، ولا يلزم تقديم الغسل على المسح لما عطف بالواو، لأن "الفاء" دخلهما معاً، والغسل، إمرار الماء على العضو.
الغريب: مالك الدلك فرض.
الغريب: قال أبو يوسف: يجوز الاقتصار على مسح بالماء والدهن.
العجيب: ابن عمر: يجب إيصال الماء إلى داخل العين.
قوله: (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)
اليد عبارة عن طرف الأصابع إلى المنكب، فدخل فيه المرفق، وأفاد "إلى" إخراج ما وراء المرفق من الغسل.
الغريب: قال زفر: لا يدخل المرفق في الغسل.
العجيب: قول أكثرهم: إن "إلى" بمعنى "مع" كقولهم: الذود إلى
الذود إبل، لأن "إلى" يأتي لمعنيين، لبيان الحد في انتهاء الغاية، ويأتي
بمعى مع، وإذا حمل على معنى، بطل منه المعنى الآخر، فيلزم في الآية
كل العضد، كما لو قال: وأيديكم مع المرافق.
قوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ)
الباء زائدة.
الغريب: قال علي بن كيسان: أفاد الباء التبعيض، كما إذا قلت:
أخذت زمام الناقة، أفاد أنك أخذت طرفاً منه، وهو ضعيف، لأن أخذت
الزمام لا يدل على وصول مواضع قدرك إليه، ومع "الباء" يدل عليه.(1/320)
قوله: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)
الواو للعطف، وهو لا يقتضي الترتيب
بإجماع من أهل العربية، لدلائل جمة:
أحدها: أن الواو في الأسماء المتغايرة يجري مجرى التثنية، والجمعِ في الأسماء المتماثلة، وأنهما لا بدلان على الترتيب كذلك هذا، ولأن كل اسم أو فعل يستدعي شيئين فصاعدًا يقع بعده الواو لا غير، نحو جاء زيد وعمرو معا.
لو قلت: فعمرو لم يصح لأن "معا" يقتضي الاشتراك دون الترتيب، وكذلك اختصم زيد وعمر
ولا يجوز، فعمرو، لأن الاختصام يقتضي الاشتراك في الفعل، ومثل
الاصطلاح، وكذلك الحال بين زيد وعمرو، لا يجوز فعمرو، لأن كلمة "بين" تقتضي الاشتراك دون الترتيب.
وقرئ: "وَأَرْجُلَكُمْ" بالنصب والجر والظاهر في النصب العطف على
الوجوه، والأيدي، ويحتمل العطف على محل الجار والمجرور في قوله:
(بِرُءُوسِكُمْ) ، والظاهر في الجر، أنه معطوف على (بِرُءُوسِكُمْ) .
ويحتمل الجواز، وإن كان مع الواو، كقوله:
فَهَلْ أَنْتَ إنْ مَاتَتْ أَتَانُك رَاكِبٌ. . . إلَى آلِ بِسْطَامِ بْنِ قَيْسٍ فَخَاطِبِ
فَجَر قوله، "فحاطب المجاورة قيس، وحقه الرفع، لأنه معطوف على
راكب، واحتجاج من احتَج بقوله: جحر ضب خرب بعيد لمكان الواو في
الآية، فصارت الآية من المجمل الذي بيانه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد بينه "ويل للعراقيب من النار".
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (وَأَرْجُلَكُمْ) الآية 6 فنافع وابن عامر وحفص والكسائي ويعقوب بنصب اللام عطفا على أيديكم فإن حكمها الغسل كالوجه وعن الحسن بالرفع على الابتداء والخبر محذوف أي مغسولة وعلى الأول يكون وامسحوا جملة معترضة بين المتعاطفين وهو كثير في القرآن وكلام العرب والباقون بالخفض عطفا على رؤسكم لفظا ومعنى ثم نسخ بوجوب الغسل أو بحمل المسح على بعض الأحوال وهو لبس الخف وللتنبيه على عدم الإسراف في الماء لأنها مظنة لصب الماء كثيرا فعطفت على الممسوح والمراد الغسل أو خفض على الجوار قال القاضي ونظيره كثير لكن قال بعضهم لا ينبغي التخريج على الجوار لأنه لم يرد إلا في النعت أو ما شذ من غيره.
اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 251) .(1/321)
الغريب: الحسن: يجمع الغسل والمسح.
الغريب: هذه الآية منسوخة بالسُّنَّة.
الغريب: المسح غسل خفيف، تقول: مسحت للصلاة.
فيكون الجر في الآية كالنصب.
وقوله: (إِلَى الْكَعْبَيْنِ)
يرجح جانب الغسل؛ لأن الحد في الآية ذكر مع المغسول، لا مع الممسوح.
والكعبان: هما الناتئان عن الساق، قال محمد: هو الناتىء عن ظهر
القدم.
قوله: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ)
واقع موقعه.
الغريب: فيه تقديم وتأخير، تقديره إذا قمتم إلى الصلاة أو جاء أحد
منكم من الغائط أو لامستم النساء، فاغسلوا وجوهكم، الآية.
والتقدير الثاني: وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماءً فتيمموا.
قوله: (صَعِيدًا)
مفعول به، أي بصعيد، وقيل: الظرف.
قوله: (أَقْرَبُ) أي العدل.
قوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) .
فيه أقوال: أحدها: أن "وَعَدَ" يتعدى إلى مفعولبن، ويجوز الاقتصار
على أحدهما وأحد مفعوليه في الآية مذكور، وهو (الَّذِينَ آمَنُوا) .
والثاني محذوف وهو الخير لأن الوعد عند الإطلاق لا يكون إلا في الخير، فدل عليه، والثاني: أن المفعول الثاني محذوف، وفسره قوله: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) .
الغريب: الوعد لا يكون إلا بالقول، فإن تقع (لهم مغفرة) على
الحكاية، وتقديره، فقال لهم مغفرة.
العجيب: تقديره أن لهم مغفرة، فلما حذف "أن" ارتفع اسمه.(1/322)
سؤال: لم قال في الفتح: (مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) - بالنصب -، وفي هذه
السورة: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) - بالرفع -؟
الجواب: لما بالغ في وصفهم هناك كل المبالغة، صرح بالموجود، فقال: (مِنْهُمْ مَغْفِرَةً) - بالنصب -، وها هنا لما لم يكن تلك المبالغة اكتفى بالموعود، واستدلال من استدل في الآية بقول الشاعر:
وَجَدْنا الصَّالحين لهم جزاءَ. . . وَجِنَّاتٍ وَعَيناً سَلْسَبِيَلا
بعيد، لأن "وجد" تأني على وجوه.
قوله: (إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ) .
فيه قولان: أحدهما: أن جزاء الشرط (إِنِّي مَعَكُمْ) .
والثاني: أن جزاء الشرط قوله: (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ) ، على تقدير، والله لأكفرن، واللام في "لَئِنْ" لامُ توطئةِ القسم، وقد سبق.
قوله: (قَاسِيَةً) .
صلبة شديدة، وقرئ: "قسيَّة" للمبالغة في الذم، لأن بناء فعيل.
أبلغ من فاعل.
الغريب: قسيَّة، ردية تقول درهم قسي، أي بهرَج زائف، وسمى
بذلك لشدة صوته بالغش الذي فيه.
قوله: (عَلَى خَائِنَةٍ)
هي مصدر كالعافية، أي خيانة، وقيل: على فرقة خائنة.
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (قَاسِيَةً) الآية 13 فحمزة والكسائي بحذف الألف وتشديد الياء وافقهما الأعمش إما مبالغة أو بمعنى ردية من قولهم درهم قسى مغشوش والباقون بالألف والتخفيف اسم فاعل من قسى يقسو وعن ابن محيصن على خائنة بكسر الخاء وزيادة ياء مفتوحة قبل الألف وحذف الهمزة.
اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 251) .(1/323)
حَدَّثْتَ نفسَك بالوفاءِ ولم تَكُنْ. . . للغدرِ خائنةً مُغِلَّ الإصبَعِ
قوله: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ) .
"مِن" متعلق بقوله: "أَخَذْنَا"، تقديره، وأخذنا من الذين قالوا إنا
نصارى ميثاقهم، وقول الكوفيين فيه: أن التقدير فيه، ومن الذين قالوا إنا
نصارى من أخذنا ميثاقهم. أو قوم أخذنا ميثاقهم بعيد.
الغريب: هو عطف على أخذنا ميثاق بني إسرائيل، وتقديره، وأخذنا
من بني إسرائيل ميثاقهم، وأخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم، والقول هو الأول.
قوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) .
هو قولهم لعنهم الله بالأقانيم، فأقنوم الأب وأقنوم الابن، وأقنوم
الحياة، ويسمونها روح القدس، وقالوا: إن الابن لم يزل مولودا من الأب.
ولم يزل الأب والدا للابن، ولم تزل الروح منبثقة، بين الأب والابن
والمسيح لاهوت وناسوت، أي إله وإنسان.
قوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) .
أي قربنا قرباً كقرب الولد، وقيل: اعتقدوا ذلك.
الغريب: قالت: اليهود أوحى الله إلى إسرائيل أن ولدك بكري من
الولد فأدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوماً حتى يطهرهم، ويأكل
خطاياهم، ثم ينادي مناد أن أخرجو" كل مختون من ولد إسرائيل، فأخرجهم، وزعمت النصارى: أن عيسى كان يقول: إذا توضأت فقل: يا أبانا الذي في(1/324)
السماء ليتقدس اسمك، وإذا قمت فادهن وجهك كي لا يعلم به غير أبيك
الذي في السماء.
قوله: (عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) .
انقطاع ودروس، ومدة الفترة بين عيسى ومحمد - عليهما السلام -
عن ابن عباس خمسمائة سنة وتسع وستون، وعن سلمان: ستمائة سنة.
الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة.
قوله: (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) .
قيل: ملكوا أنفسهم من استعباد القبط.
قتادة: كانوا أول من ملك الخدم، وقيل: جعل منكم وفيكم ملوكا، كداود وسليمان - عليهما السلام -.
العجيب: أحرارًا بلغةِ هذيل.
الغريب: أبو سعيد الخدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكاً.
الضحاك، من كان مسكنه واسعا وفيه ماء جارٍ فهو ملك.
وقيل: معناه: أغنياء لا تحتاجون إلى غيركم.
قوله: (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ)
يريد في زمانهم من المن والسلوى وسائر ما خص بنو إسرائيل به.
الغريب: (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) ، خطاب لأمة
محمد - صلى الله عليه وسلم.
قوله: (الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) .
سؤال: كيف قال (كَتَبَ) ، وقال في الأخرى: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ)(1/325)
الجواب عنه من وجوه: أن "كتب" بمعنى أمر الله لكم بدخولها.
الثاني: اللفظ عام للمخاطبين، والمراد به البعض، وقد دخلها بعضهم.
وقيل: معنى كتبها، وهبها، أي وهبها لكم إن آمنتم فأطعتم.
وقيل: وهبها لهم، فلما عصوا، حرموا، وقيل: التحريم مقيد بأربعين سنة.
قوله: (قَوْمًا جَبَّارِينَ) .
أي ممتنعين من أن يقهرو" أو يغلبوا، وقيل: طوال الأجسام، وقيل: من
جبرت الشيء، أي أصلحته، وقيل: هو مشبه بالجبّار من النخل، وهو الذي لا ينال ما عليه لطوله، وذلك أن موسى - عليه السلام - بعث اثنا عشر نقيبا ليتفحصوا أحوالهم وليتجسسوا أخبارهم، فلما رأوهم على ما كانوا عليه عاهدوا ألا يخبروا قومهم بما رأوا كيلا يجبنوا عن لقائهم، فخالفوا وأخبر كل واحد منهم سبطه بما رأى، إلا رجلان: يوشع بن نون، وكالوب بن نوقيا.
العجيب: ما ذكره بعض المفسرين: أنه لقيهم رجل من الجبارين
يقال له عوج بن عنق، وكان طوله ثلاثة آلاف وعشرين ألف ذراع وثلاثمائة
وثلاث وثلاثين وثلث ذراع. حكاه الثعلبي، والعهدة عليه.
العجيب: تقييده بثلث ذراع.
وقال الثعلبي أيضاً: كان يتحجز بالسحاب، أي يبلغ السحاب منه مبلغ
خجْزة السراويل، ويشرب من السحاب ويتناول الحوت من قرار البحر.
ويشويه بعين الشمس يرفعه إليها، ثم يأكله، قال: ولم يبلغ الماء زمن طوفان
نوح ركبتي عوج، وكانت أمه إحدى بنات آدم، مجلسها من الأرض جريب
__________
(1) قال الدكتور محمد أبو شهبة:
ومن الإسرائيليات الظاهرة البطلان، التي ولِعَ بذكرها بعض المفسرين والأخباريين، عند ذكر الجبارين: قصة عوج بن عوق، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع، وأنه كان يمسك الحوت، فيشويه في عين الشمس، وأن طوفان نوح لم يصل إلى ركبتيه، وأنه امتنع عن ركوب السفينة مع نوح، وأن موسى كان طوله عشرة أذرع وعصاه عشرة أذرع، ووثب في الهواء عشرة أذرع، فأصاب كعب عوج فقتله، فكان جسرًا لأهل النيل سنة إلى نحو ذلك من الخرافات، والأباطيل التي تصادم العقل والنقل، وتخالف سنن الله في الخليقة، ولا أدري كيف يتفق هذا الباطل، هو وقول الله تبارك وتعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ، قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} .
اللهم إلا إذا كان عوج أطول من جبال الأرض!!
فمن تلك الرويات الباطلة المخترعة: ما رواه ابن جرير بسنده عن أسباط، عن السدي، في قصة ذكرها من أمر موسى وبني إسرائيل وبعث موسى النقباء الاثني عشر.
وفيها: فلقيهم رجل من الجبارين يقال له: عوج، فأخذ الاثني عشر فجعلهم في حجزته، وعلى رأسه حملة حطب، وانطلق بهم إلى امرأته، فقال: انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا، فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: بل خلِّ عنهم، حتى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك، وكذلك ذكر مثل هذا وأشنع منه غير ابن جرير والسيوطي بعض المفسرين، والقصصيين وهي كما قال ابن قتيبة: أحاديث خرافة، كانت مشهورة في الجاهلية، ألصقت بالحديث بقصد الإفساد.
وإليك ما ذكره الإمام الحافظ الناقد ابن كثير في تفسيره، قال: وقد ذكر كثير من المفسرين ههنا أخبارا من وضع بني إسرائيل، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين، وأن منهم عوج بن عنق بنت آدم عليه السلام، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا، وثلث ذراع، تحرير الحساب، وهذا شيء يستحيى من ذكره ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق آدم، وطوله ستون ذراعا، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن"، ثم ذكروا: أن هذا الرجل كان كافرًا، وأنه كان ولد زنية، وأنه امتنع من ركوب سفينة نوح، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبتيه، وهذا كذب وافتراء؛ فإن الله تعالى ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين، فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} ، وقال تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ} .
وقال تعالى: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِم} ، وإذا كان ابن نوحٍ الكافرُ غرق، فكيف يبقى عوج بن عنق، وهو كافر، وولد زينة؟! هذا لا يسوغ في عقل، ولا شرع، ثم في وجود رجل يقال له: عوج ابن عنق نظر، والله أعلم.
وقال العلامة ابن قيم الجوزية، بعد أن ذكر حديث عوج: "وليس العجب من جرأة من وضع هذا الحديث، وكذب على الله، وإنما العجب ممن يدخل هذا في كتب العلم من التفسير وغيره، فكل ذلك من وضْع زنادقة أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء، والسخرية بالرسل وأتباعهم، أقول: وسواء أكان عوج بن عوق شخصية وجدت حقيقة، أو شخصية خيالية: فالذي ننكره هو: ما أضفوه عليه من صفات وما حاكوه حوله من أثواب الزور والكذب والتجرؤ على أن يفسر كتاب الله بهذا الهراء، وليس في نص القرآن ما يشير إلى ما حكوه وذكروه، ولو من بعد، أو على وجه الاحتمال، ثم أين زمن نوح من زمن موسى عليهما السلام وما يدل عليه آية: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} كان في زمن موسى قطعًا، ولا مرية في هذا فهل طالت الحياة بعوق حتى زمن موسى؟! بل قالوا: إن موسى هو الذي قتله، ألا لعن الله اليهود، فكم من علم أفسدوا، وكم من خرافات وأباطيل وضعوا اهـ (الإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير صـ 185 ـ 187)(1/326)
وطول كل إصبع منها ثلاثة أذرع، قال فبغت - وكانت أول من بغت على وجه الأرض - فبعث الله عليها أسوداً كالفيلة، وذئابا كالإبل، ونسورا كالحُمُر فأكلتها.
قوله: (قَالَ رَجُلَانِ) .
هما يوشع وكالوب، على ما سبق.
الغريب: كانا رجلين من الجبارين، أسلما وصارا من قوم موسى.
وقالا هذا القول: يقويه قراءة ابن جبير: يُخافون - بضم الباء -.
قوله: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) .
هذا كفر منهم وسوء أدب.
الغريب: (وَرَبُّكَ) يعنيك.
العجيب: (وَرَبُّكَ) ، يعني هارون.
قوله: (وَأَخِي) .
جاز النصب فيه من وجهين:
أحدهما: الابتداء، وتقديره، وأخي لا يملك إلا نفسه، والثاني بالعطف على الضمير في أملك، أي لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا.
قوله: (مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) .
نحريم منع.
قال:
إني امرؤ صَرعي عليلك حرامُ.
الغريب: تحريم تعبد، وكانوا يقدرون على دخولها.
قوله: (أَرْبَعِينَ سَنَةً) نصب بقوله: (يَتِيهُونَ) .
وجمهور المفسرين، على أن الأرض التي تاهوا فيها ستة فراسخ، وكانوا ستمائة ألف، يمسون حيث(1/327)
أصبحوا، ويصبحون حيث أمسوا، وذلك التحير من باب قلب العادات
للمعجزات.
الغريب: أمروا بالتردد فيها عقوبة لهم على فسقهم، وكانوا يهتدون إلى
الخروج.
العجيب: كانوا إذا قاربوا الخروج من التيه، حول الله تلك الأرض.
فجعلها بالبعد مما كانوا قربوا منه.
الحسن وقتادة: ما دخلها أحد منهم حتى مات البالغون ونشأ أولادهم.
ابن جرير: حرم عليهم أربعين سنة ثم دخلها موسى وهارون مع القوم.
وقيل: [موسى وهارون قد ماتا في التيه] (1) ، فجاء الرجلان فدخلا بعد انقضاء الأربعين مع أولاد الفاسقين.
عن ابن عباس: بخلافه، أن موسى وهارون ماتا في التيه.
وقيل: لم يكونا فيه.
قوله: (فَلَا تَأْسَ)
خطاب لموسى، وقيل لمحمد - عليهما الصلاة والسلام -.
(ابْنَيْ آدَمَ) .
هما قابيل وهابيل، قابيل كان كافراً، وقيل: فاجراً.
الغريب: الحسن: كانا رجلين من بني إسرائيل، وقال: القربان لم
يكن إلا لبني إسرائيل، واستدل أيضاً بقوله: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) ، وغيره استدل بقوله: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا) ، لأنه لم يمتد
جهل الناس بما يفعلون بموتاهم إلى زمن بني إسرائيل، وقوله: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) متصل بقوله: (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) من أجل جهله.
__________
(1) ما بين المعقوفتين تصويب من (تفسير السمرقندي "بحر العلوم". 1 / 250) ، وعبارة الكتاب المطبوع عبارة مبهمة هذا نصها: "موسى عوجا الدمياط". والله أعلم بالصواب.(1/328)
قوله: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا) .
وذلك أن قابيل لما قتل أخاه لم يدر ما يفعل به، لأنه كان أول قتيل.
وأول ميت.
مجاهد: كان غرابا ميتا.
الغريب: بعث الله غراباً يبحث وينثر التراب على هابيل.
العجيب: كان الغراب يواري شيئاً من مطعومه، ومن طبعه دفن الطعام.
وقيل: كان ملكاً على صورة الغراب.
قوله: (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) .
أي يقتل كما لو قتلهم، وقيل: في الذنب، أي بلغ النهاية فيه.
وقيل: هو من قوله: "من سنِّ سنَّةً سيئةً".
الغريب: لأنهم يجب عليهم طلب ثأره، فهم كلهم له خصوم، وقيل:
يعذب بالخلود في النار، كما لو قتلهم جميعاً.
قوله: (وَمَنْ أَحْيَاهَا)
أي خلصها من غرق أو حرق أو عفا عن قود.
(فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) ، ويتخرج على الوجوه المذكورة.
قوله: (وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ)
تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى.
الغريب: وخلاف، ظَهَر منه، أي من سببه.
قوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ) .
أي: يرجون، وقيل: يتمنون.
الغريب: يكادون.
العجيب: يسألون.(1/329)
قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) .
رفع بالابتداء، والجر محذوف عند سيبويه، أي فيما أنزل عليك
السارق والسارقة، أي حكمهما، وأجاز غيره أن يكون الخبر "فَاقْطَعُوا".
لأن اللام " فيهما تجري مجرى الذي، فدخل "الفاء" الخبر، وإذا جعل
الخبر "فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا" كان القياس النصب في السارق، كما قرأ عيسى بن عمر، "والسارقَ والسارقةَ فاقطعوا أيديهما) ومثله زيداً اضرب كلامه، لكنه لما كان عاماً ارتفع، وصار مثل قوله: من سرق فاقطعوا أيديهم، والمراد باليد في الآية، اليمنى بدليل قراءة ابن مسعود، "أيمانهما"، وإنما جمع، لأن أعضاء الوتر إذا نسب إلى إنسانين جمع في موضع التثنية، كقوله: (صَغَتْ قُلُوبُكُمَا) ، و (حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا) .
قال الفراء: لأن الغالب في الأعضاء الشفع فأجرى الوتر مجرى الشفع، وهذا فيه بعد، لأنه يؤدي إلى الالتباس.
والجواب المرضي: أن التثنية في الأصل جمع لوجود معنى الجمع فيه، فأفرد
للثنية صيغة حيث يقع التباس، وحيث لم يقع رد إلى الأصل.
واليد تقطع من الرسغ، وهو مفصل الكف من الساعد.
الغريب: عن علي - كرم الله وجهه -: تقطع أطراف الأصابع.
العجيب: الخوارج، تقطع من المنكب أخذا بظاهر القرآن.(1/330)
وقدم السارق، لأن السرقة من الرجال أكثر، وقدم الزانية في قوله:
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ، لأن أثر الزنا يظهر عليها في الحبل وإزالة العذرة.
وقطعت آلة السرقة - وهي اليد - لاستواء الرجل والمرأة فيها، ولم نقطع آلة الزنا لاختلافهما فيها.
قوله: (يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) .
قدم التعذيب في هذه الآية خلافا لسائر المواضع، لأن المراد بالعذاب
ها هنا قطع اليد، وذلك أنفع في الدنيا.
قوله: (سَمَّاعُونَ) .
يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ
رفع بالابتداء، أي قوم سَمَّاعُونَ.
(مِنَ الَّذِينَ هَادُوا) خبره تقدم عليه.
الغريب: (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا) عطف على قوله: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا)
فيكون (سَمَّاعُونَ) خبر مبتدأ محذوف، أي هم سماعون -
قوله: (لِلْكَذِبِ)
"اللام" للعلة، أي يسمعون ليكذبوا، وقيل: زيادة.
والكذب مفعول به كما هو في قوله: (أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) .
قوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) .
وفي الأخرى (الظَّالِمُونَ) ، وفي الثالثة (الْفَاسِقُونَ) .
قيل: كلها بمعنى الكفر، وعبر عنه بألفاظ مختلفة، لاجتناب صورة التكرار.
ولزيادة الفائدة، وقيل: الكافرون نزلت في أحكام المسلمين، والظالمون في
اليهود، والفاسقون في النصارى.
الغريب: ومن لم يحكم إنكاراً له فهو كافر، ومن اعتقد الحق وحكم
بضده، فهو ظالم، ومن حكم بضد الحق فهو فاسق.
العجيب: أي كافر بنعمة الله، ظالم في حكمه، فاسق في فعله،(1/331)
وقيل: المراد بالكفر ساعة حكمه بخلاف ما أنزل الله به، وليس المراد به
الشرك.
قوله: (وَيَقُولُ) .
قرىء بالنصب، وجمهور النحاة: على أنه لا يجوز أن يكون عطفاً
على (أَنْ يَأْتِيَ) ، لا نقول: عسى زيد أن يقوم ويجلس عمرو. بل
تقول: عسى أن يقوم زيد ويجلس عمرو.
قال أبو علي: لما كان معنى عسى أن يأتي الله، وعسى الله أن يأتي، واحداً، جاز.
الغريب: أن مع الفعل بعده في محل رفع بالبدل في فاعل عسى.
حيث جاء هو رفع إذا لم يتقدمه اسم محض، فلما لم يمتنع هذا صح
العطف عليه في الآية.
العجيب: هو عطف على قوله: "بِالْفَتْحِ" أي بالفتح وقول الذين، كما
قال الشاعر:
لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني. . . أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ
وأما قوله: (فَيُصْبِحُوا)
نصب على جواب الترجي حملاً على ظاهره، وإن كان عسى من اللُه واجبا.
الغريب: إذا جعل (أَنْ يَأْتِيَ) بدلاً من اسم الله تعالى لا يمتنع
عطف (فَيُصْبِحُوا) عليه أيضاً.(1/332)
قوله: (وَهُمْ رَاكِعُونَ) .
قيل: حال، وقيل: عطف على صلة الموصول.
قوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) .
مبتدأ وشرط، والخبر الذي هو جزاء الشرط محذوف، تقديره فهم
حزب الله، ودل قوله: (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ) عليه.
الغريب: العائد "هم" وقوله: (الْغَالِبُونَ) خبر بعد خبر، أو خبر
محذوف، وتقديره، وهم الغالبون.
قوله: (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) .
تقديره، هل تنقمون إلا إيماننا وفسقكم، لأنكم عرفتم أنكم مبطلون.
الغريب: ولأن أكثركم فاسقون انتقمتم.
العجيب: عطف على الإيمان، أي آمنا بأن أكثركم فاسقون، أي
اعتقدنا فسقكم.
قوله: (مَثُوبَةً) .
وزنها ففْغلة، نقلت حركة العين إلى الفاء.
الغريب: وزنها مفعولة، نقلت الحركة فاجتمعت واوان ساكنان.
فحذف أحدهما.
قوله: (مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ)
رفع أي هو من لعنه الله، أي لَعْنُ مَن لعنه الله.
وقيل: جر بالبدل من"بِشَرٍّ".
الغريب: نصب بقوله: (أُنَبِّئُكُمْ) أي أعرفكم، ومن قوله: (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) عطف على صلةِ "مَنْ" وقراءة حمزة (وَعَبَدُ الطَّاغُوتِ) ، عطف على القردة والخنازير.
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (وَعَبَدُ الطَّاغُوتِ) الآية 60 فحمزة بضم الباء وفتح الدال وخفض (الطاغوت) على أن عبد واحد يراد به الكثرة على حد وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها وليس بجمع عبد إذ ليس من صيغ التكثير والطاغوت مجرور بإضافته إليه أي وجعل منهم عبد الطاغوت أي خدمه وافقه المطوعي وعن الحسن فتح العين والدال وسكون الباء وخفض الطاغوت وعن الشنبوذي ضم العين والباء وفتح الدال وخفض الطاغوت جمع عبيد والباقون بفتح العين والباء على أنه فعل ماض ونصب الطاغوت مفعولا به.
اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 255) .(1/333)
قوله: (شَرٌّ مَكَانًا)
مبالغة من غير إشراك، كما يجيز الكوفيون: العسل أحلى من الخل.
وقيل: (شَرٌّ مَكَانًا) بزعمكم.
الغريب: (شَرٌّ مَكَانًا) في الآخرة من مكانكم في الدنيا.
وقيل: (شَرٌّ مَكَانًا) ممن هو في مكانِه شَرٌّ.
العجيب: الذين لعنهم الله شر مكاناً من الذين نقموا، وقيل: الذين
نقموا شر مكانا من الذين لعنهم الله.
قوله: (بِالْكُفْرِ) . حال، وكذلك (خَرَجُوا بِهِ) .
قوله: (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) .
من فوقهم المطر، ومن تحت أرجلهم النبات، وقيل: من فوقهم الثمر.
ومن تحت أرجلهم الزرع.
الغريب: من فوقهم ما يأتيهم من كبرائهم، ومن تحت أرجلهم ما
يأتيهم من العامة.
العجيب: هو كقولك فلان في الخير من قرنه إلى قدمه.
(وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) .
أي إن تركت إبلاغ بعضها، يحبط إبلاغ ما بلغت.
الغريب: الدعوة بمنزلة الصلاة، إذا نقص ركن من أركانها بطل الجميع.
(وَالصَّابِئُونَ) .
رفع عند الكسائي بالعطف على اسم "إنَّ"، وقال: عمل "إنَّ"(1/334)
ضعيف فجاز العطف عليه بالرفع، وله قول آخر، رفع لأنه عطف على
الضمير في "هادوا" قال: وهذه الأقوال غير مرضية عند البصريين، ورفعه عند سيبويه بالابتداء، وخبره "من آمن"، وخبر "إن الذين" مقدر دل عليه خبر ما بعده، كقوله:
نحنُ بما عندَنَا وأنت بما. . . عندَكَ راضٍ والرأيُ مختلِفُ
أي نحن راضون وأنت راضي، وقيل: خبر "إنَّ" "مَن آمنَ" وخبر
"والصابئون" مقدرة كقوله:
فَمَنْ يَكُ أَمْسى بالمدينةِ رَحْلُه. . . فإني وقَيَّارٌ بها لَغَريبُ
أي إني لغريب، واللام تدل عليه، وقيار كذلك.
الغريب: "إن" بمعنى نعم - كما يأتي في طه -.
العجيب: "إن" أي الأمر والشأنن، وهذا ضعيف، وبابه الشعر.
(أَلَّا تَكُونَ) .
بالرفع والنصب، الفعل على ثلاثة أوجه:
فعل بني على التحقيق، نحو علمت وتيقنت، وثبت وصح، فيقع بعده أن المشددة أو المخففة من المشددة، وهي لا تلي الفعل" إلا بواسطة، نحو (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ) و (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا) .
وفعل بني على المجاز نحو أرجو أو أطمع وأخاف وأخشى، فيقع بعده أن المخففة وهي تلي الفعل، نحو أرجو أن يأتي زيد، وأخاف أن يذهب عمرو. وفعل يتردد بين الحقيقة والمجاز، نحو حسبت
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (أَلَّا تَكُونَ) الآية 71 فأبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف برفع النون على أن أن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف أي أنه ولا نافية وتكون تامة وفتنة فاعلها والجملة خبر أن وهي مفسرة لضمير الشأن وحسب حينئذ للتيقن لا للشك لأن أن المخففة لا تقع إلا بعد تيقن وافقه اليزيدي والأعمش والباقون بالنصب على أن الناصبة للمضارع دخلت على فعل منفى بلا ولا لا تمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها من ناصب وجازم وجار وحسب حينئذ على بابها من الظن لأن الناصبة لا تقع بعد علم والمخففة لا تقع بعد غيره. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 255: 256) .(1/335)
وظننت وخلت وزعمت ووجدت كلها من باب ظننت، فتقع بعده المشددة
والمخففة من المشددة والمخففة أصلاً، فمن نصب "تكون" جعل
المخففة أصلاً، ومن رفع، جعل المخففة من المشددة والحائل "لا".
واسم "أن" مقدراً تقديرهُ "أنه".
قوله: (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ)
قيل: الكثير بدل من الواو، وقيل: خبر مبتدأ، أي هم كثير منهم.
وقيل ذلك كثير منهم، وقيل: هو على لغة من قال: أكلوني البراغيث. وقيل: مبتدأ تقدم عليه خبره، أي ثم كثير منهم عموا وصموا.
قوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) .
وقوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) .
إنما كرر، لاختلاف أقوالهم: فإن اليعقوبية من النصارى قالت: إن الله
سبحانه وتعالى ربما تجلى أحيانا في شخص، فتجلى يومئذ في شخص
عيسى، فظهرت منه الآيات المعجزات، والملكائية قالت: الله اسم يجمع أبا
وابنا وروح القدس، اختلف بالأقانيم، والذات واحدة.
قِوله: (ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) أي ثلاثة آلهة، ومعنى (ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) ، أحد ثلاثة.
ولا يجوز تنوينه، ولو قلت: ثالث اثنين جاز فيه التنوين، وجاز فيه الإضافة.
قوله: (يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) .
أي كانا محتاجين إلى الطعام كسائر الحيوان.
الغريب: هو كناية عن الحدث، أي من كان بهذه الصفة، لا يصلح أن
يكون إلهاً.
قوله: (قِسِّيسِينَ) .
جمع قسيس، ويجمع جمع التكسير، قساية، وهو القياس.
الغريب: جمعه قساوسة - بالواو - وحكاه الأزهري فى التهذيب.(1/336)
والرهبان جمع راهب.
الغريب: يجوز أن يكون واحدة، وجمعه رهابنة ورهابنى.
قوله: (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) .
حال، "تَرَى" من رؤية العين.
قوله: "لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ".
حال، أي، وأي شيء لنا في هذه الحالة.
قوله: (إِذَا حَلَفْتُمْ) : أي: وحنِثتم.
قوله: (إِذَا مَا اتَّقَوْا) .
في تكرارها أقوال:
أحدها: (اتَّقَوْا) فيما مضى، وصلحت "إذا" للماضي على إضمار "كانوا"
(ثُمَّ اتَّقَوْا) للحال، (ثُمَّ اتَّقَوْا) في المستقبل.
وقيل: (اتَّقَوْا) الكفر، (ثُمَّ اتَّقَوْا) المعاصي، (ثُمَّ اتَّقَوْا) داموا على التقوى.
العجيب: (اتَّقَوْا) الشرك، (ثُمَّ اتَّقَوْا) الكبائر، (ثُمَّ اتَّقَوْا) الصغائر.
قوله: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ) .
من رفعه، جعله وصفا للجزاء، والخبر مقدر تقديره، فعليه جزاء.
ويجوز أن تكون خبراً تقديره فجزاء فعله جزاء مثل، ومن جره فعلى الإضافة، ويكون مثل زيادة، كما تقول مثلك لا يقول كذا، قال الله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) .
فإن اعترض معترض بقول الشاعر:
وقاكِ اللهُ يا بنةَ آل سعدٍ. . . منَ الأقوامِ أمثالي ونفسي
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (فَجَزَاءٌ مِثْلُ) الآية 95 فعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف فجزاء بالتنوين والرفع على الابتداء والخبر محذوف أي فعليه جزاء أو على أنه خبر لمحذوف أي فالواجب جزاء أو فاعل لفعل محذوف أي فيلزمه جزاء ومثل برفع اللام صفة لجزاء وافقهم الأعمش والحسن والباقون برفع (جزاء) من غير تنوين مثل بخفض اللام فجزاء مصدر مضاف لمفعوله أي فعليه لن يجزى المقتول من الصيد مثله من النعم ثم حذف المفعول الأول لدلالة الكلام عليه وأضيف المصدر إلى ثانيها أو مثل مقحمة كقولك مثلى لا يقول كذا أي إني لا أقول والمعنى فعليه أن يجزي مثل ما قتل أي يجزي ما قتل فلا يرد أن الجزاء للمقتول لا لمثله. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 256) .(1/337)
فجوابه، ليس زيادته بضربة لازب بل يأتي وهو مراد كما في البيت.
ويأتي زيادة كما في الآية (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) .
قوله: (هَدْيًا)
قيل: حال عن "به"، وقيل: مصدر، وقيل: تمييز.
قوله: (بَالِغَ الْكَعْبَةِ) صفة لـ (هَدْيًا) وإن كان مضافاً لمعرفة، لأن
إضافته بمعنى الاستقبال، والتنوين مقدر معها، فلا يفيد تعريفاً.
قوله: (صِيَامًا) نصب على التمييز.
قوله: (وَطَعَامُهُ) .
أي ما ينبت بماء البحر، وقيل: طعامه ما نضب عنه الماء.
ابن عباس: كل ما فيه.
الغريب: "الهاء، تعود إلى الصيد، أي وأكله.
العجيب: (وَطَعَامُهُ) : ماؤه، وقيل: البحر الطري وطعامه المملوح.
قوله: (الْبَيْتَ الْحَرَامَ) .
بدل من الكعبة.
قوله: (قِيَامًا لِلنَّاسِ)
أي لأهل مكة، وقيل: قياماً لدين الناس فيكون عاماً.
(يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ، أي مصالح ما في
السماوات وما في الأرضِ.
قوله: (عَنْ أَشْيَاءَ) .
قال الخليل وسيبويه، هي في الأصل فعلاء، اسم موضوع لجمع
شيء على غير القياس، فاستثقلوا الجمع بين همزتين بينهما ألف، فقدمت(1/338)
لام الفعل، فصار لفعاء، قال الأخفش، وزنها أفعلاء كـ "هَيِّن وأهْوِناء".
فحذف إحدى الياءين.
الكسائي: شابة حمراء فلم ينصرف، أبو حاتم: وزنها أفعال.
ولا يصح من هذه الوجوه إلا قول سيبويه والخليل.
وقول من قال وزنه أفعال يبطل بـ أبناء وأسماء، لأنها شابهت حمراء، وهي منصرفة بالإجماع.
وقول الأخفش ضعيف بما روي عن المازني: أنه قال له: كيف تصغر
أشياء، فقال أشيَّاء، فقال المازني: يجب على قولك أن تصغر الواحد ثم
تجمعه، قال: فانقطع الأخفش، وعذر الأخفش أن يقال: لما حذف إحدى
اليائين منها شابه الأوزان التي يحوز نصغيرها.
هذا كله من كلام الشيخ الإمام رحمه الله.
قوله: (لَا يَضُرُّكُمْ) .
جزم على جوابه الأمر، لأن التقدير في قوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)
احفظوا أنفسكم، (لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ) .
وقيل: رفع على الاستئناف.
الغريب: نَهي.
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) .
ذكر المفسرون: أن هذه الآية من أشكل آية في القرآن حكماً ومعنى وإعرابا، وأكثروا القول فيها، وأنا أذكر فيها ومنها ما فيه مقنع.
أجمعوا أنها نزلت في ثلاثة نفر من التجار، خرجوا من المدينة إلى الشام، وهم(1/339)
تميم بن أوس الداري من لخم، وعدي بن بَدَّاء، وكانا نصرانيين.
ومعهما بُديل بن أبي مارية الرومي، وكان مسلما مولىً لبني سهم، فلما
قدم الشام مرض بُديل فكتب صحيفة فيها جميع ما معه، وطرح في
جوالِقِهِ، فلما اشتد مرضه أوصى إلى تميم وعدي الذميين، وأمرهما أن
يدفعوا متاعه إلى أهله إذا رجعا إليهم. ومات بُديل، فقبضا تركته، ففتشاها
فأخذا منها إناء من فضة منقوشاً بالذهب، وزنها ثلاثمائة مثقال، فلما رجعا
إلى المدينة دفعا المتاع إلى أهل الميت، ثم إنهم فتشوا المتاع وأصابوا
الصحيفة فيها تسمية ما كان معه من متاعه، وفقدوا الإناء.
فأتوهما بنو سهم، وقالوا: هل باع صاحبنا شيئاً من متاعه، وهل طال مرضه فأنفق على نفسه شيئا من ماله، قالا: لا.
قالوا: إنا وجدنا صحيفة في متاعه مشتملة على ذكر ما عمله، وفيها إناء قيمته ثلاثمائة مثقال، ولم يدفعوا إلينا، قالا: لا ندري.
إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه، ومالنا بالإناء من علم، فرفعوها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكروا ذلك، فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ)
فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العصر، واستحلفهما بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يختبئا شيئاً مما دفع إليهما فحلفا على ذلك، فخلى - عليه السلام - سبيلهما، ثم إنهما أظهرا الإناء، فبلغ بني سهم، فأتوهما، فقالوا لهما: ألم تزعما أن صاحبنا لم يبع شيئاً من متاعه، قالا بلى، قالوا: فما بال هذا الإناء معكما، قالا: إنا كنا ابتعناه منه ولم تكن لنا بينة، فكرهنا أن نقربه لكم فتأخذوه منا.
فرفعوهما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنرلت (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا، فقام عمرو بن العاص(1/340)
والمطلب بن وداعة السهميان.
وفي الغريب: فقام عبد الله بن عمرو دون أبيه، قيل: وسنه احتمل
ذلك، لأنه ولد لعمرو ولعمرو اثنتا عشرة سنة. فحلفا أن المال كان أكثر مما
أتيتمانا به وأن شهادتنا أصدق من شهادتكما، فدفع الإناء إلى أولياء الميت.
ثم إن تميما أسلم، وكان يقول: صدق الله وصدق رسوله، أنا والله أخذت
الإناء، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه.
الغريب: روي عن ابن عباس أيضاً: أن تميماً قال لما أسلمت تأثمت
من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت خمسمائة درهم، وأن عند
صاحبي مثلها، فوثبوا إليه، فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه، فنزلت هذه الآية، فقام عمرو بن العاص ورجل آخر فحلفا فنزعت خمسمائة درهم من عدي بن بَدَّاء.
وللصحابة والتابعين والفقهاء في هذه الآية اقوال:
أحدها: أن شهادة أهل الكتاب على المسلمين جائزة في السفر، إذا كانت وصية، ومعنى الآية أن من أحسَّ بالموت فعليه أن يستشهد عدلين من المسلمين، فإن كان في سفر لا يجد مسلمين، فله أن يشهد كتابيين، فإن لم يثق الورثة بقولهما حلفا يمينَ دينهما بعد العصر، أنهما صادقان فيما يشهدان به، فإن ادعى الورثة بعد ذلك أنهما كذبا بما قد ظهر من أمارات الكذب، اختير منهما رجلان معروفان بالصدق وحلفا أن الشاهدين كاذبان وأن الورثة في دعواهما عليهما صادقون، ثم مضى الحكم على ذلك.
الثاني كان هذا هكذا(1/341)
فنُسِخ، ولا يجوز شهادة كافر بحال.
والثالث، الآية كلها في المسلمين إذا شهدوا.
ومعنى (مِنْ غَيْرِكُمْ) من غير قبيلتكم.
الرابع: الشهادة: ها هنا بمعنى الحضور لا الشهادة التي تؤدى.
الخامس: الشهادة: ها هنا بمعنى اليمين.
(شَهَادَةُ) رفع بالابتداء، (بَيْنِكُمْ) ظرف أضيف إليه على الاتساع.
كما رفع في قوله: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) .
وقال:
وصادقُ بين عينِيها الجنَوبا
والمعنى: شهادتكم فيما بينكم، وفي خبر المبتدأ أربعة أقوال:
أحدها: اثْنَانِ، شهادة اثنين، فحذف المضاف، والثاني: فيما أنزل عليكم
شهادة بينكم، أي حكمها، والثالث: إذا حضر.
الرابع الغريب: ذو شهادة بينكم اثْنَانِ.
قوله: (إِذَا حَضَرَ)
ظرف الشهادة، ومحله نصب.
الغريب: محله رفع، لأنه خبر المبتدأ، ولا يجوز أن يكون ظرفاً
للوصية من وجهين، أحدهما: أن المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف.
الثاني: المصدر لا يتقدم عليه ما يتعلق به، قاله الشيخ الإمام.
(حِينَ)
نصب بالبدل من إذا، وقيل: بحضر، وقيل: بالموت.(1/342)
(اثْنَانِ) رفع بالخبر، وقيل: بالفاعل، وتقديره، أن يشهد اثْنَانِ ذوا
عدل "أو اثْنَانِ آخران "مِنْ غَيْرِكُمْ" صفة ثانية.
(إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ)
شرط جزاؤه محذوف، دل عليه (آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ، وهو اعتراض
بين الصفة والموصوف، وأفاد أن ذلك جائز في السفر فحسب.
(تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ) صفة لقوله: (آخَرَانِ) .
(فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ) الفاء لعطف جملة على جملة.
قوله: (إِنِ ارْتَبْتُمْ)
اعتراض بين القسم وجوابه، وهو شرط، جزاؤه محذوف، أي إن ارتبتم حبستموهما.
(لَا نَشْتَرِي) جواب القسم، لأن أقسم يتعلق بما يتعلق به القسم.
قوله: (به) أي بالإقسام، وقيل: بتحريف اليمين.
الغريب: كناية عن اللُه تعالى.
(ثَمَنًا) أي ذا ثمن.
(وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، أي: لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا.
(وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ) أي التي أمر الله بإقامتها.
(إِنَّا إِذًا) : إن كتمنا، (لَمِنَ الْآثِمِينَ) .
(فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا) ، شرط.
قوله: (اسْتَحَقَّا إِثْمًا) أي جزاء إثم، حذف المضاف، والمعنى عقوبة، (فَآخَرَانِ) الفاء جواب الشرط و (فَآخَرَانِ) رفع بالابتداء.
وقيل: بفعل مضمر.
الغريب: رفع بالخبر.
(الْأَوْلَيَانِ) المبتدأ (يَقُومَانِ) ، صفة لـ (آخَرَانِ) ، وقيل: خبر لـ (آخَرَانِ) .
قوله: (يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا) أي يَقُومَانِ مقاماً مثل مقامهما، فحذف
الموصوف، وحذف المضاف.
(مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ) لـ (آخَرَانِ)
ومفعول "اسْتَحَقَّ" الإيصاء، وقيل: الإثم.
الغريب: مفعوله الجار والمجرور.
قوله: (عليهم)
قيل: فيهم، وقيل: منهم.(1/343)
الغريب: بسببهم، وقيل: هو على ظاهره، كقولك: استحق على زيد
مال بالشهادة، أي لزمه ووجب عليه الخروج منه.
وقرئ "اسْتَحَقَّ" - بالفتح - والفاعل "الْأَوْلَيَانِ"، أي استحق
الأوليان الإيصاء، وقيل: الأحلاف، وقرىء "الأوليان" أي الأوليان
بالميت، وقيل: بالإيصاء، ورفعه من وجوه:
أحدها: بالابتداء، والآخران الخبر على ما سبق، وقيل: خبر مبتدأ محذوف، أي هما الأوليان.
الأخفش: بدل من الضمير في "يقومان"، قال "فآخران" رفع خبر مبتدأ مضمر، أي فالشاهدان آخران، وقرئ " الأوَّلِين" (1) وهو صفة الذين.
الغريب: تقديره، من الأولين الذين استحق، وسموا الأولين، من حيث
كانوا الأولين في الذكر في قوله: "شهادة بينكم".
وكذلك في "ذوا عدل منكم".
(إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ) الواضعين الباطل موضع الحق.
(ذَلِكَ) .
أي تحليف الشاهد في جمع من الناس، وقيل: ذلك الحكم، وذلك
الفعل. (أَدْنَى) أقرب.
(أَنْ يَأْتُوا) إلى أن يأتوا، من أن يأتوا
(بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا) كما حملوها من غير تحريف.
(أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ)
أي إذا علموا برد اليمين على المدعيين بعد أيمانهم، احترزوا الكذب
أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ
والخيانة إما لله وإما مخافة الافتضاح.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) لا الفضيحة.
(وَاسْمَعُوا) واقبلوا.
(وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) الذين يشهدون الزور.
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (استحق) الآية 107 فحفص بفتح التاء والحاء مبنيا للفاعل وإذا ابتدأ كسر الهمزة وافقه الحسن والباقون بضم الطاء وكسر الحاء مبنيا للمفعول وإذا ابتدؤا ضمو الهمزة
واختلف في (الأولين) الآية 107 فأبو بكر وحمزة ويعقوب وخلف بتشديد الواو وكسر اللام بعدها وفتح النون جمع أو المقابل لآخر مجرور صفة للذين أو بدل منه أو من الضمير في عليهم وافقهم الأعمش وعن الحسن أولان بتشديد الواو وفتح اللام مثنى أول مرفوع باستحق والباقون الأوليان بإسكان الواو وفتح اللام وكسر النون مثنى أولى أي الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما هو خبر محذوف أي وهما الأوليان أو خبر آخران أو بدل منهما أو من الضمير في يقومان. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 257) .(1/344)
(لَا عِلْمَ لَنَا) .
لا يجوز إجراؤه على الظاهر لمعنين:
أحدهما: أن القيامة لا يكذب فيها.
والثاني: أن الأنبياء لا يكذبون، وتقديره، لا علم لنا إلا ما علمتنا.
وقيل: لا علم لنا، لا علم أنت تعلم، وقيل: لا علم لنا بما غيبوا عنا.
وقيل: لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا.
الغريب: الحسن: ذهلوا عن الجواب، ثم لما ثاب عقلهم قالوا
إنك أنت علام الغيوب.
الغريب: لا علم لنا، أنت لا تعلمه، فأنت تعلم ما أجابوا به.
قوله: (عَلَّامُ الْغُيُوبِ)
ذكر بلفظ المبالغة، لأن لفظ الغيوب للكثرة.
(إِذْ قَالَ اللَّهُ) .
قيل: محله رفع، أي ذلك إذ قال الله، قيل: نصب، أي، اذكر إذ
قال الله.
(عِيسَى) في محل نصب موافقة لابن مريم، كما تقول يا زيد بن عمرو.
والغريب: محله ضم لأنه في الحقيقة مفرد.
قوله: (هَلْ يَسْتَطِيعُ) .
قيل: يطيعك، وأطاع واستطاع بمعنى.
وقيل: هل يفعل ذلك، وقيل: يستجيب
الغريب: كان ينزل و "يَسْتَطِيعُ" صلة.
العجيب: هل يقدر ربك، وكان ذلك في ابتداء أمرهم قبل معرفتهم
بصفات الله، فأنكر عليهم.
فقال: (اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) .
وقرئ بالتاء والنصب، أي هل تستطيع سؤال ربك.(1/345)
الغريب: قالت عائشة - رضي الله عنها -: كانوا أعلم من أن يقولوا
يستطيع ربك، إنما هو تستطع ربَّك.
قوله: (مَائِدَةً)
المائدة، الخوان عليها الطعام، اشتقاقه من ماده يميده إذا أعطاه، وامتاد فلان فلاناً: إذا طلب عطاءه، فيكون فاعله، بمعنى مفعولة، أي مَميدة.
الغريب: فاعلة في المعنى لأنها إذا أطعم الناس عليها فكأنها أطعمتهم.
وقيل: من ماد يميد إذا تحرك، كأنها تميد عليها.
قوله: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا) .
أي يا ربنا، فهو نصب بنداء آخر عند سيبويه، وليس بوصف لقوله:
(اللَّهُمَّ) عنده، لأنه لمَّا بُنيَ جرى مجرى الأصوات، فلا يوصف، وعند
غيره ربنا وصف لقوله: (اللَّهُمَّ)
قوله: (تَكُونُ) صفة للمائدة، وليس بجواب الأمر.
وفي نزول المائدة قولان:
أحدهما: أنها نزلت، وهو المعروف لقوله: (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ)
وهذا إخبار منهُ - سبحانه - لا يحتمل تأويلا.
من خفف "مُنَزِّلُهَا" قال: نزلت مرة، ومن شدد قال: نزك أربعين يوماً.
ابتداؤها يوم الأحد.
ابن جربر: نزلت مائدة منكوسة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض. سلمان: نزلت سفرة حمراء بين غمامتين.
وقيل: كان عليها خبز ولحم، وقيل: عليها سبعة أرغفة وسبحة أخوان.
الغريب: عليها سمكة فيها طعمُ كلِ طعام، وقيل: عليها كل طعام إلا
__________
(1) قال الدكتور محمد أبو شهبة:
الإسرائيليات في "المائدة التي طلبها الحواريون":
ومن الإسرائيليات التي ذكرها المفسرون عند تفسير قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ، قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} .
وقد اختلف العلماء في المائدة: أنزلت أم لا؟
وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا على نزولها، وهذا هو ظاهر القرآن، فقد وعد الله، ووعدُهُ محقق لا محالة، وذهب الحسن ومجاهد إلى أنها لم تنزل؛ وذلك لأن الله سبحانه لما توعدهم على كفرهم بعد نزولها بالعذاب البالغ غاية الحد خافوا أن يكفر بعضهم، فاستغفروا، وقالوا: لا نريدها فلم تنزل، ولا أدرى ما الحامل لهم على هذا؟!
وقد أحيطت المائدة بأخبار كثيرة، أغلب الظن: أنها من الإسرائيليات رويت عن وهب بن منبه، وكعب، وسلمان، وابن عباس، ومقاتل، والكلبي، وعطاء، وغيرهم، بل رووا في ذلك حديثًا عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنها نزلت خبزًا ولحمًا، وأمروا أن لا يخونوا، ولا يدخروا لغد" وفي رواية: بزيادة "ولا يخبئوا، فخانوا وادخروا، ورفعوا لغد، فمسخوا قردة وخنازير"، ورفع مثل هذا إلى النبي غلط، ووهم من أحد الرواة على ما أرجح، فقد روى هذا ابن جرير في تفسيره مرفوعان وموقوفان والموقوف أصح، وقد نص على أن المرفوع لا أصل له الإمام أبو عيسى الترمذي فقال: بعد أن روى الروايات المرفوعة: "هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغير واحد، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن خلاس، عن عمار بن ياسر موقوفا، ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحسن بن قزعة"، وبعد أن ذكر رواية موقوفة عن أبي هريرة، قال: "وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة، ولا نعرف للحديث المرفوع أصلا" (1) .
وقد اختلفت المرويات في هذا، فروى العوفي عن ابن عباس: أنها خوان عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما نزلوا، إذا شاءوا، وقال عكرمة عن ابن عباس: كانت المائدة سمكة، وأريغفة (2) ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنزل على المائدة كل شيء إلا الخبز واللحم.
وقال كعب الأحبار: نزلت المائدة تطير بها الملائكة بين السماء والأرض، عليها كل الطعام إلا اللحم.
وقال وهب بن منبه: أنزلها من السماء على بني إسرائيل، فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة، فأكلوا ما شاءوا من ضروب شتى، فكان يقعد عليها أربعة ألاف، وإذا أكلوا أنزل الله مكان ذلك لمثلهم فلبثوا على ذلك ما شاء الله عز وجل.
وقال وهب أيضا: نزل عليهم أقرصة من شعير، وأحوات، وحشا الله بين أضعافهن البركة، فكان قوم يأكلونن ثم يخرجون، ثم يجيء آخرون فيأكلون، ثم يخرجون، حتى أكل جميعهم، وأفضلوا، وهكذا لم يتفق الرواة على شيء، مما يدل على أنها إسرائيليات مبتدعة، وليس مرجعها إلى المعصوم صلى الله عليه وسلم والحق أبلج، والباطل لجلج لا يُتفق عليه غالبا.
وسأكتفي بذكر الرواية الطويلة التي ذكرها ابن أبي حاتم، في تفسيره بسنده، عن وهب بن منبه، عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه وخلاصتها: "أن الحواريين لما سألوا عيسى ابن مريم عليه السلام المائدة كره ذلك؛ خشية أن تنزل عليهم، فلا يؤمنوا بها، فيكون فيها هلاكهم، فلما أبوا إلا أن يدعو لهم الله لكي تنزل، دعا الله، فاستجاب له، فأنزل الله تعالى سفرة حمراء بين غمامتين؛ غمامة فوقها وغمامة تحتها، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من السماء، تهوي إليهم، وعيسى عليه الصلاة والسلام يبكي خوفا من الشرط الذي اتخذ عليهم فيها فما زال يدعو حتى استقرت السفرة بين يديه، والحواريون حوله يجدون رائحة طيبة، لم يجدوا رائحة مثلها قط، وخرَّ عيسى عليه الصلاة والسلام والحواريون سجَّدًا، شكرا لله تعالى وأقبل اليهود ينظرون إليهم، فرأوا ما يغمهم، ثم انصرفوا، فأقبل عيسى عليه السلام ومن معه ينظرونها فإذا هي مغطاة بمنديل، فقال عليه السلام: من أجرؤنا على كشفه، وأوثقنا بنفسه، وأحسننا بلاء عند ربه، حتى نراها، ونحمد ربنا سبحانه وتعالى ونأكل من رزقه الذي رزقنا؟ فقالوا: يا روح الله وكلمته، أنت أولى بذلك، فقام واستأنف وضوءا جديدا، ثم دخل مصلاه، فصلى ركعات، ثم بكى طويلا، ودعا الله تعالى أن يأن له في الكشف عنها، ويجعل له ولقومه فيها بركة، ورزقا، ثم انصرف، وجلس حول السفرة وتناول المنديل، وقال: بسم الله خير الرازقين، وكشف عنها، فإذا عليها سمكة ضخمة مشوية، ليس عليها بواسير، وليس في جوفها شوك، يسيل السمن.
منها، قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث، وعند رأسها خل، وعند ذنبها ملح، وحول البقول خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الآخر تمرات، وعلى الآخر خمس رمانات، وفي رواية: على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد، فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى: يا روح الله وكلمته، أمن طعام الدنيا هذا، أم من طعام الجنة؟ فقال عيسى: أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات، وتنتهوا عن تنقير المسائل؟! ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية، فقال له شمعون: لا وإله إسرائيل ما أردت بهذا سؤالا يا ابن الصديقة، فقال عيسى عليه السلام ليس شيء مما ترون من طعام الدنيا، ولا من طعام الجنة، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة الغالبة القاهرة.
فقالوا: يا روح الله وكلمته، إنا نحب أن يرينا الله آية في هذه الآية: فقال عليه السلام: سبحان الله تعالى أما اكتفيتم؟! ثم قال: يا سمكة عودي بإذن الله تعالى حية كما كنت، فأحياها الله، وعادت حية طرية، يا سمكة عودي بإذن الله تعالى كما كنت مشوية، فعادت، ثم دعاهم إلى الأكل فامتنعوا، حتى يكون هو البادئ، فأبى، ثم دعا لها الفقراء والزمنى، وقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، واحمدوا الله تعالى الذي أنزلها لكم، فيكون مهنئوها لكم وعقوبتها على غيركم، وافتتحوا أكلكم باسم الله تعالى، واختتموه بحمد الله، ففعلوا، فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة، يصدرون عنها، كل واحد منهم شبعان يتجشَّأ، ونظر عيسى والحواريون، فإذا ما عليها كهيئته، إذ نزلت من السماء، لم ينقص منها شيء، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون، فاستغنى كل فقير أكل منها وبرئ كل زمن أكل منها، وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة سالت منها أشفارهم، وبقيت حسرتها في قلوبهم، إلى يوم الممات.
وكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك: أقبل إليها بنو إسرائيل يسعون من كل مكان، يزاحم بعضهم بعضا، فلما رأى ذلك، جعلها نوبا تنزل يوما ولا تنزل يوما، ومكثوا على ذلك أربعين يوما، تنزل عليهم غبا، عند ارتفاع النهار، فلا تزال موضوعة يؤكل منها، حتى إذا قالوا ارتفعت عنهم إلى جو السماء، وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض، حتى تتوارى عنهم.
فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام: أن اجعل رزقي لليتامى، والمساكين، والزمنى دون الأغنياء من الناس، فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء، وعمصوا ذلك، حتى شكوا فيها في أنفسهم، وشككوا فيها الناس، وأذاعوا في أمرها القبيح، والمنكر، وأدرك الشيطان منهم حاجته، وقذف وساوسه في قلوب المرتابين، فلما علم عيسى ذلك منهم قال: هلكتم وإله المسيح، سألتم نبيكم أن يطلب المائدة لكم إلى ربكم، فلما فعل، وأنزلها عليكم رحمة، ورزقا، وأراكم فيها الآيات والعبر كذبتم بها، وشككتم فيها فأبشروا بالعذاب؛ فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله تعالى، وأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام إني آخذ المكذبين بشرطي، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، فلما أمسى المرتابون بها، وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين، فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير، فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات.
قال ابن كثير في تفسيره بعد ذكره: "هذا أثر غريب جدا قطعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا ليكون سياقه أتم، وأكمل، والله سبحانه وتعالى أعلم".
أقول: ومن هذه الروايات الغريبة دخل البلاء على الإسلام والمسلمين؛ لأن غالبها لا يصح، ولذا قال الإمام الجليل أحمد بن حنبل: "لا تكتبوا هذه الأحاديث الغرائب؛ فإنها مناكير، وعامتها عن الضعفاء".
وقال الإمام مالك: "شر العلم الغريب، وخير العلم الظاهر الذي قد رواه الناس" وقال ابن المبارك: "العلم: الذي يجيئك من ههنا وههنا" يعني المشهور الذي رواه الكثيرون. رواها البيهقي في المدخل وروى عن الزهري أنه قال: "ليس من العلم ما لا يُعرَف، إنما العلم ما عُرِف وتواطأت عليه الألسن".
وأحب أن أنبه إلى أن أصل القصة ثابت بالقرآن الذي لا شك فيه وإنما موضع الشك في كل هذه التزيدات التي هي من الإسرائيليات.
وقد ذكر المفسرون جميعا كل ما يدور حول قصة المائدة، وإن اختلفوا في ذلك قلة وكثرة، والعجب أن أحدا لم ينبه على أصل هذه المرويات، والمنبع الذي نبعت منه، حتى الإمامين الجليلين: ابن كثير والآلوسي، وإن كان ابن كثير قد أشار من طرف خفي إلى عدم صحة معظم ما روى، ولعلهم اعتبروا ذلك مما يباح روايته، ويحتمل الصدق والكذب، فذكروه من غير إنكار له، وكان عليهم أن ينزهوا التفسير عن هذا وأمثاله.
وقد شكك في القصة الطويلة التي اختصرناها الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي، فقال: قلت: في هذا الحديث مقال، ولا يصح من قبل إسناده.
ثم عرض بعد لما روي مرفوعا، وموقوفا، وذكر ما قاله الإمام أبو عيسى الترمذي: من أن الموقوف أصح، وأن المرفوع لا أصل له.
التفسير الصحيح للآيات:
ولأجل أن نكون على بينة من أن تفسير الآيات، والانتفاع بها، والاهتداء بهديها.
ليس متوقِّفًا على ما رووا من أخبار وقصص، تفسر لك الآيات تفسيرا صحيحا، كما هو منهجنا في كل ما عرضنا له، فأقول وبالله التوفيق:
قال الله تعالى:
{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} إذ: ظرف لما مضى من الزمان، وهو مفعول لفعل محذوف، والتقدير: اذكر -يا محمد- ما حدث في هذا الزمن البعيد؛ ليكون دليلًا على صدق نُبُوَّتِك، فما كنت معهم، ولا صاحب أهل الكتاب، ولم تكن قارئا، ولا كاتبا.
الحواريون: جمع حواري وهم: المخلصون الأصفياء من أتباع عيسى عليه السلام ويطلق أيضا على الأصحاب المخلصين من أتباع الأنبياء، وفي الحديث الصحيح: "إن لكل نبي حواريا وحواري: الزبير "يعني ابن العوام".
المائدة: الخوان الذي عليه الطعام، فإن لم يكن عليها طعام فهو خوان: السماء؛ إما المعروفة أو المراد بها جهة العلو؛ فإنها قد تطلق ويراد بها كل ما علا.
وليس المراد بالاستفهام هو أصل الاستطاعة، وأنهم ما كانوا يعلمون هذا؛ لأن السائلين كانوا مؤمنين، عارفين، عالمين بالله وصفاته، بل في أعلى درجات هذه الصفات، وإنما المراد بالسؤال: الإنزال بالفعل، من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب، والمعنى: هل يجيبنا ربك -يا نبينا عيسى- إلى ذلك أم لا؟
وقال بعض العلماء: ليس ذلك بشك في الاستطاعة، وإنما هو تلطُّف في السؤال، وأدب مع الله تعالى بهذه الصيغة المهذبة كقول الرجل لآخر: هل تستطيع أن تعتبني على كذا، وهو يعلم أنه يستطيع.
وأما قول من قال: إنه من قول من كان مع الحواريين، فبعيد؛ لخروجه عن ظاهر الآية، ولا سيما أن تفسير الآية مستقيم غاية الاستقامة على ما ذكرنا.
وهذا السؤال إما لفقرهم وحاجتهم، وإما لتعرف فضل نبيهم عيسى، وفضلهم وكرامتهم عند ربهم.
وأما ما روي أن عيسى أمرهم بصيام ثلاثين يومًا، ثم ليسألوا ربهم ما يشاءون، فصاموا وسألوا، فلست منه على ثلج {قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين} .
ليس هذا شكا في إيمانهم، وإنما هو أسلوب معهود، حملا على التقوى، كما قال تعالى في حق المؤمنين الصادقين، من هذه الأمة المحمدية: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} 1 والمعنى: اتقوا الله ولا تسألوه، فعسى أن يكون فتنة لكم، وتوكَّلوا على الله في طلب الرزق، أو اتقوا الله ودعوا كثرة السؤال؛ فإنكم لا تدرون ما يحل بكم عن اقتراح الآيات؛ لأن الله سبحانه إنما يفعل الأصلح لعباده {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} ، من أهل الإيمان بالله ورسله، ولا سيما أنه سبحانه آتاكم من الآيات ما فيه غنية عن غيره {قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا} بدأوا بالغذاء المادي، ثم ثنوا بالغذاء الروحي، فقالوا: {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} ، وهو مثل قول الخليل إبراهيم عليه السلام: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} . {وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا} أي: نزداد علما، ويقينًا بصدقك، وحقيقة رسالتك: {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي: المقرين المعترفين لله بالوحدانية، ولك بالنبوة، والرسالة، أو: من الشاهدين عليها لمن لم يرها ويعاينها.
{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} .
العيد: يوم الفرح والسرور، {لِأَوَّلِنَا} : لأول أمتنا، {وَآخِرِنَا} : لآخر أمتنا أو لنا، ولمن بعدنا.
{وَآيَةً مِنْك} أي: دليلا، وحجة على قدرتك، على كل شيء، وعلى إجابتك لدعوتي، فيصدقوني فيما أبلغه عنك، {وَارْزُقْنَا} أي: من عندك رزقًا هنيئًا لا كلفة فيه، ولا تعب، {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي: خير من أعطى ورزق؛ لأنك الغني الحميد.
{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} .
أي: فمن يكفر أي: يكذب بها من أمتك يا عيسى، وعاندها، فإني أعذبه عذابا، لا أعذبه أحدًا من عالمي زمانكم، وهذا على سبيل الوعيد لهم، والتهديد.
وليس في الآية ما يدل على أنهم كفروا، ولا على أن غيرهم قد كفر بها، ولا على أنهم استعفروا من نزول المائدة، وإنما الذي دعا بعض المفسرين إلى هذه الأقوال ما سمعت من الروايات الإسرائيلية، وها نحن قد فسرنا الآيات تفسيرًا علميًّا صحيحًا من غير حاجة إلى ما روي، مما يدل دلالةً قاطعةً على أن مفسر القرآن في غنية عن الإسرائيليات التى شوهت جمال القرآن وجلاله. اهـ (الإسرائيليات والموضوعات فى كتب التفسير صـ 190: 198)(1/346)
اللحم، والقول الثاني وهو الغريب، إنها لم تنزل، لأنه لما شرط وقال:
(فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ) الآية، سمع القوم الشرط فخافوا واستغفروا ولم
تنزل، وهذا قول الحسن.
العجيب: قال مجاهد: لم تنزل مائدة، وإنما هذا مثل ضربه الله
لمقترحي المعجزات.
قوله: (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) .
الجمهور: إن هذا سؤال يكون في القيامة.
الغريب: السدي وقطرب وابن جرير: خاطبه به حين رفع إلى
السماء، بدليل قوله: (ذ) ، لأنه علم للماضي، وبدليل قوله: (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) : لأنهم كانوا بعد أحياء، يتصور منهم الإيمان.
قوله: (مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ)
أي ثابت، وقيل: بمستحق، والمعنى: لا أقول ما لا يليق بي.
وما لا استحقه.
الغريب: وذهب جماعة إلى أن التقدير، بحق إن كنت قلته، فحملوه
على التمييز، وهذا بعيد، لأن الشرط لا يقع في جواب القسم إلا مع اللام أو ما يقع في أجوبة القسم.
العجيب: (إِنْ) بمعنى "مَا" النفي، أي ما كنت قلته.
قوله (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ)
أي لأن أكن، لَئِن الشرط لا يدخل على الماضى ألبتة.
والمعنى إن صح أني قلته، لأن حروف الشرط مسلطة على ما يليه دون
ما بعده، ولهذا وقع الطلاق في قوله: إن كنت دخلت الدار فأنت طالق.
بدخول ماض ضُمِرَ، ولم يوقف على دخول مستأنف، لأن التقدير، إن تكوني(1/347)
دخلت الدار فأنت طالق، أي صح دخولك الدار فيما مضى، فأنت طالق.
وقد صح، فوقع الطلاق، وقول من قال: كان مستثنى من هذا الباب غير
مرضي عند النحاة.
قوله: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)
الجمهور: على ما في غيبي وما في غيبك.
وقيل: ذكر النفس لازدواج الكلام، وهو باب واسع.
الغريب: النفس ها هنا ما يذْكر للتأكيد في نحو: جاءني زيد نفسه.
والمعنى تعلم ما فيَّ ولا أعلم ما فيك.
العجيب: قول من قال: تقديره: تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في
نفسك، فأضاف نفسه إلى الله ملكاً وخلقاً.
قوله: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) .
في محل نصب بدلًا من "مَا"، وقيل: في محل جر بدلًا من "الهاء" في قوله: "بِهِ"، وقيل: لا محل له من الإعراب، وهو بمعنى أي المفسرة.
(كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ)
"أَنْتَ" فصل لا محل له عن الإعراب، وقيل تأكيد للتاء.
العجيب: مبتدأ تقدم عليه الخبر.
قوله: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الآية.
قوله في الآية (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) على قول السدي وصاحبيه
ظاهر، لأنهم كانوا بعْدُ أحياء، ومن جعله في القيامة، ففيه إشكال.
المبرد: (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) ما قالوا عليَّ خاصة.
الزخاج: (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) لمن أقلع منهم وآمن.(1/348)
العجيب: قيل: جائز أن يكون الله لم يُعْلِمْ عيسى أنه لا يغفر الشرك.
وهذا بعيد، ويحتمل معنى دقيقا، وهو: أنَّ قولَه: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ) شرط
وقوله: (فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) جزاؤُه، فالعبودية صارت معلقة بالتعذيب، وهذا ليس بالسهل، لأن الظاهر يقتضي أن لا يكونوا عباده إذا لم يعذبهم، فاستدرك بقوله: (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) والمراد به: وإن لم تعذبهم لا سؤال المغفرة لهم، ولهذا لم يختم الآية بالغفران والرحمة، بل قال: (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، ومثله من الفقه، إن دخلت الدار فأنتَ حرٌّ وإن لم تدخل. عُتِقَ
في الحال، لأن هذا كلام من شرط ثم أنجز - والله أعلم -.
(قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ) .
الرفع على الابتداء، والخبر، والنصب له وجوه:
أحدها: أن هذا مفعول قال، و "يَوْمُ" ظرف له أي يقول الله هذا يَوْمُ يَنْفَعُ. الثاني: أن هذا مبتدأ "يَوْمُ" ظرف، وهو خبر المبتدأ، أي هذا يقع يوم ينفع.
الغريب: "يَوْمُ" مبني لإضافته إلى الجملة، وعند البصريين.
إنما يبنى على الفتح إذا أضافه إلى الماضي نحو قول الشاعر:
عَلَى حينَ عَاتَبْتُ المشِيبَ على الصِّبَا. . . فَقُلْتُ: ألَمَّا أصْحُ والشَّيْبُ وَازعُ
أو إلى مبني، نحو: يومئذٍ، ليلتئذٍ.(1/349)
سورة الأنعام
عن وهب إن أول التوراة فاتحة الأنعام، وآخرها سورة هود.
وقيل: آخرها آخر سورة بني إسرائيل.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) .
جمع السماوات، لأنها سبع طباق، عُلم ذلك بدلائل قطعية، ووحد
الأرض، لاتصال بعضها ببعض في الطول والعرض.
الغريب: الأرض، جمع أرضة، والتصغير وجمعها على أرضين يدلان
على ذلك، وقدم السماء لشرفها، وقيل: لأنها خلقت قبل الأرض.
قوله: (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)
أي خلقهما، والفرق بينهما، أن "خلق" معناه أحدث فحسب، و "جَعَلَ" معناه أحدثه متكررا.
الغريب: "جَعَلَ" حال، و "قد" مقدر معه: تقديره خلق السماوات
والأرض وقد جعل الظلمات والنور، وجمع الظلمات، لأنها تحدث عن
أشياء: ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة البحر، ووحد النور، لأنه متحد
الوصف وهو ما يرى ويرى به، وقدم الظلمات لأنها خلقت قبل النور وعن
مجاهد: كان الزنادقة تقول: يزدان خالق النور، يعنون الله، وأهرمن
خالق الظلمة يعنون إبليس، فأنزل الله (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ)
وقيل: هما الليل والنهار، وقيل: النار والجنة، وقيل: الكفر والإيمان.
الغريب: هما الأجساد والأرواح.(1/350)
قوله: (ثُمَّ الَّذِينَ)
ثم تتضمن الإنكار على الكفار، والتعجب
للمؤمنين، وكذلك قوله: (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) .
قوله: (بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)
"الباء" من صلة "يَعْدِلُونَ"، أي يعدلون الأوثان بربهم.
تقول: عدلت الشيء بالشيء، إذا سويت به غيره.
الغريب: " الباء" من صلة "كفروا"، وصلة "يَعْدِلُونَ" محذوف.
العجيب: "الباء" بمعنى "عن"، وهو من صلة "يَعْدِلُونَ".
والمعنى يميلون عن عبادة ربهم.
قوله: (أَجَلًا وَأَجَلٌ) .
فيهما أقوال:
والغريب منها: أن الأول: لابتداء الشيء، والثاني: لانتهائه.
(وَهُوَ اللَّهُ) .
كناية عن الذي خلقكم، وقيل: كناية عن الأمر والشأن، وهذا أظهر.
قوله: (فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)
قيل: الظرف متصل باللفظ الله، أي المعبود في السماوات وفي الأرض، وأنكره المحققون، وقالوا: هو جار مجرى الأعلام، والأعلام لا يعمل فيها ما بعدها، وقيل: لفظ الله - سبحانه - مبنى على القدرة والإرادة وغيرهما، فصار تقديره، وهو المدبر في السماوات وفي الأرض، وقيل: متصل بالفعل، أي يعلم ما في السماوات وما في الأرض.
الغريب: حال من المخاطبين تقدم عليهم، وقيل: متصل بقوله
"تَكْسِبُونَ".
العجيب: صلة لـ (سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) ، وهذا سهو، لأن صلة المصدر
لا تتقدم على المصدر، لكنه يجوز أن يكون حالاً للمصدرين تقدم عليهما.
ومن الغريب: أن (فِي السَّمَاوَاتِ) من صلة الكلام الأول، فحسن(1/351)
الوقف على السماوات، وهو مروي عن الكسائي، وأن (في الأرض) متعلق
بالكلام الثاني على ما سبق.
سؤال: لم قال في هذه السورة: (فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ) ، وقال في الشعراء، (فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ) ؟.
الجواب: لأن سورة الأنعام متقدمة، فقيدها هنا وذكر في الشعراء.
مطلقاً، لأن تقيده ها هنا يدل عليه، ثم اقتصر على السين هناك بدل سوف.
ليتفق اللفظان فيه على الاختصار.
قوله: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) .
(رأيت) هاهنا يتعلق بمكان الاستفهام الذي تضمنه "كَمْ" و "كَمْ" في
محل نصب ب "أَهْلَكْنَا".
سؤال: لِمَ قال هنا (أَلَمْ) ، وفي مواضع (أوَلَم) .
الجواب: ما كان الاعتبار فيه بالمشاهدة ذكره بالألف وواو العطف أو
فائه، وما كان الاعتبار فيه بالاستدلال، ذكره بالألف وحده، ولا ينقض هذا الأصل قوله: (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ) في النحل، لاتصالها
بقوله: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) الآية، وسبيلها الاعتبار
بالاستدلال، فبنى (أَلَمْ يَرَوْا) عليه.
قوله: (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ)
كان القياس: نُمَكِّنْ لهم، لقوله: (أَلَمْ يَرَوْا) - بالياء -، لكنه لما كان التقدير في الآية ما لم نُمَكِّنْ لهم ولا لكم(1/352)
فاجتمع الغائب والحاضر، وإذا اجتمعا، فالحكم للحاضر دون
الغائب، وقيل: هذا على الاتساع، وتلوين الخطاب. ومكنته ومكنت له
لغتان، فجمع في الآية من اللعن، والتمكين إعظاماً يصح به القول كائناً ما كان.
قوله: (مِدْرَارًا)
حال من السماء، والسماء هنا المطر.
قوله: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ) .
أي أشكلنا وشبهنا عليهم من أمره.
العجيب: جويبر: وَلَلَبَسْنَا على الملائكة من الثياب ما يلبسه الناس.
وهذا بعيد، لأن العرب تقول: لبَثت الأمر - بالفتح -، ولبِثت الثوب
- بالكسر -.
قوله: (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا) .
ذكر في هذه السورة "ثُمَّ" ثم ذكر في النمل والعنكبوت والروم
وغيرها: "فَانْظُرُوا" - بالفاء، لأن "ثُمَّ" للتراخي، و "الفاء" للتعقيب:
وفي هذه السورة تقدم ذكر القرون في قوله: (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) فأمروا باستقراء الديار وتأمل الآثار، وفيها كثرة، فيقع ذلك بِسيْرٍ
بعد سَيْرٍ وزمانٍ بعد زمانٍ، فخصت بـ "ثُمَّ"، ولم يتقدم في سائر السور مثلها، فخصت بـ "الفاء".
الغريب: الحسن: (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ، أي اقرأوا القرآن وتأملوا ما وقع بهم.(1/353)
قوله: (قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ) .
تقديره، فإن أجابوك، وإلا فقل: للُه، وقيل: تقديره، فقل: لله، فإنهم
لا ينكرون.
الغريب: صاحب النظم: قال لهم ما أمر به، فقالوا فلمن هي؟ :
فأجابه الله تعالى بقوله: (قُلْ لِلَّهِ) .
قوله: (الَّذِينَ خَسِرُوا) محله رفع بالابتداء، (فَهُمْ) خبره، ودخل الفاء في الخبر لكونه موصولاً.
العجيب: قال الأخفش: محله نصب بالبدل من ضمير المخاطبين
في قوله "لَيَجْمَعَنَّكُمْ" وفي قوله بعد، لأنه لا يجوز البدل من ضمير
المخاطب ولا من ضمير المتكلم إلا في ضرورة الشعر، لما في البدل
من البيان والتعريف اللذين يقعان بالوصف، فامتنع الضميران منه، كما امتنع الضمير من الوصف أصلاً.
قوله: (وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) .
أراد سكن وتحرك، فاكتفى بذكر الضدين عن الآخر.
الغريب: اختار ذكر السكون لأن السكون أعم، ولأن مآل كل متحرك
إلى السكون.
وقيل: "مَا سَكَنَ" أي دخل من قوله: (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) .
قوله: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .
كان القياس: أمرت أن أكون أول من أسلم وأن لا أكون مِنَ الْمُشْرِكِينَ(1/354)
أو "أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ"، ونهيت أن أكون من المشركين.
لكن قوله: (أُمِرْتُ) دل على قيل لي، فأضمر، فصار التقدير:
"أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ"، وقيل لي "وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ".
الغريب: تقديره: وقل لكل واحد من أمتك "وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ".
قوله: (مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) .
من قرأ بفتح (الياء) فالفاعل مضمر يعود إلى "ربي" والمفعول
محذوف تقديره: من يصرفه عنه، والعائد ضمير العذاب، وحذف الضمير مع الموصولة و "مَنْ" في الآية شرط، فالإثبات أحسن.
ومَن ضم "الياء" فالمضمر فيه يعود إلى العذاب (1) .
الغريب: الضمير في "عَنْهُ" يعود إلى العذاب، وكذلك الضمير في
"يُصْرَفْ" فيمن ضم، والوجه الأول كقوله: (أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) .
قوله: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
الظاهر أن جواب الشرط مضمر، تقديره، وإن يمسسك بخير لا يرده
شيء، والفاء في قوله: "فَهُوَ" لعطف جملة على جملة وليس بجزاء
الشرط، لأن جزاء الشرط ما يقع بوقوعه، وقدرة الله سابقة على الفعل.
قوله: (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) .
من المفسرين من استدل بالآية على أن الله - سبحانه - قد يوصف بكونه شيئاً
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (مَنْ يُصْرَفْ) الآية 16 فأبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف بفتح الياء وكسر الراء بالبناء للفاعل والمفعول محذوف ضمير العذاب وافقهم الحسن والأعمش والباقون بضم الياء وفتح الراء بالبناء للمفعول والنائب ضمير العذاب والضمير في عنه يعود على مَنْ. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 261) .(1/355)
وجعل تقدير الآية: قل الله أكبر شيء شهادة وهو شهيد بيني وبينكم.
ومنهم من ذهب إلى أن قوله (قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ) استئناف كلام وليس بجواب
للأول.
قوله: (وَمَنْ بَلَغَ)
الفاعل مضمر يعود إلى القرآن والمفعول محذوف.
أي من بلغه، وحسن حذف الضمير المنصوب من الصلة لأنه يصير أربعة
أشياء الموصول والفاعل والفعل فهو داخل في إنذار محمد - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ) .
منصوب بمضمر، أي اذكر، أو أنذر يوم نحشرهم.
الغريب: لا يفلح الظالمون أبداً وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ.
قوله: (تَزْعُمُونَ)
مفعولاه محذوفان، أي تزعمونهم شركاء.
قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ) .
أي عاينوها، وقيل: صاروا فوقها، وقيل: حبسوا فيها.
الغريب: أي جعلوا وقفاً على النار، من الوقوت المؤبدة، وهذا يدفعه
قوله: (وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) .
قوله: (وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) .
قيل: على قضاء ربهم ومسألة ربهم وحاسبهم ربهم.
العجيب: وقفوا على ربهم فشاهدوه، ذهب بعض المشبهة إلى هذا.
وهذا فاسد، لأن رؤية الله مخصوصة للمؤمن دون الكافرين.
وجواب "لَوْ" من الآيتين محذوف.(1/356)
قوله: (بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ) .
قيل: جزاء ما كانوا يخفون، أي جزاء الذنوب، وقيل: يخفون الشرك.
والمعاصي والنفاق.
الغريب: أي بدا عنهم، أي شهادة الجوارح ما كانوا يخفون.
العجيب: ابن بحر: ما كانو" يخفون أي يجدونه خافياً، كما تقول:
أحمدته وجدته محموداً، وأعمرتها وجدتها عامرة.
قوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) .
كناية عن المدة، وقيل: عن الحياة.
قوله: (فَرَّطْنَا فِيهَا) .
قيل: في الدنيا، وقيل: في القيامة، أي في التقدمة لها.
الغريب: الكناية تعود إلى الصفة، ولفظ (خَسِرَ) يدل عليه، و "مَا" على
هذه الوجوه للمصدر.
العجيب: "مَا" هي الموصولة، وفيها كناية عن "مَا" وأنث حملاً على
الإعمال، وهذا حسن.
قوله: (أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ)
إن جعلت "مَا" نكرة موصرفة، فمحله نصب، نحو: بئس رجلاً زيد.
وإن جعلته الموصول، فمحله رفع.
وأجاز أبو علي وقوع الموصول موقعه لما فيه من العموم الذي يقرب من الجنس.
قوله: (وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) .
فاعل "جاء" مضمر فيه، وهو يعود إلى النبأ، وإن لم يتقدم ذكره، لأن
قوله: (مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) يدل عليه.
الغريب: فاعله مصدر جاء، أي مجيء (مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) ، ولا يجوز أن
يكون التقدير نبأ (مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) ، فحذف، لأن الفاعل لا يحذف،(1/357)
ولا يجوز أن يكون "مِن" زيادة، لأنها لا تزاد في الإثبات، وأجاز الأخفش زيادته في الإثبات قياسا على النفي.
قوله: (فَإِنِ اسْتَطَعْتَ) .
جزاء للشرط الأول، وجزاء للشرط الثاني محذوف، أي فافعل.
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) .
كل ذي روح، إما أن يدب وإما أن يطير، وقيد بالجناحين قطعاً
للمجاز، فإنك تقول: طائر، وتريد به المسارعة.
قوله: (أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)
قيل: في الخلق والرزق والموت، ثم انفرد كل نوع بخاصة، وقيل: أمثالكم
في الخلق والموت والبعث.
الغريب: (أَمْثَالُكُمْ) في معرفة الله وتوحيده وتسبيحه بدليل قوله:
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ، وقيل: يفقه بعضها من بعض كما
نفقه نحن بعضنا من بعض.
العجيب: ذهب بعضهم إلى: أن أصناف الحيوانات مكلفة متعبدة
لقوله: (أَمْثَالُكُمْ) وإن كل صنف منها يأتيه نذير من جنسها لقوله: (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ) ، وهذا فاسد، لأن المماثلة لا توجب المساواة في
كل شيء.
قوله: (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ) .
"الواو" زائدة، والمعنى جامع للوصفين، وقد تقع "الواو" هذا الموقع في
الشعر، قال:(1/358)
لقيمُ بن لقمانَ من أختِه. . . وكانَ ابنَ أختٍ لَهُ وابنها
الواو زائدة، لأن المعطوف غير المعطوف محليه.
قوله، (أَرأَيتَكُمْ) .
التاء ضمير الفاعل، والكاف لمجرد الخطاب، ومعنى الاسم مخلوع
عنه واكتفى بتثنية الكاف وجمعه وتأنيثه عن تثنية التاء وجمعه وتأنثه، تقول:
أرأيتك زيداً ما صنع.
الغريب: ذهب الكوفيون إلى: أن الكاف اسم، والمعنى أرأيت
نفسك، وهذا بعيد، لأن شرط المفعول الثاني في هذا الباب، إذا كان مفرداً
أن يكون هو إياه وليس هو كذلك في قوله: (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ) ، ولا في سائر الآيات، واحتج بعضهم، فقال: تقدير الآية
أرأيتكم أنفسكم داعية غير الله إن أتاكم عذابه، وتقدير الآية الثانية: أرأيتَكم أنفسكم غير هالكة إن أتاكم عذاب الله بغتة. وأضمر ما يتم به مفعولاه.
قال الفراء: للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان:
أحدهما أن يسأل الرجل أرأيت زيدا بعينك، فهذه مهموزة.
والآخر أن يقول أريتَك، وأنت تريد أخبرني.
فتترك الهمزة للفرق بين المعنيين، وقراءة الكسائي "أريتكم" - بحذف
الهمزة - كل القرآن، ولينها نافع (1) .
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
وقرأ (أَرأَيتَكُمْ) الآية 40 وبابه وهو رأى الماضي المسبوق بهمزة الاستفهام المتصل بتاء الخطاب بتسهيل الهمزة الثانية بين بين قالون وورش من طريقيه وأبو جعفر ولورش من طريق الأزرق وجه آخر وهو إبدالها ألفا خالصة مع إشباع المد للساكنين وتقدم أن الجمهور عنه على الأول كالأصبهاني وقرأ الكسائي بحذف الهمزة الثانية في ذلك كله وهي لغة فاشية والباقون بإثباتها محققة على الأصل ويوقف عليه لحمزة بوجه واحد بين بين وأدغم ذال إذ جاءهم أبو عمرو وهشام. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 263) .(1/359)
قوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ)
فيه إضماران أحدهما: رسلاً، والثاني: فكذبوهم، أي أرسلنا إلى أمم
من قبلك رسلاً فكذبوهم، فأخذناهم.
قوله: (وَلَكِنْ قَسَتْ) .
فيه إضمار، أي قَسَتْ قُلُوبُهُمْ، فلم يؤمنوا ولم يتضرعوا، (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
قوله: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
في الحمد هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها أمر، والثاني: أنه ثناء، والثالث: إخبار.
أما الأمر، فعلى وجهين:
أحدهما: قولوا الحمد لله على إهلاك أعدائِهِ وأعداءِ المؤمنين.
والثاني،: قولوا الحمد لله الذي لم بجعل هلاك أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في الدنيا كما جعل هلاك سائر الأمم فيها.
وأما الثاني: فهو ثناء من الله - سبحانه - على نفسه بإهلاك عدوه وعدو
أنبيائه.
وأما الإخبار فعلى وجهين:
أحدهما: إثبات، والآخر نفي.
أما الإثبات، فعلى تقدير: فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله ثابت كما كان لم ينقطع بهلاكهم.
وأما النفي، فهو نفي الذم، أي قطع دابر القوم الذين ظلموا، وهو محمود على ما فعل، فإنه سبحانه - قد أعذر وأنذر وأنعم وأمهل.
الغريب: يحتمل أنه، لما قال قطع بلفظ المجهول، قال والحمد لله.
أي هو القاطع فاحمدوه.
قوله: (يَأْتِيكُمْ بِهِ) .
قيل الكنابة تعود إلى الأخذ، والمراد به المأخوذ، وقيل: إلى السمع
وقيل: إلى كل واحد.(1/360)
الغريب: الفراء: إذا كنيت عن الأفاعيل، وإن كثرت وحدت الكناية
تقول: إقبالك وإدبارك يؤذيني.
العجيب: "بِهِ" كناية عن الهدى المذكور في قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) ، وهو بعيد، لبعده منه.
ومعنى "وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ) ها هنا، سلب العقل منها والتمييز.
الغريب: معناه أماتكم.
قوله: (لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) .
محله نصب على الحال من "يخافون) .
الغريب: واقع موقع المفعول الثاني، لأنذر.
قوله: (فَتَطْرُدَهُمْ) .
جواب للنفي، وهو قوله: (وَمَا مِنْ حِسَابِكَ) ، أو يكون جواب النهي.
وهو قوله: (وَلَا تَطْرُدِ) .
الغريب: (فَتَكُونَ) عطف على "تَطْرُدَهُمْ".
قوله: (لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) .
"اللام" لام كي، أي فتنوا ليقولوا على ما تقدم في علم الله سبحانه
علم ما يقولون، وهذا على سبيل الإنكار، وقيل: على سبيل الاستخبار.
الغريب: "اللام" بمعنى العاقبة، وهذا أظهر.(1/361)
قوله: (بِالْغَدَاةِ) .
قرأ ابن عامر: بالغَدْوة، وهو غريب في العربية (1) ، لأن غدوة معرفة لا
يدخلها الألف واللام، فهي ليومك، وأكثرهم على أنها لا تنصرف
كسحر إذا أردت من يومك، وأما الغداة فهي نكرة تعرف بالإضافة أو
بالألف واللام.
قوله: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ) .
من فتح "أَنَّهُ" جعله بدلاً من الرحمة، ومن كسره جعله حكاية لأن
كتب بمعنى قال، و "مَن" لا يخلو من وجهين:
أحدهما: أن يكون للشرط.
والفاء دخل في الجزاء، والثاني، أن يكون بمعنى الذي وهو رفع بالابتداء.
والفاء دخل في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط، ومن كسر "إِنَّ" فلأن
ما بعده جملة فيها جزاء الشرط، أو جملة هي خبر المبتدأ، ومن فتح فعلى
إضمار مبتدأ تقديره: فالذي له إنه غفور، أو فالأمر إنه غفور.
الغريب: ذهب الزجاج في جماعة، إلى أن (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
بدل من قوله: (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ) فيمن فتحها. وفيه ضعف.
قوله: (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) .
فيه إضمار، وهو سبيل المؤمنين، فاكتفى بذكر أحد الضدين، وقيل:
إذا بانت سبيل المجرمين، فقد بانت سبيل المؤمنين. وفيه إضمار آخر.
عُطف "وَلِتَسْتَبِينَ" عليه، وهو ليظهر الحق.
__________
(1) القراءة متواترة، ومن ثم فلا وجه لهذا الاستغراب.
قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (بِالْغَدَاةِ) الآية 52 هنا والكهف الآية 28 فابن عامر بضم
الغين وإسكان الدال وواو مفتوحة والأشهر أنها معرفة بالعلمية الجنسية كأسامة في الأشخاص فهي غير مصروفة ولا يلتفت إلى من طعن في هذه القراءة بعد تواترها من حيث كونها أعني غدوة علما وضع للتعريف فلا تدخل عليها أل كسائر الأعلام وأما كتابتها بالواو فكالصلوة والزكوة وجوابه أن تنكير غدوة لغة ثابتة حكاها سيبويه والخليل تقول أتيتك غدوة بالتنوين على أن ابن عامر لا يعرف اللحن لأنه عربي والحسن يقرأ بها وهو ممن يستشهد بكلامه فضلا عن قراءته وقرأ الباقون بفتح الغين والدال وبالألف لأن غداة اسم لذلك الوقت ثم دخلت عليها لام التعريف وعن الحسن فتنا بتشديد التاء. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 263: 264) .(1/362)
الغريب: (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) فصَّلنا.
و"استبان" لازم ومتعد، و "السبيل" يذكر ويؤنث.
قوله: (وَكَذَّبْتُمْ بِهِ) قيل: بالبيان.
الغريب: بربكم، وقد جرى ذكره، وقيل: آي القرآن.
قوله: (رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ) .
أي جميع الأجسام، لأنها إنما تكون رطباً أو يابساً.
الغريب: الرطب الماء واليابس البادية.
العجيب: الرطب، لسان المؤمن، أي هو رطب بذكر الله. واليابس.
لسان الكافر عن ذكر الله.
وقوله: (إِلَّا فِي كِتَابٍ) استثناء بعد استثناء، كما قال:
ما بالمدينةِ دارٌ غيرُ واحدةٍ. . . دارُ الخليفةِ إلا دارُ مروانا
وقيل: الثاني بدل من الأول.
قوله: (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) .
فيه تقديم وتأخير، تقديره ثم يبعثكم في النهار ويعلم ما جرحتم بلفظ
الماضي، وقوله: " فيه"، أي في نهار آخر، كما تقول: لَه علي درهم
ونصفه، أي نصف درهم.
وقال في آية أخرى (يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) .(1/363)
وفي أخرى (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) ، لأن الملائكة أعوان ملك الموت.
وملك الموت من أمر الله.
الغريب: توفته رسلنا الذين هم الحفظة، من قوله: (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) .
قوله: (وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ) .
تعود إلى رسلنا، وقيل: - وهو الغريب - إلى الحفظة على القولين.
قوله: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا) .
فيه ثلاثة أقوال، أحدها: أو يلبس أمركم، فحذف المضاف.
والمعنى: يخلط أمركم خلط اضطراب لا خلط اتفاق.
الثاني: أو يلبس عليكم أمركم، فحذف الجار، وحذف إحدى المفعولين، كما حذفا من قوله: (كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ) : أي كالوا لهم الطعام.
الثالث: وهو الغريب: يقوي عدوكم حتى يخالطوكم، فإذا خالطوهم فقد لبسوكم شيعاً.
و"شِيَعًا" نصب على الحال، وقيل: على المصدر.
قوله: (يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا) .
أي بالتكذيب والرد.
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) منكرا عليهم.
قوله: (مِنْ حِسَابِهِمْ) .
الضمير يعود إلى الكفار، ما على المتقين من حساب الكافرين.
المستهزئين بالقرآن شيء، ولكن عليهم أن يذكروهم ذكرى.
الغريب: يعود إلى المتقين، أي ما على المتقين من حساب
أعمالهم شيء.
(وَلَكِنْ ذِكْرَى) ، أي ولكن حساب المتقين ذكرى(1/364)
وتخفيف بخلاف حساب الكفار، فإنه تشديد وتغليظ، وقيل ذكرى في محل
رفع، أي فعليهم ذكرى.
الكسائي: ولكن هذه ذكرى.
قوله: (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا) .
أي اعتقدوا الأديان.
الفراء في جماعة، "دِينَهُمْ"، أي عيدهم، فإن كل قوم اتخذوا عيدهم فرحاً وباطلا إلا أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنهم اتخذوا
عيدهم صلاة لله وصدقة وذكرى.
الغريب: "دِينَهُمْ"، عبادتهم.
العجيب: "دِينَهُمْ"، أي دنياهم لعباً ولهواً، واستدل القائل بقوله:
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) ، أي لعب كلعب الصبيان، ولهو كلهو الشباب، وزينة كزينة
النسوان، وتفاخر كتفاخر الإخوان، وتكائر كتكاثر السلطان.
سؤال: لمَ قدم اللعب في هذه السورة وأخرها في الأعراف.
الجواب: هاتان اللفظتان يتكرران في القرآن في ستة مواضع:
أربعة منها قدم فيها اللعب على اللهو، وهي سورة الأنعام في موضعين، وسورة القتال وسورة الحديد، وموضعان منها قدم اللهو على اللعب، وهي سورة الأعراف وسورة العنكبوت، وإنما قدم اللعب في هذه المواضع لأن زمان اللعب، وهو زمان الصبا مقدم على زمان اللهو، وهو زمان الشباب، بيَّنه ما(1/365)
ذكر في الحديد لعب كلعب الصبيان ولهو كلهو الشباب، وقريب من هذا
تقديم لفظ اللعب على اللهو في قوله سبحانه: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا) .
وقدم اللهو في الأعراف على اللعب، لأن ذلك في القيامة، فذكره ترتيب ما
انقضى وبدأ بما به الإنسان انتهى من الحالتين، وأما تقديمه في العنكبوت
فلأن المراد بذكرهما ذكر زمان الدنيا، وإنه سريع الانقضاء قليل البقاء.
(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) ، أي الحياة التي لا غاية لأمدها ولا نهاية لأبدها، تبدأ بذكر اللهو، لأنه في زمان الشباب، وهو أكثر من زمان اللعب، وهو زمان الصبا - والله أعلم -.
فإن قيل: لم وصف الحياة الدنيا بهما، وقد يقع فيها الأعمال الصالحة من أمر الآخرة؟
لأنها عملت لها، ولأن التقدير، أهل الحياة الدنيا أهل لعب ولهو.
قوله: (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) .
جملة في محل رفع وصف لقوله "نَفْسٌ".
(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ) .
(حَيْرَانَ) ، حال عن (الهاء) .
(لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) قيل: وصف (حَيْرَانَ) .
وقيل: حال عن "الهاء"، وقول من قال: (حَيْرَانَ) حال
عن "الهاء" في "له" تقدم سهو، لأن حال المجرور لا بتقدم عليه، لا يجوز
دخلت مصلياً على زيد.
قوله: (ائْتِنَا)
فيه إضمار، أي ويقولون له ائتنا.
قوله: (وَيَوْمَ يَقُولُ) .
مفعول به عطف على الهاء في "وَاتَّقُوهُ"، وقيل: اذكر يوم.
وقيل: خلق السماوات والأرض، وقدر (يَوْمَ يَقُولُ) .
وقيل: نصب على الظرف خبر(1/366)
عن المبتدأ، وهو "قَوْلُهُ الْحَقُّ"، فقوله مبتدأ، و "الْحَقُّ" صفته واليوم خبره.
وقيل: بعدها "وَيَوْمَ يَقُولُ".
قوله: (الصُّورِ) .
هو قرن ينفخ فيه.
الغريب: جمع صورة، كسورة وسور، وصوفة وصوف، أي ينفخ
الأرواح في الأجساد.
العجيب: قال ابن عباس: تصير السماوات ضورا ينفخ فيه مثل القرن.
وتبدل سماء أخرى.
(عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) تعلق بقوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) .
وقيل: خبر مبتدأ، أي هو عالم الغيب، أو يرتفع بفعل مضمر دلَّ
عليه ينفخ، أي ينفخ عالم الغيب، كما قال الشاعر:
ليُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ. . . ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيح الطَّوائِحُ
قوله: (آزَرَ) .
ظاهر القرآن على أنه اسم أبيه، وقيل: كان له اسمان، تارح وآزر.
كـ يعقوب وإسرائيل، وقيل: نسبته إلى تارح كذب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كذب النسابون".
الغريب: آزر اسم صنم، والنقدير، أتتخذ آزر إلهاً، (أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً) ، وقيل: شتم، ومعناه المعوج.(1/367)
العجيب: معنى "آزَرَ" أي شيخ كبير بالفارسية
وقيل: آزر: ذم ووصف لقوله: "أَصْنَامًا آلِهَةً"، وفيه بعد، لأن ما بعد الاستفهام لا يتقدم عليه.
قوله: (مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ) .
أي ملكاً، وهذه اللفظة مختصة باسمه - سبحانه -.
الغريب: (مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، أي خلقهما.
العجيب: أصله ملكوث - بالثاء - اسم أعجمي، وقد قرىء في
الشواذ، قلبت ثاؤه.
قوله: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) .
قيل: عطف على مضمر، أي ليشاهد الدلائل، وليكون.
وقيل: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، أريناه.
قوله: (بَازِغًا) .
حال من القمر، وكذلك (بَازِغَةً) . حال من الشمس.
وفي تذكير "هذا" أقوال:
الكسائي والأخفش. هذا الطالع ربي.
غيرهما: هذا الضوء قال علي بن سليمان أي هذا الشخص، وأنشد:
قامت تبكِّيه على قبرِهِ. . . مَن لِيَ مِن بعدِك يا عامِرُ
تركتَنِي في الدار ذا غُرْبةٍ. . . قد ذَلّ من ليس له ناصرُ.(1/368)
الغريب: الربوبية والتأنيث لا يجتمعان، وإبراهيم - عليه السلام - اعتقد أنه الرب - سبحانه - على قول ابن عباس، أو حكى عنها أو أظهر على قول سائر المفسرين، وقد بينتها في "لباب التفاسير".
قوله: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا) .
نصب استثناء منقطع.
قوله: (شَيْئًا) مصدر شاء، تقول: شئته شيئا وشيا.
قوله: (عِلْمًا) ، نصب على التمييز، لصرف الفعل عنه.
قوله: (أَتُحَاجُّونِّي) ، من خفف حذف النون التي قبل الياء، نحوة ليتي
وليتني، وليست النونَ التي تقع علامة للرفع، لأنها لا تحذف في حال الرفع.
وإنما كسرت لتصحَ الياء، فاستدلال القائل بالكسر باطل.
قوله: (دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) .
من أضاف: جعلها المفعول به، ومن نوَّن، جعل "مَنْ نَشَاءُ" المفعول
به و "دَرَجَاتٍ" نصب بحذف الجار، أي نرفع مَنْ نَشَاءُ إلى درجات.
وقيل: صفة لمصدر محذوف، أي رفعة ذات درجات.
وفي الآية: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ)
ذهب الجمهور إلى أن "على" متعلق بقوله "حُجَّتُنَا"
وهذا مدفوع عند المحققين، لأنه لا يحال بين المصدر وصلته بأجنبي من
المصدر، وحيل ها هنا بقوله: "آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ".
وذهبوا إلى أنه متصل بفعل مضمر دل عليه "حُجَّتُنَا"، أي بحتج على قومه.
الغريب: يحتمل أنه خبر بعد خبر، كما تقول: هذا لك وهذا عليك.
ويحتمل أيضاً أن تكون حالاً لقوله، "حُجَّتُنَا" أي ئابتة على قومه.(1/369)
قوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) .
"الهاء"، تعود إلى نوح، وقيل: تعود إلى إبراهيم.
الغريب: من لا يمكن حمله على الذرية في القولين فهو عطف على
قوله: "ونوحاً" فإن لوطا لم يكن من ذرية إبراهيم، وإلياس لم يكن من ذرية
نوح، فيمن قال إلياس هو إدريس.
قوله: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) .
"الهاء" للاستراحة عند الجمهور، وقراءة ابن عامر "اقتده" بالحركة
مستبعدة (1) ومختلسة محمولة على "الهاء" كناية عن المصدر، وإلى هذا ذهب
أبو علي، وأنشد:
هذا سُرَاقَةُ للقرآن يدرُسُهُ والمرء عند الرُّشا، إنْ يَلَقَهَا ذيبُ
أي يدرس درساً.
قوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) .
قال بعض النحويين: "مَا" الأول للنفي، والثاني للجحد.
وعند المحققين هما سواء والآية نزلت في مالك بن الصيف، وكان يخاصم
النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي: "أنشدك بالذي أنزل على موسى التوراة، أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين " - وكان هو حبراً سمينا -، فغضب، فقال: "والله مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ"، وكان يومئدٍ بمكة، فلما رجع إلى المدينة عزلته اليهود وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف - وذهب
__________
(1) كيف يسبعدها وهي متواترة:
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واتفقوا على إثبات هاء السكت في (اقتده) الآية 90 وقفا على الأصل سواء قلنا أنها للسكت أو للضمير واختلفوا في إثباتها وصلا فأثبتها فيه ساكنة نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم وكذا أبو جعفر وافقهم الحسن وابن محيصن من المبهج وأثبتها مكسورة مقصورة هشام وأشبع الكسرة ابن ذكوان بخلف والإشباع رواية الجمهور عنه والاختلاس رواية زيد عن الرملي عن الصوري عنه كما في النشر قال فيه وقد رواها الشاطبي رحمه الله تعالى عنه ولا أعلمها وردت عنه من طريقه ولا شك في صحتها عنه لكنها عزيزة من طرق كتابنا انتهى ووجه الكسر أنها ضمير الاقتداء المفهوم من اقتده أو ضمير الهدى وقرأ بحذف الهاء وصلا حمزة والكسائي وخلف ويعقوب على أنها للسكت فمحلها الوقف وافقهم الأعمش وابن محيصن من المفردة واليزيدي.
اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 268: 269) .(1/370)
بعض العلماء إلى أن هذا في حق علماء اليهود خاصة، فإنهم المسمون
بالأحبار، وقيل: إن هذا منسوخ كسائر أحكام التوراة، وقيل: نزلت في
فنحاص.
قوله: (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ) ، أي تكتبونه في قراطيس، فحذف الجار.
وقيل: ذا قراطيس، فحذف المضاف.
قوله: (يَلْعَبُونَ) حال وليس بجواب.
قوله: (أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) .
"أَنْزَلْنَاهُ" جملة في محل رفع بالخبر، و "مُبَارَكٌ" خبر بعد خبر.
قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) .
نزلت في مسيلمة والأسود العنسي، وروى معمر عن
الزهري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فكبر عليَّ، فأوحي إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا، فأولت ذلك كذاب اليمامة وكذاب صنعاء اليمن الأسود العنسي، وكذاب اليمامة هو مسيلمة.
ولقد أظهر نظماً زعم أنه يضاهي به القرآن وذلك مثل قوله: يا ضفدع نقي نقي كم تنقين، لا الماء تكدرين، ولا الشراب تمنعين(1/371)
ولا النهر تفارقين. فبلغ هذا الكلام أبا بكر - رضي الله عنه - فقال: إن هذا الكلام لم يخرج من إلٍّ (1) .
وحكى أبو القاسم بن حبيب في تفسيره: أن مسيلمة لما بلغته سورة
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) ، زعم أن عيزائيل أتاه بمثلها:
إنا أعطيناك الجواهر، فصل لربك وهاجر، إن مبغضك رجل كافر.
قال: "وعيزائيل هذا لم يخلقه الله بعد، قال: وزعموا: أن طليحة بن خويلد لما بلغته سورة الفيل: قال لقومه: لقد أنزل عليَّ مثلها، ثم قرأ: الفيل وما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وثيل، ومشفر طويل، وإن ذلك من خلق ربنا لقليل.
ولما نزل، (والعاديات ضبحاً) .
قال العنسي لقومه: لقد أنزل عليَّ مثلها والزارعات زرعا والحارثات حرثاً والحاصدات حصداً، فالكادسات كدسا والطابخات طبخاً والعاجنات عجناً فالخابزات خبزا، والثاردات ثردا فالآكلات اكلاً، حتى قال بعض المجان هلا أتمها فقال: والخاريات خرياً.
قال: ولقد عارض قوم القرآن بضرب آخر من المعارضة، فصلى بعضهم بقوم فقال: أفلح من هينم في صلاته وأخرج الواجب من زكاته وأطعم المسكين من مخلاته وذب عن بعيره بشاته واجتنب الفحش وداعياته أدخله الله غدا جناته.
قال الشيخ: فاسمع هذه الترهات البسابس التي لا أصل لها ولا فرع، ومن
كان له أدنى مسكة وفهم علم، أن هذه وأضرابها احتذاء على مثال وبناء على أساس لا يشبه هذا الكلام كلام الله جل ذكره بوجه من الوجوه.
كيف؟؟!!! (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) .
قوله: (وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) .
ذهب جماعة من المفسرين إلى: أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح
__________
(1) الإل: الأصل الجيد، أي لم يجيء من الأصل الذي جاء منه في القرآن.(1/372)
كان يكتب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوائل سورة المؤمنين، فلما بلغ إلى قوله تعالى: (خَلْقًا آخَرَ) عجب من تفصيل خلق الإنسان، فقال:
تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، فقال - عليه السلام - اكتب فهكذا نزلت.
فشك عند ذلك، فقال: إن كان محمد صادقاً فيما يقول: إنه يوحى إليه فقد
أوحي إليّ كما يوحى إليه، وإن قال من ذاته فقد قلت مثل ما قال.
وقيل: هذه الحكاية غير صحيحة، لأن ارتداده كان بالمدينة، وسورة المؤمنين مكية.
قوله: (فُرَادَى) .
فُرَادَى، واحداً واحداً، فَرْد وفَرِد، وفارِد وفريد وأفرد وفرُد، وفِراد جمع
فريد كرديف ورِداف وقرين وقِران، وقرىء في الشواذ، "فرادًا
كما" - بالتنوين -.
وأما فُرادى فجمع فريد، أيضاً كأسير وأسارى.
الغريب: جمع فَردان كسَكران وسُكارى.
الفراء: فرادى اسم مفرد على فعالى.
قوله: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)
من رفعه جعله اسماً بعد أن كان ظرفاً، كما جعل اسماً في قوله - عز وجل -، (وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ) .
الغريب: البين: الفراق، وقد يستعمل بضده، وهو الوصل، أي تقطع(1/373)
وصلكم، فعلى هذا اسم وليس بظرف، ومن قرأ بالنصب: فله وجهان:
أحدهما: أن الفاعل مضمر، ومن نصب على الظرف، فتقديره، لقد
تقطع وصلكم بينكم، وأول الآية يدل عليه.
والثاني: وهو الغريب: قال الأخفش: إذا نصب فمعناه معنى المرفوع، لكن جرى في كلامهم منصوباً ظرفاً تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام (1) ، قال، ومثله (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ)
ومثله: (وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ) ، ف "دُونَ" في موضع رفع عنده.
العجيب: قول من قال: تقطع ما بينكم، فحذف الموصول، فإن ذلك
لا يجوز، أو الموصوف، فإن ذلك إنما يسوغ مع المفرد.
قوله: (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) .
من كسر القاف أضمر فمنكم فمستقر ومنكم مستودع، ويكون
المستودع المفعول ليوافق الأول في الاسمية، ومن فتح القاف أضمر فلكم.
والمستقر المكان، لا غير، لأنه لازم، ويحمل المستودع على المكان أيضاً.
وإن كان له صلاحية المفعول ليوافق الأول.
قوله: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) :
ابن عباس: خالق الحب والنوى، الجمهور، فالق الحب عن
السنبلة وفالق النواة عن النخلة، وكل نبات فعن حب أو نواة.
الغريب: مجاهد: هو الشقاق الذي في الحب والنواة.
العجيب: مظهر ما في حبة القلب من الأخلاق والرياء.
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (تقطع بينكم) الآية 94 فنافع وحفص والكسائي وكذا أبو جعفر بنصب النون ظرف لتقطع والفاعل مضمر يعود على الاتصال لتقدم ما يدل عليه وهو لفظ شركاء أي تقطع الاتصال بينكم وافقهم الحسن والباقون بالرفع على أنه اتسع في هذا الظرف فأسند الفعل إليه فصار اسما ويقويه هذا فراق بيني وبينك ومن بيننا وبينك حجاب فاستعمله مجرورا أو على أن بين اسم غير ظرف وإنما معناه الوصل أي تقطع وصلكم. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 269) .(1/374)
(فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) .
أي فالق ما به يحصل الإصباح، والإصباح: مصدر أصبح، إذا دخل
في الصبح، وقيل: شقاق عمود الصبح.
الغريب: الإصباح ضوء الثسمسِ بالنهار، وضوءُ القمرِ بالليل، قاله ابن
عباس.
قوله: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) ، من أضاف نصب سكنا بفعل مضمر
دل عليه جاعل، أي جعله سكناً، وكذلك قوله: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) أي جعلهما ولا ينتصب باسم الفاعل عند البصريين، لأنه
بمعنى الماضي، وأجاز ذلك الكوفيون.
قوله: (حُسْبَانًا)
الأخفش، أي بحسبان، فحذف الجار كقوله:
(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) .
قال: والحسبان: مصدر حسب، والحساب الاسم.
الجمهور: حُسبان جمع حساب، كشهاب وشهبان.
والمعنى: جعل سيرهما بحساب ومقدار.
الغريب: يجريان بحساب إلى نهاية آجالهما.
العجيب: قتادة: جعلهما ضياء ونوراً من قوله: (حسباناً من
السماء) . أي نهاراً.
ومن العجيب: إنما قال حسبانا - بالنصب - من غير
الباء ليفيد اعتدال نظام العالم، وذلك، أن الله قدر أن يكون لها ثلاث
حركات، إحداها: تحريك المحيط للكل من النقطة وإليها في كل يوم وليلة(1/375)
مرة واحدة، والثانية، حركة فلكهما الخاص لهما بخلاف تلك الحركة من
المغرب إلى المشرق.
والثالثة، ما لكل واحد منهما من الحركة في فلكهما.
قوله: (فَأَخْرَجْنَا) .
بعد قوله: (أَنْزَلَ) محمول على سعة الكلام وتلوين الخطاب، وله نظائر.
الغريب: قول من قال: لا يمتنع أن يكون تقديره، قولوا فأخرجنا نحن
بني آدم منه نبات كل شيء بتراب الأرض وطرح البذر وغرس الشجر، لأن
النخل والرمان والعنب والحنطة والشعير، لا ينبت حتى يغرس، ويطرح
البذر، ولولا الماء ما نفع طرح البذر ولا غرس الشجر، فيكون معنى
فأخرجنا: أخرجنا ما أنبت الله بفلاحتنا إلى الانتفاع به.
قوله: (نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ)
أي رزقَ كل شىء، وقيل: نبات كل نبت.
قوله: (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ)
قيل: من النبات، وقيل: من الماء.
