وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
إبراهيم بن سحتويه [1] أنا أَبُو الْفَضْلِ سُفْيَانُ بْنُ مُحَمَّدٍ الجوهري ثنا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي عيسى الهلالي ثنا يحيى بن حماد ثنا شُعْبَةُ عَنْ أَبَانَ بْنِ تَغْلِبَ [2] عَنْ فُضَيْلٍ الْفُقَيْمِيِّ [3] عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لا يدخل الجنة مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ» ، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا ونعله حَسَنًا؟ قَالَ:
«إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وغمط [4] الناس» .
[سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 27]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ، يَعْنِي: لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ [بِالْآخِرَةِ] [5] وَهُمْ مشركو مكة الذين اقتسموا أعقابها [6] إِذَا سَأَلَ [7] الْحَاجُّ: مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أَحَادِيثُهُمْ وَأَبَاطِيلُهُمْ.
لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ، ذُنُوبَ أَنْفُسِهِمْ، كامِلَةً، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْكَمَالَ لِأَنَّ الْبَلَايَا الَّتِي تَلْحَقُهُمْ فِي الدُّنْيَا وما يفعلون فيها مِنَ الْحَسَنَاتِ لَا تُكَفِّرُ عَنْهُمْ شَيْئًا، يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ، أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ، ما يحملون.
«1257» أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنِ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ علي الكشمهيني ثنا علي بن حجر ثنا إسماعيل بن جعفر ثنا العلاء بن
__________
- وأخرجه أحمد 1/ 451 من طريق حجاج عن فضيل بن عمرو الفقيمي به.
- وأخرجه مسلم 91 ح 148 وأبو داود 4091 والترمذي 1998 وابن ماجه 4173 وابن أبي شيبة 9/ 89 وأحمد 1/ 412 و416 وأبو عوانة 1/ 17 وابن مندة 542 وابن حبان 224 والطبراني 10000 و10001 من طرق عن الأعمش عن إبراهيم به دون ذكر عجزه.
1257- إسناده صحيح على شرط مسلم.
- عبد الرحمن هو والد العلاء.
- وهو في «شرح السنة» 109 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 2674 من طريق علي بن حجر بهذا الإسناد.
- وأخرجه أبو داود 4609 والترمذي 2674 وأحمد 2/ 397 وابن خزيمة 2674 وابن حبان 112 والدارمي 1/ 130 و131 من طرق عن إسماعيل بن جعفر به.
- وأخرجه ابن ماجه 206 من طريق عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عن العلاء به. [.....]
(1) تصحف في المطبوع «سحتوتة» .
(2) في المطبوع «ثعلبة» .
(3) تصحف في المطبوع «العقيمي» .
(4) في المخطوط «غمص» .
(5) زيد في المطبوع وط.
(6) في المطبوع «عقابها» .
(7) زيد في المطبوع «منهم» .(3/76)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شيئا» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وهو نمروذ بْنُ كَنْعَانَ، بَنَى الصَّرْحَ بِبَابِلَ لِيَصْعَدَ [إِلَى] [1] السَّمَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبٌ: كَانَ طُولُ الصَّرْحِ فِي السَّمَاءِ خَمْسَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ.
وَقَالَ كَعْبٌ وَمُقَاتِلٌ: كَانَ طُولُهُ فرسخين فهبت ريح وألقت [2] فِي الْبَحْرِ وَخَرَّ عَلَيْهِمُ الْبَاقِي وَهُمْ تَحْتَهُ، وَلَمَّا سَقَطَ الصَّرْحُ تَبَلْبَلَتْ أَلْسُنُ النَّاسِ مِنَ الْفَزَعِ يَوْمَئِذٍ فَتَكَلَّمُوا بِثَلَاثَةٍ وَسَبْعِينَ لِسَانًا فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ بَابِلَ.
وَكَانَ لِسَانُ النَّاسِ قَبْلَ ذَلِكَ بِالسُّرْيَانِيَّةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ أَيْ:
قَصَدَ تَخْرِيبَ بُنْيَانِهِمْ مِنْ أُصُولِهَا، فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ يَعْنِي: أَعْلَى الْبُيُوتِ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ، مِنْ مَأْمَنِهِمْ.
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ، يُهِينُهُمْ بِالْعَذَابِ، وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ، تُخَالِفُونَ الْمُؤْمِنِينَ فِيهِمْ مَا لَهُمْ لَا يَحْضُرُونَكُمْ فَيَدْفَعُونَ عَنْكُمُ الْعَذَابَ، وَكَسَرَ نَافِعٌ النُّونَ مِنْ تُشَاقُّونَ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَالْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا. قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، إِنَّ الْخِزْيَ، الْهَوَانَ، الْيَوْمَ وَالسُّوءَ، أَيِ: الْعَذَابَ، عَلَى الْكافِرِينَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 28 الى 32]
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ، يَقْبِضُ أَرْوَاحَهُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ.
قَرَأَ حَمْزَةُ «يَتَوَفَّاهُمْ» بِالْيَاءِ وَكَذَا مَا بَعْدَهُ، ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، بالكفر، نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ: فِي حَالِ كُفْرِهِمْ، فَأَلْقَوُا السَّلَمَ أَيِ: اسْتَسْلَمُوا وَانْقَادُوا وَقَالُوا: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ، شِرْكٍ فَقَالَ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. قَالَ عِكْرِمَةُ: عَنَى بِذَلِكَ مَنْ قُتِلَ من الكفار ببدر.
فَادْخُلُوا أي: يقال [3] لَهُمُ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ، عَنِ الْإِيمَانِ، وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا وَذَلِكَ أَنَّ أَحْيَاءَ الْعَرَبِ كَانُوا يَبْعَثُونَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ مَنْ يَأْتِيهِمْ بِخَبَرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا جَاءَ سَأَلَ [4] الَّذِينَ قَعَدُوا عَلَى الطُّرُقِ عَنْهُ فَيَقُولُونَ سَاحِرٌ كَاهِنٌ شَاعِرٌ كَذَّابٌ مَجْنُونٌ، وَلَوْ لَمْ تَلْقَهُ خَيْرٌ [لَكَ] [5] ، فَيَقُولُ السائل: إنا شر وفد إِنْ رَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي دُونَ أَنْ أَدْخُلَ مَكَّةَ فَأَلْقَاهُ فَيَدْخُلُ مكة فيرى
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «رأسه» .
(3) في المطبوع «قال» .
(4) في المطبوع «يسأل» .
(5) زيادة عن المخطوط.(3/77)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرُونَهُ بِصِدْقِهِ وَأَنَّهُ نَبِيٌّ مَبْعُوثٌ.
فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً يَعْنِي: أَنْزَلَ خَيْرًا، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ، كَرَامَةً مِنَ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ تَضْعِيفُ الْأَجْرِ إِلَى الْعَشْرِ. وَقَالَ الضَّحَاكُ: هِيَ النَّصْرُ وَالْفَتْحُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
هِيَ الرِّزْقُ الْحَسَنُ.
وَلَدارُ الْآخِرَةِ، أَيْ وَلَدَارُ الْحَالِ الْآخِرَةِ، خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ، قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الدُّنْيَا لِأَنَّ أَهْلَ التَّقْوَى يَتَزَوَّدُونَ فِيهَا لِلْآخِرَةِ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هِيَ الْجَنَّةُ، ثُمَّ فَسَّرَهَا. فَقَالَ: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) .
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ، مُؤْمِنِينَ طَاهِرِينَ مِنَ الشِّرْكِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: زَاكِيَةً أَفْعَالُهُمْ وَأَقْوَالُهُمْ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ وَفَاتَهُمْ تَقَعُ طَيِّبَةً سَهْلَةً. يَقُولُونَ يَعْنِي: الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ، وقيل: معناه يُبَلِّغُونَهُمْ سَلَامَ اللَّهِ، ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 35]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35)
قوله: لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ
، لقبض أرواحهم، وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
، يَعْنِي: يَوْمَ القيامة، وقيل: العذاب. ذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
، أَيْ: كفروا [كما كفر الذين من قبلهم] [1] ، ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
بتعذيبه إياهم، لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ مَا عَمِلُوا، عُقُوبَاتُ كُفْرِهِمْ وَأَعْمَالِهِمِ الْخَبِيثَةِ، وَحاقَ بِهِمْ، نَزَلَ بِهِمْ، ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ.
وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ، يعني في الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ وَالْوَصِيلَةَ وَالْحَامِ، فَلَوْلَا أن الله رضيها لنا لغير ذلك وهدانا إلى غير هذا [2] ، كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ، أَيْ: لَيْسَ إِلَيْهِمُ الْهِدَايَةُ وإنما إليهم التبليغ.
[سورة النحل (16) : الآيات 36 الى 41]
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)
__________
(1) سقط من المخطوط.
(2) في المطبوع وط «غيرها» . [.....](3/78)
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَيْ: كَمَا بَعَثْنَا فِيكُمْ، أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، وهو مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ، أَيْ: هَدَاهُ اللَّهُ إِلَى دِينِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أَيْ: وَجَبَتْ [عليه الضلالة] [1] بِالْقَضَاءِ السَّابِقِ حَتَّى مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، أَيْ: مَآلُ أَمْرِهِمْ وَهُوَ خَرَابُ مَنَازِلِهِمْ بِالْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ.
إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ، يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ، قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ «يَهْدِي» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِّ أَيْ: لَا يَهْدِي اللَّهُ مَنْ أَضَلَّهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَهْتَدِي [2] مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ يَعْنِي مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ كَمَا قَالَ: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ [الْأَعْرَافِ:
186] ، وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أَيْ: مَانِعِينَ مِنَ الْعَذَابِ.
قوله: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ، وَهُمْ مُنْكِرُو الْبَعْثِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ.
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ أَيْ: لِيُظْهِرَ لَهُمُ الْحَقَّ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ، فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ.
إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِذَا أَرَدْنَا أَنْ نَبْعَثَ الْمَوْتَى فَلَا تَعَبَ عَلَيْنَا فِي إِحْيَائِهِمْ وَلَا فِي شَيْءٍ مِمَّا يَحْدُثُ إِنَّمَا نَقُولُ لَهُ: كُنْ فَيَكُونُ.
«1258» أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ أَنَا أَبُو [بَكْرٍ] [3] مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ ثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي عَبْدِي [4] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي عبدي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ لَنْ يُعِيدَنَا كَمَا بَدَأَنَا، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ أَنْ يَقُولَ اتَّخَذَ اللَّهُ ولدا، وأنا الصمد لم ألذ ولم أولذ وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُوًا أَحَدٌ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا، عُذِّبُوا وَأُوذُوا فِي اللَّهِ.
نَزَلَتْ فِي بِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَخَبَّابٍ وَعَمَّارٍ وعابس وجبير وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ [5] أَخَذَهُمُ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ فَعَذَّبُوهُمْ [6] . وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ظَلَمَهُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وأخرجوهم من ديارهم حتى
__________
1258- تقدم في تفسير سورة البقرة عند آية: 116.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «يهدي» .
(3) سقط من المطبوع.
(4) في المطبوع «ابن آدم» .
(5) في المطبوع «سهل» .
(6) في المخطوط «يعذبونهم» .(3/79)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
لحق منهم طائفة بالحبشة ثم بوأ الله لهم الْمَدِينَةَ بَعْدَ ذَلِكَ فَجَعَلَهَا لَهُمْ دَارَ هِجْرَةٍ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَنْصَارًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، وَهُوَ أَنَّهُ أَنْزَلَهُمُ الْمَدِينَةَ.
رُوِيَ أَنَّ [1] عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ إِذَا أَعْطَى الرَّجُلَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَطَاءً يَقُولُ: خُذْ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيهِ هَذَا مَا وَعَدَكَ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَمَا ادَّخَرَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَنُحْسِنَنَّ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: الْحَسَنَةُ فِي الدُّنْيَا التَّوْفِيقُ وَالْهِدَايَةُ. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ. وَقَوْلُهُ: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، يَنْصَرِفُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ المؤمنين كانوا يعلمونه.
[سورة النحل (16) : الآيات 42 الى 47]
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)
الَّذِينَ صَبَرُوا، فِي اللَّهِ [2] عَلَى ما نالهم، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ، نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ حَيْثُ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا فَهَلَّا بَعَثَ إِلَيْنَا مَلَكًا، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ، يَعْنِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْجَالِبِ لِلْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: بِالْبَيِّناتِ قِيلَ: هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا، وإلا بِمَعْنَى غَيْرُ. مَجَازُهُ [3] : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ غَيْرَ رِجَالٍ يُوحَى إِلَيْهِمْ وَلَمْ نَبْعَثْ مَلَائِكَةً.
وَقِيلَ: تَأْوِيلُهُ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا يُوحَى إِلَيْهِمْ أَرْسَلْنَاهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ، أَرَادَ بِالذِّكْرِ الْوَحْيَ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا لِلْوَحْيِ وَبَيَانُ الْكِتَابِ يُطْلَبُ مِنَ السُّنَّةِ، وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا، عَمِلُوا السَّيِّئاتِ، من قبل يعني نمروذ بْنَ كَنْعَانَ وَغَيْرَهُ مِنَ الْكُفَّارِ، أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ.
أَوْ يَأْخُذَهُمْ، بِالْعَذَابِ [4] فِي تَقَلُّبِهِمْ، تَصَرُّفِهِمْ فِي الْأَسْفَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي اخْتِلَافِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: فِي إِقْبَالِهِمْ وإدبارهم، فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ [بفائتين] [5] اللَّهَ.
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ، والتخوف: التنقيص [6] ، أَيْ: يُنْقِصُ مِنْ أَطْرَافِهِمْ وَنَوَاحِيهِمُ شيئا بعد شيء
__________
(1) في المطبوع «عن» .
(2) في المخطوط «الدنيا» .
(3) في المطبوع «مجاز» .
(4) في المخطوط «بالعقاب» .
(5) في المطبوع «السابقين» وفي ط «سابقين» .
(6) في المطبوع «النقص» .(3/80)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
حَتَّى يَهْلَكَ جَمِيعُهُمْ، يُقَالُ: تَخَوَّفَهُ الدَّهْرُ وَتَخَوَّنَهُ [1] إِذَا نَقَصَهُ وَأَخَذَ ماله وحشمه، ويقال: هذه لُغَةُ بَنِي هَزِيلٍ. وَقَالَ الضَّحَاكُ والكلبي: هو مِنَ الْخَوْفِ، أَيْ يُعَذِّبُ طَائِفَةً فَيَتَخَوَّفُ [2] الْآخَرُونَ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِثْلُ ما أصابهم. فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، حِينَ لَمْ يُعَجِّلْ بِالْعُقُوبَةِ.
[سورة النحل (16) : الآيات 48 الى 50]
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)
قوله: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ وَكَذَلِكَ في سورة العنكبوت [19 و67] وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ جِسْمٍ قائم له ظل، يَتَفَيَّؤُا، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِالتَّاءِ وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ. ظِلالُهُ، أَيْ: تَمِيلُ وَتَدُورُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ فَهِيَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عَلَى حَالٍ ثُمَّ تَتَقَلَّصُ ثُمَّ تَعُودُ فِي آخِرِ النَّهَارِ إِلَى حَالٍ أخرى سُجَّداً لِلَّهِ لِلَّهِ، فَمَيَلَانُهَا وَدَوَرَانُهَا سُجُودُهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَيُقَالُ لِلظِّلِّ بِالْعَشِيِّ: فَيْءٌ لِأَنَّهُ فَاءَ أَيْ [3] رَجَعَ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ [4] ، فَالْفَيْءُ الرجوع، والسجود الميل. يقال: سَجَدَتِ النَّخْلَةُ إِذَا مَالَتْ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ، قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَاكُ: أما اليمين فأول النهار والشمائل [5] آخِرُ النَّهَارِ، تَسْجُدُ الظِّلَالُ لِلَّهِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الظِّلُّ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَقُدَّامَكَ وَخَلْفَكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا غَابَتْ فَإِذَا طَلَعَتْ كَانَ مِنْ قُدَّامِكَ وَإِذَا ارْتَفَعَتْ كَانَ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ بَعْدَهُ كَانَ خَلْفَكَ فَإِذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ كَانَ عَنْ يَسَارِكَ، فَهَذَا تَفَيُّؤُهُ وَتَقَلُّبُهُ وَهُوَ سُجُودُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَجَدَ كُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الظِّلَالِ سُجُودُ الْأَشْخَاصِ فَإِنْ قِيلَ لِمَ وَحَّدَ الْيَمِينَ وَجَمَعَ الشَّمَائِلَ؟ قِيلَ: مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ فِي اجْتِمَاعِ الْعَلَامَتَيْنِ الِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ [الْبَقَرَةِ: 7] ، وَقَوْلِهِ: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [الْبَقَرَةِ: 257] ، وَقِيلَ: الْيَمِينُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: مَا خَلَقَ اللَّهُ وَلَفْظُ مَا واحد والشمائل جمع يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْنَى. وَهُمْ داخِرُونَ، صَاغِرُونَ.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، إِنَّمَا أخبر بما لِغَلَبَةِ مَا لَا يَعْقِلُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ فِي الْعَدَدِ، وَالْحُكْمُ لِلْأَغْلَبِ كَتَغْلِيبِ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، مِنْ دابَّةٍ، أَرَادَ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ.
وَيُقَالُ: السُّجُودُ الطَّاعَةُ وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مُطِيعَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: 11] ، وَقِيلَ: سُجُودُ الْأَشْيَاءِ تَذَلُّلُهَا وَتَسَخُّرُهَا لِمَا أُرِيدَتْ لَهُ وَسُخِّرَتْ له. وقيل:
__________
(1) في المخطوط «وتخوفه» . [.....]
(2) في المطبوع «ليتخوف» .
(3) في المخطوط «إذا» .
(4) في المخطوط بتقديم «المشرق» وتأخير «المغرب» .
(5) في المطبوع «والشمال» .(3/81)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
سُجُودُ الْجَمَادَاتِ وَمَا لَا يَعْقِلُ ظُهُورُ أَثَرِ الصُّنْعِ فِيهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَدْعُو الْغَافِلِينَ إِلَى السُّجُودِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ وَالتَّدَبُّرِ فِيهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ [فُصِّلَتْ: 53] . وَالْمَلائِكَةُ، خَصَّ الْمَلَائِكَةَ بِالذِّكْرِ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنْ جُمْلَةِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ تَشْرِيفًا وَرَفْعًا لِشَأْنِهِمْ.
وَقِيلَ: لِخُرُوجِهِمْ مِنَ الْمَوْصُوفِينَ بِالدَّبِيبِ إِذْ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ بِهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ، وَتَسْجُدُ الْمَلَائِكَةُ. وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ.
يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الأنعام: 18 و61] . وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.
«1259» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ [مُحَمَّدِ بْنِ] [1] سَمْعَانَ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إبراهيم الشعراني ثنا محمد بن يحيى الذهلي ثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْعَبْسِيُّ ثنا إِسْرَائِيلُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ مُوَرِّقٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا فِيهَا موضع أربع أصابع إلا وفيه مَلَكٌ يُمَجِّدُ اللَّهَ وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَصَعِدْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ» ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ شَجَرَةً تُعَضَّدُ رَوَاهُ أَبُو عِيسَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ عَنْ إِسْرَائِيلَ وَقَالَ:
«إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جبهته ساجدا لله» .
[سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 57]
وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) .
وَلَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ، الطَّاعَةُ وَالْإِخْلَاصُ واصِباً، دَائِمًا ثَابِتًا، مَعْنَاهُ: لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يُدَانُ لَهُ وَيُطَاعُ إِلَّا انْقَطَعَ ذَلِكَ عَنْهُ بِزَوَالٍ أَوْ هَلَاكٍ غَيْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ الطَّاعَةَ تَدُومُ لَهُ وَلَا تَنْقَطِعُ.
أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ، أَيْ: تَخَافُونَ، استفهام على طريق الإنكار.
__________
1259- حديث صحيح. في إسناده لين لأجل إبراهيم بن مهاجر، وباقي رجال الإسناد ثقات، ولم ينفرد بهذا المتن فله شواهد.
- إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، مجاهد بن جبر، مورّق بن مشمرج.
- وهو في «شرح السنة» 4067 بهذا الإسناد.
- وأخرجه ابن ماجه 4190 والبيهقي 7/ 52 من طريقين عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى به.
- وأخرجه الترمذي 2312 وأحمد 5/ 173 من طريقين عن إسرائيل به.
- وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
- قلت: للحديث شواهد وطرق، وتقدم، وهو حديث صحيح.
(1) زيادة عن «شرح السنة» .(3/82)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، أَيْ: وَمَا يَكُنْ بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ، القحط والمرض، فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ، تَضِجُّونَ وَتَصِيحُونَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغَاثَةِ.
ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) .
لِيَكْفُرُوا، ليجحدوا، بِما آتَيْناهُمْ، وَهَذِهِ اللَّامُ تُسَمَّى لَامَ الْعَاقِبَةِ، أَيْ: حَاصِلُ أَمْرِهِمْ هُوَ كُفْرُهُمْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ أَعْطَيْنَاهُمْ مِنَ النَّعْمَاءِ وَكَشْفِ الضَّرَّاءِ [1] وَالْبَلَاءِ، فَتَمَتَّعُوا، أَيْ: عِيشُوا فِي الدُّنْيَا الْمُدَّةَ الَّتِي ضَرَبْتُهَا لَكُمْ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ أَمْرِكُمْ هَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ.
وَيَجْعَلُونَ لِما لَا يَعْلَمُونَ، لَهُ حَقًّا أَيِ: الْأَصْنَامِ، نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ، مِنَ الْأَمْوَالِ وَهُوَ مَا جَعَلُوا لِلْأَوْثَانِ مِنْ حُرُوثِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا، ثُمَّ رَجَعَ مِنَ الْخَبَرِ إِلَى الخطاب فقال: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ، فِي الدُّنْيَا.
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ، وَهُمْ خُزَاعَةُ وَكِنَانَةُ، قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ تَعَالَى. سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ، أَيْ: وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمُ البنين الذين يشتهونهم فيكون مَا فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، وَيَجُوزُ أن يكون على الابتداء فيكون ما في محل الرفع.
[سورة النحل (16) : الآيات 58 الى 60]
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا، مُتَغَيِّرًا مِنَ الْغَمِّ والكراهية، وَهُوَ كَظِيمٌ [2] ممتلىء حُزْنًا وَغَيْظًا فَهُوَ يَكْظِمُهُ، أَيْ: يمسكه ولا يظهره.