قوله: (خَضِرًا) أي نباتاً أخضرَ وخَضِرة وأخضر بمعنى.
قال الأخفش: هو كما تقول العرب: أرِنِها نَمِرة ارِكِها مَطِرة.
قوله: (وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ)
كان القياس قنوانا دانية كما في مصحف أنس، عطفاً على نبات، وللرفع وجوه، أحدها:
ومن النخل نخلا من طلعها قنوان، فحذف نخلا، وفيه بعد.
الثاني، وكذلك من النخل من طلعها قنوان، كما تقول: ضربت زيداً وعمرو، أي وعمرو كذلك.
الثالث: ولكم من النخل من طلعها قنوان.(1/376)
قال الشيخ الإمام: الغريب: يحتمل أنه محمول على مضمر دل عليه
أخرجنا، أي ويخرج من النخل من طلعها قنوان، تقويه قراءة من قرأ: يخرج
منه حبٌّ متراكب ": ومثله: (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) ، أي أنبتكم
وتنبتون نباتا.
قوله: (وَجَنَّاتٍ)
عطف على نبات، أو على خضرا، ومن رفع فهو عطف على (وَمِنَ النَّخْلِ) على الوجوه التي سبقت.
وقول من قال: لا وجه للرفع لأنه لا يكون من النخل نبات فكلام لا طائل تحته، وقنوان جمع قتو كصنوان جمع صنو، وجمعهما على صورة التثنية حالة الرفع، ولا نظير لهما.
قوله: (دَانِيَةٌ)
أي دانية وغير دانية، فاكتفى بأحد الضدين، وقيل: دانية
بعضها من بعض وقيل: دانية من المجتنى.
قوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ) .
له وجهان:
أحدهما، أن التقدير، وجعلوا الجن شركاء لله، فالجن
المفعول الأول، وشركاء المفعول الثاني، قدم على الأول.
و"لِلَّهِ" متعلق بـ "شُرَكَاءَ".
والثاني أن "شُرَكَاءَ" المفعول الأول و "لِلَّهِ" واقع موقع المفعول
الثاني، "الْجِنَّ" بدل من الشركاء، وهذا الوجه أبلغ وأحسن لأنه يتضمن فائدة شريفة لا توجد في الوجه الأول، وذلك أنه يفيد إنكار الشركاء أصلاً، والإنكار يجري مجرى النفي، وعلى الوجه الأول يفيد إنكار كون الجن
شركاء لله دون غيرهم، تعالى أن يكون له شريك أو شبيه، ومثله:
(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ) ، ومثل هذا في احتمال الوجهين قوله:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ) .
ولكنه ليس فيها من(1/377)
الترجيح ما في الآية الأولى، والآية نزلت في الزنادقة، وهم المجوس.
قالوا: إن الله وإبليس أخوان، الله خالق النور والناس والدواب والأنعام.
وإبليس خالق الظلمة والحيات والسباع والعقارب، فمنهم من قال: الشيطان قديم، ومنهم من قال: إن الله قد فكر في عظم ملكه، فتولد من فكره، ومنهم من قال، بل شك في قدرته فتولد من شكه الشيطان، وقيل: الجن صنف من الملائكة، وإبليس منهم.
قوله: (وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ)
أي قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله.
فجمع موافقة للبنات، وزعمت طائفة منهم، أن الله صاهر الجن فولدت الجنية أولادا إناثاً هم الملائكة، وهو قوله: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا) "تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيراً".
قوله: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ) .
فإن قيل: زعمت النصارى أن مريم هي صاحبته؟
الجواب: الصاحبةُ تقتضي المجانسة، والله تعالى منزه عن الجنس والنوع، فإذاً ليس له صاحبة ولا بنون ولا بنات - سبحانه -.
قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)
سؤال، لِمَ قال في هذه السورة: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) .
وقال في المؤمن: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) فقدم (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) .
الجواب: لأن في هذه السورة تقدم ذكر الشركاء وذكر البنين
والبنات، يأني بعده بما يدفع قول من يجعل له شريكاً، فقال: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) ، ثم قال: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، وفي المؤمن تقدم ذكر الخلق في قوله:(1/378)
(لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) ، وكان الكلام على تثبيت خلق الإنسان لا على نفي الشريك، فقدم في كلِّ سورة ما اقتضاه ما قبله من الآيات.
قوله: (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) .
فيه قولان:
أحدهما: أنه عطف على مضمر أي ليستمعوا وليقولوا.
الثاني: (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) ، صرفناها، وقرىء في المعروف دَرَسْت) ، وفيه
وجهان، أحدهما قرأت وتعلمت.
الثاني - وهو الغريب -: وليقولوا درست علينا هذه قبل اليوم، فيذكروا
بالثانية الأولى.
ودارست وله وجهان:
أحدهما: دارست أهل الكتاب وتعلمت من أبي فُكيهة وجبر ويسار.
الغريب: دارستنا قيل هذا كما قيل في درسْتَ. ودرسَتْ، وله وجهان:
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا
أحدهما: هذه آيات دَرَسَتْ وتقادمت ولم يأت محمد إلا بما أتى به مَن قبله.
الثاني - وهو الغريب -: لئلا يقولوا دَرَسَتْ وانمحَتْ ولا يأتينا محمد بغيرها.
واللام لام العاقبة على ثلاث تأويلات، ولام كي على ثلاث.
قوله: ((لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) .
يجوز أن تكون حالًا عن ربك، ويجوز أن تكون اعراضا بين الأمرين.
ويجوز أن يكون بدلاً مما أوحي.
قوله: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) .
أي لوشاء أن لايشركوا ما أشركوا، فمفعول شاء مضمر.
وقوله: (مَا أَشْرَكُوا) جواب "لو".
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (درست) الآية 105 فابن كثير وأبو عمرو بألف بعد الدال وسكون السين وفتح التاء على وزن قابلت أي دارست غيرك وافقهما ابن محيصن واليزيدي وقرأ ابن عامر وكذا يعقوب بغير ألف وفتح السين وسكون التاء بزنة ضربت أي قدمت وبلت وافقهما الحسن إلا أنه ضم الراء والباقون بغير ألف وسكون السين وفتح التاء أي حفظت وأتقنت بالدرس أخبار الأولين. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 271) .
وقال السمين:
قوله تعالى: {وكذلك} : الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف، فقدَّره الزجاج: «ونُصَرِّفُ الآياتِ مثلَ ما صَرَّفناها فيما تُلي عليكم» ، وقدَّره غيرُه: نُصَرِّف الآيات في غير هذه السورة تصريفاً مثل التصريف في هذه السورة.
قوله: «ولِيقولوا» الجمهور على كسرِ اللامِ، وهي لام كي، والفعلُ بعدها منصوب بإضمار «أَنْ» فهو في تأويل مصدر مجرور بها على ما عُرِف غيرَ مرة، وسمَّاها أبو البقاء وابن عطية لام الصيرورة كقوله تعالى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] وكقوله:
لِدُوا للموتِ وابنُوا للخَراب. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي: لمَّا صار أمرُهم إلى ذلك عبَّر بهذه العبارة، والعلة غير مرادة في هذه الأمثلة، والمحققون يأبَوْن جَعْلَها للعاقبة والصيرورة، ويُؤَوِّلون ما وَرَدَ من ذلك على المجاز. وجَوَّز أبو البقاء فيها الوجهين: أعني كونَها لامَ العاقبة أو العلة حقيقةً فإنه قال: «واللام لام العاقبة أي: إن أمرَهم يَصير إلى هذا» وقيل: إنه قصد بالتصريف أن يقولوا دَرَسَتْ عقوبةً لهم «يعني فهذه علة صريحة وقد أوضح بعضهم هذا فقال:» المعنى: يُصَرِّف هذه الدلائل حالاً بعد حال ليقولَ بعضُهم دارَسَتْ فيزدادوا كفراً، وتنبيهٌ لبعضهم فيزدادوا إيماناً، ونحو: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة: 2] . وأبو علي جعلها في بعض القراءات لام الصيرورة، وفي بعضها لام العلة فقال: «واللام في ليقولوا في قراءة ابن عامر ومَنْ وافقه بمعنى: لئلا يقولوا أي: صُرِفَت الآيات وأُحْكِمَتْ لئلا يقولوا هذه أساطير الأولين قديمة قد بَلِيَتْ وتكرَّرَتْ على الأسماع، واللام على سائر القراءات لام الصيرورة» . قلت: قراءة ابن عامر دَرَسَتْ بوزن أَكَلَتْ وسَرَقتْ فعلاً ماضياً مسنداً لضمير الآيات، وسيأتي تحقيق القراءات في هذه الكلمة متواتِرها وشاذِّها. قال الشيخ «وما أجازه من إضمارِ» لا «بعد اللام المضمر بعدها» أَنْ «هو مذهب لبعض الكوفيين كما أضمروها بعد» أَنْ «المظهرة في {أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] ، ولا يجيز البصريون إضمار» لا «إلا في القسم على ما تبيَّن فيه» .
ثم هذه اللام لا بدَّ لها من مُتَعَلَّق، فقدَّره الزمخشري وغيره متأخراً. قال الزمخشري: «وليقولوا جوابه محذوف تقديره: وليقولوا دَرَسَتْ نُصَرِّفها. فإن قلت: أيُّ فرق بين اللامين في لِيَقُولوا ولنبيِّنه؟ قلت: الفرق بينهما أن الأولى مجاز والثانية حقيقة، وذلك أن الآيات صُرِفَت للتبيين، ولم تُصْرَفْ ليقولوا دارست، ولكن لأنه لمَّا حصل هذا القولُ بتصريف الآيات كما حصل للتبيين شَبَّهَ به فَسِيْق مَساقَه، وقيل: ليقولوا كما قيل لنبيِّه» . قلت: فقد نص هنا على أن لام «ليقولوا» علة مجازية.
وجَوَّز بعضهم أن تكون هذه اللام نسقاً على علةٍ محذوفة. قال ابن الأنباري: «دخلت الواو في» وليقولوا «عطفاً على مضمر، التقدير: وكذلك نصرف الآيات لنُلْزِمَهم الحجةَ وليقولوا» . قلت: وعلى هذا فاللامُ متعلقةٌ بفعلِ التصريف من حيث المعنى ولذلك قَدَّره مَنْ قدَّره متأخراً ب «نُصَرِّف» . وقال الشيخ: «ولا يتعيَّن ما ذكره المُعْرِبون والمفسِّرون من أن اللامَ لامُ كي أو لامُ الصيرورة، بل الظاهر أنها لام الأمر والفعل مجزوم بها، ويؤيده قراءة مَنْ سكن اللام، والمعنى عليه يتمكن، كأنه قيل: وكذلك نُصَرِّف الآياتِ وليقولوا هم ما يقولون مِنْ كونها دَرَسْتَها وَتَعَلَّمتها أو دَرَسَت هي أي: بَلِيَتْ وقَدُمَتْ، فإنه لا يُحْتَفَلُ بهم ولا يُلْتفت إلى قولهم، وهو أمرٌ معناه الوعيدُ والتهديدُ وعدمُ الاكتراث بقولهم أي: نُصَرِّفها وليدَّعُوا فيها ما شاؤوا، فإنه لا اكتراث بدعواهم» .
وفيه نظر من حيث إن المعنى على ما قاله الناس وفهموه، وأيضاً فإنَّ بعده/ ولنبيِّنَه وهو نصٌّ في لام كي، وأمَّا تسكين اللام في القراءة الشاذة فلا يدلُّ لاحتمال أن تكون لام كي سُكِّنت إجراءً للكلمة مُجْرى كَتِف وكَبِد. وقد ردَّ الشيخ على الزمخشري حيث قال: «وليقولوا جوابه محذوف» فقال: «وتسميتُه ما يتعلَّق به قوله» وليقولوا «جواباً اصطلاحٌ غريب، لا يقال في» جئتَ «من قولك» جئت لتقوم «إنه جواب» . قلت: هذه العبارة قد تكررت للزمخشري وسيأتي ذلك في قوله {ولتصغى} [الأنعام: 113] أيضاً. وقال الشيخ هناك: «وهذا اصطلاحٌ غريب» ، والذي يظهر أنه إنما يُسَمِّي هذا النحوَ جواباً لأنه يقع جواباً لسائل. تقول: أين الذي يتعلَّق به هذا الجارُّ؟ فيُجاب به، فسُمِّي جواباً بهذا الاعتبار، وأضيف إلى الجارِّ في قوله «وليقولوا» جوابه، لأن الإِضافة [تقع] بأدنى ملابسة وإلا فكلامُ إمامٍ يتكرَّر لا يُحمل على فساد.
وأمَّا القراءات التي في «دَرَسَتْ» فثلاث في المتواتر: فقرأ ابن عامر «دَرَسَتْ» بزنة ضَرَبَتْ، وابن كثير وأبو عمرو «دارَسْتَ» بزنة قابلْتَ أنت، والباقون «درسْتَ» بزنة ضربْت أنت. فأمَّا قراءة ابن عامر فمعناها بَلِيَتْ وقَدُمَتْ وتكرَّرَتْ على الأسماع يُشيرون إلى أنها من أحاديث الأولين كما قالوا أساطير الأولين.
وأمَّا قراءة ابن كثير أبي عمرو فمعناها دارسْتَ يا محمدُ غيرَك من أهل الأخبار الماضية والقرون الخالية حتى حفظتها فقلتَها، كما حَكى عنهم فقال: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: 103] وفي التفسير: أنهم كانوا يقولون: هو يدارس سَلْمَان وعَدَّاساً. وأمَّا قراءة الباقين فمعناها حَفِظْتَ وأَتْقَنْتَ بالدرس أخبارَ الأولين كما حكى عنهم {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] أي تكرَّر عليها بالدَّرْس ليحفظها. وقرئ هذا الحرف في الشاذ عشر قراءاتٍ أُخَرَ فاجتمع فيه ثلاثَ عشرةَ قراءة: فقرأ ابن عباس بخلاف عنه وزيد بن علي والحسن البصري وقتادة «دُرِسَتْ» فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول مسنداً لضمير الآيات، وفَسَّرها ابن جني والزمخشري بمعنيين، في أحدهما إشكال. قال أبو الفتح: «يُحتمل أن يراد عَفَتْ أو بَلِيَتْ» . وقال أبو القاسم: «بمعنى قُرِئت أو عُفِيَتْ» . قال الشيخ: «أما معنى قُرِئَتْ وبَلِيَتْ فظاهرٌ؛ لأن دَرَسَ بمعنى كرَّر القراءة متعدٍّ، وأمَّا» دَرَس «بمعنى بَلِي وانمحى فلا أحفظه متعدياً ولا وَجَدْنا فيمن وَقَفْنا على شعره من العرب إلا لازماً» . قلت: لا يحتاج هذا إلى استقراء فإن معناه [لا] يحتمل أن يكون متعدِّياً إذ حَدَثُه لا يتعدَّى فاعلُه فهو كقام وقعد، فكما أنَّا لا نحتاج في معرفة قصور قام وقعد إلى استقراء بل نَعْرِفُه بالمعنى فكذا هذا.
وقرئ «دَرَّسْتَ» فعلاً ماضياً مشدداً مبنياً للفاعل المخاطب، فيحتمل أن يكون للتكثير أي: دَرَّسْتَ الكتب الكثيرة كذبَّحْتُ الغنم وقَطَّعْتُ الأثواب، وأن تكون للتعدية، والمفعولان محذوفان أي: دَرَّسْتَ غيرَك الكتب وليس بظاهر، إذ التفسير على خلافه. وقُرِئ دُرِّسْتَ كالذي قبله إلا أنه مبني للمفعول أي: دَرَّسك غيرُك الكتبَ، فالتضعيف للتعدية لا غير. وقرئ «دُوْرِسْتَ» مسنداً لتاء المخاطب مِنْ دارَسَ كقاتل، إلا أنه بني للمفعول فقلبت ألفه الزائدة واواً، والمعنى: دارَسَكَ غيرك.
وقرئ «دارسَتْ» بتاء ساكنة للتأنيث لحقت آخر الفعل، وفي فاعله احتمالان، أحدهما: أنه ضمير الجماعة أُضْمِرَتْ وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالة السياق عليها أي: دارستك الجماعة، يُشيرون لأبي فكيهة وسلمان، وقد تقدم ذلك في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، والثاني: ضمير الإِناث على سبيل المبالغة أي: إن الآيات نفسها دارَسَتْكَ وإن كان المراد أهلها.
وقرئ «دَرُسَتْ» بفتح الدال وضم الراء مسنداً إلى ضمير الآيات وهو مبالغة في دَرَسَتْ بمعنى بَلِيَتْ وقَدُمَتْ وانمحت أي اشتد دُروسُها وبِلاها. وقرأ أُبَيّ «دَرَسَ» وفاعله ضمير النبي صلى الله عليه وسلم أو ضمير الكتاب بمعنى قرأه النبي وتلاه وكُرِّرَ عليه، أو بمعنى بلي الكتاب وامَّحى، وهكذا في مصحف عبد الله درس.
وقرأ الحسن في رواية «دَرَسْنَ» فعلاً ماضياً مسنداً لنون الإِناث هي ضمير الآيات، وكذا هي في بعض مصاحف ابن مسعود. وقرئ «دَرَّسْنَ» الذي قبله إلا أنه بالتشديد بمعنى اشتد دُروسها وبِلاها كما تقدَّم. وقرئ «دارسات» جمع دارسة بمعنى قديمات، أو بمعنى ذات دُروس نحو: عيشة راضية، وماء دافق، وارتفاعُها على خبر ابتداء مضمر أي: هنَّ دارسات، والجملة في محلّ نصب بالقول قبلها. اهـ (الدر المصون) .(1/379)
الغريب: لو شاء الله لاستأصلهم، فقطع سبب شركهم، وقيل: لو شاء
لأنزل آية تضطرهم إلى الإيمان.
قوله: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ) الآية.
أجمع المفسرون على أن "مَا" للاستفهام، وفاعل (يُشْعِرُكُمْ) مضمر
يعود إلى "مَا"، والمفعول الثاني محذوف، أي إيمانهم، ثم استأنف، فقال:
إنها - أي الآيات المقترحة -، إذا جاءت لا يؤمنون.
ومن فتح جعله بمعنى لعل.
قال الخليل: العرب تقول: أئت السوق أنك أن تشتري لحماً.
أي لعلك. وذهب الكوفيون إلى أن "لا" زائدة، وتقديره وما يشعركم أنها
إذا جاءت يؤمنون، فيكون "مَا" مبتدأ، (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) خبره.
والعائد إلى "مَا" محذوف بعد حذف الجار منه.
والثالث: النفي، وتقديره: "وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ"، بل أخبركم بقوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ) الآية.
ويحتمل النفي وجها آخر، وهو أن تجعل معنى "وَمَا يُشْعِرُكُمْ" وما يظهرها لكم، أي الآيات عند الله، وما يظهرها لكم، لأنها إذا جاءت لا يؤمنون، وإنها إذا جاءت - بالكسر - على الاستئناف.
قوله: (أَوَّلَ مَرَّةٍ) .
نصب على الظرف، أي أول مرة أتتهم الآيات، يريد انشقاق القمر
وغيره، وقيل: أول زمن موسى، يعني أسلافهم.
الغريب: نقلب أفئدتهم وأبصارهم في النار كما لم يؤمنوا به أول مرة
في الدنيا.
ابن عباس: لو رددناهم إلى الدنيا، لحيل بينهم وبين الإيمان كما
حيل أول مرة في الدنيا.(1/380)
قوله: (بِهِ) ، قيل: بالله، وقيل: بالقرآن، وقيل: بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
الغريب: "بِهِ" يعود إلى التقليب.
العجيب: يعود إلى الآيات.
قوله: (غُرُورًا) .
حال، وقيل: مصدر، لأن معنى (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ) ، بعضهم
بعضاً، وقيل: مفعول له.
الغريب: بدل من "زُخْرُفَ الْقَوْلِ".
قوله: (وَلِتَصْغَى) .
في اللام ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنه لام العاقبة، والواو زيادة وقيل: لام كي، وهو عطف على المعنى، أي ليغروهُ ولتَصغَى.
وقال أبو حاتم: هي لام القسم، والأصل، لتَصْغَينَّ، وهذا مذهبه في مواضع.
العجيب: هو لام الأمر. وهذا يدفعه إثبات الألف، ولا يأتي إلا في
شعر شاذ لا يقاس عليه.
قوله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا) .
"غَيْرَ" مفعول و "حَكَمًا" حال.
الغريب: لا يمتنع أن يكون "حَكَمًا" مفعولًا به و "غَيْرَ" صفته.
قوله: (مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) ، المضمر في منزل رفع، وهو
المفعول الأول و "مِنْ رَبِّكَ" المفعول الثاني و "بِالْحَقِّ" حال من الضمير.
الغريب: "بِالْحَقِّ" المفعول الثاني و "مِنْ رَبِّكَ" حال.
قوله: (صِدْقًا وَعَدْلًا)
مصدران وقعا حالين، أي صادقة عادلة.(1/381)
الغريب: منصوبان على المصدر.
قوله: (أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ) .
لا عمل لقوله: (أَعْلَمُ) في "مَن"، لأن المعاني لا تعمل في المفعول
به، ولا تعلق المعاني أيضاً، بل فيه إضمار دل عليه (أَعْلَمُ) ، أي
يعلم، و "مَن" في محل نصب، كقوله: (يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) .
وقيل: في محل رفع، كقوله: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) ، وهذا أولى.
الغريب: نصب بنزع الخافض.
العجيب: محله جر بالياء، لأنها منْويَّة، و "بِالْمُهْتَدِينَ" يدل عليه.
ولا يجوز أن يكون جراً بالإضافة - تعالى الله عن ذلك -
وقول أبي علي في الحجة: "وليس ربنا من المضلين عن سبيله، فيضاف إليهم" محمول على قراءة الحسن: "أَعْلَمُ مَنْ يُضِلُّ" - بالضم.
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة: (أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ) بحذف الباء، وقال
في القلم: (أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ) بإثباته؟.
الجواب: لأن ما فىِ هذه السورة معناه: يعلم أيهم يطيعه من
قوله (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) .
وما في القلم معناه: أعلم بما كان وبما يكون عن أحوال من ضل، بدليل قوله: (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) .
(+ (
البقرة 220 2
الكهف 12 18.
الحجة في علل القراءات الغ، لأبى علي الفارص ج 2 ص 4، 0
الحر الححيط 4 210
القلم 7 68
الرهان 74.
الأظ م 6 6 1 1 1 لأ عشر اف 23. 7 23
القلم 5 68، 6.
382(1/382)
قوله: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) .
ذهب كثير من المفسرين إلى أن التقدير: إنكم لمشركون إن
أطعتموهم، ولهذا لم يأتِ بـ "الفاء"، وهذا بعيد، لأنك إذا قلت: إذا دخلت الدار أنت طالق، يقع في الحال، ولو قلت: أنت طالق إن دخلت الدار، يكون تعليقا، ولا يحمل الأول على التقديم بل الوجه في ذلك ما ذهب إليه المحققون، أن التقدير لئن أطعتموهم إنكم لمشركون، فلم يحتج إلى الفاء لأن هذه اللام لام توطئة القسم، فيجابُ بما يجاب مِن ما ولا وإنَّ واللام، وكل ذلك في القرآن، و "الفاء" مقدر مع القسم، فإن حذفت اللام من "لئن" عاد إلى الشرط فاستدعى الجزم أو الفاء أو إذا، فإن وقع موقع الجزاء ما يصلح جواباً للقسم، جاز حذف "الهاء" كما في هذه الآية وكما في قوله:
(وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، وفي قوله: (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) .
قوله: (زُيِّنَ) .
أي زيَّنهُ الشيطان، وقيل: زيَّنهُ الله.
الغريب: ابن بحر، "زُيِّنَ" في مثل هذا لا يحتاج إلى فاعل
كـ "أُعجِبَ و " جُنَّ " و " زُهيَ"، و " عُني"، وبابه.
قوله: (أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا) .
أي جعلنا بها أكابرَ المجرمين كما جعنا بسائر البلاد.
وأضاف "أَكَابِرَ" إلى "مُجْرِمِيهَا" لأن أفعل إذا كان للتفضيل لا يستعمل إلا مع مِن أو مع الألف واللام أو الإضافة، ولا يجمع إلا مع الألف واللام أو الإضافة.
الغريب: ذهب جماعة من المفسرين لا يحصى عددهم إلى أن التقدير(1/383)
جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر، وهذا زائف، والوجه ما سبق.
قوله: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) .
حيث ها هنا اسم محض وليس بظرف، وهو مفعول به، والعامل فيه
"يعلم" الذي دل عليه (أَعْلَمُ) كما سبق.
قوله: (صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ)
عند الله من صفة المصدر، وهو صغار.
وقيل: صفة، أي صغار ثابت.
وقيل: متصل بقوله: "سَيُصِيبُ".
قوله: (يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) .
"صَدْرَهُ"، المفعول الأول لـ يجعل "ضَيِّقًا" المفعول الثاني.
وقوله (حَرَجًا) جاز أن يكون وصفاً لـ "ضَيِّقًا".
وجاز أن يكون مفعولًا بعد مفعول وهو الغريب.
ومثله: رمان حلو حامض.
(كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) حال من المضمر في "ضَيِّقًا".
قوله: (وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا) .
نصب على الحال، والحال على ثلانة أوجه:
حال دائم، نحو: هذا، ونحو: قوله: (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا)
وحال، طارىء نحو: جاء زيد راكباً، وهو، الكثير.
وحال مقدر نحو: (خَالِدِينَ فِيهَا) .
قال سيبوبه: وذلك نحو قولك: مررت برجل معه صائداً به غداً.
الغريب: يجوز أن يكون حالاً عن "هَذَا" أي هذا مستقيماً صراط
ربك.(1/384)
قوله: (اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ) .
أما استمتاع الإنس بالجن، فهو أن العرب إذا نزلت وادياً أو سلكوا
مفازة استعاذوا بالجن، وقالوا نعوذ بسيد هذا الوادي من شرِّ سفهاء قومه.
وكانوا يعتقدون أن الأرض ملئت جناً، وإن لم يُدْخِله جني في جواره خَبّلَهُ
الآخرون، وكذلك إذا قتلوا صيدا استعاذوا بهم، لأنهم يعتقدون أن هذه
البهائم للجن منها مراكبهم هو ما كانوا يأخذونه من الجن بالإنس، فهو
إغواؤهم وإضلالهم، وقيل: هو قولهم: لقد سدنا الجن والإنس، وقيل:
معنى استمتع بعضنا ببعض، بعض الإنس ببعض الإنس.
قوله: (النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا)
لا يخلو "مثوى" من أن يكون مصدرا أو مكاناً، فإن جعلته مصدرا امتنع أن يكون خبراً عن النار، وإن جعلته ظرفاً امتنع أن يعمل في الحال، والوجه أن يجعل مصدراً ليعمل في الحال ويضمر ذات فيقال النار ذات مثواكم، ليصلح أن يكون خبراً.
قوله: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)
قيل: قبل الدخول، وقيل: سوى ما شاء الله، وقيل: إلا ما شاء الله من الزيادة في العذاب والنكال.
الغريب والعجيب: ابن عباس: جعل أمرهم في مبلغ عذابهم
ومدته إلى مشيئة الله، حتى لا يحكم في خلقه أحد.
قوله: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا) .
أي نسلط بعضهم على بعض من التولية.
قتادة: هو الموالاة، أي نتبع بعضهم بعضا في النار.
وقيل: من الولاية، المؤمن ولي المؤمن، حيث كان، والكافر ولي الكافِر حيث كان، وقيل: نكل بعضهم إلى بعض.(1/385)
وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يقول الله: لا إله إلا أنا، مالك الملوك، قلوبهم ونواصيهم بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشتغلوا بسبِّ الملوك، ولكن توبوا إليَّ أُعطِّفْهم عليكم ".
قوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) .
جمهور المفسرين على أن رسل الجن من الإنس، وغلب الإنس على
الجن في قوله: "مِنْكُمْ".
الغريب: ابن عباس: رسل الجن هم المنذرون في قوله: (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) .
العجيب: قال الضحاك: بَعث إلى الجن رسلاً منهم كما بعث إلى
الإنس رسلًا منهم.
قوله: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ) .
أي دركات، فاكتفى بأحد الضدين، وقيل: هذا للمؤمنين، ثم أوعد
الكافرين بقوله (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) .
قوله: (مَا يَشَاءُ) أي من يشاء.
(مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) أي قرناً بعد قرن.
الغريب: "مَا" بحالهِ والمعنى: بأن يخلف محالف لجنسكم، فيكون
"مِن" بمعنى بدل، كقوله: (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً) أي بدلكم.(1/386)
فَلَيْتَ لنا من ماءِ زَمَزَم شَرْبَةً. . . مبَرّدَةً باتت على طَهيان
قوله: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) .
"مَن" جاز أن يكون رفعاً وجاز أن يكون نصباً، وهو متصل بقوله: (تَعْلَمُونَ) وليس برأس آية.
سؤال: لم قال في هذه السورة: (فَسَوْفَ) - بالفاء، وكذلك في الزمر.
وقال في هود: (سَوْفَ) ؟
الجواب: لأنه تقدم في السورتين قل، فأمرهم أمر وعيد، بقوله: (اعملوا)
أي: اعملوا فستجزون، ولم يكن في هود قل، فصار استئنافاً، وقيل: إني عامل سوف تعلمونه، أي تعرفونه وتعرفون عمله، واختلف القراء في عدها آية في الزمر بعد إجماعهم على أنها ليست رأس آية في سائر السور.
قوله: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ) .
أراد بالشركاء الأصنام وسدنتها الذين كانوا يحملونهم على وأد البنات وذبح
البنين بالنذر عند قضاء الحاجات.
وارتفاع قوله: (شُرَكَاؤُهُمْ) من وجهين:
أحدهما:بـ "زَيَّنَ" والثاني بالمصدر، لأنهم حملوهم على القتل، وفاعل "زَيَّنَ" هو الله سبحانه
الشيطان، وهذا الوجه غريب، وقراءة ابن عامر "زُيَّنَ" - بضم الزاي - "قَتْلُ" رفع "أَوْلَادَهِمْ" نصب "شُرَكَائِهُمْ" جر، عالية في الإسناد موافقة لإمامهم،(1/387)
وإن كانت نازلة في الإعراب، ولأن الإحالة بين المضاف والمضاف إليه بالشعر كثيرة.
قال:
. . . . . . . . . . . . . . . . لِلَّهِ درُّ اليومَ مَنْ لامَها
وقال:
كما خُطّ الكتاب بكفِّ يوماً. . . يَهودِيٍّ يُقَارِبُ أو يُزيلُ
وقد حيل بينهما بالمفعول، قال:
تَنْفِي يداها الحَصَى فِي كُلِّ هَاجِرَةٍ. . . نَفْيَ الدَّراهيمِ تَنْقَادُ الصَّيَاريفِ
يريد نفي الصياريف الدراهمَ تنقادها، وقد حيل بينهما بالفاعل، وهم
العجيب. قال:
تَمُرُّ على ما تَسْتِمِرُّ وَقَدْ شَفَتْ. . . غَلائِلَ عَبْدُ القَيْسِ مِنْهَا صُدُورِهَا
قوله، (هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا) .
التأنيث للمعنى، لأنه للأجنة، والتذكير للفظ، وقيل: هي للمبالغة
كالنَّسَّابة، وقيل، هي مصدر كالعافية والعاقبة، وهذا أظهر، قال:
وَكُنْتِ أمنِيَّتِي وَكُنْتِ خَالِصَتِي. . . وَلَيْس كلُّ امْرِىءٍ بِمُؤتَمَنِ
__________
(1) قال العلامة أبو شامة:
قوله: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ)
قراءة الجماعة على أن شركاؤهم فاعل زين والمفعول قتل المضاف إلى أولادهم وقراءة ابن عامر على أن زين فعل لم يسم فاعله وقتل بالرفع على أنه أقيم مقام الفاعل وأولادهم بالنصب مفعول قتل لأنه مصدر وشركائهم بالجر على إضافة قتل إليه أي قتل شركائهم أولادهم كقولك عرف ضرب زيد عمرا أضيف المصدر إلى الفاعل فانجر وبقي المفعول منصوبا لكن في قراءة ابن عامر زيادة على هذا وهو تقديم المفعول على الفاعل المجرور بالإضافة وسيأتي توجيه ذلك فقوله وزين مبتدأ وفي ضم وكسر في موضع الحال أي كائنا في ضم الزاي وكسر الياء ورفع قتل عطف على وزين أولادهم كذلك على حذف حرف العطف وبالنصب في موضع الحال أي منصوبا وشاميهم تلا جملة من مبتدأ ثان وخبر هي خبر وزين وما بعده أي تلا على هذه الصورة أو يكون وزين وما بعده مفعولا لقوله تلا مقدما عليه أي ابن عامر تلا ذلك وكان التعبير على هذا التقدير يقتضي أن يقول وقتل بالرفع فلم يتزن له فقلب اللفظ لأمن الإلباس لأن من تلا قتل بالرفع فقد تلا الرفع وقيل ورفع قتل مبتدإ خبره محذوف أي وله رفع قتل وله أولادهم بالنصب وقوله وفي مصحف الشامين حذف منه ياء النسبة المشددة وهذا سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى في باب التكبير في قوله وفيه عن المكين أراد أن مصحف أهل الشام الذي أرسله عثمان رضي الله عنه إليهم رسم فيه شركائهم بالياء فدل ذلك على أنه مخفوض فهو شاهد لقراءته كذلك ولكن لا دلالة فيه على نصب أولادهم فهو الذي استنكر من قراءته فيحتمل أن يكون أولادهم مجرورا بإضافة المصدر إلى مفعوله وشركائهم صفة له قال أبو عمرو الداني في مصاحف أهل الشام (أولادهم شركائهم) ، بالياء وفي سائر المصاحف شركاؤهم بالواو قال أبو البرهسم في سورة الأنعام في إمام أهل الشام وأهل الحجاز أولادهم شركائهم وفي إمام أهل العراق شركاؤهم قلت ولم ترسم كذلك إلا باعتبار قراءتين فالمضموم عليه قراءة معظم القراء ويحتمل أيضا قراءة أبي عبد الرحمن السلمي على إسناد زين إلى القتل كما فعل ابن عامر ولكنه خفض الأولاد بالإضافة ورفع شركاؤهم على إضمار فعل كأنه قيل من زينه فقال شركاؤهم فهو مثل ما يأتي في سورة النور-يسبح له فيها-بفتح الياء ثم قال رجال أي يسبحه رجال وهي قراءة ابن عامر وأبي بكر وأما خفض شركائهم فيحتمل قراءة ابن عامر ويحتمل أن يكون نعتا للأولاد وعلى قراءة أبي عبد الرحمن السلمي السابقة وهذا أوجه من القراءة لا استبعاد فيه لفظا ولا معنى قال الزجاج وقد رويت شركائهم بالياء في بعض المصاحف ولكن لا يجوز إلا على أن يكون شركاؤهم من نعت أولادهم لأن نعت أولادهم شركاؤهم في أموالهم وقال ابن النحاس فيها أربع قراءات فذكر ما ذكرناه ونسب قراءة السلمي إلى الحسن أيضا ونسب القراءة الرابعة إلى أهل الشام فقال وحكى غير أبي عبيد عن أهل الشام أنهم قرءوا زين بالضم قتل بالرفع وخفض أولادهم شركائهم بالخفض أيضا على أن يبدل شركائهم من أولدهم لأنهم شركاؤهم في النسب والميراث وذكر الفراء القراءتين الأوليين برفع شركائهم ثم قال وفي بعض مصاحف أهل الشام شركائهم بالياء فإن تكن مثبتة عن الأولين فينبغي أن يقرأ زين ويكون الشركاء هم الأولاد لأنهم منهم في النسب والميراث فإن كانوا يقرءون زين بفتح الزاي فلست أعرف جهتها إلا أن يكونوا فيها آخذين بلغة قوم يقولون أتيتها عشايا ويقولون في تثنية حمراء حمرايان فهذا وجه أن يكونوا أرادوا (زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم) ، يعني بياء مضمومة لأن شركائهم فاعل زين كما هو في القراءة العامة قال وإن شئت جعلت زين فعلا إذا فتحته لا يلبس ثم يخفض الشركاء باتباع الأولاد قلت يعني تقدير الكلام زين مزين فقد اتجه شركائهم بالجر أن يكون نعتا للأولاد سواء قريء زين بالفتح أو بالضم وتفسير الشركاء على قراءة الجماعة هم خدم الأصنام أو الشياطين زينوا للكفرة أن
يقتلوا أولادهم بالوأد وبالنحر للآلهة وعلى قراءة ابن عامر يكون الشركاء هم القاتلين لأنهم لما زينوا للمشركين قتل أولادهم صاروا كأنهم كانوا هم القاتلين في المعنى والله أعلم
(672)
وَمَفْعُولُهُ بَيْنَ المُضَافَيْنِ فَاصِل. . . وَلَمْ يُلْفَ غَيْرُ الظُرْفِ فِي الشِّعْرِ فَيْصَلاَ
يعني أن المفعول في قراءة ابن عامر وهو - أولادهم - الذي هو مفعول القتل وقع فاصلا بين المضاف والمضاف إليه لأن قتل مضاف إلى شركائهم وأكثر النحاة على أن الفصل بين المضافين لا يجوز إلا بالظرف في الشعر خاصة فهذا معنى قوله ولم يلف أي لم يوجد غير الظرف فيصلا بين المضاف والمضاف إليه وأما في كلام غير الشعر فلم يوجد الفصل بالظرف فكيف بغيره ذكر الناظم - رحمه الله - ما اعترض به على قراءة ابن عامر ثم مثل بالظرف فقال
(673)
كَلِلَّهِ دَرُّ الْيَوْمَ مَنْ لاَمَهَا فَلاَ تَلُمْ. . . مِنْ سُلِيمِي النَّحْوِ إِلاَّ مُجَهِّلاَ
أراد بيتا أنشده سيبويه وغيره وهو لعمرو بن قميئة، (لما رأت ساتيذ ما استعبرت لله در اليوم من لامها) ، يريد لله در من لامها اليوم أنشد سيبويه أيضا لأبي حية النميري، (كما خط الكتاب بكف يوما يهودي) ، أي بكف يهودي يوما وأنشد لدرنا بنت عتبة، (هما أخوا في الحرب من لا أخا له) ، أي أخوا من لا أخا له في الحرب قال وقال ذو الرمة، (كأن أصوات من إيغالهن بنا أواخر الميس أصوات الفراريخ) ، أي كأن أصوات أواخر الميس وكل هذه الأبيات فصل فيها بالظرف الصريح وبالجار والمجرور بين المضاف والمضاف إليه ولا يجوز ذلك في غير الشعر قال سيبويه في قوله (يا سارق الليلة أهل الدار) بخفض الليلة على التجوز ونصب أهل على المفعولية ولا يجوز يا سارق الليلة أهل الدار إلا في شعر كراهية أن يفصلوا بين الجار والمجرور ثم وقال مما جاء في الشعر قد فصل بينه وبين المجرور قول عمرو بن قميئة فذكر الأبيات المتقدمة وغيرها ثم قال وهذا قبيح ويجوز في الشعر على هذا مررت بخير وأفضل من ثم قال أبو الفتح ابن جني الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف وحرف الجر كثير لكنه من ضرورة الشاعر وقوله مليم هو اسم فاعل من ألام الرجل إذا أتى بما يلام عليه أي من مليم أهل النحو وهو اسم جنس هكذا وقع في روايتنا بلفظ المفرد ولو كان بلفظ الجمع كان أحسن أي من مليمي النحو ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين وتقع كذلك في بعض النسخ وهو الأجود وحذفها إنما جاء من الكاتب لأن الناظم أملى فخفيت الياء على الكاتب لأنها ساقطة في اللفظ أي الذين تعرضوا لإنكار قراءة ابن عامر هذه من النحاة على قسمين منهم من ضعفها ومنهم من جهل قارئها وكلهم قد أتى بما يلام عليه لأنه أنكر قراءة قد صحت عن إمام من أئمة المسلمين لكن من نفى ذلك ولم يجهل فأمره أقرب إذ لم يبلغ علة أكثر من ذلك ومن جهل فقد تعدى طوره فبين أمره ولمه وجهله بما قد خفي عنه فإن هذه القراءة قد نقلها ابن عامر عمن قرأها
عليه ولم يقرأها من تلقاء نفسه وسيأتي توجيهها، قال أبو عبيد وكان عبد الله بن عامر وأهل الشام يقرءونها - زين - بضم الزاي، (قتل) ، بالرفع - أولادهم - بالنصب، (شركائهم) ، بالخفض ويتأولونه - قتل شركائهم أولادهم - فيفرقون بين الفعل وفاعله قال أبو عبيد ولا أحب هذه القراءة لما فيها من الاستكراه والقراءة عندنا هي الأولى لصحتها في العربية مع إجماع أهل الحرمين والبصرتين بالعراق عليها وقال أبو علي فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول والمفعول به مفعول المصدر وهذا قبيح قليل في الاستعمال ولو عدل عنها إلى غيرها كان أولى ألا ترى أنه إذا لم يفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام وحال السعة مع اتساعهم في الظروف حتى أوقعوها مواقع لا يقع فيها غيرها نحو (إن فيها قوما جبارين) ، تلقون للهجر حولا كميلا، (ولا تلحني فيها فإني لحبها أخاك مصاب القلب جم بلا بله) ، ألا ترى أنه قد فصل بين أن واسمها بما يتعلق بخبرها ولو كان بغير الظرف لم يجز ذلك فإذا لم يجيزوا الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظرف في الكلام وإنما جاء في الشعر فأن لا يجوز في المفعول به الذي لم يتسع فيه بالفصل به أجدر وقال الزمخشري وأما قراءة ابن عامر بالفصل بينهما بغير الظرف فشيء لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر لكان سمجا مردودا فكيف به في الكلام المنثور فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته، قال والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف - شركائهم - مكتوبا بالياء ولو قريء بجر الأولاد والشركاء لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب، قلت فإلى هذا الكلام وشبهه أشار الناظم يلوم قائله ثم ذكر وجه هذه القراءة فقال
(674)
وَمَعْ رَسْمِهِ زَجَّ الْقَلُوصَ أَبِي مَزَادَةَ. . . اْلأَخْفَشُ النَّحْوِيُّ أَنْشَدَ مُجْمِلاَ
أي ومع كون الرسم شاهدا لقراءة ابن عامر وهو جر - شركائهم - وأما نصب الأولاد فليس فيه إلا النقل المحض لأن الرسم كما يحتمل نصب الأولاد يحتمل أيضا جرها كما سبق وهو الذي رجحه أهل النحو على القول باتباع هذا الرسم أي مع شهادة هذا البيت الذي ورد أيضا بالفصل بين المضافين بالمفعول به وهو ما أنشده الأخفش ولعله أبو الحسن سعد بن مسعدة النحوي صاحب الخليل وسيبويه، (فزججتها بمزجة زج القلوص أبي مزادة) ، أي زج أبي مزادة القلوص فالقلوص مفعول ويروي فزججتها متمكنا ويروي فتدافعت قال الفراء في كتاب المعاني بعد إنشاده لهذا البيت وهذا مما كان يقوله نحويو أهل الحجاز ولم نجد مثله في العربية وقال في موضع آخر ونحويو أهل المدينة ينشدون هذا البيت والصواب زج القلوص بالخفض وقال أبو العلاء أحمد بن سليم المعري في كتاب شرح الجمل واختار قوم أن يفصلوا بين المضاف والمضاف إليه بالمصدر كما يفصل بينهما بالظرف قال وليس ذلك ببعيد وقد حكى أن بعض القراء قرأ (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) ، على تقدير مخلف رسله وعده قال وزعموا أن عيسى ابن عمر أنشد هذا البيت، (فزججته متعرضا زج القلوص أبي مزاح) ، قال هكذا الرواية عنه وقد روي أبي مزادة قال أبو علي الفارسي وجه ذلك على ضعفه وقلة الاستعمال له أنه قد جاء في الشعر الفصل على حد ما قرأ قال الطرماح، (يطفن بحوزي المراتع لم ترع بواديه من قرع لقسي الكنائن) ، قال وزعموا أن أبا الحسن أنشد زج القلوص أبي مزادة فهذان البيتان مثل قراءة ابن عامر قال ابن جني في بيت الطرماح لم نجد فيه بدا من الفصل لأن القوافي مجرورة قال في زج القلوص فصل بينهما بالمفعول به هذا مع قدرته على أن يقول زج القلوص أبو مزادة كقولك سرني أكل الخبز زيد قال وفي هذا البيت عندي دليل على قوة إضافة المصدر إلى الفاعل عندهم وأنه في نفوسهم أقوى من إضافته إلى المفعول ألا تراه ارتكب هنا الضرورة مع تمكنه من ترك ارتكابها لا لشيء غير الرغبة في إضافة المصدر إلى الفاعل دون المفعول قال أبو الحسن الحوفي احتج ابن الأنباري لهذه القراءة فقال قد جاء عن العرب هو غلام إن شاء الله أخيك ففرق بإن شاء الله ويروى أن عبد الله بن ذكوان قال سألني الكسائي عن هذا الحرف وما بلغه من قرائتنا فرأيته كأنه أعجبه ونزع بهذا البيت، (تنفى يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدراهم تنقاد الصياريف) ، فنصب الدراهم ورواه غيره بخفض الدراهم ورفع تنقاد على الصحة قلت وإنما أعجب الكسائي لأنه وافق عنده ما بلغه من جوازه لغة ومثله ما أنشده غيره (فداسهم دوس الحصاد الدائس) ، أي دوس الدائس الحصاد وفي شعر أبي الطيب (سقاها الحجى سقي الرياض السحائب) ، أي سقى السحائب الرياض قال أبو الحسن ابن خروف يجوز الفصل بين المصدر والمضاف إليه بالمفعول لكونه في غير محله فهو في نية التأخير ولا يجوز بالفاعل لكونه في محله وعليه قراءة ابن عامر، قلت وقد أنشد الشيخ أبو العلاء المعري في شرحه بيتا فيه الفصل بالفاعل وبالجار والمجرور معا وهو، (تمر على ما تستمر وقد شفت غلائل عبد القيس منها صدورها) ، أي شفت عبد القيس غلائل صدورها منها، وجاء الفصل أيضا بالمنادى المضاف أنشد ابن جني في كتاب الخصائص، (كأن برذون أبا عصام زيد حمار دق باللجام) ، قال أي كأن برذون زيد يا أبا عصام حمار دق باللجام، قلت ووجدت في شعر أسند إلى الفرس معاوية يخاطب به عمرو بن العاص رحمهما الله تعالى، (نجوت وقد بل المرادى سيفه من ابن أبي شيخ الأباطح طالب) ، أي من ابن أبي طالب شيخ الأباطح ففصل بين مضاف ومضاف إليه وهو صفة لذلك المضاف والمضاف إليه وابن أبي طالب هو علي رضي الله عنه ولا يعد فيما استبعده أهل النحو من جهة المعنى وذلك أنه قد عهد تقدم المفعول على الفاعل المرفوع لفظا فاستمرت له هذه المرتبة مع الفاعل المرفوع تقديرا فإن المصدر لو كان منونا لجاز تقدم المفعول على فاعله نحو أعجبني ضرب عمرا زيد فكذا في الإضافة وقد ثبت جواز الفصل بين حرف الجر ومجروره مع شدة الاتصال بينهما أكثر من شدته بين المضاف والمضاف إليه في نحو قوله تعالى (فبما نقضهم ميثاقهم) - (فبما رحمة من الله) ، فإن قالوا ما زائدة فكأنها ساقطة في اللفظ لسقوطها في المعنى، قلت والمفعول المقدم هو في غير موضعه معنى فكأنه مؤخر لفظا ولا التفات إلى قول من زعم أنه لم يأت في الكلام المنثور مثله لأنه ناف ومن أسند هذه القراءة مثبت والإثبات مرجح على النفي بإجماع ولو نقل لي هذا الزاعم عن بعض العرب أنه استعمله في النثر لرجع عن قوله فما باله لا يكتفي بناقلي القراءة عن التابعين عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ثم الذي حكاه ابن الأنباري فيه الفصل في غير الشعر بجملة مستقلة مركبة من فعل وفاعل مع حرف شرط مما يقوي ما ذكرناه أنهم التزموا أن الفصل بالجار والمجرور لم يأت إلا في الشعر وقد روت الرواة في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الفصل بهما وهو نحو قوله صلى الله عليه وسلم فهل أنتم تاركوا لي صاحبي وتاركوا لي أمرائي، أي تاركوا صاحبي لي وتاركوا أمرائي لي فلم يبق لهم تعلق بأنه لم يأت في الكلام المنثور فصل بالمفعول ولا بالظرف ونحوه والله أعلم، قال أبو القاسم الكرماني في لباب التفاسير قراءة ابن عامر وإن ضعفت في العربية للإحالة بين المضاف والمضاف إليه فقويت في الرواية عالية وفي كتاب الخصائص لابن جني بأن ما يرد عن العربي مخالفا للجمهور إذا اتفق شيء من ذلك نظر في حال العربي وفيما جاء به فإن كان فصيحا وكان ما أورده مما يقبله القياس فإن الأولى أن يحسن الظن به وقد يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة قد طال عهدها وعفا رسمها أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن أبي الحجاج عن أبي خليفة الفضل ابن الحباب قال قال ابن عون عن ابن سيرين قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم ولهيت عن الشعر وروايته فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يثوبوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وألفوا ذلك وقد هلك من هلك من العرب بالموت والقتل فحفظوا أقل ذلك وذهب عنهم كثيره
قال وحدثنا أبو بكر عن أبي خليفة قال قال يونس بن حبيب قال أبو عمرو بن العلاء ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير قال أبو الفتح إذا كان الأمر كذلك لم يقطع على الفصيح يسمع منه ما يخالف الجمهور بالخطأ ما وجد طريق إلى تقبل ما يورده إذا كان القياس يعاضده، قلت وقد بينا وجه القياس في هذه القراءة وقد حان نقلها من طريق صحيح وبالله التوفيق، وقول الناظم رحمه الله أبي مزادة الأخفش بفتح الهاء من مزادة أراد أن يأتي بلفظ الشاعر فأبقى الهاء ساكنة فلقيها سكون اللام في الأخفش فلزم تحريكها ففتحها على حد قوله سبحانه (الم الله) ، في أول آل عمران ولو أبدل الهاء تاء على الأصل وفتحها لكان له وجه لأنه واصل وشاعرها أبدلها هاء للوقف ولكن كان يفوت لفظ الحكاية وكان بعض الشيوخ يجيزوا قراءته بالتاء ولم نسمعه من الشيخ أبي الحسن رحمه الله إلا بالهاء واتفق أني رأيت الشيخ الشاطبي رحمه الله في المنام وسألته عنه أهو بالتاء أو بالهاء فقال بالهاء والله أعلم. اهـ (شرح الشاطبية المسمى: إبراز المعاني من حرز الأماني / للعلامة أبي شامة: 2 / 461: 467)(1/388)
قوله: (وَصْفَهُمْ) أي جزاء وصفهم.
(افْتِرَاءً) مفعول له، الزجاج: مصدر، لأن قوله: (لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ)
معناه يفترون.
قوله: (مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ) .
حال مقدر كما سبق، لأنها ساعة إنشاءِ الله إياها لا يكون عليها أُكُل.
الغريب: أنشأها بقوله: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فأعلم أنه أنشأها مختلفة
أكلها، والهاء تعود إلى كل واحد، وقيل: إلى الزرع.
الغريب: أكل ذلك.
قوله: (وَفَرْشًا) .
الغنم، والإفراش، الإضجاع للذبح.
الغريب: الفرش من الأنعام ما قربت جثته من الأرض.
العجيب: الفرش ما اتخذ من أصوافها وجلودها.
قوله: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) .
بدل من الحمولة، وقيل: تقديره، وأنشأنا ثمانية أزواج، فحذف، لأن
الأول يدل عليه، والقولان واحد.
قوله: (أَوْ فِسْقًا) .
الجمهور على أنه عطف على ما قبله، من قوله: (أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ) ، وفيه نظر، لأن قوله: (أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً) من الموصولات،(1/389)
ولا يحال بين صلة الموصول وما يعطف عليها بأجنبي.
وقوله: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ)
أجنبي، ووجه ذلك، أن يجعل عطفاً على محل أن (إِلَّا أَنْ يَكُونَ) خبره، ومحله
نصب بالاستثناء، أي، إلا كون الطعام ميتة، وليس قوله: (إِلَّا أَنْ يَكُونَ)
كقوله: " ما جاءني القوم لا يكون زيداً "، و"ليس زيداً" في أن الضمير الذي يتضمنه في الاستثناء لا يظهر، وكذلك انتصاب قوله: (أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ) بالعطف على محله فيمن من رفع ميتة، ومن نصب، فانتصاب
الدم واللحم من وجهين: من العطف على المحل، أو العطف على الخبر.
الغريب: قولُ من قالَ تقديره أو أهل لِغير الله به فسقا. فجعله مفعولًا.
لأن الحيلولة بالأجنبي باقية، فإن عطفته على "يكون" وتقديره أو أن أهل لغير
الله به فسقاً، صح هذا الوجه.
والعجيب: قوله من قال: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) اعتراض لا يكون إلا بالأجنبي.
وقد سبق أن الإحالةَ بينهما بالأجنبي ممتنعة.
قوله: (وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ) .
من متصل بـ "حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ".
الغريب: متصل بـ "حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ"، وتكون الثانية لبيان المبهم.
قوله: (أَوِ الْحَوَايَا)
هي جمع حاوية، وحاوياء، ووزنها فواعل، وإليه ذهب سيبويه.
وقيل: واحدها حوية ووزنها مفاعل، ومحلها من الإعراب
رفع عطفاً على "ظُهُورُهُمَا"، أي حملت ظهورها أو حملت الحوايا.
وقيل: محلها نصب عطفاً على "مَا حَمَلَتْ"، أي إلا ما حملت أو الحوايا.(1/390)
الغريب: محلها نصب بالعطف على شُحُومَهُمَا.. أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ: يريد، الإلية، وقيل: المخ، وهذا الوجه يكون حراماً.
قوله: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ) ، "ذلك" في محل نصب على أنه المفعول
الثاني، ويجوز أن يكون رفعا بالابتداء، ومثله (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) .
وقرئ: " كل" - بالرفع -) .
قوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا) .
سؤال: لمَ قال في هذه السورة على هذا النسق، وزاد في النحل: "مِنْ دُونِهِ" مرتين؟.
الجواب: لأن لفظ أشرك دل على إثبات شريك لا يجوز إثباته.
فلم يحتج إلى ذكر دونه، ودلَّ أيضاً إلى بيانه بخلاف لفظ عبد، فإن العبادة
غير مستنكرة، وإنما المستنكر عبادة شيء مع الله - سبحانه - ولا تدل العبادة أيضاً على تحريم كما دلَّ عليه أشرك، فلم يكن بدٌّ من تقييده بقوله: (مِنْ دُونِهِ) .
قوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) .
لهذِهِ الآية وجوه:
أحدها: أنْ "مَا" نُصب ب "أَتْلُ" أي أَتْلُ الذي حرمه ربكم.
"عليكم"، صلة لـ "أَتْلُ" و "أَلَّا تُشْرِكُوا" بدل من "مَا" أو من "الهاء"
المحذوفة، ومحله نصب، وقيل محله جر، وتقديره، لأن لا تُشْرِكُوا، فيكون
المتلو عليهم ما تقدم في السورة من الآيات التي فيها ذكر المحرمات.
وقيل: محله رفع، أي هو أن لا تُشْرِكُوا، وحذف النون للنصب في هذه الوجوه.
وقيل: "أنْ" هي المفسرة لا محل له، "لا تُشْرِكُوا" جزم بالنهي.
والوجه الثاني: أنّ ما نُصب ب "حَرَّمَ"، وهو الاستفهام، وتقديره: أَتْلُ أي شيء حرم(1/391)
"رَبُّكُمْ"، ومعنى "أَتْلُ" أقل، و "عَلَيْكُمْ" من صلة "حَرَّمَ" و "أَلَّا تُشْرِكُوا" بدل
من "مَا" وهو نصب، وتكون "لا" صلة أي حرم عليكم الإشراك، ويحتمل
الرفع أيضاً كالأول، أي هو أن تشركوا فتكون "لا" صلة أيضا، ويحتمل
الجر، أي حرم ما حرم وأحل ما أحل، لأن لا تشركوا، فيكون في موضعه.
ويحتمل أن تكون المفسرة، أي لا تشركوا فتكون نهياً.
والوجه الثالث: أن تكون ""عَلَيْكُمْ" إغراء، و "أَلَّا تُشْرِكُوا" في محل نصب، و "لا" للنفي وحذف النون من الفعل للنصب، والكلام في "لا تقتلوا" وما بعده، كالكلام في لا تُشْرِكُوا.
(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) أي أحسنوا، ودلَّ "إِحْسَانًا"عليه، وقيل: أوصيكم
بالوالدين، ودلَّ "ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ" عليه، ولا تتعلق "الباء" بالمصدر لما
سبق أن ما يتعلق بالمصدر لا يتقدم على المصدر.
قوله: (نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) ، وقال في سبحان: (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) .
الجواب: لأن المتقدم في الآية (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) ، وفي سبحان (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ) يقع بهم
أي بالأولاد نحن نرزقهم وإياكم.
قوله: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا) .
"ثُمَّ" مع الجملة يقع موقع الواو. قال:
إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ. . . ثُمَّ قَدْ سَادَ بَعْدَ ذَلِكَ جَدُّهُ.
الغريب: التراخي في الأخبار، أي ثم أخبركم أنا آتيا موسى الكتاب، وقيل: ثم قل يا محمد آتينا موسى الكتاب.(1/392)
قوله: (عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ)
أي أحسن الله إلى موسى، وقيل: أحسن موسى من قيامه بأوامرنا.
وقيل: أحسن موسى، أي علم موسى.
الغريب: أي على الذين أحسنوا، وهم الأنبياء، كقوله:
وإنَّ الذي حَانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ. . . هم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ
العجيب: أجاز بعض الكوفيين أن يكون (أَحْسَنَ) اسماً في محل جر
صفة للذي، وهذا لا يجوز عند البصريين.
ومن العجيب أيضاً: قول من قال: إن "الذي" بمعنى "مَا" إلمصدر، أي
تماما على إحسانه، ومن العجيب أيضاً أحسن إبراهيم.
قوله: (أَنْ تَقُولُوا) : (أَوْ تَقُولُوا) .
متصل بـ "أَنْزَلْنَا"، أي كراهة أن تقولوا ولئلا تقولوا.
الغريب: متصل بقوله: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، أي تتقون أن تقولوا.
وعلى هذا يجوز ان يتعلق بقوله: "وَاتَّقُوا"، أي (وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) .
قوله: (لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ)
قيل هو من الاهتداء، أي أشد اهتداء، وقيل: من الهداية، لأنه لا يهدى إلاَّ مهتد.
قوله: (لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) .
دليل من قال: إن الإيمان لا يشترط في صحته العمل.
قوله: (أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)
دليل على أن العمل مع الإيمان شرط، وأو يدل على صحة القولين.(1/393)
قوله: (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) .
ذُكِّرَ لإضافة الأمثال إلى مؤنث. أي فله عشر حسنات أمثالها.
قوله: (دِينًا قِيَمًا) .
من شدد جعله من قوله (لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) ، ومن قرأ (قِيَمًا) بكسر
القاف - جعله مصدراً كالصغر والكبر.
قال حسان:
وتَشهَدُ أنك عبد المليك. . . وأرسلتَ حقاً بدين قِيَم
وقيل: أصله قياما، حذف ألفه.
الغريب: قول من قال: هو جمع قيمة، لأن المعنى لا يحتملها.
قوله: (دِينًا قِيَمًا)
منصوب بالبدل، من قوله "صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"، لأن محله نصب حيث تقول هديته الطريق وإلى الطريق.
وقوله: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) بدل من قوله: (دِينًا قِيَمًا) .
وقوله: (حَنِيفًا) حال من إبراهيم.
قوله: (وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) .
نصب على أنها صفة مصدر محذوف، أي رفعةً فوق رفعةٍ، وقيل: إلى
"دَرَجَاتٍ"، فحذف الجار، وقد سبق.
الغريب: رفعته درجة مثل كسوته ثوباً، فهو مفعول به، وارتفع درجة
بمنزلة اكتسى ثوباً - والله أعلم -.
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (دِينًا قِيَمًا) الآية 161 فابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وكذا خلف بكسر القاف وفتح الياء مخففا كالشبع مصدر قام دام وافقهم الأعمش لي دينا دائما والباقون بفتح القاف وكسر الياء مشددة كسيد مصدر على فيعل فأصله قيوم اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت أي دينا مستقيما. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 278) .(1/394)
سورة الأعراف
(المص) .
حكمه حكم الحروفِ الواقعةِ في أوائل السور، وتختص هذه السورة
بما قيل: أن المص معناه المصور.
الغريب: معناه: ألم نشرح لك صدرك.
قوله: (حَرَجٌ مِنْهُ) .
الهاء تعود إلى الكتاب.
الغريب: تعود إلى الإنذار، لأنه مقدم فى المعنى، تقديره، كتاب أنزِل
إليك لِتنذِر بِهِ فلا يكن في صدرك حرج منه.
العجيب: تعود إلى تكذيب الكفرة إياه.
قوله: (وَذِكْرَى) محلها رفع عُطِف على كتاب، وقيل: نصب على
المصدر وقيل: جر عطف على محل اللام في "لِتُنْذِرَ" أي للإنذار وذكرى.
وقوله: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ) .
محل "كَمْ" رفع بالابتداء، "مِنْ قَرْيَةٍ" بيان لـ "كَمْ".
"أَهْلَكْنَاهَا" صفة للقرية، والمعنى، أردنا إهلاكها ليقع مجيء البأس. قيل: للإهلاك، وقيل: أهلكناها بالخذلان.
وقيل: مجيء البأس والهلاك معاً.
الغريب: معنى (فَجَاءَهَا) ، فصحَّ أنه قد جاءها.
وقوله: (فَجَاءَهَا) خبر المبتدأ، وذهب بعضهم إلى أن الخبر "أَهْلَكْنَاهَا"،(1/395)
والأول أظهر، ويجوز أن يكون "كم" في محل نصب بفعل مضمر بعد "كم"
تقديره، وكم من قرية أهلكناها أهلكناها، أو فجاءها فجاءها، ولا يجوز أن
تقدر قبل "كم" لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
قوله: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ)
الجمهور على أنه حال.
قال الفراء: الأصل، أو وهم قائلون، فحذف الواو، وأنكره الزجاج، وقال: العائد من الجملة قام مقام الواو فلمْ يحتج إليه.
وأنا أذكر فصلاً يكون حَكَماً بين الشيخين:
اعلم أن الحال إذا كانت جملة من مبتدأ وخبر، فالغالب عليها
الواو، فإن كان في الجملة عائد يعود إلى ذي الحال، حسن الحذف وحسن
الإثبات، فإن كان مبتدأ الجملة ضمير ذي الحال لم يكن بد من الواو، نحو:
جاءني زيد وهو ضاحك، وضربت عمرا وهو قائم، لو قلت: جاءني زيد هو ضاحك وضربت عمراً هو قائم لم يصح، ثم نرجع إلى الآية فننظر أن العائد من قوله سبحانه (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) كيف هو، فنظرنا والعائد إلى ذي الحال هو مبتدأ الجملة التي وقعت حالًا، لأن تقدير الآية، وكم من أهل قرية أهلكناهم فجاءهم بأسنا بياتاً أو هم قائلون، فصح أن الفراء أصاب وعذره من حذف الواو والاستقبال من الجمع بين "أو" و "الواو".
الغريب: أن قوله: (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) ليس بحال بل التقدير فيه فجاءها
بأسنا بياتاً أو حين هم قائلون، ولا بد من هذا التقدير، لأن المفسرين عن
آخرهم فسروا بياتاً ليلا، فيكون (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) نهارا وقت القيلولة، فصار
بمنزلة قولك حيث زيداً حين هو قائم، ولا يمتنع الحال أيضاً بأن يحمل قوله
بياتاً على بائتين، فكأنه قال: فجاءهم بأسنا بائتين أو هم قائلون.(1/396)
قوله: (فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ) .
هي في محل نصب بالخبر، (أَنْ قَالُوا) في محل رفع، كقوله: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ) ، ويجوز على الضد، والوجه هو الأول، لأن "أَنْ قَالُوا"
أكثر تعريفاً لامتناعه عن الوصف، وما كان تعريفه أبلغ كان بالاسم أولى.
(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) .
نصب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون ظرفا، فأخبر المبتدأ.
والثاني: أن يكون صلة للمصدر.
الثالث - وهو الغريب -: أن يكون مفعولًا للمصدر على الاتساع كما
تقول الوزن الدراهم حق. حكاه أبو علي في الحجة.
والحق يرتفع من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون خبر المبتدأ.
والثاني: أن يكون صفة المبتدأ.
والثالث: أن يكون بدلاً من الضمير المرفوع الذي في الخبر. - وهو الغريب - حكاه أبو علي.
ولو قدمت الحق على يومئذ جعلت يومئذ خبرأ جاز، ولم يجز على الوجهين الآخرين.
قوله: (قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ) .
سبق في البقرة. والغريب: ما ذكره النحاس: أنه ينتصب على
الظرف.
قوله: (اسْجُدُوا لِآدَمَ) .
الغريب: النقاش: إن الله أسجد الملائكة لآدم مرتين، مرة عند تمام
خلقه، وهو قوله: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) الآية، ومرة عند
قوله: (أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ)
وهذا خلاف قول سائر المفسرين.(1/397)
قوله: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) .
الجمهور على أن لا زائدة، وقيل: معناه ما دعاك إلى أن لا تسجد.
وقيل: الممنوع من الشيء مضطر إلى خلاف ما منع منه، فكأنه قيل: أي
شيء اضطرك إلى أن لا تسجد.
والغريب: معناه ما الذي جعلك في منعه من عدائي.
الغريب: المنع بمعنى القول، أي من قال لك لا تسجد. وهذا
ضعيف، لأنه يقتضى الخبر.
قوله: (قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) .
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة بغير فاءين، وقال في الحجر وص:
(قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) وزاد فيها فاءين؟.
الجواب: لأن قوله: (أَنْظِرْنِي) في الأعراف استئناف كلام إبليس
من غير مبني على ما سبق من الكلام بخلاف ما في الحجر وص، فإنه مبني
فيهما على الكلام السابق وهو لعنةُ الله إياه، ولهذا في زيدَ فيهما "رَبِّ"، وقيل: (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، أي إن بعثتني يا رب فأخر أجلي إلى يوم البعث.
فأما حذفه من قوله (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) في الأعراف فلأن ذاك
أيضاً استئناف إخبار من الله سبحانه يجري مجرى الجواب لا استجابة، ألا
ترى أن السؤال مقيد بقوله (إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) والجواب مطلق، وهو قوله:
(إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) أي أنت من الذين أخر أجلهم في حكمي لا لأجل
مسألتك ودعائك، وأما ما في الحجر وص، وإن كان إخبارا يجري مجرى
الجواب لا استجابة لدعوته ولا إسعافاً لطلبته لأنه سأل النظرة إلى يوم
القيامة، فقال الله سبحانه (إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)
وهو يوم الموت، ولهذا(1/398)
قال بعض المفسرين: أراد اللعين أن يهرب من الموت فلم يستجب إليه.
فقد وجد فيها نوع من المطابقة وهو تقييد الجواب بقوله: (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) ، وإن كان لفظا لا حكما، وفي المطابقة زيادة اتصال بما قبله، وفي الفاء معاقبة والتزام، فكان الفاء في السورتين أحسن - والله أعلم -.
قوله: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي) .
"مَا" المصدر.
الغريب: "مَا" للاستفهام، وفيه ضعف، لأن ألفه تحذف مع الجار، إلا
في الشعر.
العجيب "مَا" للجزاء، وهذا سهو. ذكره الثعلبي.
و"الباء" للقسم، وقيل: بمعنى اللام، وقيل: للسبب.
الغريب: بمعنى البدل، وقيل: بمعنى مع.
قوله: (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ)
قال في الأوليين بلفظ "مِنْ" لابتداء الغاية، وفي الأخريين بلفظ "عَنْ" لأن
"عَنْ" يدل على الانحراف.
قال ابن عباس: لم يقل من فوقهم، لأن رحمة الله تنزل عليهم من فوقهم، ولم يقل من تحتهم لأن الإتيان منه توحش.
الغريب: لم يقل من تحتهم، لأنه لم يرض لنفسه أخسِّ الجهات.
قوله: (وَقَاسَمَهُمَا) .
حلف لهما، فاعَلَ بمعنى فعل كقولهم: عافاه الله، وعاقبت اللص.
الغريب: قاسمهما من المقاسمة، وذلك أن إبليس، قال لهما إن كان(1/399)
ما قلته خيراً، فهو لكما دوني، وإن كان شراً فهو عليَّ دونكما، ومن فعل
ذلك معكما فهو من الناصحين، وهذه مقاسمة.
قوله: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)
أي ناصح لكما من الناصحين، فاللام متعلق بناصح مضمر، ولا يجوز تعلقه بالناصحين، لأن الصلة لا تتقدم على الموصول، وذهب بعضهم إلى أنه للتبيين، وتقديره لكما من الناصحين ينصحون، فلكما متعلق بينصحون.
الغريب: أجاز بعضهم أن يعمل الناصحين في اللام إذا كان لتعريف
الجنس والعهد، لأن المانع من العمل فيما قبله كونه بمعنى الذي فحسب.
قوله: (رَبَّنَا) .
يريد يا رَبَّنَا.
الغريب: كثر حذف يا في القرآن من الرب تنزيها وتعظيماً، لأن في
النداء طَرَفاً من الأمر، إذا قلت: يا زيد افعل واصنع.
قوله: (أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا) .
أي خلقنا، وذكر بلفظ الإنزال ليدل على علو المرتبة، ومثله (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ) .
الغريب: أنزل الماء، وهو أصل كل ملبوس من القطن والكتان.
وكذلك الصوف والابريسم بواسطة النبات، فسماه باسم ما يؤول إليه.
العجيب: أنزل أصل كل شيء مع آدم - عليه السلام -، حين أهبط
إلى الأرض.
(وَلِبَاسُ التَّقْوَى)
ستر العورة، وقيل الإيمان ببعث الرسل، وإنزال القرآن.
وقيل: الصوف والخَيْش، وقيل: الحناء، وقيل: هو لبس ما يتقى به
من الحر والبرد وهو الغريب.(1/400)
العجيب: ولباس زيادة كما زيد في قوله: (لِبَاسَ الْجُوعِ)
أي والتقوى ذلك غير.
قوله: (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) .
أي اثبتوا على الإيمان ولا تكونوا من حزب الشيطان، وهذا كقوله (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) .
قوله: (يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا)
حال من الضمير في "أَخْرَجَ".
قوله (مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ)
قال الزجاج: ما بعد "حيث" صلة له.
قال أبو علي: هذا سهو، بل ما بعده جملة أضيف إليها حيث قياساً على
ظرف الزمان في الإضافة إلى الجمل.
قوله: (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ)
فريقاً الأولى منصوب "بهدى"، والثاني منصوب بفعل دل عليه (حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) ، أي وأضل فريقاً كما تقول زيداً مررت به وعمرا نزلت عليه.
الغريب: كلاهما منصوب على الحال من الضمير في تعودون يقويه قراءة
ابن مسعود، "وتعودون فريقين" (فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ) .
قوله: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) .
كانوا يطوفون بالبيت عراة، وكانت المرأة تطوف عريانة فتعلق على سِفْلها
سيورا يسمونها الرَهْط، قالت واحدة منهن:(1/401)
اليوم يبدو بعضُه أو كله. . . وما بدا منه فلا أحِلُّه.
تعني الفرج، فأمروا بلبس الثياب وستر العورة في الطواف وعند
الصلاة، وقيل: هو التزين بأحسن الثياب في الجمع والأعياد.
وقيل: هو التزين في كل صلاة
لقوله: (عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) .
الغريب: (خُذُوا زِينَتَكُمْ) المشط.
العجيب: (خُذُوا زِينَتَكُمْ) رفع الأيدي مع التكبير في الصلاة.
قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا)
أي كلوا واشربوا اللحم والدسم واللبن، ولا تسرفوا بالشروع في الحرام.
الغريب: ولا تسرفوا فتجاوزوا الحد في الأكل والشرب.
وقد روي أن الرشيد كان له نصراني حاذق، فقال لعلي بن حسين:
ليس في كتابكم من علم الطب شيء، والعلم علمان: علم الأديان وعلم
الأبدان - فقال له علي: جمع الله الطب في نصف آية من كتابه وهو قوله:
(وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا) .
فقال النصراني: وما روي عن نبيكم شيء من الطب؟.
فقال علي: جمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الطب في كلمات وهو قوله: "المعدة بيت الأدواء والحمية رأس كل دواء، وأعط كل بدن ما عودته".
ففال النصراني: ما ترك كتابكم ولا رسولكم لجالينوس طباً.
قوله: (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
قرىء "خَالِصَةً" - بالرفع والنصب -، قوله: "هِيَ" مبتدأ،(1/402)
"لِلَّذِينَ آمَنُوا" خبر المبتدأ، و "فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" ظرف.
وأجاز أبو علي أن يكون "فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" الخبر و "لِلَّذِينَ آمَنُوا" الظرف وإن تقدم عليه، كقولهم: أَكُلَّ يوم لك ثوب.
ولا يجوز أن يكون متعلقا ب "أَخْرَجَ"، لأنه لا يحال بين صلة الموصول وما يتعلق بالصلة، وأجاز أبو علي أن يتعلق ب "حَرَّمَ".
و"خَالِصَةً" رفع من وجهين:
أحدهما: أنه خبر المبتدأ، أي هي خالصة للذين آمنوا.
والثاني: أنه خبر بعد خبر، وللنصب وجهٌ واحدٌ وهو الحال، وذو الحال
الضمير الذي في أحد الظرفين، والعامل في الحال الفعل الذي تضمنه ذلك
الظرف.
الغريب: قال الفراء: "خَالِصَةً" قطع، وليست بقطع من اللام الملفوظة
لكنها قطع بلام، أخرى مضمرة المعنى هي للذين آمنوا مشتركة في الحياة
الدنيا ولهم في الآخرة خالصة.
قوله: (فِي أُمَمٍ) .
أي مع أمم، وهي حال، أي ادخلوا مجتمعين معهم في النار.
قوله: (ضِعْفًا) الضِعف في اللغة، المثل أو الشيء المضاعف.
ابن عباس: مضاعف بالحيات والأفاعي.
الغريب: الضعف، القسط.
العجيب: الضِعف هنا العذاب. حكاه الماوردي.
قوله: (غَوَاشٍ) .
حذف ياؤه حذفا، ولما كان هذا الحذف جائزاً في الآحاد كالمهتد
والداع والمُناد، وكان جائزاً في الأفعال، نحو (نَبْغِ) : و (يَوْمَ يَأْتِ) .(1/403)
صار في الجمع لازماً، ولما حذف الياء سقط عن زنة الجمع ودخل في زنة
الآحاد، فدخله التنوين، وقيل: التنوين عوض عن الياء، وقيل: عوض عن
ذهاب حركة الياء، والوجه الأول.
(وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ) .
سؤال: لِمَ نال في هذه السورة: (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ) ، وقال في
هو: (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ) بزيادة "هُمْ"؟.
الجواب: لأن ما في الأعراف على القياس، وما في هود لما تقدم
من قوله: (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ) ، ثم قال: (أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) .
ولم يذكر بلفظ الكناية احتمل أنهم هم، ويحتمل أنهم غيرهم، أعاد ذكرهم ليعلم أنهم هم المذكورون.
قيل الغريب: قول من قال: أنه للتأكيد، وهذا ضعيف، لأن ذلك إنما
يزاد مع الألف واللام، أو مع أفعال أو مع المستقبل.
قوله: (وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ) .
الأعراف، السور المذكور في قوله: (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) .
وقيل: الأعراف أعالي السور، وأعالي كل شيء أعرافه، وهو جمع عُرْف، والغرْف: ما ارتفع من الأرض، وقيل: الأعراف، واحد، كثوب أسمالٍ وبرمةٍ أعشارٍ.
واختلفوا في أصحاب الأعراف، فذهب بعض المفسِّرين إلى أنهم الأنبياء
وقيل الملائكة سموا رجالًا كما في قوله: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا) ، وقيل: هم العلماء، وقيل: الصالحون، وقيل: الشهداء، وهم
عدول الآخرة. فهؤلاء ارتفع شأنهم في الدنيا والآخرة،(1/404)
وقيل: هم قومٌ استَوَت حسناتهم وسيئاتهم، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - "إنهم قوم خرجوا إلى الجهاد وهم عصاة لآبائهم، فقتلوا فأعتقهم الله من النار لأنهم قتلوا في سبيل الله وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهما.
وقيل: هم قوم رضي عنهم آباؤهم دون أمهاتهم، أو أمهاتهم دون آبائهم، وقيل: هم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم.
الغريب: الأعراف من المعرفة، والمعنى: على معرفة الكفار
والمؤمنين، "رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ".
العجيب: هم أولاد الزنا، وقيل: هم أولاد المشركين، وقيل: هم
المراؤون.
قوله: (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ)
الجملة التي "وَهُمْ يَطْمَعُونَ" حال من الضمير، وقيل: لا محل لها من الإعراب، وهي جملة مستأنفة.
الغريب: معناه: دخلوها وهم يطمعون، فنقل النفي من الطمع إلى
الدخول، قاله الأنباري.
قوله (بِسِيمَاهُمْ)
هي فِعْلَى من السومة، وهي العلامة.
الغريب: هي من الوسم، كالجاه من الوجه.
قوله: (أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) .
مفعوله محذوف، أي شيئاً، ويجوز أن تكون من زائدة على مذهب
الأخفش.
الغريب: هذا إعلام أن الآدمي لا يستغني عن الطعام والشراب وإن
كان معذبا أشد العذاب.
العجيب: الكُدْية من عمل أهل النار.(1/405)
قوله: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا) ، القياس حرمه لأن السؤال بلفظ أو، لكن أو
قد تجري مجرى الواحد نحر جالس الحسن أو ابن سيرين، فله أن يجالسهما.
قوله: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) .
متصل بما قبله، أوحكاية.
الغريب: استئناف، ومتصل بقوله: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ) .
قوله: (فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ) .
(فَصَّلْنَاهُ) صفة لكلتاب، (عَلَى عِلْمٍ) حال من ضمير الفاعل، أي
ونحن عالمون بتفصيله، ويجوز أن يكون حالًا من ضمير المفعول، أي على
علم في الكتاب، (هُدًى وَرَحْمَةً) حالان من الهاء أيضاً.
قوله: (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) .
الجمهور: على أنها ستة أيام من أيام الآخرة، كل يوم مقداره ألف
سنة.
الحسن: ستة أيام من أيام الدنيا، أولها الأحد وآخرها الجمعة، وإنما
خلقه في أيام ليشاهد الملائكة حدوث شيء بعد شيء.
الغريب: خلق كل يوم ما خلق بقوله: (كُنْ) فكان من غير استيعاب
اليوم في ذلك.
العجيب: كان مستحيلا خلقه في أقل من تلك المدة لاجتماع
المتضادات فيها، والله - سبحانه - غير موصوف بالقدرة على المستحيلات.
ابن بحر: خص الستة لأنها أصل جميع الحِسْبان، ومنه يتفرع سائر
العدد بالغاً ما بلغ.
قوله: (عَلَى الْعَرْشِ)
فيه أقوال، أحدها: السرير،(1/406)
والثاني: الملك، فقال لمن ذهب ملكه وعزه قلً عرشه.
والثالث: السقف، من قوله: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) .
قال وقوله: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) ، الهاء يعود إلى الخلق يريد بناءه وسقفه
قوله: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ)
أي يُغْشِي الليل النهار والنهار الليل، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر.
الغريب: الليل ظرف، أي يغشي في الليل النهار وضوءه. فالليل ظرف.
والنهار مفعول به.
العجيب: لما كان كل واحد من الليل والنهار صالحاً أن يكون المفعول
الأول وصالحاً أن يكون المفعول الثاني، اكتفى به.
ومن العجيب أن يجعل أحدهما غير معين للظرف والآخر للمفعول به.
قوله: (حَثِيثًا)
أىِ محمولاً على السرعة من حثه يحثه، وقيل: مصدر
(أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) أي الخلق كله والأمر فيهم، وقيل: الخلق العظيم
والأمر النافذ.
الغريب: إشارة إلى ما في أول الآية من الخلق وما في آخرها من الأمر
وهما واحد.
قوله: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) .
هو الذي يدعو على من لا يستحقه، وقيل: هو الذي يسأل الله درجة
الأنبياء والمرسلين.
الغريب: هو الذي يرفع صوته عند الدعاء، فإن أبا موسى الأشعري
قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاةٍ، فأشرف القوم على وادٍ فجعل القوم(1/407)
يكبرون ويهللون ويرفعون أصواتهم، فقال - عليه السلام -: "اربَعوا على
أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريبا إنه
معكم".
العجيب: الاعتداء في الآية، السجع في الدعاء، حكاه هشام في
تفسيره.
قوله: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ) .
ذُكِّر حملاً على الغفران أو على الثواب.
الأحفش: المراد به المطر.
قال الكوفيون، إذا أردت بالقرب والبعد قرب الزمان والمكان أو
بعدهما فلا يؤنث ولا يثنى ولا يجمع.
الغريب: القرب يعني المُقَربة، فيكون من باب كف خضيب وعين
كحيل.
قوله: (كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى) .
أي كما أحييا هذا البلد بإخراج الثمرات نخرج الموتى من القبور.
الغريب: روى عن ابن عباس وأبي هريرة: إذا مات الناس كلهم في
النفخة الأولى أمطر عليهم أربعين عاماً كمني الرجال من ماء تحت العرش.
يدعى ماء الحيوان فينبتون في قبورهم بذلك المطر كما ينبتون في بطون
أمهاتهم وكما ينبت الزرع من الماء حتى إذا استكملت أجسادهم نفخ فيهم
الروح، ثم يلقى عليهم نومة ينامون في قبورهم، فإذا نفخ في الصور الثانية(1/408)
عاشوا وهم يجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم كما يجد النائم إذا
استيقظ من نومه، فعند ذلك يقولون: (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) .
فيناديهم المنادي: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) .
قوله: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ)
سؤال: لِمَ قال هنا: يرسل بلفظ المستقبل.
وفي الفرقان: (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ) بلفظ الماضي.
وفي الروم: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ) بلفظ المستقبل.
وفي الملائكة: (أَرْسَلَ الرِّيَاحَ) بالماضي.
الجواب: لأن ما قبلهما في الأعراف: (وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا) .
والخوف والطمع يقعان في الاستقبال، فكان يرسل بلفظ المستقبل أشبه بما
قبله، وأما في الفرقان، فما قبلها (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ)
الآية، وقوله: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ) ، فجاء بما يليق بما قبله من لفظ
الماضي، وأما في الروم، فقد تقدم قوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ) .
وقوله: (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ)
فكان لفظ المستقبل أشبه به، وأما في الملائكة فمبني على أول السورة، وهو قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا) :
وهما بمعني الماضي لا غير، فلذلك بنى عليه أرسل ليكون الكل على ما يقتضي اللفظ الذي خص به.(1/409)
قوله: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا) .
سؤال: لمَ قال هنا: "لَقَدْ" بغير واو، وقال في قصة نوح من سورة
هود: (وَلَقَدْ) ، ومثله في المؤمنين في قصة نوح (وَلَقَدْ) ؟.
الجواب: لأنه في الأعراف كلام مستأنف لم يتقدمه ذكر رسول.
فيكون عطفاً عليه، وفي سورة هود تقدم ذكر الأنبياء مرة بعد أخرى، وكذلك في المؤمنين تقدم (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ) ، (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ) ، ولأن قبله (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) .
وذكر الفلك يتضمن ذكر نوح - عليه السلام - لأنه أول من وضح الفلك.
سؤال: لم قال في عقيب قوله:
(أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ) - بالفاء - في الأعراف وحذف "الفاء" من قصة نوح في سورة هود، ولمَ أثبتها في قصة نوح في المؤمنين، ولم حذف "الفاء" من قصة عاد في الأعراف؟.
الجواب: لأن الفاء للتعقيب وقد تقدم ذكر الإرسال في قصة نوح في
السور الثلاث، فصار التقدير أرسل فجاء، فقال: كما في الأعراف
والمؤمنين، وأما في هود فأضمر القول فصار الفاء معه مضمرا، لأن التقدير.
أرسلنا نوحا إلى قومه فجاء فقال إني لكم نذير، وأما في قصة عاد، فالإرسال
مضمر فأضمر الفاء.
سؤال: لِمَ قال في الأعراف: (قَالَ الْمَلَأُ) ، وقال في هود والمؤمنين:
"فَقَالَ الْمَلَأُ".(1/410)
الجواب: لأن ما في الأعراف غير لائق بالجواب، فصاروا
كالمبتدئين بالخطاب غير سالكين طريق الجواب، لأنهم قالوا (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ، بخلاف السورتين، فإنهما قد أجابوه بما زعموا أنه جواب.
سؤال: لِمَ قال في قصة نوح: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ) بلفظ المتقبل، وقال في قصة عاد: (وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) بلفظ الاسم.
الجواب: جاء ما في قصة نوح على القياس، أبلغكم وأنصح لكم.
كما جاء في قوله: (أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) على القياس
المستقبل مع المستقبل، والماضي مع الماضي، وأما في قصة هود، فقد
سبق في أول القصة، (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) .
ولهذا جاز الوقف على قوله: (لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ) ، ولم يجز على قوله:
(لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ) ، لأنهم نسبوا نوحاً إلى الضلالة فحسب، فقال:
(لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ) بخلاف قصة هود، فإنهم نسبوه إلى السفاهة، وإلى الكذب، فلو قال: ليس بي سفاهة ووقف عليها، لكان تسليماً لما بعدها، وليس ذلك بالسهل، ثم قال: (وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) ليقع في مقابلة قولهم:
(وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) ، مقابل اسم الفاعل باسم الفاعل - والله أعلم.(1/411)
قوله: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ) يعني نوحاً.
سؤال: لِمَ قال هنا في قصة نوح (فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ) .
وقال في يونس: (فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ) ؟
الجواب: لأن "الألف" في أنجيناه للتعدي، والتشديد في نجيناه
للتعدي والمبالغة، وكانت المبالغة في يونس أكثر، ألا ترى إلى قوله بعده:
(وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ) ، ولفظ "مَنْ" يدل على أكثر مما يدل عليه الذين.
لأنه يصلح للواحد والجمع والمذكر والمؤنث، و "االَّذِينَ" يصلح لجمع
المذكر فحسب.
قوله: (خُلَفَاءَ)
جمع خليف على التقدير، نحو كريم وكرماء، وقد - جاء جمعه على
اللفظ خليفة وخلائف، نحو: كريمة وكرائم.
قوله: (فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) .
سؤال: لم قال هنا: (مَا نَزَّلَ) ، وقال في غيرها: (مَا أَنْزَلَ) ؟
الجواب: لأن (أَنْزَلَ) للتعدي و (نَزَّلَ) للتعدي والمبالغة، فذكر أول ما
ذكر بلفظ المبالغة ليجري مجرى ذكر الجملة، والتفصيل أو ذكر الجنس
والنوع، فيكون الأول كالجنس، وما سواه كالنوع.
قوله: (عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ) .
أي ذكر منزل منكم.
الفراء: مع رجل منكم.(1/412)
الغريب: على لسان رجل منكم.
قوله: (لِمَنْ آمَنَ) .
بدل من قوله: (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) وأعاد العامل ليعلم أن العامل في
البدل غير العامل في المبدل.
قوله: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ) .
سؤال: لِمَ قال: مع الرجفة (دَارِهِمْ) ومع الصيحة (دِيَارِهِمْ) ؟
الجواب لأن المراد بالرجفة الزلزلة، وأراد بدارهم بلدها، فخصت
بها، والصيحة عمت فبلغت الداني والقاصي، وأراد بديارهم منازلهم.
قوله: (يَتَطَهَّرُونَ) .
أي يتزهون عن أعمالكم، وقيل: يتقززون عن إتيان الأدبار.
الغريب: يرتقبون أطهار النساء فيجامعونهن فيها.
ابن عباس: عابوهم بما يتمدح به.
قوله: (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) .
سؤال: لم قال في هذه السورة: (مُسْرِفُونَ) بلفظ الاسم، وقال في
النمل في هذه القصة: (تَجْهَلُونَ) بلفظ الفعل؟
الجواب: كل إسراف جهل، وكل جهل، إسراف. وذكر هنا بلفظ(1/413)
الاسم موافقة لرؤوس الآيات التي سبقت، وهي أسماء العالمين.
(جاثمين، المرسلين، مؤمنين، مفسدين) ، وكذلك في النمل وافقت الآيات
التي تقدمت، وهي أفعال (تبصرون، تتقون، تعلمون) .
قوله: (وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ) .
لِمَ قال في هذه السورة، "وَمَا" - بالواو - وفي سائر القرآن - بالفاء -؟.
الجواب: لأن الواو من حروف العطف وهي تدل على العطف
المجرد، وغيرها من الحروف يدل على العطف ومعنى آخر، فجاء في الأول
بالأصل، وفي غير الأول بفروعه، وقيل: لأن الفاء للتعقيب، والتعقيب إنما
يكون مع الفعل، ولما كان قوله: (مُسْرِفُونَ) اسماً، لم يحسن الفاء.
وحسن الواو، والقول الأول، أكثر اطرادا.
قوله: (وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا) .
تقديره: تبغون لها عوجا، فهما مفعولان.
قوله: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا) .
أي إلا أن يشاء الله الكفر، والكفر بمشيئة الله، وقيل: كان فيها أشياء
يجوز تعاطيها.
الغريب: هذا على وجه البعد كما تقول: لا أفعل هذا حتى يبيض
الغراب، وحتى يلج الجمل في سم الخياط.
الغريب: (نَعُودَ فِيهَا) نرجع إلى القرية.(1/414)
قوله: (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) .
أي يقيموا من المغنى وهو المنزل.
الغريب: لم يعيشوا.
(هُمُ الْخَاسِرِينَ)
هم عماد لا محل له من الإعراب.
قوله: (أَوَلَمْ يَهْدِ) .
فاعله: (أَنْ لَوْ نَشَاءُ) أي مشيئتا.
الغريب: فاعله الله بدليل قراءة يعقوب، "نَهْدِ" - بالنون -، فيكون
"أنْ" في محل نصب، أي لأن نشاء.
قوله: (عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ) .
من خفف فـ "على" بمعنى "الباء"، ومن شدد فمبتدأ وخبر.
قوله: (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) ، (فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ) .
"إِذَا" هذه يسميها النحويون: إذا المفاجأة، تقول: خرجت فإذا زيد
قائم، وذهب المبرد: إلى أنه ظرف مكان.
وذهب علي بن سليمان: إلى أن التقدير، فإذا حدوث زيد قائم.
قال: وهو ظرف زمان، كما كان، ومثله، الليلةَ الهلال، أي حدوث الهلال، وظروف الزمان تقع أخبارا عن المصادر.
الغريب: ذهب بعضهم إلى أن "إِذَا" المفاجأة حرف، وإنما حمله
على هذا أنه رأى المبتدأ والخبر بعده ثابتين، وهذا وهم منه، لأن ذلك
محمول على أنه معمول الخبر.(1/415)
الغريب: هو بمنزلة حيث زيد قائم، أو زمن الحجاج أمير.
قوله: (إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) .
ذهب جماعة إلى أن، "أنْ" - مع ما بعده في محل نصب، لأنه أمر
بالاختيار أي، اختر ذا أو ذا، ولولا هذا المعنى لما احتاج إلى "أنْ" كما
في قوله: (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) .
الغريب: "أنْ" في محل رفع، أي إما هو الإلقاء منك أو منا.
قوله: (فَوَقَعَ الْحَقُّ) أي ظهر وبان.
الغريب: قرعهم وصدعهم من وقع المنفعة.
قوله: (مِنْ خِلَافٍ) .
اليد اليمنى والرجل اليسرى.
الغريب: من أجل خلاف ظهر منكم.
قوله: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) .
قيل: كانت له أصنام يعبدها ويأمرهم بعبادتها، ولهذا قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) .
الغريب: كان القبط يعبدون الكواكب، ويزعمون أنها تستجيب دعاء
من دعاها، وأن فرعون كان يدعي أن الشمس استجابت دعاءه وملكته
عليهم.(1/416)
العجيب: كان يعبد بقرة، وإذا رأى بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها.
أبو عبيدة عن الحسن، أنه كان يعبد تيسا، وقيل: كان في عنقه صنم
يعبده. وقراءة من قرا، "وإلهَتكَ" أي عبادتك.
الغريب: إلهتك، أي شمسك، والآلهةُ، الشمس، وقد سبق.
قوله: (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) .
بدل من قوله: (بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .
سؤال: لمَ قال في هذه السورة وفي الشعراء (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)
وقال في طه: (آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) ؟
الجواب: لأن آيات طه على الياء، فقدم هارون وأخر موسى في
اللفظ مراعاة لفواصل الآي، ولهذا أيضاً، قال في السورتين
(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ) ، لأن آيات السورتين أكثرها على النون.
وقال في طه: (سُجَّدًا) ومثله في الأعراف: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ، وفي الشعراء
(فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ، واختصر في طه على قوله: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ) .(1/417)
قوله: (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ) .
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة: (قَالَ فِرْعَوْنُ) بالصريح، وقال في
السورتين: (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ) ؟.
الجواب: من وجهين:
أحدهما: أن الفعل بَعُدَ من اسم فرعون بعشرِ آيات، فذكره صريحا، ولم يَبعُد في السورتين بُعدَه في هذه السورة.
فذكر فيها بالكناية، والثاني: أن هذه السورة أولى السور الثلاث، فذكر فيها بالصريح وذكر في السورتين بالكناية لتقدم ذكره والعلم به.
قوله: (آمَنْتُمْ بِهِ)
سؤال: لِمَ قال هنا: (آمتتم به) ، وفي السورتين: (آمَنْتُمْ لَهُ) ؟.
الجواب: لأن الضمير فيها يعود إلى رب موسى بدليل قوله بعده (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ) ، وفي السورتين يعود إلى موسى بدليل قوله بعده فيهما (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) ، وآمن به هو الأصل، وآمن له بمعنى لأجله.
ابن عيسى: اللام تتضمن معنى الإتباع دون الباء.
(ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ) .
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة (ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ) وفي السورتين
(وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ) ؟.
الجواب: "ثُمَّ" بدل على أن الصلب وقع بعد القطع، فإذا دل في
الأولى، لم يحتج إليه في الثانية والثالثة، مع أن "الواو" يصلح لما يصلح
له "ثُمَّ"، وقوله: (لَأُصَلِّبَنَّكُمْ) أي لأجعلنكم على الخشبة حتى تموتوا عليها
جوعا وعطشاً.(1/418)
الغريب: هو من الصليب الذي معناه الشرك، أي أترككم على الخشب
إلى أن يسيل منكم الصليب، وهو أول من صلب.
قوله: (مَهْمَا تَأْتِنَا) .
(مَهْمَا) اسم تتضمن معنى إن الشرطية، ولهذا جزم، والدليل على
أنه اسم رجوع الضمير إليه في قوله (تَأْتِنَا بِهِ) ، وأصله عند النحوين
"مَا"، وهو اسم زيد عليه "مَا"، وهو حرف تأكيد، كما زيد مع أن وغيره
من حروف الشرط، فصار "ما ما" فقلبت الألف همزة، ثم قلبت الهمزة هاء.
الغريب: قال الأخفش: أصله مه أي كف عن ما تقول، ثم استأنف
فقال، ما تأتنا به، فهو وحده للشرط، كما في قوله: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ) .
(وَمَا يُمْسِكْ) ، ويقوِّي هذا ما روي عن الكسائي من الوقف على "مه"
والابتداء ب "ما تأتنا به".
ومن الغريب: ما روي عن الكسائي: أنه أمالها مهمِي.
العجيب: قال بعض الكوفيين: "مهما"حرف بمنزلة "حتى" وليس بمركب.
قوله: (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ) .
الرجز، العذاب، وقيل: الموت.
الغريب: ذكر النقاش: أن الرجز في الآية الثلج.(1/419)
قوله: (يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) .
هما منصوبان على المفعول به لقوله: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ) .
الغريب: هما منصوبان على الظرف، والعامل فيه (يُسْتَضْعَفُونَ) في
(مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) ، فيكون قوله: (الَّتِي بَارَكْنَا) المفعول به، أي الأرض التي.
ويجوز أن يكون المفعول محذوفاً، و "الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا" صفة لقوله
(مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا) على الوجهين.
العجيب: (الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) في محل جر وصفا للأرض، وفيه ضعف.
قوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى)
وصفها بالحسنى، لأنه وعد بمحبوب، و "عَلَى" متعلق ب "تَمَّتْ".
ولا يتعلق ب (كَلِمَتُ) ، لأن المصدر بعد الوصف لا يعمل.
قوله: (بِمَا صَبَرُوا)
"مَا" للمصدر، أي بصبرهم.
قوله: (مَا كَانَ يَصْنَعُ)
في "كَانَ"، ضمير "مَا" وهو اسم كان، و "يَصْنَعُ" جملة في محل نصب بالخبر.
الغريب: "كَانَ" زائدة.
قوله: (وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)
هي الموصولة، أي يعرشونه.
(كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) .
"مَا" للمصدر، أي كثبوت الآلهة لهم.
وقيل: هي الموصولة.
وفي "لَهُمْ" ضمير يعود إليها، و "آلِهَةٌ" بدل عنه.
قوله: (أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا) .
تقديره، أبغى لكم إلهاً غير الله، ف "غَيْرَ اللَّهِ" ينتصب من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مفعول به. "إِلَهًا" نصب على الحال، و "غَيْرَ اللَّهِ" مُنزل منزلة المعرفة.(1/420)
والثانى: أنه نصب على الحال، و "إِلَهًا"، مفعول به، وكان
الحال صفة للنكرة، وصفة النكرة إذا تقدمت عليها انتصبت.
والثالث: أنه نصب على الاستثناء تقدم على المستثنى منه، وهو قليل. وقوله: "إِلَهًا" ينتصب من ثلاثة أوجه:
على الحال والمفعول به على ما سبق.
وقيل: نصب على التمييز.
قوله: (يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ) .
سبق في البقرة ذكر حذف الواو.
قوله: (ثَلَاثِينَ لَيْلَةً) .
نصب على المفعول به، أي انقضاء ثلاثين.
الغريب: نصب على الظرف.
قوله: (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)
يجوز أن يكون ظرفاً، ويجوز أن يكون واقعا موقع المصدر، أي تتمة أربعين، ويجوز أن يكون حالاً، أي معدود أربعين.
الغريب: مفعول به.
و (مِيقَاتُ) بمعى توقيت، وذكر الأربعين مع الاستغناء عنه، لكي لا يتوهم أنه كان عشرين فأتم بعشر، وليوافق قوله: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) .
قوله: (لَنْ تَرَانِي) .
أي في الدنيا، وإثبات الرؤية ونفي الجهة المذهب. وهو مذهب أهل
السنة والجماعة.
الغريب: في الآية ما ذكره بعض المفسرين: أن الله - سبحانه - قال
لموسى في مناجاته: لست في مكان فأتجلى لعين تنظر إليَّ، يا ابن عمران
تكلمت بكلام عظيم. وكانت الملائكة يمرون به وهو مغشي عليه، فجعلوا
يركلونه بأرجلهم ويقولون: يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة.
__________
(1) أصاب الإمام الكرماني وأجاد في وضع هذه الأباطيل والافتراءات ضمن الغريب.(1/421)
قوله: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ) .
كتبنا بالقلم، وأهل السماوات يسمعون صرير القلم.
الغريب: كان كنقش الخاتم.
والألواح جمع لوح، وهو ما يلوح المكتوب فيه فوق غيره، وكانت
كرة على طول موسى، وقيل: سبعة:، وقيل ثمانية.
العجيب: كانت اثنين فذكرا بلفظ الجمع، وألواحه كانت من زبرجد
أخضر، وقيل: من ياقوت أحمر، وقيل: من صخرة.
الغريب: الحسن، من خشب، وقيل: من نور.
العجيب: الربيع بن أنس: كانت الألواح من البرد.
أقوله: (بِأَحْسَنِهَا) ، أي بالناسخ دون المنسوخ. وقيل: بالفرض لا
بالندب.
الغريب: أفعل هنا للمبالغة لا للتفضيل كما في قوله (وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) .
العجيب: أحسن هنا زائدة، وتقديره، يأخذوا بها.
قوله: (سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) أي منازلهم لتعتبروا بها.
الغريب: (دَارَ الْفَاسِقِينَ) ما دار إليه أمرهم من الهلاك والنكال.
الغجيب: (دَارَ الْفَاسِقِينَ) جهنم،(1/422)
ومن العجيب: (دَارَ الْفَاسِقِينَ) مصر.
قوله: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ) .
أي عن دلائل التوحيد، وعن التفكر فيها.
الغريب: أبو عبيدة: عن الخوض في علم القرآن.
سفيان بن عيينة: عن فهم القرآن.
قوله: (جَسَدًا) لحما ودما.
(لَهُ خُوَارٌ) صوت، وقيل: (جَسَدًا) من غير روح.
الجسد: بدن الحيوان، والجسم: عام
(لَهُ خُوَارٌ) بحيلة احتال بها.
الغريب: جسداً، أي أصغر من الجِساد وهو الزعفران.
قوله: (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) .
عبارة عن الندم، وأضيف إلى اليد كما يضاف ويسند إليها الملك
والمحبوب والمكروه، تقول: في يده ملْكُه ومحبوبه، وحصل في يده
المكروه.
ابن عيسى: أنْ وقع البلاء في أيديهم ووجدوه وجدان ما يحصل
في الكف.
وقيل: أصله من الأسْر والكتْف.
الغريب: من ندم وضع يده على رأسه.
العجيب: من حزنه أمر عظيم يمسح كفه على كفه ويحوقل.
قوله: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) .
أي سكن، وكل كاف عن شيء ساكت.
ابن عيسى: الغضب بما دل(1/423)
على ما في النفس للمغضوب عليه كان بمنزلة النطق.
الغريب: هذا من المقلوب، أي سكت موسى عن الغضب.
قوله: (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)
لهذه اللام ثلاثة أوجه: إن أحدها الفعل محمول على المصدر أي لربهم رهبتهم.
والثاني: لما تقدم المفعول ضعف عمل الفعل فعدي باللام.
والثالث: أي لأجل ربهم، والمفعول محذوف.
قوله: (سَبْعِينَ رَجُلًا)
الغريب: كانوا طوال اللحى.
قوله: (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا) .
أي يجدون اسمه وصفته، فحذف المضاف، لأن الشخص لا يكتب.
وصفته - صلى الله عليه وسلم - في التوراة أحمد من ولد إسماعل من إبراهيم، وهو آخر الأنبياء، وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف، يأتزر على وسطه، ويغسل أطرافه، في عينيه حمرة وبين كتفيه خاتم النبوة مثل زر الحجلة ليس بالقصير ولا بالطويل، يلبس الشملة ويجتزي بالبلغة ويركب الحمار ويمشي في الأسواق، معه حرب وقتل وسبي، سيفه على عاتقه، لا يبالي من لقي من الناس، معه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان ولو كانت في عاد ما أهلكوا بالريح، ولو كانت في ثمود ما أهلكوا بالصيحة، مولده بمكة ومنشؤه بها وبدء نبوته بها، ودار هجرته يثرب بين حرة ونخلة وسبخة، أمي لا يكتب بيده، هو الحماد يحمد الله على كل شدة، ورخاء، سلطانه بالشام، صاحبه من الملائكة جبريل.
وذكر ابن عيسى وأقضى القضاة في التفسير: أن في الإنجيل بشارة بفارِ قليط في مواضع منها يعطيكم فار قليط آخرَ يكون معكم الدهر كله، وفيها قول المسيح(1/424)
للحواريين: أنا أذهب وسيأتيكم فار قليط روح الحق الذي لا يتكلم من قبل
نفسه، إنه نذير لجميع الخلق ويخبركم بالأمور التي معه، ويمدحني ويشهد لي.
قوله: (أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) .
قيل: هم قوم كانوا في زمن موسى، وقيل: هم الذين آمنوا
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - كابن سلام وأصحابه.
الغريب: ابن عباس: هم في منقطع من الأرض وراء الصين
رآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة المعراج، فآمنوا به وصدقوه، وقرأ عليهم عشر سور مما نزل بمكة.
قوله: (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) .
أعرب (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) ، لأن عشرة بدل عن النون، وبنى عشرة لكونها بدلا
من النون، وأنث اثنتي عشرة حملاً على الفرقة أو الأمة، و (أَسْبَاطًا) بدلاً من
(اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) .
وقيل: (أَسْبَاطًا) مقدر في التقدير، أي وقطعناهم أَسْبَاطًا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ (1) .
الغريب كل واحد منهم على الكثرة، فصار كما تقول: لزيد دراهم
ولعمرو دراهم ولفلان دراهم فهذه عشرون دراهم.
قوله: (يَوْمَ سَبْتِهِمْ) .
هو آخر يوم في الأسبوع، وأضافه إليهم، لأنهم خصوا بأحكام فيه.
الغريب: السبت ها هنا مصدر، بدليل قوله: (وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ) :
والسبت: الراحة، والسبت تعظيم السبت، والاختيار فى عدد الأيام الرفع إذا قلت اليوم الأحدُ، وكذلك سائرها، إلا السبتَ والجمعةَ.
__________
(1) قال السمين:
قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ} :
الظاهر أن «قطعناهم» متعدٍّ لواحد لأنه لم يُضَمَّنْ معنى ما يتعدى لاثنين، فعلى هذا يكون «اثنتي» حالاً من مفعول «قطَّعناهم» ، أي: فَرَّقْناهم معدودِين بهذا العدد. وجوَّز أبو البقاء أن يكون قَطَّعْنا بمعنى صَيَّرنا وأن «اثنتي» مفعولٌ ثانٍ، وجزم الحوفي بذلك.
وتمييز «اثنتي عشرة» محذوف لفهم المعنى تقديره: اثنتي عشرة فرقة و «أسباطاً» بدل من ذلك التمييز. وإنما قلت إن التمييز محذوف، ولم أجعل «أسباطاً» هو المميِّز لوجهين، أحدهما: أن المعدودَ مذكرٌ لأن أسباطاً جمع سِبْط، فكان يكون التركيبُ اثني عشر. والثاني: أن تمييز العدد المركب وهو من أحد عشر إلى تسعة عشر مفرد منصوب، وهذا كما رأيت جمعٌ. وقد جعله الزمخشري تمييزاً له معتذراً عنه فقال: «فإن قلتَ: مميِّز ما عدا العشرةَ مفردٌ فما وجهُ مجيئه جمعاً؟ وهلا قيل: اثني عشر سِبْطاً. قلت: لو قيل ذلك لم يكن تحقيقاً لأن المرادَ: وقطَّعْناهم اثنتي عشرة قبيلة، وكلُّ قبيلة أَسْباط لا سِبْط، فوضع أسباطاً موضع قبيلة. ونظيرُه:
. . . بين رماحَيْ مالكٍ ونَهْشَلِ
قال الشيخ:» وما ذهب إليه من أن كل/ قبيلة أسباط خلافُ ما ذكره الناس: ذكروا أن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب، وقالوا: الأسباط جمع [سبط] ، وهم الفرق والأسباط في ولد إسحاق كالقبائل في ولد إسماعيل ويكون على زعمه قولُه تعالى: {وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط} معناه: والقبيلة. وقوله وهو نظير قوله «بين رماحَيْ مالك ونهشل» ليس بنظيره، لأن هذا من باب تثنية الجمع وهو لا يجوز إلا في ضرورة، وكأنه يشير إلى أنه لو لم يُلْحَظْ في الجمع كونُه أريد به نوعٌ من الرماح لم تَصِحَّ التثنية، كذلك هنا لُحِظ في الأسباط وإن كان جمعاً معنى القبيلة فَمُيِّزَ به كما يُمَيَّزُ بالمفرد «.
وقال الحوفي:» يجوز أن يكونَ على الحَذْف، والتقدير: اثنتي عشرة فرقةً أسباطاً، ويكون «أسباطاً» نعتاً لفرقة، ثم حُذف الموصوفُ وأقيمت الصفة مُقامه. وأمم نعتٌ لأسباط، وأنَّث العددَ وهو واقعٌ على الأسباط وهو مذكر وهو بمعنى فرقة أو أمة كما قال:
ثلاثة أنفس. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يعني رجلاً. [وقال:]
. . . . . . . . . . . . . . . . عشرُ أَبْطُنْ. . . . . . . . . . . . . . . . . ..
بالنظر إلى القبيلة. ونظيرُ وصفِ التمييز المفرد بالجمع مراعاةً للمعنى قول الشاعر:
2318 فيها اثنتان وأربعون حَلوبةً. . . سُوداً كخافيةِ الغراب الأَسْحَمِ
فوصف «حلوبة» وهي مفردةٌ لفظاً ب «سُوْداً» وهو جمع مراعاةً لمعناها، إذ المرادُ الجمع «.
وقال الفراء:» إنما قال «اثنتي عشرة» والسِّبط مذكر لأنَّ ما بعده أممٌ فذهب التأنيث إلى الأمم، ولو كان اثني عشر لتذكير السبط لكان جائزاً «واحتجَّ النحويون على هذا بقول الشاعر:
وإنَّ قريشاً هذه عشرُ أبطنٍ. . . وأنت بريءٌ من قبائلها العشرِ
ذهب بالبطن إلى القبيلة والفصيلة، لذلك أنَّث والبطن ذَكَر.
وقال الزجاج: «المعنى:» وقَطَّعناهم اثنتي عشرة فرقةً أسباطاً، من نعتِ فرقة كأنه قال: جَعَلناهم أسباطاً وفَرَّقْناهم أسباطاً «، وجوَّز أيضاً أن يكون» أسباطاً «بدلاً من» اثنتي عشرة «وتبعه الفارسيُّ في ذلك.
وقال بعضهم:» تقدير الكلام: وقطعناهم فرقاً اثنتي عشرة، فلا يُحتاج حينئذٍ إلى غيره. وقال آخرون: جَعَل كلَّ واحد من الاثنتي عشرة أسباطاً، كما تقول: لزيد دراهم ولفلان دراهم ولفلان دراهم، فهذه عشرون دراهم، يعني أن المعنى على عشرينات من الدراهم. ولو قلت: لفلان ولفلان ولفلان عشرون درهماً بإفراد «درهم» لأدَّى إلى اشتراك الكل في عشرين واحدة والمعنى على خلافه. وقال جماعة منهم البغوي: «وفي الكلام تقديمٌ وتأخير تقديرُه: وقطعناهم أسباطاً أمماً اثنتي عشرة» .
وقوله {أُمَماً} : إمَّا نعتٌ لأسباطاً، وإمَّا بدل منها بعد بدل على قولنا: إن أسباطاً بدلٌ من ذلك التمييزِ المقدر. وجَعَلَه الزمخشري أنه بدل من اثنتي عشرة قال: «بمعنى: وقَطَّعناهم أمماً لأن كل أسباط كانَتْ أمةً عظيمة وجماعة كثيفة العدد» وكلُّ واحدة تَؤُمُّ خلافَ ما تَؤُمُّه الأخرى لا تكاد تأتلف «انتهى. وقد تقدَّم القول في الأسباط.
وقرأ أبان بن تغلب» وَقَطَعْناهم «بتخفيف العين، والشهيرةُ أحسنُ لأنَّ المقامَ للتكثير، وهذه تحتمله أيضاً. وقرأ الأعمش وابن وثاب وطلحة ابن سليمان» عَشِرة «بكسر الشين، وقد رُوي عنهم فتحُها أيضاً، ووافقهم على الكسر فقط أبو حيوة وطلحة بن مصرف. وقد تقدَّم تحقيق ذلك في البقرة، وأن الكسرَ لغةُ تميم والسكونَ لغةُ الحجاز. اهـ (الدر المصون) .(1/425)
فإنك تقول في أفصح اللغات: اليومَ السبت واليومَ الجمعة، لما فيها من معنى الفعل فتنصب اليوم على الظرف.
قوله: (تَأَذَّنَ رَبُّكَ) .
أي أعلمَ، كقوله: (آذَنْتُكُمْ) ، أي أعلمتكم، ويأتي أعلم وتفَعّل
بمعنى، نحو: أرضاه وترَضّاه، وأوعده وتوعده، وأيقنته وتيقنته، وقيل: تأذن معناه: أمَرَ من الإذن.
الغريب: معناه حلف، ولهذا جاءت باللام.
وقيل: قوله: (وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ) .
القياس، الرفع لأنه المبتدأ، لكن الغالب عليه الظرفية، فأجري
مُجراه، ومثلها "بَيْنَكُمْ" في قوله (تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) و (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) .
وذهب بعضهم إلى أن المبتدأ مضمر و (دُونَ ذَلِكَ) صفته، أي ومنهم قوم دون ذلك.
قوله: (وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) .
عطف على قوله (وَرِثُوا الْكِتَابَ) ، وما قبله اعتراض.
قوله: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ) .
مبتدأ خبره (إِنَّا لَا نُضِيعُ) ، وفي العائد ثلاثة أقوال:
أحدها: مضمر تقديره: لا نضيع أجرهم، فحذف، لأن قوله: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) يدل عليه.
وقيل: "منهم" مقدر كما في قولهم: السمن منوان بدرهم.
الغريب: لما كان (الْمُصْلِحِينَ) يشتمل على (الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ) ، صار كأنه
هو فلم يحتج إلى العائد، وقام الصريح مقام الظاهر.(1/426)
قوله: (بَلَى) .
الفرق بين بلى ونعم أنْ "نعم" تصديق الكلام المخاطب نفياً وإثباتاً.
يقول القائل: صليتَ اليوم، فتقول نعم، فإن قال: ألست صليت اليوم، فإن قال: بلى، كان قد صلى، وإن قال: نعم، لم يكن صلًى.
لِما قلتُ: إن نعم تصديق، بخلاف بلى لأنه يقع ردا للنفي الذي يقتضيه السؤال، فيبقى الإيجاب المجرد، ولو قيل في جواب: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ، نعم كان كفرا.
قوله: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) .