يَتَوارى، أَيْ: يَخْتَفِي، مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ، مِنَ الْحُزْنِ وَالْعَارِ ثُمَّ يَتَفَكَّرُ أَيُمْسِكُهُ، ذَكَرَ الْكِنَايَةَ رَدًّا عَلَى مَا عَلى هُونٍ أَيْ: هَوَانٌ، أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ، أَيْ: يخفيه [فيه] [3] فَيَئِدُهُ، وَذَلِكَ أَنْ مُضَرَ وَخُزَاعَةَ وَتَمِيمًا كَانُوا يَدْفِنُونَ الْبَنَاتِ أَحْيَاءً خوفا من الفقر عليهن [4] وَطَمَعِ غَيْرِ الْأَكْفَاءِ فِيهِنَّ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَرَبِ إِذَا وُلِدَتْ لَهُ بِنْتٌ وَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْيِيَهَا أَلْبَسَهَا جُبَّةً مِنْ صُوفٍ أَوْ شَعْرٍ وَتَرَكَهَا تَرْعَى لَهُ الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ فِي الْبَادِيَةِ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهَا تَرَكَهَا حَتَّى إِذَا صَارَتْ سُدَاسِيَّةً قَالَ لِأُمِّهَا زَيِّنِيهَا حَتَّى أَذْهَبَ بِهَا إِلَى أَحْمَائِهَا، وَقَدْ حَفَرَ لَهَا بِئْرًا فِي الصَّحْرَاءِ فَإِذَا بَلَغَ بِهَا الْبِئْرَ قَالَ لَهَا انْظُرِي إِلَى هَذِهِ الْبِئْرِ فَيَدْفَعُهَا مِنْ خَلْفِهَا فِي الْبِئْرِ ثُمَّ يُهِيلُ عَلَى رَأْسِهَا التُّرَابَ حَتَّى يَسْتَوِيَ الْبِئْرُ بِالْأَرْضِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ وَكَانَ صَعْصَعَةُ عَمُّ الْفَرَزْدَقِ إِذَا أَحَسَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَجَّهَ إِلَى وَالِدِ الْبِنْتِ إِبِلًا يُحْيِيهَا بِذَلِكَ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ يَفْتَخِرُ بِهِ:
وَعَمِّي الَّذِي مَنَعَ الْوَائِدَاتِ ... فأحيا الوئيد فلم يوأد
أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ، بِئْسَ مَا يَقْضُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ وَلِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ، نَظِيرُهُ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى
__________
(1) في المخطوط «الضر» .
(2) زيد في المطبوع «وهو» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «عليهم» .(3/83)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
(21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) [النَّجْمِ: 22] ، وَقِيلَ: بِئْسَ حُكْمُهُمْ وَأْدُ الْبَنَاتِ.
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ، يَعْنِي: لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَصِفُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ وَلِأَنْفُسِهِمُ الْبَنِينَ مَثَلُ السَّوْءِ، صِفَةُ السُّوءِ مِنَ الِاحْتِيَاجِ إِلَى الْوَلَدِ وَكَرَاهِيَةِ الْإِنَاثِ وَقَتْلِهِنَّ خَوْفَ الْفَقْرِ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى
، الصِّفَةُ الْعُلْيَا وَهِيَ التَّوْحِيدُ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ. وَقِيلَ: جَمِيعُ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْبَقَاءِ وَغَيْرِهَا مِنَ الصِّفَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَثَلُ السَّوْءِ النَّارُ والمثل الْأَعْلَى شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
[سورة النحل (16) : الآيات 61 الى 64]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ، فَيُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ، مَا تَرَكَ عَلَيْها، أَيْ:
عَلَى الْأَرْضِ، كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، مِنْ دَابَّةٍ، قَالَ قَتَادَةُ فِي الْآيَةِ: قَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي [1] زَمَنِ نُوحٍ فَأَهْلَكَ مَنْ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ كَانَ فِي سَفِينَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. رُوِيَ أَنْ أَبَا هُرَيْرَةَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَقَالَ: بِئْسَ مَا قُلْتَ إِنَّ الْحُبَارَى تَمُوتُ فِي وَكْرِهَا بِظُلْمِ الظَّالِمِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
إِنَّ الْجُعَلَ لَتُعَذَّبُ فِي جُحْرِهَا بِذَنْبِ ابْنِ آدَمَ. وقيل: إن مَعْنَى الْآيَةِ لَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ آبَاءَ الظَّالِمِينَ بِظُلْمِهِمُ انْقَطَعَ النَّسْلُ وَلَمْ تُوجَدِ الْأَبْنَاءُ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ. وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ، يُمْهِلُهُمْ بِحِلْمِهِ إِلَى أَجَلٍ، مُسَمًّى، إِلَى مُنْتَهَى آجَالِهِمْ وَانْقِطَاعِ أَعْمَارِهِمْ. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ، لِأَنْفُسِهِمْ يَعْنِي الْبَنَاتِ، وَتَصِفُ، أَيْ: تَقُولُ، أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى، يَعْنِي الْبَنِينَ مَحَلُّ أَنَّ نَصْبٌ بَدَلٌ عَنِ الكذب، قال يمان: يعني بالحسنى: الجنة في المعاد يقولون نحن في الجنة إن كان محمد صادقا بالوعد فِي الْبَعْثِ. لَا جَرَمَ، حَقًّا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى، أَنَّ لَهُمُ النَّارَ، فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ، قَرَأَ نَافِعٌ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَيْ:
مُسْرِفُونَ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَكَسْرِهَا أَيْ: مُضَيِّعُونَ أَمْرَ اللَّهِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ: مَنْسِيُّونَ فِي النَّارِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُبْعَدُونَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَتْرُوكُونَ. قَالَ قَتَادَةُ: مُعَجَّلُونَ إِلَى النَّارِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: مُقَدَّمُونَ إِلَى النَّارِ.
«1260» وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» أَيْ: مُتَقَدِّمُكُمْ.
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ،
__________
1260- صحيح. أخرجه البخاري 1589 ومسلم 2289 وأحمد 4/ 313 وأبو يعلى 1525 من حديث جندب بن سفيان.
(1) في المطبوع «من» .(3/84)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
الْخَبِيثَةَ، فَهُوَ وَلِيُّهُمُ، نَاصِرُهُمْ، الْيَوْمَ، وَقَرِينُهُمْ سَمَّاهُ وَلِيًّا لَهُمْ لِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، فِي الْآخِرَةِ.
وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، مِنَ الدِّينِ وَالْأَحْكَامِ، وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، أَيْ: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا بَيَانًا وَهُدًى وَرَحْمَةً فَالْهُدَى وَالرَّحْمَةُ عَطْفٌ على قوله:
لِتُبَيِّنَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 65 الى 67]
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً، يَعْنِي: الْمَطَرَ، فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ، بِالنَّبَاتِ، بَعْدَ مَوْتِها، يُبُوسَتِهَا، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، سَمْعَ الْقُلُوبِ لَا سَمْعَ الْآذَانِ.
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً، لَعِظَةً، نُسْقِيكُمْ، بِفَتْحِ النُّونِ هَاهُنَا وفي المؤمنين [21] ، [1] نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ. مِمَّا فِي بُطُونِهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى النَّعَمِ، وَالنَّعَمُ وَالْأَنْعَامُ وَاحِدٌ، وَلَفْظُ النَّعَمِ مُذَكَّرٌ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: النَّعَمُ يذكر ويؤنث فمن أنث فالمعنى الْجَمْعِ وَمَنْ ذَكَّرَ فَلِحُكْمِ اللَّفْظِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: رَدَّهُ إِلَى مَا يَعْنِي فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا، وَقَالَ الْمُؤَرِّجُ [2] :
الْكِنَايَةُ مَرْدُودَةٌ إِلَى الْبَعْضِ وَالْجُزْءِ كَأَنَّهُ قَالَ نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ اللَّبَنَ إِذْ ليس كلها [3] لَبَنٌ وَاللَّبَنُ فِيهِ مُضْمَرٌ، مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ، وَهُوَ مَا فِي الْكَرِشِ مِنَ الثِّقْلِ فَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ لَا يُسَمَّى فَرْثًا، وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً، مِنَ الدَّمِ وَالْفَرْثِ لَيْسَ عَلَيْهِ لَوْنُ دَمٍ وَلَا رَائِحَةُ فَرْثٍ، سائِغاً لِلشَّارِبِينَ، هَنِيئًا يَجْرِي عَلَى السُّهُولَةِ فِي الْحَلْقِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُغَصَّ أَحَدٌ بِاللَّبَنِ قَطُّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِذَا أَكَلَتِ الدَّابَّةُ الْعَلَفَ وَاسْتَقَرَّ في كرشها وطحنته كان أسفله الفرث وَأَوْسَطُهُ اللَّبَنَ وَأَعْلَاهُ الدَّمَ، وَالْكَبِدُ متسلطة [4] عَلَيْهَا تُقَسِّمُهَا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجْرِي الدَّمُ فِي الْعُرُوقِ وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ وَيَبْقَى الْفَرْثُ كَمَا هُوَ.
وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ، يَعْنِي: وَلَكُمْ أَيْضًا عِبْرَةٌ فِيمَا نُسْقِيكُمْ وَنَرْزُقُكُمْ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ، تَتَّخِذُونَ مِنْهُ وَالْكِنَايَةُ فِي مِنْهُ عَائِدَةٌ إِلَى (مَا) مَحْذُوفَةٌ أَيْ: مَا تَتَّخِذُونَ [5] مِنْهُ، سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً، قَالَ قَوْمٌ: السَّكَرُ الخمر، والرزق الْحَسَنُ الْخَلُّ وَالزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ وَالرُّبُ، قَالُوا: وَهَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ:
السَّكَرُ ما شربت، والرزق الْحَسَنُ مَا أَكَلْتَ. وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ السَّكَرَ هُوَ الْخَلُّ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمُ: السَّكَرُ النَّبِيذُ [الْمُسْكِرُ] [6] وَهُوَ نَقِيعُ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إِذَا اشْتَدَّ والمطبوخ من العصير،
__________
(1) زيد في المطبوع «قرأ» .
(2) تصحف في المخطوط «المؤرخ» . [.....]
(3) في المطبوع «لكلها» .
(4) في المطبوع «مسلطة» .
(5) في المخطوط «يتخذونه» .
(6) زيد في المطبوع وط.(3/85)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَاكِ وَالنَّخَعِيِّ، وَمَنْ يُبِيحُ شُرْبَ النَّبِيذِ وَمَنْ حَرَّمَهُ [1] يَقُولُ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْإِخْبَارُ لَا الْإِحْلَالُ وَأَوْلَى الْأَقَاوِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً مَنْسُوخٌ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السَّكَرُ مَا حَرَّمَ مِنْ ثَمَرِهَا والرزق الْحَسَنُ مَا أَحَلَّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: السَّكَرُ الطُّعْمُ، يُقَالُ هَذَا سَكَرٌ لَكَ أَيْ: طُعْمٌ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 68 الى 71]
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ، أَيْ: أَلْهَمَهَا وَقَذَفَ فِي أَنْفُسِهَا [2] فَفَهِمَتْهُ وَالنَّحْلُ زَنَابِيرُ الْعَسَلِ وَاحِدَتُهَا نَحْلَةٌ. أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، يَبْنُونَ وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ أَهْلَهَا يَبْنُونَ لَهَا الْأَمَاكِنَ فَهِيَ تَأْوِي إِلَيْهَا، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْكُرُومُ.
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، لَيْسَ مَعْنَى الْكُلِّ الْعُمُومَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [النَّمْلِ: 23] . فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا. قِيلَ: هِيَ نَعْتُ الطُّرُقِ [3] ، يَقُولُ: هِيَ مُذَلَّلَةٌ لِلنَّحْلِ سَهْلَةُ الْمَسَالِكِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَتَوَعَّرُ عَلَيْهَا مَكَانٌ سَلَكَتْهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: الذُّلُلُ نَعْتُ النِّحَلِ، أَيْ: مُطِيعَةٌ مُنْقَادَةٌ بِالتَّسْخِيرِ. يُقَالُ: إِنَّ أَرْبَابَهَا يَنْقُلُونَهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ وَلَهَا يَعْسُوبٌ إِذَا وَقَفَ وَقَفَتْ وَإِذَا سَارَ سَارَتْ، يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ، يَعْنِي: الْعَسَلَ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ، أَبْيَضُ وَأَحْمَرُ وَأَصْفَرُ. فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ، أَيْ: فِي الْعَسَلِ [4] . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ فِي القرآن والأول أولى.
«1261» أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ ثَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدِ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنْ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
__________
1261- إسناده صحيح. مسلم هو صاحب الصحيح، قد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، شعبة بن الحجاج قتادة بن دعامة، أبو المتوكّل هو علي بن دؤاد.
- أخرجه المصنف من طريق مسلم، وهو في «صحيحه» 2217 من طريق محمد بن المثنى بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 5716 والترمذي 2083 وأحمد 3/ 19 و92 وأبو يعلى 1261 والمصنف في «شرح السنة» 3125 من طريق محمد بن جعفر بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 3/ 92 من طريق شعبة به.
- وأخرجه البخاري 5684 ومسلم بإثر 2217 من طريقين عن سعيد عن قتادة به.
- وأخرجه أحمد 3/ 19 من طريق قتادة عن أبي الصديق عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
(1) فِي المطبوع «حرم» .
(2) في المخطوط «نفسها» .
(3) أي السبل، وفي المخطوط «للطريق» .
(4) في المطبوع «العمل» .(3/86)
«اسْقِهِ عَسَلًا» ، فَسَقَاهُ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا» ، قَالَ: قَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ بَطْنُ أخيك» ، اسقه عسلا، فسقاه فبرأ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الْعَسَلُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ وَالْقُرْآنُ شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالشِّفَاءَيْنِ الْقُرْآنِ وَالْعَسَلِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، فَيَعْتَبِرُونَ.
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ، صِبْيَانًا أَوْ شُبَّانًا أَوْ كُهُولًا، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، أردئه، [و] [1] قال مقاتل: يعني الهرم. وقال قَتَادَةُ: أَرْذَلُ الْعُمُرِ تِسْعُونَ سَنَةً. رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أَرْذَلُ الْعُمُرِ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ [سَنَةً] [2] ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ سَنَةً.
لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً، لِكَيْلَا يَعْقِلَ بَعْدَ عَقْلِهِ الْأَوَّلِ شَيْئًا، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ.
«1262» أَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [3] الْمُلَيْحِيُّ ثَنَا أَحْمَدُ [بْنُ عَبْدِ اللَّهِ] [4] النُّعَيْمِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثنا موسى بن إسماعيل ثنا هارون بن موسى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْأَعْوَرُ عَنْ شُعَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو: «أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ وَالْكَسَلِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ وَفِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» .
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ، بسط على [5] واحد وضيّق على آخر وَقَلَّلَ وَكَثَّرَ. فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ، مِنَ الْعَبِيدِ، فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ، أَيْ: حَتَّى يَسْتَوُوا هُمْ وَعَبِيدُهُمْ فِي ذَلِكَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونُوا هم ومماليكهم فيما [رزقتهم] [6] سَوَاءً وَقَدْ جَعَلُوا عَبِيدِي شُرَكَائِي فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي يُلْزِمُ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ عَزَّ
__________
1262- إسناده على شرط البخاري ومسلم، وله طرق ستأتي.
- شعيب هو ابن الحبحاب.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 4707 عن موسى بن إسماعيل بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 2706 من طريق هارون الأعور به.
- وأخرجه البخاري 2823 و6367 ومسلم 2706 ح 50 و51 وأبو داود 1540 وأحمد 3/ 113 و117 وابن حبان 1009 من طرق عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسٍ.
- وأخرجه البخاري 6369 والنسائي 8/ 258 و265 و274 وأحمد 3/ 123 و159 و220 و240 من طرق عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عن أنس به.
- وأخرجه النسائي 8/ 260 وأحمد 3/ 208 و214 و231 وابن أبي شيبة 10/ 190 وأبو يعلى 3018 من طرق عن قتادة عن أنس به.
- وأخرجه البخاري 6371 من طريق عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أنس به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط. [.....]
(5) في المطبوع «عن» .
(6) في المطبوع «رزقهم الله» .(3/87)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
وَجَلَّ فَهَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ يَشْرِكُهُ مَمْلُوكُهُ فِي زَوْجَتِهِ وَفِرَاشِهِ وَمَالِهِ أَفَتَعْدِلُونَ بِاللَّهِ خَلْقَهُ وَعِبَادَهُ، أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ، بِالْإِشْرَاكِ بِهِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ بِالتَّاءِ لِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ، وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ: فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ.
[سورة النحل (16) : الآيات 72 الى 73]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً، يَعْنِي: النِّسَاءَ خَلَقَ مِنْ آدَمَ زَوْجَتَهُ حَوَّاءَ، وَقِيلَ:
مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَيْ: مِنْ جِنْسِكُمْ أَزْوَاجًا، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالنَّخَعِيُّ: الْحَفَدَةُ أَخْتَانُ الرَّجُلِ عَلَى بَنَاتِهِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْضًا أَنَّهُمُ الْأَصْهَارُ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَبَنَاتٍ تُزَوِّجُونَهُمْ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِهِمُ الْأَخْتَانُ وَالْأَصْهَارُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالضَّحَاكُ: هُمُ الْخَدَمُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْأَعْوَانُ مَنْ أَعَانَكَ فَقَدْ حَفَدَكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُمْ وَلَدُ وَلَدِ الرَّجُلِ الَّذِينَ يُعِينُونَهُ وَيَخْدُمُونَهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مهنة تمتهنونهم ويخدمونكم من أولادكم. وقال الكلبي ومقاتل: البنين الصغار والحفدة كِبَارُ الْأَوْلَادِ [1] الَّذِينَ يُعِينُونَهُ عَلَى عَمَلِهِ. وَرَوَى مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ وَلَدُ الْوَلَدِ. وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنْهُ: أَنَّهُمْ [بَنُو] [2] امْرَأَةِ الرَّجُلِ لَيْسُوا مِنْهُ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، مِنَ النعم الحلال، أَفَبِالْباطِلِ، يعني الأصنام، يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ، يَعْنِي التَّوْحِيدَ وَالْإِسْلَامَ، وَقِيلَ: الْبَاطِلُ الشَّيْطَانُ أَمَرَهُمْ بتحريم البحيرة والسائبة، وبنعمة اللَّهِ أَيْ بِمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُمْ يَكْفُرُونَ، يَجْحَدُونَ تَحْلِيلَهُ.
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ، يَعْنِي الْمَطَرَ، وَالْأَرْضِ، يَعْنِي النَّبَاتَ، شَيْئاً، قَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ بَدَلٌ مِنَ الرِّزْقِ مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ مِنْ أَمْرِ الرِّزْقِ شَيْئًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: نُصِبَ شَيْئًا بِوُقُوعِ الرِّزْقِ عَلَيْهِ أَيْ لَا يَرْزُقُ شَيْئًا، وَلا يَسْتَطِيعُونَ، وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ، يَذْكُرُ [3] عَجْزَ الْأَصْنَامِ عَنْ إِيصَالِ نفع أو دفع ضر.
[سورة النحل (16) : الآيات 74 الى 77]
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ، يَعْنِي الْأَشْبَاهَ فَتُشَبِّهُونَهُ بِخَلْقِهِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ شركاء [4] فَإِنَّهُ وَاحِدٌ لَا مِثْلَ لَهُ،
__________
(1) في المخطوط «الكبار» .
(2) سقط من المطبوع.
(3) في المطبوع «بذكر» .
(4) في المطبوع وط «شريكا» .(3/88)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ، خَطَأَ مَا تَضْرِبُونَ مِنَ الأمثال، ثم ضرب [الله] [1] مثلا للمؤمن والكافر، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ، هَذَا مَثَلُ الْكَافِرِ رزقه الله ما لا فَلَمْ يُقَدِّمْ فِيهِ خَيْرًا، وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً، هَذَا مثل المؤمن أعطاه الله ما لا فَعَمِلَ فِيهِ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَأَنْفَقَهُ فِي رِضَاءِ اللَّهِ سِرًّا وَجَهْرًا فَأَثَابَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ.
هَلْ يَسْتَوُونَ، ولم يقل هل يَسْتَوِيَانِ لِمَكَانِ مَنْ وَهُوَ اسْمٌ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، وَكَذَلِكَ قوله: وَلا يَسْتَطِيعُونَ [الأعراف: 193] بالجمع لأجل (من) مَعْنَاهُ هَلْ يَسْتَوِي هَذَا الْفَقِيرُ الْبَخِيلُ وَالْغَنِيُّ السَّخِيُّ كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْكَافِرُ الْعَاصِي [2] وَالْمُؤْمِنُ الْمُطِيعُ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَبْداً مَمْلُوكاً، أَيْ: أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ. وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، يَقُولُ ليس الأمر كما يقولون، مَا لِلْأَوْثَانِ عِنْدَهُمْ مِنْ يَدٍ وَلَا مَعْرُوفٍ فَتُحْمَدُ عَلَيْهِ إِنَّمَا الْحَمْدُ الْكَامِلُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لأنه المنعم [المتفضل] [3] والخالق الرازق، (ولكن أكثر [الناس] ) : الْكُفَّارِ (لَا يَعْلَمُونَ) ثُمَّ ضَرَبَ [الله] [4] مَثَلًا لِلْأَصْنَامِ فَقَالَ:
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، كَلٌّ. ثِقَلٌ وَوَبَالٌ عَلَى مَوْلَاهُ ابْنِ عَمِّهِ وَأَهْلِ وِلَايَتِهِ، أَيْنَما يُوَجِّهْهُ، يُرْسِلْهُ، لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ، لِأَنَّهُ لَا يَفْهَمُ مَا يُقَالُ لَهُ وَلَا يُفْهَمُ عَنْهُ، هَذَا مَثَلُ الْأَصْنَامِ لَا تَسْمَعُ وَلَا تَنْطِقُ وَلَا تَعْقِلُ، وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ عَابِدِهِ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يَحْمِلَهُ وَيَضَعَهُ وَيَخْدِمَهُ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، يعني الله فإنه قَادِرٌ مُتَكَلِّمٌ يَأْمُرُ بِالتَّوْحِيدِ، وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي يَدُلُّكُمْ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَقِيلَ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
وَقِيلَ: كِلَا الْمِثْلَيْنِ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، يَرْوِيهِ عطيه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: الْأَبْكَمُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ حَمْزَةُ [5] وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
نَزَلَتْ فِي هَاشِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ رَبِيعَةَ الْقُرَشِيِّ، وَكَانَ قَلِيلَ الْخَيْرِ يُعَادِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَمَوْلَاهُ كَانَ عُثْمَانُ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَكَانَ مَوْلَاهُ يَكْرَهُ الْإِسْلَامَ [6] .