فيه أقوال، قال ابن عباس: هو بلعم بن باعورا من العمالقة، دعا
على قوم موسى، فبقُوا في التيه، ودعا عليه موسى فسلب الله إيمانه (1) .
الغريب: مجاهد: كان نبياً في بني إسرائيل، واسمه بلعم، أوتي
النبوة فَرَشاهُ قومه على أن يسكت ففعل.
ومن الغريب: عبد الله بن عمرو: نزلت في أمية بن أبي الصلت
الثقفي، كان قرأ الكتب، وعلم أن الله مُرسل في ذلك الوقت رسولا، فرجا
أن يكون هو ذلك الرسول، فلما أرسل محمد - صلى الله عليه وسلم - حسده، فكفر به.
العجيب: نزلت في رجل قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات
كانت له امرأة اسمها البسوس لها منه ولد، فقالت له: اجعل لي منها
واحدة، فقال لها ماذا تريدين، قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في
بنى إسرائيل، فدعا لها، فجعلت كذلك، ثم رغبت عنه، فدعا عليها.
فصارت كلبة نباحة، فجاء بنوها. وقالوا: قد صارت أمنا كلبة والناس يعيروننا
__________
(1) كلام في غاية البعد، وأسوأ منه ما قيل بعده.(1/427)
بها، فادع الله أن يردها كما كانت، فدعا فعادت كما كانت، فذهبت فيها
الدعوات الثلاث.
عبادة بن الصامت: نزلت في قريش.
الحسن: نزلت في منافقي أهل الكتاب.
سعيد بن المسيب: نزلت في أبي عامر الراهب.
وقيل هو مَثَلٌ ضربه الله.
ومن العجيب: هو فرعون، والآيات آيات موسى.
قوله: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) .
فاعل ساء مضمر في ساء، وفسره مثلًا، وفي المخصوص بالذم قولان:
أحدهما: القوم الذين، تقدير مثل القوم الذين.
والثاني، محذوف دل عليه ما قبله من ذكر الكلب واللهث، فيحسن الوقف على "مَثَلًا"، ويرفع "الْقَوْمُ" بالابتداء، والخبر أي: هم (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) .
قوله: (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) .
سؤال: لِمَ أثبتَ "ياؤه" في هذه السورة وخذف في غيرها من
السور؟
الجواب: َ لأن الإثبات أصل والحذف تخفيف وفرع، فجاء في
الأول على الأصل وفي غيره على الفرع.
قوله: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا) .
أي خلقنا، وقيل: اللام لام العاقبة، والمعنى: خلقناهم للطاعة فآل
أمرهم إليها.
الغريب: هذا من المقلوب، أي ذرأنا جهنم لكثير.(1/428)
الغريب: ما روى عن عبد الله بن عمرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله قد ذرأ لجهنم ما ذرأ كان ولد الزنا ممن ذرأ لجهنم" (1) .
قوله: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) .
تمَّ الكلام على (يَتَفَكَّرُوا) ثم استأنف فقال: (مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) .
الغريب: أولم يتفكروا بقلوبهم في أحوال محمد - صلى الله عليه وسلم - فيعلموا ما بصاحبهم، فيكون العلم معلَّقا، لأن الفكر لا يعلق ولا يلغى.
قوله: (وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ) .
"أن مع الفعل" في تأويل المصدر، وإن لم يكن لـ "عسى" مصدر معروف
ومحله جر بالعطف على ما قبله، (أَنْ يَكُونَ) مصدر في محل رفع بكونه فاعلا
لـ "عسى"، واسم يكون يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون قوله: (أَجَلُهُمْ) .
والثاني: أن يكون الأمر والشأن، وإذا ارتفع أجلهم ليكون، ففاعل اقترب
مضمر يعود إلى أجلهم، وهو الخبر تقدم عليه.
(وَيَذَرُهُمْ)
رفع على الاستثناء والجزم على العطف على محل الجملة، لأن الفاء مع ما بعدها في محل الجزم.
قوله: (عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا) .
الغريب: (أَيَّانَ مُرْسَاهَا) بدل من (السَّاعَةِ) على نقدير: يَسْأَلُونَكَ أيان مرسى
الساعة، و "مرسى"، رفع بالابتداء، و "أَيَّانَ" خبره تقدم عليه.
(ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ)
أبو عبيدة: خفيت، والشيء إذا خفي عليك، ثقل عليك.
وقيل: ثقل بمعنى صعب، أي ثقلت على من يعرفها لما يقع بعدها من الحساب والعقاب.
الغريب: (ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)
أي هي سبب خرابهما
__________
(1) قال العلامة الشيخ / أحمد محمد شاكر:
هذا إسناد ضعيف، لجهالة من روى عنه ((معاوية بن إسحق)) ، وهو ((جليس له بالطائف)) . وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 147، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ وابن مردويه.(1/429)
وفسادهما، كما قال: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ) ، (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ) .
قوله: (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا)
حَفِيَ عن الشيء إذا سأل، وحَفِي بالشيء، عُني به، وحفى بالشيء أيضاً حفاوة فرح به، وقوله: (عَنْهَا)
يجوز أن يتعلق ب "حَفِيٌّ" من قولك حفي عن الشيء: سأل، ويجوز أن يكون
بمعنى الباء من حفي بالشيء عنِيَ به، ويجوز أن يتعلق بالسؤال.
أي يسألونك عنها كأنك حَفِيٌّ بها.
قال الزجاج: كأنك حَفِيٌّ، أي فَرِحٌ بسؤالهم.
الغريب: يجوز أن يكون "حَفِيٌّ" فعيلا بمعنى مفعِل من أحفى في
السؤال إذا بالغ فيه.
قوله: (جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ) .
أي جعل آدم وحواء "لَهُ" لله (شُرَكَاءَ) في تسمية الولد عبد الحرث.
والقصة معلومة.
وقيل: جعلا لإبليس نصيباً في الولد بالتسمية.
أبو علي: جعل أولادُهما، فحذف المضاف، ثم اتصل بالفعل اتصال ضمير التثنية في الغيبة، والدليل عليه قوله: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) .
الغريب: يعود الضمير إلى (صَالِحًا) ، وذلك: أن حواء كانت مِتآماً (1) .
العجيب: - وهو أحسن الوجوه - أن الهاء في قوله: "لَهُ" تعود إلى
الولد، أي جعل آدم وحواء للولد نصيبا فيما آتاهما.
ومن قرأ شركاء فالمعنى صارا معه شركاء فيما آتاهما، فيكون ثناءً على آدم وحواء لا ذماً، ثم استأنف فقال: (فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، أي يشرك الكفار بدليل الجمع (2) .
__________
(1) مِتآماً: المرأة التي تلد اثنين في بطن واحد، وكان ذلك عادة لها. اللسان: مادة "تأم".
(2) قال الإمام فخر الدين الرازي:
اعلم أنه تعالى رجع في هذه الآية إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
المروي عن ابن عباس {هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} وهي نفس آدم {وجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي حواء خلقها الله من ضلع آدم عليه السلام من غير أذى {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} آدم {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَلَمَّا أَثْقَلَت} أي ثقل الولد في بطنها أتاها إبليس في صورة رجل وقال: ما هذا يا حواء إني أخاف أن يكون كلباً أو بهيمة وما يدريك من أين يخرج؟ أمن دبرك فيقتلك أو ينشق بطنك؟ فخافت حواء، وذكرت ذلك لآدم عليه السلام، فلم يزالا في هم من ذلك، ثم أتاها وقال: إن سألت الله أن يجعله صالحاً سوياً مثلك ويسهل خروجه من بطنك تسميه عبد الحرث، وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث فذلك قوله: {فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما} أي لما آتاهما الله ولداً سوياً صالحاً جعلا له شريكاً أي جعل آدم وحواء له شريكاً، والمراد به الحرث هذا تمام القصة.
واعلم أن هذا التأويل فاسد ويدل عليه وجوه: الأول: أنه تعالى قال: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} وذلك يدل على أن الذين أتوا بهذا الشرك جماعة.
الثاني: أنه تعالى قال بعده: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 191] وهذا يدل على أن المقصود من هذه الآية الرد على من جعل الأصنام شركاء لله تعالى، وما جرى لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر.
الثالث: لو كان المراد إبليس لقال: (أيشركون من لا يخلق شيئاً) ، ولم يقل (ما لا يخلق شيئاً) ، لأن العاقل إنما يذكر بصيغة «من» لا بصيغة «ما» الرابع: أن آدم عليه السلام كان أشد الناس معرفة بإبليس، وكان عالماً بجميع الأسماء كما قال تعالى: {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا} فكان لا بد وأن يكون قد علم أن اسم إبليس هو الحرث فمع العداوة الشديدة التي بينه وبين آدم ومع علمه بأن اسمه هو الحرث كيف سمى ولد نفسه بعبد الحرث؟ وكيف ضاقت عليه الأسماء حتى أنه لم يجد سوى هذا الاسم؟ الخامس: أن الواحد منا لو حصل له ولد يرجو منه الخير والصلاح، فجاءه إنسان ودعاه إلى أن يسميه بمثل هذه الأسماء لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار.
فآدم عليه السلام مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله: {وَعَلَّمَ ءادَمَ الأسماء كُلَّهَا} [البقرة: 31] وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة التي وقع فيها لأجل وسوسة إبليس، كيف لم يتنبه لهذا القدر وكيف لم يعرف أن ذلك من الأفعال المنكرة التي يجب على العاقل الاحتراز منها السادس: أن بتقدير أن آدم عليه السلام، سماه بعبد الحرث، فلا يخلو إما أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له، أو جعله صفة له، بمعنى أنه أخبر بهذا اللفظ أنه عبد الحرث ومخلوق من قبله.
فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً بالله لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة، فلم يلزم من التسمية بهذا اللفظ حصول الإشراك، وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم عليه السلام اعتقد أن لله شريكاً في الخلق والإيجاد والتكوين وذلك يوجب الجزم بتكفير آدم، وذلك لا يقوله عاقل.
فثبت بهذه الوجوه أن هذا القول فاسد ويجب على العاقل المسلم أن لا يلتفت إليه.
إذا عرفت هذا فنقول: في تأويل الآية وجوه صحيحة سليمة خالية عن هذه المفاسد.
التأويل الأول: ما ذكره القفال فقال: إنه تعالى ذكر هذه القصة على تمثيل ضرب المثل وبيان أن هذه الحالة صورة حالة هؤلاء المشركين في جهلهم، وقولهم بالشرك، وتقرير هذا الكلام كأنه تعالى يقول: هو الذي خلق كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية، فلما تغشى الزوج زوجته وظهر الحمل، دعا الزوج والزوجة ربهما لئن آتيتنا ولداً صالحاً سوياً لنكونن من الشاكرين لآلائك ونعمائك.
فلما آتاهما الله ولداً صالحاً سوياً، جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما، لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع كما هو قول الطبائعيين، وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام.
ثم قال تعالى: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزه الله عن ذلك الشرك، وهذا جواب في غاية الصحة والسداد.
التأويل الثاني: بأن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم آل قصي، والمراد من قوله: هو الذى خلقكم من نفس قصي وَجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف، وعبد العزى، وعبد قصي، وعبد اللات، وجعل الضمير في {يُشْرِكُونَ} لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك.
التأويل الثالث: أن نسلم أن هذه الآية وردت في شرح قصة آدم عليه السلام وعلى هذا التقدير ففي دفع هذا الإشكال وجوه: الأول: أن المشركين كانوا يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام، ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها، فذكر تعالى قصة آدم وحواء عليهما السلام، وحكى عنهما أنهما قالا: {لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} أي ذكرا أنه تعالى لو آتاهما ولداً سوياً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النعمة، ثم قال: {فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} فقوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد، والتقرير: فلما آتاهما صالحاً أجعلا له شركاء فيما آتاهما؟ ثم قال: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون بالشرك وينسبونه إلى آدم عليه السلام، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام، ثم يقال لذلك المنعم: أن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك، فيقول ذلك المنعم: فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا وأحسنت إليه بكذا وكذا، ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة والبغي؟ على التبعيد فكذا ههنا.
الوجه الثاني: في الجواب أن نقول: أن هذه القصة من أولها إلى آخرها في حق آدم وحواء ولا إشكال في شيء من ألفاظها إلا قوله: {فَلَمَّا ءاتاهما صالحا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما} فنقول: التقدير، فلما آتاهما ولداً صالحاً سوياً جعلا له شركاء أي جعل أولادهما له شركاء على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وكذا فيما آتاهما، أي فيما آتى أولادهما ونظيره قوله: {واسئل القرية} [يوسف: 82] أي واسأل أهل القرية.
فإن قيل: فعلى هذا التأويل ما الفائدة في التثنية في قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء} .
قلنا: لأن ولده قسمان ذكر وأنثى فقوله: {جَعَلاَ} المراد منه الذكر والأنثى مرة عبر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين، ومرة عبر عنهما بلفظ الجمع، وهو قوله تعالى: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
الوجه الثالث: في الجواب سلمنا أن الضمير في قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما} عائد إلى آدم وحواء عليهما السلام، إلا أنه قيل: إنه تعالى لما آتاهما الولد الصالح عزما على أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديته على الإطلاق.
ثم بدا لهم في ذلك، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدنيا ومنافعها، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله وطاعته.
وهذا العمل وإن كان منا قربة وطاعة، إلا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين، فلهذا قال تعالى: {فتعالى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} والمراد من هذه الآية ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال حاكياً عن الله سبحانه: «أنا أغنى الأغنياء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه» وعلى هذا التقدير: فالإشكال زائل.
الوجه الرابع: في التأويل أن نقول: سلمنا صحة تلك القصة المذكورة، إلا أنا نقول: إنهم سموا بعبد الحرث لأجل أنهم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفة والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المسمى بالحرث، وقد يسمى المنعم عليه عبداً للمنعم.
يقال في المثل: أنا عبد من تعلمت منه حرفاً، ورأيت بعض الأفاضل كتب على عنوان: كتابة عبد وده فلان.
قال الشاعر:
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا.. ولا شيمة لي بعدها تشبه العبدا
فآدم وحواء عليهما السلام سميا ذلك الولد بعبد الحرث تنبيهاً على أنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه، وهذا لا يقدح في كونه عبد الله من جهة أنه مملوكه ومخلوقه، إلا أنا قد ذكرنا أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فلما حصل الاشتراك في لفظ العبد لا جرم صار آدم عليه السلام معاتباً في هذا العمل بسبب الاشتراك الحاصل في مجرد لفظ العبد، فهذا جملة ما نقوله في تأويل هذه الآية. اهـ (مفاتيح الغيب. 15 / 427: 429)(1/430)
قوله: (أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ) .
كان القياس أدعوتموهم أم صمتم، لكنه عدل إلى اسم الفاعل مراعاة
لفواصل الآي، ولأن اسم الفاعل يفيد ما يفيد الماضي وزيادة.
قوله: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
سؤال: لِمَ قال هنا (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، وقال في حم السجدة: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، فزاد هو والألف واللام فيها.
الجواب: لأن قوله: (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) في هذه السورة خبر المبتدأ.
وشرط الخبر أن يكون نكرة في الأغلب، وفي "حم" تكرار لما في هذه
السورة، والنكرة إذا تكررت تعرفت، كما في قوله: (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) .
وزيد "هُوَ" ليعلم أنه خبر وليس بوصف.(1/431)
سورة الأنفال
قوله: (ذَاتَ بَيْنِكُمْ) .
أي الحالة التي بينكم لتكون سببا لإلفتكم.
الغريب: هنا بعض عين الشيء وحقيقته، أي أصلحوا حقيقة بينكم.
أي وصلكم، وأصل "ذَاتَ" عند النحويين: ذوات تحركت الواو وانفتح ما
قبلها، فصارت ألفا وبعده ألف، فاجتمع ألفان فحذف أحدهما، وإذا ثنيت
قلت: ذَوَاتا فلم تقلب ولم تحذف، وإذا جمعت قلبت: ذوات، وله ثلاث
تقديرات:
أحدها: أنه ذات زيد عليه ألف الجمع وتاؤه، وحذف التاء، وقلب
الألف واواً.
والثاني: أنه ذوات كما كان في التثنية، زيد عليه ألف الجمع
وتاؤه، فاجتمع الفان فحذف أحدهما، وحذف التاء.
والثالث: أنه ذوات على أصل الكلمة أضيف إلى الجمع كما جاء في بطنكم وفي خلقكم، وعلى هذا الوجه ينتصب في حال النصب بخلاف الوجهين الأولين، والوقف على ذات بالتاء عند الفراء.
وروى أبو حاتم الوقف عليه بالهاء، وإليه ذهب بعض
النحاة، وتقول في النسب إليها، ذووي على الأصل، وذوي على اللفظ.
وقول الجمهور ذواتي، بعيد يشبه الخطأ، ومثله ذواتي في النسب إلى ذوات.
وإنما هو ذووي لا غير، وقول العامة، ولذاتي عندي وجه، وهو أن يقال:(1/433)
التاء في ذات بدل من واو، وأصله ذو، وقلب الأولى ألفا وقلبت الثانية ألفا، ولهذا أجمع القراء على الوقف عليه بالتاء.
قوله: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) .
أي أمرك بالخروج، وفي كاف التشبيه أقوال:
أحدها: أن التشبيه وقع بين الحقين، أي هم المؤمنون حقاً كما أخرجك ربك من بيتك بِالْحَقِّ، فتكون الكاف في محل نصب نعتا لـ "حق".
والثاني: وقع بين الكراهتين، أي الأنفال لله ورسوله وإن كره ذلك بعضهم كما أخرجك ربك، وفريق من المؤمنين كارهون.
والكاف نعت للمصدر.
والثالث، بين الجدالين، لأنهم جادلوا في قسمة الأنفال كما جادلوا في الخروج، والكاف نصب نعت للمصدر أيضاً.
والرابع، بين الصلاحين، أي صلاحهم في" صلاح ذات
بينهم كصلاحهم في إخراج الله إياهم.
وأحسن هذه الوجوه الأربعة، التشبيه بين الحقين، لوجود لفظ الحق قبل ذكر الكاف وبعده.
وأما الكراهة والجدال فمذكوران بعد الكاف في الآية، والصلاح مذكور قبل الكاف فحسب.
الغريب: "الكاف" متصل بما في سورة القصص من قوله: (لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) ، وهو مكة، (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ) يعني مكة.
ومن الغريب: الأنفال لله ورسوله ثابتة كما أن إخراجك ثابت كائن.
وقيل: الكاف بمعنى على، أي امض على ما أخرجك ربك.
العجيب: أي: مثل ما أخرجك ربك من بيتك بِالْحَقِّ، فاتقوا الله وأصلحوا
ذات بينكم. حكاه النحاس.
وقال: الحق على هذا الوجه، رفع بالابتداء:
والخبر، ومثله قول أبي عبيدة: "الكاف" بمعنى " واو القسم "، أي والذي(1/434)
أخرجك، وهو بعيد، وأبعد من هذا ما حكاه الثعلبي، أن "الكاف" بمعنى
"إذ" أي اذكر إذ أخرجك ربك.
قوله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) .
ضمير المخاطب هو المفعول الأول، و (إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) المفعول الثاني.
وهما أبو سفيان مع العير، وأبو جهل مع النفير.
قوله: (أَنَّهَا لَكُمْ) بدل من إحدى الطائفتين بدل الاشتمال، ولا بد من
إضمار المضاف مع إحدى، نحو: ملكَ، أو أحدَ إحدى، لأن الوعد لا يقع
على الأعيان.
قوله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ) .
الاستغاثة: طلب المغوثة، وهي سَدُّ الخَلّةِ عند الحاجةِ.
والمستغيث، المسلوب القدرة، والمستغيث: الضعيف القدرة.
والمستجير: طالب الخلاص، والمستنصر: طالب الظفر.
قوله: (فَاسْتَجَابَ) ، أي أجاب.
الغريب: الاستجابة ما تقدمها امتناع، والإجابة ما لم يتقدمها امتناع.
قوله: (وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى) .
هما مفعولان.
قوله: (يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ) .
مفعولان "أَمَنَةً" مفعول له. وكذلك من قرأ. (يُغْشِيكُمُ) .
وأما يَغشاكم فالضمير المفعول، والنعاسُ الفاعل، ومثله (نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً) (1) .
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في (يغشيكم النعاس) الآية 11 فابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين وألف بعدها لفظا (النعاس) بالرفع على الفاعلية من غشى يغشى وافقهما ابن محيصن واليزيدي وقرأ نافع وأبو جعفر بضم الياء وسكون الغين وبياء بعدها من أغشى النعاس بالنصب مفعول به وفاعله ضمير الباري تعالى وافقهما الحسن والباقون بضم الياء وفتح الغين وكسر الشين مشددة وبياء بعدها ونصب النعاس من غشى بالتشديد وعن ابن محيصن تسكين ميم أمنة. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 296) .(1/435)
قوله: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ) .
الأخفش: "فَوْقَ" صلة، أي اضربوا أعناق.
المبرد: أي اضربوا الوجوه وما قرب منها.
الغريب: جلدة الأعناق، وقيل: الرؤوس فوق الأعناق، فحذف
المفعول وبقي صفته، وهي الظرف.
ويحتمل أن "فَوْقَ" هاهنا اسم وليس بظرف، وهو الرأس، كما تقول: فوقك أمُّ رأسك - بالرفع -، وفوقَك قلنسوتك - بالنصب -.
الغريب: "فَوْقَ" بمعنى على، أي اضربوا على الأعناق.
(ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ) .
خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلكم.
(وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ) عطف على الخبر، أي والأمر أن للكافرين.
وقيل: (ذَلِكُمْ) نصب بفعل مضمر، كما تقول: زيدا فاضربه.
وقيل: (وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ) في محل نصب، أي وبأن.
الغريب: نصب بإضمار فعل، أي واعلموا أن للكافرين عذاب النار.
قوله: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) .
أي ما رميت في أعينهم إذ رميت من يدك، ولكن الله رمى.
وقيل: ما رميت في قلوب المشركين الرعب إذ رميت وجوههم بالحصا، ولكن الله رمى.
الغريب: يعني ما رميت ما ظفرت إذ رميت من يدك، ولكن الله رمى.
أي أظفرك، من قول العرب: رمى الله لك، أي نصرك.
قوله: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) .
الكلام فيه كالكلام فيما تقدم.(1/436)
قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) .
الفتح بالعطف على - وأن الله موهن - والكسر على الاستئناف.
قوله: (وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ) .
كان القياس، عنهما، لتقدم ذكر الله ورسوله في قوله: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) وذهب بعضهم إلى أنه يعود إلى الله وحده، ويعضهم إلى أنه يعود
إلى رسوله، لأنه المنبي عن الله، وقيل: إلى الله ورسوله، ووحد لأن أمر الله
أمر رسوله.
الغريب: كما لا يجوز إطلاق لفظ التثنية على الله سبحانه وحده، كذلك لا
يجوز إجراء التثنية مع الغير، لأن التثنية تقتضي المماثلة، وهو منزه عن المثل
والشبه، ومثله في القرآن: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ) ولم بقل
دعواكم، وكذلك قوله: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) .
وجاء النكيرُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على من ذكره بلفظ التثنية مع الغير، وهو أن رجلاً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقام بين يديه وقال: من أطاع الله ورسوله فقد رشد، ومن عصاهما
فقد غوى، فقال: "بئس خطيب القوم أنت، هلا قلت: ومن عصى الله
ورسوله".
وأما الجمع فعند بعضهم يجوز، لأنه يجوز إطلاق لفظ الجمع عليه
سبحانه تعظيماً، لذلك جاز مع غيره، والمحققون على أنه لا يجوز الجمع.
كما لا تجوز التثنية، لأن الجمع أيضاً يتستدعي المجانسة.
ولهذا قال أبو علي في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)
تقديره: إن الله يصلي والملائكة يصلون، والجمع في هذه الآية ممتنع من هذا الوجه، ومن وجه آخر، وهو أن صلاة الله غير صلاة الملائكة، فكما لا يجوز أن تقول:(1/437)
زيد وعمرو ضربا، وتريد بأحدهما الضرب بالعصا وبالآخر الضرب في الأرض سيراً، كذلك الآية.
قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) .
أي يميته فلا ينتفع بقلبه، فبادروا قبل الإحالة إلى الطاعة.
الغريب: يحول بين المرء وقلبه بإزالة عقله.
العجيب: يحول بين المرء وقلبه، فيكون أقرب إليه من حبل الوريد.
قوله: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) .
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
ذهب الفراء: إلى أنه نهي فيه جواب الأمر، وذهب جماعة إلى أنه
نهي فيه جزاء الشرط، وكلا القولين فاسد من حيث المعنى.
والاحتجاج بقوله: (ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ) ، لا يصح، لأن تقدير هذه الآية، إن تدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان، وهذا مستقيم، ولو قلت في الأول: إن تتقوها " "لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً"، لا يستقيم في المعنى.
والوجه ما ذهب إليه الأخفش: أنه نهي والتقدير (وَاتَّقُوا فِتْنَةً [و] لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، فحذف الواو، لمناسبة بينهما، والضمير فيه للفتنة، وهو
من باب قولهم: لا أرينك ها هنا، أي لا تفعلوا ما تفتنون به.
الغريب: ابن عيسى: قسم، أي والله لا تصيبن الذين ظلموا.
العجيب: أصله لتصيبن، على تقدير، فتنة والله لتصيبن، وقد قرىء به
في الشواذ، فأشبع فتحة اللام فنشأت منه ألف.
وقيل: "لا" زيادة، والتقدير فيه "تصيبن الذين ظلموا"، وهذا خطأ، لأن النون لا تدخل على الواحد (1) .
قال ابن عباس: هذه الفتنة، فسئل عنها، فقال: أبهموا ما أبهم الله.
__________
(1) قال السمين:
قوله تعالى: {لاَّ تُصِيبَنَّ} :
في «لا» وجهان، أحدهما أنها ناهيةٌ، وعلى هذا فالجملةُ لا يجوز أن تكون صفةً ل «فتنة» ؛ لأنَّ الجملة الطلبيةَ لا تقعُ صفةً، ويجوز أن تكون معمولة لقول، ذلك القولُ هو الصفةُ أي: فتنةً مقولاً فيها: لا تصيبنَّ. والنهيُ في الصورة للمصيبة وفي المعنى للمخاطبين، وهو في المعنى كقولهم: لا أُرَيَنَّك ههنا أي: لا تتعاطوا أسباباً يُصيبكم فيها مصيبةٌ لا تَخُصُّ ظالمَكم. ونونُ التوكيد على هذا في محلِّها. ونظيرُ إضمار القولِ قولُه:
جاؤوا بمَذْقٍ هل رأيتَ الذئبَ قَطْ. . . أي: مقول فيه: هل رأيت. والثاني: أن «لا» نافية، والجملةُ صفةٌ ل «فتنة» وهذا واضحٌ من هذه الجهة، إلا أنه يُشْكل عليه توكيد المضارع في غير قسم ولا طلب ولا شرط، وفيه خلافٌ: هل يَجْري النفيُ ب «لا» مَجْرى النهي؟ من الناس من قال نعم، واستشهد بقوله:
فلا الجارةُ الدنيا لها تَلْحَيَنَّها. . . ولا الضيفُ منها إنْ أناخَ مُحَوَّلُ
وقال آخر:
فلا ذا نعيمٍ يُتْرَكَنْ لنعيمه. . . وإن قال قَرِّظْني وخُذْ رشوةً أبى
ولا ذا بيئسٍ يُتركنَّ لبؤسه. . . فينفعَه شكوٌ إليه إن اشْتكى
فإذا جاز أن يُؤكَّد المنفيُّ ب «لا» مع انفصاله فلأَنْ يؤكَّد المنفيُّ غيرُ المفصولِ بطريق الأَوْلى. إلا أن الجمهور يَحْملون ذلك على الضرورة.
وزعم الفراء أنَّ «لا تصيبَنَّ» جواب للأمر نحو: «انزلْ عن الدابة لا تَطْرَحَنَّك» ، أي: إنْ تنزل عنها لا تَطْرحنك، ومنه قوله {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} بالنمل: 18] ، أي: إنْ تَدْخُلوا لا يَحْطِمنَّكم، فدخلت النونُ لِما فيه من معنى الجزاء. قال الشيخ: «وقوله: لا يَحْطِمَنَّكم وهذا المثالُ ليس نظيرَ» فتنةً لا تصيبنَّ الذين «لأنه ينتظم من الآيةِ والمثالِ شرطٌ وجزاءٌ كما قَدَّر، ولا ينتظم ذلك هنا، ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تقدير: إنْ تتقوا فتنة لا تُصِبِ الذين ظلموا، لأنه يترتَّبُ على الشرط غيرُ مقتضاه من جهة المعنى» .
قال الزمخشري: «لا تصيبنَّ» : لا يخلو: إمَّا أن يكونَ جواباً للأمر أو نهياً بعد أمرٍ أو صفةً لفتنة. فإذا كانت جواباً فالمعنى: إنْ أصابَتْكم لا تُصِبِ الظالمين منكم خاصة، بل تَعُمُّكم «، قال الشيخ:» وأخذ الزمخشري قولَ الفراء فزاده فساداً وخَبَط فيه «، فذكر ما نقلتُه عنه ثم قال:» فانظر إليه كيف قدَّر أن يكون جواباً للأمر الذي هو «اتقوا» ، ثم قدَّر أداةَ الشرطِ داخلةً على غير مضارع «اتقوا» فقال: المعنى: إن أصابَتْكم، يعني الفتنة. وانظر كيف قدَّر الفراء: انزل عن الدابة لا تَطْرَحَنَّك، وفي قوله: {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل: 18] ، فأدخل أداةَ شرطٍ على مضارع فعل الأمر وهكذا [يُقَدَّر] ما كان جواباً للأمر «.
وقيل:» لا تصيبنَّ «جوابُ قسمٍ محذوف، والجملةُ القسميةُ صفةٌ لفتنة أي: فتنة واللهِ لا تصيبنَّ. ودخولُ النونِ أيضاً قليلٌ لأنه منفيٌّ. وقال: أبو البقاء:» ودخلت النون على المنفي في غير القسم على الشذوذ «، وظاهرُ هذا أنه إذا كان النفي في جواب القسم يَطَّرد دخولُ النونِ، وليس كذلك.
وقيل: إن اللامَ لامُ التوكيد، والفعلُ بعدها مثبتٌ، وإنما مُطِلت اللام، أي: أُشْبِعَتْ فتحتُها فتولَّدَتْ ألفاً، فدخول النون فيها قياسٌ. وتأثَّر هذا القائلُ بقراءةِ جماعةٍ كثيرة» لتصيبَنَّ «وهي قراءةُ أميرِ المؤمنين وابن مسعود وزيد بن ثابت والباقر والربيع وأنس وأبي العالية وابن جماز. وممن وَجَّه ذلك ابن جني. والعجب أنه وَجَّه هذه القراءةَ الشاذة بتوجيهٍ يَرُدُّها إلى قراءةِ العامَّة، فقال:» ويجوز أن تكون قراءةُ ابن مسعود ومَنْ ذُكر معه مخففةً من «لا» يعني حُذِفَتْ ألفُ «لا» تخفيفاً، واكتُفي بالحركة «، قال:» كما قالوا: أمَ والله يريدون: أما والله «. قال المهدوي:» كما حُذِفت مِنْ «ما» وهي أختُ «لا» في نحو «أما والله لأفعلنَّ» وشبهه. قوله «أخت لا» ليس كذلك لأن «أما» هذه للاستفتاحِ ك «ألا» ، وليست مِنَ النافية في شيءٍ، فقد تحصَّل من هذا أن ابن جني خرَّج كلاً من القراءتين على الأخرى، وهذا لا ينبغي أن يجوز البتة، كيف يُورِدُ لفظَ نفيٍ ويتأوَّل بثبوتٍ وعكسِه؟ هذا إنما يَقْلب الحقائق ويؤدِّي إلى التعمية.
وقال المبرد والفراء والزجاج في قراءة العامَّة: «لا تصيبنَّ» : «إنْ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله» فتنة «وهو خطابٌ عامٌّ للمؤمنين، ثم ابتدأ نَهْيَ الظلمةِ خاصةً عن البُعْد من الظلم فتصيبهم الفتنة خاصة. والمرادُ هنا: لا يتعرَّض الظالم للفتنة فتقعَ إصابتُها له خاصة» .
قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه: «وإذا كانت نهياً بعد أمرٍ فكأنه قيل: واحذروا ذنباً أو عقاباً، ثم قيل: لا تتعرَّضوا للظلم فيصيبَ العقابُ أو أثرُ الذنبِ مَنْ ظَلَم منكم خاصة» .
وقال علي بن سليمان «هو نَهْيٌ على معنى الدعاء، وإنما جعله نهياً بمعنى الدعاء لأنَّ دخولَ النونِ في المنفي ب لا عنده لا يجوز، فيصير المعنى: لا أصابَتْ ظالماً ولا غيرَ ظالم، فكأنه قيل: واتقوا فتنةً لا أوقعها الله بأحدٍ» . وقد تَحَصَّلْتُ ممَّا تقدَّم في تخريج هذه الكلمة على أقوال: النهي بتقديرَيْه، والدعاء بتقديريْه، والجواب للأمر بتقديريه، وكونِها صفةً بتقدير القول.
قوله: {مِنْكُمْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها للبيان مطلقاً. والثاني: أنها حالٌ فتتعلَّقُ بمحذوف، وجعلها الزمخشري للتبعيض على تقديرٍ، وللبيان على تقدير آخر فقال: «فإن قلت: ما معنى» مِنْ «في قوله» الذين ظلموا منكم «؟ قلت: التبعيضُ على الوجه الأول، والبيان على الثاني؛ لأن المعنى: لا تصيبنَّكم خاصة على ظلمكم، لأنَّ الظلمَ منكم أقبحُ مِنْ سائر الناس» . قلت: يعني بالأولِ كونَه جواباً لأمر، وبالثاني كونَه نهياً بعد أمرٍ. وفي تخصيصه التبعيض بأحد الوجهينِ دون الآخر وكذا الثاني نظرٌ؛ إذ المعنى يَصِحُّ بأحد التقديرين مع التبعيضِ والبيان.
قوله: {خَاصَّةً} فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: وهو الظاهر أنها حالٌ من الفاعلِ المستكنِّ في قوله: «لا تصيبنَّ» ، وأصلها أن تكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ تقديره: إصابةً خاصة. الثاني: أنها حالٌ من المفعول وهو الموصولُ تقديره: لا تصيبنَّ الظالمين خاصة بل تعمُّهم وتعمُّ غيرهم. والثالث: أنه حالٌ من فاعل «ظلموا» قاله ابن عطية. قال الشيخ: «ولا يُعْقَلُ هذا الوجهُ» . قلت: ولا أدري ما عَدَمُ تَعَقُّلِه؟ فإن المعنى: واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا ولم يَظْلم غيرُهم، بمعنى أنهم اختصوا بالظلم ولم يشاركهم فيه غيرهم، فهذه الفتنةُ لا تختصُّ إصابتها هؤلاء بأنفسهم وتصيبُ مَنْ لم يَظْلم البتة، وهذا معنًى واضح. اهـ (الدر المصون) .(1/438)
وقيل: نزلت في عثمان، وقيل" هي الفتنة زمن علي.
وعن ابن عباس أنها المنكر، أي لا تقروه بين أظهركم فيعمكم العذاب.
وقيل: هي إظهار البدع.
قوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) .
استعجل النفر وأصحابه العذاب بقولهم: (إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) ، الآية، فأنزل الله (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ، أيٍ ليس يفعل وليس من شأنه، وأنت يا محمد فيهم ومعهم، لأنك بعثت رحمة للعالمين.
الغريب: هذه من تمام كلام النضر وأصحابه، أي وقالوا: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ، الآية، وذلك أن المشركين كانوا يقولون: والله إن
الله لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا تعذب أمة ونبيها معها.
ثم قال الله رداً عليهم:
(وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) - وإن كنت بين أظهرهم وهم يستغفرون - والوجه
هو الأول.
وقوله: (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، يعود إلى من كان بمكة من المؤمنين.
فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرجوا عذبهم يوم بدر.
الغريب: (يَسْتَغْفِرُونَ) ، أي يلد منهم من يستغفر.
العجيب: يريد الاستغفار، استغفار الكفار، وهو قولهم: لبيك اللهم
لبيك، لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك غفرانك اللهم
غفرانك.
قوله: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) .
قيل: هذا نزل بعد خروجه - صلى الله عليه وسلم - من مكة، وخروج المؤمنين.
الحسن: هذه الآية ناسخة لما قبلها.(1/439)
الغريب: معناه، استحقوا العذاب، ولولا مكانك منهم واستغفار
المؤمنين لعُذبوا، وقيل وما لهم أن لا يعذبهم الله في الآخرة، وقيل: يوم
بدر.
قوله: (إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) .
المكاء: صوت يشبه صوت المكاء وهو طائر معروف اشتقاقه من مكا
يمكو، وهو أن يجعل بعض أصابع اليمنى ببعض أصابع اليسرى في فمه، ثم
يصفر، والتصدية: ضرب إحدى اليدين على الأخرى، واشتقاقه من الصدى، وهو أن تسمع مثل صياحك من أماكن تمنع الصوت من النفوذ.
الغريب: المكاء من مك الفصيل، والتصدية من صد يصد.
وقيل: مكاؤهم: أذاهم وتصديتهم: إقامتهم.
العجيب: معناه صلاتهم ودعاؤهم، غير رادين عليهم ثوابا إلا كما
يجيب الصدى الصائح.
قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) .
"مَا" هي الموصولة، و "غَنِمْتُمْ" صلته، والضمير محذوف.
وقوله: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) خبر "أَنَّ"، ومحله رفع، والتقدير، فالأمر أن لله خمسهُ.
ودخل الفاء الخبر، لأن المبتدا إذا كان موصولاً حسن دخول الفاء الخبر.
ومثله، (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) ، و (أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) .
الغريب: (أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) فَعَلَى (أن لله خمسة) محذوف الجار.
العجيب: قول من قال الفاء للعطف، وخبر "أنَّ" محذوف(1/440)
تقديره: واعلموا أنما غنمتم من شيء يجب أن يقسم فاعلموا أن لله خمسه، لأن الخبر لا يحذف إلا بدليل.
ومن العجيب: قول الفراء: إن "مَا" للشرط، ودخل الفاءُ جزاءَ الشرط.
لأنه لا يجوز إدخال "أن" على ما الشرطية.
قوله: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى) .
العرب تبني من بناتِ الياء الفعلى بالواو نحو الرُعْوَى من رعيت.
والتَقْوى من تقي، والبُقْوى من بقي، وتبني من بنات الواو الفعْلى بالياء، نحو: الدنيا من دنوت، والعُليا من علوت، وشذ القصوى كما شذ استحوذ ولححت عينُه، ولو كان في غير القرآن لجاز القصيا على الأصل المستمر.
قوله: (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ)
(وَالرَّكْبُ) ، رفع بالابتداء، و (أسفل) صفة محذوف هو الخبر، أي مكانا أسفل إلى سباحة البحر. وفي الركب قولان:
أحدهما: جمع راكب، وكذلك أخواته.
والثاني: أنه اسم للجمع، وليس بجمع راكب بدليل التصغير، فإنك تقول فيه ركيب، وحريب في جمع حارب، ولو كان جمع راكب لقلت: رويكبون.
قوله: (وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا)
أي جمع بينكم ليقضي الله.
وقوله: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ)
هذا اللام بدل من لام ليقضي.
الغريب: هو عطف، أي ليقضي وليهلك، فحذف الواو.(1/441)
وقوله: (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)
سؤال لِمَ ذكر أحدهما بلفظ الماضي والأخر بلفظ المستقبل؟
عنه ثلاثة أجوية:
أحدها: ليهلك من حكم الله بهلاكه ويحيى من حكم الله بحياته.
والثاني: ليحكم بهلاك من هلك وليحكم بحياة من حي.
والثالث: ما ذكره ابن السراج: أن الماضي والمستقبل والحال ألفاظ يجوز وقوع بعضها موقع بعض إذا لم يورث التباساً.
ولم يكن في الآية التباس، فجاز.
قوله: (فِي مَنَامِكَ) ، أي في رؤياك.
الغريب: الحسن في جماعة: فِي مَنَامِكَ، أي في عينيك.
وزعموا: أن المنام موضع النوم، وهذا ضعيف، لأن المنام يصلح للمصدر
والزمان والمكان، ويريد بالمكان مكان النائم وموضعه، وأما كيفية النوم
ومنشؤه فليس يختص بالعين دون غيرها من الحواس.
قوله: (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) .
أي دولتكم وقدرتكم ونصرتكم.
الغريب: هي الريح الحقيقية إذا كانت في قوم ظفروا، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور".
قوله: (وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ) .
هذا من كلام إبليس، وذلك، أنه أتى قريشا يوم بدر في صورة
سراقة بن مالك بن جعثم، فقال، لا غالب لكم اليوم من الناس، أي من
جنس الناس.
الغريب: من كثرتكم، و (وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ) أي مجير.(1/442)
(فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ)
رجع القهقرى، وهو الرجوع إلى وراء.
(وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) ، فقال له أبو جهل: يا سرافة أفرارا من غير قتال، فقال: (إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ) ، يعني الملائكة، (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ)
قيل: كذب عدو الله، وقيل: أخاف الله عليكم.
وقيل: خاف أن يكون الوقت الذي انظر إليه قد حان.
وقيل: خاف من الملائكة.
الغريب: مثله مثل الشاعر، حيث قال:
وكتيبةٍ لبَّسْتها بِكتيبةٍ. . . حتى إذا التبست نَفَضتُ لها يدي
قوله: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) .
محله رفع على خبر المبتدأ، أي صنيعهم كصنيع آل فرعون.
وقيل: نصب، أي نفعل بهم فعلنا بآل فرعون.
(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) جر بالعطف، ويجوز أن يرنفع بالابتداء.
(كَفَرُوا) خبره.
قوله: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) (1) .
التاء للخطاب، أي لا تَحْسَبَنَّ يا محمد الذين كفروا، فهم المفعول
الأول، وقوله: (سَبَقُوا) جملة في محل المفعول الثاني.
ومن قرأ بالياء، فله ثلاثة أوجه:
أحدها ولا يَحْسَبَنَّ محمد الذين كفروا سبقوا، فيكون كالأول.
والثاني: أن يكون الذين كفروا هم الفاعلين، وضميرهم المفعول الأول، أي
إياهم، وسبقوا المفعول الثاني.
والثالث: وهو الغريب: أن يضمر "أنْ" فيصير مع "سبقوا" واقعا موقع المفعولين، وهو قراءة ابن مسعود.
__________
(1) قال العلامة شهاب الدين الدمياطي:
واختلف في / ولا تحسبن الذين كفروا /) الآية 59 هنا والنور الاية 56 فابن عامر وحمزة بالغيب فيهما واختلف عن إدريس عن خلف فروى الشطي عنه كذلك فيهما ورواهما عنه المطوعي وابن مقسم والقطيعي بالخطاب وبه قرأ الباقون وافق أبا عمرو الأعمش واليزيدي فيهما ووافق حمزة الحسن ووافق أبا جعفر ابن محيصن والذين مفعول أول على قراء الخطاب وسبقوا ثان والمخاطب النبي والفاعل على قراءة الغيب ضمير يعود على الرسول أو يفسره السياق أي قتيل المؤمنين وإن جعل الذين فاعلا فالمفعول الأول محذوف أي أنفسهم والثاني سبقوا وفتح سين (يحسبن) ابن عامر وعاصم وحمزة وأبو حعفر. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 298: 299) .(1/443)
العجيب: قول من قال: "أنْ" مقدرة هنا، وتقديره: أنهم - بالتشديد -.
فخفف لأنه إذا خفف لا يلي الفعل إلا بواسطة، كقوله: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ) ، و (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا) و (حَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) ، فيمن رفع.
ومن نصبه جعله المخففة، وهي لا تمتنع من الوقوع بعد حسبت.
قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .
"مَن" في محل رفع من وجهين:
أحدهما: بالعطف على قوله: (اللَّهُ)
والثاني: بالابتداء، أي: (وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، كذلك.
وقيل: نصب عطفا على محل الكاف كقوله: (مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) .
والمعنى: يكفيك ويكفي المؤمنين.
الغريب: محله جر بالعطف على الكاف، ولا يجوز العطف على
ضمير المجرور إلا بإعادة الجار، عند البصريين.
قوله: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ) .
رفع بالابتداء، و (مِنَ اللَّهِ) و (سَبَقَ) صفتان للمبتدأ.
والخبر مضمر، أي تدارككم.
قوله: (لَمَسَّكُمْ) جواب لولا.
ولا يجوز أن يجعل (سَبَقَ) خبراً لكتاب، لأن خبر "لولا" لا يظهر على أصل سيبويه، ويجوز أن يقدر قد مع سبق، فيكون حالا من المضمر في قوله: (مِنَ اللَّهِ) لأن التقدير: كتاب ثابت من الله.
قوله: (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) .
سؤال: لِمَ قدم في هذه السورة (بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ)) ، وأخر (فِي سَبِيلِ اللَّهِ)(1/444)
وقدم في سورة براءة (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وأخر (بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) ؟.
الجواب: لأن ما في سورة الأنفال وقع بعد آيات تقدت، وفيها ذكر
المال والفداء والغنيمة من قوله: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)
(لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ) ، يريد من الفداء، و (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا) .
فكان تقديم ذكر المال أليق بها.
وما في سورة براءة وقع بعد آيات تقدت، وفيها ذكر الجهاد في سبيل الله، وهي (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) .
وأقرب من هذا قوله: (كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) .
ثم استأنف، فقال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) .
فكان هذا لفظا لما قبله. والله أعلم.(1/445)
سورة التوبة
وقيل: سورة التوبة.
الغريب: الفاضحة والمبعثرة والمنفرة والمثيرة، والبحوث كلها
من أسماء هذه السورة.
فوله (بَرَاءَةٌ) .
يرتفع من وجهين:
أحدهما: بالابتداء، و "مِن" صفته، و "إِلَى الَّذِينَ"، خبره، وجاز الابتداء بالنكرة، لأنها قد وصفت.
والثاني: أن يرتفع بالخبر، والمبتدأ مقدر وتقديره: هذه السورة أو هذه الآيات براءة، فيكون "من" و"إلى" صلته، ولا يمتنع أن يكون من صلته على الوجه الأول، لأن الصلة تقرب النكرة من المعرفة، كما أن الصفة تقربها منها.
قوله: (وَأَذَانٌ) .
عطف على قوله: (براءة) علي الوجه الثاني، فيكون "من" و "إلى"
و"يوم الحج" كلها صلة له.
قوله: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ) (1) مفعول لـ "أَذَانٌ"، ولا يحسن العطف على (بَرَاءَةٌ) على الوجه الأول، لأن "مِن" يصير صفة أو صلة
ويصير "إلى" خبراً له، فيبقى يوم الحج بلا عامل.
ويمتنع (أَذَانٌ) من العمل فيه.
__________
(1) قال السمين:
قوله تعالى: {وَأَذَانٌ} :
رفع بالابتداء، و «مِن الله» : إمَّا صفةُ أو متعلقٌ به. وإلى الناس «الخبر. ويجوز أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: وهذا إعلامٌ، والجارَّان متعلقان به كما تقدَّم في» براءة «. قال الشيخ:» ولا وجهَ لقولِ مَنْ قال إنه معطوف على «براءة» ، كما لا يُقال «عمرو» معطوف على «زيد» في «زيد قائم وعمرو قاعد» . وهو [كما قال] ، وهذه عبارة [الزمخشري بعينها]
وقرأ الضحَّاك وعكرمة وأبو المتوكل: «وإذْن» بكسر الهمزةِ وسكونِ الذال. وقرأ العامَّةُ: «أنَّ الله» بفتح الهمزة على أحدِ وجهين: إمَّا كونِه خبراً ل «أذان» أي: الإِعلامُ من الله براءتُه من المشركين وضعَّف الشيخُ هذا الوجهَ ولم يذكر تضعيفَه وإمَّا على حَذْفِ حرفِ الجر أي: بأن الله. ويتعلَّقُ هذا الجارُّ إمَّا بنفس المصدرِ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه صفتُه. و «يومَ» منصوبٌ بما تعلَّق به الجارُّ في قوله: «إلى الناس» . وزعم بعضُهم أنه منصوبٌ ب «أذانٌ» وهو فاسدٌ من وجهين: أحدهما: وصفُ المصدرِ قبل عمله. الثاني: الفَصْلُ بينه وبين معمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ.
وقرأ الحسن والأعرج بكسر الهمزة، وفيه المذهبان المشهوران: مذهبُ البصريين إضمارُ القول، ومذهبُ الكوفيين إجراءُ/ الأذانِ مجرى القول.
قوله: {مِّنَ المشركين} متعلقٌ بنفس «بريء» كما يقال: «بَرِئْتُ منه» ، وهذا بخلاف {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله} [التوبة: 1] فإنها هناك تحتمل هذا، وتحتمل أن تكونَ صفةً ل «براءة» .
قوله: {وَرَسُولِهِ} الجمهورُ على رَفْعِه، وفيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ أي: ورسولُه بريءٌ منهم، وإنما حُذِفَ للدلالةِ عليه. والثاني: أنه معطوفٌ على الضميرِ المستتر في الخبر، وجاز ذلك للفصلِ المسوِّغ للعطف فرفعُه على هذا بالفاعلية. الثالث: أنه معطوفٌ على محل اسم «أنَّ» ، وهذا عند مَنْ يُجيز ذلك في المفتوحةِ قياساً على المكسورة. قال ابن عطية: «ومذهبُ الأستاذ يعني ابن الباذش على مقتضى كلامِ سيبويهِ أن لا موضعَ لِما دخلَتْ عليه» أنَّ «؛ إذ هو مُعْرَبٌ قد ظهر فيه عملُ العامل، وأنه لا فرقَ بين» أَنَّ «وبين» ليت «، والإِجماعُ على أن لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه هذه» . قال الشيخ: «وفيه تعقُّبٌ؛ لأن علةَ كونِ» أنَّ «لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه ليس ظهورَ عملِ العامل بدليل:» ليس زيد بقائم «و» ما في الدار مِنْ رجل «فإنه ظهر عملُ العامل ولهما موضع، وقولُه:» بالإِجماع «يريد أن» ليت «لا موضعَ لِما دَخَلَتْ عليه بالإِجماع ليس كذلك؛ لأن الفراءَ خالَفَ، وجعل حكمَ» ليت «وأخواتِها جميعِها حكمَ» إنَّ «بالكسر» .
قلت: قوله: «بدليل ليس زيدٌ بقائم» إلى آخره قد يَظْهر الفرق بينهما فإن هذا العاملَ وإنْ ظهر عملُه فهو في حكمِ المعدوم؛ إذ هو زائد فلذلك اعتبرنا الموضعَ معه بخلاف «أنَّ» بالفتح فإنه عاملٌ غيرُ زائد، وكان ينبغي أن يُرَدَّ عليه قولُه: «وأن لا فرقَ بين» أنَّ «وبين» ليت «، فإنَّ الفرقَ قائمٌ، وذلك أن حكمَ الابتداء قد انتسخ مع ليت ولعل وكأن لفظاً ومعنىً بخلافه مع إنَّ وأنَّ فإن معناه معهما باقٍ.
وقرأ عيسى بن عمر وزيد بن علي وابن أبي إسحاق» ورسولَه «بالنصب. وفيه وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على لفظ الجلالة. والثاني: أنه مفعولٌ معه، قاله الزمخشري. وقرأ الحسن» ورسولِه «بالجر وفيها وجهان، أحدهما: أنه مقسمٌ به أي: ورسولِه إن الأمر كذلك، وحُذِفَ جوابُه لفهم المعنى. والثاني: أنه على الجِوار، كما أنهم نَعَتوا وأكَّدوا على الجِوار، وقد تقدَّم تحقيقُه. وهذه القراءةُ يَبْعُد صحتُها عن الحسن للإِبهام، حتى يحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرأ» ورسولِه «بالجر. فقال الأعرابي: إن كان الله قد بَرِىء مِنْ رسوله فأنا بريء منه، فَلَبَّبه القارىء إلى عمر رضي الله عنه، فحكى الأعرابيُّ الواقعةَ، فحينئذ أَمَرَ عمرُ بتعليم العربية. ويُحكى أيضاً هذه عن أمير المؤمنين عليّ وأبي الأسود الدؤلي. قال أبو البقاء:» ولا يكون عطفاً على المشركين لأنه يؤدي إلى الكفر «. وهذا من الوضحات. اهـ (الدر المصون) .(1/447)
وفي (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ) .
فإن قلت: ثابت يوم الحج بأن الله، فوجه ضعيف لا يحمل عليه ما وجد عنه مندوحة.
نزلت هذه السورة بالمدينة، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - صاحب
الموسم، فقال - عليه السلام -: " لا يبلغ عني إلا رجل مني"، فبعث
عليا - رضي الله عنه - بعشر آيات، وقيل: ثمان عشرة، وقيل: أربعين آية
من أول براءة وألحقه بأبي بكر، وأمره أن يتولى قراءة الآيات في الموسم يوم
النحر، فلما لحق أبا بكر قال له أبو بكر: أميرا جئت أم مأموراً، فقال علي: بل ماموراً وقص عليه القصة وقرأ الآيات في الموسم يوم النحر على جمرة
العقبة، وكان أبو هريرة مع عليٍّ.
قوله: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) .
استثناء من قوله (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) .
قوله: (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا) ، أي شَيْئًا من شروط العهد، وقرئ في الشواذ "ينقضوكم" من نقض العهد، وهذا زائف، لكن النقض أولى ليقع في مقابلة التمام في قوله: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ) .
قوله: (كُلَّ مَرْصَدٍ) .
ظرف: كما تقول: اجلس مجلسك واقعد مقعدك.
الغريب: الأخفش: على (كُلَّ مَرْصَدٍ) ، فحذف الجار.
قوله: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ) .
"أَحَدٌ" رفع بفعل مضمر دل عليه "اسْتَجَارَكَ".
قال سيبويه:تختص "إنْ" بهذا دون أخواتها، لأنها أم حروف الشرط.
وأنشد:(1/448)
لا تَجْزَعي إنْ مُنْفِساً أهلكتُه. . . وإذا هَلَكْتُ فعند ذلك فاجْزَعي
قوله: (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) .
أي كيف لهم عهد، واكتفى بذكر الأول.
الغريب: كيف لا تقتلونهم، وليس هذا تكرارا، لأن الأول لجميع
المشركين، وهذا لليهود، حكاه النحاس.
قوله: (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) .
"اللَّهُ" مبتدأ "أَحَقُّ" خبره، و "مِن" مقدرة، أي أحق من غيره
بالخشية، و "أَنْ تَخْشَوْهُ" محله نصب، أي بأن تخشوه، فحذف الجار
الغريب: "أَنْ تَخْشَوْهُ" بدل من المبتدأ.
وقيل: "أَنْ تَخْشَوْهُ" مبتدأ "أَحَقُّ" خبره تقدم عليه، والجملة خبر للمبتدأ الأول، ومثله (أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، والتقدير فخشية الله أحق من خشية غيره.
والتقدير الثاني، فالله خشيته أحق من خشية غيره.
قوله: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ) .
لا بد من أحد إضمارين: إما أن تضمر "أهل" تقول، أَجَعَلْتُمْ أهل "سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ".
وإما أن تضمر الإيمان تقول: كإيمان من آمن.
وقرئ في الشواذ: " سُقاةَ. . . وعَمَرةَ".(1/449)
قوله: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) .
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا
عطف على محل (مَوَاطِنَ) لأن محلها نصب.
وروي عن بعض القراء الوقف على كَثِيرَةٍ، والابتداء بقوله: (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) ، وفيه ضعف لأنه يبقى بلا عامل يعمل في (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ) ، لأن "إِذْ" مضاف إلى قوله: (أَعْجَبَتْكُمْ) ، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف، ولو جعل "إِذْ" زائدة جاز أن يعمل فيه (أَعْجَبَتْكُمْ) أو تضمر اذكر يوم حنين.
قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) .
شرط جزاؤه (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ) ، من القراء من وقف على
"عَيْلَةً" كأن جعل جواب الشرط ما يدل عليه قوله: (فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) ثم استأنف فقال: (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
قوله: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) .
بالتنوين وحذفه، فمن أثبت التنوين فوجهه ظاهر وذلك أن "عُزَيْرٌ"
مبتدأ، "ابْنُ" خبره، والكل حكاية عن اليهود وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين.
ومن حذف التنوين حذفه لالتقاء الساكنين كما جاء: أحد الله وقال:
حميد الذي أمجٌ داره. . . أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع
الغريب: حذف منه التنوين لأنه اسم أعجمي معرفة.
قال النحاس: هذا سهو من قائله، لأن عزيراً مشتق من قوله: (عَزَّرُوهُ) والياء فيه للتصغير، وهذا لا يدفع كلام من قال لا ينصرف، لأن إسحاق أيضاً يمكن(1/450)
أن يقال فيه أن الألف والهمزة زائدتان، واشتقاته من السحق، وكذلك يعقوب وأخواته.
العجيب: حذف التنوين كما تحذف من النسب، لأن هذا أيضاً نسب
على زعم اليهود، وهذا القول ضعيف وإن كان قائلوه أقوياء، لأن الإنكار أو الرد ينصرف إلى الخبر، لأنهم قالوا تقدير عزير ابن نبينا، أو نبينا عزير ابن، فيبقى النسب بينهما: سبحانه عن ذلك.
قوله: (يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا) .
قيل: لا ينفقون الفضة فضلًا عن الذهب، وقيل: يعود إلى الكنوز.
وقيل: تقديره: يكنزون الذهب والفضة جنسين لمكان الألف واللام فيها
أجريا مجرى الجمع، كما جاء في (خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا) .
العجيب: يعود إلى المصدر، وهو النفقة، أي ولا ينفقون النفقة في
سبيل الله.
قوله: (جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) .
انما خص هذه المواضع بالكي، لأن البخيل إذا سئل، زوى وجهه أولاً.
ثم أعرض عنه، ثم ولى.
(هَذَا مَا كَنَزْتُمْ) ، أي ويقال لهم: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ.
قوله: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) .
إنما دخل "إِلَّا" وليس قبله نفي، ولا يقال ضربت إلا زيداً، لأن في الإباء
معنى الامتناع، فضارعت النفي، قاله: علي بن سليمان.
الغريب: قال الفراء إنما دخلت "إِلَّا"، لأن في الكلام طرفا من الجحد.(1/451)
العجيب: قال أبو إسحاق الزجاج: الجحد، والتحقيق ليس بذي
أطراف.
قال: أراد بالأطراف أنه لا ينوب عنه ما دونه، وأدوات الجحد ما
ولا ولم ولن وليس، وهذه لا أطراف لها، ولو كان كما أراد لجاز كرهت إلا
زيداً.
قوله: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا) .
أي على عدد البروج المذكورة في قوله: (جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا) .
وقوله: (فِي كِتَابِ اللَّهِ) صفة لـ "اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا" أي مثبتة (فِي كِتَابِ اللَّهِ) .
وقوله: (يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) بدل من قوله: (فِي كِتَابِ اللَّهِ) على المحل.
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
الغريب: متصل ب (كِتَابِ اللَّهِ) ، وكتاب الله هنا مصدر، ولا يجوز تعلق
و"فِي" ولا (يَوْمَ خَلَقَ) ب (عِدَّةَ) لأنه قد حِيلَ بينهما بالخبر، ولا يجوز الإحالة بين المصدر وصلته.
قوله: (مِنْهَا) تعود إلى اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، وقوله: (فِيهِنَّ) تعود إلى
الأربعة، لأنك تقول في العدد من الثلاثة إلى العشر خلون، وفيهن ومنهن.
فإذا جاوزت العشرة قلت: خلت وفيها ومنها.
الغريب: لا يمتنع أن يعود إلى (اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا) فقد يستعمل كل واحد منهما
مكان الآخر وإن كان الأصل هو الأول.
قوله: (كَافَّةً) مصدر في موضع الحال كالعاقبة والعافية.
و (كَافَّةً) لا يثنى ولا يجمع ولا يذكر ولا يدخله الألف واللام، بل يلزمه النكرة كما يلزم أجمع المعرفة، ومثلها عامة وخاصة.(1/452)
قوله: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ) .
النَّسِيءُ زِيَادَةٌ: مصدر نسأ الله في أجله، نسئا ونسيئا وأنسأ الله أجله
إنساء، والنَّسِيءُ أيضا فعيل بمعنى مفعول.
ابن عباس: هو تأخيرهم حرمة شهر حرمه الله إلى شهر لم يحرمه لحاجة تعرض لهم فيبدلون المحرم من صفر، وصفرا من المحرم.
وقيل: كانوا يؤخرون الحج في كل سنة شهرا فيجعلونه في المحرم ثم في صفر ثم في شهر ربيع على هذا شهرًا بعد شهر يحجون في كل شهر عامين حتى وافق حج أبي بكر - رضي الله عنه - الأخير من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم حج النبي - صلى الله عليه وسلم - - من قابل في ذي الحجة، فقال في خطبته: "ألا إن الزمان قد استدار كهيئة يومَ خلق السماوات والأرض".
الغريب: كانت العرب تستعمل الكبيسة أيضاً لئلا تتغير أحوال
فصول سنتهم ووجدوا أيام السنة القمرية ثلاثماثة وأربعة وخمسين يوماً، وأيام
السنة الشمسية تزيد عليها أحد عشر يوما فكبسوا في كل ثلاث سنين شهرا
وجعلوا سنتهم ثلاثة عشر شهرا وسمُّوا ذلك النسيء، وكانت تقع شتاء وهم في جمادي الأولى وجمادى الآخرة، وصيفهم يقع في شهر رمضان وشوال.
وسمي رمضان لشدة الحَرِّ فيهِ، وكانوا على هذا حتى بعث الله
النبي - صلى الله عليه وسلم - حكاه أبو ملك.
قوله: (لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ)
اللام متصل بالفعلين أعني يُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَهُ.(1/453)
الغريب "اللام" متعلق بقوله (وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا) ، لأن المواطأة تقع
إذا حرَّموا أربعة أشهر لا إذا أحَلُّوا.
قوله: (إِذْ أَخْرَجَهُ) .
ظرف لقوله: (نَصَرَهُ اللَّهُ) ، وقوله: (إِذْ هُمَا) بدل من (إِذْ أَخْرَجَهُ)
وقوله: (إِذْ يَقُولُ) بدل من (إِذْ هُمَا) .
قوله: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ) نصب على الحال، أي منفرداً عن كل أحد إلا من
أيى بكر، والعامل في الحال (أَخْرَجَهُ) .
الغريب: (نَصَرَهُ) هو العامل.
العجيب: العامل، مضمر تقديره: أخرجه الذين كفروا فخرج ثاني
اثنين، ومعنى (ثَانِيَ اثْنَيْنِ) واحد من اثنين، فخامس خمسة، أي واحد من
خمسة، وكذلك أخواته.
قوله: (إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ) ، هو غار ثور، جبل بمكة.
العجيب: الغار من الغيرة، أي غارا على دين الله، وحكاه الماوردي.
قوله: (خِفَافًا وَثِقَالًا) .
أي ركباناً ومشاةً، وقيل: أغنياء وفقراء، وقيل: أصحاء ومرضى.
وقيل: شبابا وشِيباً، وقيل: ذا عيال وغير ذي عيال، وقيل: ذا ضَيْعة وغير
الغريب: خفة اليقين وثقل اليقين.
العجيب: خِفَافًا إلى الطاعة ثِقَالًا عن المخالفة.(1/454)
قوله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ) .
محا الله ذنبك، قدم العفو على العتاب، وقيل معناه: أدام الله
عفوك.
الغريب: هذا توقير ودعاء له، كما تقول للرجل: عفا الله عنك ما
صنعت في حاجتىِ، ورضي الله عنك ألا زرتني.
العجيب: حكى أبو الليث في تفسيره، أن معناه عافاك الله يا سلبم
القلب، وهذا ضعيف، لأن هذه اللفظة - وإن كانت مدحاً كقوله عز وجل: (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) - فقد صارت تستعمل لمن له ركاكة في
الرأي وضعف في العزيمة.
قوله: (وَلَأَوْضَعُوا) .
كتب في المصحف بزيادة ألف، وكذلك (لا أذبحنه)
و (لا أتوها) في الأحزاب، وذلك، إن صورة الفتحة في الخطوط قبل
الخط العربي كانت ألفا، وصورة الضمة كانت واواً، وصورة الكسرة كانت
ياء، فعلى هذا كتب (لا أوضعوا) و (لا أذبحنه) فجعلوا مكان الفتحة
ألفا، وكذلك أولئك، وأولات، جعلوا مكان الضمة واوا، وعلى هذا
(وإيتائي ذي القربى) جعلوا مكان الكسرة ياء لقرب عهدهم بالخط الأول.(1/455)
قوله: (ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي) .
نزلت في جد بن قيس المنافق، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "هل لك في جلاد بني الأصفر - يعني الروم - تتخذ منها سراري ووصفاء"، فقال يا رسول الله: لفد عرف قومي أني رجل مغرم بالنساء، وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن، فلا تفتني بهذا، فأنزل الله هذه الآية.
وكان الأصفر رجلاً من الحبشة، ملك الروم، فاتخذ من نسائهم كل وضيئة
حسناء، فولدن له بنين وبنات، وأخذن من بياض الروم وسواد الحبشة، فكُنَّ ضفراً لُعْساً يضرب بهن المثل في الحسن.
قوله: (أَوْ بِأَيْدِينَا) .
يجوز أن يكون عطفاً على "بِعَذَابٍ"، أي نتربص بكم أن يصيبكم الله
بعذاب من عنده بقارعة عظيمة أو موت، أو يصيبكم بأيدينا، أي يأمرنا
بقتالكم، ويجوز أن يكون عطفاً على قوله: (مِنْ عِنْدِهِ) أي عذاب من
عنده، أو عذاب بأيدينا، المعنى فيهما واحد، والتقدير مختلف.
قوله: (كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) .
سؤال: لِمَ زاد "باء" في قوله (وَبِرَسُولِهِ) وحذفها من قوله: (كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا) ، وكلاهما في هذه السورة؟
الجواب: لأن الكلام في الآية الأولى إيجاب بعد نفي، وهو الغاية في باب التأكيد، وهو قوله: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) ، فأكد أيضاً المعطوف على الله بتكرار "الباء" ليكون الكل على منهاج واحد.
وليس كذلك الآيتان بعدهما، فإنهما خَلَتا من التأكيد بالإيجاب بعد النفي.(1/456)
قوله: (فَلَا تُعْجِبْكَ) .
سؤال: لِمَ قال في هذه الآية: "فَلَا" - بالفاء -، وقال في الآية الأخرى
من هذه السورة: (وَلَا تُعْجِبْكَ) - بالواو -؟
الجواب: لأن الفاء تتضمن معنى الجزاء، والفعل الذي قبله
مستقبل يتضمن معنى الشرط، وهو قوله: (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) ، أي إن يكن منهم هذا، ما جزاؤهم؟.
فكان الفاء هو اللائق بها، وليست كذلك الآية التي بعدها، فإن الذي قبلها
قوله: (كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا) بلفظ الماضي وبمعناه، والماضي لا
يتضمن معنى الشرط ولا يقع من الميت فعل، فكان الواو في هذه الآية
أولى.
قوله: (وَلَا أَوْلَادُهُمْ) .
سؤال: لِمَ قال في هذه الآية: (وَلَا أَوْلَادُهُمْ) بزيادة "لا"، وقال في
الأخر ى (وَأَوْلَادُهُمْ) بغير "لا"؟
الجواب: لما أكد الكلام الأول بالإيجاب بعد النفي - وهو الغاية - كما سبق، وعلق الثاني بالأول تعليق الجزاء بالشرط، اقتضى الكلام
الثاني من التأكيد فوقه أو مثله، فأكد معنى النفي بتكرار "لا" في
المعطوف، فقال: (وَلَا أَوْلَادُهُمْ) ، وليس في الآية الثانية من هذا شيء.
قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ)
سؤال: لِمَ قال في هذه الآية
(لِيُعَذِّبَهُمْ) ، وقال في الآية الأخرى: (أَنْ يُعَذِّبَهُمْ) .
الجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أن "أنْ" في هذه الآية مقدر(1/457)
بعد اللام، أي لأن يعذبهم، وهو الناصب للفعل، فصارت كالآية الأخرى.
وزيادة اللام في هذه الآية جارية مجرى زيادة "الباء"، و "لا" للتأكيد.
والوجه الثاني: أن مفعول الإرادة في هذه الآية محذوف تقديره: إنما يريد الله أن يزيد من نعمائهم بالأموال والأولاد ليعذبهم بها بما هم فيه، وهو العذاب.
قوله: (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)
سؤال: لِمَ قال في هذه الآية: (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
وفي الأخرى: (فِي الدُّنْيَا) " فحسب؟.
الجواب: لأن الدنيا في الآيتين صفة الحياة، فأثبت الصفة
والموصوف في الآية الأولى وحذف الموصوف من الآية الثانية اكتفاء بذا
الوصف، لأن الآية الأولى تدل على الموصوف، فلا يخفى على متأمل.
وقوله: (فِي الْحَيَاةِ) في الآيتين متعلق ب (تُعْجِبْكَ) ، وفيها تقديم وتأخير، أي فلا تعجك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا بجمعها وحفظها وحبها والخوف عليها، والبخل بها، والإنفاق منها، وإخراج زكاتها، وكل هذا عذاب، والأظهر في الآية الأولى متعلقة بالتعذيب، وفي الثانية متعلقة بالإعجاب وليست الآيتان متكررتين، لأن الأولى في قوم والثانية في آخرين، وقيل: الثانية في اليهود والأولى في المنافقين.
قوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) .
اختلف المفسرون والفقهاء في الفقراء والمساكين، فذهب بعضهم
إلى أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين، وأن المسكين قد يملك شيئاً.
وأستدل بقوله: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ) ، وبأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان(1/458)
يتعوذ من الفقر، ويسأل الله المسكنة، ويقول: "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني
مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين ".
وذهب بعضهم إلى أن المسكين أسوأ حالا، وأن الفقير قد وصف بالمُلك في قول الشاعر:
أَمَّا الفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُه. . . وَفْقَ العِيَالِ فَلَمْ يُتْرَكْ لَهُ سَهَدُ
واعتذر عن قوله سبحانه: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ) بأنهم
أجراء، وبأن المسكنة تذكر ويراد بها النهاية في الفقر، وتذكر ويراد بها الذلة
والضعف.
كقوله: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) ويراد بها الذلة إذا كانت فيهم.
وكذلك قول علي - رضي الله عنه -: "مسكين ابن آدم ينظر من شحم ويتكلم من لحم ويسمع من عظم، مستور الأجل مكنون العلل، محفوظ العمل، تؤلمه البقة وتقتله الشرقة، وتنتنه العرقة"
فكذلك قوله: (فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ) أي لقوم ضعفاء.
الغريب: المسكين والفقير واحد، فكل فقير مسكين وكل مسكين فقير.
والله سماهم باسمين ليجعل لهم من الصدقة سهمين رحمة لهم، ونظرًا إليهم
قوله: (وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) .
يقال: رجلٌ أذن إذا كان يقبل كلام كل قائل ويعمل به.
وفي تسميته بذلك قولان:
أحدهما: أن الأذن هي الجارحة، وسمي لكثرة استعماله ذلك كما سمي
الجاسوس عيناً والمركوب ظهرا لكثرة الاستعمال.
والثاني: - وهو الغريب -: أنه فعل من أذن يأذن أذنا.
قال:
في سماع يأذن الشيخ له. . . وحديث مثل ماذيّ مشار(1/459)
أي يستمع الشيخ له.
قوله: (أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، سبق.
قوله: (مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) .
"مَنْ" شرط، (فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) ، جزاؤه، والتقدير: فالأمر أن له نار
جهنم، وقد سبق.
قوله: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) .
أي خاضوا فيه، فحذف الجار، ثم حذف الضمير.
الأخفش - وهو الغريب -: إن "الذي" هنا بمنزلة "مَا" المصدرية.
والتقدير: خضتم كخوضهم، ومن الغريب: خضتم كالذين خاضوا، فحذف النون.
العجيب: (الَّذِي) بمنزلة "مَنْ" فكما جاء من يستمعون بلفظ الجمع.
كذلك جاء الذي خاضوا بلفظ الجمع، وفيه بعد.
قوله: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ) .
مبتدأ، خبره (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) ، وقوله: (وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) عطف على (الْمُطَّوِّعِينَ) ، وقيل: مبتدأ خبره مضمر تقديره: " ومنهم
الذين يلمزون، وقوله: (فِي الصَّدَقَاتِ) متعلق بـ (يَلْمِزُونَ) ، ولا يتعلق
بـ (الْمُطَّوِّعِينَ) "، لأنهم وصفوا بقوله: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، واسم الفاعل إذا وصف لا يعمل.(1/460)
قوله: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ)
الصيغة صيغة الأمر والنهي، والمراد بهما الشرط تقديره، استغفر إن
شئت أو لا تستغفر إن شئت.
الغريب: الأمر والنهي واقعان موقع المصدر، أي استغفارك وترك
استغفارك سواء.
ومن الغريب: معناه، إنْ طلبت الاستغفار من الله لهم طلبك
المأمور به، أو تركت الاستغفار تركك المنهي عنه لم يغفر الله لهم.
قوله: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً)
لما نزلت هذه الآية قال - صلى الله عليه وسلم -: "لأزيدن على السبعين" فنزلت: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) .
الغريب: الغرض منه الكثرة لا العدد، كما تقول: فعلت هذا مائة مرة
وقلت: هذا ألف مرة.
الأزهري: سبعين جمع سبع الذي يراد به الكثرة.
لا الذي فوق ست ودون ثمان.
قوله: (خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ) .
بمعنى خلف، ونصبه على الظرف.
الغريب: (خِلَافَ) مصدر خالف، ونصبه على المصدر أو العلة.
قوله: (وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) .
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذا دُفِن ميت قام على قبره ودعا له، فنهي عن ذلك في حق المنافقين.
الغريب: القبر مصدر قبره، أي دفنه، والقيام من قام بالشيء إذا تولاه.(1/461)
قوله: (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) .
سؤال: لِمَ قال في هذه الآية: (وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) .
وفي الأخرى (وَطَبَعَ اللَّهُ) ؟
الجواب: لأن الآية التي تقدمت هذه مبدوءة بقوله: (وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ) ، بلفظ المجهول، والمنزل هو الله، فختم بمثله الآية التي بعدها
فقال: (وَطُبِعَ) بلفظ المجهول، والفاعل هو الله. وأما الآية الأخرى.
فأفعالها مسندة إلى الله صريحا، فختم الآية بمثله صريحاً.
قوله: (الْمُعَذِّرُونَ) .
يحتمل من الفعل وزنين، أحدهما: مفعل من التعذير، وهو التقصير في الاعتذار.
والثاني: مفتعل من الاعتذار، وهو طلب العذر من غير تصحيح، وهذا مدح، والأول ذم، ولهذا قال ابن عباس: لعن الله المعذرين، ذهب إلى أنه من التعذير، وقرىء (المعذرون) وهو من أعذر إذا أتى بعذر صحيح.
والعذر: سقوط اللوم بانتفاء التمكن.
قوله: (لِتَحْمِلَهُمْ) .
أي على الخفاف المرفوعة والنعال المدبوغة، وعن أبي هريرة، أنه
قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك: " أكثروا من النعال، فإن الرجل لا يزال راكباً ما كان منتعلَاَ".
تقول: حمله حملاً إذا أعطاه ما يركبه، وحمله حملاً إذا حمله على ظهره.(1/462)
(وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ)
سؤال: لمَ قال في هذه الآية على هذا النسق وزاد في الآية الأخرى
(وَالْمُؤْمِنُونَ) ، فقال: (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ) ؟
الجواب: لأن الآية الأولى خطاب للمنافقين، ونفاقهم لا يطلع عليه
غير الله وغير النبي، بإطلاع الله عليه.
والآية الثانية، خطاب للمؤمنين، وأولها: (اعملوا) أي الطاعات والعبادات والصدقات، وهذه يراها المؤمنون كما يراها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (ثُمَّ تُرَدُّونَ)
سؤال: لِمَ قال في هذه الآية: "ثُمَّ"، وقال في الأخرى: (وَسَتُرَدُّونَ) ؟ الجواب: لأن الأول وعيد و "ثُمَّ" للتاخير.
والثاني وعد، والسين أقرب إلى الحال من "ثُمَّ"، فوافق ما قبل الآية من قوله: (فَسَيَرَى) ، فقرب الثواب وبعد العقاب.
قوله: (لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا) .
أي لتعرضوا عنهم ولا توبخوهم، فأعرضوا عنهم ولا توبخوهم.
الغريب: طلبوا إعراض الصفح فأعطوا إعراض المقت.
قوله: (أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ) .
هذا الكلام تصديق من الله.
قوله: (وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) .
محل (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) جر بالعطف على (الْأَنْصَارِ) ، ويجوز أن يكون رفعا
عطف على قوله (وَالسَّابِقُونَ) .
ومن قرأ "والأنصار" - بالرفع - جعل (وَالَّذِينَ) رفع لا غير(1/463)
وكان عمر - رضي الله عنه - يقرأ: وَالْأَنْصَارُ - بالرفع - الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ.
بغير واو، فقال له زيد بن ثابت: (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ) ، فقال عمر: الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ.
قال زيد: أمر المؤمنين أعلم، فقال عمر: ائتوني بأبي بن كعب، فأتاه
فسأله، فقال أبى: (وَالَّذِينَ) ، فقال عمر: فنعم إذن.
قوله: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ) .
مبتدأ وخبره (مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا) ، أي قوم مردوا، فحدف
الموصوف وأقيمت الصفة مقامه.
الغريب: (مَرَدُوا) صفة لقوله: (مُنَافِقُونَ) وقد حيل بين الموصوف
والصفة بقوله: (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) ، والتقدير: وممن حولكم من الأعراب
ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق.
ويحتمل أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هم مردوا.
قال قتادة: أسرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى حذيفة - رضي الله عنه - اثني عشر رجلا من المنافقين لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، وقال: ستة منهم تقتلتهم الدُبَيْلة - خُراج من نار تأخذ في كتف أحدهم حتى تخرج من صدره، وكان عمر - رضي الله عنه - إذا مات رجل يظنه منهم، نظر إلى حذيفة، فإن صلى عليه اتبعه، قال حذيفة، قال لي عمر: أنشدك الله، أمنهم أنا، قلت: لا والله ما جعلك الله منهم.
قوله: (تُطَهِّرُهُمْ) .
إن جعلت التاء للتأنيث فالفعل صفة للصدقة، وإن جعلت التاء
للخطاب، فالفعل حال للمخاطب.(1/464)
قوله: (وَتُزَكِّيهِمْ) للخطاب، وقد حمل على الصدقة، وفيه بعد.
ويجوز أن يكون (تُطَهِّرُهُمْ) صفة للصدقة، (وَتُزَكِّيهِمْ) للمخاطب.
وقوله: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ)
إذا ماتوا خلاف من نُهيتَ عن الصلاة عليه بقوله: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا) .
قوله: (وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) أي يقبلها.
الغريب: نزل أخذُ النبي - صلى الله عليه وسلم - منزلة أخذِ الله، لأن ذلك بأمره.
قوله: (هَارٍ) .
في وزنه قولان: فالٍ: والأصل هاير، فقلب، وحذف العين.
والثاني: فَعُل كَـ بَابٍ، فعلى هذا يجري بالإعراب، وعلى الأول يبقَى على الكسرة.
قوله: (فَانْهَارَ بِهِ) أي انهار الشفا بالبناء، وقيل: انهار البناء بالباني.
عن جابر بن عبد الله، قال: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حين
انهار.
قوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا) .
قرئ بالواو وحذفه، فمن قرأ بالواو، جاز أن يكون عطفاً على ما
قبله من نحو قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ) ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ) .
(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) ، ومنهم (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) ، وجاز أن يكون
استئنافا، ومن قرأ بغير الواو فله أيضاً وجهان:
أحدهما: أن يكون كالأول، لكن الواو مقدر مع الخبر المحذوف، أي ومنهم الذين، كما أن الفاء مقدر مع الفعل في قوله: (كَفَرْتُمْ) أي فيقال لهم: أَكَفَرْتُمْ، وهذا(1/465)
غرب، حكاه أبو علي في الحجة.
والثاني: للاستئناف، إذا استأنفت به مع الواو، أو تحذف أشكل الخبر، فذهب أبو علي إلى أن الخبر مضمر.
قال: كما أضمر في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)
إلى قوله: (وَالْبَادِ) .
قال: والمعنى ينتقم منهم أو يعذبون.
الغريب: قال الفراء: خبره (لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) ، أي في مسجدهم.
وهذا لا يجوز عند البصريين، وقيل، خبره، (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ) .
العجيب: خبرهُ قوله: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ) ، لأن تقديره: "أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ" من هؤلاء أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ من الذين اتخذوا مسجداً.
قوله: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) .
القياس مذ أول يوم، لأن مذ للزمان.
الجواب من وجهين:
أحدهما: أن من للزمان وغيره، ومذ للزمان.
والثاني: تقديره: من بناء أول يوم.
قوله: (السَّائِحُونَ) .
هم الصائمون، - صلى الله عليه وسلم - "سياحة أمتي الصوم".
وكانت السياحة قبل الإسلام السير في الأرض.
وقيل: المجاهدون. قال - صلى الله عليه وسلم -: "سياحة امتي الجهاد".(1/466)
الغريب: عكرمة: السائحون هم طلاب العلم، وقيل: هم المهاجرون.
قوله: (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ)
في هذه الواو كلام.
ابن عيسى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يذكران معاً، وكان له بما قبله زيادة اختصاص، ثم استمر فقال: (وَالْحَافِظُونَ) .
الغريب: قال صاحب النظم: (التَّائِبُونَ) مبتدأ، وما بعده صفة له إلى
قوله: (السَّاجِدُونَ) .
وقوله: (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) خبر المبندأ، و (وَالنَّاهُونَ، وَالْحَافِظُونَ) عطف على الخبر.
العجيب: قال بعضهم: هو واو الثمانية، وهذا شيء لا يعرفه النحاة.
واستدل قائلوه بقوله: (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) وبقوله: (وَأَبْكَارًا) .
وزعموا أن الواو في قوله: (وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا) ، واو الثمانية، وهو
الدليل على أن أبواب الجنة ثمانية، ولهذا الكلام وجه، وإن كان
ضعيفا - وهو أن يقال: لما كان السبع من العدد مشتملا على جميع أوصاف
العدد من الزوج والمفرد وزوج الزوج وزوج المفرد، وانضم إليها الواحد
الذي هو مبدأ الأعداد وإن لم يكن هو من العدد في شيء، صار ما بعده
كالمستأنف فحسن دخول الواو عليه، وللآيات التي استدلوا بها وجوه تأتي
في مواضعها - إن شاء الله -.(1/467)
قوله: (وَعَدَهَا إِيَّاهُ) .
فاعل (وَعَدَ) أبو إبراهيمٍ وعده أن يؤمن به، وذهب بعض المفسرين إلى
أن قوله: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) ، استمهال ليفكر ويتأمل.
و"الهاء" في "وَعَدَهَا" المفعول الثاني تقدم، و (إِيَّاهُ) المفعول الأول تأخر.
الغريب: " الهاء" تعود إلى المصدر وتنتصب على المصدر أيضاً، ومن
الغريب: فاعل وعد إبراهيم - عليه السلام - وإياه أبوه بدليل قوله:
(سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) وقرىء في الشواذ "أباه".
قوله: (كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ) .
(قُلُوبُ) ترتفع بـ (كَادَ) ، أي كاد قلوب فريق منهم تزيغ.
وقيل: كاد الأمر والشأن وجاز إضمار الأمر مع كاد، لأن كاد يستدعي خبراً فصار كـ باب كان، والقلوب ترتفع بقوله (يَزِيغُ) .
الغريب: فاعل (كَادَ) مضمر إلى من تقدم ذكرهم.
العجيب: فاعل (كَادَ) قولُه (يَزِيغُ) تقديره أن يزيغ، وهذا بعيد.
وقول من قال، من قرأ "بالتاء" فلا يجوز ارتفاع قلوب بكاد، ضعيف، لأنه
وإن كان نصباً جائز.
قوله: (بِمَا رَحُبَتْ) .
"مَا" للمصدر، أي برحبها.(1/468)
قوله: (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) .
قيل: الطائفة، وقيل: بقية الفرقة.
الغريب: ليتفقه كلهم، لأنهم إذا رجعوا تعلموا ممن بقي فيصيروا
جميعاً فقهاء.
قوله: (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) .
الفراء: دعاء عليهم.
غيره: إخبار.
قوله: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) .
(عَزِيزٌ) صفة للرسول، "مَا" للمصدر، أي عنتكُم، وهو رفع بـ (عَزِيزٌ)
كما تقول، مررت برجل عزيز أخوه، ويجوز أن يرفع (مَا عَنِتُّمْ) بالابتداء.
(عَزِيزٌ) خبره، والجملة رفع صفة للرسول.
الغريب: (عَزِيزٌ) مبتدأ، (مَا عَنِتُّمْ) فاعله، وسد الفاعل مد الخبر
والجملة صفة للرسول، وهذا بعيد، لأن اسم الفاعل لا يعمل بديهة.
قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) .
يجوز أن يكون جملة مستأنفة، ويجوز أن يكون حالاً.
قوله: (جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ) .
في مصحف مكة (مِنْ تَحْتِهَا) وفي سائر المصاحف (تَحْتَهَا) .
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة (تَحْتَهَا) من غير (مِنْ) ، وفي سائر القرآن: (مِنْ تَحْتِهَا) بإثبات (مِنْ) ؟
الجواب: لأن (مِنْ) في قوله (مِنْ تَحْتِهَا) أفاد عند عامة المفسرين أن منابع الأنهار من تحت المنازل، وأن الجنات مبنية على أوائل الأنهار، ومبادىء الأنهار أشرف، وأوائلها في العادة أنظف مما بعدها.
فصارت الجنات إذا ذكر معها (مِنْ) أبلغ في الوصف من المطلقة المهملة.(1/469)
وعَامة ما جاء في القرآن قد تقدمها ذكر الأنبياء - عليهم السلام - إما صريحاً، وإما كناية، أو ما تقدمه وصف يصلح للأنبياء، أو كان ذكرها ضرباً للمثل فذكرت الجنات لمكانهم - صلوات الله عليهم - على أحسن وصف وأبلغ وصف، وما في هذه السورة مقطوع به أنه خلاف ما تقدم من صريح ذكر الأنبياء وكنايتهم، ولم يكن وصفاً يصلح لهم، لأنها نزلت في المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، وهو قوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) ، فلم يبالغ في ذكر الجنات
تلك المبالغة، - والله أعلم -.(1/470)
سورة يونس
قوله: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا) .
روي عن سهل، الوقف على (لِلنَّاسِ) ، ولعله جعل اسم كان مضمرا
في "كَانَ" وهو يعود إلى الكتاب أي أكان الكتاب الحكيم، أو مثله للناس.
وينتصب (عَجَبًا) ، على هذا بالمصدر، أي أتعجبون عجباً، والوجه ما عليه
جمهور المفسرين، وهو: أنَّ (أَنْ أَوْحَيْنَا) إلى قوله: (عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، في
محل رفع، رفع بكونه اسم كان، و (عَجَبًا نصب بأنه خبر كان و (أَنْ أَنْذِرِ)
نصبه (أَوْحَيْنَا) .
الغريب: قال صاحب النظم: " أَنْ" زائدة، و (أَوْحَيْنَا) معناه قلنا:
وقوله: (أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ) نصب ب (بَشِّرِ) .
والمشكل في الآية، إعراب (لِلنَّاسِ) ، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه صفة لقوله: (عَجَبًا) فانتصب على الحال، لأن صفة النكرة إذا تقدمت عليها انتصب على الحال.
قال:
لِمَيَّةَ موحِشاً طَلَلٌ. . . يَلُوح كأنَّه خِلَلُ.(1/471)
والثاني: أن يتعلق بكان كما يتعلق الظرف إذا قلت: كان زيد أباك عند
الناس، وكان عمرو غلامَك سنة كذا - والله أعلم -.
قوله: (قَدَمَ صِدْقٍ)
القدم بمعنى المقَدَّم، كالقبض بمعنى المقبوض والنقص بمعنى المنقوص، وهو ما قدمه الإنسان من خير أو شر.
و (صِدْقٍ) ها هنا يدل على المراد به الخير، وهو صفة له أضيف إليه، كمسجد الجامع، والصدق ها هنا بمعنى النفع والصلاح، لا ضد الكذب، وقيل: (قَدَمَ صِدْقٍ) هو السعادة، وقيل: المنزلة الرفيعة.
الغريب: شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم.
العجيب: هو استعارة كما تقول: له عندي يد ولك قدم عندي.
قوله: (مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) .
في اتصاله بما قبله كلام، فبعضهم ذهب إلى أنه متصل بالمعنى رداً
على من زعم أن الأصنام تشفع لهم عند الله، وقيل: معناه، خلق هذه
الأشياء من غير شفاعة شفيع.
الغريب: ابن بحر: خلق هذه الأشياء ولا حي معه، جمله مشتقا من
المشفع.
وقوله: (مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) أي خلقه.
ومن الغريب: يحتمل أنه متصل بقوله: (قَدَمَ صِدْقٍ) فيمن حمله على شفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويحتمل أيضاً فيه نية التأخير متصل بقوله: (وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ) ، - واله أعلم -.
قوله: (مَرْجِعُكُمْ) .
أي رجوعكم، مصدر جاء على مَفْعِل في الصحيح، وهو شاذ.(1/472)
الغريب: ابن عيسى: (مَرْجِعُكُمْ) موضع رجوعكم و "جَمِيعًا" نصب على
الحال من المضمر من قوله: (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) ، مصدران دل على فعليهما ما
قبلهما من وعد الله وعدًا وحقَّ حقًا.
قوله: (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً) .
إن حملت (جَعَلَ) على معنى الخلق، فـ ضِيَاءً) نصب على الحال.
وإن حملته على معنى "صير"، فهو المفعول الثاني، والتقدير فيهما: ذات
ضياء لأنه مصدر، محذوف المضاف.
الغريب: نزلت ذات الشمس منزلة الضياء لكثرته منها.
العجيب: ضياء جمع، والضياء والنور قريبان في المعنى، لكن الضياء
أبلغ في إزالة الظلمة كقوله: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ) ، (فَلَمَّا أَضَاءَتْ) .
قوله: (وَالْقَمَرَ نُورًا) فيه الأوجه الثلاثة.
والنور ما يُرى وُيرى به.
قوله: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ)
يعود إلى القمر، وخص بالمنازل لسرعة سيره وقطعه إياها في ثمانية وعشرين يوماً، ولأن أحكام الشرع منوطة بحساب القمر دون الشمس، ولأن منازل القمر مرئية مع القمر بالليل، بخلاف الشمس.
الغريب: تقديره: جعل الشمس ضياء وقدرها منازل والقمر نوراً وقدره
منازل، فاكتفى بذكر أحدهما، كما قيل:
نَحْن بما عندنا وأنْتَ بما عندك. . . راضٍ والرأيُ مُختلِفُ.
ومعنى قَدَّرَهُ، أي قدر له منازل، فحذف الجار.
الغريب: قَدَّرَهُ: يسير منازل فهي نصب على الظرف.(1/473)
العجيب: قدره منازل، أي جعل ذاته زائداً أو ناقصاً أخرى أو تاماً.
وعلى هذا يكون الضمير للقمر وحده.
قوله: (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)
يريد السنين والشهور والأسابيع والأيام، فاقتصر على ذكر السنين لاشتمالها عليها كلها.
و" الحساب" أي حساب المعاملات.
قال النحاس: من الغريب من يقرأ "وَالْحِسَابِ" - بالجر -.
الغريب: قال الأصمعي: سألت أبا عمرو، فقلت: عدد السنين
والحساب، بالجر أو بالنصب، فقال: بالنصب، ومن يعلم عدد الحساب إلا
الله.
قوله: (إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) .
أي في مجيء كل واحد منهما خلف الآخر، وقيل: في اختلاف ألوانهما.
الغريب: يخلف كل واحد منهما الآخر ويقوم مقامه.
قوله: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ) .
(اسْتِعْجَالَهُمْ) نصب بالمصدر، وفيها حذف بعد حذف، تقديره: لو
يعجل الله للناس الشر حين استعجلوه به استعجالا مثل استعجالهم بالخير.
فحذف الفعل والمصدر والمضاف.
وفي سبب نزوله قولان:
أحدهما: نزلت الآية في النضر بن الحارث حين استعجل العذاب، ومثله: (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ) ، وأمثاله، والقول(1/474)
الثاني: أن هذا عام فيمن يدعو على نفسه وأعِزَّتِهِ حالة ضجره وملاله ولا
يريد وقوع شيء منه.
قوله: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) .
تقدير الآية: دعانا مضطجعا، فالثلاث أحوال، وذو الحال مفسر في
دعانا، والعامل (مَسَّ) أي: (مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) دعانا.
قوله: (كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) ، أي استمر
على كفره معرضاً عن الشكر.
الغريب: مَرَّ كَأَنْ لَمْ يكن به ضرر، أي معافى، ثم لم يشكرنا عليه.
والمشكل في الآية: أن إذا للاستقبال.
وقوله: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ) للماضي، ووجهه أنه أتى بالماضي والمستقبل إعلاما أنه هكذا كان، وهكذا يكون، فدل كل لفظ منهما على زمان غير الأول، وقيل: هذه ألفاظ مثستقة من مصدر، وجاز وقوع كل واحد منهما موقع الآخر إذا لم يورث التباساً.
قوله: (وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ) .
أي لا أعلمكم الله، والدرية والدراية التأني والتحمل لعلم الشيء.
وداريت الرجل لايَنْته وختلته، والدرِية - فيمن لم يهمز - من هذا، وهو
الحمل الذي يستتر به الصائد.
الغريب: قال أبو علي: فعلى هذا لا يسوغ في وصف الله الداري.
قال: وقول الشاعر:
لا هُمَّ لا أدري وأنتَ الداري.
محمول على الازدواج، كقول الله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)(1/475)
أو هو محمول على جفاء الأعراب، فقد جاءت عنهم كلمات لا مساغ لها، منها: لا هُمَّ لا أدري.. البيت:
ومنها:
لاهُم إن كنتَ الذي بِعَهدي. . . ولم تغَيِّرْكَ الأمورُ بعدي
وكذلك قول الآخر:
لو خافكَ اللْهُ عليه حَرمه
وقرأ ابن كثير "وَلَأَدْرَاكُمْ بِهِ"، أي أعلمكم.
قوله: (لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ) ، أي أربعين سنة.
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) .
سؤال: لِمَ قدم الضر في هذه الآية على النفع، ونظيره في
الفرقان، (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ) قدم النفع
على الضر؟.
الجواب: أكثر ما جاء في القرآن من لفظي الضر والنفع معاً، جاء
بتقديم لفظ الضر على النفع، لأن العابد يعبد معبوده خوفاً من عقابه أولا ثم
طمعا في ثوابه ثانيا، يقويه قوله - سبحانه -: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا) : ثم انضاف إلى ذلك: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ)(1/476)
ثلاث مرات، وقوله: (ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) فازداد في
هذه السورة تقدم لفظ الضر وتأخره في قوله فقدم الضر على النفع حسنا في
قوله (مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ) بخلاف الفرقان، فإن فيها قد عَدَّ منافع
جمة في قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) ، وهلم جرا إلى
قوله: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ) ، وكذلك حيث
ما تقدم النفع على الضر، إنما تقدم لسابقة معنى تضمن نفعاً، وذلك في
القرآن في سبعة مواضع، ثلاثة منها بلفظ الاسم، وهي في الأعراف (نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) ومثله في الرعد وسبأ، وأربعة بلفظ الفعل في الأنعام: (مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا) ، وفي آخر يونس (مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ) .
وفي الأنبياء: (مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ)
وفي الفرفان: (مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ) .
وجميع ذلك لسابقة معنى تضمن نفعا فاعتبر بما في آخر
سورة يونس، وهو قوله: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا) ، ثم قال:
(وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ)
وفي الأنعام مقدمة قوله: (لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ) ثم قوله: (وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا)(1/477)
ثم وصله بقوله: (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا) .
وفي الأنبياء تقدم قوله حكاية عن الكفار حين خاطبوا إبراهيم
- عليه السلام - في مجادلته إياهم: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ) ، أي ما لا ينفعكم
بجواب في حل مشكل ما حَل بكم، ولا يضركم إن لم تعبدوه.
وما جاء بلفظ الاسم، فكذلك، أما سورة الأعراف، فقد تقدمه بآيات (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) فقدم الهداية على الضلال، ووقع بعد قوله (لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) ، فقدم الخير على السوء، وفي الرعد تقدمه طوعا أو كرهاً، فقدم الطوع على الكره، وفي سبأ، وقع قبله: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) ، فقدم البسط على القدر، وهو التضييق، فتدبر القرآن تجد فيه العجب - والله أعلم -.
قوله: (وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا)
إشارة إلى "مَا" وحمله على المعنى لأن "مَا"
هنا موحد في اللفظ جمع في المعنى ومثله مما حمل على اللفظ مرة وعلى المعنى أخرى قوله: (مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا)
ثم قال بعده: (وَلَا يَسْتَطِيعُونَ)
ومعنى (شُفَعَاؤُنَا) الحسن: شفعاؤنا في إصلاح أمر دنيانا، لأنهم لا يعتقدون بعثاً ولا نشورا.
عكرمة: نزلت في النضر بن الحارث، وكان يقول: إذا وقعت القيامة تشفع لي اللات والعزى.(1/478)
وقيل: معناه إن كان الأمر على ما تقولون أيها المؤمنون من أمر البعث والنثور فهؤلاء شفعاؤنا عند الله.
الغريب: قيل من الكفار من يعتقد البعث.
قوله: (بِمَا لَا يَعْلَمُ) أي بما ليس بالموجود، فنفى العلم لنفي المعلوم.
قوله: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ) .
"إذا" ظرف فيه معنى الشرط، ولا يجزم لغلبة الظرفية عليه، وقد جاء
في الشعر جازماً، قال:
واستَغْنِ ما أغناك ربُّك بالغِنى. . . تُصِبْكَ خَصَاصةٌ فَتَجَمَّلِ
وجوابه في الآية "إذا" الثانية في قوله: "إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ" أي مكَروا
ومثله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) أي قنطوا.
قوله: (بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ) .
(بَغْيُكُمْ) مبتدأ، (عَلَى أَنْفُسِكُمْ) خبره، والمعنى، وبال أمركم عليكم.
(مَتَاعَ) خبر ثان، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي ذلك متاع الحياة
الدنيا، ويجوز أن يكون من صلة المصدر، وهو (بَغْيُكُمْ) ، والمعنى، بغى
بعضكم على بعض، فجعلهم كنفسهم، كقوله: (فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ)
و (مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) خبره، ومن نصب (مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ، فعلى
المصدر، أي تمتعوا متاع، ويجوز أن ينتصب بالمفعول له، كما تقول:(1/479)
ضربي زيداً تأديباً له، جائز، ففي هذا القول على من صلة المصدر، لأنه لا
يحال بين المصدر ومعموله، ويكون الخبر محذوفاً تقديره مذموم أو مكروه.
الغريب: (مَتَاعَ) نصب على الظرف، أي مدة متاع، فحذف المضاف.
قوله: (مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ) .
ابن عيسى: في التشبيه والمشبه به ثلاثة أقوال:
أحدها: الحياة الدنيا بالنبات، والتقدير: مثل الحياة الدنيا كمثل حياة قوم بماء أنزلناه.
الثالث (1) : الحياة الدنيا بالماء فيما يكون به من الإمتاع ثم الانقطاع.
قوله: (فَاخْتَلَطَ بِهِ) أي بالماء اختلاط جوار، لأن الاختلاط تداخل
الأشياء بعضها في بعض.
الغريب: اختلاط يثبما نبات الأرض، أي امتدت وطالت ونمت.
قوله: (فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا) ، أي الأرض، وقيل: الغلة، وقيل: الزينة.
قوله: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي تقم، من قولك غنيت بمكان كذا.
والمغنى المكان والمنزل.
الغريب: هو من غَنِيَ بمعنى اكتفى.
ومن الغريب: مقاتل: تغن تنعم، أي كان لم تكن تلك الأرض بهذه الصفة.
قوله: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى) .
مصدر كالبشرى.
الغريب: هي تأنيث الأحسن، ومعناها الجنة.
(وَزِيَادَةٌ) هي النظر إلى وجه الله سبحانه.
العجيب: الحسنى جزاء حسناتهم، والزيادة: بالواحدة عشراً.
ومن الغريب: الحسنى عشر، والزيادة: تضعيف العشرات.
قوله: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا) .
(الَّذِينَ كَسَبُوا) مبتدأ، واختلفوا في الخبر، فذهب الفراء: إلى أن
__________
(1) لم يذكر الوجه الثاني، ويبدو أنه سقط من الناسخ. والله أعلم.(1/480)
التقدير لهم جَزَاءُ سَيِّئَةٍ.
قال الفراء: وإن شئت رفعت الجزاء بالباء.
وقيل: المصدر واقع موقع الفعل، أي نجازي سيئتهم بمثلها، والباء يتعلق به.
الغريب: (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) عطف على (كَسَبُوا) ، و (جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا)
اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، وجاز لأن فيه تشديد الكلام وباب
الاعتراض باب واسع.
(مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ) خبره.
ومن الغريب: يحتمل أن يكون (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ) في محل جر عطفاً على (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى) ، أي (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ) ، ثم قال: "لِلَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)
فيكون كل واحد من الأخير في مقابلة كل واحد من الأول، وتكون الباقي
بمثلها وزيادة، و (بِمِثْلِهَا) صفة لقوله: (جَزَاءُ سَيِّئَةٍ) ونظيره (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا - والله أعلم -.
قوله: (مُظْلِمًا) .
حال من الليل، فيمن قرأ (قِطَعًا) - بفتح الطاء. ومن سكنها جاز
أن يكون حالاً من الليل كالأول، وجاز أن يكون حالاً من الضمير الذي في
(مِنَ اللَّيْلِ) ، وهو يعود إلى قوله: (قِطَعًا) ، وجاز أن يكون صفة لقوله:
(قِطَعًا) ، وهو الظاهر.
قوله: (مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ) .
"مَكَانَكُ" كلمة تهديد عند العرب معناه انتظروا وهي من الأسماء التي
سميت الأفعال بها، وهي مبنية على الفتح، ولا محل لضمير المخاطبين من(1/481)
الإعراب، كـ باب ذلك وأولئك، وفيه ضمير مرفوع بكونه فاعلًا.
(أَنْتُمْ) تأكيد له، و (شُرَكَاؤُكُمْ) عطف عليه، كقوله (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) ، وليس (مَكَانَكُمْ) نصباً على الظرف، ولا (أَنْتُمْ) مرفوع بالابتداء كما زعم بعضهم.
قوله: (فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ)
هو من زِلْتُ الشيء عن الشيء أزيله، وليس من زال يزول، لأن زال يقنضي زَوَّلنا.
قوله: (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) .
"مِنَ السَّمَاءِ" منصوب متصل ب "يَرْزُقُكُمْ"، أي يرزقكم من
السماء المطر والأرضِ النبات.
وقيل: حال من الضمير المرفوع الذي في "يَرْزُقُكُمْ"، والعامل يرزق.
العجيب: صفة لـ (مَنْ) ومحله رفع.
قوله: (أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) .
محله نصب، أي بأنهم ولأنهم، فحذف الجار وتعدى الفعل إليه
الغريب: رفع على البدل من (كَلِمَتُ رَبِّكَ) .
قوله: (أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ) .
(أَنْ يُتَّبَعَ) رفع بالبدل من (مَنْ يَهْدِي) ، وقيل: رفع بالابتداء، (أَحَقُّ)
خبره، والجملة خبر عن (مَنْ يَهْدِي) ، ومثله: (أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، والتقدير
فيه: أحق من غيره.
وقوله: (لَا يَهِدِّي) أصله يهتدي، فسكن التاء وأدغم في الدال، فاجتمع ساكان، فحرك الهاء بالكسرة، ومنهم من تركه ساكناً، ومنهم من حركه بالفتح، ومنهم من قال، نقلت حركة التاء إلى الهاء، ومنهم من
كسر التاء موافقة لكسر الهاء.(1/482)
قوله: (فَمَا لَكُمْ) كلام تام مبتدأ وخبر.
قوله: (كَيْفَ تَحْكُمُونَ) كيف تتحكمون.
قوله: (بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) أي بسورةِ مثل سورةِ منه.
قوله: (مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) .
سؤال: لِمَ قال: "يَسْتَمِعُونَ" بلفظ الجمع، ثم قال: (مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ)
بلفظ الواحد؟
الجواب لأن المستمع إلى القرآن منزل منزلة المستمع إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلاف الناظر، وكان في المستمعين كثرة، فجمع ليطابق اللفظ المعنى، والناظرون لم يبلغوا مبلغهم في الكثرة فاقتصر على معنى الجمع لأن "مَنْ" صالح للجمع كما هو صالح للواحد، وقد جاء بمعنى التثنية أيضا في الشعر.
قال الشاعر:
تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتني لا تخونُني. . . نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبان
سؤال: لِمَ ختم قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) بقوله: (وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ) وختم (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ) بقوله: (وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ) ؟
الجواب، ذهب بعضهم إلى أن الله سبحانه جعل للسمع مزية على
العين والنظر، فقرن بذهاب السمع ذهاب العقل ولم يقرن بذهاب العين
والنظر إلا ذهاب البصر فحسب، واحتج هذا القائل بأن المولود إذا ولد أصم يكون مسلوب العقل قطعاً، وذهب بعضهم إلى أن قوله: (لَا يَعْقِلُونَ)
و (لَا يُبْصِرُونَ) سواء في المعنى، لأن يبصرون من البصيرة لا من البصر.
واختلفا اسثقالاً للتكرار.(1/483)
قوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) .
قوله: (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) حال، أي يحشر مستقصرين مدة لبثهم.
وقوله: (يَتَعَارَفُونَ) حال بعد حال.
وقيل: (يَتَعَارَفُونَ) يعرف بعضهم بعضاً في ذلك الوقت لم ننقطع المعرفة.
الغريب: يتعرف بعضهم من بعض مدة لبثهم في القبور.
العجيب: ((كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) صفة لـ (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) ، والتقدير.
(كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) قبله.
الغريب: (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا) صفة لمصدر محذوف أي حشرا (كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا)
قبله، والعامل في يوم (يَتَعَارَفُونَ) ، وقيل: اذكر.
قوله: (إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ) .
سؤال: لِمَ أخر "الفاء" في هذه الآية في هذه السورة، وفي سائر
القرآن (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً) فقدم "الفاء"؟
الجواب: لأن التقدير في هذه السورة فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ إذا جاء أجلهم، وكان هذا فيمن قتل ببدر، والمعنى: لم يستأخروا.
قوله: (إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا) .
شرط جوابه محذوف، أي هلكتم وندمتم.
قوله: (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ)
استفهام تعجب وإنكار
ومحل "مَا" رفع بالابتداء، و "ذا" بمعنى الذي، وهو رفع بالخبر.
وإن جعلت "مَاذَا" كلمة واحدة فمحله نصب بـ (يَسْتَعْجِلُ) .
وأجاز الزجاج، فيه الرفع قياسا على قراءة ابن عامر، (وَكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) ، وعلى قول الشاعر:(1/484)
وما كُلُّ ما يُروى عليَّ أقولُ
وقول. الآخر:
. . . . كلُّه لم أصنع
وكلاهما من أبيات الكتاب.
وذكر أبو علي في إصلاح الإغفال: أن الرفع فيه غير جائز.
قال وبابه الشعر.
قوله: (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) .
ابن عيسى: استفهام إنكار الفراء: استفهام تعظيم لأمر العذاب.
وقيل: تعجب.
الغريب: فيه إضمار، أي يقع العذاب فيؤمنون فيقال لهم: (أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ) .
ومن الغريب: فيه تقديم وتأخير تقديره: إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا.. أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ، و (آلْآنَ) نصب، وقوله: (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) اعتراض، وقوله: (إِذَا مَا وَقَعَ) شرط، والعامل فيه (وَقَعَ) .
الغريب: "مَا" زائدة، والعامل (آمَنْتُمْ) .
العجيب: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
سزال: لِمَ قال في هذه: (مَا فِي السَّمَاوَاتِ) ولم يقل (مَنْ) ، ولِمَ
قال: (وَالْأَرْضِ) ، ولم يقل (وَمَا في وَالْأَرْضِ) .(1/485)
وقال فيما بعدها (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ)
فذكر بلفظ (مَنْ) وكرر وقال بعدهما: (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ، فذكر بلفظ "مَا" وكرر؟.
الجواب: لأن في الآية الأولى عبارة عما يتملكه الإنسان من أنواع
الأموال بدليل قوله: (وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ) ، ثم قال: (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فلم يصلح (مَنْ) مكان (مَا) ، ولم يكرره كما كرر في الآيتين بعدهما، لأن ما قبله ينوب عنه ويدل عليه، وهو قوله: (لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ) .
فاكتفى بذكره عن تكراره، والذي في الآية الثانية عبارة عن قوم نالوا من
رسول الله - عليه السلام - وآذوه وتوعدوه، فأنزل الله عز وجل (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) أي سيمنحك الغلبة عليهم فتقهرهم، وكان اللائق بالآية (مَنْ) دون "مَا" وكرر (مَنْ) لأن المراد بالذي من في الأرض
لكونهم من جملتهم، فقدم ذكر من في السماوات تعظيماً للشأن، ثم
ذكرهم.
والذي في الآية الثالثة عبارة عن جميع الموجودات، لأن بعض
الكفار قالوا: اتخذ الله ولداً، فقال الله: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ، أي اتخاذ الولد إنما هو لدفع أذية أو جلب منفعة، والله مالك ما في
السموات وما في الأرض، فكان الموضع موضع "مَا" وكرر تأكيداً لأن ذكر ما لا يحتاج إلى ذكره لا يكون إلا لتأكيد أو إشارة معنى دقيق - والله أعلم.
قوله: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ) .
ابن عباس القرآن، (وَبِرَحْمَتِهِ) الإسلام.
الحسن: (بِفَضْلِ اللَّهِ) ، الإسلام وَبِرَحْمَتِهِ) القرآن.(1/486)
الغريب: أبو سعيد الخدري: (بِفَضْلِ اللَّهِ) القرآن، وَبِرَحْمَتِهِ) أن
جعلكم من أهله.
وما سبق من قوله (مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) صفة للقرآن بالإجماع.
وعن أنس عن النبي - عليه السلام - أنه قال: من هداه الله للإسلام وعلمه القرآن، ثم شكا الفاقة كتب اللهُ الفقرَ بين عينيه إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
قوله: (فَبِذَلِكَ)
قيل: بدل من قوله: (بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ)
وكان القياس فبذينك، ومثله (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) وقد سبق.
قال الشيخ: الغريب: يحتمل: قل بفضل الله وبرحمته جاءت، أي
الموعظة للآية.
قال الشيخ: ويحتمل أيضاً أن النبي - عليه السلام - أمر بأن يكثر التلفظ
بهذه الكلمات، أي بفضل الله نلت ما نلت وبرحمته أنال ما أنال.
العجيب: قل ها هنا أمر من قولك فلان يقول كذا ويقول فلان
بالسماع، أي يرتضيه ويعتقده، فيكون الباء متصلا بالقول - والله أعلم -.
قوله: (أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ) .
أي خلق، كقوله: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ) ، (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) .
والجمهور على أنه أنزِل المطر، فصار أصلاً لكل نبات، وصار النبات أصلا
لكل حيوان، فالكل مُنزَّلٌ من هذا الوجه.
الغريب: من المفسرين من أجراه على الظاهر، فقال كلها منزل.
إذ لا مانع من النزول، وسيأتي ذكر الحديد في موضعه.(1/487)
قوله: (وَمَا تَتْلُو مِنْهُ) .
أي من الله، وقيل: من الشأن، أي من أجله.
الغريب: الضمير يعود إلى القرآن، أي من القرآن.
(مِنْ قُرْآنٍ) أي بعضاً منه، فيكون (مِنْ) الأول لبيان الجنس.
والثاني للتبعيض.
قوله: (وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ) ، قرىء بالرفع والنصب
فمن رفع فله وجهان - أحدهما - العطف على محل (مِثْقَالِ) ، لأن (مِنْ) زائدة، والتقدير: ما يعزب عن ربك مثقال ذرة.
والثاني: الاستئناف، حكاه الزجاج.
وللنصب وجهان: أحدهما: العطف على لفظ (مِثْقَالِ) أو لفظ
(ذَرَّةٍ) ، لكنه فتح، لأنه لا ينصرف.
الثاني: وهو الغريب: أنه بني مع "لا" على الفتح، وما بعده الخبر، لأنه
لما جاز رفعه على الاستئناف جاز فتحه على التبرئة.
وقوله: (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)
مشكل على من عطف على اللفظ، أو على المحل، لأن ذلك يؤدي إلى إثبات العزوب في حق الله تعالى الله عن ذلك، ونظيره من الكلام ما يغيب عني زيد إلا في داره، فالغيبة ثابتة، ووجه ذلك أن يحمل الكلام على الاستئناف، أي ما ذلك كله إلا في كتاب مبين. قاله الشيخ الإمام.
وعلى الوجهين الآخرين ظاهر لا إشكال فيه.
قوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) .
نصب على البدل من أولياء الله، وقيل: على الصفة، وقيل: على
المدح بإضمار أعني، وقيل: رفع بالخبر، أي هم الذين.
وقيل: بالابتداء، و (لَهُمُ الْبُشْرَى) الخبر.(1/488)
العجيب: جعل صاحب النظم: (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
صفة لأولياء الله على تقدير: أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
ولا يجوز عند البصريين حذف الموصول وإقامة الصلة مقامه.
قوله: (وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ) .
"مَا" للاستفهام على وجه الإنكار، وهو نصباً (يَتَّبِعُ) ، و (شُرَكَاءَ) منصوب
بـ (يَدْعُونَ) ، وقيل: "مَا" نفي، و (شُرَكَاءَ) نصب كالأول.
ومفعول (يَتَّبِعُ) محذوف، أي ما تتبع علما إن يتبعون إلا الظن.
الغريب: "مَا" بمعنى الذي، والضمير محذوف، أي يتبعه، أو محله
نصب بالعطف على "مَنْ"، والمعنى: ألا إن لله من في السماوات ومن في
الأرض، والأصنام التي يتبعها الذين يدعون من دون الله شركاء.
العجيب: (شُرَكَاءَ) نصب ب (يَتَّبِعُ) ، أي ما يتبع في الحقيقة شركاء بل
يتبعون الظن، ومفعول (يَدْعُونَ) محذوف، وهو شركاء أيضاً، كما تقول:
شتمت وضربت زيداً.
قوله: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) .
أي مضيئا تقول: أبصر النهار، إذا أضاء.
الغريب: مبصراً فيه، كما تقول نهاره صائم وليله قائم، أي هو صائم
في النهار وقائم في الليل.
قوله: (لَا يُفْلِحُونَ) (مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا) . تمَّ الكلام
على (لَا يُفْلِحُونَ) ، ثم استأنف فقال: (مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا) ، أي لهم مهلة مدة بقائهم في الدنيا، (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) .(1/489)
قوله: (فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ) .
الظاهر أنه ليس يلفق لجواب الشرط، بل هو اعتراض بين الشرط
وجزاءه، والاعتراض قد يكون بالفاء، كما يكون بالواو، وجزاء الشرط قوله: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) .
قوله: (وَشُرَكَاءَكُمْ) في نصبه قولان:
أحدهما: بفعل مضمر، أي وأجمعوا شركاءكم، لأنك تقول: أجمعت الأمر وجمعت الشركاء أو ادعوا شركاءكم.
والثاني: أنه مفعول معه.
فإن قيل: إنما يصح المفعول معه حيث يصح العطف، والعطف هاهنا ممتنع؟. الجواب: ليس هو في تقدير العطف على أمركم، بل في تقدير العطف على الضمير في فأجمعوا، أي أجمعوا أنتم مع شركائكم أمركم.
قوله: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا) .
الضميران يعودان إلى قوله: "قَوْمِهِمْ"، ومعنى "مِنْ قَبْلُ" أي قبل مجيئهم، وقيل: الضمير في "لِيُؤْمِنُوا" يعود إلى "قَوْمِهِمْ" والضمير في "كَذَّبُوا" يعود إلى قوم نوح وهم المذكورون في قوله (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) .
وقوله: (مِنْ قَبْلُ) ، أي قبل مجيء هؤلاء.
قوله: (كَذَّبُوا بِهِ)
سؤال: لِمَ زاد ها هنا "بِهِ"، وقال في غيره (كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) ؟
الجواب: لما ذكر في أول القصة "فَكَذَّبُوهُ" بالهاء، كذلك جاء بالهاء
فيما بعدها، فقال: "بِهِ"، ولما ذكر في الأخرى بغير هاء، ذكر في آخره (بِمَا كَذَّبُوا) بغير "بِهِ" تطبيقاً للكلام وازدواجاً.
قوله: (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا) .
فيه إضمار تقديره: أتقولون للحق لما جاءكم سحر، ثم أنكر عليهم.
فقال: (أَسِحْرٌ هَذَا) : وقيل: الألف زيادة، "سحر هذا" محكي.
الغريب: هو استفهام تعجب على الحكايةِ.(1/490)
وقوله: (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) .
مبتدأ وخبر، والمعنى: الذي جئتم به السحر، لا ما قلتم إنه سحر.
ومن قرأ بالاستفهام فعنده السحر بدل من "مَا"، أي السحر جئتم به، فحذف لأن الأول يدل عليه.
قوله: (مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ) .
قيل: إن فرعون كان جباراً فأخبر عنه بلفظ الجمع، وقيل: كان لفرعون
جنود وأتباع، فقام ذكره مقام ذكر جنوده.
وقيل: يعود إلى الذرية، أي على خوف من فرعون ومن ملأ الذرية، أي آباؤهم، لأن آباءهم كانوا من قبط، وأمهاتهم كن من بني إسرائيل.
وقيل: يعود إلى قومه.
الغريب: جعل كل واحد من قوم فرعون فرعونًا فصار كقوله: (إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا) .
العجيب: أراد على خوف من آل فرعون وملائهم، فيعود إلى آل، وهو
ضعيف، لا يجوز: زيد جاءت وأنت تريد جارية زيد، ولا هند جاء وأنت
تريد غلام هند.
وقوله: (أَنْ يَفْتِنَهُمْ) بدل من (فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ) .
مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ
الغريب: نصب بقوله: "خَوْفٍ".
قوله: (أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا) .
قال أبو علي في الحجة: تَبَوَّأ مقعد مثل بَوَّأ، ومثله: علقته
وتعلقته، وقطعته وتقطعته وخلصته وتخلصته.
قال: واللام زائدة كما في(1/491)
قوله: (رَدِفَ لَكُمْ) .
غيره: بوأت لنفسي منزلا، وتبوأت لغيري منزلا.
قوله: (بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي مساجد تصلون فيها.
الغريب: سعيد بن جبير: اجعلوا بيوتكم تقابل بعضها بعضاً.
قوله: (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) .
قيل: "اللام " لام كي، والاستفهام مقدر في أول الكلام تقديره: إنك
آتيت، وقيل: اللام لام العاقبة والصيرورة، كقوله: (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) .
الغريب: اللام لام الأمر على وجه الدعاء عليهم.
العجيب: "لا" مضمر أي لئلا يضلوا عن سبيلك.
قوله: (فَلَا يُؤْمِنُوا)
الوجه، أن يجعل عطفاً على ليضلوا، أي ليضلوا فلا يؤمنوا.
وما ذكر فيه سوى هذا القول ضعيف.
قال بعضهم: نصب على جواب الأمر.
وقيل: دعاء عليهم، أي، لا آمنوا.
صاحب النظم - وهو الغريب -: أراد أن يؤمنوا، فقلب النون ألفاَّ.
العجيب: أراد فلا يؤمنون، فحذف النون، وهذان القولان ضعيفان
بعيدان.
قوله: (وَلَا تَتَّبِعَانِّ) .
من شدد النون فقراءته محمولة على النهي، والنون المشدد نون
التأكيد، ومن قرأ بالتخفيف، فله وجهان:
أحدهما: أن النون نون علامة(1/492)
الرفع، والفعل هي ومحل الجملة نصب على الحال، ويجوز أن يكون عملها
رفعا على الخبر، والمبتدأ مضمر تقديره: وأنتما لا تتبعان، ومثله: (فَلَا تَنْسَى) ، في الأعلى.
والثاني - وهو الغريب -: أن النون هي النون المخففة التي تدخل
للتأكيد، وهذا على مذهب يونس جائز، ويقوي هذا القول ما روي عن
ابن عباس: أنه كان يقف عليه، ولا تتبعا من غير نون، ويروى عنه
أيضاً: - وهو العجيب -: أنه كان يقف عليه بهمزة ما قبلها ألف كوقوفك على الكساء والرداء وهؤلاء.
قوله: (آلْآنَ) .
ظرف، والعامل فيه مضمر، تقديره، أتؤمن الآن، وكذلك الحرف
الذي قبله.
قوله: (نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) .
الجمهور نلقيك على نجوة، وهو المكان المرتفع عن مؤذيات الأرض.
وقيل: ننجيك ببدنك، نلقيك في البحر من النجا مقصورا، وهو ما سلخته
من الشاة، أو ألقيته عن نفسك من الثياب، وقيل: نتركك حتى تعرف.
والنجا: الترك، وقيل، نغرقك، من قولهم: أنجى إذا غرق، حكاه الأزهري، وقيل: من النجا الذي معناه الإسراع يمد ويقصر.
ومنه، قول العرب: النجاء النجاء، بالمد والقصر.
وقيل: نجعلك علامة، والنجاء: العلامة ممدود.
الغريب: من النجاة، والاستفهام مقدر عطفاً على الاستفهام قبله.(1/493)
وقوله: (بِبَدَنِكَ) ، قيل: بدرعك، وقيل: ببدنك، أي عرياناً.
وقيل: (بِبَدَنِكَ) ، معناه فريداً، كقوله: (جِئْتُمُونَا فُرَادَى) .
الغريب: (بِبَدَنِكَ) تأكيد، كما تقول: بلسانك، قال بلسانه، وخرج بنفسه.
قوله: (لِمَنْ خَلْفَكَ) ، أي في طول الزمان، وقيل: لمن تأخر
من قومك.
الغريب: (لِمَنْ خَلْقَكَ) وهو الله عز وجل.
قوله (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) .
فيه أقاويل بعضهم: خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد به غيره كقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) ، وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) .
وفيه نظر، لأن النبي - عليه السلام - كان مأمورا بالتقوى كغيره، وحكمه في الطلاق حكم سائر المؤمنين، ولم يكن - عليه السلام - شاكاً فيما أنزل
إليه.
وقيل: "إن" ها هنا بمعنى "مَا" النفي، وفيه نظر أيضاً لأن ما بعده لا يكاد
ينبني عليه.
وقيل: هذا تبكيت للشاكين، كقوله لعيسى - عليه السلام -
(أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ) .
وقيل: (فِي شَكٍّ) ، في ضيق صدر، أي إن ضقت به ذرعاً فاصبر واسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك كيف صبر الأنبياء.
وقيل: هذا كقول الرجل لعبده: إن كنت عبدي فافعل كذا، وإن كنت ابني فلا تفعل كذا - قاله الفراء في جماعة، وفيه ضعيف.(1/494)
لأن العبودية، والبُنُوة ثابتتان فيبقى الشك ثابتاً في الآية.
ووجه الآية: أن يقال: هذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - بإضمار قل، وتقديره: قل للشاك في دينه:
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) ، ويكون قوله: (مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) كقوله: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ) ، ويكون قوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .
حجة له، فإن النبي - عليه السلام أعز وأجل قدراً عند الله من أن يخاطبه بمثل هذا الخطاب - والله أعلم -.
قال الشيخ: قوله: (كَذَلِكَ حَقًّا) .
يجوز أن ينتصب كذلك ب (نُنَجِّي رُسُلَنَا) ، ويجوز أن ينتصب (كَذَلِكَ)
بالأول، و (حَقًّا) بالثاني، ولا يجوز أن ينتصبا بالمصدر، لأن الفعل الواحد لا
يكون له مصدران.
قوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ)
يمتنع من حيث الظاهر أن يعطف، (وَأَنْ أَقِمْ) على (أَكُونَ) .
والوجه: أن يضمر القول، لأن الكلام يدل عليه، أي، وقيل لي أقم وجهك.
الغريب: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ) ، وأوحي إلى أن أقم.
سؤال: لِمَ قيل في هذه السورة: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) .
وفي النمل: (مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ؟
الجواب: لموافقة ما قبلها في السورتين.
أما يونس، فقبلها (نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) ، وأما النمل، فقبلها (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) .(1/495)
وقوله في هذه السورة: (إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ)
استثناء منقطع، أي لكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا.
ويجوز أن ينتصب على أصل الاستثناء، كقراءة ابن عامر (مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلاً) .(1/496)
سورة هود
قوله تعالى: (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) .
أي أحكمت فلا تنسخ كما نسخت التوراة وسائر الكتب المتقدمة.
وقيل: أحكمت آيات هذه السورة، فليس فيها منسوخ.
وقيل: أحكمت بالحجج والدلائل.
الغريب: أحكمت باللفظ الرصين والنظم العجيب والمعنى البديع.
قوله: (ثُمَّ فُصِّلَتْ)
ابن عباس: بينت بالحلال والحرام.
مجاهد: (فُصِّلَتْ) : فسرت.
الغريب: (فُصِّلَتْ) ، أنزلت فصلاً فصلاً.
ومن الغريب: الحسن: أحكمت بالأمر والنهي ثم فصلت بالوعد والوعيد والثواب والعقاب.
ومحل (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ)
رفع صفة لقوله: (كِتَابٌ) .
وقوله: (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)
محله رفع بالصفة أيضاً، ويجوز أن يرتفع بخبر مبتدأ آخر، أي
هو من لدن حكيم.
قوله: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) .
محله نصب بنزع الخافض وتعدى الفعل إليه.
وعند الخليل: خفض، أي فصلت بأن.(1/497)
الغريب: رفع، أي هو أن، ومن الغريب: "أنْ" هي المفسرة، بمعنى أي.
وقوله: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا)
عطف عليه بالإجماع.
قوله: (إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) .
اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه، والتقدير: أن لا تعبدوا إلّاَ
الله وأن استغفروا، والقول مضمر.
قوله: (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) .
أخر التوبة وحقها التقديم على الاستغفار، لأن المعنى: اطلبوا المغفرة
وتوصلوا إلى مطلوبكم بالتوبة والمغفرة، وأول في الطلب آخر في السبب.
الغريب: استغفروا عما مضى ثم توبوا إليه في المستأنف.
قوله: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) ، أي كل ذي حسنة جزاءَ حسنتهِ.
والهاء تعود إلى الكل.
الغريب: "الهاء" تعود إلى الله.
الزجاج: من كان ذا فضل في دينه فضله الله في الدنيا بالمنزلة، كفضل
أصحاب النبي - عليه السلام -، وفي الآخرة بالثواب الجزيل.
قوله: (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) .
أي يطوونها ويعطفونها على الكفر وعداوة محمد - عليه السلام -.
وعلى حديث النفس.
الغريب: معنى (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) ولّوا ظهورهم.
قوله: (لِيَبْلُوَكُمْ) .
لا يكاد يتصل بقوله: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ) ، ولا بقوله: (وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) ، بل هو متصل بقوله: (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(1/498)
فيصير (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) ، اعتراض بينهما من غير معناهما. حكاه صاحب النظم.
قوله: (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، أي إحياء الموتى سحر، وقيل: باطل.
وقيل: السحر ها هنا بمعنى الخداع.
قوله: (لَيْسَ مَصْرُوفًا) .
أي ليس العذاب مَصْرُوفًا.
الغريب: ليس اليوم مَصْرُوفًا.
قوله: (وَحَاقَ بِهِمْ) أي يحيق، وقع الماضي موقع المستقبل.
قوله: (بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) .
أي مثل سوره، فحذف المضاف.
وعشر سور، هو من البقرة إلى سورة هود، وهي العاشرة.
وقيل: من الفاتحة إلى أول هود، فيكون إشارة إلى ما قبلها.
الغريب: قال الشيخ: يحتمل أن المراد بـ (عَشْرِ سُوَرٍ) الكثرة، كما
تقول، قد قلت لك عشر مرات، ولعلك لم تقل له إلا ثلاث مرات أو أربعاً.
قوله: (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ) .
كان القياس: وفينا، لأن الماضي مع الماضي، والمستقبل مع
المستقبل في باب الشرط أحسن.
والوجه في الآية: أن تجعل كان زائدة، فيصير التقدير: ومَنْ يرد نوف.
قوله: (وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) .
(مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) رفع بالابتداء، (بَاطِلٌ) خبره تقدم عليه.
الغريب: (بَاطِلٌ) رفع بالابتداء، (مَا كَانُوا) رفع بالفاعل. قاله
الأخفش، وعند سيبويه لا يعمل اسم الفاعل على عمل الفعل بغتة.(1/499)
العجيب: قول من قال (وَبَاطِلٌ) رفع بالابتداء (مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) خبره، لأن
النكرة بالخبر أولى.
قوله: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) .
مِنْهُ) محمد - صلى الله عليه وسلم -، "بَيِّنَةٍ"، القرآن.
"شَاهِدٌ" جبريل، ومحمد "يَتْلُوهُ":
يقرأه من الله، وهذا قول الجمهور.
وقيل: "يَتْلُوهُ" بتبعه، "شَاهِدٌ" ملك يحفظه.
الغريب: الحسن: "شَاهِدٌ مِنْهُ" لسان محمد - عليه السلام -، ومعنى
"يَتْلُوهُ": يقرأه.
العجيب: (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) ، أي يتبع محمداً - عليه السلام -.
علي بن سليمان: عليٌّ بن أبي طالب. حكاه الثعلبي.
وعن ابن الحنفية: قال: قلت لأبي، أي لعلي - رضي الله عنه - أنت التالي، قال: وما تعني بالتالي، قلت: قوله (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) .
قال: وددت أني هو، ولكنه لسان النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعن الحسن بن علي - رضي الله عنهما -: (مَنْ كَانَ) ، هو المؤمن.
(عَلَى بَيِّنَةٍ) ، بيان من دينه وبصيره، (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) .
ويشهد له محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة، من قوله: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا) .
ومن العجيب: (شَاهِدٌ مِنْهُ) أبو بكر - رضي الله عنه -، حكاه
محمد بن الهيضم في تفسيره.
وقيل: (شَاهِدٌ مِنْهُ) الإنجيل.
وقيل: (مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ) بيان وبصيرة، (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ) عقله.(1/500)
قوله: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى)
عطف على الشاهد، وقد حيل بين الواو وببنه بالظرف.
ومثله (وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) ".
وتقدير الآية: أفمن كان بهذه الصفة كمن هو بضدها، فحذف.
قال الشيخ: الغريب: يحتمل أن الألف زيادة، فيكون من كان مبتدأ
أولئك خبره.
قوله: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) .
الهاء تعود إلى محمد - عليه السلام -، وقيل: إلى القرآن، أي ومن يكفر به من اليهود والنصارى وسائر الملل فالنار موعده، بخلاف مذهب أحمد بن حمدان الهروي - وهو العجيب -: زعم أن الكفار في الحقيقة هم الدهرية، وأما اليهود والنصارى وسائر أصناف الكفرة فليسوا بكفار حقيقة، ومنزلتهم منزلة المبتدعة ينجيهم الله يوماً من النار، حكى مذهبه محمد بن الهيضم وغيره من المتكلمين.
قوله: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) .
"مَا" للنفي، أي ثقل عليهم سماع الحق وإبصاره.
الغريب: أي بمَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، فلم يسمعوا وبما كانوا
يبصرون الحق فلم يبصروا.
العجيب: يريد به الآلهة.
قوله: (لَا جَرَمَ) .
في "لا" قولان، وفي "جَرَمَ" قولان:
قال بعضهم "لا" نفي و "جَرَمَ" اسم ركبا، كما تقول: لا بد ولا محالة ومعناه: حق، ومحله رفع بالابتداء وأن مع ما بعده في محل رفع بالجر.
والثاني: "لا" رد للكلام السابق زيد ليعلم أن المخاطب مجيب لا مبتدىء، وجرم فعل ماض وفي معناه ثلاثة أقوال:(1/501)
أحدها: معناه: كسب، ومنه الجارم للكاسب، والفاعل مضمر، أي جرم
قولهم وفعلهم لهم النار.
قال الشاعر:
ولقد طَعَنْتُ أبا عُيَيْنَة طعنَةً. . . جَرَمَتْ فَزارةُ بعدها أن يَغْضَبوا
وقيل: معناه وجب، (وأن لهم النار) فاعِلُه، وقيل: معناه قطع، ولا
لنفي الفعل، أي لا قطع عن ذلك.
سؤال: لم ختم هذه الآية بقوله: (هُمُ الْأَخْسَرُونَ) ، وختم ما في النحل بقوله: (هُمُ الْخَاسِرُونَ) ؟
الجواب: هؤلاء قوم وصفوا بفعلين كل واحد منهما موجب
للخسران، وهو أنهم صدوا وصدوا غيرهم، ولهذا قال يضاعف لهم العذاب، وليس كذلك ما في النحل، لأنهم وصفوا بفعل واحد، وهو قوله: (اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ) .
قال الخطيب: إنما جمع ها هنا على الأخسرين مراعاة لما قبلهما من الفواصل وهي يفترون ويبصرون وليس معها ألف، وما في النحل معها ألف وهو الكافرون والغافلون.
قوله: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ) .
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ
أي مثل الأعمى والأصم وله تقديران:
أحدهما: كمثل الذي يجمع عماه إلى صممه، والذي يجمع سمعه إلى بصره، فيكون الواو لعطف الصفة على الصفة.
والثاني: كمثل الأعمى والبصير والأصم والسميع، وليسا بضدين
لهما، لأنه لا تعاقب بينهما.(1/502)
قوله: (وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ) .
أي لربهم، وبين اللام وبين إلى قربة، وقيل: وأخبتوا قاصدين إلى
ربهم.
العجيب، "إلى" بمعنى "مِن" أي أخبتوا من خوف ربهم.
قوله: (أَرَاذِلُنَا) .
جمع أرذل وهم الناقصو الأقدار.
الغريب: ابن عيسى: جمع أرذُل بصم الذال، أصله رذل، جمع على
أرذل، ثم جمع على أرذال، لأن أفعل يقتضي المشاركة أولاً ثم الزيادة، ولم
يقصدوا هذا المعنى.
قوله: (بَادِيَ الرَّأْيِ)
أول الرأي، فيمن يهمز، وظاهر الرأي، فيمن لم يهمز.
ونصبه على الظرف، والمعنى: اتبعوك أول رأيهم، وظاهر رأيهم
من غير تفكر وتأمل، وهم يرجعون عنك عند التدبر والتفكر.
والعامل في الظرف (اتَّبَعَكَ) ، وجاز أن يعمل في الظرف، وإن وقع بعد إلا، ولم يمتنع كما يمتنع ما أعطيت إلا زيداً ثوباً، لأن الظرف يعمل فيه معنى الفعل، وإن بعد، وقيل: تقديره: ما نراك بادي رأينا، فيكون نصباً على المصدر، كما تقول: ضربته أول الضرب، وهذا بعيد، لا يجوز: ما ضربت أحداً إلا زيدا ضرباً شديداً، لأن ما بعد إلا لا يعمل فيه، ما قبله، ولا هو يعمل فيما قبل إلا، وقيل: حال (من نوح) ، والعامل أحد الفعلين اللذين تقدما، والحال قريب من الظرف في عمل المعنى فيه.
الغريب: نصب على النداء، أي يا بادي الراي، أي ما في نفسك ظاهر لكل أحد، قالوه: تعجيزاً.(1/503)
العجيب: حال من الأراذل، أي أول ما نراهم نزدريهم.
والعامل فيه معنى الفعل الذي في الأرذال، وإذا جعلته حالاً قدرت فيه التنوين وحملته على معنى المستقبل.
قوله: (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي خفيت.
الغريب: ابن عيسى: فعميتم عنها، وهو من المقلوب، كما تقول
أدخلت الخاتم في الأصبع.
قوله: (وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) .
عطف على القول لا على المقول.
قوله: (إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) .
لا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم، ومثله: إن دخلت الدار.
إن كلمت فلانا فأنت طالق فدخلت وكلمت لا يقع الطلاق، فإن كلمت
ودخلت وقع الطلاق.
قوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) .
اعتراض فيما بين قصة نوح عند الجمهور.
الغريب: ابن عباس: يعود إلى نوح، وفيها إضمار، أي وقلنا لنوح
(قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) .
قوله: (بِأَعْيُنِنَا) .
عبارة عن الرؤية، أي بحيث نراك، وقيل: بعلمنا.
الغريب: بأعين أوليائنا، فحذف المضاف.(1/504)
العجيب: هي جمع عين الماء، أي في أعيننا.
قوله: (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) أي جعل يصنع.
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) .
إن حملته على معنى الذي، فمحله نصب، كقوله: (يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) .
وإن حملته على الاستفهام فمحله رفع بالابتداء، "يَأْتِيهِ" خبره، والعلم معلق.
قوله: (وَفَارَ التَّنُّورُ) .
ابن عباس: وجه الأرض، والجمهور على أنه تنور الخبز.
الغريب: علي - رضي الله عنه -: طلوع الفجر
ومن الغريب: قتادة: التَّنُّورُ: أشرف موضع في الأرض.
العجيب: التَّنُّورُ: عبارة عن اشتداد الأمر وصعوبته، كما قال - عليه
السلام -: "حمى الرطيس" - حين اشتدت الحرب -.
قوله: (وَأَهْلَكَ)
أهل الرجل: امرأته وأولاده وأتباعه.
الغريب: (وَأَهْلَكَ) ها هنا فعل ماض، أي أهلكهم، إلا من سبق القول
بنجاته، والقول عند الجمهور هو المقول.
وفي الغريب: القول ها هنا: الوعيد.(1/505)
قوله: (وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) .
"الباء" في "بِسْمِ اللَّهِ" باء الحال، كما تقول: خرج بثيابه وسلاحه
أي متسلحاً، ومثله (وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) ، فيصير تقدير
الآية: اركبوا متبركين بسم الله، وذو الحال واو الضمير.
والعامل: "ارْكَبُوا"، وقوله: (مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) ، ظرفا زمان، أي وقت جريها ورسوها، والعامل في الظرف متبركين، وتقديره: اركبوا الشأن متبركين بسم الله في الوقتين، ولا يمتنع أن يعمل في الظرف "ارْكَبُوا"، لأن السفينة لا تخلو من أحد هذين الحالين.
وأنكر أبو علي هذا الوجه، ويجوز أن يرتفع (مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا)
بالابتداء، و "بِسْمِ اللَّهِ" بالخبر، أو يرتفعا بالظرف، فيكون على هذا حالاً من هاء الضمير في قوله: "فيها" وعلى هذا لا يجوز أن يكون حالاً من واو
الضمير، لخلو الجملة من ضمير يعود إلى ذي الحال.
قوله: (فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) .
أي في ماء ذي موج، لأن الموج حركة الماء الكثير بدخول الرياح
الشديدة في خلاله.
قوله: (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ)
جل المفسرين على أنه ولده لصلبه.
وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: " لم يكن ابنه، وإنما كان ابنَ امرأتِه ".
وكان يقرأ "ابنها" وجاء في الشاذ: "ابنهَ" - بفتح الهاء من غير إشباع - يريد
ابنها.
العجيب: الحسن: لم يكن لرشدة: وهذا مرغوب عنه، لأن المفسرين
عن آخرهم فسروا قوله (فَخَانَتَاهُمَا) في الدين لا في الفرج، ولعل
لقول الحسن وجها خفيا.(1/506)
قوله: (لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) .
في الاستثناء قولان:
أحدهما: أنه منقطع، لأن من رحم معصوم، والمفعول ليس من جنس الفاعل، ومحل "مَن" نصب.
والثاني: متصل تقديره: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا الله، ومحل "مَن" رفع - وهو الغريب -.
وقيل: (مَنْ رَحِمَ) نوح، وقيل: (لَا عَاصِمَ) بمعنى لا ذا عصمة إلا من رحم الله.
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ
العجيب: (لَا عَاصِمَ) بمعنى لا معصوم، وهو قول الكوفيين.
و"الْيَوْمَ" منصوب بمن، وإن تقدم عليه، ولا ينتصب بالمصدر ولا
بعاصم ولا بالخبر.
قوله: (بَيْنَهُمَا) ، بين نوح - عليه السلام - وابنه، والظاهر بين ابن
نوح والجبل، من قوله: (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي) .
قوله: (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ) .
أجمع المعاندون علماً أن طوق البشر قاصر على الإتيان بمثل هذه الآية
بعد أن فتشوا جميع كلام العرب والعجم فلم يجدوا مثلها في فخامة ألفاظها
وحسن نظمها وجودة معانيها، في تصوير الحال مع الإيجاز من غير إخلال.
قوله: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) .
"الهاء" تعود إلى الابن، أي ذو عمل.
الغريب: جعل عملاً غير صالح لكثرة وقوعه منه.
ومن الغريب: أن سؤالك غَيْرُ صَالِحٍ، أي إذا عرفت كفره.
وقيل: عمل غير صالح، بعد قولك
(رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) .(1/507)
قوله: (مِنَ الْجَاهِلِينَ)
كراهة أن تكون، ولأن لا تكون من الجاهلين بوعدي لك.
الغريب: (مِنَ الْجَاهِلِينَ) بنسبك، وهذا قريب من قول الحسن.
قوله: (وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) .
أي يلدون ممن معك، وأمم يلدون ممن معك سنمتعهم قسمين.
قوله: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) .
أي وأرسلنا، وقيل: هو عطف على قوله: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا) .
قوله: (عَنْ قَوْلِكَ) أي عن هذه الجهة.
(إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
أي يثيب المحسن ويعاقب المسيء.
الغريب: هو بمنزلة قولك: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) .
العجيب: إن ربي يحملكم على صراطٍ مستقيم.
قوله: (فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
أي ولعنة يوم القيامة، فحذف المضاف.
الغريب: هو عطف على محل في هذه الدنيا، كما قال:
إذا ما تلاقينا من اليومِ أو غدا(1/508)
قوله: (أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) .
أي أَنْشَأَ أباكم وولده تبع له.
وقيل: من بمعنى في - وهو غريب -.
وقيل: أَنْشَأَكُمْ بين نبات الأرض - وهو عجيب.
قوله: (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا)
أي أعانكم، وقيل: جاء أفعل واستفعل بمعنى، نحو: أهلك واستهلك، وأغواه واستغواه، وقيل: جعلكم عُمَّارها.
الغريب: مجاهد هو من العمرى، تقول: أعمرت فلاناً دارا إذا
جعلتها له مدة عمره.
قوله: (قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا) .
أي كنا نرجو أن تكون لنا سيدا.
وقيل: كنا نرجو أن تعود إلى ما نحن فيه، لأنه كان قبل ذلك لا يعبد الأصنام، ولا ينهاهم عن العبادة.
الغريب: (مَرْجُوًّا) ، أي حقيراً.
العجيب: قال الماوردي: هو من الإرجاء، وهو سهو.
قوله: (وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة (وَإِنَّنَا) بنونين.
وقال في سورة إبراهيم: (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا) بنون واحدة؟
الجواب: في هذه السورة جاء على الأصل، وفي إبراهيم جاء
على التخفيف استثقالا للجمع بين النونات، وهو: إننا وتدعوننا وتدعونا، في هذه السورة خطاب لصالح، وفي إبراهيم لجماعة الرسل.
قوله: (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ) .
(أَرَأَيْتُمْ) معلق، لأن باب الظن يعلق عن الشرط كما يعلق عن
الاستفهام، و "مَا" النفي، واللام.(1/509)
قوله: (فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ)
ابن عباس: بعبارة في خسرانكم، وقيل: فما تزيدونني باحتجاجكم بقولكم: (أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) ، غير تخسير بنسبتي إياكم إلى الخسران، تقول: خسّرته كما تقول: فسقته وزنيته نسبته إلى الفسق والزنا.
وقيل: ما تزدادون إلا خسارا، فنسبته إلى نفسه، لأنهم أعطوه ذلك منهم، وكان يسألهم إيمانهم.
وقيل: إن أجبتكم إلى ما تدعونني إليه كنت بمنزلة من يزداد الخسران.
الغريب: ما تزيدونني على ما أنا عندكم إلا تخسيراً.
العجيب: ابن بحر: أي إن انتصرت بكم لم تزيدونني إلا خساراً
وهذا حسن في مقابلة قوله: (فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ) .
قوله: (هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً) .
نصب على الحال، والعامل فيها من التنبيه، أو ما في "ذا" من
الإشارة.
قوله: (غَيْرُ مَكْذُوبٍ) أي مكذوب فيه.
الغريب: (مَكْذُوبٍ) مصدر، أي كذب.
قوله: (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) .
الغريب: (وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ) نجبناه.
العجيب: الواو زائدة.
قوله: (يَوْمِئِذٍ) من جره جعله مضافاً إليه، ومن فتحه قال: المضاف
يكتسي من المضاف إليه: كسوته من التعريف والتنكير والإعراب والبناء،(1/510)
قوله: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) .
سؤال: لِمَ قال هنا: (وَأَخَذَ) ، وقال بعدها: "وَأَخَذَت"؟
الجواب: التذكير مع الحائل أحسن، وهو أخف أيضاً لنقصان حرف، وهو التاء، لكنه وافق في الآية الأخرى ما بعدها، وهو قوله: (كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) . الخطيب: لماجاء في قصة شعيب مرة الرجفة، ومرة الصيحة ومرة الظلة.
ازداد التأنيث حسناً.
قوله: (قَالُوا سَلَامًا) .
أي سلموا سلاما، وقيل، هو مفعول "قالوا"، لأن القول إذا وقع بعده
جملة حكيت نحو: قوله: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، وإن وقع بعده مفرد
بمعنى جملة نصبت، نحو: قولك - في جواب الأذان - قلت حقا.
قوله: (قَالَ سَلَامٌ) الظاهر من معناه أنه أجابهم، فقال سلام.
سؤال: أليس الزيادة في الجواب مندوباً إليها في قوله: (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا) ، الجواب: الزيادة موجودة في الرفعيَّة، لأن للرفع مزية على
النصب، لأنه إخبارٌ عن شيء ثابت، والنصب فضلة، ولأن الكلام لا يتم إلا بمرفوع، فقد دخل تحت قوله (بِأَحْسَنَ مِنْهَا) .
قوله: (فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ)
"مَا" نفي، وفي "لَبِثَ" ضمير إبراهيم، و (أَنْ جَاءَ) في محل نصب بنزع الخافض وتعدى الفعل إليه، وتقديره: فما لبث إبراهيم عن أن جاء.(1/511)
الغريب: (أَنْ جَاءَ) فاعل "لَبِثَ"، وليس فيه ضمير إبراهيم، أي ما لبث
مجيئه بعجل.
العجيب: "مَا" بمعنى الذي، وإن جاء خبره، والتقدير: فالذي لبث قدر
أن جاء بعجل.
قال الشيخ: ويحتمل أن يجعل "مَا" للمصدر وأن هو المصدر فبصر
التقدير فلبثه بمجيئه بالعجل.
قوله: (حَنِيذٍ)
أي مشوي بالحجارة المحماة.
مجاهد: مطبوخ.
الحسن: نضيج مشوي.
شمر: مشوي بقَطر وَدَكِهِ: من قول العرب: حنذت الفرس إذا عرقته بالجلال.
الغريب: (حَنِيذٍ) ، سميط.
السدي: (حَنِيذٍ) ، سمين.
قوله: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ) .
أي قائمة تخدم، وقيل: تصلي.
الغريب: قائمة عن الحيض والولد.
قوله: (فَضَحِكَتْ) أي سرورا بالأمر، وقيل: فيه تقديم، أي بشرناها
بإسحق فَضَحِكَتْ سروراً بالولد.
العجيب: ضحكت، حاضت، من ضحكت الأرنب، وضحكت
الثمرة إذا سالت منها صبغة تشبه الدم.(1/512)
الغريب: معنى "ضحكت" أشرق لونها من قولهم: ضحكت
الروضة.
قوله: (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ)
من رفعه جعله مبتدأ وخبراً، ومن نصبه أضمر فعلا، أي ووهبنا له يعقوبَ، وقيل: هو محمول على لفظ إسحاق، ومحله جر.
وقيل: على محل، إسحاق لأنه مفعول.
وذهب جماعة إلى أن هذا ممتنع، لأنه لا يحال بالظرف بين الواو وأخواته، وبين المعطوف، وبابه الشعر.
قال:
يوماً تَراها كشِبْه أَرْدِيَةِ ال. . . عَصْبِ ويوماً أَديمَها نَغِلاً
قال الشيخ: سبق نظير هذا في هذه السورة.
وهو قوله (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى) ، ومثله في البقرة: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) .
الغريب: الوراء في الآية: ولد الولد وهو مشكل ووجهه: أن يجعل
ذلك بالإضافة إليها، لأن يعقوب وراءها، والوراء جمع كالولد: و "مَن"
للتبعيض.
وخصت بالبشارة لأن النساء أكثر سروراً بالولد من الرجال.
وقيل: لأن الأثر ظهر عليها، وهو الحيض.
الغريب: خصت حيث لم يكن لها ولد، وكان لإبراهيم ولد، وهو إسماعيل.(1/513)
قوله: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا) .
له مائة سنة، وقيل: مائة وعشرون.
من العجيب: عرضت بقولها (شَيْخًا) عن ترك غشيانه إياها.
وشَيْخًا) حال، والعامل فيه المعنى، ومحل الجملة نصب على
الحال، وهو عطف على جملة أخرى، هي حال أيضاً.
وهو قولها (وَأَنَا عَجُوزٌ) .
الغريب: تقديره، في الآية "أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي يلد شَيْخًا.
قوله: (يُجَادِلُنَا) .
أي أخذ يجادلنا، لأن "لَمَّا" علم للظرف إذا وقع الشيء بوقوع غيره.
وإذا أضمر أخذ، صار (يُجَادِلُنَا) حكاية حال.
وأجاز النحاس وقوع المستقبل بعد "لَمَّا"، وقال: لما جاز وقوع الماضي بعد الشرط ومعناه المستقبل، جاز وقوع المستقبل بعد "لَمَّا" ومعناه: الماضي.
قوله: (يُجَادِلُنَا) أي يجادل رسلنا.
الغريب: (يُجَادِلُنَا) يتشفع في قوم لوط.
العجيب: (يُجَادِلُنَا) يكلمنا.
قوله: (يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ)
الإهراع، الِإسراع، وجاء بلفظ المجهول، كما جاء عنيت بحاجتك.
وقيل: الإهراع: السوق.(1/514)
الغريب: الكسائي، الإهراع، الإسراع مع رعدة.
قوله: (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ) .
عذاب، يرتفع من وجهين:
أحدهما: كونه فاعلاً لـ "آتِيهِمْ" لما وقع خبرا.
والثاني: إنه خبر المبتدأ، و "آتِيهِمْ" المبتدأ، والجملة خبر
لاسم "إنَّ".
قوله: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ) .
قيل: بنات صلبه، وهما اثنتان: زعورا وربثا، وأراد - عليه السلام أن
يقي أضيافه ببناته: وقيل: أراد بنات قومه، وأضافها إلى نفسه، لأن كل
نَبى أبو أمته، ومنه قراءة من قراءة "وأزواجه أمهاتهم وهو لهم أب".
الغريب: الحسن البصري: كانوا يخطبون بناته فيأبى، فحمله
ضيق الأمر على أن ضمن إسعافهم.
قوله: (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ)
"لَيْسَ" في الآية بمعنى "مَا" النفي والاستفهام للإنكار.
قوله: (هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ)
مبتدآن وخبران، وإن شئت قلت: (هَؤُلَاءِ) مبتدأ، "بَنَاتِي" بدل منه، أو عطف بيان، "هُنَّ" مبتدأ، "أَطْهَرُ" خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول، وإن شئت قلت: "هَؤُلَاءِ" مبتدأ، "بَنَاتِي" مبتدأ ثان، "هُنَّ" مبتدأ ثالث "أَطْهَرُ" خبره.
وإن شئت قلت: "هَؤُلَاءِ" مبتدأ "هُنَّ" مبتدأ ثان "بَنَاتِي" خبره تقدم عليه "أَطْهَرُ" خبر ثان وزعم(1/515)
بعضهم، أن "هُنَّ" في الآية فصل، وعماد لا محل له من الاعراب، وارتفاع
"أَطْهَرُ" من وجهين: خبر المبتدأ الأول، وخبر بعد خبر، وقول من قال "هُنَّ" فصل، ضعيف مردود، لأن الفصل إنما يزاد مع المعرفة أو مع ما يمتنع من دخول الألف واللام.
وروي عن محمد بن مروان أنه: قرأ أطهرَ بالنصب - جعله حالاً، وزيَّفه سيبويه، ورده عليه وعلى عيسى بن عمر بأنه قرأ بالنصب أيضاً، وروي أيضاً عن أبي عمرو: إنكار النصب.
وقال: اجتبى ابن مروان في لحنه.
وذهب بعض النحاة - وهو الكسائي - إلى جواز النصب في على الحال، وأن "هُنَّ" عماد، وقد تبينت فساد ذلك، ووجه النصب ما ذكر، وهو أن يجعل "هؤلاء" مبتدأ، و "بناتي" مبتدأ ثانياً، و "هُنَّ" خبر المبتدأ، و "أطهر" حال، والعامل في الحال الإشارة في "هؤلاء".
قال الشيخ الإمام: لم تستقص هذه المسألة هذا الاستقصاء.
قوله: (مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ) .
أي لسْنَ لنا بأزواج فنستحقهن.
الغريب: ادَّعَوا في الضيفان حقاً لأنهم نهوا لوطاً عن إيواء المرد من
الضيفان، وشرطوا هم إن أضافهم وآواهم أن يستبيحوهم، فلما أضاف أولئك ادَّعَوا الحق المتقدم، وهذا باطل تعلقوا به.(1/516)
قوله: (أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) .
أي عشيرة تنصرني، وجواب "لو" محذوف، وفيه قولان:
أحدهما: لأجبرتكم على ترك ما أنتم عليه، وقيل: لدفعتكم.
الغريب: زيد بن ثابت: لو كان للوط مثل رهط شعيب لجاهد بهم قومه. ومن الغريب: ابن عباس، ما بعث الله بعد هذه الكلمة من لوط نبيا
إلا في عز وثروة من قومه، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال عند قراءة هذه الآية: "رحم الله أخي لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد"
- يريد نصر الله وعونه -..
قوله: (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ) .
من نصب جعله استثناء من قوله: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) ، ومن رفعه جعله
مستثنى من قوله: (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) .
ويجوز النصب من هذا الوجه أيضاً على أصل الاستثناء.
قوله: (إِنَّهُ مُصِيبُهَا) أي إن الأمر.
قوله: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا) .
سؤال: لِمَ قال في قصة لوط وقصة صالح: "فَلَمَّا" - بالفاء -، وقال
في قصة هود وشعيب: (ولمَّا" - بالواو -؟
الجواب: لأن مجيء العذاب وقع في قصتي صالح ولوط عقيب(1/517)
الوعيد، وهو قوله: (تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) ، في قصة صالح.
وقوله: (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) : في قصة لوط، بخلاف قصتي هود
وشعيب، فإن هلاك قومهم تأخر عن وقت الوعيد، وهو قوله في قصة هو:
(فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ) ، وقوله: (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ، في
قصة شعيب: فجاء بالواو للمهلة وبالفاء للتعجيل والتعقيب.
قوله: (مِنْ سِجِّيلٍ)
ابن عباس، هو معرب، وأصله بالفارسبة: سنك وكل بدليل قوله تعالى: (حِجَارَةً مِنْ طِينٍ) ، وقيل: من مثل السِّجِل، وهو الكتاب، أي مكتوب الحجارة، وهي حجارة كتب الله أن يضرِبَهم بها.
الغريب: أصله من سجين، أي من جهنم، قلب نونه لاماً، وهما من
مخرج واحد.
العجيب: (مِنْ سِجِّيلٍ) من السماء الدنيا، والسجيل: اسمها.
قوله: (أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ) .
تقدير الآية، أمَنْ تصلي له يأمرك، وقيل: أنت تأمرنا لصلواتك، كما
جاء (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) : وقوله: (تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)
تحتاج إلى إضمار، لأنك لا تقول أمرت زيداً أن يجلس عمرو، وتقدير الآية:
تأمرك أن تأمرنا بأن نترك.
وقوله: (أَوْ أَنْ نَفْعَلَ) عطف على "مَا يَعْبُدُ"(1/518)
وتقديره أن نترك ما يعبد آباؤنا ونترك فعلنا في أموالنا على مرادنا.
ولا يجوز أن يكون عطفاً على "أَنْ نَتْرُكَ" إلا بإضمار "لا" أي أو أن لا نفعل، وعلى قراءة من قرأ ما تشاء - بالتاء -.
الغريب: الأمر يتضمن معنى النهي، والنهي يتضمن معنى الأمر.
فتقدير الآية تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وتنهاك أن نفعل في أموالنا ما نشاء.
العجيب: كانوا يقطعون الدراهم والدنانير، فنهاهم عن القطع.
وقيل: نهاهم عن البخس، وقيل: أمرهم بالزكاة.
قوله: (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)
قيل معناه على الضد، أي السفيه الأحمق.
وقيل: تقديره، الحليم الرشيد بزعمك.
العجيب: قالوا: السفيه الضعيف، فرد الله عليهم، وقال: الحليم
الرشيد. وهذا بعيد.
قال الشيخ: الغريب: يحتمل أن التقدير، إنك لأنت الحليم الرشيد
في ظننا، قيل هذا، كما في قصة صالح: (يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا) .
قوله: (مَا اسْتَطَعْتُ) أي قدر طاقتي.
الغريب: "مَا" للمدة، كما تقول، ما طلعت شمس وما ذر شارق.
ومن الغريب: (مَا اسْتَطَعْتُ) متصل بالإصلاح، لأن الاستطاعة من
شروط الفعل لا الإرادة.(1/519)
قوله: (ضَعِيفًا)
أي ضعف البدن، وقيل: (ضَعِيفًا) أعمى بلغة حمير.
قوله: (وَلَوْلَا رَهْطُكَ) ، أي قومك.
قتادة: كانوا أربعة آلاف.
العجيب: رَهْطُكَ) شيبك، حكاه النقاش.
وأصل الرهط، الشد، ومنه الترهيط شدة الأكل.
قوله: (مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ) أي ومنها حصيد.
قوله: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) أي ومنهم سعيد.
قوله: (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) .
أي دوام السماوات والأرض، وأراد بالدوام وقت الدوام.
فإن قيل: السموات والأرض فانيات، وبقاء أهل الجنة والنار لا نهاية له، فكيف علقه بها؟
الجواب عنه من وجوه:
أحدها أن العرب كانت تعتقد دوامها، فخاطبهم
على ما اعتقدوه، وإن كان الله يعلم من شأنها ما جهلوه.
والثاني: أنهما يعادان فيبقيان إلى غير نهاية، تصديقه قوله: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) .
الثالث: ما دامت السماء سماء والأرض أرضاً، وهذا شيء لا يفارقهما في دوامهما بقيتا أو فنيتا.
الرابع: ما دامت سماء الجنة وأرضها وسماء النار وأرضها.
والخامس: "مَا" للنفي، أي لا تدوم السماوات والأرض.
قوله: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ)
له عشرة أوجه:
أحدها: أن الاستئناف منصرف إلى السماوات والأرض، والخلود بحاله، أي، إلا ان يشاء الله فيهما ما يشاء.
والثاني: إلا ما شاء الله من زيادة الدوام على دوام السماوات والأرض.(1/520)
والثالث: "إلا" ها هنا بمعى سوى، تقول: لك على ألف إلا
الألفان اللذان تعرفهما، فيلزمه ثلاثة آلاف.
والرابع: أن الاستثناء عائد إلى مدة لبثهم في الدنيا والبرزخ، لأن هذا اللفظ يوجب أن يكونوا في الجنة حال الإخبار.
والخامس: استثنى مدة وقوفهم في القيامة قبل الدخول.
والسادس: إلا ما شاء بزيادة النعيم على أهل الجنة، وزيادة العذاب على أهل النار.
السابع: الفراء: "إلا" بمعنى الواو، أي، و "مَا شَاءَ رَبُّكَ".
الثامن: "مَا" بمعنى، "مَن".
وهم قوم يخرجون من النار ويدخلون الجنة، فيقال لهم، الجهنميون.
وهم المستثنون من أهل الجنة أيضاً لمفارقتهم الجنة بكونهم في النار أياماً.
والتاسع: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) عن ابن عباس: ليأتين على جهنم زمان تطبق
أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا، فيأمر الله النار
فتأكلهم. وهذا الوجه يكون في حق أهل النار دون أهل الجنة، لأن ذلك
مقيد بقوله: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) .
والعاشر: "مَا" للنفي، وتقدير الآية: لا تدوم السماوات والأرض إلا مقدار ما شاء ربك، ويكون المعنى: يدخلونها عن قريب.
وقيل: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) وهو لا يشاء غيرتخليدهم.
وقيل: يعود إلى الزفير والشهيق، أي لهم زفير وشهيق (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ، (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) من غير اعتراض.
قوله: (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) .
"كُلًّا منصوب بأن مخففة ومثقلة، و"لَمَّا" مخفف لامه لِخبر إن.
و"مَا" صلة زيد ليكون حائلا بين اللامين و "لَمَّا" مشدد مشكل.
قال الكسائي: لا أعرف له وجهاً.
قال أبو علي: لم يبعد الكسائي فيما قال.(1/521)
وقول من قال "لَمَّا" بمعنى "إلا" - بالكسر - كما تقول فعلتَ كذا فاسد، لأن "إلا" لا تدخل خبر "إن"، لا تقول إن زيداً إلا قائم، وكذلك لما لا يجوز أن تقول: إن زيدا لَمْا قائم، وقول من قال: أصله "لمن ما" فأدغم وحذف، فاسد، وقول من قال: أصله لما مخفف فشدد أيضا فاسد.
قال الشيخ: والوجه أن يجعل مصدراً من قوله: "كُلًّا لَمَّا" على وزن فَعْلَى، أو يجعل لما بالتنوين ثم أجري الوصل مجرى الوقف، وقد قرىء "وَإِنَّ كُلًّا لَمًّا" - بالتنوين - في الشواذ.
قوله: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) .
ابن عباس: ما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آية كانت عليه أشد ولا أشق من هذه الآية، ولهذا قال: "شيبتني سورة هود ".
قوله: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) .
قيل: بظلم من الله وأهلها مؤمنون محسنون.
وقيل: بظلم بعضهم وأكثرُهم على الصلاح.
الغريب: (بِظُلْمٍ) ، شرك، (وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) في المعاملات فيما
بينهم لا يظلم بعضهم بعضاً، لأن مكافأة الشرك النار.
وإنما أهلك من أهلك بالتعدي في الشرك.
وقيل: وفيهم مصلحون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) ، وقال في القصص: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى) ؟
لأن الله تعالى نفى الظلم عن نفسه بأبلغ لفظ يستعمل في النفي، لأن هذا اللام لام(1/522)
الجحد، ولا يظهر بعدها إن ولا يقع بعدها المصدر ولا تستعمل إلا مع كان
ولم يكن، ومعناه ما فعلت فيما مضى ولا أفعل في الحال ولا في الاستقبال.
فكان الغاية في النفي وليس كذلك ما في القصص، إذ ليس فيها صريح
ظلم، فاكتفى بذكر اسم الفاعل، وهو لأحد الأزمنة غير مبين ثم نفاه.
قوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) .
أي مختلفي الأديان كاليهود والنصارى والمجوس.
والاختلاف اعتقاد كل واحد نقيض ما يعتقد به الآخر.
وقوله: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) .
وهداه إلى الإيمان، فإنه ناجح من الاختلاف، والاستثناء منقطع.
الحسن. لا يزالون مختلفين في الأرزاق والأحوال من تسخير بعضهم
لبعض.
الغريب: معناه، لا يزال الخلَف منهم يتبع السلَف، افتعال من خلفه
بخلفه إذا قام بالشيء مَقامه بعده، نحو: قتلوا واقتتلوا، ويكون اعتراضاً
والتقدير: ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة كفارا، إلا من رحم ربك
فهداه، وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ.
قوله: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)
أي للرحمة خلقهم، واللام لام العاقبة.
وقيل: وعلى الرحمة خلقهم، نحو: أُكرِمتَ لبرك وعلى برك.
وقيل: وللرحمة والاختلاف خلقهم، موحد كقوله: (بَيْنَ ذَلِكَ) .
وقيل: للسعادة والشقاوة.
وقيل: للجنة والنار.(1/523)
قوله: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) .
"كُلًّا" نصب على المصدر، أي كلَ القصص نقصُّ.
وقيل: "كُلًّا" مفعول نقص، "مَا نُثَبِّتُ" بدل منه.
ابن عيسى: الفؤاد: العضو الذي يحمَى عند الغضب، ومنه المفْتأد وهو المشتوَى، قال الشاعر:
كأنه خارجاً من جنب صفحته. . . سفود شَرْب نَسُوهُ عند مفتأدِ
قوله: (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
عن كعب الأحبار، أنه قال: خاتمة التوراة هذه الآية.(1/524)
سورة يوسف
قوله تعالى: (الْكِتَابِ الْمُبِينِ) .
أي الظاهر أنه كلام الله، وقيل: المبين حلاله وحرامه وما تحتاجون
إليه، وأبان لازم ومتعد.
العجيب: عن معاذ بن جبل: المبين، للحروف التي سقطت عن
ألسن العجم وهي ست: الصاد والضاد والطاء والظاء والعين والحاء، وكذلك الثاء والقاف، وأما الذال المعجمة فلا تقع في أوائل الكلم العجمية، وإن وقع في الوسط أو في الآخر فمنهم من جعله دالاً، ومنهم من جعله ذالاً، والمعنى: يبين لهذه الحروف أن هذا القرآن عربي وبلسانكم يا معشر
العرب.
قوله: (أنزلناه) .
" الهاء" تعود إلى الكتاب، وقيل: نبأ يوسف، وقيل: القرآن.
(قرآناً) : نصب على المصدر.
الغريب: أنزلناه مجموعاً.
قال الشيخ: ومن الغريب: يحتمل أن يعود
إلى المصدر، أي أنزلناه قرآناً عربياً إنزالًا.(1/525)
والغريب: منسوب إلى العرب، والعرب جمع عربي، كرومي ورومي.
وهو منسوب إلى أرض يسكنونها، وهي عَرَبة ناحية دار إسماعيل بن إيراهيم
- عيهما السلام -.
قال الشاعر:
وعَرْبَةُ أرضٌ ما يُحِلُّ حرامَها. . . مِنَ الناسِ إلا اللَّوْذَعِيُّ الحُلاحِلُ
يعني - صلى الله عليه وسلم - أحلت له مكة ساعة من نهار حتى قتل من شاء.
الغريب: نسب إليها ابتداء.
قوله: (أَحْسَنَ الْقَصَصِ) .
نصب على المصدر، أي أحسن بيان، وقيل: مفعول كالطلَب والسَلب
والحَلَب فيكون جميع القرآن، وقيل: هو قصة يوسف، وسماها أحسن
القصص لاشتمالها على ذكر حاسد ومحسود، ومالك ومملوك، وشاهد
ومشهود، وعاشق ومعشوق، وحبس وإطلاق، وسجن وخلاص، وخصْب
وجدب، وغيرها مما يعجِز عن بيانها طوق الخلق.
قوله: بِمَا أَوْحَيْنَا)
أي بإيحائا القرآن، و "مَا" للمصدر.
العجيب: هو بمعنى الذي، وهو ضعيف.
قوله: (يُوسُفُ) .
هو اسم عجمي، وقيل: من الأسف أو الأسيف، لم ينصرف للمعرفة.
ووزن الفعل، ولعل هذا فيمن همز، وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم".
قوله: (يَا أَبَتِ)
التاء للتأنيث تزاد مع الأب في النداء فحسب.
الغريب: هو بدل من الواو وفي قولك: أبوان.(1/526)
العجيب: يقال للوالد أب وللوالدة أبه، فلما جعل للوالدة اسم غير هذا
- وهو الأم جعل الأب وأبه للوالد فليس لهذا نظير.
ومن كسر التاء جعلها دليلًا على الياء، ومن فتحها قلب الياء ألفا كما
قال الشاعر:
با أبَتا علك أوعساكا
ثم حذف واكتفى بالفتحة دليلاً.
الغريب: قال أبو على في الحجة: هو كما تقول يا طلحة كأنك
رخمت فصار يا طلح ثم رددت الهاء وتركته مفتوحاً.
قوله: (رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
تكرار، لأن الأول وقع على الذات، والثاني وقع على الحال، وقيل: لما طال الكلام أعاد.
الغريب: كأنَّه قال يعقوب كيف رأيتهم قال: رأيتهم لي ساجدين.
وإنما جمع جمع السلامة، لأن السجود من أفعال العقلاء، فلما وصف
غيرهم بفعلهم، أجرى مجراهم.
الغريب: السدي: عن جابر: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل من اليهود فقال: يا محمد أخبرني عن الكواكب التي رآها يوسف ساجدة له، ما أسماؤها، فسكت - عليه السلام - فنزل عليه جبريل فأخبره بأسمائها، فقال - عليه السلام - لليهودي: هل أنت مؤمن إن أخبرتك بأسمائها، فقال: نعم، فقال - عليه السلام -: " جريان والطارق والذيال وذو الكتفات وقابس ووثاب(1/527)
وعمودان والمصبح والفيلق والضروح والفرع والضياء والنور، نزلن من السماء فسجدن له، فصدقه اليهودي.
قوله: (فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)
أي في طريق الآباء في الأولاد، وقيل. على ضلال باختياره الصغير
، على الكبير، والقليل على الكثير، وقيل: في ضلال عن التعديل في
المحبة.
الغريب: "فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ"، أي محبة.
قوله: (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) .
فيه إضمار تقديره: وتوبوا إلى الله تكونوا من بعد طرحه قوما صالحين
تائبين، هيأوا التوبة قبل المعصية.
الغريب: صالحين مع أبيكم في أمر دنياكم.
قوله: (إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) .
بمشورتي، وقيل: فاعلين ما قصدتم من التفريق بينه وبين أبيه.
واختلفوا في إخوة يوسف حين قالوا هذا وفعلوا، فذهب بعضهم إلى أنهم
كانوا بالغين أقوياء ولم يكونوا بعد أنبياء.
- قوله: (يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) .
أجمعوا على أن هذا ابتداء كلام إخوة يوسف مع يعقوب في حق
يوسف، إلا مقاتلاً، فإنه قال: هذا جواب لقوله (لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) .. قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) .
قيل: إنما قال ذلك لأن أرضهم كانت مَذْأبَة، وقيل: كان رأى في المنام كان ذئبأ يعدو على يوسف.(1/528)
الغريب: روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تلقنوا الكذب فتكذبوا، فإن بني يعقوب لم يعلموا أن الذئب يأكل الإنسان حتى لقهن أبوهم) .
العجيب: خافهم عليه أن يقتلوه فكنى عنهم بالذئب مساترة لهم، قال
ابن عباس: سماهم ذئاباً.
قوله: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ) .
قيل: أحد الواوين زيادة وجوابا لقوله: (فلما) والجواب مضمر
تقديره: حفظناه.
قوله: (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)
قيل: متصل بقوله: (أوحينا) أي أوحينا
إليه في البئر وهم لا يشعرون بالوحي، وقيل: متصل بقوله: (لَتُنَبِّئَنَّهُمْ) ، أي
بما فعلوا بك وهم لا يشعرون أنك يوسف.
قوله: (وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) .
أجمع المفسرون على أن تأويله، وما أنت بمصدق لنا ولو كنا صادقين
غير متهمين عند الناس، وقيل: صادقين عندك في غير هذا الكلام.
العجيب: قال الجرجاني - صاحب النظم - في قولهم "ولو" دليل على
أن ذلك لم يكن، لأن "لو" يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره، ولو كانو!
صادقين في دعواهم لقالوا " وإن كنا صادقين، كما قالوا وإن كنا لخاطئين.
قوله: (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) .
أي ذي كذب، كأنَّه لم يكن دم يوسف، و "عَلَى قَمِيصِهِ" حال من دم.
لأن نعت النكرة إذا تقدم عليها انتصب على الحال، ولا يجوز أن يكون صفة
للمصدر وهو كذب، لأن ما يتعلق بالمصدر لا يتقدم عليه، وقرىء "دم
كدِب" - بالدال - أي طري.(1/529)
الغريب العجيب: ما رواه الشيخ أبو الفضل الرازي "بدمِ كَدْبٍ"
بالإضافة وفتح الكاف وسكون الدال غير معجمة، وفسره الجدي.
قوله: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا)
وذلك أن يعقوب قال لهم:
أروني قميصه، فأروَهْ، فقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبا حكيماً أكل ابني ولم
يخرق عليه قميصه، فعندها قال: (بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) أمثل وأحسن، وقيل: فأمري صبر جميل.
الشعبي: لقميص يوسف
ثلاث آيات: إحداها: حين جاؤوا عليه بدم كذب.
والثانية: حين قُدَّ.
والثالثة: حين ألقى على وجه يعقوب.
قوله: (يَا بُشْرَى) .
أي تقديره، فأدلى دلوه ثم دَلاها أي أخرجها فتشبث بها يوسف، فلما
رآه قال: يَا بُشْرَى، أي هذا غلام: بَشَّر المُدلي نفسه، وقال يا بشراي تعاليْ
فهذا أوانك وقيل: بشَّر أصحابه بأنه وجد غلاماً، وقيل: بُشْرَى أي اسم
صاحب له ناداه يخبره خبر الغلام، ومن قرأ "يا بشراي" جاز أن يكون
الألف في حكم النصب كدال عبد الله، وجاز أن يكون في حكم الكسر كميم غلامي، وعلى القراءة الأولى جاز أن يكون المنادى محذوفاً تقديره يا قوم بُشْرَى هذا غلام.
قوله: (وَأَسَرُّوهُ) ، أي كتموا حاله. و "بِضَاعَةً" حال، الزجاج:
"أَسَرُّوهُ" جاعليه بضاعة.
ابن عباسْ أسروا بيعه - قال الشيخ الإمام: ويحتمل أن معنى أسروه أظهروه، و "بِضَاعَةً" حال، وهو كما تقول" هذا(1/530)
شيء أظهرته أعجوبة، وهذا حال أظهرته بضاعة، والمعنى: أظهروا حال
يوسف على هذا الوجه، والضمير في أسروا للوارد وأصحابه، وقيل: هو
لإخوة يوسف، ذلك أن يهوذا كان يأتيه بالطعام كل يوم، لأنه بقي فيه ثلاثة
أيام، فأتاه يومئذ بالطعام فلم يجده فيها، فأخبر إخوته، فأتوا مالكا وقالوا:
هذا عبدنا أبق منا.
الغريب: الضمير يعود إلى السيارة.
قوله: (وَشَرَوْهُ) .
أي باعوه، قال الشيخ: ويحتمل، واشتروه، فيكون الضمير للوارد
وأصحابه، أو للسيارة، إذ ليس في القرآن ما يدل على أن الفعل لإخوة يوسف ولا لهم في الآية ذكر، وإنما المتقدم ذكر السيارة والوارد وأصحابه، وهم أخرجوه من البئر، وأسروه بضاعة وباعوه بمصر بثمن بخس، وتنزيه الإخوة مما يمكن أولى.
قوله: (وَكَانُوا فِيهِ) ، أي في يوسف، وقيل: في الثمن من الزاهدين.
وفي معلق بمضمر، أى زُهداً فيه من الزاهدين، لأن ما يتعلق باسم الفاعل
وفيه الألف واللام لا يتقدم عليه.
وقال بعضهم وهو الغريب: يجوز تقديمه إذا كان الألف واللام
للتعريف، وإذا كان بمعى الذي لم يجز، ومثله: (إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) .
قوله: (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) .
أي نتبناه، ولم يكن لهما ولد.
ابن مسعود: أحسن الناس فراسة ثلاثة: العزيز حين قال في يوسف: (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) ،(1/531)
وابنة شعيب حين قالت لأبيها: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ " الآية، وأبو بكر
الصديق حين استخلف عمر.
قوله: (وَلِنُعَلِّمَهُ) ، قيل: " الواو" زيادة.
الغريب: تقديره: ولنعلمه من تأويل الأحاديث مكناه.
قوله: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) .
سؤال: لماذا اقتصر ها هنا وزاد في القصص (واستوى) .
الجواب: لأن الله أوحى إليه وكان صبياً في البئر، وأوحى إلى موسى
بعد أربعين سنة، وكذلك الحكم في سائر الأنبياء إلا قليلاً منهم، يقويه قوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) .
قوله: (وَرَاوَدَتْهُ) .
المراودة مطالبة الإنسان لأمر بالرفق واللين، ولا يقال في مطالبة الدين
راوده.
قوله: (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ)
أي بابا على باب على يوسف وعليها، وكانت سبعة.
العجيب: قول من قال كان باباً واحداً فغلقته بمغلاق بعد مغلاق.
وهذا ضعيف، لقوله: (الْأَبْوَابَ) .
الغريب: وغلقت أبواب الشهوات عليها إلا من طريق يوسف.
قوله: (هَيْتَ لَكَ) ، هو من الأسماء التي سميت الأفعال بها، ومعناه:
تعال: هلم، يبنى على الفتح وعلى الضم، وقرىء: هِئتُ لك، - بكسر(1/532)
الهاء وضم التاء مهموزا وغير مهموز - من قولك هيت أي هيْئة كقولك:
أجيء جيئة، والمعنى تهيأت لك، واللام متعلق بالفعل، وعلى الوجه الأول
تبيين للمدعو.
الغريب: الزجاج: تقدم لنفسك، أي لك في التقدم حظ.
قوله: (إِنَّهُ رَبِّي) أي زوجك ربي أحسن تربيتي (1) .
الغريب: إن الله ربي، والأول أظهر لقوله لها فيه: (أكرمي مثواه) .
قوله: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا) .
ابن عباس: استلقت على قفاها وحل هو هِمْيانه، أي سراويله.
الحسن: أما همها فكان أخبثَ هم، وأما همه فما طبع عليه الرجال من
شهوة النساء، ولم يكن منه عزم على الزنا.
الغريب: هم بضربها والفرار منها.
العجيب: (وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)
[جواب {لَوْلاَ} ههنا مقدم، وهو كما يقال: قد كنت من الهالكين لولا أن فلاناً خلصك] (2)
وهذا حسن في المعنى، لكن جواب لولا لا يتقدم عليه، والوجه عند المحققين: إن الكلام
تم على قوله: (وَهَمَّ بِهَا) ثم استأنف، فقال: لولا أن رأى برهان ربه
لأمضى ما هم به، ومثله في القرآن: (إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا) ، واختلفوا في البرهان، ابن عباس: رأى صورة يعقوب عاضًّا على
يده، وقيل: نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل
السفهاء. وقيل: رأى جبريل، وقيل: رأى العزيز، وقيل: رأى كفًّا بلا
معصم يمنعه من المواقعة.
__________
(1) هذا قول بعيد جدا والراجح ـ والله أعلم ـ أن الضمير فى قوله تعالى " إنه ربى " يعود على الله تعالى وذلك لوجوه:
منها: قوله تعالى قبلها مباشرة {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ} والضمير يعود على أقرب مذكور
ومنها: كيف يليق بيوسف ـ عليه السلام ـ أن يذكر إحسان العزيز إليه وينسى إحسان الله تعالى، ومن ألقى محبته فى قلب العزيز إلا الله
ومنها: كيف يقتصر فى امتناعه عن الفاحشة إكرام العزيز له، وأين خوفه من الله، وأين منصب النبوة، وأين مكانة العصمة؟؟!!!
ومنها: قوله تعالى فى عجز الآية الكريمة {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ولو كان الضمير يعود إلى العزيز لقال عليه السلام: إنه لا يفلح الخائنون.
ومنها: قوله تعالى بعد ذلك {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ}
ومنها: قوله تعالى {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) }
ومنها: أنه عليه السلام خاطب من معه فى السجن بقوله {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا} وقال لرسول الملك {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} وعندما تكلم عن نفسه أثنى على الله تعالى بما هو أهله فقال {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}
ومنها: أن الله تعالى قال {وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} ولم يقل: وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَما لأن يوسف ـ عليه السلام ـ ليس له إلا سيد واحد هو الله.
ومنها: قوله تعالى {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) }
فلم ينسب الفضل إلا لخالقه جل وعز. وانظر الحاوي في تفسير القرآن الكريم" لعبد الرحمن القماش "سورة يوسف آية: (23) . والله أعلم.
(1) ما بين المعقوفتين زيادة ضرورية اقتضاها الكلام وهي من تفسير الفخر الرازي ج 18 / ص 94. وما بعدها، والعجب كل العجب من محقق الكتاب - غفر الله لنا وله - كيف مرَّ عليه هذا الكلام دون تعليق منه.
وهذه بقية كلام الإمام فخر الدين الرازي:
" {لَوْلاَ} ههنا مقدم، وهو كما يقال: قد كنت من الهالكين لولا أن فلاناً خلصك، وطعن الزجاج في هذا الجواب من وجهين: الأول: أن تقديم جواب {لَوْلاَ} شاذ وغير موجود في الكلام الفصيح.
الثاني: أن {لَوْلاَ} يجاب جوابها باللام، فلو كان الأمر على ما ذكرتم لقال: ولقد همت ولهم بها لولا.
وذكر غير الزجاج سؤالاً ثالثاً وهو أنه لو لم يوجد الهم لما كان لقوله: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} فائدة.
واعلم أن ما ذكره الزجاج بعيد، لأنا نسلم أن تأخير جواب {لَوْلاَ} حسن جائز، إلا أن جوازه لا يمنع من جواز تقديم هذا الجواب، وكيف ونقل عن سيبويه أنه قال: إنهم يقدمون الأهم فالأهم، والذي هم بشأنه أعنى فكان الأمر في جواز التقديم والتأخير مربوطاً بشدة الاهتمام.
وأما تعيين بعض الألفاظ بالمنع فذلك مما لا يليق بالحكمة، وأيضاً ذكر جواب {لَوْلاَ} باللام جائز.
أما هذا لا يدل على أن ذكره بغير اللام لا يجوز، ثم إنا نذكر آية أخرى تدل على فساد قول الزجاج في هذين السؤالين، وهو قوله تعالى: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} [القصص: 10] .
وأما السؤال الثالث: وهو أنه لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} فائدة.
فنقول: بل فيه أعظم الفوائد، وهو بيان أن ترك الهم بها ما كان لعدم رغبته في النساء، وعدم قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، ثم نقول: إن الذي يدل على أن جواب {لَوْلاَ} ما ذكرناه أن {لَوْلاَ} تستدعي جواباً، وهذا المذكور يصلح جواباً له، فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال إنا نضمر له جواباً، وترك الجواب كثير في القرآن، لأنا نقول: لا نزاع أنه كثير في القرآن، إلا أن الأصل أن لا يكون محذوفاً.
وأيضاً فالجواب إنما يحسن تركه وحذفه إذا حصل في اللفظ ما يدل على تعينه، وههنا بتقدير أن يكون الجواب محذوفاً فليس في اللفظ ما يدل على تعين ذلك الجواب، فإن ههنا أنواعاً من الإضمارات يحسن إضمار كل واحد منها، وليس إضمار بعضها أولى من إضمار الباقي فظهر الفرق.
والله أعلم.
المقام الثاني: في الكلام على هذه الآية أن نقول: سلمنا أن الهم قد حصل إلا أنا نقول: إن قوله: {وَهَمَّ بِهَا} لا يمكن حمله على ظاهره لأن تعليق الهم بذات المرأة محال لأن الهم من جنس القصد والقصد لا يتعلق بالذوات الباقية، فثبت أنه لا بد من إضمار فعل مخصوص يجعل متعلق ذلك الهم وذلك الفعل غير مذكور فهم زعموا أن ذلك المضمر هو إيقاع الفاحشة بها ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وبيانه من وجوه: الأول: المراد أنه عليه السلام هم بدفعها عن نفسه ومنعها عن ذلك القبيح لأن الهم هو القصد، فوجب أن يحمل في حق كل أحد على القصد الذي يليق به، فاللائق بالمرأة القصد إلى تحصيل اللذة والتنعيم والتمتع واللائق بالرسول المبعوث إلى الخلق القصد إلى زجر العاصي عن معصيته وإلى الأمر بالمعروف النهي عن المنكر، يقال: هممت بفلان أي بضربه ودفعه.
فإن قالوا: فعلى هذا التقدير لا يبقى لقوله: {لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ} فائدة.
قلنا: بل فيه أعظم الفوائد وبيانه من وجهين: الأول: أنه تعالى أعلم يوسف عليه السلام أنه لو هم بدفعها لقتلته أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله، فأعلمه الله تعالى أن الامتناع من ضربها أولى صوناً للنفس عن الهلاك، والثاني: أنه عليه السلام لو اشتغل بدفعها عن نفسه فربما تعلقت به، فكان يتمزق ثوبه من قدام، وكان في علم الله تعالى أن الشاهد يشهد بأن ثوبه لو تمزق من قدام لكان يوسف هو الخائن، ولو كان ثوبه ممزقاً من خلف لكانت المرأة هي الخائنة، فالله تعالى أعلمه بهذا المعنى، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه بل ولى هارباً عنها، حتى صارت شهادة الشاهد حجة له على براءته عن المعصية.
الوجه الثاني: في الجواب أن يفسر الهم بالشهوة، وهذا مستعمل في اللغة الشائعة.
يقول القائل: فيما لا يشتهيه مايهمني هذا، وفيما يشتهيه هذا أهم الأشياء إلي، فسمى الله تعالى شهوة يوسف عليه السلام هماً، فمعنى الآية: ولقد اشتهته واشتهاها لولا أن رأى برهان ربه لدخل ذلك العمل في الوجود.
الثالث: أن يفسر الهم بحديث النفس، وذلك لأن المرأة الفائقة في الحسن والجمال إذا تزينت وتهيأت للرجل الشاب القوي فلا بد وأن يقع هناك بين الحكمة والشهوة الطبيعية وبين النفس والعقل مجاذبات ومنازعات، فتارة تقوى داعية الطبيعة والشهوة وتارة تقوى داعية العقل والحكمة.
فالهم عبارة عن جواذب الطبيعة، ورؤية البرهان عبارة عن جواذب العبودية، ومثال ذلك أن الرجل الصالح الصائم في الصيف الصائف، إذا رأى الجلاب المبرد بالثلج فإن طبيعته تحمله على شربه، إلا أن دينه وهداه يمنعه منه، فهذا لا يدل على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبودية أكمل، فقد ظهر بحمد الله تعالى صحة هذا القول الذي ذهبنا إليه ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرد التصلف وتعديد أسماء المفسرين، ولو كان قد ذكر في تقرير ذلك القول شبهة لأجبنا عنها إلا أنه ما زاد على الرواية عن بعض المفسرين. انتهى كلامه رحمه الله تعالى.(1/533)
الغريب: تذكر جزاء الزنا.
العجيب: خرجت شعرة طويلة من أنف زليخا، وقيل: مسح جبريل
جناحه على ظهره حتى خرجت شهوته من أظافيره (1) .
قوله: (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) .
لما رأته خافت فأوهمت أن البدار منه وأنه قصدها، و"مَا" للنفي.
الغريب: "مَا" للاستفهام، أي هل جزاؤه إلا السجن أو عذاب أليم.
(قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) .
لم يكن يوسف - عليه السلام - يفضحها إن لم تكذب عليه.
قوله:
(وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا) ، كان صبياً فأنطقه الله عند أكثر المفسرين.
وقيل: كان رجلاً من خاصة الملِك له رأي.
الغريب: هو زوجها.
العجيب: هو سنور كان في الدار. حكاه النقاش. ومن العجيب:
القميص: هو الشاهد.
وكان القياس: وشهد شاهد أنه إن كان، لكنه أجرى مجرى قال، لأنه
قول.
قوله: (إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ)
المبرد والزجاج: يجوزان وقوع كان بعد
إن الشرطية بمعنى الماضي، ويأباه أبو علي، ويقول: تقديره: إن يكن الأن
قدَّ قميصه. قال علي بن عيسى: هذا دلالة عادة أن الذي شُق قميصه من دبر هو الهارب، كما أن الذي يظهره الضربة هو المهزوم في الحرب.
__________
(1) قال العلامة الشنقيطي في تفسيره "أضواء البيان: تفسير القرآن بالقرآن" (3 / 60 - 62) : "والجواب الثاني - وهو اختيار أبي حيان: أن يوسف لم يقع منه هم أصلا، بل هو منفي عنه لوجود البرهان. وهذا الذي اختاره أبو حيان وغيره هو أجرى الأقوال على قواعد اللغة العربية، لأن الغالب في القرآن وفي كلام العرب: أن الجواب المحذوف يذكر قبله ما يدل عليه، كقوله: "فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين": أي: إن كنتم مسلمين فتوكلوا عليه، فالأول: دليل الجواب المحذوف لا نفس الجواب، لأن جواب الشروط وجواب "لولا" لا يتقدم، ولكن يكون المذكور قبله دليلا عليه كالآية المذكورة. وكقوله: "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"، أي: إن كنتم صادقين فهاتوا برهانكم. وعلى هذا القول: معنى الآية، وهم بها لولا أن رأى برهان ربه، أي: لولا أن رآه هم بها. فما قبل "لولا" هو دليل الجواب المحذوف، كما هو الغالب في القرآن واللغة. ونظير ذلك قوله تعالى: "إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها"، فما قبل "لولا" دليل الجواب، أي: لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به. واعلم أن جماعة من علماء العربية أجازوا تقديم جواب "لولا" وتقديم الجواب في سائر الشروط: وعلى هذا القول يكون جواب "لولا" في قوله: "لولا أن رأى برهان ربه"، هو ما قبله من قوله: "وهم بها". وإلى جواز التقديم المذكور ذهب الكوفيون، ومن أعلام البصريين: أبو العباس المبرد، وأبو زيد الأنصاري". وقال الشيخ أبو حيان الأندلسي في "البحر المحيط" (5 / 294 - 295) ما نصه: "طوَّل المفسرون في تفسير هذين الهمَّيْن، ونسب بعضهم ليوسف ما لا يجوز نسبته لآحاد الفساق، والذي أختاره أن يوسف عليه السلام لم يقع منه هم بها البتة، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان، كما تقول: لقد فارقت لولا أن عصمك الله، ولا تقول: إن جواب "لولا" متقدم عليها، وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد ذهب إلى ذلك الكوفيون، ومن أعلام البصريين أبو زيد الأنصاري وأبو العباس المبرد، بل نقول: إن جواب "لولا" محذوف لدلالة ما قبله عليه، كما تقول جمهور البصريين في قول العرب: أنت ظالم إن فعلت، فيقدرونه: إن فعلت فأنت ظالم، ولا يدل قوله: أنت ظالم على ثبوت الظلم، بل هو مثبت على تقدير وجود الفعل، وكذلك هنا التقدير: لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها، فكان موجد الهمِّ على تقدير انتفاء رؤية البرهان، ولكنه وجد رؤية البرهان، فانتفى الهمُّ". وبعد أن رد على الزجاج اعتراضا لغويا، قال: "وأما أقوال السلف - والتي ساق بعضها الإمام البغوي هنا - فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا مع كونها قادحة في فساق المسلمين فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة. والذى روي عن السلف لا يساعد عليه كلام العرب لأنهم قدَّروا جواب "لولا" محذوفا ولا يدل عليه دليل، لأنهم لم يقدروا "لهمَّ بها"، ولا يدل كلام العرب على أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط، لأن ما قبل الشرط دليل عليه، ولا يُحذف الشيء لغير دليل عليه". ثم يقول أبو حيان: "وقد طهرنا كتابنا هذا - أي: تفسيره البحر المحيط - عن نقل ما في كتب التفسير مما لا يليق ذكره، واقتصرنا على ما دل عليه لسان العرب ومساق الآيات التي وردت في هذه السورة مما يدل على العصمة وبراءة يوسف عليه السلام من كل ما يشين" وانظر: "الإسرائيليات والموضوعات" لمحمد محمد أبو شهبة ص (307 - 319) ، تفسير المنار لمحمد رشيد رضا: (12 / 280 - 286) .(1/534)
قال الشيخ الإمام الغريب: يحتمل أن الشاهد علم قطعاً أن الذنب لها
وأن القميص قد من دبر فلم يرد أن يصرح بذلك، فعرض بهذا.
قوله: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) .
لأن كيدهن مواجهة وعين، وكيد الشيطان ضعيف لأنه وسوسة وغيب.
قوله: (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا) .
أي يا يوسف اكتمه ولا تذكره، وقيل: دع ذلك، هذا من كلام الزوج.
وقيل: من كلام الشاهد.
قوله: (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ)
أي استغفري الله.
الغريب: "واستغفري زوجك لدنبك ".
العجيب: كان العزيز قليل الغيرة حين اقتصر على قوله لها (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) ، وقيل: سلب الله الغيرة عنه لطفاً بيوسف.
قوله: (بِمَكْرِهِنَّ) .
سمَّى قولَهن (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ) مكراً لأنهن أردن بهذا
الكلام أن تريهن يوسف.
وقيل: كانت أخبرتهن بحبها إياه واستكتمتهن، فلما أظهرن، سمَّى مكراً.
قوله: (فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) ، أي عظمنه.
الغريب: "أَكْبَرْنَهُ" أمذين.
العجيب: حضن.
قال الشيخ الإمام: ويمكن تصحيح أكبر بمعنى حاض أو أمذى الغلام
والجارية من وجه، وهو أن يحمل على أول حيض وأول إمذاء، فإن ذلك
علامة الكبر، ثم صار كناية عن الحيض والإمذاء.
قال الشاعر:(1/535)
نأتي النساءَ على أَطْهارِهِنَّ ولا. . . نأتي النساءَ إذا أَكْبَرْن إكبارا
والهاء في قوله "أَكْبَرْنَهُ" - على هذا - تعود إلى المصدر، أي حضن
حيضاً، وقيل: إلى يوسف، أي حضن له، فحذف اللام، وقيل: المرأة إذا
اشتدت غُلمتُها حاضت، ومنه قول المتنبي:
خَفِ اللَّهَ واسْتُرْ ذا الجمالَ ببُرْقُعٍ. . . فإنْ لُحْتَ حاضَتْ في الخُدورِ العواتِقُ
والمحققون على أن بيت "أكبرن " مصنوع لا يعرف قائله.
قوله: (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) أي جرحتها دهشاً.
العجيب: قطعنها حتى أبَنَّها وسقطت على الأرض، وفيه بعد.
(وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ) ، "حاش" ها هنا فعل وفاعله يوسف، أي حاشا يوسف عن البشرية.
العجيب: هو حرف جر في باب الاستثناء، وهذا بعيد، لأنه لا يدخل
الجار على الجار.
قوله: (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) .
فاعل "بدا" مضمر تقديره: بداء، أو رأى، قال الشاعر:
لَعلَك والموعودُ حَقٌّ وفَاؤهٌ. . . بَدا لك في تلك القَلوص بداءُ
الغريب: "لَيَسْجُنُنَّهُ" فاعله، وهذا على قول الكوفيين، فإنهم(1/536)
يجوزون وقوع الجملة موقع الفاعل، ولا يجوز عند البصريين.
المبرد: ثم بدا لهم سجنه.
قوله: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ) .
فه إضمار، فأدخل يوسف السجن ودخل معه السجن فتيان.
قوله: (إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
من العالمين، من قولهم: هو يحسن علم كذا، وقيل: "مِنَ الْمُحْسِنِينَ" فإنه كان يداوي مريضهم ويعزي حزينهم ويجتهد لربه في السجن.
الغريب: من المحسنين إلينا إن فسرت لرؤيانا.
قوله: (لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ) .
قيل: لا تريانه في المنام، وقيل: في اليقظة، كما قال: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ) .
الغريب: ابن جريج، كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما
معلوما، أي أخبركما بذلك الطعام إن أتيتما به قبل أن يأتيكما.
قوله: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) ، مبتدأ وخبر.
الغريب: ذَلِكُمَا فاعل يأتيَكما، وقوله: (مما علمني) متصل بقوله
(نَبَّأْتُكُمَا) ، قيل: عدل عن الرؤيا ليدعوهم إلى الإسلام أولا، فكان ذلك
أولى، وقيل: كره تعبير رؤيا السوء، وهو ما في رؤيا صاحب الطعام.
قال الشيخ: ويحتمل في الغريب: إنه ليس بمعدول، لأن في المنام
ذكر الطعام.(1/537)
قوله: (إِنِّي تَرَكْتُ) ، أي رغبت عنه، وليس المعنى أنه كان يتعاطاه
فتركه.
(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ) .
نداء مضاف، وعلامة النصب الياء، وحرك بالكسر لالتقاء الساكنين.
وما توهمه بعض المفسرين أنه يعود إلى المتكلم أو هو منه في شيء، سهو.
قوله: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) .
الضميران يعودان إلى الناجي، وقيل: يعودان إلى يوسف، وعن النبي
- عليه السلام - أنه قال: " رحم الله أخي يوسف، لو لم يقل اذكرني عند
ربك لما لبث في السجن سبعاً بعد الخمس ".
العجيب: اذكرني عند ربك اثنا عشر حرفاً، فبقي في السجن بكل
حرف سنة.
قوله: (إِنِّي أَرَى) .
أي رأيت في المنام، كأني أرى بَقَرَاتٍ سِمَانٍ.
قوله: (سِمَانٍ) وصف للبقرات، وفي الأخرى (سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا) وصف للسبع، وأنت في مثل ذلك بالخيار إن شئت وصفت المضاف، وإن شئت وصفت المضاف إليه.
قوله: (لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
قيل: الفعل محمول على المصدر، أي للرؤيا عبارتكم، وقيل أيضاًْ محمول على الفاعل، أي للرؤيا معبرين.
وقيل: المفعول إذا تقدم ضعف الفعل عن العمل فيه فقوي باللام، وقيل:
المفعول محذوف تقديره: للرؤيا تعبرون ما تعبرون أو ما تسألون، و "اللام "
للعلة.(1/538)
قوله: (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) .
أي ليس تعبير الرؤيا من شأننا، وقيل: للرؤيا المختلطة عندنا حكم.
الغريب: الله صرفهم عن تعبير هذه الرؤيا ليتذكره الذي نجا، فيكون
سبباً لخلاص يوسف.
قوله: (بَعْدَ أُمَّةٍ) .
جماعة من الزمان مجتمعة، وقرىء في الشواذ " أَمَهٍ" - بفتحتين -.
أي نسيان، أني زوال عقل.
وقوله: (فَأَرْسِلُونِ) أي إلى السجن، فأرسل فجاء، فقال:
(يُوسُفُ)) : أي يا يوسف، "أَيُّهَا الصِّدِّيقُ" هو المبالغ في
الصدق، يجوز أن يكون هذا ثناء عليه، ويجوز أن يكون المراد صدقه في
رؤياه ورؤيا صاحبه.
قوله: (أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ)
أي في رؤيا، من رأى في منامه، سبع بقرات.
قوله: (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
قيل: هما بمعنى كي، وقيل: هما على أصلهما من الطمع، والترجي في فائدة التكرار هي أن أحدهما: يتعلق بتعبير الرؤيا، أي لعلي أرجع بتأويلها إليهم، والثاني: يتعلق بيوسف، أي لعلهم يعلمون منزلتك وصدقك، فيخرجوك من السجن.
قوله: (فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) .
الغريب: في مصحف ابن مسعود: فذروه في سنبله، هو أبقى له.
(إلا قليلًا مما تَأْكُلُونَ) ، أي تحتاجون إلى أكله، فأخرِجوه من
السنبل، وليس هذا من الرؤيا في شيء، ولكن ذكرها نصيحة لهم، وقيل
الأول أيضاً محمول على الأمر، أي ازرعوا سبع سنين.
قوله: (يَأْكُلْنَ)
أي ياكلون فيها.(1/539)
قوله: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ) .
ليس هنا من جملة الرؤيا، ولكن ذكره تنبيهاً على علمه.
الغريب: معرفة ذلك ضرورة، لأنه إذا حكم أن سني القحط فالثامنة
خِصْب لا غير.
قوله: (يُغَاثُ النَّاسُ)
قيل هو من الغيث، وقيل: من الغوث.
قوله: (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)
أي تكثر الثمار والأعناب والسمسم والزيتون، فيعصرون الأدهان والأشربة، وقيل: معناه ينجون من القحط، من قولهم: هو عُصرة المنجود، أي المكروب.
الغريب: ابن عباس: يعصرون، أي يحلبون المواشي من كثرة
المزارع.
العجيب: تعصرون السحاب بنزول الغيث: من قوله: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) .
قوله: (قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) .
أي فلما جاءه الرسول ليخرجه من السجن، قال ارجع إلى ربك، أي
الملك، (فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ)
يريد بذلك إظهار براءته مما نسب إليه، وأنه كان محبوسأ ظلما، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " رحم الله أخي يوسف.
لو كنت مكانه لبادرتهم إلى الباب ".
ويروى لو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني ".
قوله: (مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) .(1/540)
أي ما علمنا على يوسف من ذنب.
الغريب: ما علمنا سوءاً في دعائنا المملوك إلى طاعة صاحبته.
قوله: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ) .
أي رد السؤال وامتناعي من الخروج، ليعلم العزيز أني لم أخنه.
وقيل: ليعلم الملك أني لم أخن العزيز.
قوله: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي) .
ذهب بعض المفسرين إلى أن جبريل أتى يوسف فقال له: ولا حين
هممت فقال: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي، وهذا قول ابن عباس، وقال السدي:
خاطبته بذلك راعيل، يعني زليخا، ولا حين خلعت السراويل، الحسن:
لما زكى نبي الله نفسه، استدرك فقال: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي.
الغريب: قتادة، خاطبه الملك، فقال: اذكر ما هممت به (1) .
والقول اللطيف: ما قيل: إن هذا كله من كلام امرأة العزيز، وهو
متصل بقوله: (الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) .
"ذَلِكَ " الإقرار، "لِيَعْلَمَ" يوسف، (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) بظهر
الغيب، (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) ، (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) عن ذنب
هممت به، (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) ، إذا غلبت الشهوة، (إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) أي بنزع الشهوة عن يوسف (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، وهذا القول ظاهر، والأول قول الجمهور، وفيه غموض.
قوله: (إنك اليوم لدينا مكين) .
أي فلما عبر رؤياه شفاها ودله على الرشد، (قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) .
__________
(1) لا يصح شيء من ذلك ألبتة.(1/541)
الغريب: في الآية تقديم وتأخير تقديره: اجعلني على خزائن الأرض.
قال انك اليوم لدينا مكين أمين. أي إجابة إلى ما طلب.
وقوله: (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) .
أي حفيظ للخزائن، عليم بالتدبير فيها. وقيل: معناه: كاتب حاسب.
الغريب: حفيظ لكتب الله، عليم بمعانيها.
العجيب: أي حفيظ باللغات، عليم بالألسن، قيل: هذا دليل على أنه
يجوز للإنسان أن يصف نفسه بالفضل عند من لا يعرفه، وأنه ليس من
المحظور الداخل في قوله عز وجل: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) ، ودليل أيضاً
على جواز تولي القضاء من جهة الباغي الظالم.
قوله: (فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) .
أي لم يعرفوه ولم يكن منهم إنكاراً، وإنما ذكر ذلك لمطابقة المعروف
والمنكر.
قوله: (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) ، إلى آخر الآيتين.
سؤال: كان إخوة يوسف أهل حزم وعزم ورأي ومعرفة، فلِمَ لم
يقولوا لَهُ من أين عرفت أخانا هذا وما عليك أو لك في أمرك إيانا بالإتيان
الجواب: ذهب بعضهم إلى أنهم لما دخلوا على يوسف وكلموه
بالعبرانية قال لهم: من أنتم وأما أمركم ولعلكم عيون جئتم تنظرون عورة
بلادنا، قالوا: والله ما نحن بجواسيس إنما نحن إخوة بنو أب واحد، وهو
شيخ، يقال له يعقوب نبي من الأنبياء، قال: فكم أنتم،(1/542)
قالوا: كنا اثني عشر، فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك فيها، وكان أحبنا إلى أبينا، قال فكم أنتم ها هنا، قالوا: عشرة، قال: فأين الآخر، قالوا: عند أبينا وهو الذي هلك أخوه من أبيه وأمه، يتسلى به، قال: فمن الذي يعلم أن الذي تقولون حق، قالوا: يا أيها الملك إننا ببلاد لا يعرفنا أحد، فقال يوسف: فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين، فأنا أرضى بذلك. أظهر لهم أنه يريد أن يستبري به أحوالهم.
وقال صاحب النظم: سألوه أن يعطيهم وأخاهم الأخ
لأبيهم، فأعطاهم، ثم أعيد عليهم في الرجعة فقال: ائتوني بهذا الأخ حتى
أعلم صدقكم من كذبكم، وإن لم تأتوني به، علمت كذبكم، فلم أعطكم
شيئا بعده، وقيل: سألوه لأخيهم هذا فلم يعطهم، وقال لهم: ائتوني به حتى
أعلم ذلك ثم أعطيكم.
قوله: (وإنا لفاعلون) .
أي ما أمرتنا به.
الغريب: لفاعلون المراودة، وهذه الكلمة تشبه قولَه في السورة:
(إن كنتم فاعلين) .
قوله: (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) .
كرر العل "، لأن الأول يتعلق بالمعرفة، والثاني بالرجوع، ومثله في
هذه السورة (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) .
الغريب: إنما كرره لمراعاة فواصل الآي، لأنه إن لم يكرره كان وجه
الكلام لعلهم يعرفونها فيرجعوا، وكذلك لعلي أرجع إلى الناس فيعلموا.
قوله: (مَا نَبْغِي) .
"مَا" للنفي، أي لا نطلب منك ما تردنا به إلى مصر، هذه بضاعتنا
نتصرف بها.(1/543)
والغريب: "مَا" للاستفهام، أي ماذا نطلب وماذا نريد، وهل فوق هذا
من مزيد، أكرمنا وباع منا ورد علينا الثمن.
العجيب: "مَا" للنفي، و "مَا" معناه ما نكذب فيما نخبرك عن صاحب
مصر.
قوله: (بَعِيرٍ) أي جمل.
الغريب: مجاهد: "بعير" حمار.
قوله: (لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) .
الأكثرون على أنه خاف عليهم العين، وكانوا ذوي هيبة وجمال.
وقيل: خاف عليهم أن يبلغ الملك قوتهم وشدة بطشهم فَيهُمَّ بهم شراً خوفا
على مملكته.
الغريب: قال ذلك رجاء أن يلقوا يوسف.
العجيب: معناه لا تسألوا الملك حاجة واحدة بأجمعكم بل يسأل كل
واحد منكم حاجة كلما جاء في قوله: (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) .
قوله: (وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ)
جمع بين الواو والفاء في عطف الجملة على
الجملة لما تقدم الصلة على الموصول بها.
قوله: (مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) .
تصديق من الله نبيه في قوله: (وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) .
قوله: (إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا)
أي قضى تلك الحاجة.
وهي تفرقهم خوف العين أو خوف الملك أو رجاء أن يلقوا يوسف.
قوله: (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) .(1/544)
اعترف له بنسبه، وقال: لا تخبرهم بما أخبرتك.
الغريب: وهب: أنا أخوك مكان أخيك الذي زعموا أنه أكله الذئب.
قوله: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) .
دَأبُ الناشد في طلبه الضالة أن يضمن لمن جاءه بها شيئاً.
قوله: (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) بعد قوله: (نَفْقِدُ) محمول على المؤذن، فإن
الزعيم كان هو المؤذن.
قوله: (تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) .
إنما قالوا ذلك، لأنهم كانوا إذا دخلوا مصر كعموا (1) أفواه دوابهم حتى
لا تأكل من حرث الناس، وكان قد عرف ذلك منهم، لأنهم ردوا ما وجدوا
في رحالهم وليس ذلك دأب السراق.
الغريب: فيه تقديم وتأخير، تقديره: تالله ما كنا سارقين ولقد علمتم.
لتكون اليمين واقعة على فعلهم لا فعل غيرهم.
قوله: (قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ) .
أي جزاء السارق نفس السارق، أي استعباده، وله من الإعراب
وجهان: أحدهما: أن جزاء رفع بالابتداء (مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ) خبره " فهو
جزاؤه جملة عطفت على جملة.
والثاني: أن "جَزَاؤُهُ" مبتدأ و "مَنْ وُجِدَ) مبتدأ ثانٍ، "فَهُوَ جَزَاؤُهُ" خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول، والعائد إلى المبتدأ
الأول غير المبتدأ، كما تقول: زيد ضربت زيداً، و "من " للشرط.
و"الفاء"
خبره، وقيل: هو بمعنى الذي، و "الفا" دخل الخبر، وقيل: (من) في الآية
نكرة، وما بعده صفة له، كما جاء في الشعر:
قال الشاعر:
__________
(1) كعموا: حبسوا أفواه دوابهم بحابس ومانع عن الأكل، والمكاعة التقبيب، اللسان مادة "كعم"، ومختار الصحاح مادة "كعم"، ومعجم مقاييس اللغة مادة "كعم".(1/545)
فكفى بنا فَضْلاً على مَنْ غيرُنا. . . حُبُّ النبيِّ محمدٍ إيانا
وفيه بعد.
قوله: (ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا) .
أي السقاية التي في رحل أخيه، وقيل: الصواع، وهو يذكر ويؤنث.
وقيل: السرقة.
قوله: (كِدْنَا لِيُوسُفَ) ، أي صنعنا، وقيل: ألهمنا.
الغريب: (كِدْنَا) بمعنى أردنا، كما جاء (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) .، والمراد
يكاد. ومن الغريب: كدنا إخوةَ يوسف لأجل يوسف، الكيد هنا: رد الحكم إلى بني يعقوب.
قوله: (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) .
أكثر المفسرون فيه.
والغريب: قول عكرمة: هذه عقوبة من الله ليوسف أجراها على لسان
إخوته في مقابلة قوله: (إنكم لسارقون) .
قوله: (فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ) ، أي الإجابة، وقيل: المقالة.
والمراد بها المقول.
العجيب: قال الزجاج: هذه كناية بشريطة التفسير، ورد عليه أبو
علي، وقال: الكنابة شريطة التفسير في الكلام على وجهين لا ثالث لهما.
أحدهما: مفرد تفسره جملة نحو: إنه زيد قائم، والنحويون: يسمونه كناية(1/546)
الأمر والشأن، وهذا مختص بالمبتدأ والعوامل الداخلة على المبتدأ.
والثاني: مفرد يفسره مفرد نحو: نعم رجلًا زيد، وبئس غلاماً عمرو، وأراد
الزجاج بقوله: بشريطة التفسير، أن قوله: (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) ، يفسره، والقول قول أبي علي.
قوله: (خَلَصُوا نَجِيًّا) .
أي انفردوا عن غيرهم يتناجون نجيا، فهو مصدر، وقيل: هو اسم
الفاعل أي كل واحد نجي.
الغريب: فعيل يقوم مقام الجمع.
قوله: (وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ)
"مَا" صلة، وقيل: "مَا" مع الفعل في تأويل المصدر، ومحله نصب بالعطف على اسم (أنّ) ، وقيل: على محل أن، وقيل، رفع بالابتداء، و "فِي يُوسُفَ" خبره، أي وتفريطكم، كان في يوسف من قبل، وقيل: رفع بالابتداء، "فِي يُوسُفَ" خبره، وقيل: رفع بالابتداء، "فِي يُوسُفَ" خبره، وهذا مزيف.
قوله: (إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ) .
فيما رأينا في الظاهر.
قوله: (وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ)
أي لم نعلم الغيب حين سألناك أن تبعث بنيامين معنا، ولم ندر أن الأمر يؤول إلى هذا.
الغريب: الغيب، الليل بلغة حِمير، أي لعله سرق بالليل، وقيل:
في رحله بالليل.
قوله: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) .
عاد إلى مثل كلامه في يوسف، وهو قوله: (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)(1/547)
حين جاؤوا على قميصه بدم كذب.
فإن قيل: كيف يمكن الجمع بين قوله: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) ، ويين قوله: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) .
الجواب: الشكوى إلى الله لا تزيل اسم الصبر عن الصابر، كما لم
تزِل عن أيوب عند قوله: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ)
فإن قيل: كيف عدل إلى يوسف ولم يقل يا أسفي على بنيامين؟
الجواب: أراد يا أسفي على يوسف وبنيامين، واقتصر على ذكر
أحدهما، وقيل: كأنَّه أراد كل هَمٍّ بالإضافة إلى هَمِّ يوسف جلل، وقيل: لأنه نُعي إليه يوسف حين قالوا فأكله الذئب، ولم ينع إليه بنيامين، بل قيل: إن ابنك سرق.
قوله: (تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ) .
أي لا تفتؤ، وجاز حذفه، لأن اليمين في الإثبات يجاب باللام أو
بإن، وفي النفي يجاب بما أو بلا، وإذا خلا من علامة الإثبات فالنفي لا
غير، نحو: أن تقول: والله اضرب زيداً، يكون تقديره: لا أضرب، ومثله:
(وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا) ، أي لا يؤتوا، ومثله في
الشعر في. قال امرؤ القيس:
1271، لقد آليت أغدِرُ في جداع
أي لا أغدر، وذكر عقبه.
فإن الغدْرَ بالأقوام عارٌ
وإن الحرَّ يجزأ بالكراع
قوله: (وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا) .
أي أعطنا بالرديء ما تعطي بالجيد، وقيل: تصدق علينا بأخذ متاعنا.
وإن لم يكن من حاجتك..(1/548)
الغريب: تصدق علينا بأخينا، وقيل: تفضل علينا وتجاوز عنا.
العجيب: كانت الصدقة على الأنبياء حلالا، وإنما حرمت على نبينا
محمد - صلى الله عليه وسلم.
قوله: (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) .
موجب هذا القول عند بعضهم، أنهم لما قالوا: (يا أيها العزيز مسنا
وأهلنا الضر) دخلته رقة، فعندها قال: هل علمتم، وقيل: كتب يعقوب إليه كتابا في معنى بنيامن وذكر أحواله، فدخلته رقة.
الغريب: قال لهم يوسف: إن مالك بن ذعر قال: اشتريت منكم
بمكان كذا غلاما من صفته كذا وكذا، فقالوا: نحن بعناه منه، فغضب عليهم وأمر بقتلهم، فبكوا وجزعوا، فدمعت عيناه ورق لهم، وقال: هل علمتم.
حكاه الثعلبي في تفسيره (1) .
العجيب: حكى ابن الهيضم في كتاب القصص: أنه صلبهم. وفي
القولين بعد - والله أعلم -.
قوله: (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) .
قرىء يالاستفهام والخبر، ويرجح جانب الاستفهام قوله عقبه "أَنَا يُوسُفُ"، ويرجح جانب الخبر اللام، وقوله: "لَأَنْتَ" مبتدأ، و"يوسف"
خبره، والجملة خبر عن اسم إن.
العجيب: قول من زعم أن أنت تأكيد لكاف الخطاب، واللام يدفع
هذا القول.
__________
(1) إسرائيليات منكرة لا أصل لها.(1/549)
قوله: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) .
عن ابن كثير: "من يتقي ويصبر" - بإثبات الياء وجزم الراء، وبابه
الشعر. قال الشاعر:
ألم يَأْتيك والأنباءُ تُنْمي. . . بما لاقَتْ لَبُونُ بني زياد
الغريب: (من) الشرط بمعنى "الذي"، و "يتقي" صلته، وجزم الراء
يصير حملًا على الشرط الذي تضمنه الذي، وحسن لذلك دخول "الفاء" في
خبره. ذكره أبو علي في الحجة.
العجيب: أراد ويصبر فسكنه تخفيفاً، حكاه أبو علي أيضاً.
قوله: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) .
هي قرية بالقرب من مصر، لأنهم كانوا قد خرجوا من مصر، وقيل:
القرية هي مصر، والتقدير: أهل القرية، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه
مقامه، وهذا في القرآن كثير جداً.
الغريب: ليس في الآية حذف، والمعنى ليس بمستنكر أن يكلمك
جدران القرية، فإنك نبي.
قوله: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) .
الجمهور لا تعيير عليكم، وقيل: لا أذكر لكم ذنبكم، وقيل: لا مجازاة
على ما فعلتم عندي لكم، وقيل: لا تخليط عليكم - الزجاج: لا إفساد
عليكم، وقيل: لا لوم عليكم ولا عتب.(1/550)
الغريب: ابن عيسى" التثريب تعليق الضر بالإنسان من أجل جرم كان منه.
العجيب: ابن بحر: هو مأخوذ من الثرب، وهو لحم الجوف، وهو
بلوغ الأقصى من الأمر.
قال الشيخ: ومن الغريب: يحتمل أنه من الثرب، كما ذكر ابن بحر
ويكون المعنى فيه كالمعنى في قولك: فلان يتناول كبد زيد ويأكل كبده.
كناية عن التوبيخ واللوم والانتظار.
وقوله: (عليكم) لا يتعلق بالتثرب، لأن ذلك يستدعي تنوين
التثريب، وكذلك اليوم، ويجوز أن يكون "عليكم" الخبر واليوم متعلق بما في
عليكم من معنى الفعل، ويجوز أن تجعل اليوم خبراً و "عليكم" صفة للتثريب، ويجوز أن تضمر الخبر، أي لا تثريب عليكم موجود، ويجوز أن يكون اليوم متصلاً بقوله: (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ) ، فيكون الكلام كافياً على قوله: (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) .
قوله: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا) .
قيل: كان قميصه الذي يلبسه، وقيل: كان من الجنة، لا يمسه ذو
عاهة إلا صح، وذكر المفسرون: أنه القميص الذي ألبسه الله إبراهيم - عليه السلام - يوم طرح في النار، فكساه إسحاق، ثم كساه هو يعقوب، ثم جعله يعقوب في تعويذة وعلَّقه في جيد يوسف ولم يعلم إخوته بذلك (1) .
قوله: (يَأْتِ بَصِيرًا) ليرجع إلى حالة الصحة والبصر.
قوله: (رِيحَ يُوسُفَ) .
أي ريح قميص يوسف، فكان من الجنة (2) ، فعلم أن ليس في الدنيا من
الجنة شيء إلا ذلك القميص، ولذلك قال: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) ، ومن
حمله على القميص الملبوس، قال: لما نشروه فاحت منه ريح يوسف فبلغت
__________
(1) لا دليل على شيء من ذلك.
(2) هذا القول كسابقه، كما أن ملابس الجنة لها مواصفات خاصة لا تنطبق على ملابس الدنيا ولا على قميص سيدنا يوسف - عليه السلام - والله أعلم.(1/551)
يعقوب من مسافة بعيدة معجزة له، وللولد ريح كما جاء في الخبر،: ريح
الولد من الجنة) .
قوله: (لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ) .
أي خطأكِ القديم من حب يوسف، غلظوا له القول بهذه الكلمة إشفاقا
منهم عليه، وكان عندهم أنه قد مات، وهذا الكلام من أسباط يعقوب، فإن أولاده بَعْعُ في الطريق.
سعيد: "ضلالك" حيرتك. الحسن: هذا عقوق، كأن لم يرضَ هذا القول.
الغريب: في ضلالك، أي محبتك.
قال الشيخ الإمام: وفي الغريب يحتمل أنهم أرادوا بهذا الضلال ما قال بنو يعقوب ليعقوب إن أبانا لفي ضلال مبين.
قوله: (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) .
أي أدوم عليه، وقيل: أخره إلى وقت السحر، وقيل: إلى ليلة الجمعة.
وقيل: إلى أن أسال يوسف، فإن عفا عنكم أستغفر لكم.
قوله: (أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) .
الجمهور، أبوه وخالته: الحسن: أمه كانت باقية إلى دخول
مصر، - وهو الغريب -
والعجيب: قول من قال: أحياها الله ذلك الوقت تحقيقا لرؤيا
يوسف.
قوله، (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) .(1/552)
قيل: متصل بالدخول، وكان قد استقبلهم، وقيل متصل بالأمن، لا
تخافون بعد اليوم.
الغريب: (إِنْ شَاءَ اللَّهُ) جار مجرى تسبيح ها هنا، وليس باستثناء.
العجيب: هو متصل بقوله: (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) إن شاء الله.
قوله: (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا) ، أي ليوسف تصديقا لرؤياه، وكان تحيتهم
ذلك.
الغريب: سجدوا لله، و"الهاء" في "له، تعود إلى الله، وفيه تقديم.
أي وخروا له سجداً ورفع أبويه على العرش.
قوله: (إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) ولم يقل: من الجب، لقوله: (لا
تثريب عليكم) .
قوله: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا) .
ذهب جماعة إلى أنه تمنى الموت، وذهب آخرون إلى أن المعنى
توفني حين تتوفني.
وقوله: (يمرون عليها) .
يعود إلى الآيات.
الغريب: يعود إلى الأرض، وقوله: (عنها) يعود إلى الآيات لا غير.
وقرىء في الشواذ "والأرضُ" - بالرفع -.
وقوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ)
أي وكأيِّ عدد شئت، ويلزم ما بعده من قوله: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
نزلت في الكفار، لأنهم مقرون بأن الله خلقهم، وقيل: نزلت في الثنوية، وقولهم بالنور والظلمة، والمجوس وقولهم الخير من الله والشر من إبليس. وقيل: في النصارى، آمنوا ثم أشركوا بالثليث.(1/553)
الغريب: ابن عباس: نزلت في تلبية المشركين، وهي قولهم: لبيك
اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك، وقيل: في
المنافقين، وقيل: في أهل الكتاب.
العجيب: قول من قال - وهو ابن جرير -: هو قول القائل: لولا الله
وفلان لكان كذا. وقيل: تقديره: إلا وهم كانوا مشركين.
ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن حلفَ بغير الله ففد أشركَ بالله) .
قوله: (عَلَى بَصِيرَةٍ) .
حال من الداعي، و "أنا" تأكيد للضمير في "أدعواا، و "وَمَنِ اتَّبَعَنِي" عطف
عليه.
الغريب: "أنا ومن اتبعني" ابتداء، "على بصيرة" خبره تقدم عليه.
ويجوز أن يرتفع ب "على " عند الأخفش.
قوله: (من أهل القرى) .
لأنهم أحكم وأعلم، وما بعث الله نياً من البادية ولا من النساء.
قال الحسن: ولا من الجن.
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة: (من قبلك) بزيادة "من"، وقال في الأنبياء: (قبلك) بحذفه.
الجواب: قيل: اسم للزمان الذي تقدم أضيف إليه قبل، وأفاد
دخول من استيعاب الظرفين، لأن قبل قد يقع على بعض ما تقدم، وما في(1/554)
هذه السورة للاستيعاب، وأما في الأنبياء فوافق ما قبله وهو قوله: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ) ، لأنه هو بعينه.
قوله: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ، أي الأرض ذات الطول والعرض.
الغريب: معناه، أفلم يقرأوا القرآن فيعرفوا حال من قبلهم.
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة: "أَفَلَمْ"، وفي بعض المواضع
"بالواو".
الجواب: إذا كان الثاني متصلا بالأول ذكر بالفاء ليدل على
الاتصال، وعلى عطف جملة على جملة، والواو يدل على عطف جملة على
جملة فحسب، وفي هذه السورة، قد اتصلت بالأول لقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا) ، حال من كذبهم، وليس كذلك ما في الروم والملائكة.
قوله: (ولدار الآخرة) ، الموصوف محذوف تقديره، ولدار الساعة
الأخرى، فحذفت الساعة لتقدم ذكرها في قوله (أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً) ، أي القيامة.
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة (بالإضافة) وقال في الأعراف: (والدار الآخرة) على الصفة.
الجواب: لأن في الأعراف تقدم قوله: (عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى) .
أي المنزل الأدنى، والدار الدنيا بمعناه، والدنيا صفة للدار، كذلك الآخرة
جعلت وصفاً للدار.
قوله: (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) .(1/555)
من قرأ - بالتشديد - فمعناه وأيقنوا أن القوم قد كذبوهم، ومن قرأ
- بالتخفيف - فله وجهان:
أحدهما: أن الضمير يعود إلى المرسل إليهم، أي وظن القوم أن الرسل قد كَذَبوهم.
والثاني: يعود إلى الرسل، أي وظن الرسل أن قومهم قد كذَبوهم فيما وعدوهم من الإجابة إلى الإيمان.
وقيل: ظن القوم أن الرسل قد كذِبوا، أي أخلِفوا ما وُعِدوا به من النصر، و "كَذب" يتعدى إلى مفعولين: كذبته الحديث.
العجيب: حكى القتَبي في المشكل: كانوا بشراً، يعني الرسل.
يذهب إلى أن الرسل ضعفوا فظنوا أنهم أُخلِفوا.
قال الشيخ الإمام: وهذا بعيد لا يعتقد مثله في الأنبياء والمرسلين
- والله أعلم.(1/556)
سورة الرعد
قوله تعالى: (المر) .
سبق الكلام فيها.
الغريب: أنا الله أعلم وأرفع بدليل قوله: (الله الذي رفع السموات) .
قوله: (آيات الكتاب)
قيل: التوراة والإنجيل، وقيل: اللوح المحفوظ.
العجيب: الزبور وهو قول مطر.
الغريب: القرآن، والذي أنزل إليك من ربك هو القرآن لا غير.
ومحل الذي جر فيمن جعل الكتاب القرآن على الوصف، والواو زيادة.
ويجوز أن يكون للعطف، وقد يعطف الوصف على الوصف، قال الشاعر:
إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ. . . وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ
وقيل: محل" والذي" رفع بالابتداء "الحق" خبره.
العجيب: قيل: محله جر بالقسم وجوابه (المر تلك آيات الكتاب "(1/557)
تقدم عليه، فلم يحتج إلى حرف التأكيد.
وقوله: (الحقُّ) رفع من أربعة
أوجه، أحدها: أن يقال: "تِلْكَ" مبتدأ، "آيَاتُ الْكِتَابِ" صفته، "الْحَقُّ"
خبره.
والثاني: "تِلْكَ" مبتدأ، "آيَاتُ الْكِتَابِ" خبره، و "الْحَقُّ" خبر بعد
خبر، والثالث: (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) مبتدأ، "الْحَقُّ" خبره.
والرابع: خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق.
قوله: (بِغَيْرِ عَمَدٍ) .
جمع عماد، وقيل: جمع عمود، فإن العرب تقول: عماد البيت وعمود
البيت، والجمع عَمَد - بفتحتين -، ومثله: إهاب وأُهَب، وأديم وأُدَم، وأفيق وأفَق.
قوله: (ترونها)
"الهاء" تعود إلى السماء، والتاء متعلق بالرفع، ويجوز
أن يعلق بالرؤية أي ترونها بالعيان فلا حاجة إلى البيان، وقيل: "الهاء" يعود
إلى العمد، وفيه وجهان:
أحدهما: أنها عمد غير مرئية وهي قدرة الله تعالى.
والثاني: هي جبل قاف، والسموات مقببة عليه، وإن خضرة السماء من
ذلك.
الغريب: قال الفراء: تقديره: بعمد لا ترونها، فقدم النفي.
والعرب قد تفعل مثل هذا. قال الشاعر:
ولا أراها تزال ظالمةً. . . تُحْدِثُ لي قَرحةً وتنكؤها
أي أراها لا تزال.
قوله: (مَدَّ الْأَرْضَ) .
أي طولاً وعرضاً، والآية حجة لمن قال الأرض بسط على من قال
كرَة.(1/558)
قوله: (رَوَاسِيَ)
جمع راسية، كأنَّه جمع جبلًا على أجبل، ثم جمع
جبال، وهي جمع الكثير. والتأنيث لأجبل، وقيل: جبل راسية على المبالغة، كعلامة وراوية للحديث، وهو الغريب.
قوله: (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)
أي نوعين، وقيل: لونين، حلو وحامض، وأبيض وأسود، وخص اثنين بالذكر، وإن كان في أجناس الثمار ما يزيد على ذلك.