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ، فِي قُرْبِ كَوْنِهَا، إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ، إِذَا قَالَ لَهُ:
كُنْ فَيَكُونُ، أَوْ هُوَ أَقْرَبُ، بَلْ هُوَ أَقْرَبُ، إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، نَزَلَتْ فِي الْكُفَّارِ الَّذِينَ يَسْتَعْجِلُونَ الْقِيَامَةَ استهزاء.
[سورة النحل (16) : الآيات 78 الى 80]
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80)
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) تصحف في المطبوع «العامي» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيد في المطبوع وط «عثمان بن عفان» .
(6) الصواب عموم الآية في كل من يتصف بذلك.(3/89)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ، قَرَأَ الْكِسَائِيُّ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [1] بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالْهَمْزَةِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً، تَمَّ الْكَلَامُ.
ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَهُمْ قَبْلَ الْخُرُوجِ مِنْ بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمُ الْعِلْمَ بَعْدَ الْخُرُوجِ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، نعمه [2] .
أَلَمْ يَرَوْا، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ بِالتَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ لقوله: وَيَعْبُدُونَ [النحل: 73] .
إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ، مُذَلَّلَاتٍ، فِي جَوِّ السَّماءِ وهو الهويّ [3] بين السماء والأرض، روى كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ الطَّيْرَ تَرْتَفِعُ [4] اثني عشر ميلا ولا ترتفع [5] فَوْقَ هَذَا وَفَوْقَ الْجَوِّ السُّكَاكُ [وَفَوْقَ السُّكَاكِ] [6] السَّمَاءُ مَا يُمْسِكُهُنَّ فِي الْهَوَاءِ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ الَّتِي هِيَ مِنَ الْحَجَرِ وَالْمَدَرِ، سَكَناً أَيْ: مَسْكَنًا تَسْكُنُونَهُ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً، يَعْنِي الْخِيَامَ وَالْقِبَابَ وَالْأَخْبِيَةَ وَالْفَسَاطِيطَ مِنَ الْأَنْطَاعِ وَالْأُدُمَ، تَسْتَخِفُّونَها أَيْ: يَخِفُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا، يَوْمَ ظَعْنِكُمْ، رِحْلَتِكُمْ فِي سَفَرِكُمْ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ سَاكِنَةَ الْعَيْنِ، وَالْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُوَ أَجْزَلُ اللُّغَتَيْنِ، وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ، فِي بَلَدِكُمْ لَا تَثْقُلُ عَلَيْكُمْ فِي الْحَالَيْنِ، وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها، يَعْنِي أَصْوَافَ الضَّأْنِ وَأَوْبَارَ الْإِبِلِ وَأَشْعَارَ الْمَعِزِ، وَالْكِنَايَاتُ [7] رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَنْعَامِ، أَثاثاً، قال ابن عباس: ما لا. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَتَاعًا. قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: الأثاث المال جميعه مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْعَبِيدِ وَالْمَتَاعِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ مَتَاعُ الْبَيْتِ مِنَ الْفَرْشِ وَالْأَكْسِيَةِ، وَمَتاعاً، بَلَاغًا يَنْتَفِعُونَ بِهَا، إِلى حِينٍ يَعْنِي [8] الْمَوْتَ. وَقِيلَ: إِلَى حِينِ تَبْلَى.
[سورة النحل (16) : الآيات 81 الى 86]
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86)
__________
(1) زيد في المطبوع والمخطوط «وبيوت» .
(2) زيد في المطبوع وحده «كون السمع والأبصار والأفئدة قبل الخروج إذ يسمع الطفل ويبصر ولا يعلم، وهذه الجوارح من غير هذه الصفات كالمعدوم كما قال فيمن لا يسمع الحق ولا يبصر العبر ولا يعقل الثواب صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ لا يشكرون نعمة» .
- وليست في المخطوطتين وط والظاهر أنهما مقحمة من أحد النساخ أو أحد من علّق على الكتاب، ومما يدل على عدم ثبوتها ما جاء عقب الآية التي من سورة البقرة «لا يشكرون نعمه» وقد رجعت إلى سورة البقرة عند تلك الآية، فرأيت المصنف قد فسرها هنا بغير هذا التفسير، والله أعلم. [.....]
(3) كذا في المطبوع والمخطوط، وفي- ط- «الهواء» .
(4) في المطبوع «ترفع» .
(5) في المطبوع «ترفع» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المخطوط «الكناية» .
(8) زيد في المطبوع «إِلَى حِينٍ» .(3/90)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالًا تَسْتَظِلُّونَ بِهَا مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَهِيَ ظِلَالُ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً، يَعْنِي: الْأَسْرَابَ وَالْغِيرَانَ وَاحِدُهَا كُنٌّ وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ قُمُصًا مِنَ الْكَتَّانِ وَالْقَزِّ وَالْقُطْنِ وَالصُّوفِ، تَقِيكُمُ، تَمَنَعُكُمْ، الْحَرَّ، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أراد الحر والبرد واكتفى [1] بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ، يَعْنِي: الدُّرُوعَ، وَالْبَأْسُ:
الْحَرْبُ، يَعْنِي: تَقِيكُمْ فِي بَأْسِكُمُ السِّلَاحَ أَنْ يُصِيبَكُمْ، كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ، تُخْلِصُونَ لَهُ الطَّاعَةَ، قَالَ عَطَاءٌ الخراساني: إنما نزل [2] الْقُرْآنُ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِمْ، فَقَالَ: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنَ السُّهُولِ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ جِبَالٍ كَمَا قَالَ: وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها [النحل: 80] لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ وَبَرٍ وَشَعْرٍ، وَكَمَا قَالَ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّورِ: 43] وَمَا أَنْزَلَ مِنَ الثَّلْجِ أَكْثَرُ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ الثَّلْجَ. وَقَالَ: تَقِيكُمُ الْحَرَّ
وَمَا تَقِي مِنَ الْبَرْدِ أَكْثَرُ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ حَرٍّ.
فَإِنْ تَوَلَّوْا، فإن أعرضوا فلا يلحق فِي ذَلِكَ عَتَبٌ وَلَا سِمَةُ تَقْصِيرٍ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ، قَالَ السُّدِّيُّ يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يُنْكِرُونَها، يُكَذِّبُونَ بِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ الْإِسْلَامُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي مَا عَدَّ لَهُمْ مِنَ النِّعَمِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ يُقِرُّونَ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ [إِذَا] [3] قِيلَ لَهُمْ تَصَدَّقُوا وَامْتَثِلُوا أَمْرَ [4] اللَّهِ فِيهَا يُنْكِرُونَهَا فَيَقُولُونَ وَرِثْنَاهَا [5] مِنْ آبَائِنَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُمْ هَذِهِ النِّعَمَ قَالُوا: نَعَمْ هَذِهِ كُلُّهَا مِنَ اللَّهِ وَلَكِنَّهَا بِشَفَاعَةِ آلِهَتِنَا. وَقَالَ عَوْفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لَوْلَا فُلَانٌ لكان كذا وكذا وَلَوْلَا فُلَانٌ لَمَا كَانَ كَذَا، وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ، الجاحدون.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً، يَعْنِي رَسُولًا [6] ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [أي] [7] ، فِي الِاعْتِذَارِ.
وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ أَصْلًا، وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ، يُسْتَرْضَوْنَ، يَعْنِي: لَا يُكَلَّفُونَ أَنْ يُرْضُوا رَبَّهُمْ لِأَنَّ الْآخِرَةَ لَيْسَتْ بِدَارِ تَكْلِيفٍ وَلَا يُرْجَعُونَ إِلَى الدُّنْيَا فَيَتُوبُونَ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الِاسْتِعْتَابِ أنه التعرض
__________
(1) في المطبوع «اكتفاء» .
(2) في المطبوع «أنزل» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «لأمر» .
(5) تصحف في المطبوع «روثتها» .
(6) في المخطوط «رسولها» .
(7) زيادة عن المخطوط.(3/91)
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
لِطَلَبِ الرِّضَا وَهَذَا الْبَابُ مُنْسَدٌّ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْكُفَّارِ.
وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، كَفَرُوا، الْعَذابَ، يَعْنِي جَهَنَّمَ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، شُرَكاءَهُمْ، أَوْثَانَهُمْ، قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ، أَرْبَابًا وَنَعْبُدُهُمْ، فَأَلْقَوْا، يَعْنِي الْأَوْثَانَ، إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ، أَيْ: قَالُوا لَهُمْ، إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ، فِي تَسْمِيَتِنَا آلِهَةً ما دعوناكم إلى عبادتنا.
[سورة النحل (16) : الآيات 87 الى 90]
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
وَأَلْقَوْا، يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ، اسْتَسْلَمُوا وَانْقَادُوا لِحُكْمِهِ فِيهِمْ، وَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ شَيْئًا، وَضَلَّ، وَزَالَ، عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ مِنْ أَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ.
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، مَنَعُوا النَّاسَ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: عَقَارِبُ لَهَا أَنْيَابٌ أَمْثَالُ النَّخْلِ الطِّوَالِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: حَيَّاتٌ أَمْثَالُ الْبُخْتِ وَعَقَارِبُ أَمْثَالُ الْبِغَالِ تَلْسَعُ إِحْدَاهُنَّ اللَّسْعَةَ يَجِدُ صَاحِبُهَا حرها [1] أَرْبَعِينَ خَرِيفًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي خَمْسَةَ أَنْهَارٍ مِنْ صُفْرٍ مُذَابٍ كَالنَّارِ تَسِيلُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، يُعَذَّبُونَ بِهَا ثَلَاثَةٌ عَلَى مِقْدَارِ اللَّيْلِ وَاثْنَانِ عَلَى مِقْدَارِ النَّهَارِ، وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ حَرِّ النَّارِ إِلَى بَرْدِ الزَّمْهَرِيرِ فَيُبَادِرُونَ [2] مِنْ شِدَّةِ الزَّمْهَرِيرِ إِلَى النَّارِ مُسْتَغِيثِينَ بِهَا. وَقِيلَ: يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ. بِما كانُوا يُفْسِدُونَ، فِي الدُّنْيَا بِالْكُفْرِ وَصَدِّ النَّاسِ عَنِ الْإِيمَانِ.
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، يعني نبيها لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانَتْ تُبْعَثُ إِلَى الْأُمَمِ مِنْهَا. وَجِئْنا بِكَ، يَا مُحَمَّدُ، شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ، الَّذِينَ بُعِثْتَ إِلَيْهِمْ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً، بَيَانًا، لِكُلِّ شَيْءٍ، يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ، وَهُدىً، مِنَ الضَّلَالَةِ، وَرَحْمَةً وَبُشْرى، بِشَارَةً لِلْمُسْلِمِينَ.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ، بِالْإِنْصَافِ، وَالْإِحْسانِ، إِلَى النَّاسِ، وَعَنِ ابْنِ عباس: العدل: التوحيد والإحسان: أداء الفرائض. وعنه أيضا: الْإِحْسَانُ: الْإِخْلَاصُ فِي التَّوْحِيدِ.
«1263» وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ» .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ العدل التوحيد، والإحسان: الْعَفْوُ عَنِ النَّاسِ، وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى، صِلَةُ الرَّحِمِ، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ، مَا قَبُحَ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الزِّنَا، وَالْمُنْكَرِ، ما لا
__________
1263- هو بعض حديث سؤالات جبريل عليه السّلام، وقد تقدم. [.....]
(1) في المطبوع «حمتها» .
(2) في المخطوط «فينادون» .(3/92)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
يُعْرَفُ فِي شَرِيعَةٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَالْبَغْيِ، الْكِبْرُ وَالظُّلْمُ. وَقَالَ ابْنُ عيينة: العدل استواء السريرة [1] والعلانية، والإحسان أَنْ تَكُونَ سَرِيرَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ علانيته، والفحشاء وَالْمُنْكَرُ أَنْ تَكُونَ عَلَانِيَتُهُ أَحْسَنَ مِنْ سَرِيرَتِهِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، لعلكم تَتَّعِظُونَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ [2] : أَجْمَعُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةُ.
«1264» وَقَالَ أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ: إِنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ عَلَى الْوَلِيدِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي أعد فعاد عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ لَهُ وَاللَّهِ لَحَلَاوَةً وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً وَإِنَّ أَعْلَاهُ لَمُثْمِرٌ وَإِنَّ أَسْفَلَهُ لَمُغْدِقٌ، وما هو بقول البشر.
[سورة النحل (16) : الآيات 91 الى 93]
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ، وَالْعَهْدُ هَاهُنَا هُوَ الْيَمِينُ، قَالَ الشَّعْبِيُّ: الْعَهْدُ يَمِينٌ وكفارته كفارة اليمين، وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها، تَشْدِيدِهَا فَتَحْنَثُوا فِيهَا، وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا، شَهِيدًا بِالْوَفَاءِ، إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَإِنْ كَانَ حُكْمُهَا عَامًّا، قِيلَ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ:
نَزَلَتْ فِي حِلْفِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِنَقْضِ الْعَهْدِ. فَقَالَ: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ غَزْلِهِ وَإِحْكَامِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: هِيَ امْرَأَةٌ خَرْقَاءُ حَمْقَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهَا:
رَيْطَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ كَعْبِ [3] بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ، وَتُلَقَّبُ بِجِعْرِ وَكَانَتْ بِهَا وَسُوسَةٌ، وَكَانَتِ اتَّخَذَتْ مِغْزَلًا بِقَدْرِ ذِرَاعٍ وَصِنَّارَةً مِثْلَ الْأُصْبُعِ، وَفَلْكَةً عَظِيمَةً عَلَى قَدْرِهَا وَكَانَتْ تَغْزِلُ الْغَزْلَ مِنَ الصُّوفِ وَالشَّعْرِ وَالْوَبَرِ، وَتَأْمُرُ جَوَارِيَهَا بِذَلِكَ فَكُنَّ يَغْزِلْنَ مِنَ الْغَدَاةِ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَإِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ أَمَرَتْهُنَّ بِنَقْضِ جَمِيعِ مَا غَزَلْنَ فَهَذَا كَانَ دَأْبَهَا [4] ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا لَمْ تَكُفَّ عَنِ الْعَمَلِ وَلَا حِينَ عَمِلَتْ كَفَّتْ عَنِ النَّقْضِ، فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ إِذَا نَقَضْتُمُ الْعَهْدَ لَا كَفَفْتُمْ عَنِ الْعَهْدِ، وَلَا حِينَ عَاهَدْتُمْ وَفَيْتُمْ به، أَنْكاثاً، يعني أنقاضا واحدها [5] نَكْثٌ وَهُوَ مَا نُقِضَ بَعْدَ الْفَتْلِ غَزْلًا كَانَ أَوْ حَبْلًا. تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ، أَيْ: دخلا وخيانة وخديعة، والدخل مَا يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ لِلْفَسَادِ، وقيل: الدخل والدغل أَنْ يُظْهِرَ الْوَفَاءَ وَيُبْطِنَ النَّقْضَ. أَنْ تَكُونَ أَيْ: لِأَنْ تَكُونَ، أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى، أَيْ: أَكْثَرُ وَأَعْلَى، مِنْ أُمَّةٍ قَالَ مُجَاهِدٌ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُحَالِفُونَ الْحُلَفَاءَ فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَعَزَّ نَقَضُوا حِلْفَ هَؤُلَاءِ وَحَالَفُوا الْأَكْثَرَ، فَمَعْنَاهُ طَلَبْتُمُ الْعِزَّ بِنَقْضِ الْعَهْدِ بِأَنْ كَانَتْ أُمَّةٌ أَكْثَرَ مِنْ أُمَّةٍ فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذلك.
__________
1264- لم أجد من أسنده عن أيوب، وهو مرسل، ولم يذكره غير المصنف عند هذه الآية، وكلام الوليد هذا مشهور في كتب السيرة بدون ذكر هذه الآية، وسيأتي.
(1) في المطبوع «السر» والمثبت عن المخطوط والطبري 21867.
(2) زيادة عن المخطوط تصحف في المخطوط «عباس» .
(3) في المطبوع «كليب» .
(4) في المطبوع «رأيها» .
(5) في المطبوع «واحدتهما» .(3/93)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ، ليختبركم [1] اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِيَّاكُمْ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، فِي الدُّنْيَا.
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً، عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْإِسْلَامُ، وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ، بِخِذْلَانِهِ إِيَّاهُمْ عَدْلًا مِنْهُ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ، بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهُمْ فَضْلًا منه، وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
[سورة النحل (16) : الآيات 94 الى 97]
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (97)
وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا، خَدِيعَةً وَفَسَادًا، بَيْنَكُمْ، فَتَغُرُّونَ بِهَا النَّاسَ فَيَسْكُنُونَ إِلَى أَيْمَانِكُمْ وَيَأْمَنُونَ ثُمَّ تَنْقُضُونَهَا، فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها، فتهلكوا بعد ما كُنْتُمْ آمِنِينَ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مُبْتَلًى بَعْدَ عَافِيَةٍ أَوْ سَاقِطٍ فِي وَرْطَةٍ بَعْدَ سَلَامَةٍ زَلَّتْ قَدَمُهُ، وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، قِيلَ: مَعْنَاهُ سَهَّلْتُمْ طَرِيقَ نَقْضِ الْعَهْدِ عَلَى النَّاسِ بِنَقْضِكُمُ الْعَهْدَ، وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا، يَعْنِي لَا تَنْقُضُوا عُهُودَكُمْ تَطْلُبُونَ بِنَقْضِهَا عَرَضًا قَلِيلًا مِنَ الدُّنْيَا، وَلَكِنْ أَوْفَوْا بِهَا. إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ، مِنَ الثواب لكم على الوفاء بالعهد، خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فضل ما بيني الْعِوَضَيْنِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ. فَقَالَ: مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ، أَيِ [2] الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا يَفْنَى، وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ بِالنُّونِ وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، الَّذِينَ صَبَرُوا، عَلَى الْوَفَاءِ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ.
«1265» أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَّيْسَفُونِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمر الجوهري ثنا أحمد بن علي الكشمهيني ثنا علي بن حجر ثنا إسماعيل بن جعفر ثنا عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى المطلب [عن الْمُطَّلِبِ] [3] عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ دنياه أضر بآخرته، ومن
__________
1265- إسناده ضعيف لانقطاعه بين أبي موسى والمطلب. وفي الإسناد عمرو بن أبي عمرو، وفيه كلام، المطلب هو ابن عبد الله بن المطلب.
- وهو في «شرح السنة» 3933 بهذا الإسناد.
- وأخرجه الحاكم 4/ 319 من طريق إسماعيل بن جعفر به.
- وأخرجه أحمد 4/ 412 والحاكم 4/ 308 وابن حبان 709 والقضاعي 418 والبيهقي 3/ 370 من طريقين عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو به.
- وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: فيه انقطاع، وذكره المنذري في «الترغيب» 4744 وقال: المطلب لم يسمع من أبي موسى.
(1) في المطبوع «يختبركم» .
(2) زيد في المخطوط «من» .
(3) زيادة عن المخطوط وكتب التخريج.(3/94)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: هِيَ الرزق الحلال. وقال الْحَسَنُ: هِيَ الْقَنَاعَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: يَعْنِي الْعَيْشَ فِي الطَّاعَةِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: هِيَ حَلَاوَةُ الطَّاعَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هِيَ الْجَنَّةُ. وَرَوَاهُ عَوْفٌ عَنِ الْحُسْنِ.
وَقَالَ: لَا تَطِيبُ الْحَيَاةُ لِأَحَدٍ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ. وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 98 الى 102]
فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ، أي: إذا أَرَدْتَ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [الْمَائِدَةِ: 6] ، وَالِاسْتِعَاذَةُ سُنَّةٌ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَعْدَهَا وَلَفْظُهُ أَنْ يَقُولَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ.
«1266» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ سَمِعْتُ عَاصِمًا عَنِ ابْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي، قَالَ: فَكَبَّرَ، فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّيْطَانِ الرجيم من همزه ولمزه ونفخه ونفثه» . [قال عمرو:
__________
1266- حديث صحيح. إسناده لين لأجل عاصم وهو ابن عمير العنزي، وثقه ابن حبان وحده، وقال الحافظ: مقبول. لكن للحديث شواهد.
- شعبة بن الحجاج ابن جبير هو نافع.
- وهو في «شرح السنة» 576 بهذا الإسناد.
- وأخرجه أبو داود 764 وابن ماجه 807 وأحمد 4/ 85 والطيالسي 947 وأبو يعلى 7398 وابن الجارود في «المنتقى» 180 وابن خزيمة 468 وابن حبان 1779 من طرق عن شعبة به، وصححه الحاكم 1/ 235، ووافقه الذهبي.
- وأخرجه أحمد 4/ 80 و81 والطبراني 1569 من طريق رجل من عنزة عن نافع بن جبير به.
- وأخرجه أحمد 4/ 83 وابن خزيمة 469 من طريق عمرو بن مرة عن عباد بن عاصم عن نافع بن جبير به.
- وللحديث شواهد منها:
- حديث أبي سعيد الخدري أخرجه أبو داود 775 والترمذي 242 والنسائي 2/ 132 وهو حسن.
- وحديث ابن مسعود عند ابن ماجة 808 وأحمد 1/ 404 وابن خزيمة 472 وأبو يعلى 4994 و5077 وصححه الحاكم 1/ 207 ووافقه الذهبي!.
- وقال البوصيري: هذا إسناد ضعيف عطاء بن السائب اختلط بأخرة، وسمع منه محمد بن فضيل بعد الاختلاط.
- لكن يصلح شاهدا لما تقدم.