لأنه الأقل، إذ لا جنى تنقص أنواعه عن اثنين.
الغريب: تم الكلام على قوله: (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) ، ثم قال: (جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ، يعني الشمس والقمر، والليل والنهار.
العجيب: أحد الزوجين ذكر والآخر أنثى، كفحول النخل وإناثها.
وكذلك كل النبات، وإن خَفي.
ومن الغريب: قول من قال: (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) يريد بهما أربعة، لأن الزوج
يقع على الاثنين كما يقع على الواحد، فصارت كل ثمرة أربعة أنواع.
قوله: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ)
الليل، المفعول الأول، أي يُغْشِي في أحدهما الآخَر، فيصير التقدير يُغْشِي الليل النهار، والنهار الليل.
قوله: (صِنْوَانٌ) .
أي نخَلاتْ أصلها واحد، (وَغَيْرُ صِنْوَانٍ) ، أي متفرقات.
الغريب: "صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ"، صفة لجنات، أي أشكال وغير أشكال.
قوله: (يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ)
الماء متحد الوصف، واختلاف ألوانه وطعومه بالمجاورة "والأكل"، الثمر.
وهو خلاصة الشجر.
الغريب: هذا مثل لبني آدم صالحهم وطالحهم وأبوهم واحد.
ومن الغريب: هذا مثل لقلوب بني آدم يزل عليها تذكير واحد، فيرق بعضها، ويقسو البعض.(1/559)
قوله: (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) .
أي عندكم، ولا به يوصف الباري سبحانه.
الغريب: ذهب فتادة إلى جوازه.
(أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا)
العامل في إذا مضمر تقديره " انبعث، ولا يعمل في "كنا"، لأن "إذا" مضاف إليه والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولا فيما قبله ولا يعمل فيه "جديد"، لأن ما بعد "إن" لا يعمل فيما قبله.
قوله: (الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ) ، جمع غُل، وهو القيد يجمع اليمنى
والعنق.
الغريب: (أغلالُهم" أعمالهم، كما تقول للعمل السيء: هذا غُل في
عنقك.
قوله: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) .
أي بالعقوبة قبل العافية، وقيل: بالشر قبل الخير، وقيل بالكفر قبل
الإجابة. وقيل: يطلبون ما يسوؤهم من العذاب قبل الإحسان بالأنظار.
الغريب: معنى "قبل" ها هنا الوقت، أي يستعجلونك بالعذاب وقت
إحسان الله إليهم بتأخيره عنهم إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
ومن الغريب: "قبل" ها هنا للتفضيل" كما تقول: الفرائض قبل النوافل.
العجيب: "قبل" ها هنا بمعنى دون كما تقول: اختر الجَوْد قبل
النحل، وقد يستعمل دون بمعنى قبل كقوله - عليه السلام -: " من قتل
دون ماله فهو شهيد".
قوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ)
قيل: على الصغائر، وقيل: على ظلمهم بالتوبة منه، وقيل: هو بمنزلة قوله:(1/560)
(يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) .
الغريب: المغفرة ها هنا تأخير العذاب إلى يوم الجزاء لا غفران
الذنوب.
وقيل: (عَلَى ظُلْمِهِمْ) على شركهم إذا أسلموا، وزعم بعضهم أنه
منسوخ بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية، والجمهور على أنه
محكم، ورحم امرءاً لم يضيق على الناس ما وسَّعه الله لهم.
قاله الشيخ الإمام.
قوله: (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) .
تقديره: إنما أنت يا محمد منذر وهاد لكل قوم، وقيل: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ) ، والله لكل قوم هاد، وقريب من هذا قول من قال، ولكل قوم هاد الله.
ثم قال: يعلم، أي هو يعلم، وقيل: هذا عام، أي ولكل قوم نبي بعث إليهم وداع يدعوهم إلى الحق.
العجيب: "إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ" وعليٌّ هاد لكل قوم. حكاه الثعلبي في
تفسيره.
قوله: (مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى) .
أي من ذكر وأنثى، وقيل: من واحد أو اثنين.
الغريب: من صالح أو طالح.
قوله: (وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ)
أي تنقص عن مدة الحمل، وهي تسعة أشهر، وما تزيد على تسعة أشهر من السنة والسنتين وأكثر من ذلك، وقيل، الحَبَل والحُبالى.(1/561)
الغريب: ما تغيض عن الواحد بالإخداج والإسقاط، (وما تزداد) .
على الواحد والاثنين.
العجيب: كلما حاضت على الحَبَل، أي رأت الدم على حملها يوما.
ازدادت على طهرها يوماً، حتى تستكمل تسعة أشهر طهراً، وما يجوز أن
يكون للمصدر، فلا يكون له محل من الإعراب، لأنه حرف، ويجوز أن
يكون بمعى الذي، فيكون في محل نصب، ويجوز أن يكون للاستفهام
ومحله رفع بالابتداء.
قوله: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) .
"مَنْ أَسَرَّ" مبتدأ، "وَمَنْ جَهَرَ" عطف عليه، وكذلك "وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ".
و"سَوَاءٌ " الخبر تقدم عليه.
قوله: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) .
يعود إلى "من "، وقيل: إلى (مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ) ، والكلام قد تم على
"وَمَنْ جَهَرَ"، ومعنى "مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ" في الليل الباء للآلة، أي استتر به.
"وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ" أي في النهار.
الغريب: بسبب النهار، ومعنى قوله: "وَسَارِبٌ" ظاهر، وقيل: داخل.
له معقبات من آي الله، وهو الأظهر، والمعقبات الملائكة، وشدد الفعل
لكثرة وقوعه منهم، وأنث حملاً على لفظ الملائكة، وجمع كما تقول
العرب: رجالات قريش وأبناوات سعد.
قوله: (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) أي بأمر الله، وقيل: حفظهم إياه بأمر الله.
وقيل: (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (الله) صفة لمعقبات، أي معقبات من أمر الله، كما تقول: له غلامٌ مِن بصره.
الغريب: يحفظونه من الجن والعقارب والحيات، وكل ذلك من
مخلوق الله، فيكون "من" بمعى عن.(1/562)
العجيب: يحفظونه من قدر الله ما لم يجىء القدر، فإذا جاء القدر.
خلوا بينه وبينه.
قوله: (لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ) ، أي من النعمة حتى يغيروا ما بأنفسهم
من الطاعة. فيجعلوها معصية.
الغريب: لَا يُغَيِّرُ ما بهم من النعيم حَتَّى يُغَيِّرُوا هم ذلك، لأن ما بالقوم
ومَا بِأَنْفُسِهِمْ واحد.
ابن عباس ومجاهد في قوله (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) هم الحرس والرجال
يحفظون الأمراء، وقيل: هم الأمراء يمنعون الناس من الظلم.
العجيب: عكرمة، هم الجلاوزة.
ومن الغريب: لمحمد - عليه السلام - ملائكة يحفظونه بأمر الله، وذلك
حين هَم أربدُ وعامر بن الطفيل بقتله فكفاه الله.
قوله: (خَوْفًا وَطَمَعًا) .
مصدران وقعا موقع الحال، أي خائفين وطامعين.
الغريب: "خَوْفًا وَطَمَعًا"، معناهما إخافةً وإطماعاً، كما تقول: فعلت
ذلك رغماً للشيطان، أي إرغاماً، فيكون نصبهما على المفعول له.
قوله: (وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) .
أي من خيفة الله، وقيل: من خيفة الرعد، والرعد: اسم ملك.
بالسحاب، والمسموع من السحاب صوته، وقيل، الرعد: هو صوت
ذلك الملك.(1/563)
والغريب: الرعد: صوت أجرام السحاب، وتسبيحه، دلالته على
وحدانية الله عز وجل، والأول الصواب، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا سمع صوت الرعد يقول: " سبحان من يُسبح الرعد بحمدِهِ ".
وعن ابن عباس: من سمع صوت الرعد فقال: "سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير، فإن أصابته
صاعقة، فعليَّ ديته".
قوله: (شَدِيدُ الْمِحَالِ) ، أي الأخذ والانتقام والعداوة.
الغريب: الإهلاك بالمحل، وهو القحط "والميم" أصل، من قولهم
محل به، إذا عرضه للهلاك.
الغريب العجيب: الميم زيادة، والكلمة من الحول والحيلة، وهو
بعيد، لأن المِفْعَل والمِفعال يصحان كالمِخْيط والمِقْود والمِحْور.
قوله: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) .
في وجهان: أحدهما: أن "الذين يدعون" هم الكفار، وواو الضمير هو
العائد إلى الموصول، والمفعول محذوف، وهم الأصنام، ودل على
المحذوف ما بعده وهو قوله: (لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ) .
الثاني: أن "الَّذِينَ يَدْعُونَ" هم الأصنام، والضمير محذوف، أي يدعونهم "لا يستجيبون لهم" خبر الذين في الوجهين.
قوله: (إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ) : استثناء من الاستجابة التي دل عليها (لَا يَسْتَجِيبُونَ) ، لأن الفعل بحروفه يدل على المصدر، وبصيغته يدل على الزمان، وبالضرورة يدل على المكان، والحال، فجاز استثناء كل هذه من الفعل، فصار تقدير الآية (لَا يَسْتَجِيبُونَ) إلا استجابة مثل استجابة باسط كفيه إلى الماء، واللام في "ليبلغ" متصل بـ "بَاسِطِ كَفَّيْهِ) "(1/564)
إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ
قوله: (وَمَا هُوَ)
يجوز أن يكون كناية عن الماء، ويجوز أن يكون كناية عن قوله: (فاه) ، ويجوز أن يكون كناية عن بَاسِطِ كَفَّيْهِ.
قوله: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ)
قيل: الله، وقيل: الصنم.
قوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
سجود تعبدٍ وانقياد "طوعاً" سجود الملائكة والمؤمنين، "وكرها" من
أمره على الإيمان، وقيل: الطواعية والكراهية في سجود من في الأرض، وأما الملائكة، فهم يسجدون طَوْعًا، وقيل: طبعا، وفيه نظر، وقيل: المراد
بالسجود كرهاً قهر الله للأشياء لما أراد منهم وإن لم يسجدوا سجود عبادة.
قوله (وظلالهم) ، أي ويسجد ظلالهم، جمع الظل، وهو ما ستره الشيء
عن شعاع الشمس، يقصُر مرة ويمد أخرى، وقد قيل: ظل كل شيء من كل جنس يسجد لله، وقيل: سجوده دلالة على الوحدانية، فظل الكافر يسجد طَوْعًا، وهو كاره، وظل المؤمن طَوْعًا وهو طائع.
قوله: (بالغدو) ، قال الفراء: هو مصدر.
غيره الغدو جمع غداة، مثل قُنِى وقناة، والآصال جمع
أصيل، وقيل: جمع أصُل، وأصُل جمع أصيل.
الغريب: " ظِلالهم" أشخاصهم.
سؤال: لمَ قال في هذه السورة (مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
وقال في سورة الحج: "مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ الْأَرْضِ) ، وقال في
النحل: (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ؟
الجواب: لأن في هذه السورة تقدم آية السجدة ذكر العلويات من
البرق والسحاب والرعد والصواعق، ثم ذكر الملائكة وتسبيحهم، ثم ذكر
الأصنام والكفار، فبدأ في آية السجدة بذكر من في السماوات لذلك، وذكر(1/565)
الأرض تبعاً، ولم يذكر من فيها استخفافا بالكفار والأصنام، وأما في سورة
الحج، فقد تقدم ذكر ما خلق الله على العموم فلم يكن فيه ذكر الملائكة ولا
الإنس بالصريح، فاقتضى للآية ما في السماوات وما في الأرض، فختم كل
آية بما اقتضاه أول الآية.
قوله: (أَنْزَلَ) .
أي الله، وقيل: يعود إلى ما قبله، وهو الواحد القهار، "مِنَ السَّمَاءِ"
من السحاب، وقيل: من جانب السماء، وقيل: من سماء الملائكة، "ماء"
مطراً، "فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ" جمع واد، وهو الموضع الذي فيه الماء بكثرة.
قوله:
(بِقَدَرِهَا)
في الصغر والكبر، والقدر: اتزان الشيء بغيره من غير زيادة ولا
نقصان، وقيل: بقدرها: ملئها. الزجاج: ما قدر لها من ملئها، وهو الغريب.
قوله: (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا) ، رَفَعَ زبداً، وهو وضر الغليان وخبثه.
"رَابِيًا" عالياً.
الغريب: "رَابِيًا"، زائدا بانتفاخِهِ.
وهذا مثل ضربه الله للقرآن والقلوب والحق والباطل، فالماء مثل
القرآن، والأودية مثل القلوب، ومعنى "بقدرها" على سعة القلوب وضيقها، فمنها ما انتفع به فحفظه ووعاه فتدبره، فطهرت ثمرته وأدرك تأويله ومعناه، ومنها دون ذلك بطبقة، ومنها دون ذلك بطبقات، والزَبَد مثل الشكوك والشبه وإنكار الكافرين إنه كلام الله، والماء الصافي المنتفع به مثل الحق.
قوله: (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ)
يريد الفِلِزّات كالذهب والفضة والرصاص والصفر والحديد والنحاس، ومعنى توقدون عليه في النار عند الجمهور: تلقون عليه الحطب في النار تحته. قال أبو علي في كتاب الحجة: "عليه" من صلة "توقدون" كقوله: (فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ) .(1/566)
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ
وقوله: (فِي النَّارِ) حال "للهاء" من "عليه "، أي كالْاً في
النار، قوله: (ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ) ، يريد ما يتخذ من النحاس والصفْر والحديد
والرصاص من الأواني وغيرها مما يمتع به في السفر والحضر.
قوله: (زَبَدٌ مِثْلُهُ)
يريد لهذه الفلزات إذا غليت بالنار زَبَد مثل زبد الماء، و"ابتغاء"
نصب على المفعول له. أي لابتغاء حلية.
الغريب: نصب على الحال، أي مبتغين حلية.
قوله: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ)
فيه قولان، أحدهما:
أي مثل الحق والباطل، فحذف المضاف، والثاني: (يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ) ، الأمثال، وهو قوله: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) .
فلما حيل بينهما بقوله: (فَأَمَّا الزَّبَدُ) الآية، أعاد فقال: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) .
قوله: (جُفَاءً) هو ما جفاه الوادي، أي رماه.
الغريب: ممحقاً.
العجيب: متنثسفاً.
قوله: (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ) .
قال الشيخ الإمام: يحتمل أن المراد بالمِثْل، الجمع، كقوله: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) ، أي أمثالهم، لتكون المبالغة على وجه لا مزيد عليها.
سؤال: لِم قال في هذه السورة: (لَافْتَدَوْا بِهِ) ، وقال في غيرها: (لِيَفْتَدُوا بِهِ)
الجواب: لأن "لو" يقع على الماضي أولا وثانياً.
وقوله: (مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) جواب لهم، و (لِيَفْتَدُوا) اعتراض، وفي هذه السورة جاء على القياس من غير اعتراض.(1/567)
قوله: (أَنَّمَا أُنْزِلَ) .
"مَا" في محل نصب، "بأن" الحقُ خبره، وفي المصحف "أنما" متصل.
قوله: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
"مَا" فيه الكافة، لوقوع الفعل بعده، "أُولُو الْأَلْبَابِ" فاعله.
(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ) . صفته.
"وَالَّذِينَ يَصِلُونَ"، عطف عليه.
وكذلك (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) .
ويجوز أن تجعل ((الَّذِينَ يُوفُونَ) وما بعده مبتدأ، (أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) ، خبره.
الغريب: الذين يوفون والذين يصلون متعلق بالأول، والذين صبروا
مبثدأ، أولئك خبره.
قوله: (عُقْبَى الدَّارِ)
رفع بالظرف، وإن شئت بالابتداء، "لهم" خبره
تقدم عليه، والجملة خبر المبتدأ.
(جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل منها.
قوله: (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ)
في محل نصب، أي مع من صلح، فهو مفعول معه، ويجوز أن يكون رفعاً عطفاً على الضمير المرفوع في قوله: (يدخلونها) ، وأقام ضمير المفعول المرفوع مقام التأكيد بالضمير المتصل.
الغريب: محله رفع بالعطف على أولئك.
العجيب: محله جر بالعطف على ضمير المجرور، أي لهم ولمن
صلح.
(سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) .
أي يقولون سلام عليكم بما صبرتم، أي بصبركم، فنعم عقبى داركم
الجنة.(1/568)
قوله: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)
أي يقدر لمن يشاء فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر.
الغريب: يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر له ذلك.
قوله: (وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ) .
بأفواههم، وقيل: بوعد الله.
الغريب: بالقرآن.
العجيب: بنعمة الله عليهم.
نم حث على الاطمئنان بكتاب الله ووعده وذكره، فقال: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) .
ولا منافاة بين هذه الآية وقوله: (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ، لأن ذلك عند الوعيد، وهذا عند الوعد، والقرآن يشتمل عليهما.
قوله: (طُوبَى لَهُمْ) .
فُعلى من الطيب.
الغريب: مجاهد: اسم الجنة بلغة الحبشة.
أبو هريرة: شجرة في الجنة ما من بيت إلا وفيه غصن من أغصانها.
وقيل: (طُوبَى) حسنى ونعمى وغبطة وفرح وخير وثمرة عين، وعيش طيب
، هذا كله من أقاويل المفسرين، و"طوبى" رفع بالابتداء، "لهم"
خبره، و "وَحُسْنُ مَآبٍ" عطف على الابتداء.
قوله: (قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ) .
جواب "لو" محذوف، أي لكان هذا القرآن.
الغريب: جوابه في نية التقديم، وتقديره، وهم يكفرون بالرحمن. ولو
أن قرآناْ سيرت به الجبال، الآيات.(1/569)
قوله: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا)
يعني أفلم يعلم، بلغة نخع.
قال الشاعر:
أقولُ لهم بالشِّعْبِ إذ يَيْسِرونَني. . . ألم تَيْئَسوا أني ابنُ فارسِ زَهْدَمِ
قال آخر:
ألم يَيْئَسِ الأقوامُ أني أنا ابنُهُ. . . وإن كنتُ عن أرضِ العشيرةِ نائيا
وقيل: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا) من إيمان هؤلاء الذين وصفهم الله أنهم
لا يؤمنون.
الغريب: أفلم يعلموا علماً يئسوا معه من ضده.
العجيب: روي عن عكرمة عن ابن عباس أنه كان "أفلم يتبين، فأخطأ
الكاتب، وهذا بعيد لا يجوز القول به.
قوله: (تَحُلُّ) ، "التاء" للتأنيث، أي تحل القارعة، وقيل: للخطاب.
أي يا محمد.
قوله: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ) .
جوابه مضمر، أي كالأصنام، قوله: (بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ) أي
بما ليس فيها.
قوله: (أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ) ، أي ظاهر في اللفظ باطل في
الحقيقة.
وقوله: (قُلْ سَمُّوهُمْ) أي سموها بأسمائها، هل فيها ما يوجب
استحقاق الإلهية.
الغريب: هذا استحقاق في النهاية، أي ليس لها أهلية أن تسمى.(1/570)
قوله: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) .
عند سيبويه، مبتدأ، وخبره محذوف، أي فيما أنزل عليكم مثل
الجنة.
الغريب: قال الفراء: مثل زيادة، والتقدير، الجنة التي وعد
المتقون تجري من تحتها الأنهار، فالجنة مبتدأ، تجري خبره.
العجيب: مثل الجنة التي وعد المتقون جنة تجري. قاله الزجاج.
ورد عليه أبو علي في إصلاح الإغفال.
قوله: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) .
أي لكل أمرٍ قضاه الله كتاب كتب في، وقيل: لكل أجل من آجال
الخلق كتاب عند الله.
الغريب: فيه تقديم وتأخير، أي لكل كتاب أنزله من السماء أجل.
قوله: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) .
قيل: هو عام في السعادة والشقاوة والرزق والأجل، وهذا غريب.
وقيل: يمحو الله بالموت ويثبت بالولادة، وهذا أيضاً غريب: وقيل: يمحو الله القمر في النصف الآخر من الشهر ويثبت في الأول. وهذا عجيب. وقيل: يمحو الله من كتاب الحفظة مالا يتعلق به حكم، ويثبت ما سواه، وقيل، يمحو الله المعاصي ويثبت الطاعات. عكرمة: إنه كتابان، كتاب يمحو(1/571)
الله منه ما يشاء ويثبت فيه ما يشاء، سوى أم الكتاب، فإن ما فيه لا يغير ولا يبدل.
قوله: (نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) .
بفتحها على المسلمن من بلاد الكفار أرضا فأرضاً، وقوما فقوما.
وقيل: بِخرابِها بعد العمارة، وقيل: بنقصان ثمرها، وقيل: هو موت علمائِها.
الغريب: بِجور وُلاتِها.
وقوله: (قُلْ كفَى بالله شهيداً بيني وبينكم) .
"الباء" زيادة، والله سبحانه فاعل، و "شهيدا" تمييز، والمفعول الثاني
محذوف، ومن عنده عطف على المحل، فهو رفع، وفي معناه أقوال، قال
بعضهم: هو جبريل، وهو غريب. وقال أكثرهم هو عبد الله بن سلام
وأصحابه، والآية مدنية، والسورة مكية، وقيل: هم المؤمنون.
العجيب: هو الله عز وجل، وهذا على قراءة من قرأ "ومِن
عندِه " - بالكسر -، أحسن وهو شاذ وقرىء في الشاذ أيضاً: "ومن
عنده عُلِمَ الكتاب" على لفظ المجهول - والله أعلم -.(1/572)
سورة إبراهيم
قوله تعالى: (مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) .
أي من الكفر إلى الإيمان. وقيل: من الشك إلى اليقين.
الغريب: من البدعة إلى السنة.
قوله ت (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ، بعلم ربهم.
الغريب: توفيق ربهم، وقيل: بإطلاق ربهم، بإطلاق الله ذلك لك.
قوله: (اللَّهِ الَّذِي) .
بالجر على البدل، أو على عطف البيان، ولا ينجر على الوصف، فإن
اسم الله تعالى جارٍ مجرى الأعلام، والأعلام توصف ولا يوصف بها، والرفع
على الاستئناف.
قوله: (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) .
يطلبون لها زَيغاً، وقيل: "عِوَجًا" حال، والأول أقوى، يقول: بغيته
الشيء أي طلبته، وأبغيته، أعنته.
الغريب: معنى قوله: (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) ينتظرون لمحمد - صلى الله عليه وسلم - هلاكاً.
قوله: (إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ) .
أي بلغتهم، "لِيُبَيِّنَ لَهُمْ" ما هو مبعوث به، والمراد ها هنا قومه الذي
ولد محمد - عليه السلام - فيهم، لا قومه الذي بعث إليهم، لأنه مبعوث إلى الخلق كافة.(1/573)
الغريب: تقدير الآية، وما أرسنا قبلك رسولا إلا بلسان قومه، وأنت
مبعوث بلسان قومك إلى الخلق جميعاً.
العجيب: الكلبي: إن الله بعث جميع الكتب إلى جبريل بالعربية
وأمره أن يأتي رسول كل قوم بلغتهم.
قوله: (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) .
أي بأن أخرج، وقيك: (أن) هي المفسرة.
قوله: (وَذَكِّرْهُمْ) جدد لهم الذكر، والذكر حصول المعنى للنفس.
وقد يغيب عنها بالنسيان، فيعاد بالتذكير.
قوله: (تَأَذَّنَ) .
معناه، أعلم، وتَأَذَّنَ وأذن بمعنى واحد، كتوعد وأوعد، وقيل: معنى
تَأَذَّنَ قال: وهو الغريب، وقيل: تَأَذَّنَ معناه سمع.
قوله: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) .
من كلام موسى لقومه، وقيل: خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ)
قيل: الضميران يعودان إلى القوم، قال ابن مسعود: أي رد القوم أيديهم في أفواههم غيظا عليهم، كقوله: (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) ، قال ابن عباس: عجبوا من كلام الله، فوضعوا أيديهم في أفواههم متفكرين، وقال بعضهم: أشاروا إليهم بالسكوت، ووضعوا أناملهم على شفاههم وقد طبقوها، وقيل: الضميران يعودان إلى الرسل، فيكون المعنى: لم يقبلوا كلامهم بل ردوا(1/574)
عليهم ما أتوا به، فيكون هذا مثلاً، وقيل: اليد ها هنا، النعمة، لأن ما أتوا كانت نعمة، فردوا بعضهم في أفواههم، وقيل: الأول يعود إلى القوم.
والثاني يعود إلى الرسل، أي رد القوم أيديهم في أفواه الرسل كي لا يتكلموا
بما أرسلوا به، وهذا قول الحسن والفراء، وأشار الفراء بظهر كفه إلى من
كان يخاطبه، وقيل: "في" ها هنا بمعنى "الباء"، أي ردوا النعم بأفواههم
بالنطق بالتكذب، وقيل: كانت بعثة الرسل نعمة حصلت في أفواههم.
وردوها، وقالوا: (إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ) ، أي بما تدّعون أنه رسالة.
قوله: (من دنوبِكم) ، "من" زيادة.
الغريب: ابن عيسى، "من" للبدل، أي يجعل لكم المغفرة بدل
الذنوب، قال الشيخ: ويحتمل أنه للتبعيض، أي بما سلف من ذنوبكم.
قوله: (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ) .
"أن" زيادة، أفاد إثبات التوكل، وقيل: تقديره، في أن لا نتوكل.
فحذف الجار، وصار المحل نصباً.
الغريب: "مَا" للنفي، والتقدير: ليس لنا أن لا نتوكل.
قوله: (لمن خاف مقامي) .
أي مقامه بين يدي، وأضافه سبحانه إليه لأنه يقيمه فيه.
الغريب: هو من قوله عز وجل: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ) .
(من ورائه) .
قيل: خلفه، وقيل: قدامه، لأنه ما توارى عنك، أي سُتر.
قوله: (من ماء صديد) ، هو بدل من "مَا"، وقيل" تقديره، من ماء(1/575)
مثل صديد، فحذف المضاف، وهو الغريب.
وقيل: من ماء صديد، صد عن شربه لكراهة مذاقه، وهو العجيب.
وقول من قال: "من" ها هنا للبدل، خطأ، لأن ذلك يوجب نصبه.
(وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ) .
نفى، لأن الإصاغة إنما تكون مع تقبل النفس.
قوله: (مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) ، أي من الجهات الست.
الغريب، "مِنْ كُلِّ مَكَانٍ"، من جسده حتى من أطراف شعره، وأراد
بالموت أسبابه التي الواحد منها مهلك لو كان ثم موت.
قوله: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) .
مثل (مَثَل الجنة) ، وقد سبق.
الغريب: مثل أعمال الذين كفروا، فلما أضمر أعادها بقوله:
(أَعْمَالُهُمْ) .
قوله: (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يريد أيها المخاطبون
(وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) سواكم من بني آدم.
الغريب: (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) من غير بني آدم.
ومعنى الجديد، القرب العهد بالجَد، وهو القطع.
قوله: (كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا) ، جمع تابع.
الغريب: (تَبَعًا) مصدر.
قو له: (وعَدَكم) .
أي وعدكم وعد الحق فأنجز، ووعدتكم وعد الباطل فأخلفتكم.
وجاء
في التفسير أنه يوضع لإبليس منبر في النار فيرقاه، ويقول: يا أهل النار:
(إن الله وعدكم) الآية.(1/576)
قوله: (بِمُصْرِخِيَّ)
القراء على فتح الياء، إلا حمزة، فإنه كسرها.
قال القُتَبي: المسكين حمزة، ظن أن الباء تجر كلما اتصلت به. وهذا
دأبه في التشنيع على أئمة المسلمين، بل المسكين القُتَبي، حيث لم يعرف
وجه قراءة حمزة، ولها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه حرك بالكسر لالتقاء الساكين
بالجمع لعلامة الجر وياء المتكلم، كما حرك الميم بالكسر في (عليهم
الذلة) و (بهم الأسباب) ، وسائر القراء حركوا الياء بالفتح عند اجتماع
الساكين، رداً إلى أصل حركته، ومذهب حمزة في الياءات التسكين.
وكذلك حركوا الميم بالضم في: (عليهم الذلة) و (بهم الأسباب) على
أصل حركته التي كانت له، وهي الضم.
والوجه الثاني: أن ذلك لغة لبعض العرب يكسرون الياء ويشبعونها، قاله أبو علي في الحجة، وأنشد:
قال لها: هل لكِ ياتا فِيَّ. . . قالت له: ما أنت بالمَرْضِيِّ
وقال آخر:
ماضٍ إذا ما هَمَّ بالمُضيِّ
والوجه الثالث: أنه كسرها لمجاورة كسرة "إني" إيذاناً أن الابتداء بما(1/577)
بعده غير جائز وأنه كفر، وهذا كما فتح أبو عمرو (ما لي لا أعبد) بعد أن
كان مذهبه في اليءات التي لا تقعٍ بعدها الهمزة، السكون، كقوله: (ما لي
لا أرى الهُدْهدَ"، وأمثاله إعلاما أن الابتداء بما بعده لا يصح، وهو كفر.
ولو فتح حمزة الياء لم يحصل غرضه، قاله الشيخ الإمام.
قوله: (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) .
مصدر مضاف إلى المفعول، أي يحيون فيها بالسلام. وهذا من
الغريب.
وقيل: مصدر مضاف إلى الفاعل، أي يحيي بعضهم بعضا بالسلام.
وقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا) .
"كَيْفَ" منصوب ب "ضرب"، و "تَرَ" متعلق لمكان الاستفهام.
قوله، (كَلِمَةً طَيِّبَةً) ، عند جل المفسرين، لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، وقيل: جميع أفعال المؤمن وطاعته.
الغريب: الأصم: هي القرآن.
العجيب: ابن بحر: هي دعوة الإِسلام، وهي الدين وما يعتزى
إليه المؤمن.
قوله: (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) ، جل المفسرين على انها النخلة.
وجاء مرفرعاً عن ابن عباس: "شجرة في الجنة".
الغريب: الشجرة الطيبة، هي المؤمن.(1/578)
قوله: (كُلَّ حِينٍ) .
الحين، اسم للزمان مبهم يعرف بالقرائن، وقيل: في هذه السورة هو
سنة، لأن التمر يكون في السنة مرة، وقيل: ستة أشهر، لأن التمر يبقى عليها ستة أشهر.
الغريب: شهرين، وهما مدة الصرام إلى وقت طلوع الطلع وظهوره.
العجيب: بكرة وعشياً فيمن فسر الشجرة بالمؤمن، أي دائماً.
قوله: (كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) .
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنها الحنظل ". وقيل: الكشوت.
الغريب: عن ابن عباس: هذه شجرة لم يخلقها الله عز وجل، وهو
مثل. ومعنى "خَبِيثَةٍ"، كريهة الطعم من المَذاق، تنفر عنها الطباع.
العجيب: عن ابن عباس أيضاً: إنها الثوم، وعن أبي هريرة: قال
ذكرت الكمأة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل: إني لأراها الشجرة التي اجتثت من فوق الأرض، والله ما لها فرع ولا أصل، فقال - عليه السلام -: "لا تَقل ذلك، إنها من المنِ، وماؤها شفاء العين ".
ومعنى "اجتثت "، استؤصلت وقلعت جثته، أي أصله.
"مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ": أصل.
قوله: (بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) .
هو كلمة التوحيد، و"الباء" بمعنى السبب، أي يثبتهم بسبب إيمانهم.
الغريب: متصل بالإيمان، أي آمنوا بالقول الثابت.
قوله: (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)
من صلة يثبت، والمراد بالآخرة(1/579)
ها هنا القبر، وجُل المفسرين على أن هذه الآية نزلت في عذاب القبر.
قوله: (يُقِيمُوا الصَّلَاةَ) .
أمر، أي ليقيموا وقال بعضهم: القول يستدعي مقولًا، والمقول أمر.
وهو: أقيوا الصلاة، ويُقِيمُوا جواب الأمر.
الغريب: "قل" بمعنى مر، أي مرهم بالصلاة، يقيموا الصلاة، لأنهم
مؤمنون.
قوله: (دَائِبَيْنِ) .
غلب التذكير على التأنيث لما اجتمعا.
قوله: (مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) .
"مَا" بمعنى الذي، ومحله جر، وقيل: "مَا" نكرة، و "سَأَلْتُمُوهُ" صفته.
والتقدير: سَأَلْتُمُوهُ أم لم تسألوه، وقيل: ليس ثم سؤال، وهذا كما تقول لمن تحبه: لأعطينك سؤالك، أي ما تحب وإن لم يكن سأل شيئاً، وهذا قول
غريب. وقيل: ما من شيء إلا وسأله أحد، وقرىء بالتنوين، فتكون "مَا"
للنفي ويجوز أن يكون المفعول، وعلى القراءة المشهورة، المفعول
محذوف، ويجوز أن يكون للعموم.
قوله: (نِعْمَتَ اللَّهِ) ، ها هنا للجنس، وقد يكون المضاف جنساً كما
يكون مع الألف واللام.
قوله: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ) .
أي بنى الذين أذنت لي في الدنيا لهم.(1/580)
الغريب: عن سفيان بن عيينة، ما عبد من ولد إسماعيل أحد صنماً
قط، يريد أن الأصنام التي كانت منصوبة، كانت من عمرو بن لحي، وكان
خزاعياً.
قوله: (أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) .
المفعول محذوف، أي إسماعيل وأمه، وقيل: من زيادة، هذا لا يصح
على قول سيبويه، قوله: (ليقيموا الصلاة) ، اللام لام كي، وهو متصل
بقوله: (أَسْكَنْتُ) ، وقوله: (رَبَّنَا) اعتراض بين الفعل وعلته.
الغريب: (لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) اعتراض بين المنادي والمنادى له، وقيل:
متصل بقوله: (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ) ليقيموا الصلاة.
العجيب: هو لام الأمر كأنَّه دعا لهم بإقامة الصلاة.
قوله: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) ، هي جمع فؤاد، وسمي فؤاداً
لحرارته، وفأدت شويت، والمِفْأد: السَّفود.
الغريب: قال المؤرج: الأفئدة القِطَع من الناس بلغة قريش، وإليه
ذهب ابن بحر، وفيه كلام.
قوله: (مِنَ النَّاسِ) ، "من" للتبعيض. مجاهد: لو لم يُدْخِل من
لازدحمت عليه فارس والروم.
ابن جبير: لو قال: أفئدة الناس، لحجت اليهود والنصارى.
قوله: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) .(1/581)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
قيل: من كلام إبراهيم، وقيل: اعتراض واستئناف من الله سبحانه.
قوله: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) .
أي، واجعل من ذريتي مقيم الصلاة، لامتناع ذلك.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ) .
قد سبق ذكر العذر عن دعاء إبراهيم لأبيه.
الغريب: أراد آدم وحواء، وقرىء في الشواذ (ولِوَلَدَيَّ) يعني
إسماعيل وإسحاق.
قوله: (طَرْفُهُمْ) .
أي نظرهم، مصدر، وقيل: عينهم، ولم يجمع اكتفاء بجمع المضاف
إليه.
قوله: (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
منحرفة لا تعي شيئاً من الخير، وقيل: نزعت أفئدتهم من أجوافهم، وقيل: جُوف لا عقل لها.
الغريب: تدور في أجوافهم لا تستقر.
العجيب: الفؤاد موضع القلب، كالصدر.
قوله: (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ) . هو يوم القيامة.
الغريب: يوم الموت، وهو نصب على المفعول به، لا على الظرف.
قوله: (أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
أي حلفتم أنكم إذا متم لا تزولون عن تلك الحالة إلى حياة ثانية، لقولهم: (لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) ، وقيل: حلفتم لا تزولون بعذاب، وليس يعني به زوال موت، فإنهم مقرون بالموت.(1/582)
الغريب: لا نزول ولا نصير إلى دار أخرى، بل نموت ونحيى فيها.
الغريب: تئم الكلام على قوله: (أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ) يريد قوله: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) ، ثم ابتدأ فقال: (مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ) ، يريد عما أنتم فيه، ولا تجابون إلى ما تريدون.
(وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) .
أي رأيتم آثار ما نزل بهم من العذاب والنكال، وفاعل "تَبَيَّنَ" مضمر.
أي حالهم، وهذا كقوله:
فإنْ كان لا يُرضيك حتى تَردَّني. . . إلى قطريٍّ لا إخالُك راضياً
أي لا يرضيك شيء، و "كيف" نصب ب "فعلنا"، ولا يسند إلى الفعل
ألبتة لأنه استفهام.
قوله: (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) .
من قرأ بكسرِ اللام، جعل "إِنْ" بمعنى "مَا" للنفي، ومن قرأ بالفتح
ورفع الثانية، جعل "إِنْ" هي المخففة من الثقيلة، و "الهاء" مضمر، و "اللام"
هي التي تدخل للفرق.
قوله: (مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) .
بمنزلة معطي غلامِه درهمَه.(1/583)
الغريب: بجوز أن تنصب "رسله" ب "وعده"، وفي الوجه الأول مضاف
إلى المفعول الثاني، ولو أضافه إلى المفعول الأول جاز.
قوله: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ) .
أي والسموات غيرَ السماوات، فاقتصر على ذكر الأول، و "يَوْمَ "
منصوب بقوله: (ذو انتقام) .
سؤال: لمَ قال في هذه السورة: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) ، وقال في
سورة النمل: (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) .
الجواب: لأن قوله: (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ)
قام مقامه، ولم يكن في النمل ما يقوم مقامه، فأظهر، وقوله بعده (ما كان لكم) لم يكن ينوب عنه لأنه نفى.
قوله: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ) .
متصل بقوله: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) .
الغريب: هو لام القسم على مذهب سهل.
العجيب، متصل بقوله. (ذو انتقام) . وهذا لا يجوز، وإن جعلته
متصلاً بفعل دل عليه ذو انتقام، جاز.
قوله: (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ)
قيل: الواو زائدة، وقيل: تقديره، هذا
الإبلاغ والإنذار، وهذا كلام المبرد، وقيل: ليُبَلَّغوا ولينذَروا به.
الغريب: هو عطف على أول السورة (ليخرج الناس ولينذروا به) .
العجيب: هو لام الأمر، وهذا حسن لولا قوله: (وَلِيَذَّكَّرَ) فإنه لام
كي لا غير - والله أعلم.(1/584)
سورة الحجر
قوله تعالى: (رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) .
في "مَا" قولان، أحدهما: أنها الكافة، تكف الحرف عن العمل الذي
كان له وتهيؤه لدخوله على ما لم يكن يدخل عليه، فإن رب تدخل الاسم
المفرد، نحو: رب رجل وربه رجلاً، ولا تدخل الفعل، فهيأتها "مَا" للدخول على الفعل، وهو يود، و "يود" مستقبل وقع موقع الماضي، لأن رب يدل
على أمر قد مضى، وجاز لأنه حكاية حال آتية، وأنشد أبو علي في الحجة:
جارية في رمضانَ الماضي. . . تُقَطِّعُ الحديثَ بالإيماض
وذهب بعضهم إلى أن التقدير، ربما كان يود، وأنكره أبو علي، وقال
يخرج بذلك عن مذهب سيبويه، قال الشيخ: "رب " في اصطلاح النحاة
للقلة، وأكثر ما جاء في الشعر للكثرة، وكذلك ظاهر الآية يقتضي
التكثير، ولعلهم أرادوا بالإضافة إلى كم، لأن القلة والكثرة يعرفان بالإضافة، أو وضعوها موضع الكثرة كما يستعمل الشيء لضده، والتخفيف لغة فيها كما في أن ولكن، وقراءة أبي بكر "رُبُما" بضمتين موافقة، والثاني، أن "مَا"(1/585)
نكرة بمعنى شيء و"يود" صفة له، كأنه قال رب ود يوده الذين، فإن "مَا"
لعمومه يقع على كل شيء، و"يود" أيضاً يكون حكاية عن الحال، وهذا كله
من كلام أبي علي.
وقيل - وهو الغريب -: إنما جاز وقوع المستقبل موضع الماضى، لأن
ما هو آت لا محالة فهو كالماضي.
العجيب: قال ابن السراج: الأفعال كلها جنس واحد، فجاز وقوع كل
لفظ منها موقع الآخر إذا لم يورث اشتباها.
قوله: (وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ) .
أي أجل مقدر محدود، وقيل: هو كتاب فيه أعمالهم، ومعنى معلوم
أي بعلم الملائكة ذلك الوقت.
الغريب: معلوم من العلامة، وفيه نظر.
العجيب: الماوردي: كتاب معلوم، فرض محتوم. وهذا - ها هنا - بعيد.
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) .
يعنون محمداً - عليه السلام -، و "الذكر" القرآن بزعمك "إنك
لمَجنون".
(لَوْ مَا تَأْتِينَا) ، معناه، هلا.
الغريب: لم لا تأتينا.
(وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) .(1/586)
يعني القرآن بحفظه من الزيادة والنقصان، وقيل: بحفظه في قلب من
يريد به الخير.
الغريب: قتادة: (لَهُ) لمحمدٍ حافظون من أعدائه.
قوله، (فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) .
ذهب بعضهم إلى أن هذا من إضافة الشيء إلى صفته، وهذا خلاف
قول سيبويه، بل الأولون هم الذين سنوا الضلالة لمن بعدهم، وشيعهم.
أتباعهم لاقتدائهم بهم.
قوله: (نَسْلُكُهُ) .
أي الكفر، وقيل: الاستهزاء.
الغريب: نسلك الذكر، وهو القرآن (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) بأن
يسمعهم النبي - عليه السلام - ثم هم مع ذلك لا يؤمنون.
قوله: (بُرُوجًا) .
هي البروج الاثنا عشر.
الغريب: هي قصور في السماء.
(وَزَيَّنَّاهَا) أي الماء، وقيل: البروج.
قوله: (رَجِيمٍ) ، أي ملعون.
الغريب: "رَجِيمٍ" مرمى بالنجوم.
(إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ)
"من" نصب بالاستثناء.(1/587)
الغريب: جر، أي إلا مِن مَن.
قوله: (فيها) ، في الأرض، وقيل: في الجبال.
الغريب: فيها.
قوله: (موزون) ، أي من شأنه أن يوزن، وقيل: معلوم عند الله، وقيل:
مقدور، وقيل: مقسوم.
قال الشيخ: الغريب: يحتمل أن المراد به المكيل، والموزون، المعدود، فسمى الكل موزوناً، لأن مآل المكيل والموزون والمعدود إلى الوزن كالخبز وحب الرمان والمخ.
العجيب: معنى موزون له منزلة ووزن.
قوله: (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) .
هم العبيد والإماء.
الغريب: مجاهد، الدواب والأنعام والبهائم، ولفظ "من" يدفع هذا
القول، وقيل: الوحوش والسباع والطير، وذلك أيضاً مدفوع بمَن.
ومحل "مَن" نصب من ثلاثة أوجه:
أحدها: بالعطف على معايش، أي جعلنا لكم فيها معايش وعبيداً وإماء فيمن فسر "مَن" بهِمْ، الثاني: بفعل مضمر دل عليه المعيشة، أي أعشنا فيها من لستم.
الثالث: عطف على محل الجار والمجرور في قوله: (لكم) وقيل: محله جر بالعطف على الضمير في (لكم) ، وهذا مدفوع، وقيل: رفع بالابتداء، أي ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش) .
الغريب: هم الجن.
ابن عيسى: المعيشة طلب أسباب الرزق من المطاعم والمشارب(1/588)
والملابس مدة الحياة، وقد يطلبها الإنسان بالكسب والتصرف، وقد يطلب له فإن أتاه من غير طلب، وهو العيش الهنيء.
قوله: (عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ) .
أي هو القادر عليه وعلى أحداثه.
ابن عيسى: خزائن اللهِ، مقدوراته.
الغريب: "خَزَائِنُهُ" مفاتحه.
ومن العجيب: "خَزَائِنُهُ" خُزانُهُ يرسلون ذلك، ابن بحر: لفظ الخزائن
مستعار، والمعنى: الخير كله بيد الله.
العجيب: الثعلبي.: في العرش تمثال ما خلق الله في البر والبحر، وهو تأويل قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ) ، وقيل: يريد الماء الذي في السماء ينزل إلى السحاب، ثم إلى الأرض، ابن مسعود: ليس أرض بأمطر من أرض، ولا عام بأمطرَ من عام، ولكن الله يقسمه في الأرض كيف شاء، عاما هاهنا وعاماً هاهنا، وربما كان في البحر.
ومن قوله: (وَإِنْ) في قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) زيادة، ومحل شيء رفع
بالابتداء، والخبر عندنا، وخزائنه رفع بالظرف، (وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) ، أي عند الله مبلغة وحده.
قوله: (الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ) .
فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: حوامل بالسحاب، جمع لاقحة، والثاني: ذات لقح، والثالث: هي بمعنى مُلْقِحة، لأنها تلقح الأشجار، وهو ضد العقيم، من قرأها بالجمع فوجهه ظاهر، ومن وحدها، حملها على الجنس.(1/589)
قوله: (صَلْصَالٍ) .
أي حمأة يبست فصلتْ إذا نقرت، والصلصلة: الصوت، وقيل:
وأنتنت، من قولهم: صَلَّ اللحمُ، إذا: أنتن، "مِنْ حَمَإٍ" جمع حمأة، وهو الطين يطول جريان الماء عليه فينتن ويسود. "مَسْنُونٍ" مصبوب، والسن. الصب، وقيل: متغير الرائحة.
الغريب: مُصَوَّر مِنْ سُنَّةِ الوجهِ، وقيل: مسنون حَك بعضه بعضاً من
سننت الحجر بالحجر إذا حككتها.
العجيب: " المسنون"، المرطب.
قوله: (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ) .
قيل: هو إبليس، وقيل، الجان: أبو الجن، وآدم: أبو الِإنس.
وإبليس: أبو الشياطين، والشياطين: يموتون بموت أبيهم، والجن والإنس
يموتون.
(مِنْ نَارِ السَّمُومِ) من لهب النار.
الغريب: من نار الشمس.
العجيب: من حر السموم.
والسموم -: الريح الحارة، وقيل: السموم نار الصواعق.
قوله: (مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ) .
قيل: "أن" زيادة، وقيل: تقديره، في أن لا تكون فحذف الجار وبقي
منصوب الحمل.
الخليل: محله خفض.
قوله: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) .
جمع باب، وقيل: هي طبقات
(لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ) من أتباع إبليس.
__________
(1) قال السمين: قوله: {مِّنْ حَمَإٍ} فيه وجهان، أحدهما: أنه في محلِّ جرّ صفةً لصَلْصال، فيتعلَّقُ بمحذوف. والثاني: أنه بدلٌ من» صَلْصال «بإعادة الجارِّ.
والحَمَأُ: الطينُ الأسودُ المُنْتِنُ. قال الليث:» واحدُه حَمَأة بتحريك العين «، جعله اسمَ جنسٍ، وقد غَلِط في ذلك؛ فإنَّ أهلَ اللغة قالوا: لا يُقال إلا» حَمْأة «بالإِسكان، ولا يُعْرَفُ التحريكُ، نصَّ عليه أبو عبيدة وجماعة، وأنشدوا لأبي الأسود:
2939- يجيءُ بِمِلْئِها طَوْراً وطَوْراً. . . يَجِيءُ بِحَمْأَةٍ وقليلِ ماءِ
فلا تكون» الحَمْأَةُ «واحدةَ» الحَمَأ «لاختلاف الوزنين.
والمَسْنُون: المَصْبوبُ مِنْ قولهم: سَنَنْتُ الشرابَ كأنَّه لرطوبتِهِ جُعِل مَصْبوباً كغيره من المائعات، فكأنَّ المعنى: أَفْرغ صورة إنسانٍ كما تُفْرَغُ الجواهرُ المُذابة. قال الزمخشري:» وحَقُّ مَسْنُون بمعنى مُصَوَّر أن يكون صفةً لصَلْصال، كأنه أًَفْرغ الحَمَأَ فَصَوَّر منه تمثالَ شخصٍ «. قلت: يعني أنه يصيرُ التقدير: مِنْ صَلْصالٍِ مُصَوَّر، ولكن يلزم تقديمُ الوصفِ المؤوَّلِ على الصريح إذا جَعَلْنَا {مِّنْ حَمَإٍ} صفةً لصَلْصال، أمَّا إذا جَعَلْنَاه بدلاً منه فلا. وقيل: مَسْنُون مُصَوَّر، مِنْ سُنَّةِ الوجهِ وهي صورتُه. قال الشاعر:
2940- تُريكَ سُنَّة وَجْهٍ غيرَ مُقْرِفَةٍ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
وقال الزمخشري:» مِنْ سَنَنْتُ الحجرَ بالحجر: إذا حَكَكْتُه به فالذي يَسِيل بينهما «سَنينٌ» ولا يكون إلا مُنْتِناً «. وقيل: المَسْنُون: المنسوبُ إليه، والمعنى: يُنْسَبُ إليه ذُرِّيَّةً، وكأن هذا القائلَ أخذه مِنَ الواقع. وقيل: هو من أسِن الماءُ إذا تَغَيَّر، وهذا غَلطٌ لاختلافِ المادتين. اهـ الدر المصون.(1/590)
(جُزْءٌ مَقْسُومٌ)
نصيب مفرد، و "منهم " متعلق باللام، وليس متعلقا بمقسوم.
لأن الصفة لا تعمل فيما قتل الموصوف، وليس بوصف لـ "باب"، لأن ذلك يقتضي منها.
قوله: (مِنْ غِلٍّ) .
أي نزعناهُ في الدنيا، وألفنا بين قلوبهم، وقيل: في الجنةِ، والآية
نزلت في العشرة من أصحابه - رضوان الله عليهم -.
قوله: (سُرُرٍ) جمع سرير.
الغريب: جمع سرور، حكاه الماوردي.
قوله: (عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ) .
أي على هذه الحالة، أم أرد إلى حال الشباب، وقيل: "على" ها هنا
بمعنى في، أي أَبَشَّرْتُمُونِي في وقت الكبر.
الغريب: "على" بمعنى بعدأَبَشَّرْتُمُونِي بعد أنْ.
العجيب: ابن بحر: هذا كما تقول لمن أخبرك بشيء ويبعد عندك، ما
تقول يا هذا، وانظر ما تقول.
قوله: (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) ، من فتح النون فالضمير محذوف، ومن كسر
فالنون الثاني محذوف، ومن شدد فالياء محذوف.
قوله: (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ) .
منصوب على الاستثناء من الضمير، وهذا قول غريب، والجمهور على
أنها استثناء دخل على الاستثناء، أي إلى قوم مجرمين إلا آل لوط إلا امرأته.
والمستثنى من المستثنى مردود حكمه إلى المستثنى منه الأول.(1/591)
قوله: (أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ)
منصوب بالمحل بدلاً من قوله: (ذَلِكَ الْأَمْرَ) ، و (مُصْبِحِينَ) حال.
والعامل فيه معنى الإضافة.
قوله: (وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ) .
يعني سدوم.
(يَسْتَبْشِرُونَ) بأضياف لوط طمعا منهم في ركوب الفاحشة.
الغريب: قال عطاء بن أبي رباح: ظهرت امرأة لوط على سطح.
فلوَّحَت إلى القوم تعلمهم بالأضياف.
العجيب: بعثت إليهم، وكانت العلامة بينها وبينهم، أطعمونا ملحاً.
فيعرفون ما تريد.
قوله: (قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي) .
يريد بنات قومه، (إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) أي رَاغبين فيهِن.
الغريب" الحسن: (إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) كناية عن الجماع، المبرد:
إن كنتم تريدون النكاح.
العجيب: قتادة: أراد أن يقي أضيافه ببناته، أي تزوجوهن، وكان جائزاً
نكاح المؤمنات من الكافرين، وقيل: شرط عليهم الإسلام.
قوله: (لَعَمْرُكَ) .
هذا قسم بحياة محمد - عليه السلام -، ولم يقسم بحياة غيره، تعظيماً(1/592)
له وتفضيلاً على غيره. والعُمْر والعَمْر لغتان، واختير الفتح في القسم
للتخفيف، وهو مبتدأ، وخبره مضمر، تقديره، لَعَمركَ قَسَمي.
الغريب: المبرد: يجوز أن يكون لعمرك من قول العرب، قد عمر فلان
دينه، إذا صلى وصام، وفلان لعمر الله، أي يعبده، وعمرت ركعتين.
العجيب: قتادة: (لَعَمْركَ) ، أي عملك.
قوله: (إنهم) قيل: كناية عن قومِ لوط، وقيل: عن قريش.
قوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
وبعدها: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) ، الإشارة في الآية الأولى راجعة إلى قصة لوط وضيف إبراهيم، وتعرض قوم لوط لهم طمعاً، وإهلاك الله إياهم بقلب المدينة وإمطار الحجارة عليهم، وكل واحد منها عبرة وعظة، فلذلك جمع الآيات، والثاني: إشارة إلى قرية قوم لوط، وإنها بطريق معلم واضح، وهي واحدة مما قبلها فلذلك وحد الآية، فقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) .
قوله: (سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي) .
هي عند جماعة، فاتحة الكتاب، وسميت مثاني لأنها نزلت مرتين.
ولأنها تثنى في كل صلاة، ولأن أكثر كلماتها مثنى، وقيل: لأن أولها ثناء على الله، وقيل: السبع المثاني، السبع الطُّوَل: البقرة وآل عمران والنساء، والمائدة والأنعام والأعراف والتوبة، وقيل: يونس.
والطُّوَل جمع الطُولى كالكبرى في قوله: (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) .
والطولى تأنيث الأطْول، وسميت المثاني، لأن القصص فيها مثناة، والتثنية إضافة مثل الشيء
إليه) : وقيل: المثاني جميع القرآن، كقوله: (مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ) ، ويأتي(1/593)
في موضعه. وقيل: المثاني: معاني القرآن، وهي سبعة أمر ونهي، وتبشير
وإنذار، وضرب أمثال وتعديد نِعَم وأنباء قرون.
الغريب: السبع المثاني "آل حم".
العجيب: هي كرامات أكرم الله نبيه بها. حكاه أقضى القضاة.
قوله: (أزواجاً منهم) .
يريد أصنافاً، وقيل: أغنياء، وقيل: أمثالاً في النعم.
الغريب: "أزواجاً" يريد الرجال معهم النساء، والمعنى اثنين اثنين منهم.
قوله: (كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) .
الكاف في محل نصب صفة لمضمر، أي أنذركم عذاباً كما أنزلنا
وقيل: آتيناك إيتاءكما، وفي المقتسمين أقوال: عن ابن عباس:
هم اليهود والنصارى آمنوا ببعض القرآن، وهو الذي وافق
كتابهم، وكفروا ببعض، وهو الذي لم يوافقه.
عِكرمة: هو قولهم هذه السورة لي وهذه السورة لك استهزاءً.
الغريب: مجاهد: آمنوا ببعض كتبهم وكفروا ببعض، وكل كتاب الله
قرآن، وقيل: اقتسموا طُرَقَ مكة وعقباتها وقعدوا عندها وجعلوا يردون الناس عن الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
قتادة: قسموا القول في القرآن، فقالوا: سحر وكهانة وشعر وأساطير الأولين، وقيل: هو من القسم، أي قوم تقاسموا لا يؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويعادونه أبداً.
العجيب: ابن زيد، هم قوم صالح (تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) ، يريد
قوله: (تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ) .(1/594)
قوله: (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) .
قيل: هو من العَضيهة، وهي السحر، والعاضهة، الساحرة..
قوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) .
أي ابنْ وأظهِر، من الصديع وهو الصبح، قال الشاعر:
كَأنً بَياضَ غُرّتِهِ صديعُ
مجاهد: اجهَرْ به في الصلاة، وما زال النبي - عليه السلام - مستخفياً
حتى نزلت (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) ، وقيل: أصله إعلان الحق، وقيل: من
الفصل، أي احكم واقض.
الغريب: جرِّدْ لهم القول في الدعاء إلى الإيمان مبشراً لهم بالجنة.
ابن عيسى: من الفرْق، أي فرُق.
العجيب: النقاش: فرق القول فيهم مجتمعين وفرادى، ومن العجيب:
أبو عبيدة، عن رؤبة: ما في القرآن أغرب من قوله: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) .
قوله: (بِمَا تُؤْمَرُ) أي بالذي تؤمر به، وما بمعنى الذي، فحذف
الجار، ثم حذف الهاء، وقيل: ما للمصدر، أي بالأمر.
قوله: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) .(1/595)
جل المفسرين على أنها نزلت في خمسة من قريش كانوا يبالغون
في إيذاء النبي - عليه السلام -، والاستهزاء به، فأهلكهم الله جميعاً.
فمنهم الوليد بن المغيرة، مر برجل يَريش نبلاً فوطىء سهماً من سهامه.
فأنكر وطارت منه شظية، فأصاب منه عرق النساء، فجعل يقول: قتلني رب محمد، حتى مات. ومنهم العاص بن وائل السهمي، وكان أهل مكة مطروا ليلاً، فقال لابنه أرحل لي بعيري حتى أطوف في شعاب مكة، فخرج
متنزهاً، فأناخ بعيره بشعب من تلك الشعاب، فلما وضع قدمه على الأرض، ضربته حية في رجله فانتفخت حتى صارت مثل عنق البعير، فجعل يقول:
قنلني رب محمد، فمات مكانه. ومنهم الحارث بن قيس: أكل سمكاً
مليحاً، فأصابه عطاش، - فجعل يشرب ولا يَروى، وكلما تنفس قال: قتلني رب محمد، حتى انفتق بطنه، فمات. ومنهم الأسود بن المطلب، خرج ليلقى ابنه زمعة قادماً من الشام، فقعد في أصل شجرة، فأتاه جبريل، فجعل يضرب رأسه بالشجر، وهو يقول يا غلام أدركني، فقال الغلام: ما - أرى أحداً يضرب رأسك وإنما أنت تضربه، ولا يزال يضرب حتى مات، ووافق قدوم ابنه من الشام. ومنهم الأسود بن يغوث، ذهب إلى ماء لبني كنانة يحذرهم النبي ويضمن لهم الضمانات على اغتيالهم إياه، فأصابته سموم، فاسود حتى صار كأنَّه حبشي، فأتى أهله، فلم يعرفوه، وأغلقوا الباب في وجهه، فصار يطوف في شعاب مكة، ويقول: قتلنى رب محمد، حتى مات، فأنزل الله: (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)) .
الغريب: الحسن: المراد به جميع مركي العرب.
قوله: (مِنَ السَّاجِدِينَ) .
أي المصلين، وقيل: المتواضعين.(1/596)
قوله: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) .
جل المفسرين على أن اليقين، الموت، وسمي يقينا لأنه متيقن به
متحقق متفق على لحاقه كل حي مخلوق.
الغريب: ابن بحر: اليقين: النصر على الكافرين.
العجيب: أبو مسلم الخولاني: قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أوحي إلى أن أجمع المال وكن من المتَاجرين، ولكن أن سبح بحمد ربك
وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ". - والله أعلم.(1/597)
سورة النحل
قوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) .
جل المفسرينَ على أن اللفظ للماضي والمعنى للاستقبال، وكذلك
اكثر ألفاظ القيامة، لأنها لصحة وقوعها وصدق المخبر بها كالكائن الدائم.
الغريب: أي الأمر لصحته فهو للماضي
(فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ) الهاء تعود إلى الأمر.
الغريب: تعود إلى الله تعالى.
قوله: (لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) .
أي بالمشقة الشديدة.
الغريب: لم تكونوا بالغيه إلا بنصف النفس، لِذهاب نصفها بالتعب.
أي بنصف قوى أنفسكم، ويقوي هذا المعنى قول المتنبي:
حتى وصلتُ بنفسٍ ماتَ أكثرها. . . وليتني عشتُ منها بالذي فَضُلا
العجيب: لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس "لولاها"، فأضمر.
والشق: المشقة مصدر والشق - بالفتح - لغة فيه، وقد قرىء(1/599)
والشق " - بالكسر - أيضاً، أحد شقي الشيء، والهاء في قوله: (بالغيه)
في محل جر بالإضافة.
الغريب: الأخفش: في محل نصب.
قوله: (وَزِينَةً) .
أي لتركبوها ولتتزينوا بها، فلما حذف اللام نصب، وقيل: وجعلها
زينة.
ابن عباس: والحكم لحم الخيل حرام، لأنها للركوب والزينة، كالبغال
والحمير، قال جابر: في لحم الخيل، حلال، وكنا، نأكل لحم الخيل على
عهد رسول الله ي - صلى الله عليه وسلم -.
قوله: (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) ، قيل: يريد في الجنة ما لا عين رأت.
ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. وقيل: غير ذلك.
قال الشيخ: ويحتمل أن السكوت عن تفسير ما يقول الله فيه (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) أولى.
قوله: (مِنْهُ شَرَابٌ) ، أي ماء مشروب.
الغريب: هو شراب.
قوله: (وَمِنْهُ شَجَرٌ)
يريد ما ينبت المرعى، وكل نبات على الأرض شجر.
وأنشد الزجاج:
نُطْعِمُها اللحمَ إذا عَزَّ الشجَرْ
والخيلُ في إطعامها اللحمَ ضرر
يريد بالشجر النبات.
الغريب: ومنه شُرْب شجر.(1/600)
قوله: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ) .
من نصب، عطفها على الأول، وأعاد المسخرات، لأن المعنى
مسخرة لله سخرها لكم، فهي نصب على الحال، ومن رفع الكل، جعل
الواو للحال.
قوله: (وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) .
يجوز أن يكون نصبا بالعطف على تقدير، وسخر لكم ما ذرأ، ويجوز
أن يكون رفعا بالابتداء.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ) خبره، ويجوز أن يكون جواباً للعطف
على ذلك، أي في ذلك وفيما ذرأ لكلم.
قوله: (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ) .
وحد الخطاب وما قبله وما بعده جمع لقوله: (تَرَى) اختصاص في
الاستعمال للشيء، يوحد على صفة متى طلبه طالب وجده (عليها) ، وليس
بخطاب لواحد معين، بل هو جار مجرى قول القائل، أيها الرجل، وكلكم
ذلك الرجل، ومثله في القرآن كثير، منه قوله: (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا) .
(وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ) ، (تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ) ، وكذلك في
سورة الملائكة.
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة: (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) ، وقال في صورة الملائكة (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا) ، فقدم وحذف الواو.(1/601)
الجواب: القياس تأخير فيه، فجاء في هذه السورة على القياس.
وكذلك لتأكلوا منه وزاد ها هنا الواو، لأنه عطف على لام العلة، وهي
لتأكلوا، وفي الملائكة، لما قدم "من" في قوله: (ومن كل تَأْكُلُونَ) قدم
في موافقة لذلك، ولم يزد الواو، لأن اللام للعلة وليس قبله ما يعطف عليه.
كما في هذه السورة.
قوله: (أن تَميدَ بِكم) .
تقديره: كراهة أن تميدَ بكم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه
مقامه، ومحله نصب على العلة. وقال الكوفيون: "لا" مضمر، وتقديره:
أن لا تميد بكم.
قوله: (وعَلامَاتٍ) .
هي الجبال، وهي منصوبة عند بعضهم بـ "ألقى"، وعند بعضهم
بمضمر تقديره، لئلا تميد، ولتكون علامات لطرقكم.
الغريب: هي النجوم، والمعنى: خلق علامات، وناب لفظ ألقى عن
خلق حيث كان بمعناه فيكون قوله: (وَبِالنَّجْمِ) واقعاً موقع الكناية أي وبها
هم يهتدون.
قيل: النجم ها هنا للجنس، وقيل: المراد ها هنا الجدي، وهو السابع
من بنات نعش الصغرى، والفرقدان هما الأولان منها، وبعضهم يصغر هذا.
فيقول جُدَيّ ليكون فرقاً بينه وبين الجدي الذي يذَكَّر والمراد به أحد البروج
الاثني عشر.
وعن ابن عباس: قال سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله: (وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) ، فقال: هو الجدي، وعن ابن عباس: عليه قبلتكم وبه تهتدون في بركم وبحركم.(1/602)
الغريب: قتادة: إنما خلق الله النجوم لثلاثة أشياء: زينة للسماء.
ومعالم الطريق، ورجوماً للثسياطين، فمن قال فيها غير هذا، فقد قال رأيه.
وتكلف ما لاعلم له به.
قوله: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) .
وقع المضاف موقع الجنس، لأن المراد بها نعم الله، والإحصاء: بلوغ
نهاية عدد الشيء، أي إن قصدتم تِعدادها، لا يمكنكم إذاً شكرها.
قوله: (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ) .
أي الأصنام، أَمْوَاتٌ، قوله: (غَيْرُ أَحْيَاءٍ) تأكيد وقطع مجاز يستعمل
في الحي، سماهم ميتين باسم ما يؤول إليه و "أَمْوَاتٌ" يجوز أن يرتفع بالخبر
بعد الخبر، وهو قوله: (وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ) ، كما تقول: رمان حلو
حامض، وبجوز أن يرتفع بمضمر، أي هم أموات.
قوله: (أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)
نصب بيبعثون لا بيشعرون، لأن الاستفهام يعمل فيه ما بعده، لا ما قبله.
قوله: (مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)
وبعده (قالوا خيراً) ، فرفع الأول ونصب الثاني، لأن (ماذا)
يأتي على وجهين:
أحدهما: أن يكون كلمتين "مَا" مبتدإ "إذا" خبره، وهو
بمنزلة الذي، وأنزل في الآية صلته وتقديره ماذا أنزله ربكم، فهذا يقتضي
جوابه بالرفع، ولذلك قُرىء (قُلِ الْعَفْوُ) - بالرفع - عن أبي عمرو.
والوجه الثاني: أن يكون ماذا بمنزلة اسم واحد بدليل قول العرب عماذا
تسأل، ولو كان ماذا بانفراده اسماً لقلت عم كما في سائر المواضع ولم وبمَ
وفيم، فيكون في الآية محله نصباً، بأنزل، ويقتضي أن يكون جوابه منصوباً،(1/603)
قالوا خيراً، ولهذا نصبَ سائرُ القراء، (قُلِ الْعَفْوَ) ، وذهب سيبويه في
الآية: إلى أن التقدير الذي أنزله بزعمكم أساطير الأولين بزعمنا كقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) .
الغريب: أعرضوا عن جواب القائل: ماذا أنزل ربكم، فقالوا أساطير
أي هذه أساطير، لأنهم لم يكونوا يقرون بإنزال القرآن بخلاف المؤمنين.
فإنهم بنوا على السؤال، فقالوا خيراً، أي أنزل خيراً. الغريب: "خيراً"
منصوب ب " قالوا"، وهو من كلام الله - سبحانه - لا من كلام المتقين، كما تقول للمؤذن - إذا أذن -: قلت حقاً -، وللمفتى - إذا أفتى -: قلت صوابا، والمفعول المجهول في قيل لهم المصدر، وماذا أنزل ربكم
تفسيره، وليس في ذلك باسم ما لم يسم فاعله، كما لو قدمت، فقلت:
ماذا أنزل ربكم، قيل: لهم، أي قل لهم: هذا القول، كذلك إذا تأخر.
قوله: (لِيَحْمِلُوا) .
" اللام" لام العاقبة، وقيل: لام الأمر، (وَمِنْ أَوْزَارِ) صفة مفعول
محذوف، تقديره، وأوزارا من أوزار الذين يضلونهم، وعند الأخفش: من
زيادة، أي أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم، والمعنى للمضلين وزرهم.
ومثل وزر الضالين.
الغريب: للضالين مثل وِزر المُضلِّين لطاعتِهم. عن أقض القضاة.
قوله: (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) .
يريد عذاب القبر، وقيل: هذا بعد البعث، و" أبواب جهنم" هي
من قوله (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ) وقيل: دركاتها.(1/604)
الغريب: أبوابها، أصنافها، كما تقول: فلان ينظر في باب من
العلم، أي في صنف منها.
قوله: (فلبئس) بزيادة لام موافقة لقوله بعده ولنعم وبينهما ولدار
الآخرة.
الدار رفع، لأنه فاعل نعم، وفي الممدوح ثلاثة أقوال:
أحدها دار الآخرة.
والثاني: الدنيا لتقدم ذكرها " في هذه الدنيا حسنة "
أي يتزودون فيها للأخرى.
والثالث: جنات عدن.
قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) .
أي من أضلة الله بخذلانه لا يوفقه بهدايته.
الغريب: معناه لا يهتدي، وقرىء " لا يُهدَى"، أي من يضله لا يُهدَى.
كقوله: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ) .
قوله: (وَعْدًا) .
أي وَعْدًا عليه، بمعنى عنه.
الغريب: " وعدا عليه" إنجازهُ، و " حقا " صفته، والوعد الحق، ما
اقترن بالإنجاز.
قوله: (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) .
قيل، هو متصل بقوله: (نُوحِي إِلَيْهِمْ) ، ومعنى يوحي إليهم.
يرسل إليهم بالبيناتِ والزبرِ.(1/605)
الغريب: هو متصل بقوله: (وما أرسلنا من قبلك.. بالبينات والزبر.. إلا
رجالًا) ، وهذا ضعيف، لأن ما قبل الاستثناء لا يعمل فيما بعده.
العجيب: " إلا" ها هنا بمعنى " غير"، وهو كقوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) .
قوله: (ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ) .
الظل ما غاب عن مسامتة الشمس فلم يصبه شعاعها.
قوله: (عَنِ الْيَمِينِ) ، أي عن يمين الشيء وجعل وجه الشيء ما يواجه الشمس لأنه ينتقل الظل من اليمين إلى جاب آخر، وكثير من المفسرين قالوا: عن اليمين أول النهار، وعن الشمال آخر النهار، وفي توحيد اليمين وجمع
الشمال أقوال: أحدها: أن الابتداء عن اليمين ثم تنقص حالًا بعد حال عن
الشمال، ولهذا جمع، وقيل: أرأد الأيمان والشمائل، فاكتفى بجمع
أحدهما عن الآخر.
الغريب: "مَا" لفظهُ موحد، ومعناه جمع، فحمل اليمين على
اللفظ، وحمل الشمال على المعنى، وكذلك قوله: (ظلاله) جمع حملاً
على المعنى، ووحد الضمير حملاً على اللفظ.
ومن الغريب: قال الشيخ: ويحتمل أن المراد بالشمائل الشمال والقدام والخلف، لأن الظل يفيء من الجهات كلها، فبدأ باليمين، لأن ابتداء التفيء منها، أو تيمناً بذكرِها، ثم جمع الباقي على لفظ الشمال لما بينهما وبين اليمين من الخلاف -
قوله: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) .
أي يخافون ربهم أن ينزل عليهم عذاباً من فوقهم، وليس قوله:(1/606)
(مِنْ فَوْقِهِمْ) حالًا من ربهم، تعالى الله عن الجهة والمكان.
وقيل: فوق علو لا فوق مكان.
قوله: (لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) .
أي لا تعبدوا إلهين، فيكون اثنين توكيداً للتثنية.
الغريب: تقديره، لا تتخذوا اثنين إلهين، فيكون "اثْنَيْنِ" المفعول
الأول، و "إِلَهَيْنِ" المفعول الثاني، لأن ماله ثان فليس بإله، لأن الإلهَ هو الذي لا ثاني لَه.
قوله: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا) .
ذهب جماعة إلى أن "مَا" هو الصنم، والضمير في "يعلمون"
للكافرين، والعائد إلى الصنم محذوف، أي لا يعلمونه، لأنهم لوعلموه ما
اتخذوه رَباً. وذهب جماعة إلى أن "مَا" الأصنام، والضمير في لا
يعلمون، للأصنام، أي لا يعلمون ولا يُخْشَوْن، وكان الكفار يزعمون أن
الأصنام عقلاء.
الغريب، بل العجييب، ما قاله ابن مهريزد قال: العلم للكفار.
و"مَا" للمصدر، أي لجهلهم، وهذا في المعنى حسن، لكن الكلام يبقى غير
تمام، ويصير المعنى لأجل جهلهم نصيبا، فيقى الكلام غير تام، فيحتاج
إلى إضمار الأصنام.
قوله: (وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ) .
محله رفع، أي، ولهم البنون، وقيل: نصب وهو الغريب، وأنكره
الزجاج.
قال الشيخ، ومع الإنكار فله وجهان:
أحدهما مفعول مضمر، أي
ويتمنون لأنفسهم الذكور، والثاني: ويجعلون لله البنات، ويجعل الله لهم
مَا يَشْتَهُونَ من الذكور والإناث.(1/607)
قوله: (وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
فعيل، بمعنى فاعل، أي حزين ممتلىء غيظاً، وقيل: بمعنى
مفعول، لقوله: (وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) .
الغريب: صاحب النظم: (أَيُمْسِكُهُ) متصل ب (كَظِيمٌ) ، أي
كظيم، أَيُمْسِكُهُ على هونٍ أم يدسه في التراب، قال: والكظم، ستر
المكروه في القلب.
قوله: (يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ)
بالوأد، وذكر الكناية حملا على لفظ ما.
ْالغريب: يخفيه عن الناس، والمفسرون: على أن ها هنا مضمراً
تقديره، " يقول في نفسه: (أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ) .
قوله: (عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ) .
أي على الأرضِ كناية عن غيرِ مذكورٍ، وجاز لأن الدابةَ تدل عليها.
سؤال: (قال في هذه السورة: (عليها) ، وقال في الملائكة (على ظَهرها) .
الجواب: لأن في هذه السورة لم يتقدم ذكر الأرض، فكان يلتبس
بظهر الدابة، لأن الظهر يستعار للدواب، وفي الملائكة قد تقدم الأرض فلم
يكن يلتبس.
قوله: (لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) .
من جعل "جَرَمَ" اسماً جعله مبنيا مع لا بالفتح كـ " لا بد " وبمعناه.
ومن جمله فعلا جعل " لا " رداً على القائل: أن لهم الحسنى، ثم ابتدأ
فقال جرم، أي كسب، والفاعل مضمر، أي كسب فعلهم أن لهم النار،(1/608)
وأن مع ما بعده نصب، وأنهم عطف عليه، وقيل: محل أن لهم رفع.
ومعنى جرم وجب.
قوله: (وَهُدًى وَرَحْمَةً) .
نصب بالعطف على محل لتبين لهم؛ لأنه المفعول.
قوله: (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) .
ذهب جماعة إلى أن الأنعام محمولة على معنى النعم، لأن الألف
واللام إذا دخل الآحاد ألحقه بالجمع كقوله: والله لا أتزوج المرأة، فإنه
يحنث بالواحدة والجمع، وإذا دخل الجمع ألحقه بالواحد كقوله: "والله لا
أتزوج النساء"، فإنه يحنث بالواحدة، ولو قال: "لا أتزوج نساء، فإنه يحنث بدون الثلاث. وذهب بعضهم إلى أن الهاء تعود إلى البعض، لأن اللبن
يكون في بعضها لا في كلها، وهذا حسن.
سؤال: لمً قال في هذه السورة: (في بطونه) - بالتذكير - وقال في
المؤمين (بطونها) ، وما وجه نخصيص هذه السورة بالتذكير؟
الجواب: لأن ما في هذه السورة يعود إلى البعض، كما سبق وكان
القياس في المؤمنين أيضاً أن يعود إلى البعض، لكن لما عطف عليه في
المؤمنين ما لا يختص بالبعض وهو قوله: (وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) ، وليس هذا مما يختص بالبعض، وفي هذه السورة لما اقتصر
على ذكر اللبن، اقتصر على ذكر البعض. وهذا واضح.
قوله: (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا) .
قيل: يعود إلى مضمر، ذلك المضمر موصول، وهذه الجملة صلة
على تقدير ما تتخذون منه، وهذا مذهب الكوفيين، وقال البصريون: لا(1/609)
يجوز حذف الموصول وإقامة الصِّلَةِ مقامه، وحذف الموصوف وإقامة الصفة
مقامه كثير، كقوله: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) ، أي أحد، وكذلك قوله: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) ، (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ) ، وقد سبق. وفي قول البصريين أيضاً نظر، لأن ذلك إنما
يجوز إذا كانت الصفة مما يلي العوامل نحو: جاءني الفقيه ومررت
بالأديب، ورأيت العالم، دون قولك مررت بيجلس، وأنت تريد برجل
يجلس، أو ما يجلس، أو شيء، وقد جاء في الشعر:
تَرْمي بكفَّيْ كان مِنْ أرمى البشَرْ
لأن حذف الموصوف جائز في الجملة، وحذف الموصول غير جائز
أصلا.
الغريب: يعود إلى ذلك، وقيل: إلى الثمر.
ومن الغريب: قال الشيخ: يحتمل أن يعود إلى الجنس أيضاً كما في المسألة الأولى.
العجيب: ومن ثمرات النخيل والأعناب آيات " - بالرفع - أو آيات
- بالنصب - عطفاً على ما تقدم ".
قوله: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) .
هي زنابير العسل وذبابه، و "وحيها" قيل: إلهامها والإلقاء في
قلوبها، وقيل: هو إيجاد الله تعالى النحل على تلك الصفة والطبيعة.
قوله: (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا) أي في الجبال.
الغريب: لأنها مبنية على حسن الصفة وصحة القسمة.(1/610)
(وَمِنَ الشَّجَرِ) ، أي في الغياض.
(وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) يبنون لها.
قوله: (مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) .
أي أنواعها، حُلوها ومُرها، "فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ" امضي فيما سخّرَ الله
لك.
قوله: (ذُلُلًا)
جمع ذلول، حال من السبل، فلا يتوعر عليها مكان
سلكته، وهذا قول مجاهد.
غَيره: حال من النحل، أي منقادة مطيعة لله.
قوله: (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ) ، هو العسل يلقيه من فيها.
قال الحسن: لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم.
وعن علي - رضي الله عنه -: العسل ونيم ذباب، فعلى هذا تلقيه من
أسفلها.
وقيل: إنها تحمل الطل الواقع على الأشجار فتضعه من فيها في كوَّرِها فيصير عسلاً.
الغريب: العسل أنواع مختلفة تحملها النحل إلى كوَّرِها وتضع بعضها
على بعض فيصير شهداً، فعلى هذا تأول بطونها على بيوتها. وهو ضعيف.
قوله: (شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ)
أبيض وأصفر وأحمر، وذكر أن الأبيض
من العسل يلقيه الشاب من النحل، والأصفر يلقيه الكهول منها، والأحمر
يلقيه الشيب منها.
قوله: (فِيهِ شِفَاءٌ)
الضمير يعود إلى العسل، والشفاء نكرة، ليكون لبعض الأدواء، وروى قتادة، أن رجلًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر أن أخاه يشتكي من بطنه، فقال - عليه السلام - اذهب فاسقه عسلاً، فرجع وقال سقيته العسل فلم يزل ما به، فقال عليه السلام - اذهب
فاسقه عسلاً، فقد صدق الله وكذب بطن أخيك، فسقاه ثانياً، فكأنما أنشط
من عقال.
وعنه - عليه السلام - " لو كان شيء ينجي من الموت لكان السَّنا
والسنوت" والسنرت: العسل، والسنا حشيش معروف.(1/611)
الغريب: (فِيهِ شِفَاءٌ) أي في القرآن شفاء "، كقوله: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ.
العجيب: يعود إليهما. لقوله - عليه السلام -: " بالشفاءين العسل
والقرآن".
ومن الغريب: يعود الضميران إلى ما بين الله من الدلائل
والاعتبار في خلق النحل، أي فيه الشفاء من داءِ الجهل، ثم ختم الآية
بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) .
قوله: (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) .
هو الخرف، قتادة: تسعون سنة، وعن علي - رضي الله عنه -:
خمس وسبعون سنة. قطرب: ثمانون سنة.
قوله: (لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ)
أي لئلا يعقل فيكون عبرة لمن اعتر.
الغريب: اللام لام العاقبة، أي يصير إلى حال الطفولة بنسيان ما كان
يعمل.
العجيب: لئلا يعلم بعد علمه شيئاً، أي يفتر عن العمل بالعلم.
و"شيئاً " منصوب ب "عِلْمٍ"، وقيل: ب "يَعْلَمَ"، والوجه الأول
لفصلك، بين العامل والمعمول، واحتياج المصدر إلى مفعول.
قال بعضهم: يجعل شيئاً مصدراً من شاء، وهو غريب.
قوله: (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ)(1/612)
من العبيد والإماء، واستعمل لفظ الرد في موضع الإعطاء.
قوله: (فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ)
قيل: استئناف، والمعنى: المالك والمملوك في الرزق
سواء من حيث إن الله يرزقهم، لأن المالك يرزق المملوك، وقيل: متصل
بالأول أي لا يرد المالك فضله على مملوكه حتى يصير معه فيه سواء.
الغريب: هذا الفاء هو الذي يدخل جواب النفي فينصبه، والمبتدأ
والخبر واقعان موقع الفعل والفاعل، وتقديره لا يرد المالكون فضلهم على
مملوكهم فيستولوا.
العجيب: ألف الاستفهام مقدر تقديره: أفهم يستوون.
قوله: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) .
سؤال: لِمَ زاد في هذه السورة " هم"، وحذفه في العنكبوت.
فقال: (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ) .
الجواب: لأن في هذه السورة نقل من الخطاب إلى الغيبة، فكاد
يلتبس في اللفظ والخط جميعاً، فأكده بقوله: "هم" لزوال الالتباس، وفي
العنكبوت استمر على لفظ الغيبة من قوله: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) إلى
آخرها، فاستغنى عن التأكيد.
قوله: (مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا) .
الجمهور: على أن "شَيْئًا" نصب بالمصدر، وهو قوله: "رِزْقًا".
وتقديره، أن يرزق شيئاً.
الغريب: "شَيْئًا" بدل من قوله: "رِزْقًا".(1/613)
قوله: (وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
ذكر بلفظ الجمع حملا على المعنى على
معنى " ما "، ووحد حملا على لفظ "مَا" قياسا فيها على "مَن" والرزق
في القرآن متعد إلى مفعول واحد، وإليه ذهب حذاق النحاة، وزعم
بعضهم، أنه يتعدى إلى مفعولين، واقتصر في القرآن على المفعول
الواحد، وقد جاء متعدياً إلى مفعولين في الآية، التي تقرب من هذه الآية.
وهي قوله: (رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ) ، وقال: الإنفاق لا
يكون من المصدر، وإنما يكون من المرزوق، فلا يمكن حمل قوله:
(رِزْقًا حَسَنًا) على المصدر، والآية نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه -
وأبي جهل - لعنه الله -.
قوله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) .
أي الحمد له على الكمالأ بل أكثرهم لا يعلمون"، فيجعلون الحمد
لغيره.
قوله: (كَلَمْحِ الْبَصَرِ)
كرجعِ طرفٍ.
العجيب: هو مسافة ما يلمحه البصر. حكاه الماوردي، وفيه بعد.
لأن المراد بلمح البصر، السرعة والسهولة، وضرب المثل به لأنه لا يعرف
زمان أقل منه.
وقوله: (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) ، قيل: معناه، بل هو، وقيل: وهو
أقرب، وقيل: للإفهام في حق المخاطبين، وتحقيق قوله: (أَقْرَبُ) في
أن لمح البصر وضع الجفن ورفعه. وهما فعلان، وأن قيام الساعة فعل
واحد (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .(1/614)
قوله: (أُمَّهَاتِكُمْ) .
جمع" أم" زيد فيه " الهاء، فرقا بين أمهات الناس وأمهات البهائم.
وقد جاء في الواحدة أيضاً، قال:
أُمَّهتي خِنْدِفُ والياسُ أبي. . .
قوله: (لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)
أي لا تعرفون ولا تعقلون، فهو مفعول به، وذهب بعضهم إلى أنه نصب على المصدر، وأبو علي يأباه، ولا يجوز تأكيد الفعل بالمصدر إذا كان نفيا.
قوله: (فِي جَوِّ السَّمَاءِ) .
هو فتح ما بين السماء والأرض، الزجاج: هو الهواء البعيد من
الأرض.
الغريب: جو السماء، كبد السماء. الفراء: جو السماء: هو
السماء.
قوله: (سَرَابِيلَ)
هو ما يلبس من ثوب أو درع.
الغريب: القميص خاصة.
وقوله: (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) ، أي الحر والبرد، فاكتفى بذكر أحدهما، أي
بذكر أحد الضدين عن الآخر.
قوله: (دَخَلاً) ، الزجاج: غشاً وغلاً، وقيل: " دخلا) : دغلاً وخيانة ومكراً، والدخل: كل أمر لم يكن صحيحاً.(1/615)
الغريب: ابن بحر: الدخل الداخل في الشيء لم يكن منه.
قوله: (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ)
أي كراهة أن تكون.
وكان ها هنا هي التامة، (هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ) مبتدأ وخبر محلها رفع
بالوصف، لقوله: أُمَّةٌ، ولا يجوز أن يكون عماداً، لأن ذلك إنما يكون مع
المعارف.
قوله: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ) .
أي إذا أردت قراءة القرآن، وقيل: إذا كنت قارئاً، " فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ"
الغريب: تقديره، وإذا استعذت بالله فاقرأ القرآن.
العجيب: سليم عن حمزة، كان يتعوذ بعد القراءة أخذا بظاهر
القرآن.، ولا نأخذ به.
قوله: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ) .
جواب لهم حين قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أنت مفتر.
ابن بحرْ: أعلم الله أنهم هم أهل تلك الصفة دون رسول الله، فرد عليهم بالوصف دون النص أولا ثم رد عليهم أيضاً، فقال: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) .
قوله: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ)
بدل من الكاذبين وليس بمبتدأ.
الغريب: هو خبر مبتدأ محذوف، أي هم من كفر.
العجيب: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ) "مَن" شرح بدل منه فعليهم خبره.
قوله: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً) .(1/616)
إماماً يأتم به أهل الدنيا - مجاهد: كان وحَدَه مؤمناً، والناس كلهم كفار
الغريب: كان يقوم مقام أمة.
العجيب: في الآية، كان ابن مسعود يقرأ "إن معاذاً كان أمة
، فقيل له غلطت إنما هو إبراهم - عليه السلام - فأعادها ثلاثا، ثم قال
إنا معاشر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنا نشبه معاذاً بإبراهم، ثم قال أتدرون ما الأمة، وما القانت، قلنا الله أعلم، فقال: الأمة الذي يعلم الخير والقانت المطيع لله، وكان معاذ كذلك، أعني كان معاذ بن جبل معلما للخير مطيعاً لله عزوجل، حكاه الثعلبي وغيره.
قوله: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ) .
يجوز أن يتعلق اللام بالشكر فيحسن الوقف على أنعمه، ويجوز أن يتعلق
بقوله " اجتباه " فيحسن الوقف على قوله "شَاكِرًا" ويكون التقدير حنيفاً شَاكِرًا، ولم يكن من المشركين.
قوله: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) .
أي ناصرهم ومعينهم.(1/617)
سورة الإسراء
قوله تعالى: (سُبْحَانَ) .
كلمة اتخذها الله لنَفسِهِ، وهو مصدر كالغفران، وليس من لفظه
فعل، وقيل: هو اسم من سبح والتسبيح مصدره، وسبحان نصب على
المصدر، ولم يأت إلا منصوباً، وأكثر ما جاء مضافاً، وقد جاء منوناً في
الشعر: قال أمية:
سبحانَه ثم سُبْحاناً نعوذُ به. . . وقبلَنَا سبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ
وجاء غيرمنصرف، قال:
أقولُ لَمَّا جاءني فَخْرُه. . . سُبْحَانَ مِنْ علقَمَةَ الفاخِرِ
كأنه جعله اسم علم، وبدأ هذه السورة بالمصدر، وبدأ الحديد
والحشر والصف بالماضي منه، والجمعة والتغابن بالمستقبل، والأعلى
بالأمر، استيعاباً لهذه الكلمة من جميع جهاتها، وجميع جهات الأفعال هي
هذه الوجوه الأربعة المصدر والماضي والمستقبل والأمر الحاضر فحسب.
وجاء سبحه وسبح اسمه وسبح باسمه وسبح له وسبح بحمده.(1/619)
والغريب: ما سبق، أنه من "سبح" إذا رفع صوته، قال الشاعر:
قبح الإله وجوه تغلب كلما. . . سبحَ الحجيج وكبروا إهلالا
قوله: (أَسْرَى بِعَبْدِهِ) ، السرى والإسراء، الذهاب في اللبل.
يعديان بالباء، وقيده بالليل مع أن الإسراء لا يكون إلا بالليل تاكيداً ونفياً
للمجاز الذي يستعمل له السرى نحو سرى الشيء في الشيء إذا جرى وخفي
فيه، وقيل، ذكره تعليلاً للوقت، وقيل: ليلا دل على وسط الليل ولم يكن
إدْلاجاً ولا ادّلاجاً، ومذهب أهل السنة والجماعة في المعراج أنه أسرى
بروحه وجسده إلى بيت المقدس، ثم إلى السماوات حتى انتهى إلى سدرة
المنتهى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) .
الغريب: عائشة قالت، أسري بروحه ولم يسر بجسده.
العجيب: ذهب معاوية إلى أن ذلك كان رؤيا من الله صادقة.
والقول هو الأول، وعليه يدل ظاهر القرآن، وورد في صحته ما لا يحصى
من الأخبار، ولو كانت رؤيا ما أنكرتها قريش حتى ارتدت جماعة ممن كانوا
أسلموا حين سمعوا منه هذا الكلام، لأن الرؤيا في المنام لا ينكر مثل ذلك
ولا ما هو أعلى منها.
قوله: (وَجَعلناهُ هُدىً) قيل التوراة.
الغريب: موسى.
(أَلَّا تَتَّخِذُوا) - بالياء -، وجهه ظاهر، أي لأن لا يتخذوا، ووجه
التاء أن يحمل على تلوين الخطاب، وهو كالوجه الأول، وقيل: المقول
مضمر، وهذا لا يصح، لأن المقول لا يخلو من أن يقع بعده جملة محكية(1/620)
أو معنى جملة، يعمل في لفظهِ القول، فالأول، كقولك: قال زيد عمرو
منطلق، والثاني نحو: أن يقول القائل: لا إله إلا الله، فتقول قلت حقاً.
والثلجُ حار، فتقول: قلت باطلا، فهذا معنى" ما قاله " وليس نفس
المقول، فقوله "أَلَّا تَتَّخِذُوا" خارج من هذين الوجهين هذا كلام أبي علي
في الحجة، فإن جعلت أنْ زيادة صح زيادة القول وإضماره، وان جعلت أن
بمعنى، "أي" صح أيضاً، ويكون نهيا في الوجهين، والمخاطب به يجوز أن
يكون بني إسرائيل وذرية من حَملنا المفعول الأول، و" وكيلا " المفعول
الثاني، ويجوز أن يكون المخاطب به ذرية من حملنا فيكون نصاً على
النداء، و "وكيلا" مفعول "ألا تتخذوا"، وفعيل قد يقع موقع الجمع، كقوله
(وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) .
قوله: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
هو نوح - عليه السلام -.
الغريب: هو موسى - عليه السلام -.
قوله: (وَعْدُ أُولَاهُمَا)
قيل: بمعنى الموعد، وهو الوقت، وقيل: بمعنى الموعود.
الغريب: ما وعدنا على المعصية الأولى.
العجيب: الوعد بمعنى الوعيد، أي عقوبة أولاهما.
(عِبَادًا لَنَا) ابن عباس وقتادة: هم جالوت. ابن المسيب:
بخت نصر. ابن جبير: هم سنحاريب. الحسن: هم العمالقة.
الغريب: هم قوم مؤمنون بعثهم الله وأمرهم بغزو بني إسرائيل، ولم
يضفهم إلى نفسه إلا بعد أن كانوا مؤمنين.(1/621)
قوله: (فَلَهَا) ، أي عليها، وجاء باللام ازدواجا، وقيل: فلها
الجزاء والعقاب.
الغريب: " فلها" بمعنى إليها.
العجيب: الحسين بن الفضل، " فلها " رب يغفر الإساءة.
قوله: (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا) أي علوه، ومعناه ليخربوا.
الغريب: ما مع الفعل في تأويل المصدر، والمضاف محذوف، أي
مدة علوهم.
العجيب: في تأويل المصدر واقع موقع الحال، أي في حال
عُلوهم.
قوله: (حَصِيرًا) سجناً ومحبِساً.
الغريب: الحسن هو الذي يفرش ويبسط، أي جعل جهنم لهم
مهاداً.
قوله: (لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) .
أي الطربقة أو الحالة التي هي أقوم، وأتم استواء وأشد من سائر السبل.
وهي شهادة أن لا إله إلا الله، الزجاج: أقومُ الحالات.
قوله: (دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ) ، أي يدعو بالشر دعاء مثل دعائه
بالخير.
قوله: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
أي إلى أمر الدنيا، والعجلة طلب الشيء قبل
وقته، والسرعة عمل الشيء في أول وقته.(1/622)
الغريب: العجول ها هنا آدم، لأنه حين نفخ الله فيه الروح نظر إلى
قدميه، فصارت العجلة في ولده. قاله ابن عباس.
العجيب: سلمان: لما خلق الله آدم بدأ بأعلاه قبل أسفله، فجعل
آدم ينظر، فلما كان بعد العصر، قال: يا رب عجل قبل الليل فذلك قوله
(وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) .
قوله: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ) .
(آيَتَيْنِ) نصب على الحال، وليس هو ها هنا بمعنى صير، لأن
ذلك يقتضي حالة سابقة، نقل الشيء عنها إلى حالة أخرى ولا الذي بمعنى
سَمّى وحكم، ولا بد من أحد التقديرين، أحدهما: وجعلنا الشمس والقمر
فيهن آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة، والثاني: وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة".
(وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا) .
نصبه من وجهين، أحدهما: مفعول به، والثاني: حال من الطائر.
تقديره، ونخرج له طائره يوم القيامة " كتاباً " أي مكتوباً، ويقوى هذا الوجه قراءة يزيد، "ويُخرَج " على المجهول، وقراءة يعقوب " ويَخرُج
مسنداً إلى الطائر.
قوله: (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) .
الباء زائدة، والحسيب المحاسب كالجليس والأكيل.
الحسن: شاهداً، وقيل: حاكماً.(1/623)
الغريب: الحسن: قد عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك.
قال الشيخ الإمام: ومن الغريب: يحتمل أن "عليك " متصل بقوله:
"اقرأ "، أي اقرأ عليك كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً.
قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ) .
قيل: "كان" صلة في الآية، وقيل: في سابق علمه.
الغريب: من يكن يريد العاجلة عجلنا له.
وقوله: (لِمَنْ نُرِيدُ) بدل من "له" كقوله: (لِمَن آمَنَ مِنْهُمْ) .
قوله: (كُلًّا نُمِدُّ) ، منصوب ب "نُمِدُّ هَؤُلَاءِ"، " وَهَؤُلَاءِ" بدل منه.
قوله: (من عطاء ربك) متصل بـ "نُمِدُّ".
(وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
قرىء في الشواذ "عطاءَ ربك" بالنصب، والقدير، ما كان العطاء محظوراً عطاء ربك، فيكون محظوراً حالاً من العطاء، "وعطاء ربك" الخبر، نحو: ما كان زيد محدثاً إماماً.
قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ.
أي أمر أمراً قاطعاً، وقيل: معناه عهد، وقيل: ألزم، وعن ابن
مسعود وابن عباس وابن جبير: ووصى ربك.
العجيب: عن ابن عباس والضحاك، قالا: كان في المصحف
"ووصى ربك" فالتزقت الواو بالصاد، وهذه القراءة عند القراء مقبولة في
جملة الشواذ، والحكاية مردودة على الراوي.
(وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) ، الباء متصل بأمر أو بقضى أو أحسنوا، ولا يجوز أن يتعلق بقوله: (إِحْسَانًا) لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه.(1/624)
قوله: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا)
هذا من الخطاب الذي خوطب به نبيهم - عليه السلام -، والمراد به غيره، ولاحظ له فيه أصلاً، وقراءة من قرأ " يبلغانِّ" بالألف على وجهين: أحدهما: أن الألف ضمير الوالدين، وأحدهما أو كلاهما رفع بالبدل منه، والثاني: أنه على لغة من يقول: أكلوني البراغيث.
الغريب: قتادة: نسخ الله من هذه الآية هذا اللفظ بقوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) .
والصواب: هو الأول، لأنه - عليه السلام - فقد أبويه قبل هذا الخطاب بإجماع، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -
" ليعمل البَر ما شاء فلن يرى النار أبدا، وليعمل العاق ما شاء، فلن يرى
الجنة أبداً) .
قوله: (لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) .
جاء مرفوعاً: هم الذين يصلون بين المغرب والعشاء، وعنه - عليه
السلام - أيضاً صلاة الضحى.
مجاهد: الأواب، هو الذي يذنب سراً، ويتوب سراً.
الغريب: ذهب بعض المفسرين: إلى أن هذا في النادر يندر من
الولد في حق الوالدين، ثم يندم ويتوب.
قوله: (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ)
قيل: نصب على أنه مفعول له، وقيل حال، والمصدر يقع حالاً ما لم يكن معرفة بخلاف المصدر، فإنه قد يكون نكرة وقد يكون معرفة.
قوله " (تَرْجُوهَا) يجوز أن يكون صفة "رَحْمَةٍ"، ويجوز أن يكون حالاً.(1/625)
قوله: (خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ)
مخافة الفقر، وجل المفسرين على أن المراد به وأد البنات مخافة العار.
الغريب: قيل: إنهم زعموا أن صاحب البنات هو الله، تعالى عن
ذلك، وإن الملائكة بناته، فإلحاق البنات به أولى.
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة: (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) ، وقال في الأخرى: (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) ؟
الجواب: لأن التقدير: خشية إملاقٍ بهم نحن نرزقهم وإياكم.
والثاني تقديره، من خشية إملاق بكم نحن نرزقكم وإياهم.
قوله: (كَانَ خِطْئًا)
الخِطْأ والخَطَأ لغتان، مثل شِبْه وشَبَه، وقيل: الكسر ما كان عمدا، والفتح ما كان سهواً. وقراءة ابن كثير خِطاء، - بالكسر - والمد محمول على أنه مصدر فاعل في التقدير، لأن فاعَلَ فيه وإن كان غير ممنوع، فقد جاء بخِطاء، وهو مطاوع فاعَلَ، وقد جاء في الشواذ عن الحسن: - بالفتح والمد على أنه اسم من أخطا كالعَطاء من أخطيته.
قوله: (كَانَ فَاحِشَةً) .
أي الزنا، والتاء في (فَاحِشَةً) للمبالغة، وقيل: محمول على الخصلة.
وهو غريب، وقيل: مصدر كالعاقبة والخالصة، وأفاد كان إنه لم يزل كذلك، والزنا: الوطْء من غير نكاح ولا ملك يمين.
قوله: (كُلُّ أُولَئِكَ) .
أي كل هذه، فأجراه مجرى قول الشاعر:
والعيشُ بَعدَ أولئكَ الأيام(1/626)
قوله (كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)
أي كان الكل عنه مسؤولًا، أي تُسأل هذه الأشياء عن صاحبها، كما قال: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) الآية، ويجوز أن يجعل التقدير، كان الإنسان عنه مسؤولا، و "عنه" يعود إلى كل، وقيل: إلى المصدر، "تقف" أي القفو، وقيل: يعود إلى "مَا"، والمعنى لا تستعمل هذه الأعضاء في محرم.
الغريب: استعمله في دلائل توحيد الله، ولا ترض بالتقليد.
قوله: (مَرَحًا) .
قيل: نصب على المصدر، وقيل: مصدر وقع موقع الحال بدليل من
قرأ مرحاً وهو شاذ.
قوله: (طُولًا)
قيل: تمييز، وقيل: حال من المخاطب وقيل: من الجبال، وهو الغريب.
(كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ) .
من قرأ بالإضافة جاز أن ينتصبَ "مكروهاً" بالخبر، وجاز أن يكون
"عند ربك" الخبر، و "مكروهاً" خبر بعد خبر.
الغريب: يجوز أن يكون حالاً من المضمر في الظرف.
ومن قرأ - بالتنوين - جعلها خبر كان، و "مكروهاً" يجوز أن يكون
خبرا بعد خبر، ويجوز أن يكون حالًا كما ذكرت.
الغريب: صفة "لسيئة" لأن تأنيثها مجاز.
(ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ) .
عن ابن عباس: هذه الثماني عشر آية كانت في ألواح موسى ابتداؤها:
(وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) ، إلى قوله: (مَدْحُورًا) .(1/627)
قوله: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) .
قيل من الأحياء، وقيل: عام حتى صرير الباب ورعد السحاب.
الغريب: تسبيحه دلالته على الوحدانية.
العجيب: تسبيحه، حمل غيره على التسبيح إذا تأمل فيه وتدبر.
قوله: (وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)
لأنكم لا تتأملون فيه حق التأمل
الغريب: لأنها بغير لسانكم.
العجيب: لأنها تتكلم في بعض الحالات دون بعض.
قوله: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) الآية.
قيل: معناه لا يَرَوْنَك بقلوبهم.
الغريب: لا يَرَوْنَك بأعينهم، فإن قوماً كانوا يؤذون النبي - عليه
- فستره الله عن أعينهم الظاهرة.
وقوله: (حِجَابًا مَسْتُورًا) ، أي عن العيون، وهو الصواب، وقيل:
ساتر على النسب، أي ذا ستر.
الغريب: المراد، مستوراً به.
العجيب: هو حال مما تقدم، وليس بوصف لحجاب.
وقوله: (نُفُورًا) ، حال، أي نافرين، يريد مصدراً وقع موقع
الحال، ويجوز أن يكون نصباً على المصدر، لأن "وَلَّوْا" بمعنى نفروا.
العجيب: جمع نافر.
قوله: (نَجْوَى) .(1/628)
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
جمع نجِى، ويجوز أن يكون مصدراً.
قوله: (أَإِذَا) .
العامل فيه لفظ من البعث لا من المبعوث، لأن ما بعد إن لا يعمل
فيما قبله.
قوله: (أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) .
عن ابن عباس، في جماعة، هو الموت، وهو أكبر الأشياء في
الصدور، أي لو كنتم الموت لأماتكم ثم أحياكم، الكلبي: البعث.
مجاهد: هو السماء والأرض. والجبال.
الغريب: عام.
العجيب: الحسن: ما أدرى ما هو.
قوله: (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) .
أي للمحاسبة يدعوكم من قبوركم، وقيل: يدعوكم إسرافيل بالنفخة.
وقيل: هو نداء غير النفخة. و "يَوْمَ" منصوب ب "يعيدكم" الدال عليه، قوله: (مَنْ يُعِيدُنَا) وقيل: اذكر يوم فيكون مفعولا به.
الغريب: "يَوْمَ" بدل من قوله: "قَرِيبًا" على أحد الوجهين، لأن انتصابه
على وجهين، أحدهما: ب "يكون"، والثاني: بالظرف، أي في زمان قريب، فيكون التقدير، عسى أن يكون ذلك يوم يدعوكم.
قوله: (بِحَمْدِهِ) قيل: الباء للسبب، والحمد الأمر أي بسبب أمره.
وقيل: الباء للحال، أي حامدين.
الغريب: بحمد الله لا بحمد منهم، لأنه حال اضطرار.(1/629)
قوله، (إِلَّا قَلِيلًا) ، قيل، لُبثاً قليلاً، فهو نصب على الظرف، وهو زمان
لبثهم في القبور، وقيل: ما بين النفختين يرفهون من العذاب.
الغريب: هو زمان الدنيا.
قوله: (يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
قيل: لا إله إلا الله، وقيل: هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الزجاج: لا يذكروا غيرهم إلا بالمحاسن، ويكفوا عن مساوئه، والأكثرون
على أنها نزلت في عمر - رضي الله عنه - شتمه رجل من العرب، فهم به
عمر، فأمره الله بالعفو عنه، وقيل: نزلت في أبي بكر - رضي الله عنه -.
وفي جزم "يقولوا" أقوال، قيل: لام الأمر مقدر معه، أي ليقولوا، وقيل:
جواب أمر مضمر تقديره، قل لعبادي قولوا يقولوا.
الغريب: أراد يقولون فوقع موقع قولوا فحذف نونه لما وقع موقع مبنى.
وهذا يحكى عن المازني.
قوله: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) .
هو مائة وخمسون سورة، ليس فيها حكم ولا فرض، بل ثناء ووعظ -
قوله: (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) .
قيل: بدل من "واو" "يبتغون"، وهم المدْعوون، وقيل بدل من" الوسيلة"
و"الذين يدعون" هم الداعون، وفي الآية مضمر تقديره ينظرون أيهم أقرب.
قوله: (مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا) .
مهلكوها بالاستئصال، أو معذبوها في الدنيا بالبلايا والشدائد، وقيل:
أو معذبوها في القيامة.(1/630)
الغريب: مهلكوها، يعني الصالحة بآجالهم، أو معذبوها الطالحة.
قوله: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) .
أي ما منعنا إرسال ما اقترحوا من الآيات، إلا علمنا أنكم تكذبون
رسولي كما كذب الأولون رسلهم، فأهلكناهم، لأن سنتنا مضت بإهلاك من كذب بالآيات المقترحة، فيجب إهلاك قومك، وقد قضيت أن لا أستاصل أمتك، لأن فيهم من يؤمن أو يلد مؤمناً، فأن الأولى مع ما بعدها نصب، بأنه المفعول الثاني لـ "منعنا"، وأن الثانية مع ما بعدها رفع بأنه الفاعل.
قوله: (مُبْصِرَةً) ، أي تبصرة بما فيها من الدلائل، وقيل: ذات إبصار.
الغريب: هو كقوله: ليله قائم ونهاره صائم، أي يبضر بها، وهي نصب
على الحال.
قوله: (فَظَلَمُوا بِهَا) ، قيل: فكفروا بها، أي فعقروها، وقيل: ظلموا
أنفسهم بعقرها.
الغريب: الباء زيادة، أي فظلموها بقتلهم إياها، وكان قد حرم الله
قتلها وعقرها.
قوله: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ) .
الجمهور، على أنها رؤيا يقظة، وهي ليلة المعراج، وقيل: هي
رؤيا منام، من قوله سبحانه: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ) .
الغريب: عن سعيد بن المسيب: إنها رؤيا منام رأى - عليه السلام -(1/631)
قردة ينزون على منبره، وساءه ذلك، فقيل: ما أولت، فقال: "بنو
أمية".
العجيب: هو من قوله: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) .
قوله: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ)
هي عطف على قوله: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا) وأراد بالملعونة، آكلوها، وقوله: (فِي الْقُرْآنِ) متصل ب (جعلنا) ، لا ب (الملعونة) ، كما زعم بعضهم.
الغريب: "الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ" اليهود.
العجيب: الشجرة الملعونة، قبيلة، وسميت ملعونة لضررها، وكل
ضار عند العرب ملعون.
قوله: (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ) ، أي نخوفهم بالنار، وما فيها فما
يزيدهم التخويف إلا طُغْيَانًا كَبِيرًا، كفرا ومجاوزة من الحد فيه.
و"طُغْيَانًا" هو المفعول الثاني لقوله: (يَزِيدُ) .
قوله: (خَلَقْتَ طِينًا) .
الزجاج: حال، وقيل: تمييز، وقيل: أرادَ خلقتَه من طينٍ، فحذف
الجار، فتعدى الفعل إليه من غير واسطة.
قوله: (أَرَأَيْتَكَ) .
هو مثل قوله: (أرأيتكم) في الأنعام، وقد سبق.
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة: "أَرَأَيْتَكَ" وفيما سواها "أرأيت"؟
والجواب: لأن ترادف الخطاب يدل على أن المخاطب به أمر(1/632)
عظيم وخطب فظيع، وهكذا هو في السورة، لأنه - لعنه الله - ضمن احتناك ذرية آدم عن آخرهم "إلا قليلاً".
وقوله: (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ)
من احتنكتُ الدابةَ وحنَكتها إذا جعلت
في حنكها الأسفل حبلًا يقودها به، وقيل: من احتنك الجراد الأرض إذا
أكلَ نباتها.
الغريب: هو من حنكت الصبي وأحنكته، إذا جعلت في حنكه حلاوة.
و"اللام" في (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ) لام توطئة القسم، و "اللام " في
"لَأَحْتَنِكَنَّ" لام القسم، وصار الحكم للقسم ومثله في هذه السورة (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ) ، ثم قال "لا يأتون"، ولم يجزم لأن
التقدير، فوالله لا يأتون، وجواب الشرط هو الضمير في الباب، والتقدير.
فوالله لأحتنكن فوالله لا يأتون، وكذلك حيث وقع، وقد سبق بعضه.
قوله: (قَالَ اذْهَبْ)
طرد وإبعاد، وليس فيه مجيء ولا ذهاب.
الغريب: اذهب وتباعد من أوليائي بعد أن عصيت أمري.
قوله: (بصوتكَ)
أي بدعائك إياهم إلى طاعتك، وقيل: بالغناء واللهو واللعب، وكل دعاء إلى فساد، الزجاج: هذا مثل، والمعنى اجمع عليهم كل ما تقدر عليه من المكائد.
العجيب: أبو علي: ليس للشيطان خيل ولا رجل، ولا هو مأمور، إنما
هذا زجر واستخفات به، كما تقول لمن تهدده: اذهب فاصنع ما بدا لك واستعن بمن شئت.
قوله: (وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) ، قيل: هو الربا، وقيل:(1/633)
البَحيرة الآية. وقيل، كل مال عصى الله فيه، قوله: (والأولاد) قيل: هم
أولاد الزنا، وقيل: الموءودة، وقيل: تسميتهم إياهم عبد العزى وعبد اللات وعبد شمس وعبد الحارث.
قوله: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ) .
أي عبادي الذين خلقتهم للجنة، ليس لك عليهم سلطان أن تضلهم.
أو تحملهم على ذنب لا يغفر.
الغريب: إن عبادي الذين أطاعوني وعصوك ليس لك عليهم حجة.
ومن الغربب: إن عبادي عام، والمعنى ليس لك عليهم سلطان سوى
وسوستك لهم في الدعاء إلى المعاصي.
قوله: (وكفى بربك وكيلاً) ، ومثله (وكفى بالله شهيداً) .
"الباء" زيادة، وما بعدها نصب على التمييز، والتقدير كفاك الله من جملة
الوكلاء، وقيل: تقديره المكتف به وكيلاً وشهيداً.
قوله: (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) .
أي أعرضتم عن الإيمان، وقيل: هو العدول عن السير.
الغريب: "أَعْرَضْتُمْ" أمعنتم في كفران النعمة، قال ذو الرمة:
عطاءَ فتى تمكن في المعالي. . . فأعرض في المكارم واستطالا
قوله: (تارة أخرى) .
أي مرة أخرى.
الغريب: قطرب: أترته جئت به تارة، أي أعدته.(1/634)
قوله: (بِهِ تَبِيعًا) ، أي بالإغراق والإرسال.
الغريب: يعود إليها.
قوله: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) .
أي أكثرنا كرامتهم، وقيل: نسبناهم إلى الكرم وقيل: صرفناهم.
ابن عباس: بالعقل، وعنه أيضاً: بأن يتناول مأكوله بيده، وسائر الأشياء يتناول مأكوله بفيه من الأرض.
الضحاك: بالنطق والتمييز.
عطاء: بتعديل القامة، وقيل: حسن الصورة، فإن الله خلق كل شيء على صورة شيء آخر إلا بني آدم فإنه خلقه على صورته، وهذا معنى قوله: - عليه السلام -: (خلق الله آدم على صورته". وقال بعضهم: أضاف الصورة إلى الله - تعالى - تعظيماً لها كإضافة الناقة والبيت، ناقة الله وبيت الله، وصورة الله. ابن جرير:
بتسليطهم على غيرهم. وقيل: بأن زين الرجال باللحى، والنساء
بالذوائب.
الغريب: محمد بن كعب: بأن جعل محمداً - صلى الله عليه وسلم - منهم.
العجيب: بالخط.
ومن الغريب: كرمهم بما فسره بعد، وهو قوله: (وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ) ، أي على الدواب، "وَالْبَحْرِ" على السفن، (وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ) ، أي اللذيذات، وقيل: الحلال.(1/635)
الغريب: كسب يده.
قوله: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا) .
قيل: الاستثناء لجبرائل وميكائل وعزرائيل وإسرافيل، وقيل: المراد بالكثير، الكل، كقوله: (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) .
أي كلهم، قال الشيخ الإمام، ويحتمل أنه على القلب، أي وفضلنا كثيراً منهم، يعني الأنبياء والأولياء على من خلقنا، فإنهم فضلوا على الملائكة.
قوله: (يَوْمَ نَدْعُو) .
قيل: متصل به (فضلنا" والمراد به المستقبل، أي يفضل في الآخرة.
ولا يجوز أن يتعلق بفضلنا وأنت تريد به الماضي، لأن ما بعده مستقبل.
والماضي لا يعمل في المستقبل، وقيل: اذكر يوم ندعو، وقيل: منصوب بما
دل عليه "أُوتِيَ"، أي يؤتى، قوله: "بِإِمَامِهِمْ"، مجاهد نبيهم.
الضحاك، بكتابهم، المبرد، بذنبهم، الحسن بأعمالهم.
قتادة: بكتاب أعمالهم، وقيل: ما كانوا يعبدونه - وهو الغريب -.
العجيب: بأمهاتهم، وقيل: بأسمائهم.
والإمام: مصدر، وقيل جمع آم، كـ "راع" و "رِعاء"، ومن جعلها جمع
أم فهو كخُف وخفاف وجُل وجِلال، "والباء متصل ب "ندعو"، وقيل: الباء للحال، والتقدير: مختلطين بإمامهم، وجاء في الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم " - رواه الثعلبي.
قوله: (فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى) .(1/636)
يجوز أن يكون الثاني كالأول، ويجوز أن يكون للتفضيل من عمى
القلب، وأمال أبو عمرو الأول تنبيهاً على أن الثاني للتفضيل وخص الأول
بالإمالة دون الثاني، لأن الإمالة نوع من التمكين، والأول أكثر تمكيناً.
ولأن "من" مع الثاني مقدر، فصار الألف كأنَّه وقع غير آخر، فامتنع من
الإمالة، وهذه إشارة إلى الدنيا.
الغريب: هذه إشارة إلى النعم، أي أعمى أن يعلم أنها من الله، فهو
في الآخرة أعمى عن حجته
العجيب: من كان في هذه الآية التي تلاها عليهم أعمى، فهو في الآية
التي تتلوها عليهم أعمى وأضل.
قوله: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) .
(وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) .
تقديره، وإنه محذوف "الهاء" وخفف إن وأدخل اللام فرقا بينه وهو
مخفف من المثقل وبينه وهو للنفي أو غيره. وكاد من كدت أكاد ومعناه
التقريب.
الغريب: صاحب النظم: هو من كاد يكيد، أي احتالوا لَيوقعوك في الفتنة.
قوله: (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) .