- وحديث ابن عمر عند مسلم 601 وعبد الرزاق 2559.(3/95)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
وَنَفْخُهُ] [1] الْكِبْرُ وَنَفْثُهُ الشِّعْرُ وَهَمْزُهُ الْمَوْتَةُ، وَالْمَوْتَةُ الْجُنُونُ، وَالِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ هِيَ الِاعْتِصَامُ بِهِ.
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ، حُجَّةٌ وَوِلَايَةٌ، عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، قَالَ سُفْيَانُ: لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى ذَنْبٍ لَا يُغْفَرُ.
إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، يُطِيعُونَهُ وَيَدْخُلُونَ فِي وِلَايَتِهِ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ، أَيْ: بِاللَّهِ مُشْرِكُونَ. وَقِيلَ: الْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَمَجَازُهُ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَجْلِهِ مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ.
وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ، يَعْنِي وَإِذَا نَسَخْنَا حُكْمَ آيَةٍ فَأَبْدَلْنَا مَكَانَهُ حُكْمًا آخَرَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ، أَعْلَمُ بِمَا هُوَ أَصْلَحُ لِخَلِقِهِ فِيمَا يُغَيِّرُ وَيُبَدِّلُ مِنْ أَحْكَامِهِ، قالُوا إِنَّما أَنْتَ، يَا مُحَمَّدُ، مُفْتَرٍ، مُخْتَلِقٌ [2] ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَسْخَرُ بِأَصْحَابِهِ يَأْمُرُهُمُ الْيَوْمَ بِأَمْرٍ وَيَنْهَاهُمْ عَنْهُ غَدًا مَا هُوَ إِلَّا مُفْتَرٍ يَتَقَوَّلُهُ مِنْ تلقاء نفسه، قال اللَّهِ: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، حَقِيقَةَ الْقُرْآنِ، وَبَيَانَ النَّاسِخِ [3] مِنَ المنسوخ.
قُلْ نَزَّلَهُ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، رُوحُ الْقُدُسِ، جبريل [عليه السلام] [4] ، مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ، بِالصِّدْقِ، لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا، أَيْ: لِيُثَبِّتَ [5] قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا وَيَقِينًا، وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 103 الى 105]
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، آدَمِيٌّ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْبَشَرِ.
«1267» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ قَيْنًا [6] بِمَكَّةَ اسْمُهُ بَلْعَامُ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا أَعْجَمِيَّ اللِّسَانِ، فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَرَوْنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ وَيَخْرُجُ، فَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَلْعَامُ.
«1268» وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقرىء غُلَامًا لِبَنِي الْمُغِيرَةِ يُقَالُ لَهُ يَعِيشُ وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ، فَقَالَتْ قريش: إنما يعلمه [يسار، و] [7] يَعِيشُ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ إِنَّمَا يَتَعَلَّمُ مِنْ عَايَشَ مَمْلُوكٍ كَانَ لِحُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وكان أعجمي اللِّسَانِ.
«1269» وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنِي كَثِيرًا مَا يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إِلَى غُلَامٍ رومي
__________
1267- ضعيف. أخرجه الطبري 21933 من حديث ابن عباس، وضعفه السيوطي في «الدر» 4/ 247 وفي «أسباب النزول» 666 أيضا. [.....]
1268- مرسل. أخرجه الطبري 21934 عن عكرمة مرسلا.
1269- مرسل. أخرجه الطبري 2136 عن ابن إسحاق مرسلا.
(1) سقط من المخطوط.
(2) في المخطوط «تختلق» .
(3) في المطبوع «و» بدل «من» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع وط «يثبت» .
(6) في المطبوع «فينا» .
(7) سقط من المطبوع.(3/96)
نَصْرَانِيٍّ عَبْدٍ لِبَعْضِ بَنِي الْحَضْرَمِيِّ، يُقَالُ لَهُ جَبْرٌ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْكُتُبَ.
«1270» «1271» وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ الْحَضْرَمِيُّ كَانَ لَنَا عَبْدَانِ مِنْ أَهْلِ عَيْنِ التَّمْرِ [1] يُقَالُ لأحدهما [يسار، و] يكنى أَبَا فَكِيهَةَ، وَيُقَالُ لِلْآخَرِ جَبْرٌ، وَكَانَا يَصْنَعَانِ السُّيُوفَ بِمَكَّةَ، وَكَانَا يَقْرَآنِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ فَرُبَّمَا مَرَّ بِهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وهما يقرآن التوراة، فَيَقِفُ وَيَسْتَمِعُ. قَالَ الضَّحَاكُ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا آذَاهُ الْكَفَّارُ يَقْعُدُ إِلَيْهِمَا ويستروح [2] بكلامها، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّمَا يَتَعَلَّمُ مُحَمَّدٌ مِنْهُمَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى تَكْذِيبًا لَهُمْ:
لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ، أَيْ يَمِيلُونَ وَيُشِيرُونَ إِلَيْهِ، أَعْجَمِيٌّ، الْأَعْجَمِيُّ الَّذِي لَا يُفْصِحُ وَإِنْ كَانَ يَنْزِلُ بِالْبَادِيَةِ، وَالْعَجَمِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَجَمِ، وَإِنْ كَانَ فَصِيحًا، وَالْأَعْرَابِيُّ الْبَدَوِيُّ، وَالْعَرَبِيُّ مَنْسُوبٌ إِلَى الْعَرَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَصِيحًا، وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ، فَصِيحٌ وَأَرَادَ بِاللِّسَانِ الْقُرْآنَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: اللُّغَةُ لِسَانٌ، وَرُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كَانُوا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ، لَا يُرْشِدُهُمُ اللَّهُ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ هُمُ الْمُفْتَرُونَ. فَقَالَ: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ
(105) ، لَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ، قِيلَ إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب أخبار عن فعلهم وهم الْكَاذِبُونَ نَعْتٌ لَازِمٌ لَهُمْ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ كَذَبْتَ وَأَنْتَ كَاذِبٌ أَيْ كَذَبْتَ فِي هَذَا الْقَوْلِ، وَمِنْ عَادَتِكَ الْكَذِبُ.
«1272» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثعلبي أنا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ الجوزي أنا جَدِّي أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عمر بن حفص ثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الفرج الأزرق [ثنا أبو زياد يزيد بن عبد الله] [3] ثنا
__________
1270- مرسل. أخرجه الطبري 21938 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ الحضرمي.
1271- عزاه المصنف للضحاك، وإسناده إليه أول الكتاب، وهو مرسل.
- وأخرج ابن أبي حاتم كما في «الدر» 4/ 247 عن السدي نحوه.
- الخلاصة: هذه روايات عامتها مراسيل، لكن لعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، ويعلم أن لهذا الخبر أصلا، والله أعلم.
1272- باطل. إسناده ساقط، فيه يَعْلَى بْنُ الْأَشْدَقِ عَنْ عَبْدِ الله بن جراد.
- قال الذهبي في «الميزان» 4/ 456: قال ابن عدي: روى يعلى عن عمه عبد الله بن جراد، وزعم أن لعمه صحبة.
- فذكر أحاديث كثيرة منكرة، وهو وعمه غير معروفين، قال البخاري، لا يكتب حديثه.
- وقال ابن حبان: وضعوا أحاديث له فحدث بها ولم يدر، وقال أبو زرعة: لا يصدق.
- وقال الذهبي في ترجمة ابن جراد 2/ 400: مجهول، لا يصح خبره، لأنه من رواية يعلى بن الأشدق الكذاب.
- وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 85 عن أبي حفص عمر بن أحمد الجوزي بهذا الإسناد.
- وأخرجه الخرائطي في «مساوئ الأخلاق» 131 من طريق سعد بن عبد الحميد به.
- وقد تفرد يعلى بهذا الحديث، وهو ساقط، والمتن منكر جدا، فهو باطل بهذا اللفظ.
- وأخرج مالك في «الموطأ» 2/ 990 عن صفوان بن سليم أنه قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانا؟ فقال:
نعم. فقيل له: أيكون المؤمن بخيلا؟ فقال: نعم فقيل له: أيكون المؤمن كذابا؟ فقال: لا.
- قال ابن عبد البر: لا أحفظه مسندا من وجه ثابت، وهو حديث حسن مرسل.
(1) في «تفسير الطبري» «عير اليمن» وفي «تفسير الشوكاني» «عين التمر» .
(2) في المطبوع «ويستريح» . [.....]
(3) سقط من المطبوع.(3/97)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جعفر ثنا يَعْلَى بْنُ الْأَشْدَقِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَرَادٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمُؤْمِنُ يَزْنِي؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، قَالَ قُلْتُ: الْمُؤْمِنُ يَسْرِقُ؟ قَالَ: قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ، قُلْتُ: الْمُؤْمِنُ يَكْذِبُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ اللَّهُ إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ.
[سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 109]
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَمَّارٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوهُ وَأَبَاهُ يَاسِرًا وَأُمَّهُ سُمَيَّةَ وَصُهَيْبًا وَبِلَالًا وَخَبَّابًا وَسَالِمًا فَعَذَّبُوهُمْ، فَأَمَّا سُمَيَّةُ فَإِنَّهَا رُبِطَتْ بَيْنَ بعيرين وو جيء قُبُلُهَا بِحَرْبَةٍ فَقُتِلَتْ وَقُتِلَ زَوْجُهَا يَاسِرٌ وَهُمَا أَوَّلُ قَتِيلَيْنِ قُتِلَا في الإسلام [رضي الله عنهما] [1] ، وَأَمَّا عَمَّارٌ فَإِنَّهُ أَعْطَاهُمْ مَا أَرَادُوا بِلِسَانِهِ مُكْرَهًا.
«1273» قَالَ قَتَادَةُ: أَخْذَ بَنُو الْمُغِيرَةِ عَمَّارًا وَغَطَّوْهُ فِي بِئْرِ مَيْمُونٍ، وَقَالُوا لَهُ: اكْفُرْ بِمُحَمَّدٍ فَتَابَعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَقَلْبُهُ كَارِهٌ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ عَمَّارًا كَفَرَ فَقَالَ: «كَلَّا إِنَّ عمارا ملىء إِيمَانًا مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ، وَاخْتَلَطَ الْإِيمَانُ بِلَحْمِهِ وَدَمِهِ» فَأَتَى عَمَّارٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْكِي، فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا وَرَاءَكَ» ؟ قَالَ:
شَرٌّ يا رسول الله [إني] [2] نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، قَالَ: «كَيْفَ وَجَدْتَ قَلْبَكَ» قَالَ: مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَمْسَحُ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: إِنْ عَادُوا لَكَ فَعُدْ لَهُمْ بِمَا قُلْتَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ آمَنُوا فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ هَاجِرُوا فَإِنَّا لَا نَرَاكُمْ مِنَّا حَتَّى تُهَاجِرُوا إِلَيْنَا فَخَرَجُوا يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، فَأَدْرَكَتْهُمْ قُرَيْشٌ فِي الطريق [ففتنوهم] [3] [فَكَفَرُوا] [4] كَارِهِينَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي جَبْرٍ مَوْلَى عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ أَكْرَهَهُ سَيِّدُهُ عَلَى الْكُفْرِ فَكَفَرَ مُكْرَهًا، وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ، ثم أسلم [جَبْرٍ] [5] وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ وَهَاجَرَ جَبْرٌ مَعَ سَيِّدِهِ، وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً
__________
1273- أخرجه الطبري 1945 عن قتادة مرسلا ولم يذكر اللفظ المرفوع.
- وأخرجه الحاكم 2/ 357 وعبد الرزاق في «التفسير» 1509 والطبري 21946 من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه.
- وصححه الحاكم على شرطهما! ووافقه الذهبي! مع أن مداره على محمد بن عمار بن ياسر، وهو مقبول، ولم يرو له الشيخان، لكن أصل الخبر محفوظ.
- فقد أخرجه الطبري 21947 عن أبي مالك مرسلا.
- وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه الطبري 21944 وإسناده ضعيف لضعف عطية العوفي وأخرجه أيضا أبو نعيم في «الحلية» 1/ 140 عن مجاهد مرسلا.
- وللحديث شواهد وطرق يصح بها، راجع «الكشاف» 595 بتخريجي.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) سقط من المطبوع.
(4) تصحف في المطبوع «فكروا» .
(5) في المطبوع «مولى عامر بن الحضرمي» .(3/98)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
أَيْ: فَتَحَ صَدْرَهُ لِلْكُفْرِ [1] بِالْقَبُولِ وَاخْتَارَهُ، فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنْ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ، يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ، وَإِذَا قَالَ بِلِسَانِهِ غَيْرَ مُعْتَقِدٍ لَا يَكُونُ كُفْرًا وإن أبى أن يقوله [2] حَتَّى يُقْتَلَ كَانَ أَفْضَلَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى [3] أَنَّهُ لَا يقع.
ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا، آثروا، الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ، لَا يُرْشِدُهُمْ.
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ، (108) عَمَّا يُرَادُ بهم.
لا جَرَمَ، [أي حقا] [4] أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ، أي المغبونون.
[سورة النحل (16) : الآيات 110 الى 112]
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا، عُذِّبُوا وَمُنِعُوا مِنَ الْإِسْلَامِ فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا عَلَى الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها، مِنْ بَعْدِ تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَالْغَفْلَةِ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، نَزَلَتْ فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَخِي أبي جهل من الرضاعة، وأبي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو وَالْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن أبي [5] أُسَيْدٍ الثَّقَفِيِّ فَتَنَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فَأَعْطَوْهُمْ بَعْضَ مَا أَرَادُوا لِيَسْلَمُوا مِنْ شَرِّهِمْ ثُمَّ إِنَّهُمْ هَاجَرُوا بَعْدَ ذَلِكَ وَجَاهَدُوا.
«1274» وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ وَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فاستنزله الشَّيْطَانُ فَلَحِقَ بِالْكَفَّارِ فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فتح مكة بقتله فاستجاره عُثْمَانُ وَكَانَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَأَجَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إِنَّهُ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فُتِنُوا بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالتَّاءِ، وَرَدَّهُ إِلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَتَنُوا الْمُسْلِمِينَ.
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ، تُخَاصِمُ وَتَحْتَجُّ، عَنْ نَفْسِها، بِمَا أَسْلَفَتْ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ مُشْتَغِلًا بِهَا لَا تَتَفَرَّغُ إِلَى غَيْرِهَا، وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ. رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِكَعْبِ الْأَحْبَارِ: خَوِّفْنَا، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ وَافَيْتَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمِثْلِ عَمَلِ سَبْعِينَ نَبِيًّا لَأَتَتْ عليك تارات [6] وَأَنْتَ لَا تُهِمُّكَ إِلَّا نَفْسُكَ، وَإِنَّ لِجَهَنَّمَ زَفْرَةً لَا يَبْقَى ملك مقرب ولا نبي
__________
1274- أخرجه الطبري 21955 عن عكرمة والحسن مرسلا، وهو ضعيف بذكر نزول الآية فيه، وأما استشفاع عثمان له وإعلان إسلامه فصحيح، وسيأتي.
(1) في المطبوع «بالكفر» .
(2) في المطبوع «يقول» .
(3) تصحف في المطبوع «إلّا» .
(4) زيد في المطبوع.
(5) زيد لفظ «أبي» في المطبوع.
(6) في المطبوع «ساعات» . [.....](3/99)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
[مُرْسَلٌ] [1] مُنْتَخَبٌ إِلَّا وَقَعَ جَاثِيًا عَلَى رُكْبَتَيْهِ حَتَّى إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أَسْأَلُكَ إِلَّا نَفْسِي، وَإِنَّ تَصْدِيقَ ذلك الذي أنزله اللَّهُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها، وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: مَا تَزَالُ الْخُصُومَةُ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى تُخَاصِمَ الرُّوحُ الْجَسَدَ فَتَقُولُ الرُّوحُ يَا رَبِّ لَمْ يَكُنْ لِي يَدٌ أَبْطِشُ بِهَا وَلَا رجل أمشي بها ولا أعين أبصر بها، فنجني وعذبه، ويقول الجسد يا رب [حيث كنت معدوم الروح] [2] لم تبطش يدي ولم تمش رجلي ولم تبصر عيني، فجاء هذا كشاع النُّورِ، فَبِهِ نَطَقَ لِسَانِي وَأَبْصَرَتْ عيني وبطشت يدي ومشت رجلي، قال: فيضرب الله لهما مثلا [فقال وإنما مثلكما مثل] [3] أَعْمَى وَمُقْعَدٌ دَخَلَا حَائِطًا فِيهِ ثِمَارٌ فَالْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ الثَّمَرَ، والمقعد يرى ولا يَنَالُهُ، فَحَمْلَ الْأَعْمَى الْمُقْعَدَ فَأَصَابَا مِنَ الثَّمَرِ فَعَلَيْهِمَا الْعَذَابُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً، يَعْنِي: مَكَّةَ كَانَتْ آمِنَةً لَا يُهَاجُ أَهْلُهَا وَلَا يُغَارُ عَلَيْهَا، مُطْمَئِنَّةً، قَارَّةً بِأَهْلِهَا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الِانْتِقَالِ لِلِانْتِجَاعِ كَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ سَائِرُ الْعَرَبِ، يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ، يُحْمَلُ إِلَيْهَا مِنَ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ نَظِيرُهُ: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [الْقَصَصِ: 57] .
فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ، جَمْعُ النِّعْمَةِ، وَقِيلَ: جَمْعُ نَعْمَاءَ مِثْلِ بَأْسَاءَ وَأَبْؤُسٍ، فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ، ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِالْجُوعِ سَبْعَ سِنِينَ وَقَطَعَتِ الْعَرَبُ عَنْهُمُ الْمِيرَةَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جهدوا وأكلوا الْعِظَامَ الْمُحَرَّقَةَ، وَالْجِيَفَ وَالْكِلَابَ الْمَيِّتَةَ، وَالْعِهْنَ وَهُوَ الْوَبَرُ يُعَالَجُ بِالدَّمِ، حَتَّى كَانَ أَحَدُهُمْ يَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرَى شِبْهَ الدُّخَانِ [4] مِنَ الْجُوعِ، ثُمَّ إِنَّ رُؤَسَاءَ مَكَّةَ كَلَّمُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وقالوا: ما هذا؟ هبك عَادَيْتَ الرِّجَالَ فَمَا بَالُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَأَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ بِحَمْلِ الطَّعَامِ إِلَيْهِمْ وَهُمْ بَعْدُ مُشْرِكُونَ [5] ، وَذَكَرَ اللِّبَاسَ لِأَنَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْهُزَالِ وَالشُّحُوبِ وَتَغَيُّرِ ظَاهِرِهِمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ كَاللِّبَاسِ لَهُمْ، وَالْخَوْفِ، يَعْنِي: بُعُوثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَرَايَاهُ الَّتِي كَانَتْ تُطِيفُ بِهِمْ. بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 113 الى 117]
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117)
وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ.
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) .
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ
__________
(1) سقط من المخطوط.
(2) ما بين الحاصرتين في المطبوع وط «خلقتني كالخشب» .
(3) زيد في المطبوع وحده.
(4) في المطبوع «دخان» .
(5) هذا الخبر يأتي في سورة الدخان.(3/100)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ، أَيْ: لَا تَقُولُوا لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمْ [1] أَوْ لِأَجْلِ وَصْفِكُمُ الكذب أَنَّكُمْ تُحِلُّونَ وَتُحَرِّمُونَ لِأَجْلِ الْكَذِبِ لَا لِغَيْرِهِ، هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ، يَعْنِي الْبَحِيرَةَ وَالسَّائِبَةَ، لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ، فَتَقُولُونَ إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِهَذَا، إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ، لَا يَنْجُونَ مِنْ عَذَابِ الله.
مَتاعٌ قَلِيلٌ، [يَعْنِي: الَّذِي هُمْ فِيهِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ أَوْ لَهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ] [2] فِي الدُّنْيَا. وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، في الآخرة.
[سورة النحل (16) : الآيات 118 الى 123]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا مَا قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ، يَعْنِي في سورة الأنعام. و [هو] [3] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الْأَنْعَامِ: 146] الْآيَةَ وَما ظَلَمْناهُمْ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَحَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ بِبَغْيِهِمْ.
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا يعني: بالإصلاح الِاسْتِقَامَةُ عَلَى التَّوْبَةِ، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها، أَيْ: مِنْ بَعْدِ الْجَهَالَةِ، لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ الْأُمَّةُ مُعَلِّمُ الْخَيْرِ أَيْ: كَانَ مُعْلِّمًا لِلْخَيْرِ يَأْتَمُّ [4] به أهل [الخير في] الدُّنْيَا، وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ مِنَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ مَا يَجْتَمِعُ [5] فِي أُمَّةٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ:
كَانَ مُؤْمِنًا وحده والناس كلهم كفار، وقال قَتَادَةُ: لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينٍ إِلَّا يَتَوَلَّوْنَهُ وَيَرْضَوْنَهُ. قانِتاً لِلَّهِ، مطيعا [لله] [6] . وَقِيلَ: قَائِمًا بِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى، حَنِيفاً مُسْتَقِيمًا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: مُخْلِصًا. وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ، اخْتَارَهُ، وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَيْ: إِلَى دِينِ الْحَقِّ.
وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً، يَعْنِي الرِّسَالَةَ وَالْخُلَّةَ. وَقِيلَ: لِسَانَ الصِّدْقِ وَالثَّنَاءَ الْحَسَنَ، وَقَالَ مقاتل بن حيان: يعني الصلاة عليه فِي قَوْلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وآل إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: أَوْلَادًا أَبْرَارًا عَلَى الْكِبَرِ. وَقِيلَ: الْقَبُولُ الْعَامُّ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ. وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، مَعَ آبَائِهِ الصَّالِحِينَ فِي الْجَنَّةِ. وَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَجَازُهُ: وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّالِحِينَ.
__________
(1) زيد في المخطوط «الكذب» .
(2) زيد في المطبوع وط.
(3) سقط من المطبوع.
(4) تصحف في المطبوع «يأثم» .
(5) في المطبوع «اجتمع» .
(6) زيادة عن المخطوط.(3/101)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، حَاجًّا مُسْلِمًا، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مأمور بِشَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَا نُسِخَ فِي شَرِيعَتِهِ، وَمَا لَمْ يُنْسَخْ صار شرعا [له] [1] .
[سورة النحل (16) : الآيات 124 الى 128]
إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَيْ: خالفوا فِيهِ. قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ لَعْنَةً عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعْظِيمَ السَّبْتِ وَتَحْرِيمَهُ إِلَّا على الذين اختلفوا فيه، يعني: اليهود، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَغَ مِنْ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ سَبَتَ يَوْمَ السَّبْتِ. وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ أَعْظَمُ الْأَيَّامِ يَوْمُ الْأَحَدِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَدَأَ فِيهِ خَلْقَ الْأَشْيَاءِ فَاخْتَارُوا تَعْظِيمَ غَيْرِ مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَقَدِ فرض [اللَّهُ] [2] عَلَيْهِمْ تَعْظِيمَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ.
قال الكلبي: أمرهم موسى بِالْجُمُعَةِ فَقَالَ: تَفَرَّغُوا لِلَّهِ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا فَاعْبُدُوهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَا تَعْمَلُوا فِيهِ لِصَنْعَتِكُمْ [3] ، وَسِتَّةَ أَيَّامٍ لِصِنَاعَتِكُمْ، فَأَبَوْا وَقَالُوا: لَا نُرِيدُ إِلَّا الْيَوْمَ الَّذِي فَرَغَ اللَّهُ فِيهِ مِنَ الْخَلْقِ [يَوْمَ] [4] السَّبْتِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَلَيْهِمْ وَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِيهِ ثُمَّ جَاءَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقَالُوا: لَا نُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عِيدُهُمْ بَعْدَ عِيدِنَا يَعْنُونَ الْيَهُودَ، فَاتَّخَذُوا الْأَحَدَ فَأَعْطَى الله الجمعة لهذه الأمة فقبلوه وبورك لهم فيه [5] .
«1275» أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بن منبه قال: ثنا
__________
1275- صحيح. أحمد بن يوسف ثقة، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، عبد الرزاق هو ابن همام، معمر هو ابن راشد.
- وهو في «شرح السنة» 1040 بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 6624 و7036 ومسلم 855 ح 21 وأحمد 2/ 274 و312 والبيهقي 3/ 171 من طريق عبد الرزاق بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 238 و876 و6887 ومسلم 855 والنسائي 3/ 85 وأحمد 2/ 243 والبيهقي 3/ 170 من طريقين عن أبي الزناد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هُرْمُزَ أنه سمع أبا هريرة.
- أخرجه البخاري 896 و3486 وأحمد 2/ 274 و341 والحميدي 955 والبيهقي 3/ 188 من طريق ابن طاووس عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3) في المطبوع «لصنيعكم» وفي المخطوط «لصانعكم» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع وط «فيها» .(3/102)
أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَحْنُ الْآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ [1] فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ [فَهُمْ] [2] لَنَا فِيهِ تَبَعٌ فَالْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ» .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ. [قَالَ قَتَادَةُ: الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ هُمُ] [3] الْيَهُودُ اسْتَحَلَّهُ بَعْضُهُمْ وَحَرَّمَهُ بَعْضُهُمْ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ، بِالْقُرْآنِ، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، يَعْنِي مَوَاعِظَ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: الْمَوْعِظَةُ الْحَسَنَةُ هِيَ الدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ بِالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ. وقيل: هو قول اللين الرقيق من غير تغليظ وَلَا تَعْنِيفٍ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وَخَاصِمْهُمْ وَنَاظِرْهُمْ بِالْخُصُومَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَيْ أَعْرِضْ عَنْ أَذَاهُمْ وَلَا تُقَصِّرْ فِي تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالدُّعَاءِ إِلَى الْحَقِّ، نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ.
«1276» هَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا رَأَوْا مَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ بِقَتْلَاهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنْ تَبْقِيرِ الْبُطُونِ وَالْمُثْلَةِ السَّيِّئَةِ حَتَّى لَمَّ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَّا مُثِّلَ بِهِ غَيْرَ حَنْظَلَةَ بْنِ الرَّاهِبِ فَإِنَّ أَبَاهُ أَبَا عَامِرٍ الرَّاهِبَ كَانَ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ فَتَرَكُوا حَنْظَلَةَ لِذَلِكَ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ رَأَوْا ذَلِكَ: لَئِنْ أَظْهَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَنَزِيدَنَّ عَلَى صَنِيعِهِمْ وَلَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ بِأَحَدٍ، فَوَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَمِّهِ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَقَدْ جَدَعُوا أنفه وأذنيه [4] وَقَطَعُوا مَذَاكِيرَهُ وَبَقَرُوا بَطْنَهُ، وَأَخَذَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ قِطْعَةً مِنْ كبده فمضغتها ثم استرطتها [5] لِتَأْكُلَهَا فَلَمْ تَلْبَثْ فِي بَطْنِهَا حَتَّى رَمَتْ بِهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: «أما إنها لو أكلتها لم تدخل النار أبدا إن حَمْزَةُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَنْ يُدْخِلَ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ النَّارَ» ، فَلَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى حمزد نظر إِلَى شَيْءٍ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى شَيْءٍ لَمْ يَنْظُرْ إِلَى شَيْءٍ كَانَ أَوْجَعَ لِقَلْبِهِ مِنْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ فَإِنَّكَ مَا علمتك إلا فعالا لِلْخَيْرَاتِ وَصُولًا لِلرَّحِمِ، وَلَوْلَا حُزْنٌ مِنْ بَعْدِكَ عَلَيْكَ لَسَرَّنِي أَنْ
__________
1276- ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 573 بدون إسناد.
- وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» 3/ 10 والبيهقي في «الدلائل» 3/ 287 والواحدي 570 و572 من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف جدا فيه يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ متهم بسرقة الحديث كما في «التقريب» . وقيس بن الربيع تغير لما كبر، وأيضا هذا إسناد منقطع بين الحكم ومقسم كما في «تهذيب التهذيب» 2/ 373.
- وأخرجه الحاكم 3/ 197 والبزار 1795 والواحدي 571 بنحوه من حديث أبي هريرة، وفيه صالح بن بشير المري، وهو ضعيف، ولذا سكت عليه الحاكم، وقال الذهبي: صالح واه. وكذا أعله الهيثمي في «المجمع» 10104 بضعف صالح المري.
والحديث بهذا اللفظ ضعيف. وفي بعض ألفاظه نكارة ومن ذلك ذكر نزول جبريل وذكر نزول الآية و «كفر عن يمينه» و «لو أكلتها ما دخلت النار» ولبعضه الآخر شواهد فالخبر له أصل بغير هذا السياق، راجع «الكشاف» 599 و «أحكام القرآن» 1312 و1313 بتخريجي، وقد استوفيت طرقه وشواهده في هذا الأخير، والله الموفق.
(1) زيد في المطبوع «يعني يوم الجمعة» .
(2) في المطبوع «والناس» .
(3) زيد في المطبوع وط.
(4) في المطبوع «أذنه» .
(5) في المطبوع «استرطبتها» .(3/103)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
أَدَعَكَ حَتَّى تُحْشَرَ مِنْ أَفْوَاجٍ شَتَّى أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ أَظْفَرَنِي اللَّهُ بِهِمْ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ مَكَانَكَ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا الْآيَةَ.
وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، أَيْ: وَلَئِنْ عَفَوْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلْعَافِينَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ نَصْبِرُ» وَأَمْسَكَ عَمَّا أَرَادَ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَاكُ: كَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ بَرَاءَةٌ حِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُ وَمُنِعَ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِالْقِتَالِ، فَلَمَّا أَعَزَّ [اللَّهُ] [1] الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ، وَأُمِرُوا بِالْجِهَادِ ونسخت هَذِهِ الْآيَةُ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ [2] وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ سِيرِينَ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ نَزَلَتْ فِي مَنْ ظُلِمَ بِظُلَامَةٍ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنَالَ مِنْ ظَالِمِهِ أَكْثَرَ مِمَّا نَالَ الظَّالِمُ مِنْهُ أُمِرَ بِالْجَزَاءِ وَالْعَفْوِ وَمُنِعَ مِنَ الِاعْتِدَاءِ، ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ، أَيْ: بِمَعُونَةِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْكَ، وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، أَيْ: فِيمَا فَعَلُوا مِنَ الْأَفَاعِيلِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ هَاهُنَا وَفِي النَّمْلِ [70] «ضِيقٍ» بِكَسْرِ الضَّادِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الضَّادِ، قَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: هُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ رِطْلٍ وَرَطْلٍ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: الضَّيْقُ بِالْفَتْحِ الْغَمُّ، وَبِالْكَسْرِ الشِّدَّةُ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الضِّيقُ بِالْكَسْرِ فِي قِلَّةِ الْمَعَاشِ وَفِي الْمَسَاكِنِ، فَأَمَّا مَا كَانَ فِي الْقَلْبِ وَالصَّدْرِ فَإِنَّهُ بِالْفَتْحِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الضَّيْقُ تَخْفِيفُ ضَيِّقٍ مِثْلُ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ، وَلَيْنٍ وَلَيِّنٍ، فَعَلَى هَذَا هُوَ صِفَةٌ كَأَنَّهُ قَالَ:
ولا تك [3] فِي أَمْرٍ ضَيِّقٍ مِنْ مَكْرِهِمْ.
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا، الْمَنَاهِيَ، وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ بِالْعَوْنِ والنصرة [والله تعالى أعلم] [4] .
تفسير سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وإحدى عشرة آية
[سورة الإسراء (17) : آيَةً 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا، سبحان الله تنزه [5] اللَّهِ تَعَالَى مِنْ كُلِّ سُوءٍ ووصفه [6] بالبراءة من
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «السدي» .
(3) في المطبوع «تكن» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في- ط «تنزيه» . [.....]
(6) في المطبوع «ووصف» .(3/104)
كُلِّ نَقْصٍ عَلَى طَرِيقِ المبالغة، وتكون سُبْحَانَ بِمَعْنَى التَّعَجُّبِ، أَسْرَى بِعَبْدِهِ، أَيْ: سَيَّرَهُ، وَكَذَلِكَ سَرَى بِهِ، وَالْعَبْدُ هُوَ: مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، قِيلَ: كَانَ الْإِسْرَاءُ مِنْ مَسْجِدِ مَكَّةَ.
«1277» رَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْحِجْرِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ إِذْ أَتَانِي جِبْرِيلُ بِالْبُرَاقِ» ، فَذَكَرَ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: عُرِجَ بِهِ مِنْ دَارِ أم هانىء بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَيْ:
مِنَ الْحَرَمِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَتْ لَيْلَةُ الْإِسْرَاءِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ. وَيُقَالُ: كَانَ فِي رَجَبٍ. وَقِيلَ: كَانَ فِي [شَهْرِ] [1] رَمَضَانَ. إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، يَعْنِي: بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَسُمِّيَ أَقْصَى لِأَنَّهُ أَبْعَدُ الْمَسَاجِدِ الَّتِي تزار. وقيل: لبعده عن الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ، بِالْأَنْهَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
سَمَّاهُ مُبَارَكًا لِأَنَّهُ مَقَرُّ الْأَنْبِيَاءِ وَمَهْبِطُ الْمَلَائِكَةِ وَالْوَحْيِ [2] وَمِنْهُ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا، مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِنَا، وَقَدْ رَأَى هُنَاكَ الْأَنْبِيَاءَ وَالْآيَاتِ الْكُبْرَى، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، ذَكَرَ السميع [3] لينبه على أنه [هو] [4] الْمُجِيبُ لِدُعَائِهِ، وَذَكَرَ الْبَصِيرَ [5] لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ الْحَافِظُ لَهُ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ.
«1278» وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ مَا فُقِدَ جَسَدُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ اللَّهَ أَسْرَى بِرُوحِهِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أنه أسرى بجسده [وروحه] [6] فِي الْيَقَظَةِ وَتَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ عَلَى ذَلِكَ.
«1279» أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفربري ثنا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل البخاري ثنا هدبة بن خالد ثنا همام بن يحيى ثنا قَتَادَةُ حَ [7] قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ لي خليفة العصفري: ثنا يزيد بن زريع ثنا سعيد وهشام. قالا: ثنا
__________
1277- هو الحديث الآتي برقم: 1279.
1278- باطل. ذكره ابن هشام في «السيرة» 2/ 31 عن ابن إسحق قال: حدثني بعض آل أبي بكر عن عائشة، فذكره، وإسناده ضعيف لجهالة من حديث ابن إسحاق، بل هو باطل لتفرد ابن إسحاق به، وهو يروي عن متروكين، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 2/ 646: قال ابن إسحاق في «المغازي» : حدثني بعض آل بكر عن عائشة بهذا اهـ.
- ومما يدل على عدم صحته عن عائشة هو أنها لم تدرك ذلك، فهو مكذوب عليها.
1279- ساقه المصنف بأسانيد من طريق الصحيحين أو أحدهما، فهذه أسانيد صحاح.
- أخرجه البخاري 3207 و3393 و3430 و3887 وابن حبان 48 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 387 من طرق عَنْ هُدْبَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صعصعة.
- وأخرجه أحمد 4/ 208 و209 وأبو عوانة 1/ 120 وابن مندة 717 من طرق عن همام بالإسناد السابق.
- وأخرجه البخاري 3207 ومسلم 164 والترمذي 3346 وابن أبي شيبة 14/ 305 وأحمد 4/ 210 وأبو عوانة 1/ 116 و120 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 373- 377 وابن مندة في «الإيمان» 716 من طرق عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عن قتادة عن أنس.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيد في المطبوع «وفيه الصخرة» .
(3) في المخطوط «السمع» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المخطوط «البصر» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) تكتب «ح» عند الانتقال من إسناد إلى إسناد آخر، فهي من التحويل، ورمز عن ذلك ب «ح» .(3/105)
قتادة ثنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بن صعصعة عن نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ به، ح قال البخاري:
ثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شهاب عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ وكان أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: حَ، وَأَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَا أبو الحسين عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ أَنَا أَبُو أَحْمَدَ مُحَمَّدُ بْنُ عيسى الجلودي ثنا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ بن سفيان ثنا أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجٍ ثنا شيبان بن فروخ ثنا حماد بن سلمة ثنا ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:- دَخْلَ حَدِيثُ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ-.
قَالَ أَبُو ذَرٍّ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فُرِّجَ عَنِّي سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَّرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جاء بطست من ذهب ممتلىء حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ» .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ صَعْصَعَةَ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ وَرُبَّمَا قَالَ فِي الْحِجْرِ بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ» ، وذكر بين رجلين «فأتيت بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَشُقَّ مِنَ النَّحْرِ إِلَى مَرَاقِّ الْبَطْنِ، وَاسْتُخْرِجَ قَلْبِي فَغُسِلَ ثم ملىء، وقيل حُشِيَ، ثُمَّ أُعِيدَ» .
وَقَالَ سَعِيدٌ وَهِشَامٌ: «ثُمَّ غُسِلَ الْبَطْنُ بِمَاءِ زمزم ثم ملىء إيمانا وحكمة ثم أتيت بالبراق وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل [يقع] [1] حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرَفِهِ، فَرَكِبْتُهُ فَانْطَلَقْتُ مَعَ جِبْرِيلَ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، قَالَ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي تَرْبِطُ بِهَا الْأَنْبِيَاءُ، قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ:
وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المجيء جاء، ففتح [له] [2] الباب فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ، فَقَالَ لِي: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ» .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ: «عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، فَقَالَ مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هذا أبوك آدَمُ وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ وإذا نظر عن قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، ثُمَّ صَعِدَ [بي] [3] حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ:
مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المجيء جاء، ففتح [له] [4] فلما خلصت
__________
- وأخرجه البخاري 3207 ومسلم 164 ح 265 والنسائي 1/ 217- 223 وأبو عوانة 1/ 116 وابن مندة 715 والبيهقي 715 من طرق عن هِشَامُ الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أنس.
- وأخرجه مسلم 162 وابن أبي شيبة 14/ 302 وأبو عوانة 1/ 125 و126 من طريق حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ البناني عن أنس.
- وأخرجه البخاري 349 و1636 و3342 ومسلم 163 من طريق يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يحدث.
(1) سقط من المطبوع.
(2) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.(3/106)
إذا بيحيى بن زكريا وَعِيسَى [ابْنِ مَرْيَمَ] [1] عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ، قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى، فَسَلِّمْ [عَلَيْهِمَا فَسَلَّمْتُ] [2] فردا عليّ السلام، ثُمَّ قَالَا: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي إلى السماء الثالثة فاستفتح، فقيل: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ:
مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا يُوسُفُ وَإِذَا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ:
مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ.
ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ فَلَمَّا خلصت فإذا [أنا] [3] بإدريس [4] ، قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ» .
ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، [ففتح] [5] فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ، قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَفُتِحَ [له] [6] فلما خلصت فإذا بموسى، قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ، فَلَمَّا جَاوَزْتُ بَكَى قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلَامًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ من أمته أكثر مما يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي، ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ جبريل، قال: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قال: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: هذا أبوك فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلَامَ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ، فَرُفِعَ لِي الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فَسَأَلَتُ جِبْرِيلَ فَقَالَ: هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ» .
وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ: «فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذُهِبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبِقُهَا مِثْلُ قلال هجر، وإذا أوراقها مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ، قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غشيها تَغَيَّرَتْ فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، فِي أَصْلِهَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: أَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنَّةِ وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ، وَأَوْحَى إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ، قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا،
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) العبارة من المطبوع «إدريس» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.(3/107)
قَالَ: إِنْ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ.
قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى قال الله تعالى: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَقُلْتُ: سألت ربي حتى استحييت ولكن أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ» .
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ [1] الْأَنْصَارِيَّ، كَانَا يَقُولَانِ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثُمَّ عُرِجَ بِي حتى ظهرت لمستوىّ أسمع فِيهِ صَرِيفُ الْأَقْلَامِ، قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً» .
«1280» وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُتِيَ بِالْبُرَاقِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مُلْجَمًا مُسْرَجًا، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ فقال له جِبْرِيلُ: أَبِمُحْمِدٍ تَفْعَلُ هَذَا فَمَا رَكِبَكَ أَحَدٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ، فَارْفَضَّ عَرَقًا» .
«1281» وَقَالَ ابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَالَ جِبْرِيلُ بِأُصْبُعِهِ فَخَرَقَ بِهَا الحجر وشدّ به [2] البراق» .
«1282» أَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [3] الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حدثني محمود أنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عن أبي
__________
1280- صحيح. أخرجه الترمذي 3131 وأحمد 3/ 164 وابن حبان 46 والبيهقي في «دلائل النبوة» 2/ 362- 363 والآجري في «الشريعة» ص 488- 489 من طرق عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ به وإسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
1281- حسن. أخرجه الترمذي 3131 والحاكم 2/ 360 وابن حبان 47 من طريقين عن أبي تميلة بن واضح عن الزبير بن جنادة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ به.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن غريب.
- وإسناده حسن لأجل الزبير بن جنادة، قال عنه الحافظ: مقبول، ووثقه ابن حبان والحاكم وقال الذهبي في «الميزان» :
أخطأ من قال فيه جهالة، لكن قول الألباني في «صحيح الترمذي» 2504: إسناده صحيح، فيه نظر.
1282- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم، محمود بن غيلان، عبد الرزاق بن همام، معمر بن راشد، الزهري محمد بن مسلم.
- رواه المصنف من طريق عبد الرزاق، وهو في «مصنفه» 9719 عن معمر بهذا الإسناد.
- ومن طريق عبد الرزاق أخرجه البخاري 3437 ومسلم 168 والترمذي 3130 وابن حبان 51 وأبو عوانة 1/ 129 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 387 وابن مندة 728.
- وأخرجه البخاري 3394 من طريق هشام بن يوسف عن معمر به.
- وأخرجه البخاري 4709 و5603 والنسائي 8/ 312 من طريق يونس عن الزهري به.
(1) تصحف في المطبوع «دجانة» .
(2) في المطبوع «بها» .
(3) زيادة عن المخطوط. [.....](3/108)
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَى قَالَ فَنَعَتَهُ فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ حَسِبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ، رَجِلُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ من رجال شنوءة، قال: ولقيت عِيسَى، فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ يَعْنِي الْحَمَّامَ، وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ ولده به، قال: وأتيت بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا لَبَنٌ وَالْآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَقِيلَ لي: هديت الفطرة وأصبت الْفِطْرَةَ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الخمر لغوت أمتك» .
«1283» أَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [1] الْمُلَيْحِيُّ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عَمْرٌو عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: 60] قال: هي شجرة الزقوم.
«1284» أَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [2] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ: أَوْسَطُهُمْ هُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ.
فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةُ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يرى قلبه وتنام عيناه وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ حَتَّى احْتَمَلُوهُ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ، فَشَقَّ جِبْرِيلُ ما بين
__________
1283- إسناده صحيح على شرط البخاري.
- الحميدي عبد الله بن الزبير سفيان بن عيينة، عمرو بن دينار، عكرمة أبو عبد الله مولى ابن عباس.
- وهو في «شرح السنة» 3649 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 3888 عن الحميد بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 4716 و6613 والترمذي 3134 والنسائي في «التفسير» 312 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 201 و202 وابن أبي عاصم في «السنة» 462 وابن حبان 56 والطبراني 1641 والحاكم 2/ 362 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 365 من طرق عن سفيان به.
1284- في بعض ألفاظه غرابة، رجاله رجال البخاري ومسلم، لكن شريك وهو ابن عبد الله بن أبي نمر المدني فيه ضعف، قال ابن معين: لا بأس به، وقال النسائي: ليس بالقوي، ووثقه أبو داود ووهاه ابن حزم لأجل حديث الإسراء اهـ «الميزان» 2/ 269 وقال عنه الحافظ في «التقريب» : صدوق يخطىء.
- سليمان هو ابن بلال.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 7517 عن عبد العزيز بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 162 ح 262 وأبو عوانة 1/ 125 و135 من طريق سليمان بن بلال عن شريك به.
- وأخرجه الذهبي في «الميزان» 2/ 269- 270 من طريق البخاري به.
- قال الحافظ في «الفتح» 13/ 485: ومجموع ما خالفت فيه رواية شريك غيره من المشهورين عشرة أشياء بل تزيد على ذلك. راجع «الفتح» فقد ذكر الحافظ تلك الألفاظ الغريبة فيه.
- وقال الذهبي بعد أن أسند الحديث وذكر فيه « ... ودنا من الجبار رب العزة ... » وهذا من غرائب الصحيح.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.(3/109)
نَحْرِهِ إِلَى لَبَتِّهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ.