"لولا" تدل على امتناع الشيء لوجود غيره، فالممتنع في الآية إرادة
الركون لوجود تثبيت الله إياه، هذا هو الظاهر في الآية.
الغريب: الحسن: هَمَّ - عليه السلام - ببعض ما اقترحت عليه تقيف(1/637)
من قولهم له متعنا باللات سنة وحرِّمْ وادينَا كما حرمت مكة، فإنا نحب أن
تعرف العرب فضلنا عليهم. والوجه هو الأول.
قوله: (لا تخذوك خليلاً) أي لأحبوك
الغريب: ابن بحر: لأخذوك وأنت إليهم محتاج فقير.
قوله: (سُنَّةَ) .
نصب على المصدر، وما تقدمه من الفعل ناب مناب فعله المأخوذ
منه، فإن قوله: (وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
دل على "أهلكنا" وسنتنا مثل سنة مَن قد أرسلنا، وتقديره سنتنا في أمم قد أرسلنا، والدليل عليه قوله: (وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا) .
قوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) .
عطف على الصلاة، أي أقم الصلاة، وقرآن الفجر، والمراد بقرآن
الفجر صلاة الفجر.
الغريب: الأخفش: وقرآن الفجر، نصب على الإغراء
العجيب: المرد: أقم القرآن لصلاة الفجر.
قوله: (فَتَهَجَّدْ) .
أي استيقظ: هجد: نام، وتهجد استيقظ، ومثله: حنِث وتحنث.
والتهجد: ترك النوم للصلاة، فإن لم ينم قبله فليس بتهجد، وإن استيقظ ولم يصل فليس بتهجد.
قوله: (مَقَامًا مَحْمُودًا)
هو عند الجمهور مقام الشفاعة.(1/638)
الغريب: نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله (مَقَامًا مَحْمُودًا) ، قال: " يدنيني الله فيقعدني معه على العرش "
وفي رواية يقعدني على الكرسي، وفي رواية أخرى على السرير "
و"مع" ها هنا تجري مجرى "عند" في قوله عندك بيتا، (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ) ، والمراد به الرفعة، والله تعالى منزه عن المكان والانتقال.
وقوله: "مَقَامًا" نصب على المصدر، فإن معنى يبعثك، يقيمك.
وقيل: يعطيك، وقيل: نصب على الظرف، أي في مقام.
قوله: (أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) .
ابن عباس: أمتني إماتة صدق، وأخرجني من قبري يوم القيامة مخرج
صدق.
مجاهد: أدخلني في النبوة وأخرجني من تبليغ الرسالة، وقيل:
أدخلني في الجنة وأخرجني من الدنيا.
الغريب: فيه تقديم وتأخير، أي أخرجني من مكة مخرج صدق.
وأدخلني في المدينة، وقيل: أدخلني مكة عام الفتح وأخرجني منها آمناً.
قوله: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) .
قيل: "من" للتبعيض، وحسن ذلك لأنه نزل نجماً نجماً، وقيل: "من "
للتبيين، أي وننزل من القرآن لا من سائر الكتب، كقوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) ، وقيل: "من" ها هنا زيادة، أي نزل القرآن، وقيل: هو(1/639)
كقوله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) ، وكل أبعاضه مقام إبراهيم.
وكذلك جميع أبعاض القرآن شَفاء.
الغريب: "من" فيه لابتداء الغاية، أي وننزل ما هو شفاء ورحمة من
القرآن لا من غيره.
العجيب: "من" للتبعيض، والمراد به الناسخ دون المنسوخ، وهذان
القولان حسنان.
والمراد بالشفاء، الشفاء من الأدواء، وقيل: الشفاء من الضلال.
وقيل: الشفاء من داء الجهل.
قوله: (عَنِ الرُّوحِ) .
قتادة: هو جبريل، علي وابن عباس: ملك له سبعون ألف وجه
لكل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون ألف لغة، يسبح الله بتلك
اللغات كلها، يخلق الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم
القيامة (1) .
الحسن: عن القرآن. ومعنى (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) من وحي ربي.
الغريب: خلق كخلق بني آدم في السماء يأكلون ويشربون كهيئة
الناس، وليسوا من الناس.
مجاهد: خلق على صورة بني آدم، وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح، وجماعة من المفسرين على إنها هي التي يحيى بها الحيوان.
ومن العجيب: علي بن عيسى: الروح: جسم رقيق، هوائي في كل
جزء من الحيوان، قال وكل حيوان روح وبدن.
قوله: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)
__________
(1) من الإسرائيليات المنكرة.(1/640)
من خلق ربي، وقيل: من وحى ربي، وقد شق. وقيل: من أمر ربي
لم يطلع عليه أحد.
قوله: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) ، أي قليلاً من العلم.
والخطاب لليهود، والذين سألوا النبي عن الروح، وقيل: عام في جميع
الخلق.
قال الشيخ الإمام: الغريب: يحتمل إلا قليلا منكم، وهم العلماء.
وإنما لم يجابوا، لأنهم سألوه سؤال تعنت، وقيل: لم يجابوا ليوافق ما في
كتب اليهود.
الغريب: لم يجابوا لأن معرفته بالعقل دون السمع، وقيل: لأن
هذا من كلام الفلاسفة، لا من كلام الأنبياء.
العجيب: قد أجابهم، لأنهم سألوه، أقديم هو أم محدث، فقال: قل
الروح من أمر ربي، أي من خلقه، فهو محدث.
قوله: (لَا يَأْتُونَ) .
تقديره: فوالله لا يأتون. وقد سبق قوله: (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ) ، الحسن: الملائكة منويون معهم، لأنهم لا يقدرون أيضاً على
الإتيان بمثل القرآن.
قال الشيخ الإمام: الغريب: يحتمل أنه إنما اقتصر على ذكر الإنس
والجن، لأنه - عليه السلام - كان مبعوثاً إلى الثقلين دون الملائكة.
قوله: (مِنْ زُخْرُفٍ) .
من ذهب - الزجاج: الزخرف، الزينة.
الغريب: مجاهد: ما كنا ندري ما الزخرف حتى رأينا في قراءة ابن
مسعود "بيت من ذهب".(1/641)
قوله: (أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ) ، أي تصعد إليها، والتقدير، أوترقى في
السلم إلى السماء.
قوله: (أَنْ يُؤْمِنُوا) .
في محل نصب بالمفعول الثاني، "أن قالوا" في محل رفع بالفاعل.
قوله: (لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ) .
"مَلَائِكَةٌ" اسم كان "يَمْشُونَ" خبره، "مطمئنين " حال من الضمير في
"يَمْشُونَ" و "فِي الْأَرْضِ" خبره تقدم عليه.
ولا يجوز أن يجعل "يَمْشُونَ" خبر كان ولا "مُطْمَئِنِّينَ"، لأن "فِي الْأَرْضِ" يصير حائلاً بين كان واسم كان، فيصير من باب كانت زيداً الحمى تأخذ فلا يجوز فإن جعلت "كان"
بمعنى "وقع" جاز، وهو الغريب، وإن جعلت في كان ضمير الأمر والشأن لم
يمتنع، وهو العجيب.
ولا يجوز أن يجعل كان صلة وزيادة لأن "لو" يصير كأنه دخل على "في"، وهذا ممتنع.
قوله: (كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) ، وقال في الأخرى: (لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ) .
الجواب: قيل "كُلَّمَا خَبَتْ"، أي دنت من الخبوِّ، وقيل: الخبوُّ:
هو الزيادة في السعير.
الغريب: الخبوُّ: خمود النارِ لا همودها، وهذه جملة مستأنفة عطفت
على الجملة الأولى، واكتُفِي بالضمير العائد عن واو العطف.
الغريب: يجوز أن يكون التقدير: "وكلما" فحذف الواو. ومن
الغريب: يجوز أن تكون الجملة حالا من جهنم، والعامل في الحال، ما في
جهنم من معنى التوقد والتأجج.(1/642)
قوله: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ) ، أي ذلك العذاب.
الغريب: ذلك العمى والصم والخرس، ومحله رفع بالابتداء.
و"جزاؤهم" خبره، و "بِأَنَّهُمْ" متصل به، أي بسبب أنهم.
قوله: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ) .
مؤخر تقديره: أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض
وجعلِ لهم أجلاً لا ريب فيه قادر على أن يخلق مثلهم، وأبى الظالمون إلا
كفورًا.
قوله: (خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي) .
هي خزائن الرزق.
الغريب: الخزائن المقدورات، العجيب: أراد بالرحمة ها هنا: الذهب.
قوله: (خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ) ، أي الفقر، تقول: أنفق الرجل وأملق، إذا
افتقر، المبرد: خشية أن يفنيه الإنفاق و"أنتم" يرتفع بفعل مضمر، أي لو
تملكون أنتم تملكون، فحذف الأول، لأن الثاني يدل عليه ولا يرتفع
بالابتداء، لأن "لو" مختص بالفعل كما سبق.
قوله: (فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ) .
"إِذْ" متصل بفعل مضمر، أي فسل يا محمد عبد الله بن سلام
وأصحابه عن ما جرى، إذ جاءهم، لأن سل لا يصلح عاملا في إذ جاءهم.
لأنه قد مضى قبل النبي بزمان طويل.
الغريب: تقدير الآية: وقلنا لموسى: سل فرعون بني إسرائيل إذ(1/643)
جاءهم، حكاه أقضى القضاة. وهو بعيد، لأنه يقتضي إذ جئتهم، وقيل
الكلام تام على بني إسرائيل، ثم قال: إذ جاءهم، فقال له فرعون.
والأيات التسع هي العصا واليد البيضاء والطوفان والقمل والضفادع
والدم والسنون ونقص من الثمرات.
الحسن السنون ونقص الثمرات واحد، والتاسعة تلقف العصا ما يأفكون. وعن ابن عباس: التاسعة، إزالة العقدة عن لسانه، وذهب جماعة: إلى أنها اليد والعصا، والحجر الذي انفجرت منه العيون، وانقلاق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
وروى صفوان: أن يهوديا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله، فقال: " أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف ولا تعدوا في السبت "، فقَبَل اليهودي يد النبي - صلى الله عليه وسلم - ورجله.
قوله: (مَسْحُورًا)
أي سحرت فصرت مجنونا، وقيل: مخدوعاً.
الغريب: (مَسْحُورًا) بمعنى ساحر، كقوله: "مَأْتِيًّا" أي آت.
قوله: (بصائر) ، جمع بصيرة، ومعناها: الدالة.
الغريب: هي من بصيرة الدم، وهو ما يدل على الصيد من الدم وعلى
القتيل، وانتصابها على الحال، الغريب: أجاز الزجاج، أن ينتصب على
المفعول له) : أي ليتَعَبد بها.
قوله: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ) . أي القرآن.
والباء للحال، أي أنزلناه محقاً غير باطل، وقيل: ما يضمنه حق أي صدق وعدل.(1/644)
قوله: (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ)
الباء للتعدي ويكون توكيداً للكلام، كما يؤكد بالمصادر، كما يقال: "أجمعون أكتعون أبصعون، وقيل: للحال أيضاً.
الغريب: لما صح في التقسيم أنزلته فنزل فلم ينزل لمانع، أكد فقال:
وبالحق نزل وبالحق أنزلناه.
ومن الغريب: الحق الأول، الحقيقة. والثاني: المستحق، أي أتاكم ما تستحقونه.
العجيب: "الباء" بمعنى "على"، والحق: محمد - عليه السلام - أي
وعلى محمد نزل.
ومن الغريب: "أنزلناه" يعود إلى موسى لقوله: (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) .
وقيل يعود إلى الوعد، وقيل: إلى تسع آيات.
قوله: (بَيِّنَاتٍ)
يجوز أن يكون منصوباً صفة لتسع، وجوز أن يكون
خفضا، صفة لآيات.
قوله: (وَقُرْآنًا) .
منصوب بفعل دل عليه فرقناه.
الغريب: هو عطف على قوله: (مُبَشِّرًا، وَنَذِيرًا، وَقُرْآنًا) ، أي وذا
قرآن.
قوله: (عَلَى النَّاسِ) ، المفعول الثاني، "لتقرأه"
"عَلَى مُكْثٍ" حال، أي على سكون وتؤده.
وفي الحديث: أن النبي - عليه السلام - كان يقرأ القرآن قراءة لينة يتلبث فيها.
وعن ابن عباس: لأن أقرأ البقرة وأرتلها وأتدبر معانيها أحب إليَّ من أن أقرأ القرآن كله.
وقوله: (وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا) ، أي شيئاً بعد شيء في عشرين سنة على حسب الحاجة (1) ، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يَفْقَهْه، ثم
__________
(1) الراجح أنه في ثلاث وعشرين سنة.(1/645)
قال: " اتلوهُ وابكوا، فإن لم تَبكوا فتباكَوْا "، وهو معنى قوله: (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ) .
قوله: (ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ) .
هما منصوبان، لأن التقدير، ادعوه الله أو ادعوه الرحمن، فهو كالمفعول
الثاني: ولا يحسن أن يجعل كالمفعول الأول، لأنه يؤدي إلى إثبات
مدعوتين، إنما المدعو واحد - سبحانه - والمدعو به اثنان، ها هنا.
(فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) .
قوله: (أَيًّا مَا تَدْعُوا) ، أي للشرط، وجزم "أي تَدْعُوا
ونصب تدعو أَيًّا، و"مَا"، زائدة للتوكيد، كـ: أيما يضربن، وقيل: زيدت عوضاً عما منع أي من الِإضافة، وقيل: "مَا" للشرط أيضاً، وقد جمع بين شرطين، ويكون "مَا" أيضاً في محل نصب، وفي وقف على قوله: "أَيًّا" فهو منصوب بالبدل، فصار التقدير، ادعوا أي اللفظين شئتم، ثم ابتدأ، فقال: (مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) .
قوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ) .
أي، ليس يتخذ وليًاً يتعزز به - سبحانه -، وهو وليّ المؤمنين.
الغريب: أي ليس يحالف أحداً، ومن الغريب، قوله "مِنَ الذُّلِّ"، أي
من اليهود والنصارى، لأنهم أذل الناس، فعلى هذا يكون "مِنَ الذُّلِّ" في
محل رفع صفة لـ "وَلِيٌّ".
العجيب: "وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ" البنت والختن.
(وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا)
صِفهُ بالعظمة، وقل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا اللهُ واللهُ أكبر.(1/646)
سورة الكهف
قوله تعالى: (أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا) .
العبد: محمد - صلى الله عليه وسلم -، و "الكتاب" القرآن، ومعنى (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا)
لم يجعل فيه اختلافاً يناقض بعضه بعضاً.
ابن عباس: ميلاً عن الحق إلى الباطل، وعن البلاغة إلى العي، وعن الاستقامة إلى الفساد.
الغريب: "اللام" زائدة، أي لم يجعله عوجاً".
ومعنى "قَيِّمًا" مستقيماً.
ابن عباس: معتدلًا. أبو عبيدة: مصلحا.
الغريب: "القيم" المرجوع إليه والمعتمد عليه، كقيم الدار.
والجمهور على أن قوله: (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا) عطف على الجملة
قبلها، ولا محل لهما من الإعراب، و "قيماً" موجز في اللفظ ومقدم في
التقدير، وهو حال من الكتاب، وفي هذا نظر، لأنه يؤدي إلى الإحالة بين
الصلة والموصول وتمامها، وعنه مندوحة من ثلاثة أوجه:
أحدها أن يجعل "قيماً" حالًا من الهاء في "له"، أي ولم يجعل له حالة استقامته عوجا، والثاني: أن يجعل "وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ" في محل نصب حالاً عن الكتاب،(1/647)
و "قيماً" حال عن الهاء كما سبق، أو حالًا بعد حال عن الكتاب.
والثالث: أن يجعل الجملة حالاً من ضمير الفاعل في "أنزل"، أي أنزله غير جاعل فيه عوجاً، و"قيماً" حال من الهاء، أو من المفعول، "لينذر" فاعله مضمر يعود إلى العبد.
الغريب: لا يمتنع إلى الكتاب أو إلى الفاعل المضمر في "أنزل" وهو
الله - سبحانه -، وقد جاءت الأوجه الثلاثة في قوله: (لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) .
قوله: (بَأْسًا) أي الناس بَأْسًا.
الغريب: "الباء" مقدر، أي ليندر الناس ببأس شديد.
وقوله: (مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) .
حال من ضمير المجرور، وقول من قال: صفة لـ "أجر". خطأ، كقراءة
من قرأ (غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ) ، لأن اسم الفاعل إذا جرى على غير من له
الفعل أبرز الضمير كما في قوله: هند زيد ضاربته هي.
قوله: (ما لهم به)
أي بالقول، وقيل: بالاتخاذ.
الغريب: بالله.
قوله: (كَبُرَتْ كَلِمَةً) ، الزجاج، كبرت مقالتهم كلمة.
الغريب: نصب على التعجب، وتقديره: ما أكبر كلمة.
العجيب: نصب على التمييز، أي كبرت كلمة مقالتهم، فصرف الفعل
إلى ضمير مقالتهم، فانتصب على التمييز، كـ "باب تفقأت الدابة شحماً".(1/648)
وعند أبي علي: تقديره: كبرت الكلمة كلمة كلمة تخرج، فحذفت
الأولى، لأن الثانية تدل عليها، ونصب الثانية على التمييز كما تقول: نعم
رجلا زيد، وحذفت الثالثة اكتفاءاً بوصفها عنها.
قوله: (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ) .
شرط جزاؤه محذوف دل عليه ما قبله، أي إن لم يؤمنوا تبخع نَفسك.
قوله: (أسفاً) ، قيل: تمييز، وقيل، مفعول له، والأسف: الحزن.
والفعل منه أسِف - بالكسر -، وقيل: الأسف: الغضب، والفعل منه آسف - بالفتح -، وأما أسُف - بالضم - فمعناه: رق قلبه فهو أسيف.
قوله: (مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا) .
ابن عباس: هو النبات، وعنه أيضاً: الأنبياء والعلماء وحفظة القرآن.
فيكون "مَا" بمعنى "من".
الغريب: عام فيما على وجه الأرض.
قال الشيخ: ومن الغريب: يحتمل أن يكون المراد به ها هنا المحرمات منها، لأنها حرمت زينة الأرض، فيكون المعنى فلا تتعرضوا لها، ويقويه قوله: (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ، أي في تركه وتعاطيه.
قوله: (زِينَةً لَهَا) هو المفعول الثاني لـ "جعلنا"، و "ما على الأرض ".
المفعول الأول.
الغريب: "جعلنا" بمعى خلقنا، و (زينة) مفعول له.
قوله: (أَيُّهُمْ) رفع بالابتداء، "أَحْسَنُ عَمَلًا" خبره، (نَبْلُوَهُمْ)
يؤول إلى معنى العلم، فلم يعمل فيه لمكان الاستفهام.(1/649)
قوله: (وَالرَّقِيمِ) .
ابن عباس: هو اسم الجبل الذي فيه الكهف، وعنه أيضاً: اسم
القرية التي كانوا منها.
الضحاك: اسم الوادي. مجاهد، الرقيم، اللوح الذي كتب فيه شأنهم وأيامهم، وكان من رصاص، وقيل: من حجر.
الغريب: النقاش: اسم كتاب مع الفتية، فيه صفة التوحيد والإيمان.
ومن الغريب: سعيد بن جبير: اسم كلبهم.
العجيب: الرقيم: دراهمهم، حكاه ابن الهيضم وغيره.
وجاء مرفوعا: الرقيم: جماعة.
روى النعمان بن بشير الأنصاري، أنه سمع النبي - عليه السلام - يذكر الرقيم: قال: " كانوا ثلاثة نفر خرجوا يرتادون لأهلهم، فبيناهم يمشون، إذ أصابتهم السماء، فآووا إلى كهف، فانحطت صخرة من الجبل، فسدت عليهم باب الكهف، فقال قائل منهم:
اذكروا أيكم عمل حسنة لعل الله برحمته يرحمنا، فقال رجل منهم: إني
عملت حسنة مرة كان لي أجراء يعملون لي عملاً، استأجرت كل واحد منهم بأجر معلوم، فجاءني رجل ذات يوم وسط النهار فاستأجرته بشرط أصحابه، فعمل في بقية نهاره كما عمل رجل منهم في نهاره كله، فرأيت على الذمام أن لا أنقصه مما استأجرت به أصحابه لما جهد في عمله، فقال رجل منهم: أتعطي هذا مثل ما اعطيتني ولم يعمل إلا نصف النهار، فقلت: يا عبد الله لم أبخسك شيئاً من شرط كان بيننا، وإنما هو مالي أفعل به ما شئت، قال: فغضب وترك أجره، فوضعت حقه في جانب من البيت ما شاء الله ثم مرت(1/650)
بي بعد ذلك بقر، فاشتريت فصيلة من البقر، فبلغت ما شاء الله، فمر بي
بعد حين شيخ ضعيف لا أعرفه، فقال لي: إن لي عندك حقاً، فذكره حتى
عرفته، فقلت: إياك أبغي، وهذا حقك، فعرضها عليه، فقال: يا عبد الله، لا تسخر بي إن لم تصدق علي، فأعطني حقي.
قلت له: والله ما أسخر بك وإنها لحقك مالي فيه شيء، فدفعتها إليه جميعاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك، فافرج عنا، فانصدع الجبل حتى رأوا وأبصروا.
وقال الأخر: إني قد عملت حسنة مرة، كان لي فضل، فأتى على الناس شدة، فجاءتني امرأة، فطلبت مني معروفاً، فقلت: والله ما هو دون نفسك، فأبت علي، فذهبت ثم رجعت، فذكرتني بالله، فأبيت عليها، وقلت: لا والله ما هو دون نفسك، فأبت علي وذهبت، وذكرت لزوجها، فقال: أعطيه نفسك وأغيثي عيالك، فرجعت إلي ونشدتني بالله، فأبيت عليها، وقلت لها: والله ما هو دون نفسك، فلما رأت ذلك، أسلمت إلي نفسها، فلما تكشفتها وصممت، ارتعدت من تحتي، فقلت لها: ما شأنك قالت: أخاف الله رب العالمين، فقلت لها خفتيه في الشدة ولم أخفه في الرخاء، فتركتها وأعطيتها ما يحق على تكشفها، اللهم: إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا، فانصدع، حتى عرفوا وتبين لهم، وقال الآخر: إني قد عملت حسنة مرة، كان لي أبوان شيخان كبيران، وكانت لي غنم، وكنت أطعم أبوي وأسقيهم، ثم أرجع إلى غنمي، قال: فأصابني يوماً غيث حبسني حتى أمسيت، فأتيت أهلي، وأخذت محلبي فحلبت غنمي وتركتها قائمة، ومضيت إلى أبوي فوجدتهما قد ناما، فشق علي أن أوقظهما، وشق علي أن أترك غنمي، فما برحت جالسا ومحلبي على يدي حتى أيقظهما الصبح، فسقيتهما.
اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا.
قال النعمان: كأني أسمع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قال الجبل: طاق، ففرج الله عنهم، فخرجوا".
قوله: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ) .(1/651)
أي أنمناهم.
ابن عيسى: هو من قولك: ضربت على السطر، إذا أبطلته وجعلت عليه ما يمنع من الإدراك، وقيل: منعناهم الإدراك بالأذان، وقيل: معناه ألقينا النوم عليهم، وقيل: يقال: ضربه الله بالنوم كما يقال ضربه الله بالفالج.
تقول العرب: ضرب الله على أذن فلان ليلته إذا نام فيها فلم
ينتبه في جميعها.
قال الشيخ الإمام: ويحتمل أن المعنى سلبنا حواسهم، لأن النائم مسلوب الحواس، وخص السمع بالذكر من بين الحواس، لأن من
سلب سمعه سلب عقله، والنائم مسلوب العقل، بخلاف سائر الحواس.
العجيب: ابن الهيضم: هذا على مجرى عادة الأطفال في الإنامة.
فإن أم الطفل إذا أرادت إنامة الطفل جعلت تضرب بكفها عليه بغتة في
خيشومها إلى أن ينام، فكأنه قال - سبحانه -: أنمناهم إنامة الأمهات
الأطفال.
قوله: (سِنِينَ عَدَدًا (11) ، نصب على الظرف، "عدداً" نصب على
المصدر، أي نعدها عدا، وقيل: صفة للسنين، أي ذات عدد، والمعنى:
قوله: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) .
أي لنعلمَ علمَ مشاهدة، ووجودٍ.
ابن جرير: ليعلم عبادي، و "الحزبان " عند قتادة، المؤمنون والكافرون. السدي: اليهود والنصارى، وقيل: أصحاب الكهف في قولهم: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) .
الغريب العجيب: ابن بحر: الحزبان: الله والخلق، كقوله: (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ) .
و"أَيُّ الْحِزْبَيْنِ" رفع بالابتداء، و "أَحْصَى" محله رفع بالخبر.
و"العلم" معلق بالاستفهام، وقوله: "أَحْصَى" أفعل للمبالغة عند الجمهور،(1/652)
وهر شاذ، كقول العرب: ما أولاه وما أعطاه، وعند أبي علي: هو فعل
ماض من الإحصاء، وهو الصواب. "أمداً" مفعول به، وعلى الوجه الأول:
نصب على التمييز.
الغريب: نصب ب (لبثوا) .
قوله: (وما يعبدون إلا الله) .
يجوز أن يكون الاستثناء صحيحاً، وفيهم من يعبد الله، أو كانوا
يعبدون الأصنام مشركين، ويجوز أن يكون منقطعاً.
الغريب: إلا الله بمعنى دون الله، وكذلك هو في حرف ابن مسعود.
العجيب: (وما يعبدون إلا الله) من كلام الله فيهم. و "مَا" للنفي.
وقيل: وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون فلا تعبدوا. إلا الله.
قوله: (وَتَرَى الشَّمْسَ) .
إن جعلت الرؤية للعين، فقوله: "تَزَاوَرُ" "تَقْرِضُهُمْ" حالان، وإن
جعلتها بمعنى العلم، فهما المفعول الثاني.
قوله: (ذَاتَ الْيَمِينِ) ، أي يمين أصحاب الكهف، وكذلك "ذَاتَ الشِّمَالِ"، وقيل: يمين الكهف وشماله وباب الكهف في مقابلة بنات النعش، فلا تقع عليه الشمس.
قوله: (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) ، أي متسع، وفضاء من الكهف ينالهم نسيم الريح وبرد الهواء.
سعيد بن جبير: "فَجْوَةٍ مِنْهُ" جانب منه داخل.
الغريب: المؤرج: ناحية بلغة كنانة.
العجيب: في مكان موحش، والجملة التي هي (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ)
حال من "هم".(1/653)
قوله: (أيقاظاً)
جمع يقُظ ويقِظ.
الغريب: السدي: جمع يقظة.
قوله: (وهم رقودُ) ، حال من هم، ومحله نصب.
قوله: (ذات اليمين وذات الشمال) ، أي بقعة وأرضاً ذات اليمين.
ونصبهما على الظرف.
قوله: (وكلبهم باسط ذراعيه) ، نُوّنَ وهو أمر قد مضى، واسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل عمل الفعل، وإنما أعمل ها هنا لأنه حكاية حال.
قوله: (لو اطلعت عليهم) ، الخطاب عام، وكذلك قوله: (وتحسبهم أيقاظا) ، ومثلهما قوله: (فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى) ، ولها نظائر جمة، والإجماع على أن الكلب هو الكلب المعروف، وكان لهم، ولهذا قال: (وكلبهم) وقيل: لواحد منهم وهو الراعي الذي تبعهم، فإضافه إليهم للجوار والاجتماع.
الغريب العجيب جداً: قول من قال: لم يكن كلباً، وإنما كان طباخاً
لهم تبعهم، وقيل: كان راعيا، ويدفع القولين قوله: (باسط ذراعيه
بالوصيد) .
والوصيد: الباب. عطاء: عتبة الباب، تقول: وصدت الباب.
أوصِده أطبقته.
والكهف: لم يكن له باب ولا عتبة، وإنما المراد: وإنّ الكلب بموضع العتبة من الباب.
الغريب: ابن جبير: الوصيد: الصعيد، وهو التراب، وقيل: الحظيرة.(1/654)
قوله: (وكذلك بَعثناهم) .
أي بعثاهم آية كما أنمناهم آية. ابن جرير: كما أنمناهم بقدرتنا.
بعثناهم بقدرتنا.
قوله: (كم لبثتم) ، كم منصوب ب "لبثتم"، أي كم مدةً
لبثتم و"مدة" نصب على التمييز.
قوله: (أعَثرنا عليهم) .
المفعول محذوف، أي أعثرنا القوم عليهم، من قولك: عثر على
الشيء، إذا علمه، ومثله وبمعناه: وقع على الشيء، وسقط على الشيء: إذا علمه.
الغريب: لأن من عثر بشيء وهو غافل نظر إليه ليعلم ما هو، ثم استعير
مكان التبيين.
قوله: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) .
"رَابِعُهُمْ" اسم الفاعل من ربعه يَربَعه، إذا صار بانضمامه إليه وهم
ثلاثة رابعهم، و "كَلْبُهُمْ" يرتفع من وجهين:
أحدهما: بفعله، فيكون اسم الفاعل بمعنى المستقبل، أي يَرْبَعُهم على حكاية الحال، كقوله: (بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ)
والثاني: بالابتداء، وخبره مقدم عليه، كما تقول: مررت برجل قائم
أخوه. بالرفع و"ثلاثة" رفع بالخبر أي هم ثلاثة، ومحل "رابعهم كلبهم" رفع
على الصفة، لقوله: (ثلاثة) ، وقيل: محله رفع بالعطف على هم ثلاثة.
والتقدير: ورابعهم كلبهم، فحذف الواو اكتفاء بالعائد من الجملة الثانية إلى
الجملة الأولى، ويقوي هذا القول: (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، والكلام في
قوله: (خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) كالكلام في قوله: (ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) .
وأما قوله: (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، فالواو للعطف وفي تخصيص ثامنهم بالواو أقوال:
أحدها: أن رابعهم كلبهم، سادسهم كلبهم كان رجماً بالغيب، وقوله:
(وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) صدق، وهو إخبار ممن ارتضى اللهُ قولَه.(1/655)
الغريب: (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، يرجع إلى الله - سبحانه -
وذكر بلفظ الجمع تعظيماً، كقوله: (إنا نحن) .
الثاني: قول ابن عباس: حين وقعت الواو انقطعت العدة، يريد أنهم
سبعة.
الثالث: أن السبعة نهاية العدد، ولهذا كثر ذكر السبع في العظائم، ومن هنا سماه بعض المفسرين واو الثمانية، وهذا لقب لا نعرفه
واستدلوا بآيات منها التائبون، وقد سبق، ومنها مسلمات مؤمنات، وسيأتي
في موضعه - إن شاء الله -.
العجيب: ابن جريج ومحمد بن إسحق: إنهم كانوا ثمانية سوى
الكلب، وأولوا قوله: (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) أي صاحب كلبهم، وفيه بعد.
وقيل: الواو في ثمانية للاستئناف وتم الكلام على قوله (سبعة) ثم قال
الله: (وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، ومعنى قوله: (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) ، أي هو
أعلم، وقد أخبركم بذلك، ولهذا قال ابن عباس في قوله: (مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ) : أنا من ذلك القليل. وهم سبعة، وعدهم بأسمائهم.
قوله: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) .
أبو هريرة عن النبي - عليه السلام - إنه قال: " لم يتم إيمان العبد حتى
يستثني في كل كلامه ".
"ذلك " مفعول "فَاعِلٌ"، و "غَدًا" ظرف لفاعل.
الغريب: "ذلك" رفع بالابتداء، و "غَدًا" خبره. وقوله: (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) في الوجهين متصل ب "فَاعِلٌ"، وتقديره، إلا مشيئة الله، والباء مقدر
معها. أي بمشيئة الله، وهو أن تقول: إن شاء الله، والاستثناء منقطع.(1/656)
الغريب: قال الفراء: معنى "إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ" إلا الخير بمشيئة الله.
فعلى هذا لا يكون من الاستثناء.
العجيب: ابن عباس: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) ، أي الاستثناء، أي
إذا ذكرت فاستثن، ومذهبه أن يصح الاستثناء إلى سنة. وذهب الحسن: إلى أنه يصح الاستثناء في مجلس يمينه، ولا يصح إذا فارقه، وقيل: يصح ما لم يأخذ في كلام غير يمينه، فإن أخذ في غيره، فلا يصح الاستثناء، وجمهور
الفقهاء على أنه لا يصح إلا متصلاً.
الغريب: عكرمة: معنى "نَسِيتَ" غضبت، وفي التوراة: ابن ادم
اذكرني حين تغضب أذكرْكَ حين أغضب.
قوله: (مِن هذا) ، قيل: من هذا الذي نسيت.
الزجاج: "هذا" إشارة إلى خبر أصحاب الكهف وقصتهم.
الغريب: الحسن: إشارة إلى عبادةِ الأوثان.
قوله: (ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا) .
أي تسع سنين، والتقدير وازدادوا تسع سنين، فهو مفعول به، و "زاد"
متعد إلى مفعولين، وازاد إلى مفعول واحد، ووزنه افتعل، ازتيد، قلب التاء
دالاً للزاي، واعتل الياء فصار ألفاً. و "مِائَةٍ سِنِينَ" قرىء بالإضافة.
والتنوين، فالإضافة على القياس المتروك، لأن المائة يجري في العشرات
مجرى عشرة في الآحاد كما أضيف العشرة إلى الجمع، وجب إضافة المائة
إلى الجمع، لكنهم أفردوا المعدود قياساً على ما قبله من السبعين والثمانين.
الغريب: إنما جاز ذلك، لأن السنين قد ينون، وقد تثبت نونه في(1/657)
الإضافة، فسقط عن درجة جمع السلامة، فالتحق بأسماء الجمع كنفر
وقبيل، ومن نون فله ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يكون في محل نصب صفة، أو عطف بيان لثلاثَ، والثاني: أن يكون صفة أو عطف بيان لـ (مائة) .
والثالث: أن يكون مقدماً في النية، والتقدير: لبثوا سنين ثلاَث مائة.
قال الشيخ الإمام: الغريب: يحتمل أنها نصب على التمييز، كقولك:
ثلاثةُ أثواب، وثلاثة أثوابا ليكون الكلام فيه من وجه واحد.
وفي المعنى قولان: أحدهما: قول قتادة: قال هذا من كلام اليهود
والنصارى وإنهم اختلفوا في مدتهم كما اختلفوا في عدتهم، والجمهور على
أن هذا من أخبار الله أخبر أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
الغريب: إنما هو ثلاثمائة بالشمسية، وثلاثمائة وتسع بالقمرية، لأن في
كل سنة ميقات أحد عشر يوماً، فيكون مجموع ذلك تسع سنين وأشهر.
فضرب عن ذكر الأشهر، لأن الكلام يجري في ذكر السنين.
قوله: (أبصِرْ به وأسمعْ) .
أي ما أبصره وما أسمعه، هذا معناه، وأما الِإعراب: فليس في الفعلين
ضمير مرفوع، بل "الهاء" في محل رفع بكونه فاعلاً، والتقدير: أبصر به
وأسمع به، فاقتصر على مرة واحدة.
الغريب: السدي: تقديره: أبصرهم بالله وأسمعهم بما لبثوا، فيكون
ضمير المخاطب، هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمفعول محذوف، و "الهاء" في "به" يعود إلى الله.
قوله: (وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ) .
النهي للعينين، والمراد صاحبهما، وعدا كذا، إذا جاوز متعد، وعدا
عنه، إذا انصرف لازم، قوله: (تُرِيدُ) حال للمخاطب.(1/658)
قال الشيخ الإمام: الغريب: يحتمل أن الفعل للعين، وهو حال لها.
ووحد كما قال الشاعر:
لِمَن زُحلوفة دَلَّ. . . بها العينان تَنْهلُّ
قوله: (بِئْسَ الشَّرَابُ) .
المذموم محذوف، أي المُهْل.
(وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا)
أي ساءت النار، والوجه أن يُقال المضمر في ساءت المرتفق، وأنث لأن المراد به النار، ثم فسر بقوله "مُرْتَفَقًا"، والمذموم محذوف، وهي جهنم أو النار، و "المرتفق" المكان
يتوكأ على مرفِقِه الإنسان.
الغريب: مجاهد: يجتمعان في معنى المرافقة، وقيل: مكانا
ومجلساً ومستقرا.
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) .
في خبره ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الخبر قوله: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) ، والعائد مضمر، أي ومنهم، وقيل: خبره: (أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ) ، وقوله: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) اعتراض.
الغريب: "مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا" هم الذين آمنوا، فكان الظاهر وقع موقع
المضمر.
قوله: (نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا.
الكلام فيه كالكلام في قوله: (بِئْسَ الشَّرَابُ وساءَتْ مُرْتَفَقًا) .
قوله: (رَجُلَيْنِ) .
ذهب بعضهم إلى أنهما كانا رجلين من أهل مكة، أحدهما: مؤمن،(1/659)
وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل، زوج أم سلمة قبل
النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: كانا أخوين في بني إسرائيل: أحدهما: مؤمن واسمه تمليخا، وقيل: يهودا، والآخر كافر واسمه فطروس، وقد وصفهما الله في سورة الصافات.
الغريب: هذا مثل ولا يشترط وجوده.
قوله: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا) أي بين الجنتين.
الغريب: بين النخل والأعناب.
قوله: (خِلَالَهُمَا نَهَرًا) ، يحتمل الوجهين أيضاً.
العجيب: كانت جنة واحدة، واستدل هذا القائل بقوله - سبحانه -:
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ) ، و (هذه) و (خَيْرًا مِنْهَا) ، وليس فيها كثير حجة، لأن
الدخول في الجنتين معاً لا يتصور، و "هذه" إشارة إلى قوله: (جَنَّتَهُ) .
وقوله: (خَيْرًا مِنْهَا) يعود إلى لفظ "كلتا"، وهي اسم موحد معناه: التثنية.
و"بينهما" محمول على معنى "كلتا"، و "التاء" في "كلتا" ليست للتأنيث، لأن ما قبلها ساكن.
والعجيب: ما أنشده الفراء في "كلتا" قول الشاعر:
في كِلتَ رِجليها سُلامى واحدة
وقال: وقد يفرد العرب "كلتا".
قوله: (لكنَّا هو الله ربي) .
أراد لكن أنا، فنقلت حركة الهمزة إلى النون، فاجتمع نونان، فأدغمت
الأولى في الثانية، فصار لكن هو الله، ومن قرأ "لكنا" في الوصل، أجرى
الوصل مجرى الوقف.
قال الشاعر:
أنا أبو النجْمِ وشِعري شِعري(1/660)
العجيب: قرأ قتيبة: "لكن " في الوصل والوقف، وله وجه بعيد
وهو أت أجرى الوقف مجرى الوصل. أو يقال: أراد لكن الأمر أو الشأن هو الله، فيكون "هو" المبتدأ و "الله " الخبر، و "ربي" صفة الله.
قوله: (ما شاء الله) .
روى أنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من رأى شيئاً فأعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لم يضره "، وعنه - عليه السلام - أيضاً أنه قال: "من أعطي خيراً من أهل ومال، ويقول عند ذلك: ما شاء الله. لا قوة إلا بالله لم يرِه فيه ما يكره ".
والتقدير فيها، ما شاء الله كائن، فهو مبتدأ وخبر
ويجوز أيضاً، الأمر ما شاءَ الله.
الغريب: هو شرط و "مَا" نصب ب (شاء) ، و (شاء) في محل جزم
ب "مَا"، والجزاء مضمر تقديره يكن.
قوله: (أَنَا أَقَلَّ) ، "أَنَا" فصل لا محل له.
الغريب: يجوز أن يكون تأكيداً للياء، كما تقول: ضربتك أنت
وضربتني أنا.
قوله: (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ) .
"فِئَةٌ" اسم كان، "له" خبره تقدم عليه أي على الاسم "يَنْصُرُونَهُ"
صفته.
أبو العباس المبرد: يجوز أن يكون "يَنْصُرُونَهُ" الخبر، ومثله في
الشعر:
ما دامَ فيهن فصيل حَيا(1/661)
قوله: (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ) .
(الْوَلَايَةُ)
رفع بالابتداء، لله خبره و"هنالك"، متصل بما دل عليه
الجار، وقد تقدم على المبتدأ، "الْحَقِّ" صفة الولاية عند أبي علي، وقال
الشيخ: ويحتمل أن يكون خبراً بعد خبر، ويجوز أن ترتفع الولاية بالابتداء
"هُنَالِكَ" خبره تقدم عليه" و "لِلَّهِ" حال من الولاية، أو من الضمير الذي في
هنالك، و "الحق" رفع بالوجهين، كما سبق، ويجوز أن ترفع "الولاية"
ب (هنالك" فيكون "لِلَّهِ" حالاً من "الولاية"، وليس في هذا الوجه في "هنالك
ضمير.
الغريب: "الحق" رفع بالابتداء، والجملة التي "خَيْرٌ ثَوَابًا" خبره.
ومن الغريب: "هنالك" منصوب بقوله: "منتصراً"، ومن جر "الحق" جعله
صفة "لله" أي ذي الحق.
قوله: (خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا) ، نصب على التمييز، لأن "خَيْرٌ" بمعنى
أفعل.
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة: (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي) ، وقال في
حم: (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي) ؟
الجواب: لأن الرد من الشيء، يتضمن كراهة المردود بخلاف
الرجع، فكان في هذه السورة ينقل عن جنته، خلاف إرادته، كان اللفظ
الدال على الكراهية فيها أولى، ولم يكن في "حم" كراهة، فكان الرجع
أليق.
قوله: (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ) .
أي اذكر يوم، فهو مفعول به.
الغريب: ابن بحر: الأعمالً الصالحات أحمدُ عاقبةً.
الجبال تكون عقبى ذلك، فهو ظرف ليكون المقدر.(1/662)
العجيب: قول من زعم أنه منصوب بقوله: (خير) أي خير يوم نسير.
لأن الواو بدفعه.
قوله: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) .
(كَانَ) للدوام، إذ لم يزل هذه صفته - سبحانه -.
قوله: (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) .
حال من "الهاء" و "ذُرِّيَّتَهُ" في قوله: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي) ، وأراد ب "العدو" الأعداء.
قال أبو علي: لما كان على لفظ فَعول - وهو للمبالغة - جاز وقوعه للجمع.
قوله: (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) ، لِلظَّالِمِينَ، يجوز أن يكون وصفاً
لقوله: (بَدَلًا) تقدم عليه فانتصب على الحال، والمذموم إبليس وذريته.
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
قوله: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ) .
يعني الكفار، وقيل: إبليس وذريته، وقيل: الملائكة.
الغريب: ما أعلمتهم خلق أنفسهم، فكيف خلق غيرهم.
قوله: (الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) .
أي زعمتم أنهم شركائي.
قوله: (مَوْبِقًا) ، أبو عبيدة: موعدا لمهلكهم.
الزجاج: ما يوبقهم، أي يهلكهم.
الحسن: العداوة.
الواحدي: حاجزاً بينهم وبين المؤمنين والكافرين.
الغريب: قال الفراء: البين - ها هنا -، أي جعلنا تواصلهم في الدنيا
مهلكاً في الآخرة.
قوله: (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي) .
أي القرآن. (وَمَا أُنْذِرُوا) ، أي إنذارهم، "مَا" للمصدر، وقيل: وما
أنذروا به، فحذف الجار ثم الهاء.(1/663)
قوله: (أن يفقهوه) .
أي كراهة أن يفقهوه، وقيل: لئلا يفقهوه. وهو الغريب.
قوله: (لمَهلكهم) : "أهلك" متعد و "هلك" لازم
الغريب: هلك متعد.
قال:
ومَهْمَهٍ هالكٍ مَنْ تعرَّجا.
قوله: (لِفَتَاهُ)
الجمهور: على أنه يوشع بن نون.
الغريب: كان أخاً لِئوشَع.
العجيب: كان مملوكاً له.
قوله: (لَا أَبْرَحُ) ، أي لا أزال، والخبر محذوف، أى لا أبرح
ماشياً. -
الغريب: حكى الزجاج أن بعضهم قال في تفسير (لَا أَبْرَحُ) ، لا أزول، قال: وهذا محال، لأنه إذا لم يزل من مكانه لم يقطع أرضاً، وإنما المعنى لا أزال أسير، أي أدوم عليه ولا أفتر حتى يكون أحد الأمرين.
قال الشيخ الإمام: لعل القائل أراد، لا أزول عن حالي في السير، لا عن
مكاني، فلا تكون فيه استحالة، وظاهر لفظ القرآن كذلك، لأنه فيه: (لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) ، وإذا لم يبرح كيف يصل، وإنما المعنى
والمراد: لا أبرح من السير حتى أبلغ.
قوله: (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) ، بحر فارس والروم.
محمد بن كعب،(1/664)
اسمه طنجة، أبي بن كعب: أفريقية.
مقاتل: اسم أحد البحرين الرس، والآخر الكنز. وقيل: بحر المشرق والمغرب اللذان يحيطان بجميع الأرض.
الغريب: العذب والملح.
العجيب: البحران من العلم وهما موسى والخضر - عليهما
السلام -، وقيل: الخضر وإلياس.
قوله: (حُقُبًا) ، الحُقب: الدهر في قول ابن عباس.
مجاهد: سبعون سنة، وقيل: ثمانون سنة.
الغريب: سنة، بلغة قيس.
قتادة: زمان غير محدود.
قوله: (مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا) .
أضاف إلى الظرف كقوله: "شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ".
الغريب: مجمع وصلهما.
قوله: (نَسِيَا حُوتَهُمَا) ، أي نسي موسى أنْ يعرف خبر الحوت، ونسى
فتاه أن يخبره بما كان من أمر الحوت، وقيل: أسند الفعل إليهما، والفعل
لأحدهما، كما قال: (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) .
وإنما يخرجان من الأجاج.
الغريب: نسي أحدهما، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه.
فارتفع الضمير، وضمير المرفوع في التثنية يكون بالألف.
العجيب: هو كقولك نسوا زادهم، وإنما ينساه متعهد الزاد.(1/665)
قوله: (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا)
"سرباً" نصب على المصدر، ودل على فعله "اتخذ"، كما تقول دعه تركاً، وقيل: اتخذ سبيله يسرب سرباً، وقيل: سرباً "المفعول الثاني، لقوله: (اتخذ) كما تقول أخذ طريق كذا سرباً.
الغريب: فاتخذ سبيله في البحر في سرب، فنزع الخافض، فانتصب.
وفاعل فاتخذ ضمير الحوت.
قوله: (أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا) ، بدل من الهاء.
الغريب: تقديره، أن لا أذكُرَه.
قوله: (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ) ، فاعله ضمير الحوت أيضاً، والكلام حكاية عن
الفتى.
الغريب: (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ) فاعله موسى - عليه السلام -، و (عَجَبًا)
فعله، أي يعجب عجباً.
الغريب: (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا) كلام الله استئنافاً، و"عجباً"
مثل قوله: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ)
الغريب: (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ) من كلام الفتى، و "عجباً" من
كلام موسى.
حكى الله - سبحانه - عنهما، فعجب موسى من كلام الفتى.
وقيل: عجب من نسيانه، لأن موسى علم أن سيكون ذلك.
سؤال: لِمَ قال في الأولى: "فاتخذ" - بالفاء -، وفي الثانية:
"واتخذ" - بالواو؟
الجواب: لأن الأولى للتعقيب، والفاء حرف التعقيب، والثانية(1/666)
لمجرد العطف، لما حيل بين قوله (نَسِيتُ الْحُوتَ) وبينه بقوله: (وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) ، والحرف المجرد للعطف الواو، ولما ذكرنا
أن الفعل لموسى: ولما سبق أنه استئناف كلام من الله - عز وجل -.
قوله: (عجباً) ينتصب بقوله: (اتخذ) .
الغريب: ينتصب بقوله: "قال"، أي قال الفتى متعجباً.
العجيب: ينتصب بقول موسى: "قال ذلك"، أي قال متعجباً ذلك ما
كنا نبغي.
قوله: (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا) .
أي رجعا في الطريق الذي جاءا يتتبعان، و "قَصَصًا" نصب على
المصدر، لأن "ارتد" يدل على فعله.
قوله: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا) .
يعني الخضر، واسمه بلياء بن ملكان، وقيل: اليسع، وقيل:
إلياس.
الغريب: اسمه: حصرون بن قابيل بن آدم. حكاه النقاش.
ويروى خضرون، وفي الخبر: إنما سمي الخضر خضراً لأنه
جلس على فروة بيضاء، فاهتزت تحته خضراء.
الفروة: الأرض المرتفعة
وقيل: الصلبة. مجاهد، إنما سمي خضرا، لأنه إذا صلى اخَضَرَّ ما
حَولَه.(1/667)
عبيد بن عمير، يرفعه قال: لما خرج موسى يطلب العالم انتهى إلى
البحر، فإذا هو نائم فوق الماء، وعليه قطيفة خضراء، قد أدخلها تحت رأسه
وتحت رجليه، فلما رأى موسى، عرف الشدة والشهامة، قال موسى بن
إسرإئيل: قال: نعم. قال: لقد كان لك في التوراة علم، وفي بني إسرائيل
شغل. وقيل: رأى خضراً على طنفسة على وجه الماء، فسلم عليه.
سعيد قال: الخضر أمهُ رومية وأبوه فارسي.
وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأخبار أنه ذكر قصة الخضر، فقال: كان ابن ملك من الملوك، فاراد أبوه أن
يستخلفه من بعده، فلم يقبل منه، فلحق بجزائر البحر، فطلبه أبوه فلم يقدر
عليه.
الغريب: عن ابن لهيعة، أن الخضر بن فرعون موسى. حكاه
النقاش في تفسيره.
العجيب: (عبداً من عبادنا) ، كان ملكاً، أمر الله موسى أن يأخذ منه من
علم الباطن.
اختلف العلماء في نبوة الخضر، فمنهم من قال: نبي، ومنهم من
قال: ولي، ومنهم من قال: هو حي في زماننا هذا، ومنهم من أنكر حياته.
وقال: لا يكون بعد محمد - عليه السلام - نبي.
الغريب: قال أبو علي: الخضر كان نبياً قبل موسى، وكان بعد موسى
خضر آخر، وكان نبياً أيضاً، وقيل: الخضر نبي، وإلياس نبي، وهما في
الأحياء يلتقيان في كل موسم في عرفات.
العجيب: قال محمد بن إسحق: إن موسى - صاحب الخضر - هو(1/668)
موسى بن ميسا بن يوسف، وقيل: موسى بن أفرانيم بن يوسف، وهذا بعيد
ضعيف، فإن في الصحيح عن البخاري: أن سعيد بن جبير، قال: قلت
لابن عباس، أن نوفاً البكائي يزعم أن موسى - صاحب الخضر - هو موسى بن ميسا، وليس هو بموسى بن إسرائيل، فقال: كذب عدو الله.
ومن الغريب العجيب: ما ذكر في بعض القصص: أن الخضر لما رأى
يوشع بن نون ضرب من ماء الحياة، أخده وجعله في تابوت وشده بالرصاص، ورمى به في موج البحر، وهذا بعيد، بل صرفه موسى ورده إلى بني
إسرائيل، وإنما ذهب هذا القائل إلى هذا القول لما رأى ذكره انقطع.
ومن العجيب: ما ذكره في بعض القصص: لما ورد موسى البحرين.
وقف على ساحل البحر، فأبصر حوتاً قد علا الماء، ونشر جناحيه على متن
البحر، فوضع موسى رجليه على جناحه اليمنى ووضع فتاه قدميه على جناحه اليسرى، وجعل الحوت يسبح ويقطع بهما أهاويل البحر، حتى انتهى الحوت إلى الصخرة.
ومن الغريب، وهب: كان حوتاً يمشي في البحر ككوكب دري، وكانا
يمشيان على أثره، إلى أن بلغا الخضر - عليه السلام -.
قوله: (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) .
(عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ) في موضع نصب على الحال، وذو الحال يجوز أن
يكون ضمير المتكلم، ويجوز أن يكون ضمير المخاطب، و "رُشْدًا" مفعول
ثانٍ، لـ (تُعَلِّمَنِ) ، والمفعول الثاني لـ "عُلِّمْتَ" محذوف تقديره، مما علمته.
وحذف الهاء من الصلة أحسن من الإثبات لطول الاسم بالصلة، والتعليم
متعد إلى مفعولين، و "علم"، ها هنا متعد إلى مفعول واحد، و "أعلم" متعد
إلى ثلاث مفاعيل، و "علم ذلك" متعد إلى مفعولين.(1/669)
الغريب: أجاز أبو علي: أن يكون "رشدا" مفعول له.
قوله: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا) .
أي عن الإنكار، وقيل عن السؤال، وقف بعض القراء على قوله:
(صَابِرًا) وأراد أنه صبر لما استثنى قال، (وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) ، لما كان
غير متصل بالاستثناء، عصى أمره.
الغريب: لم يلزمه العبد لما استثنى كما لا يقع الطلاق إذا قال أنت
طالق إن شاء الله.
العجيب، قال قوم: قد وفى موسى بالذي شرط، وهو أن الخضر قال
له: إن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً، وموسى لم
يبدأ بالسؤال بل كان إنكارا منه عليه، ولم يكن ابتدأ منه في السؤال، ومعنى
(حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)
أي لا تبتدئي بالسؤال عن ما يصدر مني، وإن أنكرته إلى أن ابتدئك ببيانه وأخبرك به.
الغريب: الفراء: حتى أكون أنا الذي أسألك.
قوله: (حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ) .
(إذا) في موضع جرب "حتى"، وهي عاملة في المعنى، لأن ما بعدها
جملة كما تقول: جلس حتى إذا قمنا ذهب.
قوله، (لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) ، الذين فيها، واللام لام العاقبة.
الغريب: أي هذا الفعل يشبه فعل من يريد الإغراق.
قوله (بِمَا نَسِيتُ)
الجمهور، أي نسيانه العهد الذي أعطاه من نفسه، وقيل: من النسيان
الذي هو الترك.(1/670)
الغريب: بما فعلت، فإن النسيان مرفوع عن الإنسان.
العجيب: إن موسى لا ينسى، ولكنه من معاريض الكلام، وأراد شيئا
آخر نسيه، قاله ابن عباس.
قوله: (غُلَامًا) .
كان غلامأ لم يبلغ الخث، ولهذا قال موسى "زكيةإ، وقيل: كان
بالغأ، ولهذا قال موسى: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) ، أي بغيرِ قودٍ.
ولو كان صغيرا لم يكن عليه قصاص، ولا تبعة.
الكلبي: كان يقطع الطريق ويأخذ المال ويلجأ إلى أبويه، فيحلفان دونه ولا يعلمان ذلك، وإنما دخله "الفاء" دون أختيه، لأن القتل اتصل باللقاء، بخلاف الأخريين، فإنهما وقعتا بعد تراخ.
النكر: أشد من الإمْر.
الغريب: الأمر أشد، لأنه كاد في الظاهر يهلك أهل السفينة وكانوا
جماعة.
(قال ألَم أقُلْ لَكَ) .
زاد في هذه الآية "لك"، لأن النكير فيه أكثر، وقيل: لأنه بين في
الثاني المفعول له، ولم يكن بينه في الأول.
قوله: (مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا) .
أي أعذرت فيما بيني وبينك في الفراق، قرىء: لدني - بالتشديد - وهو
الأصل، وقرىء بالتخفيف، وله وجهان:
أحدهما: أراد التشديد فخفف.
والثاني: أن "لدا" لغة في "لدن " فجاء على تلك اللغة.
وقوله: (بعدها) ، أي بعد هذه المسألة، وقيل: هذه المرة، وقيل: بعد هذه النفس المقتولة.(1/671)
قوله: (أَهْلَ قَرْيَةٍ) .
ابن عباس: أنطاكية. ابن سيرين: الأبلة. قال: وهى أبعد
أرض الله من السماء، وقيل: باجروان بإرمينية.
قوله: (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا) ، أي طلبا منهم مأكولا، (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا) ، أبي بن كعب عن النبي فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا: "كانت قرية لئام أهلها ".
الغريب: أبو هريرة: جاءا قرية من وراء أندلس، فاستطعما أهلها فأبوا
أن يضيفوهما، فجاءت امرأة من بربر، فأطعمتهما، فدعا لنسائهم بالبركة، ولعن رجالهم.
قوله: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ) .
جل المفسرين على أن الإرادة ها هنا مجاز، والمراد بها القرب.
وقيل: مَيلُه، إرادته.
الغريب: لما ظهر منه ما يظهر من المريد للشيء، والصورتان واحدة
وصفه بالإرادة.
قوله: (أَنْ يَنْقَضَّ) ، أي يتفرق أبعاضه ويسقط من قضضت الشيء.
أي كسرته، ووزنه ينفعل (1) .
الغريب: هو من نقضت البناء، ووزنه تفعل نحو يحمر، ومثل ذلك
قوله: (لَانْفَضُّوا) لاحتماله أن يكون من النقض أو من انقض.
__________
(1) قال السمين:
قوله: {أَن يَنقَضَّ} مفعولُ الإِرادة. و «انقَضَّ» يُحتمل أن يكونَ وزنُه انْفَعَلَ، من انقِضاضِ الطائرِ أو مِنْ القِضَّة وهي الحَصَى الصِّغار. والمعنى: يريدُ اَنْ يتفتَّتَ كالحصى، ومنه طعامٌ قَضَضٌ إذا كان فيه حَصَى صِغارٌ. وأن يكونَ وزنُه افْعَلَّ كاحْمَرَّ مِن النَّقْضِ يقال: نَقَضَ البناءَ يَنْقُضُه إذا هَدَمه. ويؤيِّد هذا ما في حرفِ عبدِ الله وقراءةِ الأعمش «يريد ليُنْقَضَ» مبنياً للمفعول واللامِ، كهي في قولِه {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] . وما قرأ به اُبَيٌّ كذلك إلا أنَّه {يُرِيدُ أَن يُنقَضَ} بغير لام كي.
وقرأ الزُّهْري «أنْ يَنْقَاضَ» بألفٍ بعد القاف. قال الفارسيُّ: «هو مِنْ قولهم قِضْتُه فانقاضَ» أي: هَدَمْتُه فانهدم «. قلت: فعلى هذا يكونُ وزنُه يَنْفَعِل. والأصل انْقَيَض فَأُبْدِلَت الياءُ ألفاً. ولمَّا نَقَل أبو البقاء هذه القراءةَ قال:» مثل: يَحْمارّ «ومقتضى هذا التشبيه أن يكونَ وزنُه يَفْعالَّ. ونقل أبو البقاء أنه قُرِئ كذلك بتخفيفِ الضاد قال:» وهو مِنْ قولِك: انقاضَ البناءُ إذا تهدَّم «.
وقرأ عليٌّ أميرُ المؤمنين رضي الله عنه وعكرمة في آخرين» يَنْقاص «بالصاد مهملةً، وهو مِنْ قاصَه يَقِيْصُه، أي: كسره. قال ابنُ خالويه:» وتقول العرب «انقاصَتِ السِّنُّ: إذا انشقَّتْ طولاً» . وأُنْشِدُ لذي الرُّمَّة:
3185-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. مُنْقاصٌ ومُنْكِثبُ
وقيل: إذا تَصَدَّعَتْ كيف كان. وأُنْشِد لأبي ذؤيب:
3186 فِراقٌ كقَيْصِ السِّنِّ، فالصَّبْرَ إنَّه. . . لكلِّ أُناسٍ عَثْرَةٌ وجُبورُ
ونسبةُ الإِرادةِ إلى الجدارِ مجازٌ وهو شائعٌ جداً. ومِنْ أنكر المجازَ مطلقاً أو في القرآنِ خاصةً تَأَوَّلَ ذلك على أنه خُلِقَ للجِدار حياةٌ وإرادة كالحيوانات. أو أنَّ الإِرادةَ صدرت من الخَضِرِ ليَحْصُلَ له ولموسى من العَجَبِ. وهو تَعَسُّفٌ كبيرٌ. وقد أنحى الزمخشريُّ على هذا القائِل إنحاءً بليغاً.(1/672)
قوله: (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا) ، قرىء بالتشديد
والتخفيف، وهما لغتان مثل تَبع واتبع.
الغريب: حكى ابن كيسان عن الأخفش: أن التاء الأولى من اتخذ بدل
من واو، والواو بدل من همزة، وقيل: بدل من ياء، والياء بدل من همزة.
وهذا ضعيف، لأنه أراد أن يجعله من باب أخذ، وقراءة من قرأ "لَتَخِذتَ"
- بالكسر - تدفعه وتأباه.
قوله: "أجراً" أي أجرةً، السدى: بلله طينا ثم نقضه وبناه.
الضحاك: مسحه الخضر فاستوى.
الغريب: أبي بن كعب، عن النبي - عليه السلام - في قوله: (فأقامه)
تَممه ورَصَفَهُ، وعنه - عليه السلام -: "هدمه ثم قعد يبنبه ".
العجيب: دعمه بدعامة فمنعه من السقوط، مقاتل: سواه بالحديد.
وهب: كان طوله في السماء مائة ذراع، وقيل: (أجراً) خُبزاً نأكله.
قوله: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) .
(هَذَا) إشارة إلى الوقت، وقيل: إلى السؤال، أي يسبب فراقنا.
والبين: التواصل، أي هذا وقت فراق تواصلنا ووصلنا، وكان القياس: فراق بيننا، ولكنه كرر تأكيداً، قال سيبويه: ومثله قولهم: أخزى الله الكاذِبَ مني ومنك.
الغريب: "بيني وبينك " ظرف أضافَ إليه الفراق.
قوله: (كَانَتْ لِمَسَاكِينَ) جمع مسكين.(1/673)
العجيب: جمع مَساك، ومساك ومَسِيك مثل براء وبَرىء، والمعنى
لأقوياء، يريد بهم الملاحين، وقرىء في الشواذ: مسَّاكين - مشدد السين -
فحمل المعنى على الملاحين، وقيل: على الدباغين، وقيل: كانوا أجراء.
لقوله: "يعملون في البحر".
قوله: (وكان وراءهم ملك) أي قدامهم، وقيل: خلفهم ملك
ومرجعهم إليه، وحقيقة "وراء" ما وارى عنك شيئاً.
قوله: (كل سفينةٍ) أي سفية غير معيبة، وقرأ ابن مسعود يأخذ كل
سفية صحيحة غصباً.
الغريب: قرأ عثمان: "كل سفية صالحة غصباً، وأمر عتمان، فكتب
إلى بلاد المسلمين بأن يكتب في المصاحف: سفية صالحة، وقال: قد
قامت عندي البينة بها، وكان ذلك في آخر عمره ولم ينتشر (1) .
قوله: (فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً) .
أي: أتم صلاحاً وأطهر ديناً.
قوله: (وَأَقْرَبَ رُحْمًا) رحمة كالكثْر والكثرة.
الغريب: "رُحْمًا" من الرحم، أي أوصل للرحم، فأبدلهما الله جارية
ولدت نبياً، أي من نسلها.
الغريب: ابن جرير: أبدلهما بغلام مسلم.
قوله: (كَنْزَهُمَا) .
__________
(1) باطل لا أصل له.(1/674)
قيل: مالًا، سعيد بن جبير: كانت صحفاً فيها علم
وعن النبي - عليه السلام - " كان ذهبا وفضة"، الحسن: كان لوحاً من ذهب، مكتوبا فيه حكم ووعظ.
قوله: (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
متصل بقوله: (ويستخرجا كنزهما) .
الغريب: متصل بفعل الخضر، أي فعلت ما فعلت رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ.
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) ، فتكون "الهاء" في فعلته يعود إلى الكل، وعلى القول
الأول يعود إلى الجدار.
قوله: (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)
أراد تستطيع، فحذف تخفيفا، وخص الثاني بالحذف، لأن الأول يدل عليه. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " رحمة الله على وعلى أخي موسى، لو لم يحمله الحياء على أخذ ذمامه ألا يصاحبه بعدها، لرأى من عجائب عجيب الله وعلمه شيئا كثيراً "، وعن النبي - عليه السلام -: " رحم الله موسى ولوددنا أنه كان يصبر حتى يقص الله علينا من أخبارهما".
الغريب: لما حان للخضر وموسى أن يتفرقا، قال له الخضر: لو
صبرت لأتيت على ألف عجيبة كل أعجب مما رأيت، فبكى موسى على
فراقه.
العجيب: قال السدى: لما خرجا من السفينة أتيا أهل قرية.
فاستضافاهم، فأضافوهما، وأحسنوا إليهما، فوجد الخضر في بيتهم جاماً من
فضة، فأخذه، فجعله تحت ثوبه، ثم خرجا ولم يسأله موسى عنه، ثم أتيا
القرية التي استطعما أهلها، فأبوا أن يضيفوهما، فألقى الجام فيها، فقال
الخضر: أما الجام الذي أخذته من القرية الصالحة، فإنهم كانوا قوما(1/675)
صالحين، لم يكن في قريتهم شيء من الخبيث غير ذلك الجام فألقيته في
هذه القرية، التي أهلها خبثاء، لأنهم كانوا أحق به، فأردت أن أجعله معهم.
سؤال: لِمَ قال في الأولى: "فَأَرَدْتُ"، وفي الثانية: "فَأَرَدْنَا"، وفي
الثالثة: " فَأَرَادَ رَبُّكَ".
الجواب: لأن الأولى في الظاهر إفساد فأسنده إلى نفسه، والثانية: إفساد من حيث العقل.
إنعام من حيث التبديل، فأسنده إلى نفسه وإلى الله عز وجل، وقيل: لأن
القتل كان منه، وإزهاق الروح كان من الله، والثالثة إنعام محض، فأسنده إلى الله - سبحانه.
قوله: (ذِي الْقَرْنَيْنِ) .
قال ابن عباس: هو عبد الله بن الضحاك، والجمهور على أنه إسكندر.
وسمي ذا القرنين، لأنه بلغ قرني الأرض، المشرق والمغرب، وقيل: لأنه
ملك فارس والروم، وقيل: كان على رأسه قرنان، أي ذؤابتان.
الغريب: علي - رضي الله عنه - أن الله بعثه إلى قوم، فضربوه على
قرنه فمات ثم بعثه الله إليهم فضربوه على قرنه ضربة أخرى فمات، فسمى ذا القرنين. وقيل: كان كريم الطرفين، وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي، وقيل: لأنه أعطى علم الظاهر وعلم الباطن، وقيل: لأنه دخل الظلمة والنور، وقيل لأنه كان يحارب بيده وركابه.
العجيب: وهب: كان صفحتا رأسه من نحاس، وهذا بعيد.
السدي: كان له قرنان من ذهب، وهذا أيضاً مثل قول وهب، إلا أن يحمل
على قرن ليتخذ للشرب، أي مثل القرن، وقيل: كان على رأسه قرنان(1/676)
صغيران تواريهما العمامة.
النقاش: كان رأسه مثل رأس الثور، وسائر بدنه كالفرس. حكاه في تفسيره.
واختلف فيه، فقيل: كان نبياً، وقيل: كان ملكاً ملك المشرق والمغرب.
ولم يملكهما إلا مسلمان: سليمان وذو القرنين، وكافران: نمرود وبخت
نصر.
العجيب: كان ملَكا من الملائكة، فإنه روي عن عمر أنه سمع رجلا
يقول لرجل: يا ذا القرنين، فقال: أما ترضون أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى
تسموا بأسماء الملائكة.
قوله: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) .
أي من كل شيء احتاج إليه ذريعة إلى المطلوب، وقيل: علما، وقيل:
ما يتوصل به إلى الشيء.
قوله: (فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) .
أي سَبَبًا من تلك الأسباب.
العجيب: قيل: الثاني هو الأول في قوله: "سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا"
وهذا بعيد، لأنه يستدعي الألف واللام، لما سبق أن النكرة إذا تكررت صارت معرفة.
قوله: أَتْبَعَ واتبع بمعنى.
الغريب: بالوصل معناه اتبع الأثر، وإن لم يلحق، والقطع معناه أدرك.
تقول العرب اتبعته إذا أتْبعته الأول بالوصل والثاني بالقطع، أبو علي: يتعدى
إلى مفعول واحد، بالقطع إلى مفعولين.
قوله: (تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) .
أي ذات حمأة، وحامية: حارة.(1/677)
الغريب: روى أن معاوية كان يقرأ القرآن، وقرأ" في عين حامية".
فقال ابن عباس: إنما هو "حمئة"، فقال معاوية لعبد الله بن عمرو بن
العاص: كيف تقرأ، فقال: كما قرأت يا أمير المؤمنين، فقال ابن عباس:
إنما نزل القرآن في بيتي، فأرسل معاوية إلى كعب، فقال: أين تجد الشمس
تغرب في التوراة، فقال كعب: إنا نجد في التوراة أنها تغرب في طين ذي
حمأة، فأما العربية فأنتم أعلم بها، فأنشد رجل من اليمن في تقوية قول ابن
عباس:
بلغ المشارقَ والمغاربَ يبتغي. . . أسبابَ أمرٍ من حكيمٍ مُرشدٍ
فرأى مغيبَ الشمسِ عند مآبِها. . . في عينِ ذي خُلُبٍ وثَأْطٍ حَرْمِدِ
فقال له ابن عباس: ما الخُلُب، فقال: الطين: فقال: فما الثَأْط.
فقال: الحمأة. قال: فما الحرمد، فقال: الأسود، فالمحققون ذهبوا إلى أنه
تراءى له أن الشمس تغرب في ذلك الماء إذْ لم يكن في مطمح بصَره شيء
غير الماء، فرآها كأنها تغيب في الماء، وكذلك يكون حال من في البحر
والبراري والجبال، وذهب بعضهم إلى أنها تغرب في وسط العين، وأن الماء
يفور كغليانِ القدر لولا أصوات أهل مدينة بالمغرب يفال لها "جابرسا"، لها
اثنا عشر ألف باب لسمعتم وقع هدتها إذا وقعت.
قوله: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
قال من قال كان نبياً، قال: أوحي هذا إليه، ومن قال كان ملِكاً قال: أوحى الى نبي كان في زمانه، وقيل: أُلْهِم، قال أبو إسحق: إن الله خيره بين هذين الحكْمين كما خير محمداً - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ)
ورد عليه علي بن سليمان، وقال: لم يصح أن ذا القرنين نبي، فخوطب(1/678)
بهذا، وكيف يقول: لربه - سبحانه - (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ) وكيف يقول، (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) فيخاطب بالنون بل التقدير، قلنا يا محمد قالوا "يا ذا القرنين إما أن تعذب" الآية.
قوله: "أن تعذب، وأن تتخذ" في محل رفع بالابتداء.
والخبر محذوف، تقديره العذاب أمرك أو اتخاذ الحسنى، وقيل: محلهما
نصب، أي افعلْ هذا أو هذا.
قوله: (جَزَاءً الْحُسْنَى) .
من نصبه، جعله حالاً، أي مجزياً، ومن رفعه أضافه، أي جزاء.
الغريب: الحسنى بدل من الجزاء، وحذف التنوين كما حذف من
قوله: (أحدُ الله) فيمن حذف، وكذلك وجه من قرأ (جَزَاءَ الْحُسْنَى)
- بالنصب - من غير تنوين، ويقويه قراءة من رفع ونون، وكلا الوجهين شاذ.
قوله: (كذلك وقد أحَطْنا) .
قيل: الأمر كذلك، وقيل: متصل بالطلوع، أي يطلع طلوعاً كذلك.
ومحله نصب.
الغريب: أي كان مأموراً فيهم، بقوله: (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) كذلك "، أي كأصحاب مغرب الشمس) .
وقيل: اتخذ سبيلًا إلى المشرق كما اتخذ سبيلًا إلى المغرب، وقيل:
لم نجعل لهم ستراً كذلك، وقيل لم نجعل لهم كما جعلنا لهم.
قوله: (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) .(1/679)
وهب: هما رجلان من ولد يافث بن نوح.
الضحاك: هما جيل من الترك.
العجيب: كعب: قال: إن آدم - عليه السلام - نام ذات يوم، فاحتلم
وامتزجت نطفته بالتراب، فلما انتبه أسف على ذلك الماء، فخلق الله منه
يأجوج ومأجوج، فهم أولاد آدم من غير حواء.
واشتقاقهما من أججَ النارَ، ومن أجْ الظليمُ إذا أسرع، فمنعا الصرف
للتأنيث والمعرفة، وقيل: اسمان عجميان.
الغريب: محمد بن هيضم: ذكر في تفسيره: أن اسم يأجوج يمكن
واسم مأجوج مضمغ وهما أبناء يافث، كما سبق، ابن عمر: إن الله جَزّأ
الإنس عشرة أجزاء، فتسعة أجزاء يأجوج ومأجوج، وسائر الناس جزء واحد، ولا يموت الواحد منهم حتى يلد ألفاً من صلبه.
قوله: (فَمَا اسْطَاعُوا) .
فيه أربعة أوجه: استطاع، وهو الأصل. واسطاع بحذف التاء.
واستاع بحذف الطاء. ووزنه استَعْلَ، وأسطاع - بفتح الهمزة -، ووزنه
أسْفَعْل، وهو نادر، قال سيبويه: السين فيه عوض من ذهاب حركته.
وخص بالأول بالحذف، لأن مفعوله حرف وفعل وفاعل ومفعول، والثاني
مفعوله "نَقْبًا" اسم واحد، فلما طال حسن الحذف.
قوله: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) .
من وصل، قال تقديره بزبر الحديد، فلما حذف الجار تعدى الفعل إليه
من غير واسطة، ومن قطع جعله المفعول الثاني.
قوله: (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا)
من قطع جعل المفعول الثاني محذوفاً، و "قِطْرًا" منصوب ب "أُفْرِغْ".(1/680)
العجيب: النحاس: " (آتُونِي" من المواتاة، فلا يحتاج إلى المفعول الثاني، وكذلك من وصل.
قوله: (هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) .
إشارة إلى الفعل، وقيل: إلى الردم.
قوله: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) .
ابن عباس: في الآية تقديم وتأخير، والتقدير، ساوى بين الصدفين.
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ، أي بعض يأجوج ومأجوج.
الزجاج: يموجون متعجبين من السد، فيجوز أن يكون ليأجوج ومأجوج، ويجوز أن يكون اجتمعوا للسد.
الغريب: في الآية تقديم وتأخير تقديره: ونفخ في الصور فجمعناهم
جمعا وتركنا بعضهم يومئذ، يعني يوم القيامة يموج في بعض، أي الكفار يوم
القيامة.
العجيب: يعني بعضَ من يأجوج ومأجوج خارج السد لا حاجز بينهم
وبين سائر بني آدم، وهم الذين يعرفون بالترك، وسمى تركاً لترك ذي القرنين
إياهم مع الناس لم يحفْ منهم ما يخف من معظمهم. وقيل: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) يريد بعد خروجهم من السد.
ومن الغريب: (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) من كلام ذي
القرنين.
قوله: (كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي) .
أي في غشاوة فلا يعتبرون بآياتي، فيذكروني بالتوحيد، وقيل: يريد
عيون القلوب.
قوله: (وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا) أي استماع القرآن.
قال الشيخ الإمام: ويحتمل الغريب: أن قوله: (أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي)(1/681)
معناه لا يقرأون القرآن من الكتاب ولا يستطيون سمعاً ممن يقرأ
عليهم القرآن.
قوله: (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ) .
أي: أَفَحَسِبَ الكفار اتخاذهم عبادي أولياء نافعهم، فحذف المفعول
الثاني، والاستفهام إنكار، وقيل: معناه: أفظنوا أن يتخذوا الملائكة والجن
أرباباً فينفعهم.
الغريب: معناه: أفظنوا أنهم مع كفرهم يواليهم بالنصرة أحد من عبادي
المخلصين، كلا فإن عبادي يعادون الكفار.
ومن قرأ: (أَفَحَسْبُ) جعله مبتدأ (أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ) خبره.
ْ - قوله: (نُزُلًا) .
منزلاً، وقيل: مأكولاً معداً لهم، يريد ما فيها من غسلين وزقوم وغير
ذلك.
الغريب: (نُزُلًا) جمع نازل، ونصبه على الحال.
قوله: (أَعْمَالًا) .
كان القياس أن يكون مفرداً لكنه جمع لاختلاف الأجناس.
قوله: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) .
قيل: الأمر ذلك، "جَزَاؤُهُمْ" مبتدأ، "جَهَنَّمُ" خبره، وقيل: "ذلك" مبتدأ.
"جَزَاؤُهُمْ" بدل منه أو خبر عنه، "جَهَنَّمُ" خبر أو خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ
محذوف.
الغريب: ذلك بمعنى أولئك، أي أولئك جزاؤهم جهنم.
ومن الغريب: قال الشيخ: يحتمل أن "ذلك " مبتدأ "بما كفروا" خبره، (جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) ، اعتراض بين المبتدأ والخبر.(1/682)
قوله: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي) .
أي فكتب به (لَنَفِدَ الْبَحْرُ) ، قوله: (وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) ، أي بمثل
البحر، (مِدَادًا) أي زيادة على البحر. وقرىء في الشواذ، مِدَادًا - والله
أعلم بالصواب.
تم الجزء الأول من كتاب غرائب التفسير وعجائب التأويل في غرة شهر
رمضان سنة إحدى وستين وسبعمائة.(1/683)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الجزء الثاني من كتاب:
غرائب التفسير وعجائب التأويل
المؤلف: تاج القراء محمود بن حمزة الكَرْمانِي
دار النشر: دار القبلة للثقافة الإسلامية - جدة
مؤسسة علوم القرآن - بيروت
عدد الأجزاء: 2(2/684)
سورة مريم
رب يسر
(كهيعص) .
الغريب فيه: قراءة الحسن: وهو إشمامه الضم في "كاف" و "هاء"
و"ياء"، وهذا لما حكى سيبويه: إن من العرب من يشم الصلاة والزكاة
الضم، ويومي إلى الواو، ولهذا كتبتا في المصحف بالواو.
قوله: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) .
الفراء: (كهيعص) مبتدأ، (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) خبره.
الأخفش. فيما يقَمص عليكم ذكر رحمة ربك.
والجمهور على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا الذي نتلوه عليك: ذكر رحمة ربك، وذكر مصدر مضاف إلى المفعول
من غير ذكر الفاعل، و "الرحمة" مصدر مضاف إلى الفاعل، وهو ربك.
و"عَبْدَهُ" مفعول الرحمة.
الغريب: "ذِكْرُ" مضاف إلى الفاعل، وهو الرحمة، وتقديره: ذكر رحمة
ربك عبده، كما تقول: ذكري جودك على الاستطاعة، فيكون المعنى ذكر
ربك عَبْدَهُ بالرحمة.
وقول من قال: "الرحمة" صلة، يريد بهذا المعنى: إذ لا(2/685)
يجوز أن يكون صلة ين المضاف والمضاف إليه. وقرىء: (عبدُهُ)
- بالرفع - على أن يكون فاعل الذكر، وهو مضاف إلى المفعول لا غير.
قوله: (إِذْ نَادَى) .
ظرف للذكر أو الرحمة.
الغريب: ظرف لقوله: (قال)
قال الشيخ الِإمام: ويحتمل من الغريب: أنه ظرف فيه خبر المبتدأ، والمبتدأ قوله: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) .
قوله: (نِدَاءً خَفِيًّا) ، أي كما هو المأمور في قوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) ، وقيل: "خَفِيًّا" عن القوم، أي في خلوة، وقيل: ليلا، وإنما
أخفي نداه لأنه كان يستحي من القوم أن يسأل الله الولد على كبر السن من
امرأة عاقر.
قوله: (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) .
خص العظم بالذكر دون غيره، لأن أقوى ما في الإنسان عظمه، وإذا
وهَى الأقوى عُلِم وَهن ما دونه في القوة.
الغريب: أراد بالعظم ها هنا السن، فقد بقال: فلان يشكو عظمه، إذا
كان به وجع السن.
قوله: (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) ، قيل: نصب على المصدر، لأن معنى
اشتعل، شاب، وقيل: نصب على التمييز، أي من شيب.
الغريب: يحتمل أنه من باب تفقأت الدابة شحماً، أي اشتعل شيب
الرأس، فصرف الفعل إلى الرأس، وانتصب شيباً على التمييز، وهذا الوجه
من التمييز غير الوجه الأول.(2/686)
قوله: (بِدُعَائِكَ) ، أي بدعائي إياك، والمعنى: كنت مستجاب
الدعوة.
الغريب: هو مضاف إلى المفعول أي بدعائك إياي.
قوله: (مِنْ وَرَائِي) .
بعدي، وقيل: قبلي، والمعنى: خفت فواتهم، ويقويه: قراءة من قرأ
خفت المواليَّ - بالتشديد -.
الغريب: "مِنْ وَرَائِي"، أي حولي. حكاه محمد بن الهيضم.
قوله: (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا) ، إنما ذكرها، لأنه سأل الله إزالة العلة
عنها لتحبل.
قوله: (وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ) .
من رفعه، جعله وصفاً للنكرة، ومثله (رِدْءًا يُصَدِّقُنِي) ، ومن جزمه جعله
جواباً للأمر، ووضع العام موضع الحاص، وأضمر الوصف.
قوله: (مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) ، الجمهور على أنه يعقوب بن ماثان، وامرأة
زكريا كانت أخت مريم بنت عمران بن ماثان.
الغريب: هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم - عليهم السلام -.
قوله: (رَضِيًّا) ، أي مرضياً، وقيل: راضياً.
قوله: (اسْمُهُ يَحْيَى) .
تولى الله - سبحانه - تسميته تبجيلاً له وتشريفاً، ولَمْ يُسم بيحبى أحد
قبله، وهو قوله: "لم نَجعلْ لهُ من قبن سمياً) ، وقيل: سمى (يَحْيَى) ، لأنه
يحيى به دين الله.
الغريب: إنما سمي يحيى، لأنه قتل: والشهداء أحياء عند الله.
العجيب: البعيد غاية البعد ما حكاه النقاش في تفسيره قال: وهب بن(2/687)
منبه: كان اسم سارة يسارة فقال لها جبريل يا سارة، فقالت إن اسمي يسارة، وكيف سميتني سارة، قال لها: إن اليسارة العاقر من النساء، التي لا تلد.
وسارة الطالق الرحم التي تلد. وقال لها جبريل: كنت يسارة لا تحبلين.
وصرت سارة تحبلين وترضعين، فقالت: يا جبريل فنقص اسمي، فقال: إن
الله وعدك أن يجعل هذا الحرف في اسم ولد من ولدك في آخر الزمان.
وذلك إن اسمه عند الله حي، فسماه الله يحيى. هذا كلام النقاش، ولا
أدري أي كلام هذا، ولا أيَّةُ سارة هذه، والأظهر أن يحيى اسم أعجمي لا
ينصرف للعجمة والتعريف.
قوله: (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا)
"الهاء" تعود إلى (يَحْيَى) أي لم يسم به أحد كما سبق.
الغريب، الم نجحل له من قل سمياً" أي مثلاً.
العجيب: "الهاء" تعود إلى زكريا، أي لَمْ نجعل لزكريا قبل يحيى
ولداً، والعرب تسمي الولد سمياً. حكاه النقاش أيضاً.
قوله: (آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) .
قال له جبريل: آيتك أنك إذا جامعت امرأتك فحبلت، أن تصبح تلك
الليلة لا تستنكر من نفسك خرساً ولا مرضاً، ولكن لا تستطيع الكلام ثلاثَ
ليالً.
الغريب: ابن بحر: تعبد الله بالسكوت عن جميع الأمور، إلا عن
التسبيح ثلاث ليالٍ.
ومن الغريب: معنى (آيتك) : فرضك، كقوله:
(وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) ، أي فرائض. والمعنى: فرضت عليك ألا تكلم الناس، وهذا عنُ قولِ ابنِ بحرِ.
العجيب: رَبا لسانه في فيه، فلم يقدر على الكلام عقوبة له على قوله: (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) .(2/688)
قوله: (سَوِيًّا) ، حال، أي سَوِي البدن صحيحه من غير علة.
الغريب: "سَوِيًّا" صفة لـ "ثلاثَ ليالٍ"، أي تامة متتابعة مع أيامها.
قوله: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ) .
أشار برأسه ويده، وقيل: كتب على الأرض.
قوله: (الْحُكْمَ) ..، أي الحكمة، كالقُل والقِلْة. الحسن:
"الْحُكْمَ": النبوة.
الغريب: كان يتولى القضاء بين الناس في طفولته.
ابن عباس: من قرأ القرآن قبل بلوغه فهو من آتاه الله الحكم صبياً.
قوله: (وَحَنَانًا) ، أي رحمةً.
قال: حنانك يا ذا الحنان، أي ارحم يا رحيم، ومنه الحنَّان المنَّان، وقد يثني، قال: حنانيْك بعض الشر أهون من بعض.
وقيل: الحنان التحية.
الغريب: ابن الأعرابي عن المفضل: الحنان: الرزق.
العجيب: قال ابن عباس: لا أدري ما الحنان.
قوله: (وَزَكَاةً) ، أي عملاً صالحاً، وقيل: زكيناه كما يزكي الشهود.
الغريب: صدقة تصدق الله بها على أبويه.
قوله: (وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) .
أي سلام له منا، ابن عيينة: أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن.
يوم وُلِدَ فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت، فيرى قوماً لم يكن
عاينهم، ويوم القيامة فيرى نفسه في هول عظيم، فأكرم الله فيها يحيى.
قوله: (شَرْقِيًّا) .(2/689)
أي يقابل الشمس، وقيل: مشرقة دارها، ومن ثم اتخذت النصارى
المشرق قبلة، لأنه ميلاد عيسى.
الغريب: قتادة: (شَرْقِيًّا) ، شاسعاً بعيداً.
قوله: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) .
الجمهور: على أنه جبريل، والِإضافة للتشريف.
الغريب: أبي بن كعب: لما أخذ الله من آدم ذرية، كانت روح عيسى
- عليه السلام - من تلك الأرواح، فأرسلها إلى مريم في صورة بشر، فتمثل لها في صورة رجل معتدل الخلقة، فحملت مريم الذي خاطبها وهو روح عيسى - عليه السلام -.
العجيب: قرأ أبو حياة: (روحنَّا" وفسره ابن مهران: بأنه اسم
لجبريل.
قوله: (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) .
شرط، جزاؤه مضمر، أي فاخرج عني، وقيل: المضمر فستتعظ
بتعويذي باللهِ منك.
الغريب: "إن" بمعنى "مَا" النفي، أي ما كتب تقياً بدخولك علي
ونظرك إلي.
ومن الغريب: "تقي" اسم رجل كان من أمثل الناس. قالت: إن
كنت في الصلاح مثل تقي، فإني أعوذ بالرحمن منك، حكاه الشعبي.
ومن الغريب: تقي اسم رجل كان يتعرض للنساء، وكانت مريم سمعت بقصته وفساده.
العجيب: أن "تقيا" اسم ابن عم لها، وكان يمر بها، واسمه يوسف بن
يعقوب بن ملثان، من خدم بيت المقدس، أتاها جبريل على صورته، فظنت(2/690)
مريم أن الشيطان استزله، فتعرض لها، فقالت: إن كنت من أظنه، فإني أعوذ بالرحمن منك. حكاه ابن مهريزد في تفسيره.
قوله: لأهَبَ لكِ) .
أي ليهب ربك، وقرىء، "لأهبَ" أي أنا بأمر الله. وقيل: أرسلني
بهبة إليك.
الغريب: أنا رسول ربك، قال: لأهَبَ لك.
قوله: (بغياً) .
لم يقل بغية، لأن وزنه فعول، قلب الواو ياء للإدغام، ثم قلب الضمة
كسرة، و "فَعول" يستوي فيه المذكر والمؤنث، كصبور وشكور.
وقيل: فعيل بمعنى مفعول كـ "كف خضيب وعين كحيل.
الغريب: وصف خصت النساء به كحائض وطامث، ومعناه: طالبة
الشهوة من أي رجل كان، وقيل: شذ عن القياس لفواصل الآي.
كقوله: (وَهِيَ رَمِيمٌ) و (رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ) .
العجيب: يعني مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث كعدْل ورِضي.
قوله: (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً) .
عطف على قوله: (ليهب لك) .
قال الشيخ الإمام: الغريب: يحتمل ولنجعله آية قضينا ما قضينا.
العجيب: أبو حاتم: استئناف، واللام لام القسم، كسرت لما لم
تصحبه النون، وهذا مذهبه في مواضع القرآن.
وقيل: الواو زائدة.(2/691)
قوله: (فَحَمَلَتْهُ) .
ابن عيسى: ما هو إلا أن حملت فوضعت، وقيل: بقي ساعة.
مقاتل بن سليمان: حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة، حين
زالت الشمس من يومها، وهى بنت عشر سنين.
الغريب: ولدت لثمانية أشهر، وما عاش مولود ولد لثمانية أشهر غير
عيسى، وقيل: ولد لستة أشهر، وقيل: كانت قد حاضت حيضتين قبل
الولادة.
الغريب: لم تكن حاضت بعد. حكاه محمد بن الهيضم. ومكث
عيسى مع أمه ثلاثاً وثلاثين سنة، وعاشت بعد رفعه إلى السماء ست سنين.
وماتت ولها اثتان وخمسون سنة.
العجيب: ولد من السرة. ذكر في كتاب (أحوال الأنبياء) .
قوله: (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا) ، أي بعيداً من القوم، فراراً منهم
العجيب: أتى ابن عمها يوسف بن يعقوب بن ماثان وكانت قد سميت
له، فهم أن يقتلها، فأتاه جبريل، وقال له: إنه من روح القدس، فلا تتعرض لها، فتركها. حكاه النقاش.
(فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي.
أي جاء بها، ومثله: شر ما أجاءك إلى نَخْلَة عُرقوب.
وقرىء في الغريب: "فاجَأها المخاض"، من المفاجأة، وهي البغتة.
(مِنْ تَحْتِهَا) ، على الوجهين، جبريل، وقيل: عيسى.
الغريب: مؤرج: مِن تحتها، أي من بطنها - بالنبطية -، وهو بعيد لا
__________
(1) الوجهان (مِنْ تَحْتِهَا) و (مَنْ تَحْتَهَا)
قال العلامة الدمياطي:
واختلف في (من تحتها) الآية 24 فنافع وحفص وحمزة والكسائي وأبو جعفر وروح وخلف بكسر الميم وجر تحتها والفاعل مضمر قيل جبريل وقيل عيسى ومعنى كون جبريل تحتها أي في مكان أسفل منها لأنه كان تحت أكمة والجار متعلق بالنداء وافقهم ابن محيصن بخلفه والحسن والأعمش والباقون بفتح الميم ونصب تحتها فمن موصولة والظرف صلتها. اهـ (إتحاف فضلاء البشر ص377)(2/692)
يمكن حمل قراءة من فتح عليه، ولا ينبني عليه أمر الآية
إلا بإضمار، قوله: (سَرِيًّا) أي نهراً، وذلك أنها عطشت فنبعت
عندها عين ماء.
وقيل: أجرى الله نهراً من أردن.
الغريب: السدي: الرجل الكريم، يعني: عيى - عليه السلام -.
قوله: (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) .
الجمهور: على أنه جذع لا رأس لها، ولا خُوص ولا ثمر، فجعل الله
لها رأسا وخُوصا ورطباً كرامةً لعيسى.
الغريب: كان من رُطَب الجنة.
وفي "الباء" أقوال: أبو علي: "الباء" زائدة، أي هزي جذع النخلة
المرد: "الباء" حال للرطب، أي هزي رطبا بجذع النخلة.
الغريب: الفراء: هزَّهُ وهزَّ بِهِ، وأخذه وأخذ بِهِ، وتعلقَة وتَعَلَّقَ بِهِ.
قال الشيخ الإمام: ومن الغريب: يحتمل أن "الباء" للآلة، ويكون
جذع النخلة غير النخلة التي صار لها رأس وُخُوص ورطب، بل يكون خشبا
ملقى، أي هزي إليك بهزك جذع النخلة رطباً.
قوله: (رُطَبًا) مفعول به لـ "هزي"، ويجوز أن يكون مفعولًا به
لتساقط، فإن "تفاعل" قد جاء متعديا.
قال:
ومثلِكِ بيضاءِ العوارِض طَفلَةٍ. . . لَعُوبٍ تَناساني إذا قمت سِربالي(2/693)
وقال:
تَخطأتِ النَبل أحشاءه. . . وأخر يومي فلم يعْجل
وأجاز أبو علي في الحجة: أن يتصب (صُلْحًا) في قوله: (أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) على المفعول به، وذهب جماعة إلى: أنه نصب على التمييز.
الغريب: نصب على الحال، وذو الحال مضمر، أي تساقط الثمرة
رطباً.
وقرىء: "يساقط " - بالياء - ليكون الفاعل ضمير الهز أو الجذع -
قوله: (وَقَرِّي عَيْنًا) .
هو من القُر، وهو البرد، فإن دمعة السرور باردة. وضده سُخْنة العين.
فإن دمعة الحزن حارة، والفعل: قررت - بالكسر -.
الغريب: هو من القرار، أي صادفت العين ما ترضاه فقرت وسكنت
من النظر إلى غيره.
العجيب: أي صادفت العين سرورها، فنامت وذهب سهرها.
و"عَيْنًا" تمييز.
قوله: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ)
وزنه "تفين"، "الياء" ضمير المؤنث حرك بالكسر
لالتقاء الساكنين، واللام قد حذف لفتحة ما قبها، ونقل حركة العين إلى
الفاء، ثم حذف العين، فبقي الفاء وحدها.
قوله: (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ) ، أي قولي لأول من سألك عن الولد.
قوله: (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ) .(2/694)
أي حاملة، فيكون حالاً لها، ويجوز محمولاً فيكون حالًا له، ويجوز
أن يكون حالاً لهما.
قوله: (يا أختَ هارون) .
قيل: كانت تنسب إلى هارون أخي موسى، وقيل: هارون كان رجلاً
زاهداً، خاطبوها بذلك استهزاء. وقيل: كان رجلاً فاسقاً.
العجيب: القرَظى: مريم أخت هارون وموسى، وهي التي ذكرت في
القرآن، (وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) ، حكاه النقاش. وهو كلام متناقض فاسد.
وفي الحديث: أن عائشة - رضي الله عها - قرأت: يا أخت هارون
أخي موسى، وفي هذا بعد، لأن بينهما ستمائة سنة، وقيل، ألف سنة.
وقيل: إن كعباً قال لعائشة لما سمع قراءتها، إن كنت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أعلم، وإلا فإني أجد بينهما عشرين أباً.
قوله: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) .
أي تكلموا معه، فغضبوا، وقالوا: سُخْرِيتها أشد علينا من زناها، وذلك
أن عيسى قال لها لا تحزني وأحيلي الجواب علي، وقيل: أمرها جبريل
بذلك.
قوله: (مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)
قيل: كان بمعنى صار، وقيل: كان زيادة، وقيل: كان بمعنى وقع، و "صَبِيًّا" حال.
الغريب: "صَبِيًّا"، أي فهو حال مما بعد تقدم على ذي الحال وعلى
العامل في الحال.
و" المهد" سرير الصبي.
الغريب: قتادة: " المهد" الحِجْر.
قوله: (مُبَارَكًا) .(2/695)
أي معلم خير، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من كان عالماً كان مباركاً، وقيل: آمراً بالمعروف، وقيل: نَفّاعاً، وقيل: ثابتاً على الدين، وأصل البركة الثبات، وقيل: مُبَارَكًا على الناس في دينهم.
الغريب: قوله: "مُبَارَكًا" نفى، كما جرت عادة الناس به من التشاؤم
من الشيء يقع على خلاف العادة.
سؤال: لِمَ قال في الأول: (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)) ، وبعده (جَبَّارًا شَقِيًّا) ؟
الجواب: لأن الأول فىِ حق يحيى، وقد قال - عليه السلام - " ما أحد
من بني آدم إلا أذنب أو هَمَّ بذنب إلا يحيى بن زكريا". فنفى عنه العصيان.
والثاني في حق عيسى - عليه السلام - فأثبت له السعادة، ونفى عنه الشقاوة، والأنبياء عندنا معصومون عن الكبائر غير معصومين عن الصغائر (1) .
قوله (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) .
يريد سلام جبريل - عليه السلام - عليه يوم الولادة، وسلام عزرائيل يوم
الموت، وسلام الملائكة يوم البعث.
سؤال: لِمَ قال في الأول "سلام " وفي الثاني "السلام".
الجواب: لأن الأول من الله، والقليل منه سبحانه كثير. والثاني من
عيسى، والألف واللام لاستغراق الجنس، وقيل: ذلك أيضاً من وحي الله
عليه. فتقرب من سلام يحيى، وقيل: لأن النكرة إذا تكررت، صارت
معرفة، وقيل: نكرة الجنس ومعرفة الجنس يفيدان فائدة واحدة، نحو: والله
لا أشرب الماء، هما واحد.
قوله: (قولَ الحقِ)
__________
(1) الراجح عند المحققين عصمة الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - من الصغائر والكبائر.(2/696)
خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ آخر، أي هو الحق، أو خبر ذلك.
و"عيسى بن مريم"، بدل من "ذلك "، ومن نصبه نصبه على المصدر، أي
أقولُ قولَ الحقِّ.
قوله: (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) .
أي ما كان له اتخاذ الولد.
الغريب: اللام للجحد، وتقديره، ما كان الله ليتخذ ولداً.
قوله: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) .
من كسر، جعله متصلا بقوله: (إني عبدُ اللهِ) ، وقيل: استئناف
كلام من عيسى، ومن فتح، جعله متصلا بقوله (وأوصاني بالصلاة
والزكاة) (وأن الله ربي) و (بأن الله) ، وقيل: ولأن.
الغريب: وقضى أن الله.
قوله: (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) .
أي اختلف النصارى من بين الناس، وقيل: من دين النصارى.
الغريب: (مِنْ بَيْنِهِمْ) ، من بُعْدِهم من الحق، وذُكر أن النصارى
اختلفوا بعد عيسى، ثم اتفقوا على أن يرجعوا إلى قول ثلاثة من علمائهم.
يعقوب ونسطور وملكاء، فقال يعقوب: عيسى هو الله، هبط إلى الأرض، ثم صعد إلى السماء. وقال نسطور: لم يكن الله، ولكن ابن الله أظهر ما شاء، ثم رفعه إلى عنده.
وقال ملكاء: كان مخلوقاً نبياً. قيل: وكانوا أربعة فقال
الرابع - واسمه إسرائيل -: هو إله وأمه إله، والله إله، والثلائة أقانيم، والروح واحد، فتبع كلَ واحد منهم جماعة.
قوله: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) .
المجرور مرفوع المحل بالفاعلية، أي هم في محل من يتعجب منهم.(2/697)
الغريب: معناه أسمعِ الناسَ بهؤلاء الأنبياء وأبصرهم بهم ليعرفوهم.
فيؤمنوا بهم، والأول هو الأولى.
قوله: (يومَ الحسرةِ) .
مفعول به، إذ قضِيَ الأمر بدل منه، والمعنى: إذْ فرِغ من الحساب
وذُبح الموت، فقد روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "يجاء بالموت
على صورة كبش أملح، فيوقف بين الجنة والنار، فيذبح، فيقال: يا أهل
الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت". ثم قرأ: (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) ، ذبح الموت على ما سبق.
الغريب: قضي الأمر الذي يحل بهم.
العجيب: ابن بحر: إذا انقضى أمر الدنيا بإقامة القيامة.
وقيل: "قُضِيَ الْأَمْرُ" ذبح الموت، على ما سبق.
قوله: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ) .
أي في القرآن، "إِبْرَاهِيمَ"، أي قصته.
(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ) .
بدل من قصته، وهو مفعول به.
الغريب: (إِذْ قَالَ) ظرف لقوله: (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ)
والجملة المبدؤة بها محلها نصب بالقول، و"قال" إلى قوله: (مَلِيًّا) جر بإضافة "إذ" إليه.
قوله: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ) .
استفهام إنكار، أي: أترغب عن عبادتها وقيل عنها. و "راغب" رفع(2/698)
بالابتداء، و "أنت" رفع بكونه فاعلاً، وسد الفاعل مسد الخبر، كما تقول:
أقائم الزيدان، قوله: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) ، أي تباعد عني سالماً من عقوبتي.
فهر حال، وقيل: "مَلِيًّا" عمراً طويلًا.
الغريب: الذي: أبداً، فهو ظرف على الوجهين.
العجيب: أمهلني زماناً لأتامل فيما تدعوني إليه وهذه هي الموعدة
المذكورة في قوله: (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) ، أي وعد أبو إبراهيم
إبراهيمَ، ولهذا قال: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) ، وكان يستغفر له إلى أن
مات على الكفر.
العجيب: الحسن: هذه صغيرة في إبراهيم - عليه السلام -، ولهذا
قال الله (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) .
قوله: (وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا) .
أي كل واحد منهم، وقيل: منهما، فحذف المضاف إليه.
قوله: (مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) ، يعني يمين موسى.
العجيب: قال مقاتل: إن يمين الجبل. وفيه ضعف، فيى للجل
يمين ولا شمال، انما يكون ذلك بالأضافة إلى ما يقابل الجل.
قوله: (صَادِقَ الْوَعْدِ) .
أي إذا وعد أنجز، وروى أنه وعد رجلاً أن يقوم مقامه حتى يرجع
الرجل إليه، فقام إسماعيل مقامه ثلاثة أيام.
الغريب: الكلبي: انتظره حتى حال عليه الحول.
الغريب: أبو عبيدة: صادق بمعنى مصدوق، أي كان مصدوق الوعد.(2/699)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
قوله: (إِدْرِيسَ) .
هو جد نوح، واسمه أخنوخ، وقيل: إلياس، وهو أول من خط، وأول
من نظر في الحساب والنجوم، وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وكانوا
يلبسون قبل ذلك الجلود.
قوله: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) .
هو الرتبة والمنزلة والنبوة، وقيل: هو الجنة - وهو فيها -. وقيل:
السماء الرابعة. وقيل: السادسة.
الغريب: ابن عباس: قال لكعب: يا كعب أخبرني عن مكان
إدريس، الذي يقول الله: (وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا) ، فقال كعب: "والذي
نفسي بيده لا أخبرك إلا بما أجد في كتاب الله المنزل، أما إدريس، فإنه كان
عرج عمله إلى السماء، فعدل عمله عمل جميع أهل الأرض، فاستأذن ملك
من الملائكة أن يؤاخيه، فأذن الله له، فآخاه، فسأله إدريس: يا أخي هل
بينك وبين ملك الموت مؤاخاة، قال: نعم ذاك أخي دون الملائكة، وهم
يتآخون كما يتآخى بنو آدم. فقال له: هل لك أن تسأله لي، كم بقي من
أجلي لكي ازداد في العمل، قال: إن شئتَ سألته وأنت تسمع، قال:
فحمله الملك تحت جناحيه حتى صعد به إلى السماء، فسال ملك الموت.
أي أخي كم بقي من أجَل إدريس، قال: ما أدري حتى أنظر، فنظر، فقال: إنك تسألني عن رجل ما بقي من أجله إلا طرفة عين، فنظر الملك تحت
جناحه، فإذا إدريس قد قبض وهو لا يدري (1) .
العجيب: الحسن ووهب: إن الملائكة كانوا يتآخون ويصافحون - في
زمن إدريس - الناسَ، ويكلمونهم بصلاح الزمان، حتى كان في زمن نوح.
فانقطع ذلك عنهم.
__________
(1) من الإسرائيليات.(2/700)
وقيل: إن إدريس حيٌّ في السماء مثل عيسى - عليهما السلام -.
وحكى الفراء: أنه سأل ملك الموت أن يريه النار، فاستأذن ربه، فأراها إياه، ثم استأذنه في الجنة، فأراها إياه، فدخلها، فقال له ملك الموت: اخرج.
فقال: والله لا أخرج منها أبداً. فقال الله: بإذني دخل. فدعه -
قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) .
إنما فرق ذكر نسبهم، وكلهم بنو آدم للبيان عن مراتبهم في شرف
النسب، فكان لإدريس شرف القرب من آدم، لأنه جد نوح، وكان لِإبراهيم قرب نوح لأنه ولد من سام بن نوح، وكان إسماعيل وإسحاق ويعقوب من ذرية إبراهيم، فحصل لهم شرف إبراهيم لما تباعدوا من آدم، وكان موسى وهارون وزكريا ويحى وعيسى من ذرية إسرائيل، لأن مريم من ذريته.
العجيب: قال عثمان بن عطاء عن أبيه، قال: بين النبي - عليه
السلام - وبين آدم تسعة وأربعون أباً. وهم: عبد الله بن عبد المطلب بن
هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن لؤى بن غالب بن فهر بن
مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن
معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن المقوم بن تارخ بن تيرخ بن
حمل بن قندر وهو ثابت بن إسماعيل بن إبراهيم بن آزر وهو تارخ بن ناحور بن راعوا بن فالغ بن أخنوح بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس بن البارز بن مهلهل بن قينان بن أنوش بن
شيث بن آدم - صلوات الله على النبيين والمؤمنين منهم.
قوله: (خَرُّوا سُجَّدًا) ، حال جمع ساجد، و (وَبُكِيًّا) جمع باك.
وقيل: مصدر، أي بكوا بكياً.
(جَنَّاتِ عَدْنٍ) .(2/701)
بدل من الجنة، وجاز هذا وإن لم يجز بدل الكل من البعض، لأن
الجنة اسم علم، وهي مشتملة على جنات عدن وغيرها من الجنات.
فهي إذاً بدل البعض من الكل. وأبو علي أنشد في التذكرة، قول الشاعر:
رَحِم اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوها. . . بسجِسْتَان طَلْحَةَ الطَّلَحاتِ
فقال: لا يجوز أن يكون طلحة بدلًا من أَعْظُماً، لأنه يكون بدل الكل
من البعض، وإنما تقدير البيت: أعظم طلحة، فيكون هو الأول بعينه.
قوله: (مَأْتِيًّا) ، أي آت، وقيل: مصدر أي ذا إتيان، وقيل: ما أتاك
فقد أتيته.
قوله: (بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) .
أي على عاداتهم في الدنيا وقدرها، وليس في الجنة بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
وقيل: يعرفون الليل بإرخاء الحجب وإطباق الأبواب، والنهار برفعها وفتحها.
الغريب: يخدمهم بالليل الجواري، وبالنهار الغلمان.
ومن الغريب: "بُكْرَةً وَعَشِيًّا" معا عبارة عن الدوام.
قوله: (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا) .
من وحي الله على جبريل حين استبطأه النبي - عليه السلام -، وقيل: مضمر فيه، أي قل: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ.
الغريب العجيب: ابن بحر، هذا من كلام أهل الجنة بعضهم لبعض
إذا دخلوها، وهي متصلة بالآية الأولى، إلى قوله: (وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ) .
ومعنى "مَا بَيْنَ أَيْدِينَا" المستقبل، "وَمَا خَلْفَنَا" الماضي، وقيل: "ما
بين أيدينا" الماضي و"ما خلفنا" المستقبل. و"ما ببن ذلك " حال.(2/702)
قوله: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ) .
رفع بالبدل، وقيل: هو رب السماوات.
الغريب: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ) مبتدأ، "فَاعْبُدْهُ". خبره. وهذا عند
سيبويه ممتنع "للفاء" فإن الفاء تدخل المعرفة الموصولة والنكرة
الموصوفة، ولأن الغالب عليه النصب.
قال: هريرة ودعها وإن لام لائم.
قوله: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
أي أحدا بسمى الله، أو الرحمن.
الغريب: (سَمِيًّا) مِثْلاً.
العجيب: ولدا كما سبق.
قوله: (لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) .
تأكيد الكلام باللام ليس من الإنسان، لأنه منكر، وإنما هو على
حكايته كلام النبي والمؤمنين، أي إذا ما مت يقولون لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا.
وقرىء: أخرج - بفتح الهمزة - شاذا، والعامل فى "إذا" فعل يدل عليه
أخرج، لا عين أخرج، لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبله.
قوله: (وَالشَّيَاطِينَ) .
أي مع الياطين، والمعنى: ئقْرَن كل كافر مع شيطان في سلسلة.
قوله: (لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) .
أي نبدأ بالتعذيب بأشدهم عِتِيًّا، ثم بالذي يليه، وفي رفع "أَيُّهُمْ" سبعة(2/703)
أقوال: قال سيبويه: ". "أَيُّهُمْ" مبني على الضم، لأنه خالف سائر
الموصولات في قولك: اضرب أيهم أشد، لأن الأصل، أيهم هو أشد، ولا
يجوز أن تقول: اضرب الذي أشد، حتى تقول: هو أشد، وكذلك: اضرب من أشد، حتى تقول: من هو أشد، فلما خالف استحق الباء. وخالف سيبويه في هذا جمهور النحاة.
قال الخليل: رفع على الحكاية، أي الذي يقال لعتوِّةِ: أيهم أشد، وأنشد الخليل:
فأبيتُ لا حَرِجٌ ولا مجرومِ
أي أبيت كالذي يقال له: لا حَرِجٌ ولا مجروم. قال يونس: الفعل
معلق، و "أيهم" رفع بالابتداء، وأشد خبره، قال: وجاز تعليق
النزع ها هنا، لأن معناه يؤول إلى معنى العلم.
قال الكسائي: "مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ" نصب بالنزع، و "أَيُّهُمْ أَشَدُّ" مبتدأ وخبر. قال الفراء: "لَنَنْزِعَنَّ" بالنداء، أي نُنادِين، والنداء جار مجرى
القول، فيكون: "أَيُّهُمْ أَشَدُّ" مبتدأ وخبر. قال بعض المفسرين: في "أيهم"
معنى الشرط والمجازاة، فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها، والمعنى: ثم لننزعن
من كل فرقة إن شايعوا أو لم يشايعوا.
علي بن سليمان: "أيهم" متعلق ب "شِيعَةٍ" أي من الذين تشايعوا وتعاونوا فنظروا أيهم أشد على الرحمن عتياً.(2/704)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)
قوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) .
المفسرون: على أن الضمير يعود إلى النار.
الغريب: النحاس: الضمير يعود إلى الساعة أو القيامة، ثم اختلفوا
في معنى الورود، فقال بعضهم: هو الدخول، واستدل بقوله: (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)) ، وبقوله: (أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا) ، وبقوله: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) ".
والمتقون يجتازون بها كالبرق الخاطف، تحلة القسم، وتكون عليهم برداً وسلاماً.
وقال بعضهم: الورود، الوصول دون الدخول لقوله: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ) ، قال: ورودهم: إشرافهم عليها وحصولهم حواليها.
الغريب: مجاهد: هو المحن والأمراض.
وقوله: (وَإِنْ مِنْكُمْ) تقديره، وَإِنْ مِنْكُمْ أحد، فـ "أحد" رفع بالإبتداء.
"إِلَّا وَارِدُهَا" خبر المبتدأ، وقوله: (منكم) صفة لأحد، أو حال له إن قدمته
عليه.
قوله: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) .
أي مده الله في كفره، ومتعه بطول عمره، ليزداد طغيانا.
الصيغة صيغة الأمر، والمعنى: الخبر.
الغريب: هذا دعاء عليه، أي فزاده الله ضلالاً.
العجيب: فليعش ما شاء، فإن مصيره إلى النار.
ومن الغريب: المبرد أي قل فإني أدعو له بالبقاء لعله يؤمن.
قوله: (إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ) ، بدل من ما يوعدون.(2/705)
قوله: (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ) ، من باب قوله: (يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) ، ومحل "من" نصب، وهو موصول، وإن جعلت "هو" فصلاً وعمادا، فمن رفع بالابتداء (شَرٌّ مَكَانًا) خبره، والفعل قبله معلق.
قوله: (مَالًا وَوَلَدًا) .
الولد المولود، كالقَبض بمعنى المقبوض، يقع على الواحد، وعلى
الجمع، والولد: لغة فيه كالنخل والنخل.
العجيب: الوُلْد - بالضم - جمع الوَلد كأُسْد وأَسَد.
العجيب: الأخفش: الوَلَد: الابن والابنة، والوُلْد - بالضم - الأهل والولد.
وقوله: (أَفَرَأَيْتَ) إلى قوله: (عَهْدًا) جملة واحدة، لا محل لها من
الإعراب، والموصول إلى قوله: (وَلَدًا) مفرد محله نصب بالمفعول الأول.
وقوله: (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) إلى قوله: (عَهْدًا) واقع موقع المفعول الثاني.
ومعنى قوله: (عَهْدًا) يعني: قال لا إله إلا الله. وقيل، (عَهْدًا) ، عملاً
صالحاً قدمه.
الغريب: أعَهِد الله إليه أنه يدخله الجنة.
قوله: (وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ) .
أي نرث منه ما يقول أنه يملكه في الدنيا، ويُعْطَى مثله في الأخرى.
الغريب: "نرثه" نسلبه.
قوله: (سَيَكْفُرُونَ) .
إن حملت على الأصنام والمعبودين، فالمصدر في قوله: (بِعِبَادَتِهِمْ)
مضاف إلى المفعولينَ، وإن حملت على الكفار، فالمصدر مضاف إلى
الفاعِلِينَ.(2/706)
قوله: (عَلَيْهِمْ ضِدًّا) ، مصدر يقع على الواحد وعلى الجمع.
قوله: (نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) .
أي أعمالهم وأنفاسهم وأيامهم.
الغريب: (نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) يوم نحشر وما في اليوم، فيكون "اليوم"
مفعولاً به، والجمهور على أنه ظرف لقوله: (لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ) .
قوله: (وَفْدًا)
حال، جمع وافد، أي راكين مكرمين.
و (وِرْدًا) مشاة عطاشا.
قوله: (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ) .
في محل رفع بالبدل من الواو، وقيل: نصب، على أنه استثناء، أي لكن من اتخذ، فإنه يملك.
الغريب: "إِلَّا لمنِ اتَّخَذَ".
قوله: (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) .
أي لقد قلتم قولاً عظيماً، والتقدير، قل لهم.
قوله: (تَكَادُ) ، و (تَنْشَقُّ) ، (وَتَخِرُّ) .
الجمل الثلاث صفة لقوله: (شَيْئًا إِدًّا) ، وتقديره، وتَنْشَقُّ منه وَتَخِرُّ
منه، كما قال يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، فعلى هذا (أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) ، والجمهور على أن الكلام الأول تم على قوله: (يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) ، ثم استأنف فقال: (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ) ، هذا لأن دعوا، فقوله: أن دعوا على هذا في محل نصب، وقيل في محل خفض وقوله: (أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا) .
قوله: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، مبتدأ، (إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ) ، خبره، والياء مثبتة في المصحف، وأفرد حملًا على لفظ كل.