وَسَاقَ حَدِيثَ المعراج بقصته. فقال: وإذا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهْرَيْنِ يَطَّرِدَانِ، قَالَ: هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ [يطردان] [1] عنصر هما واحد ثم مضى به إلى السماء فَإِذَا هُوَ بِنَهْرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ فَضَرْبَ بيده فإذا هو مسك أذفر، فقال: «مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ» ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي خَبَّأَ لَكَ رَبُّكَ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ: «ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ» .
وَقَالَ: قَالَ مُوسَى: رَبِّ لَمْ أَظُنَّ أَنْ تَرْفَعَ عَلَيَّ أَحَدًا، ثُمَّ عَلَا بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَيْهِ فِيمَا أَوْحَى إِلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَقَالَ: فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الْخَمْسِ.
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاللَّهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى مِنْ ذلك فَضَعُفُوا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ، فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ قُلُوبًا وَأَجْسَادًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا، فارجع فليخفف عنك ربك، وكل ذَلِكَ يَلْتَفِتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ وَلَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ فَرَفَعَهُ عِنْدَ الْخَامِسَةِ، فَقَالَ: «يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتَيْ ضُعَفَاءُ أَجْسَادُهُمْ وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم فخفف عنهم» ، فقال الجبار [جل جلاله] [2] : يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ كَمَا فَرَضْتُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ، فَقَالَ مُوسَى: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ وَاللَّهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ» ، قَالَ: فَاهْبِطْ بِسْمِ اللَّهِ فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ مُخْتَصَرًا عَنْ هَارُونَ بْنِ سَعِيدٍ الْإِيلِيِّ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ.
قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ مَا وَجَدْنَا لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ وَلِمُسْلِمٍ فِي كِتَابَيْهِمَا شَيْئًا لَا يَحْتَمِلُ مَخْرَجًا إِلَّا هَذَا، وَأَحَالَ الْأَمْرَ فِيهِ [3] إِلَى شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمِعْرَاجَ كَانَ بَعْدَ الْوَحْيِ بِنَحْوٍ مِنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وَفِيهِ أَيْضًا: أَنَّ الْجَبَّارَ دَنَا فَتَدَلَّى. وَذَكَرَتْ عَائِشَةُ أَنَّ الَّذِي دَنَا فَتَدَلَّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ عِنْدِي لَا يَصِحُّ لِأَنَّ هَذَا كَانَ رُؤْيَا فِي النَّوْمِ أَرَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ الْوَحْيِ بِدَلِيلِ آخَرِ الْحَدِيثِ، قَالَ: فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ عُرِجَ بِهِ فِي الْيَقَظَةِ بَعْدَ الْوَحْيِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ تَحْقِيقًا لِرُؤْيَاهُ مِنْ قَبْلُ كَمَا أَنَّهُ رَأَى فَتْحَ مَكَّةَ فِي الْمَنَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ مِنَ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ كَانَ تَحْقِيقُهُ سَنَةَ ثَمَانٍ وَنَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الْفَتْحِ: 27] .
«1285» وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ وَكَانَ بِذِي طَوَى قَالَ: «يَا جِبْرِيلُ إِنَّ قَوْمِي لَا يُصَدِّقُونِي» ، قَالَ: يُصَدِّقُكَ أَبُو بَكْرٍ وهو الصديق.
__________
1285- ضعيف. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 3/ 127 عن يزيد بن هارون عن أبي معشر قال: أخبرنا أبو وهب مولى أبي
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «أحاله الآفة فيهما» .(3/110)
«1286» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَمَّا كانت ليلة أسري بي أصبحت بِمَكَّةَ فَضِقْتُ بِأَمْرِي وَعَرَفْتُ أَنَّ الناس يكذبوني» ، فَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَعَدَ مُعْتَزِلًا حَزِينًا فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلٍ فَجَلَسَ إِلَيْهِ فَقَالَ له كالمستهزىء: هَلِ اسْتَفَدْتَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِنِّي أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ» قَالَ: إِلَى أَيْنَ؟
قَالَ: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ» ، قَالَ: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا، قَالَ: «نَعَمْ» ، فَلَمْ يَرَ أَبُو جَهْلٍ أَنَّهُ يُنْكِرُ ذلك مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ، قَالَ: أتحدث قومك بما حدثتني به؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، قَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لؤي هلموا، قال: فانقضت إليه المجالس فجاؤوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، قَالَ: فَحَدِّثْ قومك بما حدثتني، قال: «نعم إنه أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ» ، قَالُوا إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: «إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ» ، قَالُوا: ثُمَّ أَصْبَحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟
قال: نعم، قال: [فكان القوم] [1] فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مُتَعَجِّبًا [2] وَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ، وَسَعَى رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ: أَوَقَدْ قَالَ ذلك؟ قالوا: نَعَمْ، قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ، قَالُوا:
وَتُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي لَيْلَةٍ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ بِمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ، قَالَ: وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ أَتَى الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى، فقال: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا المسجد الأقصى؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، قَالَ: «فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ وَأَنْعَتُ فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ، قَالَ: فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عَقِيلٍ فَنَعَتُّ الْمَسْجِدَ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ» ، فقال القوم: أمّا النعت فو الله [لَقَدْ] [3] أَصَابَ، ثُمَّ قَالُوا: يَا محمد أخبرنا عن عيرنا فهي أَهَمُّ إِلَيْنَا فَهَلْ لَقِيتَ مِنْهَا شَيْئًا؟ قَالَ: «نَعَمْ مَرَرْتُ عَلَى عِيرِ بَنِي فُلَانٍ، وَهِيَ بِالرَّوْحَاءِ وَقَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ وَهُمْ فِي طَلَبِهِ وَفِي رِحَالِهِمْ قَدَحٌ مِنْ مَاءٍ فَعَطِشْتُ فَأَخَذْتُهُ فَشَرِبْتُهُ ثم وضعته كما كان فاسألوهم [4] هَلْ وَجَدُوا الْمَاءَ فِي الْقَدَحِ حِينَ رَجَعُوا إِلَيْهِ» ، قَالُوا: هَذِهِ آيَةٌ، قَالَ: «وَمَرَرْتُ بَعِيرِ بَنِي فُلَانٍ وَفُلَانٍ وَفُلَانٍ رَاكِبَانِ قَعُودًا لَهُمَا بِذِي طَوَى فَنَفَرَ بَعِيرُهُمَا مِنِّي فَرَمَى بِفُلَانٍ فَانْكَسَرَتْ يَدُهُ فسلوهما عن ذلك» ، فقالوا: وَهَذِهِ آيَةٌ، قَالُوا: فَأَخْبِرْنَا عَنْ عيرنا نحن متى تجيء؟ قَالَ: «مَرَرْتُ بِهَا بِالتَّنْعِيمِ» ، قَالُوا: فَمَا عِدَّتُهَا وَأَحْمَالُهَا وَهَيْئَتُهَا وَمَنْ
__________
هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال ليلة أسري به: ... فذكره.
- وهذا مرسل والمرسل من قسم الضعيف، وأبو معشر واسمه نجيح، وهو ضعيف.
- وأخرجه ابن سعد 1/ 166- 167 من حديث عائشة وأم هانىء وابن عباس دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا ... فذكره مطوّلا.
- وإسناده ساقط مداره على الواقدي محمد بن عمر، وهو متروك.
1286- أخرجه أحمد 1/ 309 والنسائي في «الكبرى» 11285 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 363- 364 من حديث ابن عباس دون عائشة رضي الله عنها، وصحح إسناده السيوطي في «الدر» 4/ 284- 285.
- وقال الهيثمي في «المجمع» 1/ 64- 65: رواه أحمد والبزار والطبراني، ورجال أحمد رجال الصحيح. وهو كما قال لكن لفظ «وارتد ناس» غريب جدا، لم يثبت أن أحدا ارتد بسبب خبر الإسراء، ولعله مدرج من كلام أحد الرواة، وهو باطل بكل حال.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيد في المطبوع «الكذب» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «فسلوا» . [.....](3/111)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
فيها، فقال: «نَعَمْ هَيْئَتُهَا كَذَا وَكَذَا، وَفِيهَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ مَخِيطَتَانِ، تَطْلُعُ عَلَيْكُمْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» ، قَالُوا: وَهَذِهِ آية أخرى، ثُمَّ خَرَجُوا يَشْتَدُّونَ نَحْوَ الثَّنِيَّةِ وَهُمْ يَقُولُونَ وَاللَّهِ لَقَدْ قَصَّ مُحَمَّدٌ شَيْئًا وَبَيَّنَهُ حَتَّى أَتَوْا كَدَى، فَجَلَسُوا عَلَيْهِ فَجَعَلُوا يَنْتَظِرُونَ مَتَى تَطْلُعُ الشَّمْسُ فَيُكَذِّبُونَهُ إِذْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ هَذِهِ الشَّمْسُ قَدْ طَلَعَتْ، وَقَالَ آخَرُ: وَهَذِهِ وَاللَّهِ الْإِبِلُ قَدْ طَلَعَتْ يَقْدُمُهَا بَعِيرٌ أَوْرَقُ فِيهَا فُلَانٌ وَفُلَانٌ كَمَا قَالَ لَهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا، وَقالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) [الصافات: 15] .
«1287» أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حدثني زهير بن حرب ثنا حجين بْنُ الْمُثَنَّى أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، قال: فَكُرِبْتُ كَرْبًا مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، قَالَ: فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِذَا مُوسَى قَائِمٌ يُصَلِّي فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَإِذَا عِيسَى قَائِمٌ يُصَلِّي أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ، وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَائِمٌ يُصَلِّي أَشْبَهُ النَّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ، يَعْنِي نَفْسَهُ، فَجَاءَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ فَلَمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ لِي قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ صَاحِبُ النَّارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي بالسلام» .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 2 الى 4]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا، بِأَنْ لَا، تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا، رَبًّا وَكَفِيلًا، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو «لَا يَتَّخِذُوا» بِالْيَاءِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عَنْهُمْ وَالْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، يَعْنِي قُلْنَا لَهُمْ لَا تَتَّخِذُوا.
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا، قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذَا نِدَاءٌ يَعْنِي يَا ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا، مَعَ نُوحٍ، فِي السَّفِينَةِ فَأَنْجَيْنَاهُمْ مِنَ الطُّوفَانِ، إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً، كَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا أَوْ شَرِبَ شَرَابًا أَوْ لَبِسَ ثَوْبًا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَسُمِّيَ عَبْدًا شَكُورًا، أَيْ: كَثِيرَ الشُّكْرِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ الآيات.
__________
1287- إسناده صحيح على شرط مسلم.
- رواه المصنف من طريق مسلم، وهو في «صحيحه» 172 عن زهير بن حرب بهذا الإسناد.
- وأخرجه النسائي في «التفسير» 500 وابن سعد في «الطبقات» 1/ 167- 168 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 358- 359 من طرق عن حجين بن المثنى به.
- وأخرج صدره فقط البخاري 3886 و4710 ومسلم 170 والترمذي 3132 والنسائي في «التفسير» 302 وأحمد 3/ 377 وابن حبان 55 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 359 من حديث جابر.(3/112)
«1288» رَوَى سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ عَنْ ربعي بن خراش [1] عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا اعْتَدَوْا وَقَتَلُوا الْأَنْبِيَاءَ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ فَارِسٍ بُخْتُنَصَّرَ، وَكَانَ اللَّهُ مَلَّكَهُ سَبْعَمِائَةِ سَنَةٍ فَسَارَ إِلَيْهِمْ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَحَاصَرَهَا وفتحها، حتى قتل عَلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ سَبْعِينَ أَلْفًا ثُمَّ سبى أهلها وأولاد الأنبياء وَسَلْبَ حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا سَبْعِينَ أَلْفًا وَمِائَةَ أَلْفِ عَجَلَةٍ مِنْ حُلِيٍّ» ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ عَظِيمًا؟ قَالَ: «أَجَلْ بَنَاهُ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَيَاقُوتَ وَزَبَرْجَدَ، وَكَانَ عُمُدُهُ ذَهَبًا أَعْطَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ وَسَخَّرَ لَهُ الشَّيَاطِينَ يَأْتُونَهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، فَسَارَ بِهَا بُخْتُنَصَّرُ حَتَّى نَزَلَ بَابِلَ فَأَقَامَ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي يَدِهِ مِائَةَ سَنَةٍ يَسْتَعْبِدُهُمُ الْمَجُوسُ وَأَبْنَاءُ الْمَجُوسِ، فِيهِمُ الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ رَحِمَهُمْ فَأَوْحَى إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسٍ يُقَالُ لَهُ كُورَشَ وَكَانَ مُؤْمِنًا أَنْ يَسِيرَ إِلَيْهِمْ لِيَسْتَنْقِذَ بَقَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسَارَ كُورَشُ لبني إسرائيل وحلي بيت المقدس حتى رده إليه، فأقام بنو إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَتَاهُمْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَسَبَى أَهْلَهَا وَأَحْرَقَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَقَالَ لَهُمْ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنْ عُدْتُمْ فِي الْمَعَاصِي عُدْنَا عليكم بِالسَّبْيِ، فَعَادُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكَ رُومِيَّةَ يُقَالُ لَهُ فَاقِسُ بْنُ أَسْتَيَانُوسَ، فَغَزَاهُمْ فِي الْبَرِّ والبحر فسابهم وَسَبَى حُلِيَّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَحْرَقَ بَيْتَ الْمُقَدَّسِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا مِنْ صِفَةِ حُلِيِّ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيَرُدُّهُ الْمَهْدِيُّ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ هو أَلْفٌ وَسَبْعُمِائَةُ سَفِينَةٍ يَرْمِي بِهَا على حَتَّى تُنْقَلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبِهَا يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ» .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَالذُّنُوبُ وَكَانَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مُتَجَاوِزًا عَنْهُمْ مُحْسِنًا إِلَيْهِمْ، وَكَانَ أَوَّلُ مَا نَزَلَ بِهِمْ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِمْ كَمَا أَخْبَرَ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنَّ مَلِكًا مِنْهُمْ كَانَ يُدْعَى صَدِيقَةُ وَكَانَ اللَّهُ تَعَالَى إِذَا مَلَّكَ الْمَلِكَ عَلَيْهِمْ بَعَثَ مَعَهُ نَبِيًّا يُسَدِّدُهُ وَيُرْشِدُهُ [في جميع أموره] [2] [وكان] [3] لَا يُنْزِلُ عَلَيْهِمُ الْكُتُبَ إِنَّمَا يُؤَمَرُونَ بِاتِّبَاعِ التَّوْرَاةِ وَالْأَحْكَامِ الَّتِي فِيهَا، فَلَمَّا مَلَكَ ذَلِكَ الْمَلِكُ بَعَثَ اللَّهُ مَعَهُ شِعْيَاءَ بْنَ أَصْفِيَا، وَذَلِكَ قَبْلَ مَبْعَثِ زَكَرِيَّا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وشعياء هُوَ الَّذِي بَشَّرَ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عليهما السلام، فقال: أبشري أو رستم الْآنَ يَأْتِيكِ رَاكِبُ الْحِمَارِ وَمِنْ بَعْدِهِ صَاحِبُ الْبَعِيرِ، فَمَلِكَ ذَلِكَ الْمَلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ زمانا طويلا فَلَمَّا انْقَضَى مُلْكُهُ عَظُمَتْ فِيهِمُ الْأَحْدَاثُ وَشَعْيَاءُ مَعَهُ بَعَثَ اللَّهُ عليهم سنحاريب [4] مَلِكَ بَابِلَ، مَعَهُ سِتُّمِائَةُ أَلْفِ رَايَةٍ فَأَقْبَلَ سَائِرًا حَتَّى نَزَلَ حَوْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَالْمَلِكُ مَرِيضٌ وفي سَاقِهِ قُرْحَةٌ فَجَاءَ النَّبِيُّ شَعْيَاءُ وَقَالَ لَهُ: يَا مَلِكَ بَنِي إسرائيل إن سنحاريب [5] مَلِكَ بَابِلَ قَدْ نَزَلَ بِكَ، هُوَ وَجُنُودُهُ بِسِتِّمِائَةِ أَلْفِ رَايَةٍ، وقد هابهم الناس وفرقوا
__________
1288- لا أصل له في المرفوع. أخرجه الطبري 22057 من رواية رواد بن الجراح عن سفيان الثوري عن منصور به ورواد بن الجراح هذا متهم، والحمل عليه في هذا الحديث، قال الحافظ ابن كثير في «التفسير» 3/ 35 هو حديث موضوع لا محالة، لا يستريب في ذلك من عنده أدنى معرفة بالحديث، وقد صرح شيخنا أبو الحجاج المزي بأنه موضوع مكذوب.
- قلت: فالمرفوع باطل والصحيح أنه من الإسرائيليات.
(1) تصحف في المطبوع «خراش» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
4 في المطبوع وط «سنجاريب» والمثبت عن المخطوط والطبري.