و: (عَدًّا) حال، وذو الحال الضمير في (آتِي) والعامل "آتِي".
قوله: (لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) .(2/707)
(العد) عدُّ الشيء، والِإحصاء نهاية بلوغ المعدود.
قوله: (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) .
هذا - من جملة ما حكاه القُتَبي عنهم، قالوا لا يقال فلان يجعل لك حباً.
وأجاب: أن التقدير، (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) في قلوب المؤمنين.
الغريب: قال الشيخ الإمام، يحتمل الآية وجهين آخرين:
أحدهما -: أن جعل بمعنى فعل، وفعل يعبر به عن جميع الأفعال، منها: قوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) ، يريد فإن لم تأتوا ولن تأتوا.
وقوله: (لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ) ، ثم قال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ) أي ومن يأته، وهذا أكثر من أن يحصى، وكذلك عبر عن وُدهم فقال: (سَيَجْعَلُ) فيكون "وُدًّا" نصباً على المصدر، وعلى الوجه الأول، نصب على المفعول به، والوجه الثاني: أن الود بمعنى المودود، فإن المصدر كما ينوب عن الفاعل ينوب عن المفعول، نحو: رجل رضي، أي مرضي، فيكون المعنى: فسَيَجْعَلُ لهم ما يودون، أي، يعطيهم مناهم. اللهم اجعلنا منهم.
قوله: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا) .
أي وكم قرناً، المميز محذوف، و (كَمْ) مفعول.
قوله: (مِنْ أَحَدٍ) : في محل نصب.(2/708)
سورة طه
قوله: (طه) .
من حروف التهجي، وقيل: اسم الله، وقيل: اسم القرآن، وقيل:
اسم السورة، وقيل: اسم النبي - عليه السلام -، وله في القرآن سبعة
أسماء: محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبد الله.
وقيل: أقسم بطبول الغزاة وهيئتهم، وجوابه: (مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) .
الغريب: (الطاء) في حساب الجمل، تسع، و (الهاء) خمس.
فيكون أربعة عشر، ومعناه، يا بدر.
ومن الغريب: معنى (طه) يا رجل بلغة عَكٍّ، قاله الكلبي، وأنشد:
إنَّ السَّفاهةَ طه في خلائِقِكمْ. . . لا قَدَّسَ اللهُ أرواحَ المَلاعينِ
السدى: معناه، يا فلان، وهذا قريب من قول الكلبي، والمعنى:
(يا رجل "مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى")
الغريب: قال الشيخ الإمام: يحتمل أن (طاء) أمر من وطِىء يطأ، و "ها" كناية عن الأرض، وذلك، أن النبي - عليه السلام - كان يصلي على إحدى قدميه، فأنزل: (طه)(2/709)
أي طأ الأرض بقدميك، تقويه قراءة من قرأ (طَهْ، ما أنزلنا) ، لأن
الهاء بدل من الهمزة، وقيل: " الهاء " للاستراحة، والعذر عن حذف الألف
ما ذكر في قوله: (أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ) و (أَيُّهَ السَّاحِرُ) ونظائره.
قوله: (إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) .
قال النحاس: قال أبو إسحاق: وهو بدل من (لتشقى) أي ما
أنزلناه للشقاء.
قال: وهذا وجه بعيد. والقريب: أنه منصوب على المصدر. هذا كلامه. قال الشيخ الإمام: ما قاله أبو إسحق بعيد كما ذكره
النحاس، لأن وجوه البدل ممتنعة بين التذكرة والشقاء، وقول النحاس:
إنه مفعول من أجله، أبعد من قول أبي اسحق، لأن ذلك جمع بين علتين
لفعل واحد، من غير عطف أحدهما باللام والآخر بالمصدر، وذلك ممتنع.
وقوله: أو أنه منصوب على المصدر مثل الأول في البعد، لأنه جعل
تقديرَه إلا التذكر تذكرة، وهذا أيضاً ممتنع كالأول، وللآية وجهان:
أحدهما: أن تقديره ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ما أنزلناه إلا تذكرة لمن
يخشى، فكل واحد منهما متعلق بفعل، سوى الآخر.
والثاني: أن الاستثناء منقطع، أي لكن تذكرة لمن يخشى، وقول من قال تقدير الأية على التقديم والتأخير، أي ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة لمن
يخشى، لا لتشقى، بعيد، لأن إضمار "لا" إنما يجوز في القسم.
قوله: (تَنْزِيلًا) ، أي نزلناه تنزيلا.
الغريب: بدل من التذكرة، والتنزيل والتذكرة في المعنى واحد.
قوله: (الرَّحْمَنُ) : أي هو الرحمن، و (الرَّحْمَنُ) خبر(2/710)
المبتدأ وما بعده نصب جار مجرى الحال، وقيل: (الرَّحْمَنُ) مبتدأ.
(عَلَى الْعَرْشِ) خبره، وقد سبق في الأعراف.
ومن الغريب: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ، أي كناية
بالرحمن.
قوله: (وَأَخْفَى) ، الجار مضمر، أي أخفى من السر.
الغريب: (أَخْفَى) فعل ماض، أي يعلم أسرار العباد، وأخفى
سره، والمفعول مضمر، وقيل: يعلم أسرار العباد، وأخفاها عن غيره.
العجيب: (أَخْفَى) بمعنى الخفى.
قوله: (نُودِيَ) ، أي نُودِيَ موسى، بقوله: (يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ، ومن فتح، فالتقدير، نودى موسى بأن أنا ربك يا موسى.
قوله: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) .
قيل: كانا من جلد حمار غير مدبوغ، وقيل: لتصل بركة الوادي إلى
قدمه، وقيل: لتصل بركة قدميه إلى الوادي (1) .
الغريب: معناه، فرغ قلبك من ذكر الأهل والولد، وقيل: أمر بذلك
تأديباً له.
قوله: (طُوًى) ، قرىء - بالتنوين -، فمن لم ينونه جعله اسم
علم لا ينصرف، إما للتأنيث والتعريف، أو العدل والتعريف، كعمر وزفر.
ومن نَوَّنَه، جعله اسم علم مذكر كهدى وتقى، إذا سميت بهما مذكراً، وفي
وجوه كثيرة أحدها: أن (طوى) ، معناه مرتين، وهو متصل
__________
(1) هذه الأقوال تفتقر إلى دليل صحيح.(2/711)
ب (نودي) ، أي نودي (طُوًى) ، أي مرتين، وقيل: المقدس (طُوًى) .
مرتين، وقيل: متصل بقوله: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) ، واطو الأرض بقدميك
طوى، فهو مصدر مثل: هدى، وقيل: متصل بالواد، وهو حال مشتق
من الطوى، وقيل: طوى، جائع، وكان ذلك اليوم صائماً، والطيان
الجائع.
الغريب: (طُوًى) ، مجتاز من قولهم: طوى كشحه. وقيل:
جالس، وقيل: آت، من قولهم: مَر بنا فطوينا.
العجيب: (طُوًى) ليلا، وقيل: معرب.
ومن العجيب: ابن عباس: (طُوًى) : رجل بالعبرانية، أي يا رجل.
قوله: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) .
الإفراد للموافقة، وهو قوله: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ، ولفظ الجمع
للتعظيم، وفتحه كما فتح قوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)
أي (لأن) ، وكذلك لـ (إِنَّي) ها هنا.
العجيب: (إِنِّي) وَ (أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) في السورتين من باب
المبتدأ والخبر، وفيه ضعف، لأن (أن) إذا وقع مع الاسم موقع
المبتدأ، وجب تقديم الخبر عليه، كما قال:
أفي الحق أني مُغرمْ بِكِ هائمُ. . . وأنك لا خَلٌ هواكِ ولا خَمْرُ
"أني " مبتدأ، "وفي الحق" خبره، تقدم عليه.(2/712)
قوله: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ) .
يجوز أن يكون (أَنَا) تأكيداً للياء، كما تقول: ضربتك أنت
وضربتني أنا، ويجوز أن يكون مبتدأ (اللَّهُ) الخبر، والجملة خبر
(إِنَّنِي) ، ويجوز أن يكون فصلا لا محل له.
قوله: (لِذِكْرِي) ، يجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل، أي لأذكرك.
ويجوز أن يكون مضافاً إلى المفعول، أي لتذكرني.
الغريب: صَلِّها إذا ذكرتها.
روى أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " من نسي
صلاة أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله يقول: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي".
العجيب: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) إلى قوله: (تردى) خطاب للنبي
- صلى الله عليه وسلم -، ثم عاد إلى قصة موسى. قال أبو الليث في تفسيره: ومن العجيب: (لِذِكْرِي) بدل من قوله: (لِمَا يُوحَى) ، أي فاستمع لِمَا يُوحَى، فاستمع لذكرى.
قوله: (أَكَادُ) ، تقريب الفعل على أصله.
الغريب: متصلة ب (آتِيَةٌ) ، أي أكاد إتيانها.
العجيب: (أَكَادُ) زائدة.
قوله: (أُخْفِيهَا) ، أسترها وأظهرها، من أخفيت الشيء، أي
سلبت غطاءها، وهو الخفاء، وتقولة قراءة من قرأ (أخفيها) ، فإن
معناه، أظهرها، و" اللام" في قوله: (لِتُجْزَى) متصل به.
ومن جعل معناه: أسترها، فاللام متصلة بقوله: (آتِيَةٌ) .(2/713)
العجيب: (اللام) متصل بقوله: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى) .
قوله: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ) .
لم يقل: بيدك، لاحتمال أن يكون في يساره خاتم أو شيء آخر.
فكان يلتبس عليه الجواب.
وذهب بعض النحاة: إلى قوله: (بِيَمِينِكَ)
صلة لى (تِلْكَ) فإن أسماء الإشارة قد توصل، كما توصل الذي وبابه.
وأنشد:
عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليك إمارَةٌ. . . أَمِنْتِ وهذا تَحْملين طليقُ
وذهب بعضهم إلى أن (بِيَمِينِكَ) حال.
قوله: (هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا) إلى آخر الآية.
الجواب المطابق، أن يقال: في هذا عصا، إنما زاد على ذلك
مخافة أن يؤمر بطرحها، كما أمر بخلع النعلين.
الغريب: في الآية، إضماران، أحدهما: أنه لما قيل له: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) ، قال موسى: عصا، ثم قيل له: ولمن هي قال
عصاي.
والثاني: أنه قيل: وما تصنع بها، فقال: أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى، أجمل القول للهيبة التي علته.
وكان طول عصاه عشرة أذرع، ولها شعبتان ومحجن، وفي أسفلها سنان، وكانت من آس الجنة، فإذا طالت الشجرة جناها بالمحجن، فإذا أراد أن يكسر شيئاً منها لواه بالشعبتين، وكان يقاتل بها السباع، وإذا ورد ماء فقصر رشاؤُه وصله بها فشده في محجنها، وإذا حصل في البرية ركزها وألقى عليها كساءه، فاستظل بها، وإذا سار(2/714)
ألقاها على عاتقه، فعلق بها قوسه وكنانته وثوبه وجلْبابه، هذه مآرب موسى.
وما ذكر أنها كانت تماشيه، وتحدث وكان يضرب بها الأرض، فتخرج
ما يأكل يومه، ويركزها فتخرج الماء، وإذا رفعها، ذهب الماء، وإذا ظهر عدو حاربت وناضلت عنه، وإذا أراد الاستقاء من البئر أدلاها، فكانت طول البئر، وصارت شعبتاها كالدلو حين يستقى، وكان يظهر على شعبتيها
كالشمع بالليل يضيء له ويهتدي به، وإذا اشتهى ثمراً من الثمار.
ركزها، فتغصنت غصن تلك الشجرة، وأورقت ورقها، وأثمرت ثمرها.
وأمثال هذه، حتى زعموا أنها تبلغ ألفاً، فليست من جملة قوله: (وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) ، لأن هذه معجزات ظهرت لموسى بعد تلك الليلة.
وبعد تلك المقالة (1) . والله أعلم.
وواحد المآرب مأربة، بالحركات الثلاث.
وقوله: (أُخْرَى) ولم يقل: (أُخر) حملا على تأنيث الجمع ومراعاة
لروي الآية، ومثلها في السورة (الأسماء الحسنى) و (آياتنا الكبرى)
في أحد الوجهين.
قوله: (حَيَّةٌ تَسْعَى) .
الحية للجنس، و" الجان " أول حالاتها في الصغر، والثعبان آخر
حالاتها، وهي أعظم ما يكون.
الغريب: إذا ألقاها في خلوة (جاناً) وإذا ألقاها عند فرعون وعند
الحرة، صارت ثعباناً.
وقوله: (تَسْعَى) ، تمشي سريعا، فمرت بشجرة فأكلتها وبصخرة
فابتلعتها، فهال موسى ما رآه، وولى هارباً خوفاً.
وقوله: (سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى) .
أي سنردها إلى خلقتها وهيئتها، وتقديره، إلى سيرتها، فحذف الجار.
__________
(1) أقوال في غاية البعد لا يدلُّ عليها كتابٌ ولا سنةٌ.(2/715)
الغريب: علي بن سليمان: نصب على المصدر، لأن المعنى:
سنسيرها سِيرَتَهَا.
قوله: (إِلَى جَنَاحِكَ) ، أبطك وجنبك.
قال الراجز:
أضمه للصدر والجناح
الغريب: (جَنَاحِكَ) ، عصاك.
العجيب: (جَنَاحِكَ) ، كمك.
قوله: (بَيْضَاءَ) ، حال من الضمير في (تَخْرُجْ) .
الغريب: الزجاج: المعنى: نؤتيك آية أخرى.
قوله: (الْكُبْرَى) صفة لآيات.
الغريب: مفعول تقديره، لنريك الكبرى من آياتنا.
قوله: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً) ، فحلها الله.
الغريب: ولو قال للعقدة أو العقد لحلها كلها، ولم يقل فرعون (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) .
وقيل: كذب الملعون.
قوله: (وَزِيرًا) .
قيل هو من الوزر، أي يحمله من صاحبه، وقيل: من الوزر.
قوله: (أَزْرِي) ، ظهري، وقيل: قوتي.(2/716)
الغريب: ضعفي.
قوله. (سُؤْلَكَ) : أي مطلوبك من السؤال، ومن خصه
بحذف الهمزة جعله من "سولة" والمعنى: أمنيتك.
قوله: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ) : ثم قال، (اذْهَبَا)
لأن الأول مطلق، والثاني مقيد.
قوله: (قَوْلًا لَيِّنًا) : أي كلِّماه على رفق.
الغريب: كنياه، وكنيته: أبو العباس، وقيل: أبو الوليد، وقيل:
أبو مرة.
العجيب: (قَوْلًا لَيِّنًا) ، هو قوله: (وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى.
قوله: (هارون أخي) : المفعول الأول لقوله: (اجعل) ، و (وزيراً) المفعول الثاني، و (لي) حال للوزير.
الغريب: (وزيراً) المفعول، و (هارون) بدل منه، و (لي) المفعول الثاني، كما نقول: هب لى درهما.
قوله: (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا) .
الفاعل مضمر، يعود إلى فرعون، أي يعجل بعقوبتنا، وقيل: يبادر
بعقوبتنا.
الغريب: النحاس: الفاعل مضمر، أي يفرط علينا منه أمر، أي
يبدر أمر.(2/717)
قوله: (أَوْ أَنْ يَطْغَى) يدوم على طغيانه، لأن الله - سبحانه - قد قال
لموسى: (إنه طغى) وقال لهما: (إنه طغى) .
قال الشيخ الإمام: ويحتمل أن الله قال: (طغى) بلفظ الماضي، وأنهما قالا: يطغى بلفظ المستقبل.
قوله: (أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) .
أي كذب الأنبياء وتولى عن الإيمان.
الغريب: هي أرجى آية في القرآن.
قوله: (فَمَنْ رَبُّكُمَا) .
فيه إضمار، أي فأتياه فقالا له ما أمِرا به، فأجابهما فرعون. فقال: فمن
ربكما.
قوله: (يَا مُوسَى) ثنى الضمير وأفرد المنادى، لأن المتكلم كان
موسى وحده.
والغريب: لتغليب الخطاب على الغيبة، وقيل: لروي الآية.
قوله: (خَلْقَهُ) : الهاء تعود إلى "كُلَّ شَيْءٍ"، أي أعطى كل
شيء ما به قوامُه، وقيل: أعطى كل شيء زوجه ونظيره، ثم هداه إلى
المنكح.
الغريب: "الهاء" تعود إلى الله، أي أعطى عباده جميع الدنيا، ثم
هداهم إلى معرفة توحيده، بنصب الأدلة.
قوله: (فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي) .
أي يَضِله، تقول العرب: ضل منزلَه - بغير ألف -، وفي الحيوان:
أضل بعيره - بالألف -.(2/718)
الغريب: في، "لا يضل" ضمير الكتاب أي في كتاب لا يضل ربي.
العجيب: من كتاب لا يضل ربي عنه.
قوله: (شَتَّى) : يجوز أن يكون نصباً صفة لقوله: (أَزْوَاجًا) .
ويجوز أن يكون جراً صفة لـ "نَبَاتٍ".
قوله: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ) أي من الأرض، يعني آدم، وهو الأصل.
الغريب: من النطفة، لأن النطفة يًكَوِّنها الله من أنواع الأغذية وهي
من الأرض.
قوله: (مَكَانًا سُوًى) : أي سويا، مثل، عِدىً وزِيمَ (1)
و"سُوى" لغة فيه مثل حُطَم ولُبد.
العجيب: الكلبي.: (مَكَانًا سُوًى) هذا المكان، وفيه بعد، لأنه لا
يستعمل غير مضاف.
و (مَكَانًا) هو المفعول الأول لقوله: " اجعل" و "موعداً" المفعول
الثاني.
قوله: (لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ) صفة.
قوله: (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) .
من قرأ - بالألف -، ففيه كلام، قال بعض النحاة: جاء هذا على
لغة بلحارث بن كعب، فإنهم يقولون: جاءني رجلان، ورأيت رجلان.
ومررت برجلان، قال شاعرهم:
__________
(1) قومٌ عِدىً أي غرباء، قال: ولم يأت فِعَل صفة إلا قومٌ عِدىً و (مَكَانًا سُوًى) . اللسان مادة "عدا" - وفي زيَم: لحم زيم أي متعضل متفرق - قال. وجاء على فِعَل من غير المعتل، لحم زيَم. اللسان مادة "زيم".(2/719)
فأَطْرَق إطْراقَ الشُّجاعِ ولو يرى. . . مَسَاغاً لِناباه الشُّجاعُ لصَمَّما
أراد لنابَيْه، فقلب الياء، ألفاً، وقال بعضهم: أصله، إنه هذان
لساحران، فحذف الهاء. وهذا فيه ضعف، لأن "اللام" تقع حينئذٍ في خبر
المبتدأ، وذلك جائز في الشعر. قال:
أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوْزٌ شَهْرَبَهْ. . . تَرْضَى من اللحمِ بعظمِ الرَّقَبَهْ
وكذلك قول الآخر:
خَالي لأنتَ ومن جريرٌ خالُهُ. . . يَنَلِ العلاءَ ويكرِمُ الأخوالا.
وقال بعضهم، "إن" ها هنا بمعنى نعم.
قال:
ويَقلْنَ شيبٌ قد علاكَ وَقَدْ. . . كَبِرتَ فقلت إنهْ
لاَبُدَّ مِن شيبٍ ومن كِبَرٍ. . . فَدعْن مَلامَكُنَّهْ
وهذا يحتاج إلى العذر من اللام، وقد سبق.
قال الزجاج معتذرا
عن اللام: أصله: هذان لهما ساحران.
ورد عليه أبو علي في كتاب: إصلاح الإغفال، فقال: المؤكد لا يخفف، ومن المحال أن يؤكد الاسم بحرف ثم يحذف الاسم المؤكد، ويبقى الحرف المؤكد به، وقال النحاس:
(إنْ) في الآية بمعنى نعم، وروى بإسناد له عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: في خطبته: " إن الحمدُ لله نحمده " - برفع الحمد.
حمل "أن" على معنى نعم، كأنَّه أراد نعم الحمد لله، وذلك(2/720)
أن خطباء الجاهلية كانت تفتتح خطبها بنعم.
الغريب: شبهت الألف في قولك هذان بالألف في يفعلان، فلم يغير.
قال ابن كيسان: سألني إسماعيل بن إسحق القاضي عنها.
فقلت: القول عندي: إنه لما كان "هذا" في موضع الرفع والنصب والخفض
على حال واحدة، أجريت التثنية مجرى الواحد، فقال: ما أحسن هذا لو
تقدمك أحد بالقول به حتى يؤنى به.
قال: فقلت: فيقول القاضي به حتى يؤنس به فتبسم.
قال الشيخ الإمام: ومن الغربب: أنه لما ثنى "هذا" اجتمع في التثنية
ألف هذا وألف التثنية، فحذف ألف التثنية لالتقاء الساكنين، وناب عن ألف التثنية النون، فإنه لازم له لا تحذفه الإضافة، لأنه لا يضاف، ومن قرأه
"هذين" قال: حذف ألف هذا وبقي ألف التثنية، ثم انقلبت في حال
النصب والجر ياء. وهذا كما قلنا في واوَيْ مقْوُول وألفى رأيت عصا، في
الوقف، فتأمل، فإنه أحسن ما قيل فيه.
ومن الغريب: "هذان" ليس بتثنية هذا، على لفظه، بل على معناه، وإذا صح هذا، فمن قرأ: "إن هذان"، قال اسم بني على هذه الصورة، ومن قرأ: هذين، قال أجري مجرى سائر التثنيات (1) .
قوله: (الْمُثْلَى) ، تأنيث للأمثل، وتأنيثها لتأنيث الطريقة.
الغريب: النحاس: التأنيث للجماعة، فإن المراد بالطريقة، الجماعة -
قوله: (كَيْدَكُمْ)
منصوب بنزع الخافض، وتعدى الفعل إليه.
أي أجمعوا على كيدكم، وقيل: الفعل متعد إليه من غير واسطة، فإنك
__________
(1) قال السمين:
قوله: {إِنْ هذان} : اختلف القُرَّاءُ في هذه الآيةِ الكريمة: فقرأ ابن كثيرٍ وحدَه «إنْ هذانِّ» بتخفيف إنْ، والألفِ، وتشديدِ النون. وحفصٌ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف نونَ «هذانٍ» . وقرأ أبو عمرو «إنَّ» بالتشديد «هذين» بالياء وتخفيفِ النون. والباقون كذلك إلاَّ أنهم قَرَؤوا/ «هذان» بالألف.
فأَمَّا القراءةُ الأولى وهي قراءةُ ابنِ كثير وحفص فأوضحُ القراءاتِ معنىً ولفظاً وخَطَّاً؛ وذلك أنهما جعلا «إنْ» المخففةَ من الثقيلة فَأُهْمِلَتْ، ولَمَّا أُهْمِلَتْ كما هو الأفصحُ مِنْ وجهيها خِيْفَ التباسُها بالنافية فجيء باللامِ فارقةً في الخبر. ف «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، ووافَقَتْ خَطَّ المصحفِ؛ فإن الرسم «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ وسيأتي بيانُ ذلك.
وأمَّا تشديدُ نونِ «هذان» فعلى ما تقدَّم في سورةِ النساءِ، وقد أَتْقَنتُ ذلك هناك.
وأمَّا الكوفيون فيزعمون أنَّ «إنْ» نافيةٌ بمعنى ما، واللامُ بمعنى إلاَّ، وهو خلافٌ مشهورٌ وقد وافقَ تخريجُهم هنا قراءةَ بعضِهم «ما هذانِ إلاَّ ساحران» .
وأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فواضحةٌ من حيث الإِعرابُ والمعنى. أمَّا الإِعرابُ ف «هذَيْن» اسمُ «إنَّ» وعلامةُ نصبِه الياءُ. و «لَساحِران» خبرُها، ودخَلَتِ اللام توكيداً. وأمَّا مِنْ حيث المعنى: فإنَّهم أَثْبتوا لهما السحرَ بطريق تأكيديٍّ من طرفيه، ولكنهم استشكلُوها من حيث خَطُّ المصحفِ؛ وذلك أنَّ رَسْمَه «هذن» بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ، فإثباتُه بالياءِ زيادةٌ على خطِّ المصحفِ. قال أبو إسحاق: «لا أُجيز قراءةَ أبي عمرو لأنَّها خلافُ المصحفِ» . وقال أبو عبيد: «رأيتُهما في الإِمام مصحفِ عثمان» هذن «ليس فيها ألفٌ، وهكذا رأيتُ رفعَ الاثنين في ذلك المصحفِ بإسقاط الألفِ، وإذا كتبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء، ولا يُسْقِطونها» .
قلت: وهذا لا ينبغي أَنْ يُرَدَّ به على أبي عمرو، وكم جاء في الرسم أشياءُ خارجةٌ عن القياسِ، وقد نَصُّوا هم أنه لا يجوزُ القراءةُ بها فليكنْ هذا منها، أعني ممَّا خَرَجَ عن القياس. فإن قلتَ: ما نَقَلْتَه عن أبي عبيد مشتركُ الإِلزامِ بين أبي عمروٍ وغيرِه، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادةِ الياء يُعْترض عليهم بزيادةِ الألفِ: فإنَّ الألفَ ثابتةٌ في قراءتِهم، ساقطةٌ من خَطِّ المصحفِ. فالجواب ما تقدَّم مِنْ قولِ أبي عبيدٍ أنهم رآهم يُسْقِطون الألفَ مِنْ رفع الاثنين، فإذا كتُبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء.
وذهب جماعةٌ منهم عائشةُ رضي الله عنها وأبو عمروٍ إلى أن هذا ممّا لَحَنَ فيه الكاتبُ وأُقيم بالصواب.
يَعْنُون أنه كان مِنْ حقه أن يكتبَه بالياءِ فلم يفعلْ، فلم يقرَأْه الناسُ إلاَّ بالياءِ على الصوابِ.
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه:
أحدُها: أن «إنَّ» بمعنى نَعَمْ، و «هذان» مبتدأٌ، و «لَساحران» خبرُه، وكَثُرَ ورودُ «إنَّ» بمعنى نعم وأنشدوا:
3297 بَكَرَ العَواذِلُ في المَشِيْ. . . بِ يَلُمْنَني وأَلوْمُهُنَّهْ
ويَقلْن شَيْبٌ قد عَلا. . . كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
أي: فقلت: نَعَمْ. والهاءُ للسَّكْتِ. وقال رجلٌ لابن الزبير: لَعَن اللهُ ناقةً حَمَلَتْني إليكَ. فقال: «إنَّ وصاحبَها» أي: نعم. ولَعَنَ صاحبَها. وهذا رأيُ المبردِ وعلي بن سليمان في آخرين. وهو مردودٌ من وجهين، أحدهما: عدمُ ثبوتِ «إنَّ» بمعنى نعم، وما أوردُه مُؤَوَّلٌ: أمَّا البيتُ فإنّ الهاءَ اسمُها، والخبرَ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرُه: إنه كذلك. وأمَّا قولُ ابنِ الزبير فذلك مِنْ حَذْفِ المعطوفِ عليه وإبقاءِ المعطوف وحَذْفِ خبر «إنَّ» للدلالةِ عليه، تقديره: إنَّها وصاحَبها ملعونان، وفيه تكلُّفٌ لا يَخْفَى والثاني: دخولُ اللامِ على خبرِ المبتدأ غيرِ المؤكَّد ب «إنَّ» المكسورةِ، لأَنَّ مثلَه لا يقعُ إلاَّ ضرورةً كقولِه:
3298 أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوْزٌ شَهْرَبَهْ. . . تَرْضَى من اللحمِ بعظمِ الرَّقَبَهْ
وقد يُجاب عنه: بأنَّ «لَساحِران» يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ دَخَلَتْ عليه هذه اللامُ تقديرُه: لهما ساحران. وقد فعل ذلك الزجاج كما ستأتي حكايتُه عنه.
الثاني: أنَّ اسمَها ضميرُ القصةِ وهو «ها» التي قبل «ذان» وليست ب «ها» التي للتنبيهِ الداخلةِ على أسماءِ الإِشارةِ، والتقدير: إنَّ القصةَ ذانِ لساحران. وقد رَدُّوا هذا من وجهين، أحدهما: من جهةِ الخَطِّ، وهو أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن تُكتبَ «إنها» فيصِلوا الضميرَ بالحرفِ قبلَه كقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46] فكَتْبُهم إياها مفصولةً من «إنَّ» متصلةً باسمِ الإِشارة يمنع كونَها ضميراً، وهو واضح. الثاني: أنَّه يؤدِّي إلى دخولِ لامِ الابتداءِ في الخبرِ غيرِ المنسوخِ. وقد يُجاب عنه بما تقدَّم.
الثالث: أنَّ اسمَها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ، والجملةُ من المبتدأ والخبرِ بعدَه في محلِّ رفعٍ خبراً ل «إنَّ» ، التقديرُ: إنَّه، أي: الأمرُ والشأنُ. وقد ضُعِّفَ هذا بوجهين، أحدهما: حَذْفُ اسمِ «إن» ، وهو غيرُ جائزٍ إلاَّ في شعرٍ، بشرطِ أَنْ لا تباشرَ «إنَّ» فعلاً كقولِه:
3299 إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكنيسةَ يوماً. . . يَلْقَ فيها جَآذراً وظِباءَ
/ والثاني: دخولُ اللام في الخبرِ.
وقد أجابَ الزجَّاج بأنها داخلةٌ على مبتدأ محذوفٍ تقديرُه: لهما ساحران. وهذا قد استحسنه شيخُه المبردُ، أعني جوابَه بذلك.
الرابع: أنَّ «هذان» اسمُها، و «لَساحران» خبرُها. وقد رُدَّ هذا بأنه كان ينبغي أَنْ يكونَ «هذين» بالياءِ كقراءةِ أبي عمرو.
وقد أُجيب عن ذلك: بأنه على لغةِ بني الحارثِ وبين الهُجَيْم وبني العَنْبر وزُبَيْد وعُذْرَة ومُراد وخَثْعَم. وحكى هذه اللغةَ الأئمةُ الكبارُ كأبي الخَطَّاب وأبي زيد الأنصاري والكسائي. قال أبو زيد: «سمعتُ من العربِ مَنْ يَقْلِبُ كلَّ ياءٍ ينفتح ما قبلها ألفاً» ، يجعلون المثنى كالمقصورِ فيُثْبِتون ألفاً في جميع أحواله، ويُقَدِّرون إعرابَه بالحركاتِ، وأنشدوا قولَه:
3300 فأَطْرَق إطْراقَ الشُّجاعِ ولو يرى. . . مَسَاغاً لِناباه الشُّجاعُ لصَمَّما
أي: لنابَيْه. وقولَه:
3301 إنَّ أباها وأبا أباها. . . قد بَلَغا في المجدِ غايتاها
أي: غايتيهما، إلى غير ذلك من الشواهد.
وقرأ ابن مسعود: «أنْ هذان ساحِران» بفتح «أَنْ» وإسقاط اللامِ: على أنها وما في حَيِّزها بدلٌ من «النجوى» كذا قاله الزمخشري، وتبعه الشيخ ولم ينكره. وفيه نظرٌ: لأنَّ الاعتراضَ بالجملة القولية بين البدلِ والمبدلِ منه لا يَصِحُّ. وأيضاً فإنَّ الجملةَ القوليةَ مفسرةٌ للنجوى في قراءةِ العامَّة، وكذا قاله الزمخشريُّ أولاً فكيف يَصحُّ أَنْ يُجْعَلَ «أنْ هذان ساحران» بدلاً من «النجوى» ؟. اهـ (الدر المصون(2/721)
تقول: أجمعت الأمر والكيد، ومن وصل جعله منصولاً به لا غير.
قوله: (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) ، قيل: حال، أي مصطفين، وقيل مفعول به.
الغريب: هو موضع كانوا يجتمعون إليه في الأعياد.
قوله: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) : إلى موسى.
الغريب: إلى فرعون.
قوله: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) .
الهاء تعود إلى موسى، وإن كان متأخراً في اللفظ، لأنه متقدم في
الحكم من حيث أنه الفاعل، وليس يمتنع كما امتنع ضرب غلامُه زيداً، لأن
زيداً متأخر لفظا وحكماً، وقوئه: (ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ) جاز، وإن كان
متأخراً في الحكم لتقدمه في اللفظ.
قوله: (إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى) : في مقابلة قول السحرة: (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى) .
الغريب: إنما قال ذلك فرعون حين حرضهم، فقال لهم: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) الآية.
قوله: (تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا) : التأنيث للعصا وما نابت عنه.
الغريب: التاء للخطاب على طريق السبب.
وتقدير، "ما صنعوا" صنعوه، وكذلك قوله: (إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ) .
أي صنعوه، و " كيد" خبر "إن".
قوله: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) ، أي لا ينال الظفر، وقيل:(2/722)
يقتل حيث وجد، لقوله - عليه السلام -: " إذا رأيتم الساحر فاقتلوه ".
قوله: (برب هارون وموسى) .
قدم هارون على موسى مراعاة لرَوِي الآيات.
الغريب: قدم هارون، لأن فرعون كان رَبَّى موسى، فربما يتوهم
مترهم، أنهم عنوا "برب موسى" فرعون.
وذكر (أُلْقِيَ) بلفظ المجهول، أي لسرعة ما سجدوا، كأنَّهُمْ ألقوا.
قوله: (من خلافٍ) : اليد اليمنى والرجل اليسرى.
الغريب: (من خلافٍ) ، أي من سبب خلاف ظهر منكم.
قوله: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ)
أجعلكم على الخشب.
الغريب: يتركون على الخشب حتى يسيل منهم الصديد، وهو الودك.
و"في" بمعنى "على"، ولأنها صارت ظرفاً لهم ومستقراً.
قوله: (مَا أَنْتَ قَاضٍ) .
"مَا" مفعول به، والعائد محذوف، أي قاضيهِ.
الغريب: "مَا" للمدة، وكذلك قوله: (هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) يحتمل
الوجهين (وَالَّذِي فَطَرَنَا)
يجوز أن يكون عطفاً على "مَا" ويجوز أن يكون "قسماً".
قوله: (وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ) .
أي على عمله، وقيل: على علمه وعلى مقاتلتنا موسى به.
الغريب: "مَا" مبتدأ، جوابه محذوف، أي مغفور.(2/723)
العجيب: "مَا" نفى، وتقديره، خطايانا من السحر لم تكرهنا عليه.
وهو ضعيف، لأن ضمير المجرور لا يتقدم على المجرور.
قوله: (لَهُ جَهَنَّمَ) : يعود إلى "من"، وقيل: يعود إلى "ربه".
وقوله: (لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) ، سلب الوصفين على تقدير، لا
يموت موتاً فيستريح، ولا يحيى حياة فيجد لذة الحياة.
الغريب: لا يموت فتخرج نفسه، ولا يحيى فتستقر نفسه في مقرها.
ومن قوله: (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا) ، إلى قوله: (مَنْ تَزَكَّى) استئناف
كلام من الله.
الغريب: من تمام كلام السحرة.
قوله: (فاضرب لهم طريقاً) .
اتخذ طريقاً بضرب الماء بعصاك.
الغريب: ابن عيسى: (اضرب بعصاك) تجعل لهم طريقاً.
العجيب: هو كضرب الدرهم والدينار.
قوله: (لا تخافُ) قرىء: "لا تخفْ" بالجزم ولا خلاف من (ولا
تخشى) فذهب الأكثرون إلى: أنه استئناف كلام، أي: وأنت لا تخشى.
كقوله: (سنقرئك فلا تنسى) .
الغريب: حال، العجيب: الألف: الإطلاق موافقة لسائر الآيات:
قوله: (دَرَكاً) لحوقاً. أي لا يدركك فرعون.
الغريب: هشيم: الدرك، الوجل. حكاه النقاش.(2/724)
قوله: (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) .
(الباء) زائدة، أي ألحقهم فرعون جنوده، وقيل: (الباء) للحال، أي
مع جنوده.
الغريب: معناه، فلحقهم.
قوله: (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) ، أبْهَمَ تهويلًا وتعظيماً.
الغريب: نالهم ما عرفهم، والمعنى: غشيهم ما يعرفون، كقوله:
أنا أبو النجم وشعري شعري. . .
أي وشعري ما قد عرفتم.
الغريب: (فَغَشِيَهُمْ) ، يعني قوم فرعون، "مِنَ الْيَمِّ" ما غشى قوم
موسى فنجوا وهلكوا.
العجيب: (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ) ، قيل: (الْيَمِّ) يعني
الموت والهلاك، وقيل: غشيتهم ضبابة حالت بينهم وبين فرعون حين قالوا
(إنا لَمُدرَكون) .
قوله: (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) .
أي عن الدين، وما هداهم، وقيل: (وَمَا هَدَى) ، أي ما اهتدى وقيل:
ما هداه الله.
قوله: (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ) : أي ينزل، فيمن ضم، ومن كسر، فمعناه يجب.(2/725)
الغريب: أبو علي: هو من حل وبل، أي مباح غير محظور.
قوله: (فَقَدْ هَوَى) أي هلك.
الغريب: "هَوَى"، وقع في الهاوية، وتردى في النار.
قوله، (ثُمَّ اهْتَدَى) : أي ثبت على الهداية.
الغريب: "ثُمَّ"، يدل على التقديم.
العجيب: "ثُمَّ" يدل على أنه متعلق بالإخبار.
قوله: (وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ) .
استفهام، ومحل "مَا" رفع بالابتداء، و " أَعْجَلَكَ" خبره، "هُمْ" مبتدأ.
"أُولَاءِ" خبره.
قوله: (عَلَى أَثَرِي) : صلة، وقيل: حال، وقيل: خبر بعد خبر.
قوله: (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) .
أي بدعائه إياهم إلى عبادة العجل، وإجابتهم له، والسامري كان رجلاً
من بني إسرائيل.
قال ابن عباس: كان من القبط جارا لموسى، آمن به، وكان
ابن عم موسى.
الغريب: قال أبو حمزة الثمالي: سمي السامري، لأنه كان من
أرض يقال لها سامرون.
العجيب: سعيد بن جبير: كان السامري من كِرمان، وعن ابن(2/726)
عباس، أيضاً: كان من أهل باحرصا، واسمه موسى بن ظفر، وكان قومه
يعبدون البقرة.
قوله: (فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) .
أي خالفتموني فيما تواعدنا عليه.
الغريب: المفضل: هو من قول العرب، فلان أخلف وعد فلان إذا
وجده وقع فيه الخلف.
قال الشيخ الإمام، ومن العرب: يحتمل أخلفتم ما وعدتمونيه من
التمسك بدين الله وسنة موسى، فيكون المصدر مضافاً إلى المفعول، وعلى
الأول مضافاً إلى الفاعل.
قوله: (أوزاراً) : أي أثقالاً، وكانوا قد استعاروا من القبط حليا
كثيراً ليوم زينة لهم، فبقيت معهم، وقيل: أمرهم موسى بذلك، وقيل:
أمرهم الله به، وهو الغريب.
ومن الغريب: (أوزاراً) جمع وِزْر، وهو الإثم، لأنَّا استعرناها منهم.
ثم لم نردها عليهم.
قوله: (جَسَدًا) : أي لحما ودماً.
وقيل: مزعفراً من الجُساد، وهو الزعفران.
قوله: (لَهُ خُوَارٌ) ، صوت، وقيل: ما خار إلا مرة واحدة.
(فَنَسِيَ) هو من تمام كلام السامري، وقيل: استئناف، أي نسي السامري الله ورسوله.(2/727)
قوله: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا) : أي يجيبهم.
الغريب: لا يخور ثانياً، و "أن" مخففة من المثقلة، وهي لا تلي الفعل
المستقبل إلا بواسطة.
قوله: (يَبْنَؤُمَّ) .
الجمهور على أنه كان أخاه من أبيه وأمه، وذكر الأم استعطافا وترقيقا.
الغريب: كان أخاه لأمه.
العجيب: قال الزجاج: وقد قيل: إن هارون لم يكن أخا موسى
لأمه. وقد تقول العرب لمن ليس بأخ له: يا بن أم، وكذلك: يا بن عم.
قوله: (لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي) ، ابن عباس: أخذ شعر رأسه
بيمينه ولحيته بشماله. فذهب قوم إلى أن أخذ اللحية في ذلك الوقت كأخذ
اليد في وقتنا.
وقيل: كانا كشخص واحد، فسيان أخذ لحيته ولحية أخيه، -
والإنسان قد يأخذ لحيته عند الغضب، وعند الأمر يستقبله، وكان عمر إذا
غضب فتل شاربه.
العجيب: معناه، ولا تخاطبني، وخاطبهم، كما تقول: دعني وخل
لحيتي ورأسي، وهو لم يأخذ بلحية ولا برأس، وهذا يدفعه، "وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ". وموسى - عليه السلام - غضب في الله، ففعل في غضبه ما فعل.
قوله: (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) .(2/728)
أي من أثر حافر فرس الرسول، فحذف المضاف مرة بعد أخرى.
وذلك أنه رأى جبربل راكبا فرس الحياة، فأخذ من تراب حافره قبضة يحيى
بها الجماد.
الغريب العجيب: "الرسول" موسى، و "القبضة" ما أخذ من علمه وأثر
شرعه وسنته. واتخذت عجلا، وقوله "الرسول" أي بزعمه وزعم قومه.
قوله: (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا) .
أي بالنار (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ) نثير رماده، وهذا فيمن صار لحماً ودما، يقويه قراءة: أبي: لنذبحنه ثم لنحرقنه ثم لَنسفنه.
ومن قال: بقي ذهباً، جعل معناه لنبردنه بالمِبرد، فَعَّل من حَرَّقْت بدليل قراءة من قرأ لنَحرُقنه - بضم الراء -.
قوله: كذلكَ تقُصُّ) .
أي كما قصصنا عليك قصة موسى، "كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق.
الغريب: بهذا البيان نقص عليك أخبار من قد سبق.
قوله: (ذكراً) يريد القرآن، وقيل: شرفاً.
(عنه) : يعود إلى الذكر، وقيل: إلى الله.
قوله: (فيه) : أي في جزائه، فحذف المضاف، و "خالدين"
نصب على الحال، وجمع حملاً على معنى "من" ووحد في قوله: (فإنه
يحمل) حملاً على لفظه، وله نظائر.(2/729)
قوله: (وساء لهم يوم القيامة حملاً)
الذنوب.
وقوله "لهم" يجوز أن يكون حالاً من الحمل المضمر في ساء.
ويجوز أن يكون صفة للحمل المذكور فتقدم فصار حالاً.
قوله: (في الصور) : وهو شبه قَرْن.
الغريب: جمع صورة.
وقوله (زُرْقًا) ، هو زرقة العيون، والعرب تتشاءم بزرقة العين.
وقيل: (زُرْقًا) أعداء، والعرب تقول: عدو أزرق.
الغريب: (زُرْقًا) عطاشا، وكذلك تصير العين من شدة العطش.
العجيب: زرقة العين، كناية عن العَمى.
قوله: (فقل) : خلاف سائر القرآن، لأن التقدير، لو سئلت عنها
فقل.
قوله: (به علماً) : أي بما بين أيديهم.
الغريب: بالله، أي لا يحيطون بذاته - سبحانه - علماً.
قوله: (فَنَسِيَ) : أي سها، وقيل: فترك أمر الله.
قوله: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) ، أي عزما على المعصية. لأنه سها، وقيل: ولم يكن من أهل العزيمة.
الغريب: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) في العود إلى الذنب ثانياً.
العجيب: أن حواء أكلت ولم بصبها شيء، ثم أبت أن يجامعها إلا أن
يأكل منها فأكل.(2/730)
قوله: (فتشقى) : الخطاب لآدم بناء على قوله: (عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ) والمراد به شقاء الدنيا لا يُرَى ابن آدم إلا ناصباً، الفراء: هو أن يأكل من
كد يده.
قوله: (وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ) .
من كسره جعله استئنافا، ومن فتحه عطفه على اسم إن، ومحله نصب.
وقيل: رفع لأن العطف بعد الخبر جاز فيه الوجهان.
قوله: (فغَوى) : أي خاب ما كان يظن أن يناله بأكل الشجرة
من الخلود، وقيل: جهل، وقيل: ضل عما أمر.
العجيب: بَشِمَ من أكل الشجرة، وفيه بعد، لأن ذلك على
فعِلَ - بالكسر -.
قوله: (مَعِيشَةً ضَنْكًا) .
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " عذاب القبر، يضيق على قبره" وقيل: حراما خبيثاً، وقيل: ضنكاً، أي في النار.
قوله: (أعمى) أي أعمى البصر.
الغريب: أعمى عن الحجةِ.
قوله: (أفلم يهدِ) .
فاعل "يهد" عند بعضهم المصدر، أي أفلم يهد الهدى، وعند بعضهم
إهلاكنا، ودل عليه: (كم أهلكنا) .
قال الشيخ الإمام: الغريب: يحتمل أن فاعله هو الله - عز وجل -
بدليل قراءة يعقوب: "أفلم نهد" - بالنون -.
__________
(1) الشم: التخمة عن الدسم اللسان مادة "بَشِمَ".(2/731)
العجيب: فاعله "كم"، وهو خطأ عند البصريين، لأن كم
للاستفهام، فلا يعمل فيه ما قبله، لا فاعلا ولا مفعولا، و "كم" نصب
ب (أهلكنا) ، والمميز محذوف، أي كم قرناً.
قوله: (زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) .
قال الزجاج: نصب بفعل مضمر دل عليه "متعنا"، لأن معنى:
متعنا، جعلنا.
الفراء: نصب على الحال، واعتذر عن التعريف.
الغريب: بدل من الهاء في "به" على المحل.
ومن الغربب: فحذف التنوين من "زَهْرَةَ" لالتقاء الساكنين، و "الْحَيَاةِ" بدل من "مَا".
العجيب: (زَهْرَةَ) بدل من "مَا" على الموضع، وكلا القولين خطأ، لأن
قوله: "لنفتنهم" متصل بصلة "مَا" فلا يجوز البدل إلا بعد تمام الموصول
بصلته.
قوله: (مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ) .
مبتدأ وخبر ومحله نصب، والعلم معلق عمل في المحل.
قال الفراء: يجوز أن يكون "من" نصباً كقوله: (يعلم المفسد من
المصلح) ، وهذا خطأ، لأن "من" لو كان موصولاً، لكانت بعده صلة.
الغريب: ((مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ) من لم يضل، و "مَنِ اهْتَدَى"
من ضل ثم اهتدى.
العجيب: قرىء في الشواذ: أصحاب الصراط السَّوْءِ.
و"الَسَّوْءِ" مراعاة للازدواج - والله أعلم -.(2/732)
سورة الأنبياء
قوله تعالى: (حِسَابُهُمْ) .
فاعل: (اقْتَرَبَ) ، ولا يجوز إسناده إليه، فتقول: اقْتَرَبَ حِسَابُهُمْ لِلنَّاسِ.
لأن ضمير المجرور لا يتقدم عليه.
قوله: (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)
الواو للحال ولا بد منه، وذو الحال الناس، وكذلك قوله: (وَهُمْ يَلْعَبُونَ)
حال من الضمير في "اسْتَمَعُوهُ"، ولا بد من الواو، وقوله: (لَاهِيَةً) حال بعد
حال، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في (يَلْعَبُونَ) ، و"قلوبهم" رفع بما
في "لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ" من معنى الفعل، وقرىء، (لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) على تقدير
تلولهم لامية وتكون الجملة حالاً.
قوله: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) .
أي كتموها، وقيل: أظهروها.
وقوله: (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من الواو في "أسروا"، وقيل: هم الذين ظلموا، فهو خبر مبتدأ محذوف، وقيل: محله نصب بإضمار أعنى.
الغريب: يجر بالبدل من الناس، وذهب جماعة إلى أن هذا على
لغة من يقول: أكلوني البراغيث.(2/733)
قال:
يَلُوْمونني في اشتراء النَّخي. . . لِ أهلي فكلُّهُمُ أَلْوَمُ
العجيب: رفع بالابتداء، والخبر مقدم، أي والذين ظلموا أسروا
النجوى.
وقيل: "الذين ظلموا" رفع بالابتداء، وخبره مضمر، أي قالوا: هل
هذا.
ومن الغريب: "الذين ظلموا" رفع بإضمار القول، و "أسروا" يدل
عليه، وأسروا النجوى وقال الذين ظلموا.
قوله: (يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) .
"في" متعلق بالقول، أي ما يقال فيهما.
الغريب: متعلق ب "يعلم".
قوله: (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) .
موضع - "بل " لإثبات الثاني والإضراب عن الأول، وما كان في حق الله
- سبحانه -، فلتمام الكلام الأول، والابتداء بالثاني، وعليه قوله: (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) ، وأما الثاني والثالث، فيحتملان وجهين:
أحدهما: أنهما من كلام الله فيكون حكمه كالأول.
والثاني: أن يكون من كلامهم على الحكاية فيكون من الوجه الذي هو موضوعه.
قوله: (أَهْلَ الذِّكْرِ) : أي الكتب المتقدمة.
الغريب: "الذِّكْرِ" العلم بأخبار من مضى من الأمم، وقيل: من آمن من(2/734)
أهل الكتاب.
ومن الغريب: علي - رضي الله عنه - "نحن أهل الذكر"
يعني المؤمنين، والسؤال شفاء من الجهل.
قوله: (لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ)
الإيمان كما سُئِلْتموه قبل نزول العذاب، وقيل لعلكم تسألون فتجيبوا عما تشاهدون، قتادة: هذا على وجه السخرية والاستهزاء، الحسن: يعذبون، و " لعل" من الله واجب.
الغريب: مجاهد: لعلكم تفقهون بالمسألة.
الكلبي: هم أهل حصوراء من اليمن، أرسل الله إليهم نبياً فكذبوه، ثم قتلوه، فأرسل الله عليهم بختنصر، فقاتلوه فهزمهم، فمروا على دورهم ولم يلتفتوا إلى شيء منها، فردتهم الملائكة حتى رجعوا إليها ودخل عليهم بختنصر فأهلكهم، والملائكة يقولون: يا ثارات فلان، يسمونه، فلما سمعوا ذلك، قالوا، (يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) : فعلى هذا يجوز لعلكم تسألون مالا وخراجاً.
(حَصِيدًا) : محصوداً، وفعيل، قد يقع للجمع، وقيل: مصدر.
قوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا) .
الحسن: زوجة، ردٌّ على من قال: مريم صاحبته.
الزجاج: الولد بلغة حضرموت، ردٌّ على من قال: عيسى ابن مريم، وقيل: رد على(2/735)
المشركين، ما أضافوا إليه من الشبه في الأصنام، وقيل: هو اللغو بعينه، وهو صرف الهم عن النفس بفعل القبيح.
قوله: (مِنْ لَدُنَّا) ، من عندنا.
الغريب: "لَاتَّخَذْنَاهُ" بحيث لا يَطلع عليه أحد، لأنه نقص وستره
أولى.
السدى: من السماء لا من الأرض.
وقوله: (إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ)
قيل: شرط، جوابه محذوف، وقيل: معنى " إن"، "مَا" أي ما كنا فاعلين.
قوله: (لَا يَسْتَكْبِرُونَ) : حال، وقيل: خبر، "وَمَنْ عِنْدَهُ"
مبتدأ.
وقوله: "وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ"، مثل الأول.
قوله: (اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) : منصوبان بقوله: (يُسَبِّحُونَ) .
الغريب: "اللَّيْلَ" منصوب بقوله: (يُسَبِّحُونَ) و "النَّهَارَ" بقوله: "لَا يَفْتُرُونَ"، أي عن الأعمال التي يأمرهم الله بها.
والوجه: هو الأول، لأن عملهم لا يمنعهم عن التسبيح، كما لا يمنعنا عن النفس وطَرْف العين.
قوله: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) .
أي غير الله، وإِلَّا" يوضع موضع "غير"، فيصير وصفا، كما أن غير
يوضع موضع (إِلَّا) فاستثنى به، والمعنى: لو كان فيهما آلهة إلا الله. كما
تقول له عندي كلام غير جارية، أي لا جارية، وحمله على البدل وعلى
الانفراد كفر، لأن مع البدل يصير المعنى: لو كان فيها الله تعالى لفسدتا.
ومع الانفراد، يصير المعنى: لو كان فيهما آلهة منفردة عن الله، فيؤدي إلى
إثبات الآلهة مع الله.
قوله: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) .
أي لا اعتراض عليه في فعله.(2/736)
الغريب: لا يسأل عما يفعل، فإن جميع أفعاله صواب.
قوله: (كَانَتَا رَتْقًا) .
أي السماوات كانت متصلة بالأرض، "فَفَتَقْنَاهُمَا" بالهواء، وقيل: كانت
السماء واحدة ففتقناها وجعلناها سبعاً، وكذلك الأرض، وقيل: ففتقنا
السماء، أي سماء الدنيا بالمطر، والأرض بالنبات.
الغريب: "كَانَتَا رَتْقًا" بالظلمة لا يرى ما فيها، ففتقناهما بالنيرات.
حكاه ابن الهيضم. والرتق مصدر فلم يثن.
قوله: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) ، أي خلقنا من الماءكل
ذي روحٍ.
الغريب: الماء، النطفة، والدجاجة وإن باضت، فلا يخرج من بيوضها
فراريج، ما لم يكن من نطفة الديك.
العجيب: معناه، حياة كل شيء بالماء المشروب.
وهذا يستدعي أحد ثلاثة أوجه:
إمْا أن نجعل " جعل " متعدياً إلى مفعولين، فيصير " (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) حياً، وقد قرىء به في الشواذ.
وإما أن يضمر فيه
المضاف على تقدير، وجعلنا من الماء حياة كل شيء حي.
وإما أن يجعل الماء للأصل، والمراد منه "الماء" وما خلق منه كالنبات والشجر واللحم، بواسطة النبات، وغير ذلك مما يطول تعداده، بل لا يعلمه إلا الله.
قوله: (فِيهَا فِجَاجًا) : أي في الأرض.
الغريب: في الرواسي وهىِ الجبال.
قوله: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ)
ابن عباس: الفلك: السماء غيره،(2/737)
الفلك: موج تحت الماء تجري فيه النيرات.
وقيل: "فِي فَلَكٍ" دوران.
الغريب: الفلك، القطب الذي تدور عليه النجوم، وقيل: الفلك.
جرم مستدير، ولكل واحد من السيارات فلك، وفلك الأفلاك يحركها حركة واحدة من المشرق إلى المغرب كل يوم بأمر الله - سبحانه - وهو يدور دور الكرة.
الغريب: يدور دور الرحى - والله أعلم -.
وجمع (يسبحون) ؛ لأنه لما وصف غيرالعقلاء بفعل العقلاء أجري
مجراهم.
العجيب: لها حياة وعقل، وليس ذلك بالمعتقد.
ومن العجبب: قوله: (كُلٌّ فِي فَلَكٍ) ثلاث كلمات على التوالي، يمكن قراءتها مقلوبة، ونظيرها من القرآن "ربك فكبر" وهذا كما ذكر هدى الله، وقيل: أرانا الإله هلالا أنارا، وأشباه ذلك، وإنما نبهتك على هذا لتعلم أن القرآن بألفاظه وبمعانيه مشتمل على كل دقيق وجليل، وأن: (لَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)) .
قوله: (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) .
نزلت حين قالوا (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)
و (الفاء" الأول للعطف والثاني: لجزاء الشرط، وألف الاستفهام له صدر الكلام.
ومذهب الأخفش: أن "الفاء" الثاني زيادة، وأن ألف الاستفهام إذا دخل الشرط منع الجزم من الجزاء، ويصير في النية مقدما تقول: إن تأتني آتيك، أي آتيك إن تأتني.(2/738)
قوله: (فِتْنَةً) : نصب على المصدر، وقيل: مفعول له.
قوله: (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ)
متصل بفعل مضمر، أي يقولون، ومحله نصب على الحال.
قوله: (هُمْ كَافِرُونَ)
قيل: زيدَ للتأكيد، وقيل: لما حيل بالمصدر بينهما أعيد.
قوله: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) .
وصف بالمبالغة في العجل، كما تقول: خلق فلان من الكرم، وخلق
فلان من اللؤم، إذا كثر ذلك منهما، ومثله: (وكان الإنسان عجولا) .
الأخفش: "مِنْ عَجَلٍ"، لأنه قال الله له: كن فكان.
أبو عمرو: هذا على طربق القلب، أي خلق العجلة من الإنسان.
الغريب: " الإنسان " آدم.
مجاهد هو: أن آدم لما دخل الروح رأسه وعينيه، رأى الشمس قاربت الغروب، قال: رب عجل تمام خلقي قبل أن تغيب الشمس.
سعيد: لما بلغت الروح ركبتيه كاد يقوم، فقال الله: (خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ) .
ابن زيد: خلقه آخر يوم الجمعة على عجلة في خلقه.
والعجلة والعجل مصدران، والعجلة فعل الشيء قبل وقته.
العجيب: الحسن: "مِنْ عَجَلٍ"، أي ضعف، يعني النطفة، وقيل:
العجل الطين، أنشد أبو عبيدة:
النبعُ في الصخرةِ الصماءِ منبِتهُ.
والنخل منبته في السَهلِ والعَجَل(2/739)
وقيل: نزلت في النضر بن الحرث حين استعجل العذاب.
قوله: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) .
"مَتَى" رفع عند البصريين بالابتداء والخبر، نصب عند الكوفيين.
قوله: (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) .
جوابه محذوف، أي لعلموا صدق الموعود، وقيل: لما استعجلوه.
قوله: (نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) .
نفتحها على محمد، ونخرجها من أيدي المشركين، وقيل: نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا: نميت الواحد بعد الواحد، والقرن بعد القرن.
الغريب: جاء مرفوعاً، "نقصانها موت علمائها".
العجيب: نقصانها جور ولاتها.
قوله: (الْمَوَازِينَ) : جمع ميزان، وقيل: جمع موزون، وقد سبق.
قوله: (فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) ، من حقها.
الغريب: "شيئاً" من الظلم، فهو نصب على المصدر.
قوله: (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ) ، أي وإن كان شي "مِثْقَالَ" وقرىء:
"مِثْقَالُ" - بالرفع. أي وإن يقع مثقال حبة.
قوله: (وَضِيَاءً)
ابن عباس: "الواو" زيادة، وهكذا قرىء بغير واو.
وقيل: تقديره، وآتيناه ضياء.(2/740)
الغريب، المصدر واقع موقع الصفة، أي ذا ضياءِ، والصفة قد تدخلها
الواو للعطف.
قوله: (أنزلناه) : خبر بعد خبر، أو صفة للخبر.
قوله: (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) .
أي وأنا شاهد عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ.
وقيل: الألف واللام إذا كان للتعريف جاز تقديم ما بعده عليه، وقيل: للتبيين، أي من الشاهدين، أعني على ذلك.
وقوله: (وَتَاللَّهِ)
"التاء" بدل من الواو، وخص اسم الله به في القسم. وقد سبق.
قوله: (لعلهم إليه)
قيل: إلى الكبير، وقيل: إلى الله - سبحانه -، وقيل: إلى إبراهيم فيُحاجوه.
الغريب: إلى الجد.
قوله: (من الظالمين) : بهذا الفعل.
الغريب: من الظالمين لنفسه، لأنه إن عُلِمَ بِهِ قُتِل.
قوله: (يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) .
أي يسمى ويعرف به، و"إبراهيم" رفع على الخبر، أي هو إبراهيم.
الغريب: إِبْرَاهِيمُ ضم، أي يقال له في النداء يا إبراهيم.
قوله: (فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ) .
كرهوا أن يأخذوه بغير بينة.
وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) ، عليه بفعله أو بقوله، وقيل: معناه لعلهم يشهدون ما نفعله به من العذاب فينكل غيره عن مثل فعله.
ومعنى: (عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ) ظاهراً، وقيل: على رؤية أعين
الناس، فحذف المضاف.
قال أبو علي: الغريب: (أَعْيُنِ النَّاسِ) ، خواص الملك وأولياؤه.(2/741)
قوله: (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) .
حمله جماعة على الشرط، أي فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون، وقوله:
(فَاسْأَلُوهُمْ) اعتراض، وقيل: كذب إبراهيم، وجاء مرفوعاً: لإبرأهيم
ثلاث كذبات: قوله: (فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) ، وقوله: (إني سقيم) ، وقوله في
سارة: هذه أختي.
وأوله جماعة، وقالوا: معنى الخبر، أي ثلاثة أشياء ظاهرة
أشبه الكذب عند من لا يعرف معناه. وذهب جماعة إلى أن الكلام تم على
قوله: (بل فعله) أي فعل من فعل، و "كَبِيرُهُمْ" ابتداء، و "هذا" خبره.
قال الشيخ الإمام: يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: أن إبراهيم أسند الفعل إلى الفتى في قولهم: "سمعنا فتى يذكرهم"، أي يَعْنيهم "يقال له إبرإهيم".
والثاني أسنده إلى إبراهيم في قولهم: (يا إبراهيم) .
العجيب: أذِنَ الله له في ذلك لما فيه من الاحتجاج، كما أذن ليوسف
في قوله: (إنكم لسارقون) ، وقيل: هذا إلزام، أي ما ينكر أن يكون
فعله كبيرهم، وليس بإخبار.
قوله: (أنتم الظالمون) : إذ لم يحفظوا الأصنام من مثل ما فعل
بها.
قوله: (قَالُوا حَرِّقُوهُ) : عن ابن عمر: إن الذي أشار بتحريق
إبراهيم، كان رجلاً من أعراب فارس، أي أكرادها، يسمى: هبون
خسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وهب: قاله نمرود. ثم إنهم أججوا ناراً عظيمة ورَمَوه فيها، وهو يقول: حسبي الله(2/742)
ونعم الوكيل، فاستقبله جبريل، فقال" يا إبراهيم، ألك حاجة، قال: أما
إليك فلا، فقال جبربل: سل ربك، قال إبراهيم: حسبي من سؤالي علمه
بحالي، فقال: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
وروى ابن عباس: أنه قال: لو لم يتبع بردها سلاما لمات إبراهيم من بردها.
الغريب: الحسن: هو تسليم من الله على إبراهيم.
قال النقاش: لو كان كما قال الحسن لكان رفعاً.
قال الشيخ الإمام: ولا يدفع تأويل الحسن لكونه منصوباً، لأن المعنى: سلم الله عليه سلاماً، كما في قوله: (قالوا سلاماً) أي سلموا سلاماً.
وقوله: (بَرْدًا وَسَلَامًا) .
نصب على الحال، وكان بمعنى وقع، وقيل: "كان" بمعنى: صار.
قوله: (ونجيناه ولوطاً) .
الظاهر أن "لوطاً" عطف على "الهاء" الذي هو ضمير المنصوب.
الغريب: الزجاج: وأرسلنا لوطا.
قوله: (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
هي أرض الشام عند الجمهور، قالوا: وسميت مباركة لكثرة المياه والأشجار، قال بعضهم: إن الماء العذب ينزله الله من السماء إلى صخرة بيت المقدس، ومها يتفرق في سائر الأرض.
الغريب: عن ابن عباس أيضاً: الأرض التي باركنا فيها مكة.
قوله: (وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً) .(2/743)
قيل: عطية، فيعود إلى إسحق ويعقوب، وقيل: "نَافِلَةً" زيادة، فيعود
إلى يعقوب، أي سأل ولداً فأعطيناه إسحق وزدناه يعقوب من غير مسألة.
وقيل: النافلة ولد الولد، أي وهبنا له إسحق ولداً ويعقوب ولد ولدٍ.
الغريب: "نَافِلَةً" مصدر من غير لفظ الهبة، أي وهنا له إسحق
ويعقوب هبة.
قوله: (ولوطاً) : أي آتيناه لوطاً، ودل عليه "آتيناه "، وقيل:
وأرسلنا لوطاً، وقيل: واذكر لوطاً، وكذلك من بعده من الأنبياء - عليهم
السلام -.
قوله: (ونصرناه من القوم) .
أي عليهم، وقيل: معناه: انتقمنا من القوم، وقيل: منعناه منهم.
قوله: (لِحُكْمِهِمْ) : بعد قوله: (يَحْكُمَانِ) محمول عليهما
وعلى الخصمين.
الغريب: يعود إلى القوم في قوله: (غَنَمُ الْقَوْمِ) .
العجيب: ذكر بلفظ الجمع، كما ذكر في قوله: (فإن كان له
إخوةٌ) .
قوله: (فَفَهَّمْنَاهَا) : أي القضية، وقيل: القيمة.
قوله: (وَالطَّيْرَ) عطف على الجبال، وقيل: مفعول معه. وقوله:
(وَكُنَّا فَاعِلِينَ) ، أي قادرين على ذلك.
قوله: (صَنْعَةَ لَبُوسٍ) .
أي الدرع، وهو أول من عملها، وكان قبل ذلك صفائح.
الغريب: اللبوس: السلاح كله من درع وسهم وسيف.(2/744)
قوله: (لِتُحْصِنَكُمْ)
"النون" لله - سبحانه - "والياء"، لله أو اللبوس.
و"التاء" للصفة أو الدرع على المعنى.
قوله: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً) .
أي شديدة الهبوب، وقال في الأخرى: (رُخاءً) ، أي تجري على
مراده عاصفة أراد أو رُخاءً، وكان يغدو مسيرة شهر من الشام ويروح إليها
مسيرة شهر.
الغريب: وجد مكتوبا في منزل بناحية دِجلة "نحن نزلناه وما بيناه.
ومبنياً وجدناه، غدونا من اصطخر فقِلْناه، ونحن رائحون منه إليها إن شاء
الله "، فزعموا أن أصحاب سليمان كتبوه.
قوله: (وأيوبَ) .
"أوحى الله إلى أيوب: تدري ما ذنبك عندي حتى ابتليتك، قال: لا يا
رب، قال: دخلت على فرعون فأدهنت بكلمتين (1) .
وروى أنه مطر على أيوب
جراد من ذهب، فجعل يجمعه ويجعله في ثوبه، فقال يا أيوب أما تشبع.
فقال: ومن يشبع من رحمتك.
قوله: (وإدريسَ) : هو أخنوخ.
قوله: (ذا الكفل) قيل: هو إلياس. وقيل: هو يوشع بن نون، وقيل: هو نبي واسمه ذو الكفل، وقيل: كان رجلًا صالحاً تكفل بأمورٍ فَوفى بها، والكِفل، الكفالة، والكِفل: الحظ.
الغريب: الكفل: الجبل، وكان رجلاً صالحاً يعبد الله في غار.
العجيب: هو زكريا، من قوله: (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ، (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) .
قوله: (أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) .
__________
(1) لا أصل له.(2/745)
أي نضيق، وقيل: لن نقدر عليه من القدَر - بالفتح -، وقيل: أفَظَن.
- بالاستفهام -.
فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
قوله: (سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)
عن سعيد بن المسيب يرفعه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اسم الله الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى، دعوة يونس النبي " قال الراوي: قلت: يا رسول الله له خاصة، قال: "له خاصة ولجميع المؤمنين عامة إذا دعوا بها، ألم تسمع قول الله ": (وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) . وعن النبي - عليه السلام -: "أن يونس لما استقر به الحوت في قرار البحر، حرك رجليه، فلما تحركا سجد مكانه، وقال: رب اتخذت لك مسجدا في موضع لم يتخذه أحد".
قوله: (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) في المصحف بنون واحدة، وفي ابن عامر
وأبو بكر عن عاصم - بالتشديد - وغيرهما - بالإخفاء، واختلف النحاة في
قراءة ابن عامر، فقال بعضهم: هو خطأ، وهذا القول عند الفراء، إقدام
عظيم، لأن من عرف الأسانيد، عرف أن هذا ثبت بطرق ثبت بها جميع
القرآن، فلا يمكن دفعه، وقال بعضهم: هو إخفاء ولا إدغام. وهذا القول
مردود أيضاً، إذ لو كان كذلك لم يكن فيه خلاف، وقال بعضهم: تقديره.
نجْي النجا المؤمنين، فسكن الياء وأقيم المصدر مقام اسم المجهول، وهذا
بعيد، من وجهين:
أحدهما: تسكين الياء من غير موجب.
والثاني: إقامة المصدر مقام الاسم مع وجود المفعول به، وبابه الشعر.
قال:
ولو وَلَدتْ قُفَيْرةُ جرو كَلْبٍ. . . لَسُبَّ بذلك الجروِ الكلابَا(2/746)
وقريب من هذا قراءة يزيد: "وَيُخْرَجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا" على أحد
الوجهين وكذلك قراءته "لِيَجْزِيَ قَوْمًا".
الغريب: قال الشيخ الإمام: يحتمل، أن الأصل: "ننجي"، فحذف
النون الثاني، وحذف النون يكثر في الكلام.
قوله: (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) .
أي أنت خير من يرث العباد من الأهل والأولاد.
الغريب: معناه: إن رزقتني ولياً يرثني، وإن لا فأنت خير الوارثين.
قوله: (إِنَّهُمْ) : أي زكريا ويحيى وأمه.
الغريب: هم الذين تقدم ذكرهم.
قوله: (رَغَبًا وَرَهَبًا) أي رَغَبًا في الثواب، ورهباً عن العقاب، وقيل:
رَغَبًا في الطاعة ورهباً عن المعصبة.
الغريب: "رَغَبًا" ببطون الأكف و"رهبا" بظهور الأكف.
قوله: (فَنَفَخْنَا فِيهَا) .
في نفس مريم.
سؤال: لِمَ قال في هذه السورة: "فِيهَا" وفي التحريم
"فِيهِ"؟
الجواب: لأن في هذه السورة ذكر معها ابنها، والنفخ عم
جميع بدنها عند حمله ووصفه، وفي التحريم اقتصر على ذكر إحصانها.
فاقتصر على النفخ في الجيب.(2/747)
قوله: (آيَةً) ، أي قصتهما آية، وقيل: تقديره، وجعلناها آية وابنها
آية، فاقتصر على ذكر أحدهما.
قوله: (أُمَّةً وَاحِدَةً) .
حال، أي في حال اجتماعها على الحق، فإذا تفرقوا عنها، فلا.
قوله: (مِنَ الصَّالِحَاتِ) : للتبعيض، أي شيئاً منها، وقيل: صلة.
قوله: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) .
إلى الإيمان والتوبة.
وقيل: والمعنى، حرام عليهم رجوعهم.
أبو علي: وحرام على قرية أهلكناها بأنهم لا يرجعون ثابت.
الغريب: معنى الحرام، العزم، أي عزم عليهم ترك الرجوع إلى
الدنيا، ومن الغريب: هو متصل بقوله: (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) وحرام
عليهم أن لا يرجعوا.
قال الشيخ الإمام: ويحتمل أنه متصل بقوله: (فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ) .
وحرام ذلك على الكفار لأنهم لا يرجعون إلى الإيمان.
قوله: (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) : يعني يأجوج ومأجوج، وهم
جمعان.
الغريب: "هم" يعود إلى جميع الخلق.
قوله: (وَاقْتَرَبَ) : قيل: الواو زائدة، وهو جواب: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ) ، وقيل: الجواب مضمر، وهو قالوا، أي قالوا: يا ويلنا، وقيل:
جوابه مضمر، أي رجعوا.(2/748)
الغريب: جوإبه "فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ " أي شخصت أبصار الذين كفروا.
قوله: (فَإِذَا هِيَ)
"إذا" للمفاجأة، وهي من ظروف المكان، تقول:
خرجت فإذا زيد بالباب، وهي كناية عن الساعة، ويحسن الوقف عليها.
وأبصار الذين كفروا بالابتداء، والخبر "شَاخِصَةٌ" تقدم عليه، ويجوز
ارتفاعها، ب "شَاخِصَةٌ" عند الأخفش، لأنه يجيز إعمال اسم الفاعل، من غير استناد إلى شيء.
قوله: (وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) .
أي الأصنام، الحسين بن الفضل: لو أراد الناس لقال من يعبدون.
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى)
عيسى وعزير والملائكة.
الغريب: هم جميع المؤمنين.
قوله: (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) .
"السجل" الصحيفة، وقوله: (للكتاب) أي على ما كتب فيه، وقيل:
لأجل ما كتب فيه، والظاهر، أن المصدر الذي هو الطي مضاف إلى
المفعول، ويجوز أن يكون مضافاً إلى الفاعل، أي كاشتمال السجل على ما
فيه، وقيل: السجل: ملك.
الغريب: السجل: عن ابن عباس: كاتب كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
العجيب: السجل: الرجل بلغة الحبشة، وعلى هذه الوجوه، المصدر
مضاف إلى الفاعل.
قوله: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) ، الكتاب متصل ب "نُعِيدُهُ"، أي(2/749)
نُعِيدُهُ إعادة كما بدأنا.
قوله: (وَعْدًا) نصب على المصدر من غير لفظ الأول؛ لأن الإعادة وعد.
قوله: (عَلَيْنَا) : أي علينا إنجازه.
قوله: (إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) ، أي لا خلف لوعدنا، وقيل: إنا فعلنا أولاً وآخراً، لا فاعل للخلق غيرنا.
قوله: (فِي الزَّبُورِ) .
أي في كتب الله، وقيل: في زبور داود.
(مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) ، من بعد أن كتب في اللوح، وقيل: من بعد التوراة، وقيل: كتب في زبور داود
وقيل: القرآن، ومثله عند بعضهم: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) .
ومثله في الظروف "وراء" يستعمل كـ " قدام"، و "خلف".
قوله: (عَلَى سَوَاءٍ) .
قيل: صفة مصدر محذوف، أي إيذاناً على سواء، وقيل: حال للفاعل
عدل، وقيل: حال من المفعولينَ، أي سَّويتكم في الإعلام لم أخْفِ عن
بعضكم شيئاً، فأظهرنه لغيره، وقيل: حال من الفاعل والمفعولين، أي
آذنتكم فاستوينا في العلم، ومثله: (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) .
قوله: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) .
هذا تعبد، والله لا يحكم إلا بِالْحَقِّ، وقرىء (أَحْكَمُ) ، على لفظ
التفضيل، و (رَبُّنَا الرَّحْمَنُ) الرازق، "المستعان، المطلوب منه المعونة
والنصر، الْمُسْتَعَانُ
(عَلَى مَا تَصِفُونَ)
تكذبون وتقولون. والله أعلم.(2/750)
سورة الحج
قوله: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ)
أي زلزلة الأرض في الساعة، وهي تقع في القيامة، وقيل: زلزلة
الأرض، لقيام الساعة، وهي تقع قبل القيامة، فتكون من أشراطها.
الغريب: "زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ"، استعارة، والمراد شدتها.
قوله: (تَرَوْنَهَا) : أي الزلزلة، وقيل: الساعة.
قوله: (كُلُّ مُرْضِعَةٍ) ، المرضعة: هي التي ترضع وإن لم يكن الولد لها، والمرضع: ات الولد الرضيع، ودخلت "التاء" موافقة لقوله: "أَرْضَعَتْ"، ولأنها تقع في الاستقبال فهي كما تقول: حائضة غداً وطالقة، فتحمله على حاضت، وطلقت، والأول على النسب ذات حيض وذات طلاق.
الغريب: تذهل عن ولدها صغيراً كان أو كبيراً.
قوله: (وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى) أي من الفزع والخوف، (وَمَا هُمْ بِسُكَارَى) من الشراب، وقيل: وترى الناس كأنهم سُكَارَى زائلة عقولهم
مضطربة نفوسهم، وما هم بِسُكَارَى من شراب، وقرىء: سَكْرَى، ولها
وجهان: أحدهما: نزل السكر منزلة علة فجمع فَعْلان على فَعْلى كمريض(2/751)
ومرضى، وصريع وصرعى: والثاني أنها صفة مفردة، كقوله: (حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ) .
قوله: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
"أنَّ" رفع ب "كُتِبَ" و "الهاء" كنابة عن الأمر، "مَن" رفع
بالابتداء، (تَوَلَّاهُ) صلته ولا محل له، وإن شئت جعلت "مَن" للشرط.
و (تَوَلَّاهُ) في محل جزم به، فإنه والمضمر قبله في محل رفع بخبر الابتداء.
و"الفاء" دخل الخبر، لأن المبتدأ موصول بفعل، وإن شثت جعلت "الفاء"
لجزاء الشرط، وما بعده في محل جزم و "الهاء" يجوز أن تكون كناية عن
"مَن"، ويجوز أن تكون كناية عن الشيطان، ويجوز أن تكون كناية عن الأمر، كما سبق، وفتحت، "أن "، لأنه خبر مبتدأ محذوف، تقديره فالأمر أنه يضله.
وقول الزجاج: "الفاء" للعطف، و "أن" مكررة للتأكيد أو البدل: مزيف.
لأن العطف والتأكيد إنما يكون كل واحد منهما بعد تمام الأول، وقد ردَّ عليه أبو علي في إصلاخ الإغفال.
قوله: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) : أي قدرتنا على البعث على ما نشاء.
قوله: (طِفْلًا) ، الطفل يقع على الواحد وعلى الجمع، كقوله: (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ) ، وقيل: هو في الأصل مصدر، ولهذا لم يجمع، وقيل:
نخرج كل واحد طِفْلًا، وهو نصب على الحال.
قوله: (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) ، تقديره، ثم يربيكم لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ.
قوله: (مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ)
زيد "مِن" في هذه السورة موافقة لقوله: (مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) .
قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ) محله نصب، أي فعل ذلك بسبب أن الله.
وقيل: رفع بالابتداء، "بِأَنَّ اللَّهَ" خبره.(2/752)
العجيب: رفع بالخبر، أي الأمر ذلك، قاله الزجاج: ورد عليه أبو
علي، وقال: يبقى الجار غير متعلق بشيء.
قوله: (مَنْ يُجَادِلُ) .
رفع بالابتداء، "وَمِنَ النَّاسِ" خبره تقدم عليه، "ثَانِيَ عِطْفِهِ" حال من
الضمير في "يُجَادِلُ"، وهو نكرة، والتنوين مقدر معه، ومثله: (بَالِغَ الْكَعْبَةِ) . و (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) .
قوله: (لِيُضِلَّ) : متصل بقوله: "يجادل في اللهإ.
قوله: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) .
"ذلك" مبتدأ، "بِمَا قَدَّمَتْ" خبره، أي يقال له في القيامة: هذا
التعذيب بكفرك وتكذيبك محمداً - عليه السلام -.
قوله: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ)
ذكر بلفظ المبالغة، لاقترانه بالعبيد، وهو جمع.
قوله: (انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) .
أي انقلب إلى الكفر، وقلب وجهه عما كان عليه.
الغريب: هذا كما يقال: قلب ظهر المجن.
قوله: (يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ) .
قيل: يدعو بمعنى يقول: و "لَمَنْ" مبتدأ، "ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ" مبتدأ
وخبر، والجملة صلة لـ "مَنْ"، وخبر "مَنْ" مضمر تقديره، مولاي، فأجابه
- سبحانه - فقال: (لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) ، وقيل: "يَدْعُو" تكرار
الأول، "لَمَنْ ضَرُّهُ" مبتدأ، "لَبِئْسَ الْمَوْلَى" خبره، وقيل: "يَدْعُو" حال من
الضلال، أي ذلك الضلال البعيد يدعو.(2/753)
الغريب: ذلك موصول هو الضلال البعيد صلته، ومحله نصب
لـ (يدعوا) .
قال الشيخ: ويحتمل على هذا الوجه أن يكون رفعاً. كقولك: زيد
ضربت.
العجيب: تقديره، يدعو من لضره، فقدم اللام. وهذا مردود، لأن
"مَا" في الصلة لا يتقدم على الموصول، وقيل: اللام زيادة، و "من" مفعول
"يدعوا"، وقيل: "لمن" جواب قسم مضمر، وكلاهما بعيد.
قوله: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) .
ذهب الجمهور إلى أن هذا كناية عن الخنق، والمعنى: من ظن أن لن
ينصر الله محمداً على أعدائه، فليمدد بحبل إلى سقف بيته، ثم ليقطع، أي
ليختنق، والعرب تقول: قَطَع فلان، إذا اختنق، وقيل: فليمدد بسب إلى
السماء، فليقطع مادة النصرة منا، فإن النصرة ثابتة من السماء.
وقوله: (هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) ، أي فلينظر هل يُذهِب غيظَه وكيده. وللآية وجوه أخر ذكرتها في كتاب - لباب التفاسير -.
قوله: (إن الذين آمنوا) .
خبره لأ إن الله يفصل بينهم ".
قوله: (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) .
الكثيران منفصلان عن الأول، والتقدير، وكثير من الناس، وجب له
الثواب، وكثير حق عليه العذاب، فهما مبتدآن وخبران، وخبر الأول محذوف يدل عليه الحال، وقيل: الكثيران عطف على الأول، أي ويسجد كثير من الناس يعني المؤمنين ويسجد كثير حق عليه العذاب، وقيل: الأول عطف على ما قبله، والثاني: استئناف.(2/754)
قوله: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا) .
الخصم، مصدر فلا يثنى، إلا إذا اختلف النوعان، وهما المؤمنون
والكافرون وقوله: "اخْتَصَمُوا" حمل على المعنى فجمع.
الغريب: خصْم جمع خاصم كراكب وركْب.
قوله: (مِنْ غَمٍّ) .
سؤال: لِمَ زاد في هذه السورة (مِنْ غَمٍّ) ، ولم يقل في السجدة: (مِنْ غَمٍّ) ؟
الجواب: لأنه ذكر في هذه السورة شدائد، من إحاطة العذاب، وذكر
الثياب من النار، وصب الحميم، وإذابة الشحوم وتساقط الجلود مع زبانية
بأيديهم عمد من حديد، فذكر معها الغم: الذي هو التغطية والأخذ بالنفس، وجعله بدلا من قوله "منها"، أي من غمها، وقيل: الغم الحزن على أصله، ولم يكن في السجدة شيء منها، فاقتصر على قوله: (أُعِيدُوا فِيهَا) .
قوله: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا) .
أي في الجنة، فهي ظرف ليحلون.
الغريب: "فِيهَا" حال لـ "أَسَاوِرَ" وكانت صفة لها، فلما تقدمت.
انتصبت على الحال.
(وَلُؤْلُؤًا) عطف على (ذَهَبٍ) .
الغريب: عطف على "أَسَاوِرَ"، ومن نصب: عطفه على محل أساور.
أي يحلون أساور ولؤلؤاً من الأولى للتبعيض، والثاني للتبيين.
قوله: (إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) .(2/755)
أي القرآن، وقيل: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وقيل: سبحان الله
والحمد لله، وقيل: هي البشارات التي تأتيهم من الله في الجنة والتحية
السلام.
قوله: (إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ) ، (الْحَمِيدِ) هو الله - عز وجل -.
وقيل: "صِرَاطِ الْحَمِيدِ" الدين والإسلام، وقيل: الجنة.
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ) .
قيل: الواو" زائدة و "يَصُدُّونَ" خبر "إِنَّ"، وقيل: الواو" للحال، والخبر
محذوف، أي هلكوا، وقيل: - وهو الغريب -: إن المستقبل بمعنى
الماضي، أي كفروا وصدوا، والخبر كما سبق محذوف.
قال الشيخ: ويحتمل: أن الذين كفروا فيما مضى ويعيدون في المستأنف هلكوا.
قوله: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)
"الْعَاكِفُ" رفع بالابتداء، و "الْبَادِ"
وعطف عليه، و "سَوَاءً" خبره تقدم عليه، ولم يثن لأنه مصدر.
الغريب: قال النحاس: "سَوَاءٌ" رفع بالابتداء.
"الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ" رفع بالخبر، وهذا بعيد، وفي كتابه أيضاً: الجملة في محل نصب وقع موقع المفعول الثاني لـ "جعل". وهذا أيضاً بعيد، لأن ذلك إنما يجوز في باب ظننت الداخل على المبتدأ والخبر، ولو قال: في محل نصب على الحال، صح، وقرىء "سَوَاءً" - بالنصب - على الحال من "الهاء" في جعلناه، أو من الضمير في "للناس"، وارتفع العاكف والباد به، لأنه بمعنى مستويان، ويجوز أن يكون ينتصب ب "جعل"، ويكون المفعول الثاني، و"للناس" ظرف.
قوله: (بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ) ، "الباء" الأولى زائدة، أي ومن يرد مراده، بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ.(2/756)
الغريب: الفعل محمول على المصدر، أي ومن إرادتُه بإلحاد.
العجيب: قال الزجاج: "نذقه) خبر "إن الذين كفروا"، وهو مزيف
من وجهين:
أحدهما: أنه مجزوم، وخبر " إن " لا يأتي مجزوماً.
والثاني: أن الشرط يبقى من غير جزاء.
فإن قيل: كما يجوز إدخال "الفاء" في خبر "إنَّ"
إذا كان اسمه موصولاً بفعل أو ظرف لتضمن الموصول معنى الشرط جاز
الجزم أيضاً، قيل له لا يجوز في الآية، لأن قوله: "من يرد" مجزوم ب "مَن".
ولا يجوز عطفه على اسم "إنَّ" لأن "إنَّ" لا تدخل على "مَن" إذا كان شرطا.
ومن الغريب: خبر "إنَّ" قوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) .
وإن طال، لأن الكل صفة المسجد والحج وما يتعلق به.
قوله: (لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) .
(اللام) زائدة. كقوله: (بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) ، وكقوله:
(تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ) ، فإنَّ "بَوَّأْنَا" يتعدى إلى مفعولين، "وتبوأ"
يتعدى إلى مفعول واحد، تقول: بوأته منزلاً، وتبوأ منزلا، وأصله من "باء" إذا رجع أي جعلته يرجع إلى منزل.
الغريب: تقديره، بوأنا لمكان إبراهيم مكان البيت.
العجيب: (مَكَانَ الْبَيْتِ) ظرف، أي بوأنا لإبراهيم مكان البيت بيتاً.(2/757)
قوله: (وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)
عطف "الركع" على "القائمين" بالواو، ولم يعطف "السجود" على "الركع"، لأن الصلاة قد تكون من غير قيام، ولا تكون من غير ركوع وسجود، وقيل: أراد بالقائمين، المقيمين فيه.
سؤال: لِمَ لَمْ يقل: (والعاكفين) كما في البقرة؟
لأن ذكر العاكف قد تقدم في قوله: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) .
قوله: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا) .
الخطاب لإبراهيم، وهو متصل بما قبله.
الغريب: الحسن، هذا خطاب لمحمد - عليه السلام - واستئناف كلام.
قوله: (رِجَالًا)
جمع راجل، والراجل هو الذي يمشي على رجله.
الغريب: رجِل - بكسر الجيم - كقراءة حفص، ورجْلان ورَجْلى.
كسكران وسَكْرى، حكاه سيبويه.
(رِجَالًا) نصب على الحال، "وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ" حَال آخر عطفاً على الحال
، وأراد بـ "كُلِّ ضَامِرٍ" من الضمر الصِّلاب الأقوياء.
الغريب: (كُلِّ ضَامِرٍ) ، أي غير مهزول أتعبه السفر لبعده.
وجمع "يَأْتِينَ"حملاً على معنى "كل".(2/758)
قوله: (بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) .
إضافته كإضافة ثوب خز.
قوله: (تَفَثَهُمْ) : سبق في التفسير، وأصله، الوسخ.
الغريب: أبو محمد البصري،: هو من التف، وسخ الأظفار، قلب
الفاء ثاء كجدف ومغفور، وجدث ومغثور.
العجيب: الزجاج: معنى التفث لا يعرفه أهل اللغة إلا من
النفسير.
قوله: (ذلك) : أي الأمر ذلك.
الغريب: نصب، أي ليفعلوا ذلك.
العجيب: جر صفة للبيت العتيق.
قوله: (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ) ، في الإحرام، (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) في الصيد في الإحرام.
قوله: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ) ، "مِن" للتبين، أي اجتنبوا الأوثان.
الغريب: "من " لابتداء الغاية، أي فاجتنبوا الرجس من عبادة الأوثان
إلى غير ذلك.
العجيب: تقديره، اجتنبوا من الأوثان الرجس، أي عبادتها.
قوله" (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)
منصوب ثانٍ على الحال، " ذلك " رفع بالابتداء أو بالخبر، الأمر ذلك.
الغريب: نصب أي اتبعوا ذلك من أمر الله في الحج.(2/759)
قوله: (الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ) .
صفة للمخبتين، ثم عطف عليه، فقال، (وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ) ، أي والذين صبروا، ثم قال: (وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ) ، أي الذين
أقاموا الصلاة، والِإضافة غير محضة، وقرئ في الشواذ - بالنصب - على
حذف التنوين للتخفيف، ثم قال: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ، فعاد إلى
الفعل، أي والذين ينفقون مما رزقناهم.
(وَالْبُدْنَ) : منصوب بفعل دَلّ عليه (جَعَلْنَاهَا) ، أي جعلنا البدن
جعلناها، فحذف الأول لأن الثاني ينوب عنه.
قوله: (وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى) .
أي يحسن موقعها عنده، وقيل معناه، ولكن يقبل التقوى، وقيل:
ولكن يصعد إليه التقوى، كقوله: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) .
الغريب: (وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى) ، أي ينفعكم التقوى، وقيل: ولكن
ينال رضاه، فحذف المضاف، وكذلك لن تنال رضى الله لحومها.
قوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) .
في محل جر بدل من قوله: (الَّذِينَ) ، وقيل: رفع، أي هم الذين.
وقيل: نصب، أعني الذين.
قوله: (إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)
استثناء منقطع، ومحل "أَنْ يَقُولُوا" نصب.
الغريب: محله جر أي بغير حق إلا بأن يقولوا ربنا الله، أي بسبب
توحيدهم.(2/760)
قوله: (صَوَامِعُ)
أي صوامع الرهبان، جمع صومعة، قتادة: مصلى
الصابئين، و "بِيَعٌ) أي بيع النصارى. مجاهد: كنائس اليهود.
قوله: (وَصَلَوَاتٌ)
الضحاك: كنائس اليهود، قال: ويسمونها: صلوتا.
وعن الحجاج: "وصُلوب" جمع صَليب كعَناق وعُنوق.
الغريب: أي لهدمت في أيام كل شريعة موضع عبادتهم.
العجيب: الحسن، هي كلها للمسلمين؛ لقوله - عليه السلام -: " نعم
صومعة المسلم بيته ". وكذلك البيعة.
قال: وأراد بالصلاة عين الصلاة وهدمها قتل أصحابها، ومنعهم عنها.
(وَمَسَاجِدُ)
هي للمسلمين بإجماع من المفسرين.
قوله: (مَنْ يَنْصُرُهُ)
"الهاء" تعود إلى الله، والمضاف محذوف، أي ينصر
العجيب " يعود إلى " مَن" أي ينصر من يريد.
قوله: (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ) .
نصب صفة لمن ينصره الله أو بدل منه.
الغريب: خفض بدل من الذين يقاتلون، وصلة الذين جملة شرطية.
وهم أصحاب النبي الأربعة، وقيل: هم المؤمنون وقيل: هم الذين أخرجوا
من ديارهم.
قوله: (وإن يُكَذِّبُوكَ) .(2/761)
شرط، وفيه تسلية له - صلى الله عليه وسلم -، والخبر مضمر، أي فلا تحزن.
و"الفاء" في قوله "فَقَدْ كَذَّبَتْ" للعطف، وليس للجزاء، فإن التكذيب قد وقع منهم.
قوله: (فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) .
أي سقطت سقوفها، ثم سقطت عليها جُدُرها، وقيل على عروش
كرومها وأشجارها، وقيل: جمع عرش، وهو السرير، وقيل: هي خالية باقية بحالها على ما كان، والعروش: الكروم، والسرر على ما سبق.
قوله: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) ، عطف على قرية.
الغريب: عطف على عروشها، وهذا فيمن جعل معنى خاوية خالية.
والمعنى: بهما البادية والحاضرة، وهما جميع الناس.
العجيب: " الواو" نابَتَ عن "رُبَّ"، وهذا بعيد، لأن قوله: "فَكَأَيِّنْ" قد
أفاد العموم.
ومن العجيب: قول من قال: ليس قوله: (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) للعموم، وإنما هما موضعان بعينهما، وقد ذكرت ذلك في - لباب
التفاسير -
ومحل "كَأَيِّنْ" رفع بالابتداء، "أَهْلَكْنَاهَا" خبره، كقولك: زيد ضربت.
وإن شئت نصبت بفعل مضمر يدل عليه المذكور: نحو: زيداً ضربته.
الغريب: "كَأَيِّنْ" مبتدأ، "أَهْلَكْنَاهَا" صفة للقرية، وبئر وقصر عطف
عليه، والخبر محذوف، أي في العالم -
قوله، (وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) .
أي ليس العمى عمى البصر، ولكنَّ العمى عمى القلب، وَذَكر الصدر
تاكيداً.
ابن عيسى: القلب اسم مشترك، فقيده بالصدر.
الغريب: لَما نَزلَ (وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
شكا ابن أم مكتوم إلى النبي - عليه السلام - فنزلت هذه الآية.(2/762)
قوله: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا) .
حكمها في الإعراب كالآية الأولى.
قوله: (مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ) .
قيل: كل رسول نبي وكل نبي رسول، لقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا) ثم
عطف عليه، ولا نبي، وقيل: الرسول أعلى شأناً، فإن كل رسول نبي
وليس كل نبي رسول، وقيل: الرسول: صاحب الشرع، والنبي هو الذي
يأمر باتباع شرع سابق، وقيل: الرسول: هو الذي يأتيه الملك، والنبي هو
الذي يرى في المنام ما يوحى إليه.
الغريب: الرسول من بعث، والنبي المُحَدَّث الذي لم يبعث.
العجيب: الرسول: الملَك، والنبي الإنس، وهذا ضعيف، لأن ما
بعده لا يصلح وصفاً للملك.
قوله: (إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)
ذكر في سبب النزول (1) أن النبي - عليه السلام - تلا سورة النجم، فلما بلغ قوله: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) .
جرى على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى.
ويروى: تلك الغرانفة العلى، ويروى: تلك الغرانيق الأولى منها الشفاعة تُرْتجى، ويروي: ومناة الثالثة الأخرى، فإن شفاعتهم ترتجى، ومضى - عليه السلام - على قراءته، وسمعت قريش ذلك، فلما بلغ آخر السورة سجد وسجد المؤمنون وسجد جميع من في المسجد من المشركين، قالوا: قد ذكر محمد آلهتنا فأحسن الذكر، فلما أمسى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل وقال: ماذا صنعت، تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، وقلت ما لم أقل لك، فحزن - عليه السلام -
__________
(1) باطلٌ لا يصح ردَّه المحققون.(2/763)
حزناً شديداً، وخاف من الله خوفاً كثيراً، فأنزل الله هذه الآية.
فقالت قريش: ندم محمد - عليه السلام - على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند
الله، فازدادوا شراً على ما كانوا، ثم من المفسرين من أنكر هذا أصلاً.
وقالوا: النبي معصوم من أن يجري على لسانه ما هو كفر، فقال بعضهم:
الحديث ليس بمتصل الإسناد. وقال بعضهم: هذا من الأخبار الآحاد التي
لا توجب علما، وقال بعضهم: معنى (تَمَنَّى) حدث نفسه، (أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) ، فتقول: لو سألت الله أن يعطيك كذا ليتسع المسلمون
ويعلم الله أن الصلاح في غير ذلك فيبطل ما يلقي الشيطان، والمعروف في
اللغة: أن معنى تمنى حدث نفسه، وقال بعضهم: (تَمَنَّى) تلا، ومنه
قول الشاعر:
تمنَّى كتابَ اللهِ أوّل ليلهِ. . . تمنِّيَ داودَ الزبورَ على رِسْلِ
فذهب بعضهم إلى أن المعنى: ألقى الشيطان في تلاوته، وهو
ناعى، هذا قول قتادة.
وقيل: (ألقى الشيطان) بقراءة الشيطان رافعاً
صوته، فظن السامعون أنه من قراءة النبي - عليه السلام -.
الغريب: ابن عيسى، تلاهُ منافق من شياطن الإنس، فخيل إلى
الناس أنه من تلاوة النبي - عليه السلام -.
العجيب: كان قرآناً فنسخ، والمعنى: تلك الغرانيق العلى بزعمكم
أيها المشركون.
وقيل: تم الكلام على قوله (ومناة الثاثة الأخرى) ، ثم
قال: تلك الغرانيق العلى، يعني الملائكة، منها الشفاعة ترتجى، فإن
الغرانيق والغرانقة جمع غرنوق وغرناق، وهو الحسن، وقيل: جمع غرنيق
وهو الطير العظيم.
قال الشيخ الإمام: ويحتمل - والله أعلم - أن الاستفهام
مضمر، والتقدير تلك الغرانيق العلى بزعمكم، أمنها الشفاعة ترتجى،(2/764)
(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا) .
قوله: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً) .
ضلالاً وامتحاناً، وقيل: عذاباً، أي سبب عذاب (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، شك، وهم المنافقون، (وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) ، هم المشركون.
والضمير في "قُلُوبُهُمْ" محمول على الألف واللام، لأنهما بمعنى الذين.
كما تقول: الضاربه زيد عمر، أي الذي ضربه زيد عمرو.
قوله: (مُدْخَلًا)
نصب على المصدر، ويجوز أن يكون ظرفا، وكذلك من قرأ بفتح الميم على تقدير، ويدخلون مدخلاً، ويجوز أن يكون مصدراً ويجوز أن يكون ظرفاً.
قوله: (ذَلِكَ) : أي الأمر ذلك.
قوله: (وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ) ، جعل الأول عقوبة ازدواجا، كما جاء: كما تدين تدان، والأول، ليس بجزاء.
وقوله: (وَمَنْ عَاقَبَ) يجوز أن يكون للشرط، وتقديره، لمن عاقب، فحذف اللام توطئة للقسم، كما حذف من قوله:
(وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا) ، وقوله: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) .
(وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ) ، وجزاء الشرط مضمر تقديره، فوالله لينصرنه
الله، ويجوز أن يكون موصولًا، وما بعده خبر.
قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ) : مبتدأ وخبر، أي ذلك ثابت بأن
الله.
قوله: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) فيكون النهار
خمس عشرة ساعة، والليل تسع ساعات.(2/765)
العجيب: الليل والنهار أبدا اثنتا عشرة ساعة، تطول الساعات
بطولهما وتقصر بقصرهما.
قوله: (هو الباطلُ) : بزيادة "هو" في هذه السورة موافقة
لما قبلها وما بعدها من الآيات، لأنها كلها مؤكدة بأن واللام، ولهذه زيدت
اللام في "لهو" دون السورة الأخرى.
قوله، (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ) : - بالرفع -، لأن المعنى في قوله: (أَلَمْ تَرَ) تنبيه.
الغريب: تقدير الآية: أنزل من السماء ماء فأصبحت الأرض مخضرة
وينزل فتصبح الأرض، فاكتفى عن كل زمان بذكر لفظ واحد، ومثله قول
الشاعر:
ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني. . . فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِيني
أي فأمضي، كما مررت فسبني فمضيت.
قوله: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) .
أي يحفظها من أن تقع، وقيل: كراهة أن يقع، وقيل: لئلا يقع
(الْمُنْكَرَ) ، أي الإنكار والكراهية.
الغريب: المنكر المفعول لا المصدر، أي الذي تنكره.
قوله: (بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ) .
أي بِشَرٍّ عليكم وأكرهَ إليكمٍ من الذين تستمعون، والمعنى: إن ساءكم
سماع كلام الله، وحسبتموه شرا لكم، فأنا آتيكم بِشَرٍّ مِنْ ذَلِك، ثم فسر
فقال: (النَّارُ) ، أي هو النار، ويجوز أن تكون (النَّارُ) مبتدأ
و (وَعَدَهَا اللَّهُ) خبره.(2/766)
قوله: (ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) .
قيل: هو من قوله: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) ، أي جُعِل مثل.
الأخفش: ليس ها هنا مثل، وإنما المعنى جعل الكفار لله مثلاً في
عباده غيره معه، وقيل: هو مثل من حيث المعنى، لأنه ضرب مثل من
يعبد الأصنام بمن يعبد ما لا يخلق ذبابا.
قال الشيخ الإمام: ويحتمل أن المثل في ذكر الذباب، أي ذباباً، وما هو دونه كجناح الذباب أو قرنيه أو جزء من أجزائه.
قوله: (وَمِنَ النَّاسِ) : أي ومن الناس رُسُلًا، فأحال بين
الواو وبين المعمول، كقوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً) ، وكقوله: (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) ، وذهب بعضهم إلى أن قوله: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى) من هذا الباب، وهو عطف على قوله: (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)
أي ويتلوه شاهد منه كِتَابُ مُوسَى) : ومثله من المجرور (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ) ، ومنهم من جوز ذلك في الفعل كقول الشاعر:
ويوما تراه كشبه أردية العض. . . بِ ويوماً أديمها نَغِلا
ولم يُجَوَّزْ في الاسم، لا يجوز بالإجماع ضاربُ زيدٍ اليوم وغداً عمروٍ
ولا عمراً.
قوله: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) .(2/767)
أي الله سماكم في الكتب السابقة مسلمين.
(وَفِي هَذَا) ، أي القرآن وقيل: سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ إبراهيم بقوله: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ)
قال الشيخ الإمام: الغريب: يحتمل أن التقدير، وفي هذا، أي في القرآن
بيان تسميته إياكم مسلمين، وهو قوله: ((وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً)
قوله: (فَنِعْمَ الْمَوْلَى) ، أي الله، (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) ، الله.(2/768)
سورة المؤمنون
بدأ السورة بقوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) .
وختمها بقوله: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) .
وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لقد أنزل على عشر آيات.
من أقامهن دخل الجنة، ثم قرأ: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) - إلى عشر آيات ".
قوله: (فِي صَلَاتِهِمْ) ، ثم قال: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ) : فكرر ذكر الصلاة تأكيداً لحكمها، وقيل: لأن الخشوع فيها غير المحافظة عليها، وقيل: الغريب: إحداهما الفرض والأخرى التطوع، والخشوع: أن ينظر إلى موضع السجدة، وقيل: إلا بمكة فإنه يستحب أن ينظر إلى البيت، وقيل: خائفون، وقيل: متواضعون.
الغريب: هو أن لا تعبث بشيء من جسدك في الصلاة، فإن النبي
- عليه السلام - أبصر رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: " لو خشع قلب هذا خثسعت جوارحه".
العجيب: الخشوع في الصلاة أن يصليها لله لا طمعا ولا خوفا.
قوله: (عَنِ اللَّغْوِ) : الكفر، وقيل: الباطل، وقيل: جميع
المعاصي، وقيل: الكذب والشتم.(2/769)
الغريب: مجالس المبتدعين.
العجيب: الحلف.
قوله: (لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) .
هي الزكاة المفروضة.
الغريب: زكاة النفس من قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) ، ومن
الغريب: الصدقة.
العجيب: صدقة الفطر، لأن السورة نزلت قبل فرض الزكاة.
وقوله: (فَاعِلُونَ) ، مؤَدُّون، وجاز وضع الفعل موضعه لعموم
الفعل في جميع الأعمال والأحداث، وذلك في القرآن كثير، منها قوله:
(فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) ، ثم قال: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) .
أراد فإن لم تأتوا ولن تأتوا.
قال أمية:
المُطْعِمُون الطعامَ في السَّنَة ال. . . أزمةِ والفاعلون للزكواتِ
الغريب: سؤال (فاعلون) محذوف اللام للعلة، أي فاعلون ما هم
فاعلون لزكاة النفس، وطهارة العرض والبدن، واللام على القول الأول
للتعدي، لأن اسم الفاعل لا تبلغ قوته قوة الفعل، فقوي باللام، ومثله:
(لفروجهم حافظون) ، لا يبذلونها في محرم. والفرج يستعمل للرجال
كما يستعمل للنساء.
الغريب: الحسن: (لفروجهم) ، لثيابهم حافظون فلا يكشفونها
على محرم.(2/770)
قوله: (أَوْ مَا مَلَكَتْ) .
يريد (مَنْ) ، وتقديره، ملكته فحذف الضمير.
الغريب: (ما) مع الفعل في تأويل المصدر، ويكون المصدر واقعاً
موقع الاسم.
و" على" ها هنا بمعنى "مِن"، وقيل: ضد الحفظ التخلية
والاسترسال، وذلك يقتضي على.
المبرد: في الحفظ معنى الامتناع، فالتقدير عنده، امتنعت إلا على أزواجهم.
الغريب: الزجاج: يتعلق بمعنى اللوم، أي يلامون (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) ، ودل عليه قوله: (فَإِنَّهُمْ) .
قوله: (وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) .
أي سوى ذلك، وهذا معنى ثالث لـ (وَرَاءَ) ، فقد تقدم أنه يأتي
بمعنى خلف وقدام في الكهف، ومن استمنى بيده فهو من العادِين.
قوله: (الَّذِينَ يَرِثُونَ) .
صفة لقوله (الْوَارِثُونَ) ، وبيان لما يرثونه، وقيل: مبتدأ، (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) جملة هي خبره.
قوله: (الْإِنْسَانَ) .
فيه قولان، أحدهما: أنه آدم - عليه السلام -، أي خلقنا آدم من
سلالة من طين، والسلالة كل لطيف استخرج من كثيف.
ابن عيسى: هي صفوة الشيء تسل منه.
الغريب: السلالة ما يخرج بين الأصبعين من الشيء إذا عصر.(2/771)
وجاء فى الخبر: " إن الله - سبحانه - خمر طينة آدم بيده أربعين
صباحاً، حتى خرج من بين أصابعه "، والمعنى: خلق آدم من تربة سلت
ونزعت، أي من ها هنا وها هنا، وأما حواء - عليها السلام - فالجمهور على أنها خلقت من ضِلَع من أضلاع آدم.
الغريب: خلقت من بقية طين آدم..
"الهاء" تعود إلى الإنسان، والمضاف محذوف، أي نسله.
والمعنى: خلقنا نسله من نطفة تقع في قرار مكين، أي رحم، ومثله:
(ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) ، فحذف المضاف، وحذف
(من) والقول الثاني: أن الإنسان بنو آدم، والسلالة على هذا مَنى
آدم، والطين آدم، و "الهاء" في "جَعَلْنَاهُ" تعود إلى السلالة، وذَكرَ
حملا على الماء، أوعلى المني.
العجيب: جعلنا بدء خلق بني آدم من نطفة، وبنو آدم كلهم من
النطفة إلا عيسى - عليه السلام -، فإنه خلق من الروح.
ومن العجيب: خلق عيسى من التراب أيضاً، وقد ذكر عطاء الخراساني: أنه يذر على النطفة من التربة التي يدفن فيها.
قوله: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
قوله: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) .
أي صيرناها وأحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء، والخلق يتعدى إلى
مفعول واحد، ولما كان هنا بمعنى صيرنا، تعدى إلى مفعولين.
(خَلْقًا آخَرَ)
ابن عباس: نفخ الروح، وقيل: نبات الشعر.(2/772)
الغريب: مجاهد: حين استوى شبابه.
الضحاك: (خَلْقًا آخَرَ) بعد الولادة من الطفولة إلى الكهولة.
الحسن: جعله ذكراً أو أنثى.
قوله: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) ، أي المقدرين، والمعنى:
أعلمُهم. والعرب تسمي كل صانع خالقاً، وقيل: خَلْقُه حقيقة، وخَلْقُ غيره تمثيل من قوله: (وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا) ، والحسن، معلق بالخلق.
و (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) بدل وليس بوصفٍ لأنه نكرة.
الغريب: روي أن عمر - رضي الله عنه - كان حاضراً، فلما سمع الآية
قال: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) ، فوافق قراءته وحي جبريل، فقال - عليه السلام - هكذا أنزل.
العجيب: عن ابن عباس: كان عبد الله بن أبي سرح يكتب هذه
الآية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما انتهى إلى قوله: (خَلْقًا آخَرَ) ، عجب من تفصيل خلق الإنسان، فقال: (تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) ، فقال - عليه السلام - أكتب هكذا أنزلت. فشك عند ذلك، وقال: إن كان محمد صادقاً فيما يوحى إليه، فقد أوحى إليَّ كما يوحى إليه، وإن قال من ذات نفسه، فقد قلت ما قال، فكفر بالله وارتد.
وقيل: في هذه الحكاية نظر، لأن ارتداده كان بالمدينة، والسورة مكية.
قوله: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ) .
قوله: (بِقَدَرٍ) صفة للماء، أي بقدر معلوم لا يزيد عليه ولا ينقص
منه، وعن ابن مسعود، ليست سَنَةٌ بأمطرَ من سَنة، ولكن الله يصرفه حيث
يشاء، وقيل: (بِقَدَرٍ) أي ما يكفيهم لشربهم وزرعهم، وقيل: (بِقَدَرٍ) بوزن.(2/773)
الغريب: هذا الماء غير المطر، وإنما هو أنهار خمسة تجري من
الجنة: سيحان نهر الهند، وجيحان نهر بلخ، ودجلة والفرات نهرا
العراق، والنيل نهر مصر.
قوله: (وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) .
زاد في هذه السورة (واواً) دون السورة الأخرى، لأن ما في هذه
السورة فواكه الدنيا، فمنها ما يؤكل، ومنا ما يدخر، ومنها ما يباع، وغير
ذلك. وما في السورة الأخرى فاكهة الجنة، وليست هي الأكل.
قوله: (طُورِ سَيْنَاءَ) .
أي المبارك، وقيل: الحسن بالحبشية. الكلبي: كل جبل ذي شجر
سينا.
الغريب: (سَيْنَاءَ) حجارة، وقيل: اسم المكان.
ابن جرير: اسم علم، أضيف إليه الجبل.
العجيب: (سَيْنَاءَ) من السنا، وهو الارتفاع، والطور أيضاً من
الارتفاع من قولهم عدا طَوْره إذا جاوز حده.
قوله: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) ، من فتح " التاء " جعل" الباء " للتعدي.
ومن ضم "التاء" ففي "الباء": أربعة أوجه:
أحدهما للتعدي أيضاً وأنْبَتَ لازم، قال:
رأيتُ ذَوِي الحاجاتِ حَوْلَ بُيُوتِهم. . . قَطِيناً لهم حتى إِذا أَنْبَتَ البَقْلُ
أي نبت.
والثاني زيادة وهي كثيرة.
والثالث: للحال، أي تُنْبِت(2/774)
الثمرة بالدهن، والمعنى معها الدهن كقولهم: خرج بثيابه.
الرابع: للسبب، والدهن: القليل من المطر، تقول أرض مدهونة إذا أصابها مطر قليل - وهو الغريب - وفيه بعد لقوله عقيبة: (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) .
قوله: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) : وبعده (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) : فأخَّر (مِنْ قَوْمِهِ) في الآية الأولى وقدمه في الثانية.
الجواب: لأن صلة (الذين) في الآية الأولى جملة واحدة، وصلة (الذين) في الثانية جملة بعد جملة ومرة بعد أخرى، وكان في تأخير قوله: (مِنْ قَوْمِهِ) التباس، وفي توسيطه ركاكة في الكلام.
قوله: (بِأَعْيُنِنَا) : بحفظنا.
العجيب: هي جمع عين الماء. وقد سبق في هود.
قوله: (وَفَارَ التَّنُّورُ) ، وجه الأرض.
العجيب: هو كقوله: الآن حمى الوطيس. وقد سبق.
قوله: (وَأَهْلَكَ) ، أي وجمعك.
العجيب: أهلك من الإهلاك. وقد سبق.
قوله: (أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا) : قالها حين ركب.
الغريب: قالها: حين خرج منها.
قوله: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) .
لما طال الكلام قبل الخبر أعاد (أَنَّكُمْ) على البدل، فصار تقدير(2/775)
الآية، أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً مخرجون، فيكون
مخرجون، خبر "أنَّ"، و "إذا" ظرف لـ (مُخْرَجُونَ) تقدم عليه، وهذا
ضعيف، وإن البدل، إنما يكون بعد تمام الكلام، والثاني: أن ما بعد
"أن " لا يعمل فيما قبله، ولا يمكن أن يقال: إنه زائد دخوله كخروجه.
لأن "إن واسمه" " لم يأت زيادة في موضع، فيقاس هذا عليه، وقيل:
تقديره، أن إخراجكم إذا متم، فعلى هذا الوجه جاز البدل وإن الكلام قبله
قد عم، وصار ظرف الزمان خبرا عن الحدث المضمر، وقيل: الخبر
محذوف تقديره، أنكم إذا متم تخرجون، فيصح البدل، لأن الكلام بالخبر
المقدر تام، وقيل: (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) محله رفع بالابتداء، (إذا متم)
خبره تقدم عليه، والجملة خبر (إنَّ) ، وقيل: ارتفع (أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ)
بالظرف، ووقع خبراً لـ (إنَّ) ، وفي هذا بعد، لأن الظرف إنما يرتفع به
إذا وقع موقعه، وها هنا لم يقع موقعه، إلا أن يقدر المضاف على ما سبق.
قوله: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) .
القراءة المعروفة الفتح، وقرأ يزيد - بالكسر - من غير تنوين -.
وعن عيسى بن عمر - بالكسر والتنوين -.
أما الفتح، فلأنه من الأسماء التي سميت الأفعال بها، فبنى وفتح موافقة الألفِ والفتحةِ قبلها، وأما الكسر، فلالتقاء الساكنين، وأما التنوين فلأنه جمع هيهة، والفتح هو الأصل، وروي عن سيبويه والكسائي: الوقف عليه بالهاء، وعن ابن عباس: بعيد بعيد ما توعدون، وقيل: بُعداً لِما توعدون.
وقيل: البعد لما توعدون، وكلها بعيد، فإنها من أسماء الأفعال كسرعان ووُشْكان، والتقدير بَعد إخراجِكم لما توعدون، (ما) للمصدر، أي لوعدكم، وهذا قول أبي علي، وهو الصواب.(2/776)
قوله: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) .
الغريب: كناية عن النهاية، أي ما نهايتنا إلا حياتنا الدنيا ولا بعث
بعدها.
العجيب: كناية عن الحال، أي ما أحوالنا إلا حياة وموت، ثم
انقضى الأمر وانقطع النظام.
قوله: (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ) .
أي عن قليل، و (ما) زيد للتوكيد، و"عن" متصل بفعل دل عليه
(لَيُصْبِحُنَّ) ، ولا يتصل بالظاهر، لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبله.
قوله: (فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً) .
أي هَلْكى صَرْعَى.
الغريب: هو كقول العرب لمن هلك سال بهم السيل، لأن ما حمله
السيل يسمى غثاء.
العجيب: هو كقوله، (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) .