5 في المطبوع وط «سنجاريب» والمثبت عن المخطوط والطبري.(3/113)
فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَلْ أَتَاكَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ فِيمَا حَدَثَ فَتُخْبِرُنَا بِهِ كَيْفَ يَفْعَلُ اللَّهُ بنا وبسنحاريب وجنوده، فقال: لم يأتني [فيهم] [1] وَحْيٌ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَاءَ النَّبِيِّ أَنِ ائْتِ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمُرْهُ [2] أَنْ يُوصِيَ وَصِيَّتَهُ وَيَسْتَخْلِفَ- عَلَى مُلْكِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَأَتَى شِعْيَاءُ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ صَدِيقَةَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ رَبَّكَ قَدْ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ آمُرَكَ أَنْ تُوصِيَ وَصِيَّتَكَ وَتَسْتَخْلِفَ مَنْ شِئْتَ عَلَى مُلْكِكَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، فَلَمَّا قَالَ [ذَلِكَ] [3] شِعْيَاءُ لِصَدِيقَةَ أَقْبَلَ عَلَى الْقِبْلَةِ فَصَلَّى وَدَعَا وبكى، فقال وهو يبكي ويتضرع إِلَى اللَّهِ بِقَلْبٍ مُخْلِصٍ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْأَرْبَابِ وَإِلَهَ الْآلِهَةِ يَا قدوس المقتدس يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ يَا رؤوف الَّذِي لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ اذْكُرْنِي بِعَمَلِي وَفِعْلِي وَحُسْنِ قَضَائِي عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَلِكَ كُلُّهُ كَانَ مِنْكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، سِرِّي وَعَلَانِيَتِي لَكَ وَأَنْتَ الرَّحْمَنُ، فَاسْتَجَابَ لَهُ وَكَانَ عَبْدًا صَالِحًا فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلى شعياء [أن تخبر] [4] صِدِّيقَةَ أَنَّ رَبَّهُ قَدِ اسْتَجَابَ لَهُ وَرَحِمَهُ وَأَخَّرَ لَهُ أَجْلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَأَنْجَاهُ مِنْ عدوه سنحاريب، فَأَتَاهُ شِعْيَاءُ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَلَمَّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ ذَهَبَ عَنْهُ الْوَجَعُ وَانْقَطَعَ عَنْهُ الْحُزْنُ، وَخَرَّ ساجدا لله، وَقَالَ: يَا إِلَهِي وَإِلَهَ آبَائِي لَكَ سَجَدْتُ وَسَبَّحْتُ وَكَبَّرْتُ وَعَظَّمْتُ أَنْتَ الَّذِي تُعْطِي [5] الْمُلْكَ لِمَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تشاء بيدك الخير عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَأَنْتَ تَرْحَمُ وَتَسْتَجِيبُ دَعْوَةَ الْمُضْطَرِّينَ، وَأَنْتَ الَّذِي أَجَبْتَ دَعْوَتِي وَرَحِمْتَ تَضَرُّعِي، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَاءَ أَنْ قُلْ لِلْمَلِكِ صَدِيقَةَ فَيَأْمُرُ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ فَيَأْتِيهِ بماء التين فيجعله في قرحته فيشفى فيصبح وَقَدْ بَرِأَ فَفَعَلَ وَشُفِيَ، وَقَالَ الْمَلِكُ لِشِعْيَاءَ: سَلْ رَبَّكَ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا عِلْمًا بِمَا هُوَ صَانِعٌ بِعَدُوِّنَا هَذَا قَالَ اللَّهُ لِشِعْيَاءَ قُلْ لَهُ: إِنِّي قَدْ كَفَيْتُكَ عَدْوَّكَ وَأَنْجَيْتُكَ مِنْهُمْ وَإِنَّهُمْ سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب وَخَمْسَةَ نَفَرٍ مِنْ كُتَّابِهِ أَحَدُهُمْ بختنصر فَلَمَّا أَصْبَحُوا جَاءَ صَارِخٌ فَصَرَخَ عَلَى بَابِ الْمَدِينَةِ، يَا مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ كفاك عدوك فاخرج فإن سنحاريب وَمَنْ مَعَهُ قَدْ هَلَكُوا فَلَمَّا خرج الملك التمس سنحاريب في القتلى فَلَمْ يُوجَدْ فِي الْمَوْتَى فَبَعَثَ الْمَلِكُ فِي طَلَبِهِ فَأَدْرَكَهُ الطَّلَبُ فِي مَغَارَةٍ وَخَمْسَةَ نَفَرٍ مِنْ كُتَّابِهِ أَحَدُهُمْ بُخْتُنَصَّرُ فَجَعَلُوهُمْ فِي الْجَوَامِعِ ثُمَّ أَتَوْا بِهِمْ إِلَى مَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا رَآهُمْ خرّ ساجدا لله مِنْ حِينِ طَلَعَتِ الشَّمْسُ إِلَى [وقت] [6] العصر، ثم قال: يا سنحاريب كَيْفَ تَرَى فِعْلَ رَبِّنَا بِكُمْ أَلَمْ يَقْتُلْكُمْ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ وَنَحْنُ وأنتم غافلون فقال سنحاريب لَهُ قَدْ أَتَانِي خَبَرُ رَبِّكُمْ وَنَصْرِهِ إِيَّاكُمْ وَرَحْمَتِهِ الَّتِي يَرْحَمُكُمْ بِهَا قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنْ بِلَادِي فَلَمْ أُطِعْ مُرْشِدًا وَلَمْ يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي، ولو سَمِعْتُ أَوْ عَقِلْتُ مَا غَزَوْتُكُمْ فَقَالَ صَدِيقَةُ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمين [7] الذي كفاناكم كم بِمَا شَاءَ وَإِنَّ رَبَّنَا لَمْ يُبْقِكَ وَمَنْ مَعَكَ لِكَرَامَتِكَ عَلَى رَبِّكَ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا أَبْقَاكَ وَمَنْ مَعَكَ لِتَزْدَادُوا شِقْوَةً فِي الدُّنْيَا وَعَذَابًا فِي الْآخِرَةِ وَلِتُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَكُمْ بِمَا رَأَيْتُمْ مِنْ فِعْلِ رَبِّنَا بِكُمْ فَتُنْذِرُوا مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَتَلَكُمْ، وَلَدَمُكَ وَلَدَمُ مَنْ مَعَكَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ دَمِ قُرَادٍ، لَوْ قُتِلْتَ ثُمَّ إِنْ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَمَرَ أَمِيرَ حَرَسِهِ فَقَذَفَ فِي رقابهم الجوامع فطافت بِهِمْ سَبْعِينَ يَوْمًا حَوْلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِيلْيَا وَكَانَ يَرْزُقُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ خُبْزَتَيْنِ مِنْ شَعِيرٍ لِكُلِّ رجل منهم، فقال سنحاريب لِمَلِكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ: الْقَتْلُ خَيْرٌ مِمَّا تَفْعَلُ بِنَا فَأَمَرَ بِهِمُ الملك إلى السجن والقتل فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى شِعْيَاءَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ قُلْ لِمَلِكِ بَنِي إسرائيل
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «قمر» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المخطوط «تؤتي» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المخطوط «العزة» . [.....](3/114)
يرسل سنحاريب وَمَنْ مَعَهُ لِيُنْذِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ وَلْيُكْرِمْهُمْ وَلْيَحْمِلْهُمْ حَتَّى يَبْلُغُوا بِلَادَهُمْ، فَبَلَّغَ شِعْيَاءُ الْمَلِكَ ذَلِكَ فَفَعَلَ الْمَلِكُ صَدِيقَةُ مَا أُمِرَ بِهِ، فخرج سنحاريب وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى قَدِمُوا بَابِلَ فَلَمَّا قَدِمُوا جَمْعَ النَّاسَ فَأَخْبَرَهُمْ كَيْفَ فَعَلَ اللَّهُ بِجُنُودِهِ، فَقَالَ لَهُ كُهَّانُهُ وَسَحَرَتُهُ: يَا مَلِكَ بَابِلَ قَدْ كُنَّا نَقُصُّ عَلَيْكَ خَبَرَ رَبِّهِمْ وَخَبَرَ نَبِيِّهِمْ وَوَحْيَ اللَّهِ إِلَى نَبِيِّهِمْ فَلَمْ تُطِعْنَا [ولم تسمع قولنا] [1] وَهِيَ أُمَّةٌ لَا يَسْتَطِيعُهَا أَحَدٌ مع ربهم وكان أمر سنحاريب تَخْوِيفًا لَهُمْ ثُمَّ كَفَاهُمُ اللَّهُ تذكرة وعبرة، ثم لبث سنحاريب بَعْدَ ذَلِكَ سَبْعَ سِنِينَ ثُمَّ مَاتَ وَاسْتُخْلِفَ بُخْتُنَصَّرُ ابْنُ ابْنِهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ جَدُّهُ يَعْمَلُ عَمَلَهُ، فَلَبِثَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً ثُمَّ قَبَضَ اللَّهُ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ صَدِيقَةَ، فَمَرَجَ أَمْرُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَتَنَافَسُوا الْمُلْكَ حَتَّى قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَنَبِيُّهُمْ شِعْيَاءُ معهم ولا يقبلون منه [أمرا ونهيا] [2] ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ لشعياء قم في قومك حتى أُوحِي عَلَى لِسَانِكَ، فَلَمَّا قَامَ النبي شعياء أنطق الله على لِسَانَهُ بِالْوَحْيِ، فَقَالَ: يَا سَمَاءُ استمعي وَيَا أَرْضُ أَنْصِتِي فَإِنَّ اللَّهَ يُرِيدُ أَنْ يَقُصَّ شَأْنَ بَنِي إسرائيل الذين ربّاهم بنعمته واصطفاهم لِنَفْسِهِ وَخَصَّهُمْ بِكَرَامَتِهِ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى عِبَادِهِ، وَهُمْ كَالْغَنَمِ الضَّائِعَةِ الَّتِي لَا رَاعِيَ لَهَا فَآوَى شَارِدَتَهَا وَجَمَعَ ضَالَّتَهَا وَجَبَرَ كَسْرَهَا، وَدَاوَى مَرِيضَهَا وَأَسْمَنَ مَهْزُولَهَا وَحَفِظَ سَمِينَهَا، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بَطَرَتْ فَتَنَاطَحَتْ كِبَاشُهَا فَقَتَلَ بَعْضُهَا بَعْضًا حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا عَظْمٌ صَحِيحٌ يُجْبَرُ إِلَيْهِ آخَرُ كَسِيرٌ، فَوَيْلٌ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْخَاطِئَةِ الَّذِينَ [3] لَا يدرون أين [4] جاءهم الحين أَنَّ الْبَعِيرَ مِمَّا يَذْكُرُ وَطَنَهُ فينتابه وأن الحمار لما يَذْكُرُ الْأَرْيَ الَّذِي شَبِعَ عَلَيْهِ فَيُرَاجِعُهُ وَأَنَّ الثَّوْرَ مِمَّا يَذْكُرُ الْمَرْجَ الَّذِي سَمِنَ فِيهِ فَيَنْتَابُهُ وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَا يَذْكُرُونَ مِنْ حَيْثُ جَاءَهُمُ الْخَيْرُ وَهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ وَالْعُقُولِ، لَيْسُوا بِبَقَرٍ وَلَا حَمِيرٍ وَإِنِّي ضَارِبٌ لَهُمْ مثلا فليسمعوه وقل لَهُمْ كَيْفَ تَرَوْنَ فِي أَرْضٍ كانت خواء [5] زمانا [خربة] [6] أمواتا لَا عُمْرَانَ فِيهَا، وَكَانَ لَهَا رَبٌّ حَكِيمٌ قَوِيٌّ فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا بِالْعِمَارَةِ وَكَرِهَ أَنْ تُخَرَّبَ أَرْضُهُ وَهُوَ قَوِيٌّ، أَوْ أَنْ يُقَالَ ضَيَّعَ وَهُوَ حَكِيمٌ فَأَحَاطَ عَلَيْهَا جِدَارًا وَشَيَّدَ فِيهَا قُصُورًا وَأَنْبَطَ نَهْرًا وَصَنَّفَ [7] فِيهَا غِرَاسًا مِنَ الزَّيْتُونِ وَالرُّمَّانِ وَالنَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَأَلْوَانِ الثِّمَارِ كُلِّهَا وَوَلَّى ذَلِكَ وَاسْتَحْفَظَهُ قيما ذَا رَأْيٍ وَهِمَّةٍ حَفِيظًا قَوِيًّا أَمِينًا، فَلَمَّا أَطْلَعَتْ جَاءَ طَلْعُهَا خُرُوبًا قَالُوا بِئْسَتِ الْأَرْضُ هَذِهِ فنرى أن يهدم جدرانها وَقَصْرُهَا [8] وَيُدْفَنَ نَهْرُهَا وَيُقْبَضَ قِيِّمُهَا ويحرق غراسها حَتَّى تَصِيرَ كَمَا كَانَتْ أَوَّلَ مَرَّةٍ خَرَابًا مَوَاتًا لَا عُمْرَانَ فِيهَا، قَالَ اللَّهُ قُلْ لَهُمْ فَإِنَّ الْجِدَارَ دِينِي وَإِنَّ الْقَصْرَ شَرِيعَتِي وَإِنَّ النَّهْرَ كِتَابِي وَإِنَّ الْقَيِّمَ نَبِيِّي وَإِنَّ الْغِرَاسَ هُمْ وَإِنَّ الْخُرُوبَ الَّذِي أَطْلَعَ الْغِرَاسَ أَعْمَالُهُمُ الْخَبِيثَةُ، وَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ عَلَيْهِمْ قَضَاءَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَإِنَّهُ مَثَلٌ ضَرَبْتُهُ لَهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَيَّ بِذَبْحِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَلَيْسَ يَنَالُنِي اللَّحْمُ وَلَا آكُلُهُ وَيَدَعُونَ أَنْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيَّ بِالتَّقْوَى وَالْكَفِّ عَنْ ذَبْحِ الْأَنْفُسِ الَّتِي حَرَّمْتُهَا فَأَيْدِيهِمْ مخضوبة منها وثيابهم مزملة بدمائها ويشيدون لِي الْبُيُوتَ مَسَاجِدَ وَيُطَهِّرُونَ أَجْوَافَهَا وَيُنَجِّسُونَ قُلُوبَهُمْ وَأَجْسَادَهُمْ وَيُدَنِّسُونَهَا وَيُزَوِّقُونَ إِلَيَّ الْمَسَاجِدَ، وَيُزَيِّنُونَهَا وَيُخَرِّبُونَ عُقُولَهُمْ وأخلاقهم ويفسدونها فأي حجة لِي إِلَى تَشْيِيدِ الْبُيُوتِ وَلَسْتُ أَسْكُنُهَا؟
وَأَيُّ حَاجَةٍ لِي إِلَى تَزْوِيقِ الْمَسَاجِدِ وَلَسْتُ أَدْخُلُهَا إِنَّمَا أَمَرْتُ بِرَفْعِهَا لِأُذْكَرَ وَأُسَبَّحَ فِيهَا، يَقُولُونَ: صُمْنَا فَلَمْ يُرْفَعْ صِيَامُنَا وصلينا فلم يرفع تنور صلاتنا وتصدقنا فلم ترك صدقاتنا، وَدَعَوْنَا بِمِثْلِ حَنِينِ الْحَمَامِ وَبَكَيْنَا
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «التي» .
(4) في المطبوع «أني» والمثبت عن الطبري 22059.
(5) في المطبوع «خرابا» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) عند الطبري «صف» .
(8) وقع في العبارة اضطراب ففي المخطوط «تهدم جدارنها وقصورها» وفي المطبوع «يهدم جدرها وقصرها» والمثبت عن الطبري 22059.(3/115)
بِمِثْلِ عُوَاءِ الذِّئَابِ فِي كُلِّ ذنب لَا يُسْتَجَابُ لَنَا، قَالَ اللَّهُ فَاسْأَلْهُمْ مَا الَّذِي يَمْنَعُنِي أَنْ أَسْتَجِيبَ لَهُمْ أَلَسْتُ أَسْمَعَ السَّامِعِينَ وَأَبْصَرَ النَّاظِرِينَ وَأَقْرَبَ الْمُجِيبِينَ وَأَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ؟ فَكَيْفَ أَرْفَعُ صِيَامَهُمْ وَهُمْ يلبسونه بقولة الزُّورِ وَيَتَقَوَّوْنَ عَلَيْهِ بِطُعْمَةِ الْحَرَامِ؟ أَمْ كَيْفَ أُنَوِّرُ صَلَاتَهُمْ وَقُلُوبُهُمْ صَاغِيَةٌ إِلَى مَنْ يُحَارِبُنِي وَيُحَادُّنِي وَيَنْتَهِكُ مَحَارِمِي؟ أَمْ كَيْفَ تَزَكَّى عِنْدِي صَدَقَاتُهُمْ [وَهُمْ] [1] يَتَصَدَّقُونَ بِأَمْوَالِ غَيْرِهِمْ إِنَّمَا آجُرُ عَلَيْهَا أَهْلَهَا الْمَغْصُوبِينَ؟ أَمْ كَيْفَ أَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُمْ وإنما هو قولهم [2] بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَالْفِعْلُ مِنْ ذَلِكَ بَعِيدٌ إِنَّمَا أَسْتَجِيبُ لِلدَّاعِي اللَّيِّنِ وَإِنَّمَا أسمع قول المستضعف [3] الْمِسْكِينِ، وَإِنَّ مِنْ عَلَامَةِ رِضَايَ رِضَا الْمَسَاكِينِ، يَقُولُونَ لَمَّا سَمِعُوا كَلَامِي وَبَلَغَتْهُمْ رِسَالَتِي إِنَّهَا أَقَاوِيلُ مَنْقُولَةٌ وَأَحَادِيثُ مُتَوَارَثَةٌ وَتَأْلِيفٌ مِمَّا يُؤَلِّفُ السَّحَرَةُ وَالْكَهَنَةُ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ لو شاؤوا أَنْ يَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ فَعَلُوا ولو شاؤوا أَنْ يَطَّلِعُوا عَلَى عِلْمِ الْغَيْبِ مما يُوحِي إِلَيْهِمُ الشَّيَاطِينُ اطَّلَعُوا وَإِنِّي قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض قضاء أثبته وختمته عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُ دُونَهُ أَجَلًا مُؤَجَّلًا لَا بُدَّ أَنَّهُ وَاقِعٌ، فَإِنْ صَدَقُوا فِيمَا يَنْتَحِلُونَ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ فَلْيُخْبِرُوكَ مَتَى أُنَفِّذُهُ أَوْ فِي أَيِّ زَمَانٍ يَكُونُ وَإِنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يأتوا بما يشاؤون، فَلْيَأْتُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الْقُدْرَةِ الَّتِي بِهَا أَمْضَيْتُ فَإِنِّي مُظْهِرُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وَإِنْ كَانُوا يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يؤلفوا ما يشاؤون فليؤلفوا مِثْلَ الْحِكْمَةِ الَّتِي بِهَا أُدَبِّرُ أَمْرَ ذَلِكَ الْقَضَاءِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ، وَإِنِّي قَدْ قَضَيْتُ يَوْمَ خلقت السموات وَالْأَرْضَ أَنْ أَجْعَلَ النُّبُوَّةَ فِي الْأُجَرَاءِ، وَأَنْ أَجْعَلَ الْمُلْكَ فِي الرِّعَاءِ، وَالْعِزَّ فِي الْأَذِلَّاءِ، وَالْقُوَّةَ فِي الضُّعَفَاءِ، وَالْغِنَى فِي الْفُقَرَاءِ، وَالْعِلْمَ فِي الْجَهَالَةِ، وَالْحِكْمَةَ فِي الْأُمِّيِّينَ فَسَلْهُمْ مَتَى هَذَا وَمَنِ القائم بهذا، وَمَنْ أَعْوَانُ هَذَا الْأَمْرِ وَأَنْصَارُهُ إن كانوا يعلمون، وإني بَاعِثٌ لِذَلِكَ نَبِيًّا أُمِّيًّا أَمِينًا ليس أعمى من عميان ولا ضالا من ضالين لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا مُتَزَيِّنٌ بِالْفُحْشِ وَلَا قَوَّالٌ لِلْخَنَا أُسَدِّدُهُ بكل جَمِيلٍ وَأَهَبُّ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، أَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ وَالْبِرَّ شِعَارَهُ، وَالتَّقْوَى ضَمِيرَهُ وَالْحِكْمَةَ مَعْقُولَهُ، وَالصِّدْقَ وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَفْوَ وَالْمَعْرُوفَ خُلُقَهُ وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ، وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ والهدى إِمَامَهُ وَالْإِسْلَامَ مِلَّتَهُ [4] وَأَحْمَدَ اسْمَهُ، أَهْدِي بِهِ بَعْدَ الضَّلَالَةِ وَأُعَلِّمُ بِهِ بَعْدَ الْجَهَالَةِ وَأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الْخَمَالَةِ، وَأُشْهِرُ بِهِ بَعْدَ النَّكِرَةِ وَأُكْثِرُ بِهِ بَعْدَ الْقِلَّةِ وَأُغْنِي بِهِ بَعْدَ الْعَيْلَةِ، وَأَجْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَأُؤَلِّفُ بِهِ بين قلوب مختلفة، وأهواء مشتتة وَأُمَمٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَأَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ تَوْحِيدًا لِي وإيمانا [لي] [5] وإخلاصا لي يصلون [لي] [6] قِيَامًا وَقُعُودًا وَرُكَّعًا وَسُجُودًا، وَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِي صُفُوفًا وَزُحُوفًا، وَيَخْرُجُونَ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِي أُلْهِمُهُمُ التَّكْبِيرَ وَالتَّوْحِيدَ وَالتَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ والتهليل والمدحة والتمجيد [لي] [7] في مسيرهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم [8] وَمَثْوَاهُمْ، يُكَبِّرُونَ وَيُهَلِّلُونَ وَيُقَدِّسُونَ عَلَى رؤوس الْأَشْرَافِ وَيُطَهِّرُونَ لِي الْوُجُوهَ وَالْأَطْرَافَ ويعقدون الثياب على الأنصاف،
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «قول» .
(3) في المطبوع «المستعفف» والمثبت عن المخطوط والطبري.
(4) زيد في المطبوع «والحمد دينه» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط. [.....]