قوله: (تَتْرَا) : أصله: وترى، ومعناهما: واحد بعد واحد، من الوتر، وبينهما فترة، وقيل: متتابعاً لا فتور فيها من التور، فمن نَوَّن جعل ألفه للالحقاق، كأرْطى، فأما من مذهبه الإمالة فلم يملها، ومن لم
ينون جعل ألفه للتأنيث.
العجيب: أبو علي في الحجة، ومن قال في (تَتْرَا) أنها تفعل لم يكن غلطه غلط، أهل الصناعة.(2/777)
قوله: (إِلَى رَبْوَةٍ) ، هي بيت المقدس، وسميت ربوة.
لأنها أقرب الأرض من السماء بثمانية عشر ميلا. وقيل: هي دمشق.
وقيل: غوطة دمشق.
الغريب: ابن زيد: هي مصر، ولولا أن قراها على رُبىً لغرقت
ثلك القرى.
العجيب: فلسطين.
قوله: (مَعِينٍ) ، قيل: وزنه مفعول كجميع من قولهم عانت الركية
إذا خرخ ماؤها.
الغريب: وزنه فعيل من المَعْن، وهو المنفعة، وإليه ذهب أبو علي، ومنه الماعون.
العجيب: من العين، أي يرى، وهذا بعيد لا يقال عنْتُه بمعنى
رأيته، إنما يقال - عنْتُه أصبتُه بعيني.
وإخال أنك سيد معيون.
قوله: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) .
الخطاب للنبي - عليه السلام - بلفظ الجمع، كما يقول للرجل
الواحد: أيها المشايخ افعلوا كذا. وقيل: الخطاب للنبي وفي ضمنه أن
الأنبياء جميعا كانوا مأمورين بهذا.
الغريب: هذا متصل بالأول، وهو خطاب لعيسى - عليه السلام -
بلفظ الجمع وكان يأكل من غزل أمه، وهو أحَل الأشياء.
العجيب: هذه حكاية، والقول مضمر، أي قلنا للأنبياء: كلوا من
الطيبات، قيل: من الحلال، وقيل: من اللذيذ، وكان يأكل من الغنائم.(2/778)
قوله: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ) .
من فتحها، جعل التقدير، ولأن هذه أمتكم، وكذلك من خفف.
ومن كسره جعله استئنافاً.
الغريب: هو عطف على "مَا" بما تعملون وبأن هذه أمتكم أمة
واحدة، والمعنى أنها ما دامت موحدة فهي مرضية، فإذا تفرقت فلا.
ونصب "أُمَّةً" على الحال.
قوله: (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا) .
(تقطع) : بمعنى قطع، أي قطَّعوا أمر دينهم وفرقوا ما أمروا به.
وجعلوا دينهم أدياناً وكتباً مختلفة، آمنوا ببعض وكفروا ببعض.
و (زُبُرًا) جمع زبور.
العجيب: فِرقَا مختلفة، تقويه قراءة من قرأ (زُبَرًا) - بفتح الباء - وهي
قوله: (أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ) .
(ما) اسم (أن) و (نسارع) خبره، وتقديره، نسارع لهم بذلك.
الغريب: (ما) كافة، و"به" يعود إلى الفرح، و "نسارع " حال
من ضمير اسم الله - سبحانه -.
قوله: (مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) .
الخشية: الخوف من تعظيم المخشى منه، والشفق الحذر من
المكروه.
قوله: (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ) : مفعول الوجَل، و "الواو" في قوله: (وَقُلُوبُهُمْ) للحال.(2/779)
قوله: (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) .
أي لأجل الخيرات سابقون إلى الجنات.
الغريب: (لَهَا) بمعنى إليها، إلى الخيرات سابقون.
العجيب: (لَهَا) أي للسعادة التي سبقت لهم سابقون إلى الجنة.
قوله: (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا) .
أي قلوب الكفار في غمرة من هذا، أي من الذي وصف به
المؤمنون، قوله: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ) ، أي أعمال خبيثة دون
الشرك، وقيل: دون أعمال المؤمنين.
الغريب: سوى من دون ما هم عليه، لا بد من أن يعملوها.
الغريب: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ) يعود إلى المؤمنين.
ومعنى (في غَمْرةٍ) مغمورة بالإشفاق مع هذه الخصال الحسنة.
(وَلَهُمْ) للمؤمنين، (أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ) أي نوافل سوى الفرائض
هم لها عاملون وعليها مقيمون.
قوله: (فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ) : من النكوص، وهو الرجوع القهقرى، وهر أقبح مشية، لأنه لا يرى ما وراءه.
قوله: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ)
ذهب الجمهور إلى أنه كناية عن غير مذكور، أي بالبيت وبالحرم.
الغريب: بمحمد - عليه السلام -، وقيل: بالقرآن، أي يتكبرون عن
الإيمان به.
الزجاج: كناية عن الكتاب المتلو في قوله: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ)(2/780)
(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ)
و"الباء" في "به" متصل بـ (مُسْتَكْبِرِينَ) : وقيل: متصل بـ (سَامِرًا) ، وقيل: متصل بـ (تَهْجُرُونَ) .
قوله: (سَامِرًا) ، أي سماراً، وقع الواحد موقع الجمع كالحي
للحاضِر.
الغريب: السامر: الليل.
العجيب: نصب على الحال من "الهاء"، أي مسموراً فيه.
وقيل: السامر، المجلس بالليل، والنَدِيّ، بالنهار، واشتقاقه من
السمر، وهو ظل القمر، وقيل: السمر: القمر، وكانوا يجتمعون عند
الكعبة ويتحدثون بالليل.
والسمر: التحدث بالليل، مصدر مشتق منه
وقوله (تَهْجُرُونَ) من الهجران، أي تفارقون محمداً والدين، وقيل: من
الهُجْر، القبيح من الكلام، وكانوا يسيئون القول في محمد - عليه
السلام -، ومن قرأ (تُهْجُرُونَ) - بضم التاء -، فمن الهُجْر لا غير.
قوله: (أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) .
أي قد جاء آباءهم رسل.
الغريب: عكرمة عن ابن عباس: بل جاءهم ما لم يأت آباءهم.
العجيب: أم جاءهم أمان من العذاب.(2/781)
قوله: (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) .
التضرع: كشف البلاء من القادر عليه، والاستكانة: طلب السكون.
كما قاله الفراء، ووزنه افتعال، والألف للإشباع، وقيل: مِن كان
يكون، فكان واستكان بمعنى.
العجيب: من كان يكين أي فما انقادوا، ومنه المكين، لذلته وهوانه
للرجل.
قوله: (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) .
الملكوت: الملك العظيم، وفعلوت من صفات المبالغة، ومنه
(رهبوت خير من رحموت) ، أي ترهب خير من أن ترحم له.
قوله: (لِلَّهِ) : الأول إجماعاً موافقة لقوله: (لِمَنِ الْأَرْضُ) ، والثاني والثالث، مختلف، فمن رفعه راعى المطابقة في المعنى واللفظ، ومن قرأ (للهِ) راعى المعنى فحسب.
قوله: (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) .
أي وإن أريتني عذابهم، فلا تجعلني منهم.
الحسن: أخبر نبيه أن له في أمته نعمة، ولم يطلعه على وقتها، فأمره بهذا الدعاء، وإِمَّا شرط، وأصله "إنْ ما" و "الفاء" في (فَلَا تَجْعَلْنِي) جوابه. وقوله: (رَبِّ) : اعترض بينها للتأكيد.
قوله: (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
أي في الصلاة، وقيل: عند الموت.(2/782)
الغريب: أن يصيبوني بسوء منهم، من قول العرب، اللبن محضور.
أي يصاب منه.
قوله: (رَبِّ ارْجِعُونِ) .
ذكر بلفظ الجمع تعظيماً للمخاطب، كما جاء: (إِنَّا نَحْنُ) .
وقيل: خاطب ملك الموت وأعوانه.
الغريب: يا رب مرهم ليرجعون.
العجيب: عدل عن خطاب الله إلى خطاب الملائكة.
قوله: (إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) .
الضمير يعود إلى قوله: (رَبِّ ارْجِعُونِ) .
الغريب: معناه (كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا) لا أصل لها، لأنه لو رجع إلى
الدنيا لم يف بها.
العجبب: أنها تعود إلى قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) .
وهو يعود إلى الله، أي الله قائل هذا الكلام، فلا يدخله خلف.
قوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) .
هو القرن ينفخ فيه إسرافيل لقيام الساعة.
الغريب: الحسن: جمع صورة.
قوله: (وَلَا يَتَسَاءَلُونَ) ، أي لا يسأل بعضُهم حال بعضِهم،(2/783)
لعلهم بأنفسهم حالة المحاسبة، فإذا دخلوا الجنة أو النار يتساءلون، وهو
قوله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) ، وقيل: القيامة مواقف.
قوله: (مَوَازِينُهُ) .
جمع ميزان، وينصب في القيامة ميزان له لسان وكفتان توزن به
الأعمال.
الغريب: جمع موزون، وقيل، أيضاً جمع الميزان، وهو واحد
لاختلاف من يوزن لهم، واختلاف ما يوزن فصار كقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) ، جمع لاختلاف الأشهر.
الغريب: هذا مثل، والمراد بالثقل كثرة الحسنات، وبالخفة قلتها.
العجيب: المراد بالثقل، ما له خطر ووزن معنوي، والسيئة لا خطر
لها ولا وزن.
قوله: (شِقْوَتُنَا) .
أي السابقة الثابتة في اللوح المحفوظ، وشقوتنا بمعناها.
الغريب: غلبت علينا سيئاتُنا التي أوجبت الشقاوة.
العجيب: الشقوة: الهوى. وقيل: حسن الظن بالنفس وسوء الظن
بالغير.
قوله: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا) .
الحسن: هو آخر كلام يتكلم به أهل النار.(2/784)
قوله: (أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) .
أي أنساكم هزؤكم بهم طاعتي.
قوله: (أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) .
أي لأنهم، والمفعول الثاني محذوف، أي الجنة.
الغريب (أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) ، المفعول الثاني، أي جزيتهم اليوم
بصبرهم الفوز، والكسر على الاستئناف.
قوله: (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ) .
"عدد" منصوب ب (كَمْ) ، و (كَمْ) ، منصوب المحل ب "لَبِثْتُمْ".
قوله: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) .
ليس بجواب مطابق، لأنهم سئلوا عن السنين، فأجابوا باليوم.
وقيل: مطابق، لأن السنة من الشهور، والشهور من الأيام.
قوله: (فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ) أي الملائكة.
الغريب: الحُسَّاب الذين يعدون الأيام والدَّرَج والدقائق.
قوله: (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) .
كان القياس، إلا كثيراً، لكن المعنى، أنتم وإن أخطاتم فيما أجبتم
به، فما لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا، بالإضافة إلى ما بعده.
الغريب: (إِلَّا قَلِيلًا) أنه انقضى، وكل مقض قليل.
العجيب: عرفوا مدة لبثهم، ولكنهم أرادوا لبثنا قليلا.
قوله: (عَبَثًا) : مصدر وقع موقع الحال، أي عابثين،(2/785)
وقيل: مصدر أي لنعبث عبثاً، وقيل: مفعول له، وقيل: بالعبث.
الغريب: قال الشيخ الإمام: يحتمل أنه المفعول الثاني لـ (حَسِبْتُمْ) : أي، أفحسبتم خلقنا إياكم عَبَثًا.
وهذا مذهب جماعة من النحاة في نحو قولك: علمت أن زيداً قائم، أي علمت قيام زيد موجوداً، فحذف المفعول الثاني، لاشتمال الأول على المخبر والخبر.
قوله: (لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ) .
صفة لقوله: (إِلَهًا) .
الغريب: صفة للمصدر، أي يدع دعاء لا برهان له بذلك الدعاء.
(فَإِنَّمَا حِسَابُهُ) جواب الشرط.
قوله: (رَبِّ اغْفِرْ) .
أي لي ولأمتي، وقيل: ادع ليقتدي به المؤمنون.
(وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ، أي أرحم الراحمين.(2/786)
سورة النور
عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حق البنات: (لا تنزلوهن الغرف (1) ، ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن المغزل (2) ، وسورة النور " (3) (4) .
بسم الله الرحمن الرحيم
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
قوله: (سُورَةٌ) .
رفع بالخبر، أي هذه سورة، (أَنْزَلْنَاهَا) صفة، والسورة: الجامعة
لآيات، بفاتحة لها، وخاتمة.
قوله: (وَفَرَضْنَاهَا)
أي فرضنا فرائضها، فحذف المضاف.
الغريب: فرضناها عليكم وعلى من بعدكم.
قوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) .
رفع بالابتداء، والخبر محذوف، أي في السورة حكم الزانية والزاني.
الغريب: رفع بالابتداء، (فَاجْلِدُوا) خبره، والتقدير، آمرُكم بالجلد في
حقهما، ومثله:
__________
(1) الغرفة: العِلِّيَّةُ والحجرة مطلقا، والجمع غرف وغرفات
(2) المغزل: ما يغزل به الصوف والقطن ونحوهما يدويا أو آليا.
(3) (الحاكم، والبيهقى فى شعب الإيمان عن عائشة)
أخرجه الحاكم (2/430، رقم 3494) وقال: صحيح الإسناد. وأخرجه أيضًا: الطبرانى فى الأوسط (6/34، رقم 5713) .
(4) جاء في نوادر الأصول ما نصه:
حذرهم ذلك لأن في إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجال وليس في ذلك تحصين لهن ولا ستر فإنهن لا يملكن أنفسهن حتى يشرفن على الرجال فيحدث البلاء والفتنة فحذرهم أن يجعلوا لها ذريعة إلى الفتنة
وهو كما قال عليه السلام (ليس للنساء شيء خير لهن من أن لا يراهن الرجال ولا يرين الرجال) لأنها خلقت من الرجال فهمتها فيه وخلق في الرجل الشهوة فجعلت سكنا له فغير مأمون كل واحد منهما في صاحبه وكذلك تعليم الكتابة ربما كانت سببا
للفتنة وكتبت إلى من تهوى وفي الكتابة عين من العيون به يبصر الشاهد الغائب وفي ذلك تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسان فهو أبلغ من اللسان فأحب عليه السلام أن يقطع عنهن أسباب الفتنة تحصينا لهن وطهارة لقلوبهن. اهـ (نوادر الأصول 3 / 50.(2/787)
هريرةُ ودِّعْها وإن لامَ لائِمُ
وجاز دخول "الفاء" لأن اللام بمعنى الذي والتي.
قوله: (الزَّانِيَةُ)
قدمت الزانية بخلاف السارق، لأن أثر الزنا يظهر عليها
من الحمل وزوال البكارة، وقيل: لأن شهوتهن أكثر، وقيل: لاختلاف آلة
الزنا.
قوله: (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ)
النهي في الظاهر للرأفة: والمراد: لا ترأفوا فتعطلوا الحدود أو تقصوها، وعن عمر، قال: للجالد: لا ترفع إبطك في الضرب، أمره بالتخفيف في الضرب، وكذلك جاء عن النبي - عليه السلام -.
الغريب: الحسن: لا تأخذك بهما رأفة في تخفيف الحد.
هذا حكم البكرين، وأما الثيبان، فحكمهما الرجم، لما روى ابن
عباس، قال خطبنا عمر، فقال: كنا نقرأ: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة بما قضيا من اللذة نكالًا من الله، والله عزيز حكيم.
وهذا إجماع.
الغريب: خالف الخوارج، وزعموا أن الرجم لم يصح فيه النقل، وأن
الجلد عام في البكرين والثيبين.
قوله: (طَائِفَةٌ)
ابن زيد، أربعة، اعتباراً بالشهود.
الزهري: ثلاثة، عكرمة: اثنان.
ابن عباس في جماعة: الطائفة رجل واحد.
قوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) .
نزلت في قوم من المهاجرين ضعَفه، هموا أن يتزوجوا ببغايا كن
بالمدينة، وَيكْرينَ أنفسهن للفجور لتنفق كل واحدة على زوجها من كسبها،(2/788)
فاستأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل الله هذه الآية. سعيد بن المسيب عن ابن عمر: أنها منسوخة بقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) ، فدخلت الزانية في أيامى المسلمين. ومن زنا بامرأة فله أن يتزوجها، ولغيره أن يتزوجها.
الغريب: عائشة وابن مسعود والبراء: إنه لا يجوز، وأنهما زانيان ما
اصطحبا ما اجتمعا ما عاشا.
ابن عباس في جماعة: إن النكاح ها هنا الجماع، واحتجوا بأن الزانية
من المسلمين لا يجوز لها أن تتزوج مشركا بحال، وكذلك الزاني من
المشركين، ليس له أن يتزوج مسلمة.
الغريب: الزاني هو المجلود في الزنا لا ينكح إلا زانية مجلودة في
الزنا، وهو قول الحسن.
وروى أن علياً - كرم الله وجهه - فرق بين مجلود تزوج غير مجلودة.
العجيب: صاحب النظم: المشرك وصف للزاني، وفيه بعد.
قوله: (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي الزنا، وقيل: نكاح الزانية.
قوله: (يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) .
أي بالزنا، فحذف لأن الأولى تدل عليه، والرجال داخلون في حكم
الآية بالإجماع.
قوله: (ثَمَانِينَ جَلْدَةً)
نصب على المصدر، و (جَلْدَةً) نصب على التمييز.(2/789)
قوله: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) .
الظاهر فيه أنه مستثنى من الجملة التي تليه قياساً على جميع ما في
القرآن والكلام، وقيل: من الجملة التي قبله، وهي (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا)
ومثله: (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ) فى ابقرة، وكذلك:
(إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ) في الطلاق، فإن الاستثناء في السورتين يرجع
إلى الجملة التي قبلها، وعلى هذا القول: يجوز أن يكون محل (الذين) نصبا
على الاستثناء، وجَراً على البدل من لهم، وعلى القول الأول نصب لا غير، وقيل: الاستثناء منقطع لا اتصال له بما قبله، وخبره: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
العجيب: الاستثناء متصل، والمراد به ما يقيمه من الشهادة على
صِدْقهِ، في رمي المحصنات، ولهذا قال لهم: (شهادة) ، ولم يقل:
شهادتهم، وهذا بعيد بالإجماع، وإنما قال لهم "شهادة" بالتنكير، أي
شهادتهم هذه، وكل شهادة تأتي بعدها، ولم يذهب أحد إلى أن الاستثناء من
قوله (فَاجْلِدُوهُمْ) وهذا يقوي القول الأول، وقيل: (أُولَئِكَ) حال من الجملة
الأولى يتبع لها، ولو كان كذلك لقال وهم الفاسقون، لأن أولئك وذلك لا يقع حالاً.
الغريب: تقبل شهادته بعد الحد إذا تاب ولا تقبل قبل الحد، وهو قول
إبراهبم النخعي.
ومن الغريب: لا تقبل شهادته بعد الحد ولا قبل الحد.
قوله: (إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) .
رفع بالبدل، والمراد: إلا هم أنفسهم.
قوله: (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ)
من رفع، فمبتدأ وخبر، ومن نصب جعله مفعول الشهادة، والشهادة رفع بالخبر، والمبتدأ محذوف، أي فحكمه شهادة، أي أن يشهد.(2/790)
قوله: (بِاللَّهِ)
متصل بالشهادات فيمن نصب، ويجوز أن ينتصب بقوله:
(فَشَهَادَةُ) ، ومن رفع علقه بالشهادات لا غير، ولا يتعلق بقوله: (فَشَهَادَةُ)
لأنك قد أخبرت عنها بقوله: "أَرْبَعُ"، والمصدر لا يعمل فيما بعد الخبر.
قوله: (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) مفعول الشهادة، وهي معلقة لأنها بمعنى
العلم.
(وَالْخَامِسَةُ) : الأولى رفع بالإجماع.
(وَالْخَامِسَةَ) : الثانية رفع بالابتداء، و (أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا) خبره.
الغريب: رفع بالعطف على أن يشهد، وهو فاعل "يَدْرَأُ".
وقرىء الثانية - بالنصب - عطفاً على (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ) ، وخفف نافع
"أنْ غضب" على تقدير أنه.
وجاز حذف الاسم من غير واسطة، لأن ما بعدها دعاء، ومثله: (نُودِيَ أَنْ بُورِكَ) .
قال أبو علي في الحجة: ومثلهما: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) ، وجاز لأن "لَيْسَ" تجري مجرى (ما) ، قال: ولا يجوز أن تحمل على الناصبة في الآية، لأن الشهادة علم، ولا تقع المخففة بعد العلم، ومن خفف "أنْ لعنةُ الله" فاسم "إن" مقدر بعده، أي أنه كما في قوله: (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، وكذلك من قرأ (أنْ غضِب الله) ، وهي قراءة يعقوب وأبي حاتم.
قوله: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ) .
جوابه محذوف، أي لهلكتم، وكذلك ما بعده.
والجواب محذوفاً أحسن منه مثبتاً، لأن المستمع يحمله على أشد ما يخطر بباله.(2/791)
قوله: (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) .
نزلت في شأن عبدِ الله بن أبي ابن سلول - لعنه الله -.
الغريب: نزلت في حسان بن ثابت، عذب في الدنيا بأن ذهب
بصره وشُلَّتْ يداه.
قال بعض المفسرين: نزلت في مِسْطَح بن أثاثة.
قال الضحاك: جلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وامرأة من قريش حتى نزلت براءتها، وذكر أن حسان دخل على عائشة بعد ما كف بصره، وأنشد:
حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنَّ برِيبَةٍ. . . وتُصبح غَرْثَى من لُحُوم الغَوافِلِ
قالت عائشة: لكنك لست كذلك.
قوله: (وَلَا يَأْتَلِ) .
هو افتعل من الألية وهي القسم، وقرأ أبو جعفر: ولا يتأل، و "لا"
مضمر تقديره، أن لا يؤتوا، وقيل: افتعل من قوله: (لَا يَأْلُونَكُمْ) ، فلا
يحتاج إلى إضمار "لا".
قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ) .(2/792)
هذا خاص في عائشة وفي أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: عام في المحصنات المؤمنات، والحكم لعموم اللفظ، لا لخصوص السبب، وقوله: (لُعِنُوا)
أي إن لم يتوبوا.
ابن عباس: لا توبة لقاذف أزواج النبي - عليه السلام -.
الغريب: عنى به عبد الله بن أبي، وكان منافقاً.
قوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ) .
منصوب بمضمر، أي يعذَبون يَوْمَ تَشْهَدُ، ولا ينتصب بتشهد، لأن اليوم
مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف، وشهادة الأعضاء بأن
يعيدها الله كاللسان في إمكان النطق بها.
الغريب: يبنهيا بنية أخرى محتملة للكلام.
العجيب: يتكلم فيها بكلام يجعله الله فيها، ومن العجيب: تكون
هناك علامة تقوم مقام الشهادة.
قوله: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) .
ابن عباس في جماعة: الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال.
وكل إناء يرشح بما فيه.
غيرهم: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وهذا الوجه أظهر، وجاز حذف الموصوف، وإقامة الصفة مقامه، لأن جمع السلامة دل على الموصوف، وكذلك جمع سلامة الإناث دل عليهم وعلى القول الأول دل عليها ما تقدم من ذكر الكلم، وكذلك الكلام في الطيبات والطيبين.
الغريب: معناه، من قذف عائشة فامرأته تستحق القذف، فإنها كانت
طيبة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - طيب طاهر.(2/793)
العجيب: هذه الآية كقوله: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً) .
قوله: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ)
يعني عائشة، وقيل: عائشة وصفوان، وروى أن ابن عباس دخل على عائشة في مرضها الذي ماتت فيه، فبكت وقالت: أخاف ما أقْدم عليه، فقال ابن عباس: لا تخافي، فوالذي أنزل الكتاب على محمد لا تَقْدَمي إلا على مغفرة ورزق كريم. فقالت: رحمك الله، أهذا
شيء أنباك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: بل شيء نبأنيه كتاب الله، قالت: فاتل على، فتلا: (وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ، فخرج من عندها، فصيح عليها، فقال ما لها، فقالوا: غشى عليها فرحاً بما تلوتَ.
قوله: (مِمَّا يَقُولُونَ)
أي يقولون هم، فهم لهم مغفرة يجوز أن يكون خبرا بعد خبر، ويجوز أن يكون استئنافاً.
قوله: (حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) .
قيل: هو من قوله: (فَإِنْ آنَسْتُمْ) أي علمتم، أي حتى تستعلموا.
وقيل: من قوله: (آنَسْتُ نَارًا) .
الغريب: هو من الأنس، أي حتى تجدوا أنساً ممن تدخلون عليه.
العجيب: ما روي عن ابن عباس وعن سعيد بن جبير، أن الكاتب
أخطأ، وإنما هو حتى تستأذنوا، وبه قرأ ابن عباس، وهذا القول بعيد
مردود على الراوي، وأما القراءة بقوله: "تستأذنوا" فمن الشواذ.
قوله: (بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) .
قيل: هي الخانات للمسافرين، وقيل: الخرابات للبول وغيره، (فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ) ، أي استمتاع الناس.(2/794)
الغريب: ابن زيد، بيوت التجار فيها أمتعة الناس.
العجيب: ابن الحنفية: بيوت مكة.
قوله: (فِيهَا) صفة للبيوت، (مَتَاعٌ) رفع بما تضمن من معنى الفعل.
ويجوز أن يرتفع بالابتداء "فيها" خبره، والجملة صفة للبيوت.
الغريب: (فِيهَا) متصل بالبيوت، (مَتَاعٌ) خبر مبتدأ محذوف، أي
ذلك متاع لكم.
قوله: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) .
"مِنْ" اللتبعيض، وهو ترك النظر إلى ما لا يَحل، وقيل: في بعض
الأوقات والغض: أن يداني بين جفنيه من غير ملاقاة.
الغريب: أي إذا دخلتم بيوت غيركم فغضوا من أبصاركم، فإن الله
(يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) .
قوله: (ييَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) .
ليس لهن أن ينظرن إلى الرجال. كما ليس للرجال أن ينظروا إليهن.
قوله: (أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ) ، لم يذكر في الآية العم والخال
لمكان أبنائهم.
قوله: (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) ، قيل: الصبي.
الشعبي: العنين. ابن جير: الابْلَه. وقيل: الشيخ الهرم وقيل: المجبوب.
وقيل: الخصي.
الغريب: عكرمة: المخنث الذي لا يقوم زبه.(2/795)
قوله: (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ) .
هذا وعد من الله بالإغناء.
وعن النبي - عليه السلام - اطلبوا الغنى من هذه الآية.
وعن عمر: التمسوا الغنى في الباءة.
وقيل: (يُغْنِهِمُ اللَّهُ) بالقناعة، وقيل: باجتماع الرزقين.
الغريب: يغنيهم الله عن الحرام
العجيب: إن يكونوا فقراء من الجماع، يغنيهم الله من فضله.
قوله: (لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا) .
أي أسبابه من المهر والنفقة، وسمى ذلك نكاحاً كما سمى ما يتلحف به
لحافاً، وما يتردى به رداء، (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ) أي يوسع عليهم.
الغريب: (يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ) بقلة الرغبة في النكاح.
قوله: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) ، وكذلك قوله: (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) ، شرطان في الظاهر، وليسا بشرطين.
الغريب: (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) متصل بقوله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ) .
وقيل: لأنها نزلت على سبب فوقع النهي على تلك الصفة.
قوله: (مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، أي لهن، وفي مصحف ابن
مسعود، من بعد إكراههن لهن غفور رحيم.
قوله: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
أي ذو نور، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، كما تقول:
رجل عدل: ابن عباس: هادي من فيهما.
الحسن: مصدر وقع موقع(2/796)
الفعل. أي الله نوّرَ السماوات، وقد قرىء به.
أبَيُّ بن كعب: معناه ضياء السماوات.
مجاهد: مدبر السماوات. وقيل: مدلول السماوات، وقيل:
معناه الأنوار كلها منه.
قال الشيخ الإمام: الغريب: يحتمل - والله أعلم - معنى آخر، وهو أن
النور ما يَرَى وُيرَى به، فوصف الله تعالى به، لأنه يرى وترى مخلوقاته لأنه
خلقها وأوجدها.
العجيب: معناه المنزه عن كل عيب، مصدر من قولهم: امرأة نوار
ونسوة نُور. حكاه الثعلبي، والمعنى صحيح، واللفظ في حق اللُه سبحانه
قبيح.
قوله: (نُورِهِ) (لِنُورِهِ)
الهاء فيهما يعود إلى الله لا غير.
قوله: (كَمِشْكَاةٍ)
هي الكوَّة لا منفذ لها. والمصباح: القنديل، وقيل: هي الأنبوبة في وسطِ القنديل، والمصباح الفتيلة المشتعلة.
الغريب: المشكاة: القنديل. والمصباح: الضوء في وسطه.
العجيب: المشكاة: الحديدة: الذي علق عليها القنديل، والمصباح
القنديل.
قوله (دُرِّيٌّ) ، قرىء بوجوه (1)
والغريب: منها: الضم والهمزة.
__________
(1) قال العلامة الدمياطي:
واختلف في (دري) الآية 35 فنافع وابن كثير وابن عامر وحفص وأبو جعفر ويعقوب وخلف عن نفسه بضم الدال وتشديد الياء من غير مد ولا همز نسبة إلى الدر لصفائها وافقهم الحسن وابن محيصن وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر الدال والراء بعدها همزة ممدودة صفة كوكب على المبالغة وهو بناء كثير في الأسماء نحو سكين وفي الأوصاف نحو سكير وافقهما اليزيدي وقرأ أبو بكر وحمزة بضم الدال ثم ياء ساكنة ثم همزة ممدودة من الدرء بمعنى الدفع أي يدفع بعضها بعضا أو يدفع ضوؤها خفاءها ووزنه فعيل وافقهما المطوعي والشنبوذي إلا أنه فتح الدال ويوقف عليه لحمزة بإبدال الهمزة ياء وإدغامه في الياء ويجوز الإشارة بالروم والإشمام. اهـ (إتحاف فضلاء البشر ص: 411) .(2/797)
ولا نظير له الا ئرً يق، وهو العصفر، والغليْة والسُرية عند بعضهم.
قوله: (تُوقَدُ)
التأنيث محمول على الزجاجة، والمراد مصباح الزجاجة.
قوله: (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ)
أي ليست من المشرق ولا من المغرب، بل في الوسط منهما، وهو الشام، وقيل: معناه لا تقع الشمس عليها غدوة أو عشية، بل تقع عليها طول النهار، فزيتها أجود ما يكون، وقيل: يصيبها الظل والشمس.
الغريب: الحسن: ليست من أشجار الأرض، لأنها لو كانت منها
لكانت شرقية أو غربية، لكنها من شجر الجنة.
قوله: (فِي بُيُوتٍ) .
"في" متصل بقوله "يُذْكَرَ فِيهَا"، فتكون "في" مكررة، كما تقول: هو
في الدار جالس فيها.
وقيل: متصل بما قبلها، أي كمشكاة في بيوت.
وقيل: مصباح في بيوت، وقيل: زجاجة. وقيل: موقد.
الغرب: "رِجَالٌ" مبتدأ، "في بيوت" خبره، أو يرتفع "رِجَالٌ"
ب "في" عند من يرفع بالظرف، أو يجعل "فِي بُيُوتٍ" صفة لشيء مما تقدم.
فيرتفع "رِجَالٌ" به بالإجماع.
ابن عباس: المساجد بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء كما
تضيء النجوم لأهل الأرض، وقيل: هي الكعبة وبيت المقدس، ومسجد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومسجد قباء.
__________
(1) قال العلامة الدمياطي:
واختلف في (توقد) الآية 35 فنافع وابن عامر وحفص بياء من تحت مضمومة مع إسكان الواو وتخفيف الفاء ورفع الدال على التذكير مبنيا للمفعول من أوقد أي المصباح وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب بتاء من فرق مفتوحة وفتح الواو والدال وتشديد القاف على وزن تفعل فعلا ماضيا فيه ضمير يعود على المصباح وافقهم اليزيدي وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي وخلف بالتاء من فوق مضمومة وإسكان الواو وتخفيف القاف ورفع الدال على التأنيث مضارع أوقد مبني للمفعول ونائب الفاعل ضمير يعود زجاجة على حد أوقدت القنديل وافقهم الأعمش وعن ابن محيصن والحسن بتاء من فوق مفتوحة وضم الدال وفتح الواو والقاف مشددة والأصل تتوقد بتاءين حذفت إحداهما كتذكر والزجاجة القنديل والمصباح السراج والمشكاة الطاقة غير النافذة أي الأنبوبة في القنديل. اهـ (إتحاف فضلاء البشر ص: 411) .(2/798)
الغريب: السدي: بيوت المدينة.
قوله: (أَنْ تُرْفَعَ) أي تبْنى، من قوله: (يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ) .
الغريب: ترفع فيها الحوائج إلى الله، وقيل: يرفع قدرها وتطهر عن
الأنجاس.
قال الشيخ الإمام: ويحتمل ترفع الأصوات تلاوة القرآن وذكر
الله، يقوله قوله: (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) ، أي يتلى كتابه، وقيل: هو قول: لا
إله إلا الله، وذكر أسمائه الحسنى.
قوله: (رِجَالٌ) .
مرفوع ب "يُسَبِّحُ" إذا كسرت الباء، ومن فتح الباء، جاز أن يرتفع بفعل
مضمر دل عليه "يُسَبِّحُ"، أي يسبحه رِجَالٌ، وإليه ذهب أبو علي.
وأنشد:
لِيُبْكَ يَزِيدُ ضارعٌ لخصومة. . . ومُخْتَبِط مما تُطيح الطّوائحُ
الغريب: يرتفع بالابتداء أو بالظرف، كما سبق.
وقيل: هم رجال، وخص الرجال بالذكر، لأن النساء لا يحضرن الجمعة
والجماعات.
قوله: (تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ) ، التجارة في السفر، والبيع في الحضر.
الغريب: التجارة: الشراء ومثله: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً) .
والمعنى: لا يلهيهم شراء ولا بيع.
قوله: (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) ، أي إقامة الصلاة، فحذف الهاء، لأن الإضافة
تنوب عنه، ومثله: ليتَ شعري أي شعري، وقولهم: والمرأة لا تنسى أبا عذرها، أي عذرتها.(2/799)
قوله: (بِغَيْرِ حِسَابٍ) .
يجوز أن يكون وصفاً للرزق، أي كثيراً لا يأتي عليه العد والحساب.
ويجوز أن يكون عائداً إلى الله، أي لا يحاسب العبد بذلك، ويجوز أن يكون
عائداً إلى العبد، أي لا يحاسبه عليه.
الغريب: "بِغَيْرِ حِسَابٍ" بغير كفاية بل فوق الكفاية، ومن الغريب: "بِغَيْرِ حِسَابٍ" من حيث لا يحتسب.
قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَهُ) .
أي جاء ما ظن أنه ماء، وقيل: إلى موضع ذلك (لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) أي لم يجد ماء، توهم كما توهم.
وقيل: لم يجد الموضع وجوداً، و "شَيْئًا" نصب على المصدر، والأحسن لم يجد ما توهم وجوداً.
قوله: (وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ)
رجع الكلام إلى ذكر الكفار، ووجد حملاً على كل واحد من الكفار، والمعنى: وجد الكافر جزاء الله عنده، أي عند الكافر، و "الهاء" تعود إلى الكافر (فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) : أعطاه جزاءه كاملا.
قوله: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)
إذا حاسب فحسابه سريع.
الغريب: هو تقريب زمان الحساب، وهو القيامة.
قوله: (لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا) .
أي لا يراها ولا يقرب من رؤيتها.
الغريب: الفراء: يراها بعد أن كاد لا يراها وقيل: إذا كان مع
الماضي فهو إثبات، وإذا كان مع المستقل فهو نفي
قوله: (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) .(2/800)
أي لكل واحد من الطير والبهائم والحشرات تسبيح وصلاة تليق به، لا نقف
نحن على ذلك، وقيل: تسبيحه وصلاته حمل على غيره على التسبيح والصلاة بدلالته على الوحدانية، والمطيعون لهم تسبيح عمل وتسبيح دلالة.
الغريب: صوت كل شيء: تسبيحه، وحركته: صلاته.
وفاعل "عَلِمَ" مضمر، يعود إلى كل، و "الهاء" تعود إلى "كُلٌّ" أيضاً، وقيل
تعود إلى الله، وقيل: "عَلِمَ" يعود إلى الله سبحانه، و "الهاء" تعود إلى "كُلٌّ".
قوله: (سَحَابًا) .
جمع سحابة، وقوله: (بَيْنَهُ) يعود إلى السحاب، وهو جمع فلم يحتج
إلى ذكر شيء آخر.
قوله: (الْوَدْقَ) هو المطر، وهو المصدر أيضاً، تقول:
وَدقَ - يدِق وَدْقاً.
الغريب: الْوَدْقَ، الماء ومنه استودقت الفرس.
العجيب: الْوَدْقَ: البرق.
قوله: (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ)
"مِن" الأولى لابتداء الغاية بإجماع، والسماء سماء الملائكة، وقيل: السحاب، وقيل: جانب السماء، ومحل (مِنَ السَّمَاءِ) نصب على الظرف، و "مِنْ " الثانية مختلف فيه، فذهب بعضهم إلى أنه لابتداء الغاية أيضاً.
"جبال" بدل من السماء بدل البعض من الكل، فيكون
الضمير من قوله: "فيها" يعود إلى السماء، و "مِنْ " الثالثة للتبيين، أي الجبال التي فيها من البرد لا من الحجر.
قال الشيخ الإمام: ويحتمل أن يكون من زيادة و "بَرَدٍ" هو(2/801)
المفعول به، أي ينزل من جبال السماء بردا، وذهب بعضهم إلى أن الثانية للتبعيض في موضع المفعول به، كما قلت في الثالثة، والثالثة للتبعيض.
و"فيها" يعود إلى الجبال، و "برد" في محل رفع بالظرف، فعلى هذا يحتمل أن تكون الجبال هي السحاب.
ابن عيسى: الأول لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض، والثالثة للتبيين.
ويشكل على هذا ذكر العائد من "فيها"، وذهب جماعة إلى أن المراد بالجبال التكثير، كما قال الشاعر:
بطونُ جبالِ الشعرِ حتى تيسرا
العجيب: ابن بحر: الجبال: ما جبله الله من البَرَد، أي خلقه، وكل
جسم شديد، جبل، ومنه الجبلة. والبَرد هو المعروف.
ابن عيسى: الثلج.
قوله: (خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ)
قيل: من النطفة.
الغريب: أن الله خلق الماء أولاً، ثم قلب الماء ناراً، وخلق منها
الجن. وقلبه ريحاً، وخلق منها الملائكة، ثم أحاله طينا وخلق منه آدم.
وعن النبي - عليه السلام - أنه قال: (خلق الخلق كله من الماء".
قوله: (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي)
غلب العاقل على غيره لما اجتمع مع(2/802)
غيره، فجمع جمع العقلاء. فقال "فمنهم"، ثم لما فصل ذكره بلفظ العقلاء.
"من يمشي" ليوافق التفصيل الجملة.
الغريب: في مصحف أبي، "وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أكثر"، من
ذلك.
وقيل: لما ذكر عقيبه (يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) اندرج فيه ما يمشي على
أكثر من أربع.
العجيب: ما زاد رجله على أربع، فاعتماده في مشيه على أربع.
قوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
الغريب: (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم)
متصل به، أي: من يشاء منهم.
وقوله: (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ) اعتراض.
سؤال: لِمَ قال في هذه الآية: "لَقَدْ" بغير واو، وحذف منها "إليكم".
وقال في الآية قبلها: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ) ؟
الجواب: لأن اتصال الآية الأولى بما قبلها أشد، فإن قوله:
"وَمَوْعِظَةً" يعود إلى المأمورين بقوله: "وَلْيَسْتَعْفِفِ" وقوله: "وَلَا تُكْرِهُوا"
وقوله: (فَكَاتِبُوهُمْ) ، فاقتضى الواو، ليعلم أنه عطف على الأول، واقتضى
بيانه بقوله "إِلَيْكُمْ" ليعلم أنه خطاب للمخاطين، والمخاطبون بالثانية هم
المخاطبون بالأول، وأما الثانية، فاستئناف كلام.
قوله: (طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) .
أفضل من هذا القسم، وقيل: هذه طاعة معروفة منكم، أي إنها بالقول
دون الاعتفاد. وهذا غريب.(2/803)
وقيل: لتكن منكم طاعة.
قوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) .
إنما زاد "منكم" لأنهم المهاجرون.
قوله: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ) .
قرىء - بالتاء - وهو خطاب للنبي، و" الذين كفروا" المفعول الأول.
و"مُعْجِزِينَ" المفعول الثاني، وقرىء - بالياء -، فيكون" الذين كفروا".
الفاعل والمفعول الأول مضمر، أي أنفسهم، و "مُعْجِزِينَ" المفعول الثاني.
قال الشيخ الإمام: يحتمل أن "الياء" للنبي - عليه السلام - عدل من
الخطاب إلى الغيبة، وله نظائر.
العجيب: قول من زعم أن "مُعْجِزِينَ" المفعول الأول و "فِي الْأَرْضِ"
المفعول الثاني، كما تقول: حسبت زيداً في الدار، وهذا خطأ، لأن "في"
متصل ب "مُعْجِزِينَ".
ومعنى، عجزه، جعله عاجزاً، ونسبه إلى العجز.
قوله: (مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ) .
تفسير قوله: "ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" و "ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ" بدل منها، ومن رفع أي
هي ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ، قوله: "بعدهن" أي سواهن، وليس ها هنا لظرف مكان
ولا زمان.
قوله: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ) .
الغريب: ليس في الأعمى، أي المواكلة معهم، لأن الناس كانوا(2/804)
يتقون العميان والعرجان والمرضى، وقيل كرهوا مواكلتهم لأنهم لا ينالون من الطعام مثل مناولة الصحيح، فيكون في ذلك نوع من الحيف.
العجيب: تم الكلام على قوله: " ولا على المريض حرج".
والمعنى: ليس عليهم حرج في القعود عن الغزو، ثم استأنف فقال: "ولا
على أنفسكم - حرج - أن تأكلوا " الآية.
قوله: "أَوْ صَدِيقِكُمْ" يريد الأصدقاء.
قال الشاعر:
دعها فما النَّحويُّ مِنْ صَديقها
أي من أصدقائها، والصديق: هو الذي صدقك في مودته، ويوافقك
في ظاهره وباطنه.
ابن عباس: الصديق: أكبر من الوالدين، ألا ترى أن
أهل النار لم يستغيثوا بالآباء والأمهات بل قالوا: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) .
وقال - عليه السلام -: "قد جعل في الصديق البار عوضا من الرحم المذمومة) .
قوله: (تَحِيَّةً) - بالنصب - على المصدر، أي وحيوا تَحِيَّةً، ويجوز أن يكون مصدراً، كقوله: "سَلِّمُوا"، وإن لم يكن من لفظه.
قوله: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا) .
أي لا تقولوا: يا محمد، ولكن عظموه، وقيل: لا تتعرضوا لسخطه.
فإن دعاءه عليكم موجب ليس كدعاء غيره.
الغريب: معناه: إذا دعاكم لأمر فعجلوا الإجابة.
قوله: (اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا) .
صفة خاصة للقواعد لا للنساء ليصير المبتدأ موصوفاً بموصول، فيحسن(2/805)
دخول الفاء في الخبر، كقوله: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) .
قوله: (يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا) .
التسلل والانسلال: الخروج من الشيء، (لِوَاذًا) ، ملاوذين، حال.
وهو الاعتصام بالشيء بالدور معه.
الغريب: (يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) "عَنْ" زائدة، أي يخالفون أمره.
وقيل: في المخالفة معنى الاعتراض، فعدَّاه بـ "عَنْ".
الغريب: "عَنْ" بمعنى "بعد" أي بعد أمره.
روي عن الأعمش عن شقيق بن سلمة، قال: شهدت ابن عباس.
وَلِيَ الموسم، فقرأ سورة النور على المنبر وفسرها، فلو سمعت
الروم - - لأسلمت - والله أعلم.(2/806)
سورة الفرقان
قوله: (تَبَارَكَ) .
هذه لفظة لا تستعمل إلا لله، ولا تستعمل إلا بلفظ الماضي، وأصله
من الدوام والمواظبة والبركة.
قوله: (الْفُرْقَانَ) هو القرآن الفارق بين الحق والباطل.
الغريب: قيل: الفرقان ها هنا اسم لجميع كتب الله، وهذا على أن
يجعل القرآن مشتملا على معاني جميع ما في سائر كتب الله أو يجعل قوله
"على عبده" - وهو محمد - عليه السلام -، واقعا موقع الجمع، كقوله:
(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ) .
قوله: (لِيَكُونَ) الضمير فيه يعود إلى "عَبْدِهِ" وهو الظاهر، وقيل: ليكون
الفرقان نذيراً لأهل كل زمان.
الغريب: يعود إلى الذي نزل القرآن، وقد جاء في
وصفه - سبحانه - "المنذر" في قوله: (إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) ، فيكون
(الفرقان) جميع الكتب و "عَبْدِهِ" جميع الرسل.
قوله: (وَاتَّخَذُوا) .(2/807)
- الواو ضمير الكفار أو النصارى، ولم يتقدم ذكرهم على الانفراد، بل
لفظ العالمين اشتمل عليهم.
الغريب: لفظ "نذير" دل على المنذرين وهم هم.
قوله: (وَهُمْ يُخْلَقُونَ) ، بعود إلى الآلهة.
الغريب: يعود إلى الكفار والنصارى.
قوله: (ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) ، قدم - الضر موافقة لقوله: (مَوْتًا وَلَا حَيَاةً) ، وقدم في السورة أيضاً النفع في قوله: (مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ) موافقة لـ (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) .
قوله: (وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) .
قيل: هم جبر ويسار وأبو فكيهة. وقد سبق، وقيل: هم اليهود.
أي هم يلقون أخبار الأمم إليه، وهو يكسوها عبارته.
الغريب: المبرد: عَنَوا المؤمنين، لأن "آخر" لا يكون إلا من جنس
الأول.
قوله: (فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا) ، هذا رد من الله عليهم. -
الغريب: هو من تمام كلام الكفار.
قوله: (اكْتَتَبَهَا) .
أمر بكتبها، وقيل: جمعها، وأصل الكتب: الجمع.
الغريب: كتبها بيده، فتكون من جملة كذبهم عليه.(2/808)
قوله: (مَسْحُورًا) .
قيل: مخدوع، وقيل: سُحِر فجُن، وقيل: سحر بالطعام والشراب.
أي تَغَذى وقيل: له سَحْر.
الغريب: قال الشيخ: يحتمل ضرب سحْره بعله كما تقول: رأسْته
ورجَلْته، أي أصبتهما.
العجيب: الماوردي: سَحَر لكم فيما تقوَّله. وهذا بعيد لأن من
سحَر يكون ساحراً لا مسحوراً.
قوله: (ويجعلُ لك) .
من جزم، جعل الجنات في الدنيا، وعطفه على محل "جعل" وهو جزم
بجواب الشرط، ومن رفع، في الجنة ويكون استئافاً.
قوله: (إِذَا رَأَتْهُمْ) .
وصف جهنم بالرؤية كما وصفها بالكلام في قوله (نقول لجهنم)
الآية. وقد أثبت لها عينين في قوله - عليه السلام - " من كذب علي
متعمداً فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً". فقيل: يا رسول الله، وهل لها من
عينين، قال: نعم، ألم تسمعوا قول الله: (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ) .
وذهب بعضهم إلى أن هذا عبارة عن المقابلة والمحاذاة، نحو: داري تنظر
إلى دارك، وداري ترى دارك.
الغريب: هذا من المقلوب، أي إذا رأوها من مكان بعيد، وقيل:
المضاف محذوف، أي رآهم خزنتها، فحذف المضاف وأسند الفعل إلى
ضمير جهنم.(2/809)
العجيب: النار اسم لحيوان ناري يتكلم ويرى ويسمع ويتغيظ ويزفر.
قوله: (مَكَانٍ بَعِيدٍ) مسيرة عام، وقيل: خمسمائة عام.
قوله: (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا)
هو الهمهمة وغليان الغيظ، وقيل: صوت تغيظ.
فحذف المضاف، وقيل: سمعوا لها زفيراً، ورأوا لها تغيظاً، أي لما رأتهم.
قوله: (هُنَالِكَ)
صالح للمكان والزمان، أي حينئذٍ، وفي ذلك المكان.
قوله: (ثُبُورًا) أي يقولون: ثبرنا ثُبُورًا، وهو الهلاك، وقيل: هو
دعاؤهم يا ثبوراه يا ويلتاه، وقيل: يا انصرافاه عن طاعة الله، وهو الغريب، حكاه: ابن عيسى من قولهم ما ثبرك عن هذا الأمر، أي ما صرفك.
وقوله: (ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا) .
حمله بعضهم على العدد، أي مرة بل مرات، فيكون نصباً على
المصدر، وحمله بعضهم على الواحد والجمع، كما تقول: لا تدع رجلاً
وادع رجالًا.
والثبور: مصدر يصلح للواحد والجمع، فيكون نصباً مفعولاً به.
قوله: (وَعْدًا مَسْئُولًا) .
أي كانت الجنة لهم جزاء.
قوله: (خَالِدِينَ) .
حال، وذو الحال الضمير في "مَا يَشَاءُونَ "، أو في "لَهُمْ".
قوله: (وَعْدًا مَسْئُولًا)
يجوز أن يكون خبراً لـ "كَانَ"، ويجوز أن يكون "عَلَى رَبِّكَ" خبر كَانَ، و "وَعْدًا" متصل بما قبله تأكيداً.
قوله: "مَسْئُولًا" هو ما سألوه في الدنيا من قوله: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ) .(2/810)
وقيل: سأل لهم الملائكة، وقيل: مطلوبا، وقيل: واجباً على الكريم إجابة
السؤال.
الغريب: ابن عباس: وعدهم بالجزاء، فسألوه الوفاء، ابن عيسى:
متى سألوا شيئاً فهو لهم، من قوله: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) وأما المعاصي فتصرف عن شهواتهم.
قوله: (أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ) .
"اتخذ" ها هنا متعد إلى مفعول واحد، وهو قوله: "أَوْلِيَاءَ"، ودخله
"مِنْ" للنفي في قوله: "ما كان" كما دخل في قوله: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ) . وقوله: (مِنْ دُونِكَ) ظرف، كما في قوله: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ) وقراءة أبي جعفر في جماعة: (أن نُتَخَذَ) ضعيف (1) ، لأن اتخذ على قراءته متعد إلى مفعولين، أحدهما: ضمير المتكلمين، وهو الذي قام مقام اسم ما لم يسم فاعله، والثاني: "أولياء" وأدخل عليه من، وليس هي في موضعه، لأن "من" إنما يزاد في المفعول الأول، إذا كان الفعل متعديا إلى مفعولين، تقول: ما أعطيت من أحد درهما، ولا تقول: ما أعطيت أحدا من درهم، ووجه قراءته: أن الفعل لما بني للمجهول صار كالفعل المتعدي إلى مفعول واحد، فجاز دخول "من" عليه، كما تقول: ما أعطيت من حبة، كذلك: ما اتخذت من ولي.
قوله: (بُورًا) ، هالكين، وقيل: فاسدين، وقيل: لا خير فيهم، مصدر
لا يثنى ولا يجمع.
__________
(1) القراءة متواترة، فكيف يحكم عليها بالضعف؟!!
قال الشهاب الدمياطي:
واختلف في () أن نتخذ (الآية 18 فأبو جعفر بضم النون وفتح الخاء مبنيا للمفعول وهو يتعدى تارة لواحد نحو أم اتخذوا آلهة من الأرض وتارة لاثنين من اتخذ إلهه هويه فقيل ما هنا منه فالأول ضمير نتخذ النائب عن الفاعل والثاني من أولياء ومن تبعيضية أي بعض أولياء أو زائدة لكن تعقب بأنها لا تزاد في المفعول الثاني والأحسن ما قاله ابن جنى وغيره أن من أولياء حال ومن مزيدة لتأكيد النفي والمعنى ما كان لنا أن نعبد من دونك ولا نستحق الولاية وافقه الحسن والباقون بفتح النون وكسر الخاء على البناء للفاعل ومن أولياء مفعوله ومن مزيدة وحسن زيادتها انسحاب النفي على نتخذ لأنه معمول لينبغي وإذا انتفى الابتغاء انتفى متعلقه وهو اتخاذ الأولياء. اهـ (إتحاف فضلاء البشر. ص: 416) .(2/811)
الغريب: (بُورًا) جمع باير. كحايل وحُول.
قوله: (إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ) .
"إنَّ" في الآية زائدة، والتقدير: إلا هم، وقيل: القول مضمر تقديره إلا
قيل لهم إنهم ليأكلون الطعام كما قيل لك.
الغريب: إلا رسلاً إنهم ليأكلون، فهو صفة موصوف محذوف.
العجيب: إلا من إنهم ليأكلون، فحذف الموصول، وبقيت الصلة.
وهذا لا يجوز عند البصريين.
قوله: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى) .
هو يوم البعث، وقيل: هو يوم الموت، وهو منصوب بفعل مضمر، أي
اذكر يوم، وقيل: ينتصب بفعل دل عليه " لا بُشْرَى"، أي يحزنون يومئذ، ولا ينتصب بقوله: "يَرَوْنَ" لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف، ولا ينتصب بـ "بُشْرَى" لأن ما بنى مع "لا" لا يعمل فيما قبله، ولأن المصدر أيضاً لا يعمل فيما قبله.
قوله: (حِجْرًا مَحْجُورًا)
هذا من كلام الملائكة، أي ويقول الملائكة للمجرمين: جعل الله البشرى عليكم حراماً محرماً.
الغريب: هذا من قول المجرمين، إذا قيل لهم: لا بشرى، قالوا:
حِجْرًا مَحْجُورًا، أي منعنا عن كل خير.
العجيب: "حِجْرًا" من كلام الملائكة، و "مَحْجُورًا" من كلام الله.
فيحسن الوقف على "حجراً".
قوله: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا) .
هذا كقول العرب: قام يشتمني، وليس ثَم قيام، وقيل: قصدنا
وعمدنا، وقيل: هو كقوله: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ) .(2/812)
الغريب: هو قد قدم الملائكة، وقيل: قَدِم أمرنا.
قوله: " هباء" هو وهج الغبار، وقيل: ما ذرته الرياح من يابس الورق.
وقيل: الرماد، وقيل: الذرة في الكوَّة.
الغريب: ابن عباس: ماء مهراقاً.
قوله: (خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا) .
منزلاً وموضع قرار، وقيل: المستقر: الجنة، والمقيل: القبر، وقيل:
المقيل: المنزل أيضاً، وهو الاستكنان نصف النهار. خوطبوا بما كانوا
يعرفونه.
وفي قوله: (خَيْرٌ) و "أَحْسَنُ" أقوال:
أحدها: هذا للمبالغة وليس ثم مشاركة، وقيل: الجنة والنار لما دخلا من باب المنازل جاز استعمال لفظ التفضيل.
وقيل: خير من مقيلهم في الدنيا، وقيل: خير وأحسن من مستقر
الكفار في الدنيا.
الغريب: خير مستقر وأحسن مقيلاً ممن في مقره خير وحُسْن.
العجيب: كلاهما خير وحسن، لأن حكمة الله اقتضت ذلك، وما
للمسلمين أفضل.
قوله: (تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ) .
هو السحاب، و "الباء" أي متغيمة، وقيل: على الغمام، وقيل: مع
الغمام.
الغريب: عن الغمام، وهو ما في البقرة: (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ)
أي تتشقق لنزول الرب - سبحانه - والملائكة، وعن ابن عمر: يهبط
الله - سبحانه - حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب، منها النور
والظلمة والماء، فيصوت الله في ملك الظلمة صوتاً تنخلع له القلوب.(2/813)
العجيب: الحسن: الغمام سترة بين السماء والأرض، تعرج الملائكة
في ذلك الغمام، تنسخ أعمال بني آدم ليحاسبوا في الأرض - والله أعلم -.
قوله: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) .
قوله: "يَوْمَئِذٍ" يجوز أن يكون مفعولًا به على الحقيقة أو على الاتساع.
ويجوز أن يكون ظرفاً له، ويجوز أن يكون ظرفاً للمضمر في "لِلرَّحْمَنِ".
و"لِلرَّحْمَنِ" خبر المبتدأ، و "الْحَقُّ" صفة للمبتدأ، ويجوز أن يكون "الْحَقُّ"
الخبر، أي المستحق من غير منازع في تسمية " الملك) .
قوله: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) .
الجمهور: على أن الظَّالِمُ في الآية: عقبة بن أبي معيط.
والرسول محمد - عليه السلام -، و"فلان" أبي بن خلف، الشعبي: أمية بن
خلف، وقيل: "الظَّالِمُ" عام، و "فلان" كناية عن إبيلس، لقوله بعده: "وكان الشيطان "، وقيل: الظالم عام، و"فلان " كناية عن المضل الذي أضله.
الغريب: إنما ذكر بلفظ الكناية ليصير اللفظ عاماً لكل ظالم اتخذ
خليلاً مفصلاً.
العجيب: ما حكاه القُتَبي والجاحظ: أن الرافضة - لعنهم الله -
زعموا أن هذا التغيير من الكاتب، ولم يكن في القرآن الظالم، وفلان
بالكتابة، بل كانا اسمين صريحين يعنون الصديق والفاروق - رضي الله عنهما
وكرم وجوههما -.
قوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) .(2/814)
أي هَلا أنزل القرآن على محمد - عليه السلام - دفعة واحدة كالتوراة
والإنجيل أي تنزيلًا، " كذلك "، وأجاب الله - سبحانه - فقال: (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) أي أنزلناه متفرقاً لنُثَبِّتَ بِهِ.
الغريب: يحتمل أن "اللام " متصل بقوله: (ورتلناه ترتيلًا) ، أي
جعلناه بين إنزاله فرَجاً شيئاً بعد شيء، زمانا ليس بالكثير.
العجيب: قال سهل: "اللام" لام القسم على ما سبق.
وذهب جماعة إلى أن "كذلك" متصل بالكلام الباقي، أي أنزلناه كذلك لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ.
ومن العجيب: قول الحسن: تقديره، ورتلناه ترتيلًا لكيلا يأتونك بمثل إلا
أجبنا عنك وجئناك بِالْحَقِّ وأحسنَ تفسيراً من مثلهم.
قوله: (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ) .
متصل بقوله: (أصحاب) وإنَّ معنى "يُحْشَرُونَ" يجرون، وجاء في
الخبر أن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم.
الغريب: هو من قولك: مشى فلان على وجهه، إذا لم يدر أين ذهب.
فهو كقوله: (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ) ، لا يتجه بجهة
واحدة.
قوله: (فَدَمَّرْنَاهُمْ) .
أي فذهبا إلى القوم، فلم يؤمنوا بهما، فدمرناهم.
وقرئ في الغريب: "فَدَمِّرَانِّهِمْ"، على الأمر ونون التوكيد.
(وَقَوْمَ نُوحٍ) .
منصوب بفعل مضمر دل عليه "أَغْرَقْنَاهُمْ"، وقيل: عطف(2/815)
على دمرناهم"، وقيل: (أهلكنا قوم نوح) .
قوله: (وأصحابَ الرَّسِّ) .
الجمهور: على أنه البئر: وقيل: هو ما بين نجران إلى اليمن إلى
حضرموت، وقيل: الرَّسِّ ماء ونخل لبني أسد، حكاه القفال.
الغريب: الرَّسِّ: اسم عجمي.
وقد أطنب المفسرون في ذكر أصحاب الرس إطناباً.
والغريب: من ذلك، سعيد بن جبير، قال: كان لأهل الرس نبي يقال
له: حنظلة بن صفوان، وكان بأرضهم جبل يقال له: دمخ، مصعده في
السماء ميل، وكان عليه من الطير ما شاء الله، ثم ظهر طير كأعظم ما يكون
من الطير، وفيه من كل لون، وسموها عنقاء، لطول عنقها، وكانت تنقض
على الطير تأكلها، فجاعت يوماً، فأعوزتها الطير، فانقضت على صبي.
فذهبت به، فسميت عنقاء مغْرب، لأنها أغربت بما أخذته، فذهبت به، ثم
إنها انقضت على جارية ترعرعت، فأخذتها، فضمتها إلى جناحين لها
صغيرين سوى الجناحين الكبيرين، فطارت، فشكوا إلى بيهم، فقال: اللهم
خذها واقطع نسلها فأصابتها صاعقة، فاحترقت، ولم ير لها أثر، فضربتها
العرب مثلاً، ثم إنهم قتلوا نبيهم، فأهلكهم الله.
قتادة: الرَّسِّ: بئر بفلْج اليمامة، وقيل: هم قوم شعيب، سوى أهل مدين، وقيل: هم أهل مدين. محمد بن مروان: كان أصحاب الرس قوماً.
نساؤهم ساحقات.(2/816)
قوله: (وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ) .
"كُلًّا" منصوب بمضمر، أي أنذرنا، ويجوز أن ينتصب بالمضروب له.
لأن الفعل إذا اتصل به الجار، ثم حذف نصب الاسم، نحو: زيداً مررت
به، تريد: مررت به، فلما حذفت الأول نصبت.
الغريب: "الهاء" في "له" يعود إلى محمد - عليه السلام -، أي ضربنا
كلهم أمثالًا له - عليه السلام -.
قوله: (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) .
متصل بمضمر، أي يقولون أهذا الذي بعث الله رسولا، أي بعثه الله
رسولًا.
قوله: (إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا) .
أي يصرفنا بحلاوة كلامه عن عبادة الأصنام، و"إنْ"، هي المخففة من
الثقيلة. و"اللام" للفرق، و "كاد" للتقريب.
الغريب: "كاد" من الكيد.
قوله: "لولا" جوابه محذوف، أي لَثَمرَ كيده.
قوله: (أَضَلُّ سَبِيلًا)
وصف السبيل بالضلال، والمراد سالكوها.
قوله: (إِلَهَهُ هَوَاهُ) .
أي بهواه، أي بما يقتضي هواه.
الغريب: تقديره، اتخذ هواه إِلَهَهُ، فهو المفعول الأول، و "إِلَهَهُ"
المفعول الثاني.
قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) .(2/817)
ألم تنظر إلى صنع ربك، كيف، وقيل: ألم تر إلى مد الله الظل.
وقيل: إلى الظل كيف مده الله.
قوله: (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا)
ذكَّرَ الدليل، لأنه أعم صريح، وقيل: لأنه مصدر، وقيل: شذ، كقريب وبعيد ورميم وكثير.
(ثُمَّ قَبَضْنَاهُ) .
أي الشمس، أو الدليل.
قوله: (وَالنَّوْمَ سُبَاتًا) .
قطعاً لأعمالكم وراحة لأبدانكم.
الغريب: "سُبَاتًا" من قولهم: سبت المريض: إذا غشى عليه، فهو
مسبوت.
قوله: (وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا)
أي ذا نشور، وهو الانتشار في طلب المعاش.
الغريب: لما جعل الليل للنوم، وقد جعل النوم وفاة في قوله تعالى:
(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) ، جعل النهار نشوراً من قولك: نُشِر الميت.
قوله: (مَاءً طَهُورًا) .
أي طاهراً، وبناه على فَعول للمبالغة، أي لا ينجس قط، والماء
النجس في الشرع، ما وقع فيه نجاسة، وبنى فَعول للمبالغة، فإن كان
الفعل لازماً فهو لازم، وإن كان متعديا فمتعد، نحو: نَؤوم، وأكول.
الغريب: يطهر الأرض من الجدب، لأن الجدب ميتة، فكأنها نجسة.
قوله: (وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا) .(2/818)
لم يطلق، إذ ليس كل الناس يعيش بماء المطر، و "أناسيً" جمع
إنسي، وقيل: جمع إنسان، قلب النون ياء، ثم أدغم.
قوله: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ) .
الجمهور: على أن "الهاء" تعود إلى المطر، وعن ابن مسعود، وقيل:
عن ابن عباس - رضي الله عنهم - ليس عام بأكثر مطراً من عام، ولكن الله
يصرفه بين خلقه.
وقوله: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا)
اي نسبوا المطر إلى الأنواء، وذهب جماعة إلى: أن "الهاء" تعود
إلى القرآن، وقيل: إلى جميع ما تقدم، والكفور: الكفر.
قوله (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) : فسرهما بقوله: (هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ) .
الغريب: البحر اسم للملح دون العذب، وثنى كالعمرين والقمربن.
قوله: (نَسَبًا وَصِهْرًا) .
النسب: ما لا يحل نكاحه، والصهر: ما يحل من القرابة، وغير ذلك.
وقيل: النسب: البنون، والصهر: البنات، لأن من قِبَلهِن يكون الإصهار.
الغريب: النسب، السبع المذكور في قوله: (حُرِّمَتْ) ، والصهر
الخمس المذكور بعدها من قوله: (وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) إلى قوله
(مِنْ أَصْلَابِكُمْ) .
العجيب: النسب آدم والصهر حواء.(2/819)
قوله: (عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) .
(رَبِّهِ) هو الله - عز وجل -، أي معينا لأعدائه، وقيل: المضاف
محذوف، أي على أوليائه، وقيل: على معصية ربه، وقيل: "ربه" الصنم.
أي قوياً يعمل به ما يشاء من الصوغ وتغيير الشكل.
الغريب: "على" بمعنى "الباء"، أي يتقوى به بزعمه.
العجيب: "عَلَى رَبِّهِ" أي على الله باطلاً من قوله: (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا) ، وظهر بحاجته، نَبَذَها وراء ظهره.
قوله: (إلا من شاء أن يتخذَ) .
قيل: الاستثناء منقطع، أي لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سببلاً
فليتخذ.
الغريب: هو متصل، والتقدير، ألا أجر ما شاء، أي ما يحصل لي من
الثواب بسبب إيمانه.
قوله: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) .
يجوز أن يكون في محل جر بدلًا من "الذي لا يموت "، أو وصفاً له.
ويجوز أن يكون نصباً على المدح بإضمار أعني، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ.
أي هو الذي، ويجوز أن يكون مبتدأ، "الرحمن" خبره، ويجوز أن يكون صفة
له، "فمئل" خبره، ويجوز أن يكون الكلام تاماً على قوله "أيام" فيرتفع
الرحمن بقوله: (استوى) .
الغريب: " الرحمن" رفع بالابتداء " فا سأل " خبره، و" الفاء" زيادة.
قوله: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)
أي خبيراً به، وقيل: "به" متصل بقوله: "فَاسْأَلْ" أي عنه.
الغريب: السؤال: بمعنى الطلب، أي فاطلب باللهِ ما تطلب.(2/820)
وقوله (خبيرا) " يجوز أن يكون حالاً من الرحمن أو من "الهاء".
قوله: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) ، أي خبيراً به، وقيل "به" متصل بقوله:
وكفى به"، ويجوز أن يكون مفعولًا به، لقوله: (فَاسْأَلْ) ، و "به" يعود إلى
الرحمن) .
الغريب: يجوز أن يعود إلى الاستواء، ويجوز أن يعود إلى الخلق.
قوله: (لِمَا تَأْمُرُنَا) .
أي لأمرك، ف "مَا" للمصدر، ويجوز أن يكون بمعنى الذي، والضمير
محذوف، أي "به".
قوله: (بُرُوجًا) .
هي البروج الاثنا عشر، وقيل: قصوراً، وقيل: نجوما كباراً.
قوله: (خلفةً) .
أي يختلفان إلى الخلق، هذا حينا، وهذا حينا، وقيل: مختلفين في
اللون، وقيل: (خلفةً) ، يخلف كل واحد منهما عن صاحبه.
الغريب: (خلفةً) النهار يخلف عن نهار، والليل يخلف عن ليل.
العجيب: خلفة في الزيادة والنقصان. حكاه القفال.
قوله: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ) .
جمع عبد.
الغريب: ابن بحر: العباد: ها هنا جمع عابد، كصاحب وصحاب.
وراجل ورجال.
قوله: (الَّذِينَ يَمْشُونَ) خبره.
الغريب: صفة للمبتدأ، وكذلك ما بعده "أولئك" خبره.(2/821)
قوله: (قَالُوا سَلَامًا) ، أي قولا سلاماً، ومعناه: ذا سلام يَسْلمون من
عقباه، وقيل: سَلَّموا سلاماً.
الغريب: "سَلَامًا" براءة منكم بريئا من خيركم وشركم، لا خير بيننا ولا
شر، هذا قول سيبويه: والآية منسوخة، وليس في سيبويه ذكر الناسخ
والمنسوخ إلا هذا، قال: لأن الآية مكية، ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن
يسلموا على المشركين.
قال المبرد: أخطا سيبويه في هذا، وأساء العبارة، لأنه لا معنى لقوله: ولم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين، وإنما كان ينبغي أن يقول: ولم يؤمر المسلمون يومئذٍ أن يحاربوا المشركين، ثم أمروا بحربهم. وهذا تجني من المبرد - كعادته معه في مواضع من الكتاب - وإنما معنى كلام سيبويه: لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلموا على المشركين، بل أمروا أن يتسلموا ويتبرأو"، ثم نسخ ذلك بالأمر بالحرب.
وقد سلم المبرد أن الآية منسوخة - والله أعلم -.
قوله: (سُجَّدًا وَقِيَامًا) .
أخر القيام لروي الآية، وليعلم أن القيام في الصلاة.
قوله: (غَرَامًا) .
هو مصدر غرم غرما وغراماً، ومعناه لازماً ملحاً. والحسن: كل
غريم يفارق غريمه إلا جهنم. وقيل: بلاء وثقلاً وهلاكا.
الغريب: محمد بن كعب: سأل الله الكفار ثمن نعمته، فلم يؤدوا
إليه، فأغرمهم، فأدخلهم النار.(2/822)
قوله: "أثاما".
عقوبة، تقول: أثم - با لكسر - أذنب، وأثَم - بالفتح - جازاه.
قال الشاعر:
وهل يأثمني الله في أن ذكرتها. . . وعللت أصحابي بها ليلة النفر
والأثام جزاء للإثم، وقيل: "أثاما" إثما. وقيل: اسم واد في جهنم فيه
الزناة.
وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - (الأثام والغى بئران في النار".
قوله: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) .
ذهب جماعة إلى: أن المعنى: يمحو السيئات، ويجعل مكانها
الحسنات في الآخرة، وقيل: إنما هي في الدنيا، أي يبدل بالشرك إيماناً.
وبالزنا إحصاناً، وبالعصيان طاعة.
الغريب: السيئات عين العقاب، والحسنات عين الثواب. أي يجعل
مكان العقاب ثواباً.
قوله: (فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا) .
أي إلى ثوابه وإحسانه.
الغريب: من تاب فليتب لله لا لغيره، كما قال الشاعر:
فَما لله تابَ ابو كبير. . . ولكن تابَ خوفَ سعيدِ زيرِ
ومن الغريب: من تاب فلا يهتم لما سبق، فإنه يتوب إلى من يقبل
التوبة ويعفو عن السيئة.(2/823)
قوله: (لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) .
الشرك والصنم والكذب وشهادة الزور والغناء والنوح، كلها أقوال.
الغريب: أعياد النصارى، وقيل: لعبة كانت في الجاهلية.
قوله: (مَرُّوا كِرَامًا)
أي معرضين عنه، وذكر أن أصله من قول العرب
شاة كريمة إذا كانت تعرض عن الحالب بوجهها عند حلبها، فاستعير
للصفح عن الذنب.
الغريب: إذا ذكروا الفروج أو النكاح كفوا عنه.
قوله: (واجعلنا للمتقينَ إماماً) .
يقتدى بنا في أمر الدين.
الغريب: اجعلنا نَؤم المقتدين.
قال القفال وغيره من المفسرين: في الآية دليل على أن طلب الرئاسة
في الدين واجب.
العجيب: "إماماً" مثالاً، وقيل: رِضى، والإمام مصدر أمه، وقيل:
جمع آم كرِعَاء وتجار.
قوله: (مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) .
قيل: "مَا" للنفي، أي لا وزن لكم عنده لولا تضرعكم.
الغريب: لولا دعاؤه إياكم، فيكون المصدر مضافاً إلى المفعول.
وقيل: "مَا" للاستفهام، أي ما يصنع بكم. من عبأت الجيش، هيأته للقتال، "لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ) " قولكم (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ) الآية، والأول(2/824)
من العبء وهو الحمل الثقيل. ومن الغريب: ما يعبؤ لمغفرته لكم لولا
دعاؤكم الأصنام وعبادتكم إياها.
قوله: (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) ، أي الرسول.
الغريب: قصرتم في العبادة من قوله (كذب القتال) .
قوله: (يَكُونُ لِزَامًا)
أي جزاء التكذيب ملازماً، وقيل: هو القتل يوم بدر، وقيل: هو القتال، وقيل: هو العذاب يوم القيامة، وقيل: هو الموت، وقيل: حتماً مقضيا، وقيل: قضاءً وفيصلًا لما ينزل بهم.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - خمس مضين: الدخان واللزام
والبطشة وانشقاق القمر والردم. والله أعلم -.(2/825)
سورة الشعراء
قوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ) .
أي، قاتل نفسك ومهلكها.
(أَلَّا يَكُونُوا) أي لئلا يكونوا.
ومحله نصب، لأنه مفعول له.
قوله: (فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ) .
أي فتظل، قوله: (خَاضِعِينَ) جُمِعَ جَمْع السلامة، وله وجوه.
إحداها: أن الخضوع من أوصاف العقلاء، فلما وصف غيرهم به، أجراه
مجراهم.
وقيل: المضاف محذوف، وتقديره: أصحاب الأعناق.
وقيل: أعناقهم، جماعاتهم.
والعنق: الجماعة، قال الشاعر:
إنَّ العراقَ وأهلَه. . . عُنُقٌ إليك فَهَيْتَ هَيْتا
وقيل: أعناقهم، رؤساؤهم، تقول: هو عُنُقُ القوم، أي رئيسهم.
وقيل: محمول على المعنى، لأن الأعناق إذا خضعت، خضعت أصحابها لا
محالة.
وقيل: العنق زايد، والتقدير فظلوا لها خاضعين.(2/827)
الغريب: المضاف يكتسي من المضاف إليه كسوته من التعريف
والتنكير والتأنيث والشرط والاستفهام والإعراب والبناء، كذلك العقل
والتمييز.
العجيب، قال الفراء، هو إخبار عن المضاف إليهم. وهذا بعيد.
لأنه يستدعي إيجاز الضمير.
قوله: (كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) .
هو النبات وأصنافه.
الغريب: الشعبي، أراد بالنبات الإنسان، كقوله: (أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا) . والكريم: هو الذي يدخل الجنة، واللئيم: هو الذي يدخل النار.
قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ)
أي أولم ينظروا، ولهذا عُدِّيَ ب "إلى".
قوله: (أَلَا يَتَّقُونَ) .
أي ما كان لهم أن يتقوا.
الغريب: قل لهم: أَلَا يَتَّقُونَ، فلما أضمرَ "قل" عاد إلى الغيبة.
قوله: (فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) .
أي أرسل جبريل إلى هارون، وقيل: معناه ادعه.
وقيل: أرسلني منضما إلى هارون، فيكون إلى هارون حالاً.
وقيل: وأرسلني إلى هارون لآمرَة عَنكَ أن يذهب معي.
وليس هذا استعفاء، بل طلب منه.(2/828)
العجيب: النقاش: "إلى" ها هنا بمعنى "مع"، كقولهم: الذود إلى
الذودِ أبل.، أي أرسل معي هارون، وهذا من النقاش سهو لأن ذلك يقتضي إليَّ وليس في القرآن كذلك، ولكن إذا جعلت إلى بمعنى مع، فتقديره
أرسلني مع هارون فحذف المفعول الأول.
قوله: (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) .
أي، دعوى ذنب. وقيل: عقوبة ذنب. وقيل: عندي ذنب، وهو قتل
القبطي.
(فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ)
قصاصاً أو عدوانا.
قوله: (مُسْتَمِعُونَ) .
أي، سامعون، لأن الاستماع: الإصغاء إلى المسموع، وذلك مجاز
في حق الله تعالى.
قوله: (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
"رَسُولُ" مصدر، وقع موقع التثنية ذوا رسول.
الغريب: كانت الرسالة واحدة، فجاز توحيد الرسول، نظرًا إلى
الرسالة، وجاز التثنية، نظرًا إلى الرسول.
العجيب: إنا كل واحدٍ منا رسول.
قوله: (وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ) .
حيث تدعي أن لك إلها غيري.
وقيل: من الكافرين النعمة.
الغريب: من القوم الذي يزعم الآن أنهم كافرون.
العجيب: من الكافرين بالله حيث قتلت نفسا بغير حقها، وفيه بعد.
لأن فرعون لم يكن مقرا باللهِ سبحانه.(2/829)
قوله: (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) .
أي من الساهين. وقيل: من الضالين عن النبوة وأحكام الشريعة.
وقيل: من الجاهلين أنها تأتي على النفس.
الغريب: أي إذا كان كما قلت فقد (فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) ، " وإذا" يدل على هذا المعنى لأنه يقع في الجواب.
قوله: (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) .
عَبَّد وأعبد واستعبد: اتخذ عبدا، ومحل "أَنْ عَبَّدْتَ"، رفع على البدل
من المبتدأ وقيل: من الخبر. وقيل: نصب، أي بأن عبدت، واختلفوا في
المعنى، فحمله بعضهم على الإقرار، أي هي نعمة إذ ربيتني ولم تُعَبِّدني
كما "عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ".
وقيل: تمنُّ عليَّ بإحسانك إليَّ وتنسى إساءتك إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ.
الحسن: أخذت من بَنِي إِسْرَائِيلَ أموالهم، وربيتني بها.
وحمله بعضهم على الإنكار على وجه الاستفهام، أي أو تلك نعمة.
الغريب: ابن بحر: أضرب موسى عن كلام فرعون، وعاد إلى كلامه.
وقوله: (تِلْكَ) إشارة إلى تخلية بني إسرائيل في قوله: (أن أرسِل مَعنا بَني
(صرائيل) ، أي تخلية سبيلهم، كما أمر الله نعمة تمنها عليَّ أن عبدتني.
وذكر بني إسرائيل، لأنه كان واحداً منهم.
قوله: (وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ) .
أي وما حقيقة ذاته، ومن أي جنس ونوع هو، فلم يشتغل موسى
بجوابه، بل ذكر الدلائل على الله بمخلوقاته.
فقال فرعون لمن حوله: ألا تستمعون كلامه، أساله عن الماهية ويجيبني عن الكمية، فزاد موسى، فقال (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) .
قال فرعون: (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ) - أي بزعمه - لَمَجْنُونٌ، أسأله عن شَيءٍ ويجيبُني عن شيءٍ آخر، وليس جوابه بمطابق.
الغريب: كان جوابه مطابقاً، لأن "مَا" معناه "منا كقوله (أَوْ مَا مَلَكَتْ)(2/830)
وقيل: كان مطابقاً لأنه سأله عن مقدار ملكه وسلطانه، فأجابه عما
اقتضاه هذا السؤال.
وقوله: (لَمَجْنُونٌ) حيث يزعم أن في الوجود إلهاً غيري.
قوله: (قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ) .
جواب "لَوْ" مضمر، وهو تحبسني أو تسجنني.
ويحتمل، تؤمن، لله وبنبوتي.
قوله: (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ) ، وفي غيرها (جَانٌّ) و (حَيَّةٌ) .
والحية: اسم لجنسها، فصارت مرة جاناً ومرة ثعباناً.
الزجاج: خلقها خلقة الثعبان، واهتزازها اهتزاز الجان.
الغريب: إذا ألقاها في الخلوة صارت حية وجاناً، وإذا ألقاها بين يدي
فرعون صارت ثعباناً، ولفظ القرآن يدل على هذا.
ابن عباس: ألقاها فغرزت ذنبها في الأرض ونصبت رأسها نحو ميل
إلى السماء، ثم انحطت فجعلت رأس فرعون بين نابيها، وقالت: مرني بما
شئت، فناداه فرعون: أسالك بالذي أرسلك لما أخذتها (1) .
العجيب: لم يلقَ فرعون موسى بحد ذلك إلا بال في ثيابه كما تبول
الدواب من رؤية الأسد.
قوله: (يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) .
أي فعل ما أشاروا به فجمع.
الغريب: يحتمل أن في الآيات تقديماً وتأخيرا، والتقدير: يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ.
قوله: (نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ) .
أي، فنقهر موسى وهارون.
الغريب: نتبع السحرة، أي: موسى وهارون وأشياعهما، إن كانوا هم
__________
(1) لا يخفى مافيه من بعد.(2/831)
الغالبين، قالوها استهزاء، حكاه القفال.
قوله: (أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) .
قالها موسى تهديداً، لا إباحة للسحر.
قوله: (بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) .
قسم غير مبرور فيه.
قوله: (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ) .
بدل من "أُلْقِيَ". وقيل: عطف، وحرف العطف مقدر. وقيل: حال.
و" قد" مضمر.
وقوله: (رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) بدل من (رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، لأن فرعون قال لهم: إياي عنيتم.
قوله: (أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) .
وحد، لأن التقدير أول فريق. وقيل: "من" مقدر معه، أي أول من
غير، و "أفعل مِن" لا يثنى ولا يجمع، سواء كان "مَن" ملفوظا به أو مقدراً.
ومعنى "أَنْ كُنَّا": لأجل أن كنا.
قوله: (قَلِيلُونَ) .
محمول على الأسباط، أي كل سبط قليل.
قوله: (لَجَمِيعٌ) .
أي مجتَمع، كقوله: (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا) .
قوله: (وَكُنُوزٍ) .
أموال كثيرة، ودفائن.
الغريب: الضحاك: "وكنوز" أنهار.
قوله: (وَمَقَامٍ كَرِيمٍ) مجالس حِسَان.
الغريب: المنابر التي يخطب عليها الخطباء، عن ابن عباس.(2/832)
العجيب: مرابط الخيل، حكاه الماوردي. وهذا بعيد، لعل القائل أراد
ظهر المركوب.
قوله: (مُشْرِقِينَ) .
أي في ضياء ونور، وكان أصحاب موسى في ضياء، وآل فرعون في
ظلمة، فيكون حالاً من المفعولين.
قوله: (كُلُّ فِرْقٍ) .
أي كل مفروق من الماء.
والفرق المصدر كالذبح والذبح، والطحن والطحن.
العجيب: الراء بدل من اللام كقوله: (فَانْفَلَقَ) . وهذا بعيد، لأن كل
واحد من الأصلين موجود في الكلام.
قوله: (وَأَزْلَفْنَا) .
أي، قربنا آل فرعون من الفرق، وقيل: من آجالهم. الحسن: قربناهم
من قوم موسى ليشرعوا في الماء اقتداء بهم.
الغريب: قربنا بقية قوم موسى من موسى ومن تقدمهم.
العجيب: قرىء في الشواذ (وَأَزْلَقْنَا) بالقاف من زلقت رجله.
قوله: (وَقَوْمِهِ) .
أى، وقوم إبراهيم.
الغريب: وقوم أبيه.
قوله: (مَا تَعْبُدُونَ) .
وفي الصافات: (مَاذَا تَعْبُدُونَ) . لأن "مَا" لمجرد الخطاب، فأجابوه
(قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا) ، و "مَاذَا" فيه مبالغة وتوبيخ، لم يجيبوه، فزاد فقال:
(أَئِفْكًا آلِهَةً) الآية.(2/833)
قوله: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) .
أحد مفعوليه محذوف، تقديره يسمعونكم تدعون إذ تدعون. ويجوز
أن يضمر المضاف على تقدير يسمعون دعاءكم، فاقتصر على أحد المفعولين
إذا كان مما يسمع قوله.
قوله: (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) .
أي أعداء، وفَعول من صيغة المبالغة، فقام مَقام الجمع، وقيل: هو
مصدر في الأصل. وقيل: فإن كل واحد منهم.
الغريب: (إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ)
الجمهور على أنه استثناء منقطع، أي، لكن رب العالمين ليس بعدوِّي. وقيل: الاستثناء صحيح، فإن في آبائهم عن عَبد اللهَ.
الغريب: أنْ يكونوا ينكرون مع عبادتهم الأصنام، أن الله خالقهم.
فصح الاستثناء.
قوله: (الَّذِي خَلَقَنِي) .
يجوز أن يكون في محل نصب، وكذلك ما بعده صفة لرب العالمين.
ويجوز أن يكون مبتدأ (فَهُوَ يَهْدِينِ) خبره، ودخل الفاء، لما كانت صلته
جملة فعلية.
وقوله: (وَالَّذِي) مبتدأ خبره محذوف، أي: فهو يهديني.
ويجوز أن يكون (فهو يهديني) خبراً عن الكل فقدم عليه. لإعادة "الذي".
وإدخال " الواو: وكله لله جائز، كما يعطف بعض الأوصاف على بعض، وزادَ في الإطعام والسقاء) لأنهما مما يدعى الإنسان أن يفعله، فنبه على أن ذلك منه سبحانه لا من غيره.
وأما الخلق والإحياء والإماتة، فلا يدعيها مدع، فأطلق.
قوله: (بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) .
أي، مسلم. وقيل: سليم من الشك والشرك والمعاصي.
ابن عباس: سلامة القلب: شهادة أن لا إله إلا الله.(2/834)
الغريب: لديغ، من خيفة الله، وقيل: صحيح ضد مريض.
قوله: (صَدِيقٍ حَمِيمٍ)
أي قريب: من قولهم حم الشيء، إذا قرب.
وقيل: هو من قولهم دعينا في الحامة لا في العامة"، أي صديق مختص.
الغريب: ابن عيسى: الحميم، من يغضب لحميمِهِ، ومنه الحمى، والماء
الحميم.
قوله: (فَنَكُونَ) .
منصوب حملاً على المعنى، لأن المعنى، لو أن لنا أن نَكُرَّ فنكون.
قوله: (الْأَرْذَلُونَ) .
ابن عباس: الحاكة، عكرمة: الحاكة والأساكفة. وقيل: الحجامون
وأهل الصنعة والخساسة.
الغريب: المتكبرون.
العجيب: الذين يسألون ولا يقنعون.
قوله: (آيَةً تَعْبَثُونَ) .
أي، بنياناً، وقيل: علامة للعبث يجتمعون إليها.
الغريب: هي بروج الحمام، ونصبها على المفعول به.
العجيب: المفعول محذوف، أي أبنية. و "آيَةً" مفعول له.
قوله: (طَلعُها هَضيم) .
فيه أقوال، ابن عباس: هضيم: أينع وبلغ، وقيل: هضيم هاضم.
القفال: هو العذق المتدلي.(2/835)
قوله: (صَالِحٌ) .
الغريب: أتاهم صالح بالمعجزات فآمنوا به. فلما مات ارتدوا، ثم
أحياه الله وبعثه ثانيا إليهم، فأتاهم بالناقة.
قوله: (وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ) .
أي من خلفهن لكم من النساء.
الغريب: "مَا" كناية عن الفروج. وكانوا يأتون النساء في أدبارهن.
قال الزجاج: وسمى هذا الفعل التمحيص.
قوله: (في الغابرين) .
في الهالكين. وقيل: في الباقين.
الغريب: ابن عيسى، الغابر، الباقي قلة كالتراب يبقى غباره.
قوله: (أصحاب الأيكةِ) .
هي الغيضة تنبت ناعم الشجر كالسدر والأراك. وقيل: كان شجرهم
الدوم، وهو المقل و "الأيكةِ" اسم علم لها.
الغريب: أرسل الله شعيباً إلى أمتين، أهل مدين، وأصحاب الأيكة.
ولهذا لم يقل أخوهم، لأنه لم يكن من نسب هؤلاء، وكان من نسب أهل
مدين. وقيل: مدين كالحضر لهم، والأيكة كالبادية..
قوله: (وَالْجِبِلَّةَ) .
هي الخلق، من جَبلَهُ الله. وقيل: الخَلْق الغليظ من الجبل.
الغريب: الضحاك، عن ابن عباس: الجبلة عشرة آلاف.
قوله: (يَوْمِ الظُّلَّةِ) .
الظُّلَّةِ: سحَابة أظلتهم، فاجتمعوا تحتها مستجيرين من شدة الحر،(2/836)
وكان قد أصابهم الحر سبعة أيام ولياليها.
وقيل: ارتفع لهم جبل تحته ماء بارد، فاستظلوا به فسقط عليهم، وكان من أعظم يوم في الدنيا.
الغريب: ابن عباس: من حدثك ما عذاب يوم الظلة فكذبه، أراد
لم ينج منهم أحد فيخبر به.
قوله: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) .
أي علمه علماء بني إسرائيل عبد الله بن سلام، ومن آمن منهم علامة
للعرب في صدق محمد عليه السلام ونبوته. و "آيَةً" خبر كان تقدم على
اسمها، و "أن يعلمه" اسمها.
وقرأ ابن عامر "تكن" بالتاء، "آيَةً" نصب على تقدير تكن القصة كما في قوله: (تَكُ تَأْتِيكُمْ) .
الغريب: "آيَةً" اسم كان و "لهم" خبره، كما في قوله: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، وكما في قوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) ، فيكون
(أَنْ يَعْلَمَهُ) بدلاً من الآية، او علم علماء بني إسرائيل، ويجوز أن نجعل آية
اسم كان بعد أن وصفت بقوله (لهم) .
وقرىء في الشواذ "تكن" بالتاء، "آية" بالنصب، قياساً على قوله: (لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا) .
قوله: (وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) .
أصله، أعجميين، ولهذا جمع جمع السلامة. وقرىء في الشاذ
"الأعجميين" بالتشديد".
والمعنى: ولو نزلنا القرآن بلغة العجم على رجل(2/837)
أعجمي فقرأه على العرب لم يؤمنوا، لأنهم لم يفهموه، واستنكفوا من اتباع
من لم يكن منهم.
وقيل: لو أنزلنا القرآن كما هو الآن على رجل أعجمي.
فقرأه عليهم، لم يؤمنوا استنكافاً من اتبَاعِهِ.
الغريب: قيل: لو أنزلنا القرآن على بعض العُجْم من الدواب، فقرأه
عليهم، لم يؤمنوا، لعنادهم، كقوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا) الآية. وجمعه على
هذا القول جمع السلامة لما وصفة بالقراءة.
العجيب: لو أنزلنا القرآن على بعض الأعجمين من البهائم فقرأه عليهم
محمدي، لم تؤمن البهائم، كذلك هؤلاء، لأنهم كالأنعام، (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) .
قوله: (لَهَا مُنْذِرُونَ) .
جمع، لأن المقصود من القرية العموم، ولهذا دخل عليه "من".
وقيل: المراد به: النبي عليه السلام وأتباعه.
قوله: (ذِكرى) .
يجوز أن يكون نصباً على المصدر، وفعله مضمر، أي: يذكرونهم
ذكرى ويجوز أن يكون منصوباً بقوله: (منذرون) ، كقولهم: رجع القهقرى.
ويجوز أن يكون رفعاً، أي هي ذكرى، وما قصصناه وأنذرنا به ذكرى.
قوله: (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) .
مع المصلين. وقيل: حين تقوم وتقعد مع أهل الصلاة، لا مع أهل
الكهنة والسحرة.
الغريب: (فِي السَّاجِدِينَ) من نبي إلى نبي، حتى أخرجك نبيا.
يريد من صُلب إلى صُلب.(2/838)
العجيب: مجاهد: ترى بقلبك في صلاتك من خلفك كما ترى
بعينيك من قدامك. وهذا ضعيف ليس في ظاهر القرآن ما يدل عليه.
قوله: (فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ) .
أي، في كل وادٍ من الكلام، يأخذون، كما تقول: أنا في واد وأنت
في واد.
(وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) .
وصفهم بالكذب في القول، والخلف في الوعد، وأنهم لا يبالون مِن
صدْق. ومِن كَذِب.
الغريب: روي أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه - مر
بـ "أمج"، موضع بين مكة والمدينة حرسها الله، فإذا هو برجل، فقال له من أنت؟
فقال:
حُميدُ الذي دارُه أمجُ. . . أخو الخمر والشيبةِ الأصلعِ
علاه المشيب على غيِّها. . . وكان كريماً فلم يقلعِ
فقال عمر: أتقر عندي بشرب الخمر لأحُدَنَّك، فقال: لقد حال الله
بينك وبين ذلك بقوله: (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ) ، فلم يرَ عمر ذلك
إقراراً.
ئم استثنى المؤمنين، فقال: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)
أي مدحوا رسول الله، وهم حسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن زهير.
(وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا) في شعرهم.
وقيل: في كلامهم.(2/839)
قوله: (وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)
ردوا على المشركين ما كانوا يهجون به المؤمنين.
وعن البراء بن عازب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
لحسان: "اهج المشركين، فإن جبريل معك".
وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال له: "أجب عنى، اللهم أيده بروح القدس".
قوله: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي من هجا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل: عام.
(أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)
أي مصيرهم إلى النار، وهي شر مصير.
و"أَيَّ" نصب على المصدر، يريد ينقلبون أي انقلاب. و "سَيَعْلَمُ" معلق بالاستفهام. والله أعلم.(2/840)
سورة النمل
قوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ) في الحجر، وفي هذه السورة
(آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ) .
الجواب: هما اسمان صالحان للعَلَم والوصف، لأنه يقرأ
ويكتب، فأجراهما مرة على العَلَم، فعرفهما. ومرة على الوصف. فنكرهما.
ويجوز أن يكونا في الحالين اسمَى علم، كما تقول: العباس، وعباس.
والتقدير، آيات القرآن، وآيات كتاب.
وأدخل الواو وإن كان شيئاً واحداً، أي جمع الوصفين.
قوله: (هدىً وبشرى) .
نصب على الحال، وذو الحال الآيات أو القرآن، والعامل ما في "تلك"
من الِإشارة كقوله: (وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا) ، ويجوز أن يكون رفعاً بالخبر
بعد الخبر، أو خبر مبتدأ محذوف.
قوله: (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) .
أي يعلمونها علماً بالاستدلال.
الغريب: معناه: إذا علموا جزاءهم، كانوا أنشط له وأحرص عليه.
والباء متعلق بقوله: "يوقنون".(2/841)
قوله: (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) .
إذ تفوت المثوبة. وأفعل: للمبالغة لا للمشاركة. و " في" متعلق
بمضمر، أي، وهم خاسرون في الآخرة. ولا يتعلق بقوله: "الْأَخْسَرُونَ"
وقيل: هو للبيان، أي في الآخرة. وقيل: إذا كان الألف واللام للتعريف دون أن يكونا بمعنى الذي، جاز أن يتقدم عليه معموله.
قوله: (بِشِهَابٍ قَبَسٍ) .
مَن نَوَّنَ جعله وصفا لـ "شِهَابٍ"، أو بدلاً، ومن أضاف، جعله بمنزلة.
ثوب خزٍ وخاتم حديد.
قوله: (نُودِي) .
أي نودي موسى، (أَنْ بُورِكَ) بأن بورك.
وقيل: ليس في نودي ضمير.
وهو مسند إلى قوله: (أَنْ بُورِكَ) ، وأصله: "أنه" مخفف أن، وحذف
الاسم، وجاز أن يليه الفعل من غير واسطة، لأنه دعاء.
وقوله: (مَنْ فِي النَّارِ) ، أي في ظلها وفي شعاعها، كما تقول: فلان في الشمس، وهو موسى والملائكة.
العجيب: من في النار هو الله سبحانه وتعالى أي في النار نوره
وقدرته، والجمهور: على أنه كان نوراً.
قال سعيد بن جبير: كانت النار بعينها، وهي إحدى حجب الله
سبحانه.
الثعلبي: هو على معنى أنه نادى موسى منها فأسمعه كلامه من
جهتها، وهو كما روى أنه مكتوب في التوراة، جاء الله مِن سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران، قال: فمجيئه من سيناء بعثته موسى منها،(2/842)
ومن ساعير بعثته المسيح بها، واستعلانه من جبال فاران، بعثته النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة، وفاران: مكة.
العجيب: "مَن" صلة في الآية.
وقرىء في الشواذ "أن بوركت النار ومن حولها" وقيل: "مَن" بمعنى
"مَا"، أي ما في النار من أمر الله، وفي "بارك" أربع لغات: باركك الله.
وبارك فيك، وبارك عليك، وبارك لك.
قوله: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ) متصل بـ "نُودِيَ".
الغريب: هو من كلام موسى.
قوله: (يَا مُوسَى إِنَّهُ) : أي الأمر والشأن.
الغريب: أن المنادي أنا الله.
قوله: (لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) .
أي، في الموضع الذي يوحي فيه إليهم، لأن المرسلين أخوف من الله
من غيرهم.
قوله: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) .
استثناء منقطع. والتقدير، (لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) ، إنما يخاف
الظالمون. ثم استثى، فقال: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ) .
وقيل: الاستثناء متصل.
وتقديره: إلا من ظلم من الأنبياء قبل النبوة.
وقيل: بالصغائر.
الحسن: قال الله لموسى: "إني أخفتك لقتلك القبطي".
الغريب: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) الآية اعتراض بين المعطوف والمعطوف
عليه.
وتقديره: (لدي المرسلون وأدخل يدك في جيبك) .(2/843)
قوله: (يَدَكَ) ، أي إحدى يديك.
الغريب: كلتا يديه بَيضَاوَان من غير مرض.
(فِي تِسْعِ آيَاتٍ) ، أي (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) آية (فِي تِسْعِ آيَاتٍ) صفة للآية
المضمرة.
وقيل: مع تسع آيات تعطى تمامها. وعلى هذا تكون اليد والعصا
غير التسع.
قوله: (إِلَى فِرْعَوْنَ)
متصل بمضمر تقديره مرسلاً (إِلَى فِرْعَوْنَ) ، وذو الحال ضمير موسى في قوله: (وَأَدْخِلْ) .
قوله: (مُبْصِرَةً) .
تجعلهم بصراء. وقيل: مضيئة، من أبصر النهار، إذا أضاء.
الغريب: مبصراً بها، كماء دافق، أي: مدفوق، وعيشة راضية، أي:
مرضية.
قوله: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ) .
أي: أنكروها، والباء أزائدة.
الغريب: (وَجَحَدُوا) أزالوا الخير عنهم بها، بسبب ردها.
(ظُلْمًا وَعُلُوًّا) مفعول له. والعامل "وَجَحَدُوا"، و "اسْتَيْقَنَتْهَا" حال، وقد
مقدر، أي: وقد استيقنوها.
قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا) .
أي، علم الدين والحُكْم.
وقيل: علم منطق الطير وفهمه.
الغريب: هو بسم الله الرحمن الرحيم.
العجيب: علم الكيمياء. وهو ضعيف. حكاه الماوردي.
قوله: (مَنْطِقَ الطَّيْرِ) .(2/844)
لما فهم سليمان عليه السلام معنى صوت الطير، سمى منطقاً.
الثعلبي: كانت النملة التي فهم سليمان كلامها ذات جناحين، فكانت من
الطير، فلذلك علم منطقها.
قوله: (وَجُنُودُهُ) ، جمع جند.
الغريب: المبرد: لا يجمع الجند، وإنما قال: الجنود، لاختلاف
عساكره من الجن والإنس والطير.
قوله: (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) .
لما وصفها بالمخاطبة التي تجري من العقلاء، أجراها مجراهم.
قرئ في الشواذ "ادخلن مساكنكن لا يحطمنكن سليمان بجنوده وهم لا
يشعرون".
قوله: (لَا يَحْطِمَنَّكُمْ)
نهي لسليمان عن الحطم في الظاهر، وفي الحقيقة نهي لهن عن البروز والوقوف.
العجيب: قال الفراء: فيه معنى الجزاء، وهذا بعيد، لأن النون لا
يدخل جواب الأمر إلا في ضرورة الشعر.
وعن كعب، قال: صاح ورشان عند سليمان، فقال سليمان: أتدرون
ما يقول، قالوا: لا، قال: إنه يقول: لدوا للموت وابنوا للخراب. وصاح طاووس. فقال: يقول: كما تدين تدان. والهدهد يقول: من لا يرحم لا يرحم والقطا تقول: من سكت سلم. والحمامة تقول: سبحان ربي الأعلى ملْءَ سمائه وأرضه.(2/845)
وعن فرقد السنحى، قال: مر سليمان ببلبل يحرك رأسه ويمل ذنبه.
فقال إنه يقول: أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء.
وعن الحسن، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: الديك إذا صاح، يقول: " اذكروا الله يا غافلين" وهاج صرد، فقال: يقول: استغفروا الله يا مذنبين.
فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتله.
وعن جعفر الصادق، عن أبيه، عن جده، قال: " تقول النسر: يا ابن
آدم، عش ما شئت آخره الموت "، قال: "إذا صاح العقاب يقول: في البعد عن الإنس أنس"، قال: "وإذا صاح الخطاف يقرأ الحمد لله رب
العالمين، فإذا بلغ الضالين، مد كما يمد القارئ".
وهذه حكم رواها المفسرون، فرويتها، والله أعلم كيفية ذلك.
قوله: (فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا) .
التبسم أوله، والضحك آخره، فيكون قوله: (ضَاحِكًا) حالًا مقدرة.
قال المازني: (ضَاحِكًا) حال، ليعلم أنه تبسم ضحك، لا تبسم غضب.
قوله: (وَالِدَيَّ) هما داود عليه السلام.
قوله: (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) .
تقديره: أزاغ بصري عنه، أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، وقيل: تقديره، أحاضر
أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، وقيل: "أم" بمعنى "بل". وقيل: "أم" بمعنى ألف
الاستفهام، وقوله: (كَانَ) ، قيل: هو بمعى صار، وقيل: زيادة.
الغريب: (أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) قبل هذا ولم أشعر به.
ويحتمل أن هذا من المقلوب، وتقديره: ما للهدهد لا أراه.(2/846)
قوله: (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا) .
أي تعذيباً.
الغريب: بعذاب، فهو المفعول الثاني.
العجيب: أجمعه مع من ليس من جنسه.
(فَمَكَثَ) ، أي، الهدهد. (غَيْرَ بَعِيدٍ) . زماناً غير طويل.
الغريب: فمكث سليمان بعد تفقده غير طويل حتى رجع الهدهد.
العجيب: عاد الهدهد، فمكث، أي وقف مكاناً غير بعيد من سليمان.
قوله: (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) .
احتاجت إليه في ملكها.
قوله: (عَرْشٌ عَظِيمٌ) أي كرسي كبير.
العجيب: العرش: الملْك، وهذا يدفعه قوله: (أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا) ، أي، سريرها.
ومن العجيب: زعم بعضهم أن الوقف جائز على قوله (عَرْشٌ) ثم
قوله (عَظِيمٌ) خبر مبتدأ، أي، هذا أمر عظيم. وهذا تعسف.
وذهب جماعة، إلى أن قوله: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)
من تمام كلام الهدهد، وأنه استدرك بذلك قوله: (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) .
وذهب جماعة، إلى أن ذلك استئناف كلام من الله سبحانه.
الغريب: هو من كلام سليمان.
قوله: (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) .
متصل بقوله: (فَصَدَّهُمْ) ، وقيل متصل بقوله: (لَا يَهْتَدُونَ) فيكون(2/847)
الغريب: هو بدل من قوله: (أَعْمَالَهُمْ) ، وقيل: تقديره، فصدهم
لأن لا يسجدوا، فيكون "لا" غير زائدة في هذين القولين.
وقراءة الكسائي بالتخفيف محمول على ابتداء الكلام من الله، على
تقدير ألا يا قوم اسجدوا فحذف المنادى من اللفظ، وحذف الألفان من
الخط ولا يجوز تعمد الوقف عليه، لأنه مخالف للإمام، ولا سبيل إلى مخالفة
الإمام.
قوله: (يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) .
قيل: من السماوات.
الغريب: "في" متعلق بـ الْخَبْء، أي المَخبوء في السماوات.
العجيب: الْخَبْء، الذي في السماوات، فحذف الموصول، فصار ما
بعده حالاً.
العجيب، معناه يعلم غيب السماوات.
قوله: (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ.
أي، تنح عن ذلك المكان، وكن قريباً منهم، (فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ)
يجيبون ويردون ويقولون بينهم.
الغريب: فيه تقديم وتأخير، أي فألقه إليهم، فانظر ماذا يرجعون ثم
تول عنهم، أي، أسرع الانصراف.
قوله: (كِتَابٌ كَرِيمٌ) .
أي كتاب ملِك، لأن الملوك كانوا يختمون، وقيل: كريم مضمونه.
وقيل كريم حيث أتى به طير.
وقيل مختوم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " كرم الكتاب ختمه"
قوله: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ) .(2/848)
الهاء تعود إلى الكتاب، أي: إن الكتاب من سُلَيْمَانَ.
"وَإِنَّهُ" أي، وأن المكتوب: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ".
وقوله: "إِنَّهُ" و "وَإِنَّهُ" من كلام بلقش.
قوله: (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) .
"أن" هي المفسرة.
الغريب: "لا تعلوا" محله رفع، أي، ألقى إلي أن لا تعلوا.
وقيل: نصب، أى كتاب بأن لا تعلوا. والوجه هو الأول.
العجيب: قرىء في الشاذ "تغلوا" بالغين.
قوله: (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) .
من كلام الله، صدقها الله.
وقيل: هو من تمام كلامها، والمعنى: وكذلك يفعل سليمان وجنوده.
الغريب: ابن بحر: وكذلك يفعل جندي إن قصدت سليمان.
ومعنى: (دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا) أي، إذا دخلوا قرية غلبة وعَنوة أفسدوها.
قوله: (فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ) .
قيل: جاء الرسول، واسمه منذر.
الغريب: قال الفراء: بعثت امرأة رسولًا، فيكون الفاعل الرسول، أو
ما أهدت.
قوله: (بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) .
خطاب للرسول والمرسل، والمعنى " بهديكم" بما يهدى إليكم.
الغريب، "بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ" إعظاما منكم لها.(2/849)
قوله: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ)
خطاب للرسول.
الغريب: المخاطب ها هنا الهدهد، أي ارجع إليهم قائلًا لهم
"فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ" حكاه أقضى القضاة.
وعلى هذا يجوز أن يكون فلما جاء سليمان الهدهد أيضاً على تقدير قال قل لهم أتمدونني بمال.
قوله: (مِنْهَا) أي من المملكة. وقيل: من القرية.
قوله: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا) .
أراد أن يكون ذلك معجزة له. وقيل: أعجبه وصفه، فأراد أخذه، قبل
أن يحرم عليه بإسلامها (1) .
الغريب: قال القفال: كان هذا قبل الكتاب، وإنما جرب بذلك صدق
الهدهد ولولا ذلك كان محالاً أن يكتب كتاباً إلى من لا يدري هل هو في
الدنيا أم لا.
قوله: (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ) .
ذهب جماعة إلى أنه آصف، وكان يعلم كتب الله المنزلة على
الرسل. وقيل، هو جبريل. وقيل: ملك أيد الله به سليمان.
و"الكتاب"، اللوح المحفوظ.
الغريب: هو سليمان عليه السلام، و "الكتاب" كتب الله.
ْالعجيب: المبرد: الأكثر أنه صفة أبو القبيلة. وقيل: رجل زاهد اسمه
مليخا، وقيل: اسطوس. وقيل: هو ذو النون.
ومن العجيب: ابن لهيعة: هو الخضر عليه السلام.
ومن الغريب: "الكتاب" كتاب سليمان إلى بلقيس.
وعلم ما صار إليه أمر الكتاب، والذي عنده علم من الكتاب ذلك هو جبريل لا غير.
__________
(1) كلام سخيف في غاية البعد، يتنزه عنه الفضلاء فضلا عن الأنبياء.(2/850)
قوله: (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) .
أي بصرك من الشيء تنظر إليه كرؤية الهلال. وقيل: مطروفك.
أي من تنظر إليه من منتهى بصرك.
الغريب: قبل الوقت الذي ينتظر فيه وروده، من قولهم: أنا ممتد
الطرف إليك، أي منتظرك.
العجيب: الماوردي، قبل أن ينقبض طرفك بالموت، يريد: سيأتيه به قبل
موته، وهذا تأويل قبيح، بل المعنى آتيك به سريعا، فقد يقول الإنسان.
أفعل هذا في لحظة وطرفة عين، وهو يريد السرعة. وقيل غير ذلك.
قوله: (آتِيكَ) في الآيتين فعل مستقبل، ويحتمل أنه اسم الفاعل.
بدليل الإمالة.
قوله: (فَلَمَّا رَآهُ) أي العرش. (مُسْتَقِرًّا) حاصلًا عنده بين يديه.
قال " سليمان. "هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي" الآية، "هذا" إشارة إلى حصول
العرش في مدة ارتداد الطرف.
الغريب: لما رآه حاصلا بين يديه، وسوس إليه الشيطان: أن صار
عندك من أمتك أعلم منك، وأقدر على بعض الأمور.
فقال سليمان - عليه السلام -: (هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) .
ومن الغريب: ما رواه الثعلبي: قال: قال محمد بن المنكدر: إن
الذي عنده علم من الكتاب كان رجلاً عالما فقيها.
فقال: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، فقال له سليمان: هات، فقال: أنت النبي ابن النبي وليس(2/851)
فوقك خير منك، فإن دعوت الله وطلبته كان عندك. قال: صدقت، فدعا
الله، فجيء بالعرش في الوقت من الهواء. وقيل: نبع من الأرض.
قوله: (قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) .
شبهوا عليها بقولهم: (أَهَكَذَا عَرْشُكِ) فشبهت عليهم بقولها (كَأَنَّهُ هُوَ) وهذا أحسن جواب لم تثبت ولم تنكر لاحتمال الأمرين.
قوله: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ)
من كلامها، أي من قبل هذه المعجزة بوصول الكتاب على يدي طير ورجوع الرسول بالهدية، وقيل: هو من كلام سليمان.
الغريب: من كلام قوم سليمان.
قوله: (وَصَدَّهَا) : فاعله، (مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ) أي عبادتها، ويجوز، ما كانت تعبد، فيكون كناية عن الشمس، وقيل: "ما كانت تعبد" مفعول، والفاعل هو الله سبحانه. وقيل: سليمان، والتقدير عما كانت.
الغريب: وصدها متصل بقوله، (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ)
(وَصَدَّهَا) ، أي وقد صدها. والواو للحال، وقد مضمر
وآية (فلما جاءت) اعتراض.
قوله: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) .
لما ذكرِ عند سليمان أن رجلها تشبه رجل الحمار، أراد أن ينظر إلى
قدميها، أمر فبني صرحٌ، وهو الصحن على الأصح من الأقوال من الزجاج
وتحته الماء والسمك ودواب الماء، ثم جلس سليمان وسطه على كرسي
وكان طريق بلقيس في الوصول إلى سليمان على الصرح، (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا) ماءً غَمْرا، كذا ذكر في التفاسير، وفيه بعد، لأن
كشف الساق للخوض في الماء إذا كان الماء غَمْرا لا يكفي كشف الساق.
فالأصح أن يقال لجة ضحضاحاً من الماء (1) .
__________
(1) ولأن هذا الفعل يتنافى مع عصمة الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.(2/852)
الغريب: ذكر في بعض التفاسير: أنها لما رأت الصرح قالت: ما وجد
ابن داود عذاباً يقتلني به إلا الغرق، فكشفت عن ساقيها على عادة من يريد
الخوض في الماء، فإذا هي أحسن ساق لكنها كانت شعراء، قال سليمان: إن الذي تزعمين أنه ماء، صرح بسيط منكشف ممرد مملس من قوارير من
الزجاج.
و"صَرْحٌ" من قوله: "صرَّح الأمرَ" إذا كشفه وأظهره.
قوله: (ظَلَمْتُ نَفْسِي)
أي في عبادتي الشمس.
الغريب: في ظني أنه قصد إغراقي.
واختلف المفسرون، فمنهم من قال: تزوجها سليمان واتخذ لها حَمَّاما
ونورة، وهو أول من أمر باتخاذ الحمَّام.
ومنهم من قال: زوجها من ذي تبع ملك يمن، ومنهم من قال آخر عهدي بهما، قوله سبحانه: (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فلا خوض
فيما لم يذكر الله ولم يبينه (1) ، والله أعلم.
قوله: (صَالِحًا) : بدل من قوله (أَخَاهُمْ) .
(أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) بأن اعبدوا الله.
قوله: (فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ) أي آمن فريق، وكفر فريق، وجمع: قوله:
(يَخْتَصِمُونَ) حملًا على المعنى، كما قال: (خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا) .
و (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) و "إذا" ها هنا للمفاجاة. وهو
ظرف مكان، و "هم" مبتدأ.
"فريقان" خبره. و "إذا" محله رفع خبر آخر.
كما تقول: في الدار زيد قائم.
وقوله: (يَخْتَصِمُونَ) صفة لفريقين، ويجوز
__________
(1) لله درُّ قائله فهذا أصل مهم ونفيس من أصول التفسير التى يجب الالتزام بها. والله أعلم.(2/853)
أن يكون حالًا من الضمير في "فريقين"، ويجوز أن يكون خبراً آخر، وعلى
هدا يجوز أن يكون محل "إذا" نصباً بـ "يختصمون"، وعلى الوصف لا يجوز.
لأن الصفة لا تعمل فيما قبل الموصوف.
قوله: (تِسْعَةُ رَهْطٍ)
الرهط اسم لجماعة تبلغ عشرة. وهو مفرد في اللفظ، وأصله من
الترهيط وهو تعظيم اللقم، وشدة الأكل. تقول: أحد عشر رهطا، حملاً على اللفظ، لأنه مفرد، وعشَرة رهطٍ حملًا على المعنى لأنه جمع.
قوله: (تَقَاسَمُوا) .
أمر، وهو من ألفاظ القَسَم، واللام، ونون التوكيد يدلان عليه.
والقراءاتان النون والتاء، يحسن وقوع كل واحد منهما بعدها، أما التاء.
فلا كلام فيه، وأما النون، فعلى أن المتكلمين أدخلوا أنفسهم في جملة
المخاطبين، كما في قوله تعالى: (تَعَالَوْا نَدْعُ) ..
الغريب: (تَقَاسَمُوا) فعل ماض، وهو حال من القوم، و "قد" مقدّر
معه، أي، قالوا متقاسمين، وعلى هذا يقع بعده النون، وقرىء في الغريب:
بالياء فيقع بعده أيضاً، ولا يقع بعده التاء.
(لِوَلِيِّهِ) أي ولي دمه.
قوله: (مَهْلِكَ أَهْلِهِ) .
الغريب: هلك يأتي متعديا، قال:
ومَهْمَهٍ هالكِ من تعرجا. . .(2/854)