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) تصحف في المطبوع «ومعاقبهم» .(3/116)
قربانهم دماهم وَأَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ رُهْبَانٌ بِاللَّيْلِ ليوث بالنهار، وذلك فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ وَأَنَا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، فَلَمَّا فَرَغَ شِعْيَاءُ مِنْ مَقَالَتِهِ عَدَوْا عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ فَهَرَبَ مِنْهُمْ، فَلَقِيَتْهُ شَجَرَةٌ فَانْفَلَقَتْ لَهُ فَدَخَلَ فِيهَا فَأَدْرَكَهُ الشَّيْطَانُ فَأَخَذَ بِهُدْبَةٍ مِنْ ثَوْبِهِ فَأَرَاهُمْ إِيَّاهَا فَوَضَعُوا الْمِنْشَارَ فِي وَسَطِهَا فَنَشَرُوهَا حَتَّى قَطَعُوهَا وَقَطَعُوهُ في وسطها، واستحلف اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ نَاشِيَةُ بْنُ أَمُوصَ، وَبَعَثَ لَهُمْ أَرْمِيَاءَ بْنَ حَلْقِيَا نَبِيًّا وَكَانَ مِنْ سِبْطِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّهُ الْخَضِرُ وَاسْمُهُ أَرْمِيَاءُ سُمِّيَ الْخَضِرَ لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَقَامَ عَنْهَا وَهِيَ تَهْتَزُّ خَضْرَاءَ، فَبَعَثَ اللَّهُ أَرْمِيَاءَ إِلَى ذَلِكَ الْمَلِكِ يسدده [1] وَيُرْشِدَهُ ثُمَّ عَظُمَتِ الْأَحْدَاثُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرَكِبُوا الْمَعَاصِيَ وَاسْتَحَلُّوا الْمَحَارِمَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى أَرْمِيَاءَ أَنِ ائْتِ قَوْمَكَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِمْ مَا آمُرُكَ بِهِ وَذَكِّرْهُمْ نِعْمَتِي وَعَرِّفْهُمْ بِأَحْدَاثِهِمْ، فَقَالَ أَرْمِيَاءُ: يَا رَبِّ إِنِّي ضَعِيفٌ إِنْ لَمْ تُقَوِّنِي عَاجِزٌ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْنِي، مَخْذُولٌ إِنْ لَمْ تَنْصُرْنِي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أو لم تَعْلَمْ أَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا تَصْدُرُ عَنْ مَشِيئَتِي، وَأَنَّ الْقُلُوبَ وَالْأَلْسِنَةَ بِيَدِي أُقَلِّبُهَا كَيْفَ شِئْتُ، إِنِّي مَعَكَ وَلَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ شَيْءٌ مَعِي، فَقَامَ أَرْمِيَاءُ فِيهِمْ وَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُ فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْوَقْتِ خُطْبَةً بليغة بَيَّنَ لَهُمْ فِيهَا ثَوَابَ الطَّاعَةِ وَعِقَابَ الْمَعْصِيَةِ، وَقَالَ فِي آخِرِهَا [أقول] [2] عَنِ اللَّهِ تَعَالَى: وَإِنِّي حَلَفْتُ بِعِزَّتِي لَأُقَيِّضَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً يَتَحَيَّرُ فِيهَا الْحَلِيمُ وَلَأُسَلِّطَنَّ عَلَيْهِمْ جَبَّارًا قَاسِيًا أُلْبِسُهُ الْهَيْبَةَ، وَأَنْزَعُ مِنْ صَدْرِهِ الرَّحْمَةَ يَتْبَعُهُ عَدَدٌ مِثْلُ سَوَادِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ، ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِرْمِيَاءَ:
إِنِّي مَهْلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِيَافِثَ، وَيَافِثُ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتَنَصَّرَ فَخَرَجَ فِي سِتِّمِائَةِ أَلْفِ رَايَةً، وَدَخْلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ بِجُنُودِهِ وَوَطِئَ الشَّامَ، وَقَتَلَ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى أَفْنَاهُمْ وَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَأَمَرَ جُنُودَهُ أَنْ يَمْلَأَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ تُرْسَهُ تُرَابًا ثم يقذفوه فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى مَلَأُوهُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا مَنْ فِي بُلْدَانِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ كُلَّهُمْ، فَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ كُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَاخْتَارَ مِنْهُمْ سَبْعِينَ أَلْفَ صَبِيٍّ فَلَمَّا خَرَجَتْ غَنَائِمُ جُنْدِهِ، وَأَرَادَ أَنْ يُقَسِّمَهَا فِيهِمْ قَالَتْ لَهُ الْمُلُوكُ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ لَكَ غَنَائِمُنَا كُلُّهَا وَاقْسِمْ بَيْنَنَا هَؤُلَاءِ الصِّبْيَانَ الَّذِينَ اخْتَرْتَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَسَّمَهُمْ بَيْنَ الملوك الذي كَانُوا مَعَهُ فَأَصَابَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ غِلْمَانَ، وَفَرَّقَ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَثُلُثًا أَقَرَّ بِالشَّامِ، وَثُلُثًا سَبَى وَثُلُثَا قَتَلَ وَذَهَبَ بِنَاشِئَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَبِالصِّبْيَانِ السَّبْعِينَ الْأَلْفَ حَتَّى أَقْدَمَهُمْ بَابِلَ فَكَانَتْ هَذِهِ الواقعة الْأُولَى الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِظُلْمِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء: 5] يَعْنِي: بُخْتُنَصَّرَ وَأَصْحَابَهُ، ثُمَّ إِنَّ بُخْتُنَصَّرَ أَقَامَ فِي سُلْطَانِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ رَأَى رُؤْيَا أعجبته [وكان] [3] إذا رَأَى شَيْئًا أَصَابَهُ فَأَنْسَاهُ اللَّهُ الَّذِي رَأَى فَدَعَا دَانْيَالَ وَحَنَانْيَا وَعَزَازْيَا وَمِيشَائِيلَ، وَكَانُوا مِنْ ذَرَارِي الأنبياء وسألهم عنه فجاؤوه فقالوا: أَخْبِرْنَا بِهَا نُخْبِرْكَ بِتَأْوِيلِهَا، قَالَ: ما أذكرها ولئن لم تخروني بها وبتأويلها لأنزعنّ [رؤوسكم عن] [4] أَكْتَافَكُمْ فَخَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِ فَدَعَوُا الله وتضرعوا إليه فأعلمهم الله بالذي رأى وسألهم عنه فجاؤوه وَقَالُوا: رَأَيْتَ تِمْثَالًا قَدَمَاهُ وَسَاقَاهُ مِنْ فَخَّارٍ وَرُكْبَتَاهُ وَفَخِذَاهُ مِنْ نُحَاسٍ، وَبَطْنَهُ مِنْ فِضَّةٍ وَصَدْرَهُ مِنْ ذَهَبٍ وَرَأَسَهُ وَعُنُقَهُ مِنْ حَدِيدٍ، قَالَ: صَدَقْتُمْ، قَالُوا: فَبَيْنَمَا أَنْتَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَقَدْ أَعْجَبَكَ [5] أرسل الله تعالى
__________
(1) في المطبوع «ليسدده» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع وط «إذ» وما بين الحاصرتين زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «أعجبتك» .(3/117)
صَخْرَةً مِنَ السَّمَاءِ فَدَقَّتْهُ فَهِيَ الَّتِي أَنْسَتْكَهَا، قَالَ: صَدَقْتُمْ، قَالَ: فَمَا تَأْوِيلُهَا؟ قَالُوا: تَأْوِيلُهَا أَنَّكَ رَأَيْتَ [1] مُلْكَ الْمُلُوكِ، فَبَعْضُهُمْ كَانَ أَلْيَنَ مُلْكًا وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَحْسَنَ ملكا وبعضهم كان أشبه مُلْكًا، الْفَخَّارُ أَضْعَفُهُ، ثُمَّ فَوْقَهُ النُّحَاسُ أَشَدُّ مِنْهُ، ثُمَّ فَوْقَ النُّحَاسِ الْفِضَّةُ أَحْسَنُ مِنْ ذَلِكَ وَأَفْضَلُ، وَالذَّهَبُ أَحْسَنُ مِنَ الْفِضَّةِ وَأَفْضَلُ، ثُمَّ الْحَدِيدُ مُلْكُكَ فَهُوَ أَشَدُّ وَأَعَزُّ مِمَّا كَانَ قَبْلَهُ، وَالصَّخْرَةُ الَّتِي رَأَيْتَ أَرْسَلَ اللَّهُ من السماء فدقته [هو] [2] نَبِيٌّ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ فيدق الملوك [3] أَجْمَعَ وَيَصِيرُ الْأَمْرُ إِلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ بَابِلَ قَالُوا لَبُخْتُنَصَّرَ: أَرَأَيْتَ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كُنَّا سَأَلْنَاكَ أَنْ تُعْطِينَاهُمْ فَفَعَلْتَ، فَإِنَّا قَدْ أَنْكَرْنَا نِسَاءَنَا مُنْذُ كَانُوا مَعَنَا، لَقَدْ رَأَيْنَا نِسَاءَنَا انْصَرَفَتْ عَنَّا وُجُوهُهُنَّ إِلَيْهِمْ فَأَخْرِجْهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا أَوِ اقْتُلْهُمْ، قَالَ: شَأْنَكُمْ بِهِمْ، فَمَنْ أَحَبِّ مِنْكُمْ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ فَلْيَفْعَلْ ذلك، فَلَمَّا قَرَّبُوهُمْ لِلْقَتْلِ بَكَوْا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَقَالُوا: يَا رَبُّ أَصَابَنَا الْبَلَاءُ بِذُنُوبِ غَيْرِنَا فَوَعَدَ اللَّهُ أَنْ يُجِيبَهُمْ، فَقُتِلُوا إِلَّا مَنِ اسْتَبْقَى بُخْتُنَصَّرُ مِنْهُمْ دَانْيَالُ وَحَنَانْيَا وَعَزَازْيَا وَمِيشَائِيلُ، ثُمَّ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ هَلَاكَ بُخْتُنَصَّرَ انْبَعَثَ وتيقظ فَقَالَ لِمَنْ فِي يَدِهِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرَأَيْتُمْ هَذَا الْبَيْتَ الَّذِي خَرَّبْتُهُ وَالنَّاسَ الَّذِينَ [قَتَلْتُ من هم] [4] ؟ وَمَا هَذَا الْبَيْتُ؟
قَالُوا: هَذَا بَيْتُ اللَّهِ وَهَؤُلَاءِ أَهْلُهُ كَانُوا مِنْ ذَرَارِي الْأَنْبِيَاءِ فَظَلَمُوا وَتَعَدُّوا فَسُلِّطْتَ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَكَانَ رَبُّهُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَرَبُّ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ يُكْرِمُهُمْ وَيُعِزُّهُمْ، فَلَمَّا فَعَلُوا مَا فَعَلُوا أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ غَيْرَهُمْ، فَاسْتَكْبَرَ وَظَنَّ أَنَّهُ بِجَبَرُوتِهِ فَعَلَ ذَلِكَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، قَالَ: فَأَخْبِرُونِي كَيْفَ لِي أَنْ أَطَّلِعَ إِلَى السَّمَاءِ الْعُلْيَا فَأَقْتُلَ مَنْ فِيهَا وَأَتَّخِذَهَا مُلْكًا لِي فإني قد فرغت من [ملوك] [5] الْأَرْضِ، قَالُوا: مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنَ الْخَلَائِقِ، قَالَ: لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَأَقْتُلَنَّكُمْ عَنْ آخِرِكُمْ، فَبَكَوْا وَتَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِقُدْرَتِهِ بَعُوضَةً فَدَخَلَتْ مَنْخَرَهُ حَتَّى عَضَّتْ بِأُمِّ دِمَاغِهِ، فَمَا كَانَ يَقَرُّ وَلَا يَسْكُنُ حَتَّى يُوجَأَ لَهُ رَأْسُهُ عَلَى أُمِّ دِمَاغِهِ، فَلَمَّا مَاتَ شَقُّوا رَأْسَهُ فَوَجَدُوا الْبَعُوضَةَ عَاضَّةً عَلَى أُمِّ دِمَاغِهِ لِيُرِيَ اللَّهُ الْعِبَادَ قدرته وينجي اللَّهُ مَنْ بَقِيَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي يَدَيْهِ، فَرَدُّوهُمْ إِلَى الشَّامِ فَبَنَوْا فِيهِ وَكَثُرُوا حَتَّى كَانُوا عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ.
وَيَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَا أُولَئِكَ الَّذِينَ قُتِلُوا فَلَحِقُوا بِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا الشَّامَ دَخَلُوهَا وَلَيْسَ مَعَهُمْ عَهْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَانَتِ التَّوْرَاةُ قد أحرقت، وكان عزيز مِنَ السَّبَايَا الَّذِينَ كَانُوا بِبَابِلَ فَرَجَعَ إِلَى الشَّامِ يَبْكِي عَلَيْهَا ليلا ونهارا وقد خرج من الناس [واعتزلهم فبينما] [6] هو كَذَلِكَ إِذْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فقال:
يا عزيز مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَعَهْدِهِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا الَّذِي لَا يُصْلِحُ أمر دُنْيَانَا وَآخِرَتَنَا غَيْرُهُ، قَالَ: أَفَتُحِبُّ أن يرده إليك؟ قال: ارْجِعْ فَصُمْ وَتَطَهَّرْ وَطَّهِرْ ثِيَابَكَ ثُمَّ مَوْعِدُكَ هَذَا الْمَكَانُ غَدًا، فَرَجَعَ عُزَيْرٌ فَصَامَ وَتَطَهَّرَ وَطَهَّرَ ثِيَابَهُ ثُمَّ عَمَدَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَعَدَهُ فَجَلَسَ فِيهِ فَأَتَاهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ، وَكَانَ مَلَكًا بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ فَسَقَاهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِنَاءِ، فَمَثَلَتِ التَّوْرَاةُ فِي صَدْرِهِ فَرَجَعَ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَوَضَعَ لَهُمُ التَّوْرَاةَ فَأَحَبُّوهُ حَتَّى لَمْ يُحِبُّوا حُبَّهُ شَيْئًا قَطُّ، ثُمَّ قَبَضَهُ اللَّهُ وَجَعَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ يُحْدِثُونَ الْأَحْدَاثَ وَيَعُودُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَيَبْعَثُ فِيهِمُ الرُّسُلَ، فَفَرِيقًا يُكَذِّبُونَ وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ حَتَّى كَانَ آخِرُ
__________
(1) في المخطوط «أورثت» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط وط «ذلك» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.(3/118)
مَنْ بَعَثَ اللَّهُ فِيهِمْ مِنْ أنبيائهم زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى [عَلَيْهِمُ السَّلَامُ] [1] ، وَكَانُوا مِنْ بَيْتِ آلِ دَاوُدَ، فَمَاتَ زَكَرِيَّا وَقِيلَ [2] قُتِلَ زَكَرِيَّا [3] فَلَمَّا رَفَعَ اللَّهُ عِيسَى مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَقَتَلُوا يَحْيَى بَعْثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ بَابِلَ يُقَالُ لَهُ خَرْدُوشُ، فَسَارَ إِلَيْهِمْ بِأَهْلِ بَابِلَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِمُ الشَّامَ فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أمر رأسا من رؤوس جنوده يدعى بيورزاذان صاحب الفيل، فقال: إني كُنْتُ حَلَفْتُ بِإِلَهِي لَئِنْ أَنَا ظَفِرْتُ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَأَقْتُلَنَّهُمْ حَتَّى تَسِيلَ دِمَاؤُهُمْ فِي وَسَطِ عَسْكَرِي، إِلَّا أَنِّي لَا أَجِدُ أَحَدًا أَقْتُلُهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ حَتَّى بَلَغَ ذَلِكَ مِنْهُمْ ببيورزاذان، وَدَخْلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَقَامَ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانُوا يُقَرِّبُونَ فِيهَا قُرْبَانَهُمْ فَوَجَدَ فِيهَا دَمًا يَغْلِي فسألهم عنه، فَقَالَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا شَأْنُ هَذَا الدَّمِ يَغْلِي؟ أَخْبِرُونِي خَبَرَهُ، قَالُوا: هَذَا دَمُ قُرْبَانٍ لَنَا قَرَّبْنَاهُ فَلَمْ يُقْبَلْ مِنَّا فلذلك يغلي، ولقد قربناه منذ ثمانمائة سنة والقربان يتقبل مِنَّا إِلَّا هَذَا، فَقَالَ: مَا صَدَقْتُمُونِي، فَقَالُوا: لَوْ كَانَ كَأَوَّلِ زَمَانِنَا لَتُقُبِّلَ مِنَّا وَلَكِنْ قَدِ انْقَطَعَ مِنَّا الْمُلْكُ وَالنُّبُوَّةُ وَالْوَحْيُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ مِنَّا، فَذَبَحَ مِنْهُمْ بِيُورْزَاذَانُ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ سبعمائة وسبعين رجلا من رؤوسهم، فلم يهدأ [غليانه] [4] فَأَمَرَ [فَأُتِيَ] [5] بِسَبْعِمِائَةِ غُلَامٍ مِنْ غِلْمَانِهِمْ فَذَبَحَهُمْ عَلَى الدَّمِ فَلَمْ يَهْدَأْ فَأَمَرَ بِسَبْعَةِ آلَافٍ مِنْ شِيبِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ فَذَبَحَهُمْ عَلَى الدَّمِ، فلم يهدأ فَلَمَّا رَأَى بِيُورْزَاذَانُ الدَّمَ لَا يَهْدَأُ قَالَ لَهُمْ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَيْلَكُمُ اصْدُقُونِي وَاصْبِرُوا عَلَى أَمْرِ رَبِّكُمْ فَقَدْ طَالَ مَا مَلَكْتُمْ فِي الْأَرْضِ تَفْعَلُونَ فِيهَا مَا شِئْتُمْ قَبْلَ أَنْ لَا أَتْرُكَ مِنْكُمْ نَافِخُ نَارٍ أُنْثَى وَلَا ذَكَرَ إِلَّا قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا رأوا الجهد منه وَشِدَّةَ الْقَتْلِ صَدَقُوا الْخَبَرَ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الدَّمَ دَمُ نَبِيٍّ كَانَ يَنْهَانَا عَنْ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ فَلَوْ أَنَّا أَطَعْنَاهُ فِيهَا لَكَانَ أَرْشَدَ لَنَا وَكَانَ يُخْبِرُنَا بِأَمْرِكُمْ فَلَمْ نُصَدِّقْهُ، فَقَتَلْنَاهُ فَهَذَا دَمُهُ، فَقَالَ لَهُمْ بِيُورْزَاذَانُ: مَا كَانَ اسْمُهُ؟ قَالُوا: يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ الْآنَ صدقتموني، بمثل هَذَا انْتَقَمَ رَبُّكُمْ مِنْكُمْ، فَلَمَّا رَأَى بِيُورْزَاذَانُ أَنَّهُمْ صَدَقُوهُ خَرَّ سَاجِدًا وَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ:
أَغْلِقُوا أَبْوَابَ الْمَدِينَةِ وَأَخْرِجُوا مَنْ كَانَ هَاهُنَا مِنْ جَيْشِ خَرْدُوشَ، وَخَلَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ [ثُمَّ] قَالَ:
يَا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا قَدْ عَلِمَ رَبِّي وَرَبُّكَ مَا قَدْ أَصَابَ قَوْمَكَ مِنْ أَجْلِكَ وَمَا قُتِلَ مِنْهُمْ فَاهْدَأْ بِإِذْنِ رَبِّكَ قَبْلَ أَنْ لَا أُبْقِيَ مِنْ قَوْمِكَ أَحَدًا فَهَدَأَ الدَّمُ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَرَفَعَ بِيُورْزَاذَانُ عَنْهُمُ الْقَتْلَ وقال: آمنت بالذي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَيْقَنْتُ أَنَّهُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ، وَقَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِنَّ خَرْدُوشَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْتُلَ مِنْكُمْ حَتَّى تَسِيلَ دِمَاؤُكُمْ وَسَطَ عَسْكَرِهِ، وَإِنِّي لَسْتُ أستطيع أن أعصيه، فقالوا لَهُ افْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ فَأَمَرَهُمْ فَحَفَرُوا خَنْدَقًا وَأَمَرَ بِأَمْوَالِهِمْ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَذَبَحَهَا حَتَّى سَالَ الدَّمُ فِي الْعَسْكَرِ وَأَمَرَ بِالْقَتْلَى الَّذِينَ قُتِلُوا قَبْلَ ذَلِكَ فَطُرِحُوا عَلَى مَا قَتَلَ مِنْ مَوَاشِيهِمْ فَلَمْ يَظُنَّ خُرْدَوْشُ إِلَّا أَنَّ ما في الخندق [جميعه] [6] مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا بَلَغَ الدَّمُ عَسْكَرَهُ أَرْسَلَ إِلَى بِيُورْزَاذَانَ أَنِ ارْفَعْ عَنْهُمُ الْقَتْلَ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَابِلَ، وَقَدْ أَفْنَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ كَادَ أَنْ يفنيهم، وهي الواقعة الْأَخِيرَةُ الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ، فكانت الواقعة الْأَوْلَى بُخْتُنَصَّرَ وَجُنُودَهُ، وَالْأُخْرَى خُرْدَوْشَ وَجُنُودَهُ، وَكَانَتْ أَعْظَمَ الْوَقْعَتَيْنِ فَلَمْ يقم لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ رَايَةٌ وَانْتَقَلَ الْمُلْكُ بِالشَّامِ وَنَوَاحِيَهَا إِلَى الرُّومِ اليونانية
__________
(1) زيادة عن المخطوط. [.....]
(2) في المخطوط «وقد» .
(3) في المخطوط «يحيى» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.(3/119)
إلا أن بقايا بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثُرُوا، وَكَانَتْ لَهُمُ الرِّيَاسَةُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَنَوَاحِيَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْمُلْكِ، وَكَانُوا فِي نِعْمَةٍ إِلَى أَنْ بَدَّلُوا وَأَحْدَثُوا الأحداث فسلط الله عليهم طيطوس بن سبيانوس [1] الرُّومِيَّ، فَأَخْرَبَ بِلَادَهُمْ وَطَرَدَهُمْ عَنْهَا وَنَزَعَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمُلْكَ وَالرِّيَاسَةَ وضربت عليهم الذلة فلا يبقى أحد منهم إلا وعليه الصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ، وَبَقِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ خَرَابًا إِلَى أَيَّامِ [2] عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَعَمَّرَهُ الْمُسْلِمُونَ بِأَمْرِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ جَالُوتَ فِي الْأُولَى فَسَبَى وَقَتَلَ وَخَرَّبَ ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ [الإسراء: 6] يَعْنِي فِي زَمَانِ دَاوُدَ، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ فَسَبَى وَخَرَّبَ، ثُمَّ قَالَ: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [الإسراء: 8] فَعَادَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالرَّحْمَةِ ثُمَّ عَادَ الْقَوْمُ بِشَرِّ مَا بِحَضْرَتِهِمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا شَاءَ مِنْ نِقْمَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ، ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْعَرَبَ كَمَا قَالَ: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ [الأعراف: 167] ، فَهُمْ فِي الْعَذَابِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَذَكَرَ السُّدِّيُّ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّ خَرَابَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ عَلَى يَدَيْ غُلَامٍ يَتِيمٍ ابْنِ أَرْمَلَةٍ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ، يُدْعَى بُخْتُنَصَّرَ وَكَانُوا يَصْدُقُونَ فَتَصْدُقُ رُؤْيَاهُمْ، فَأَقْبَلَ لِيَسْأَلَ عَنْهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَى أُمِّهِ وَهُوَ يَحْتَطِبُ فَجَاءَ وَعَلَى رَأْسِهِ حُزْمَةُ حَطَبٍ فَأَلْقَاهَا ثُمَّ قَعَدَ فَكَلَّمَهُ ثُمَّ أَعْطَاهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، فَقَالَ: اشْتَرِ بِهَذَا طَعَامًا وَشَرَابًا، فَاشْتَرَى بِدِرْهَمٍ لَحْمًا وَبِدِرْهَمٍ خُبْزًا وَبِدِرْهَمٍ خَمْرًا، فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا وَفَعَلَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي كَذَلِكَ وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَكْتُبَ لِي أَمَانًا إِنْ أنت ملكت يوما في الدهر [وصرت من ملوك الأرض] [3] ، فقال [له] أتسخر مِنِّي؟ فَقَالَ: إِنِّي لَا أَسْخَرُ مِنْكَ وَلَكِنْ مَا عَلَيْكَ أَنْ تَتَّخِذَ بِهَا عِنْدِي يَدًا، فَكَتَبَ لَهُ أَمَانَا وَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَالنَّاسُ حَوْلَكَ قَدْ حَالُوا بَيْنِي وَبَيْنَكَ، قَالَ: تَرْفَعُ صَحِيفَتَكَ عَلَى قَصَبَةٍ فَأَعْرِفُكَ، فَكَتَبَ لَهُ وَأَعْطَاهُ، ثُمَّ إِنَّ مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يُكْرِمُ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا وَيُدْنِي مَجْلِسَهُ وَأَنَّهُ هَوِيَ بنت [4] امْرَأَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ابْنَةَ أُخْتِهِ [5] ، فَسَأَلَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عَنْ تَزْوِيجِهَا فَنَهَاهُ عَنْ نِكَاحِهَا فَبَلَغَ ذَلِكَ أُمَّهَا فَحَقَدَتْ [6] عَلَى يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَعَمَدَتْ حِينَ جَلَسَ الْمَلِكُ عَلَى شَرَابِهِ فَأَلْبَسَتْهَا ثِيَابًا رِقَاقًا حُمْرًا وَطَيَّبَتْهَا وَأَلْبَسَتْهَا الْحُلِيَّ وَأَرْسَلَتْهَا إِلَى الْمَلِكِ وَأَمَرَتْهَا أن تسقيه الخمر، فَإِنْ أَرَادَهَا عَنْ نَفْسِهَا أَبَتْ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْطِيَهَا مَا سَأَلَتْهُ، فَإِذَا أَعْطَاهَا سَأَلَتْ رَأْسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا أَنْ يُؤْتَى بِهِ في طست ففعلت ذلك، فَلَمَّا أَرَادَهَا قَالَتْ: لَا أَفْعَلُ حَتَّى تُعْطِيَنِي مَا أَسْأَلُكَ، قَالَ: فما تَسْأَلِينِي؟ قَالَتْ: رَأَسَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا أَنْ يُؤْتَى بِهِ فِي هَذَا الطَّسْتِ، فَقَالَ: وَيْحَكِ سَلِينِي [شيئا] [7] غَيْرَ هَذَا، فَقَالَتْ: مَا أُرِيدُ إِلَّا هَذَا فَلَمَّا أَبَتْ عَلَيْهِ [هاجت شهوته وهو في خمرته] [8] فبعث فَأُتِيَ بِرَأْسِهِ حَتَّى وُضِعَ بَيْنَ يديه والرأس يتكلم، يقول: ويل لك لا تحل لك ويكرر ذلك، فَلَمَّا أَصْبَحَ إِذَا دَمُهُ يَغْلِي فَأَمَرَ بِتُرَابٍ فَأُلْقِيَ عَلَيْهِ فَرَقَى الدَّمُ يَعْنِي صَعِدَ الدَّمُ يَغْلِي، وَيُلْقِي عَلَيْهِ [مِنَ] التُّرَابِ حَتَّى بَلَغَ سُورَ الْمَدِينَةِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَغْلِي فَبَعَثَ صَخَابِينُ مَلِكُ بَابِلَ جَيْشًا إِلَيْهِمْ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ بُخْتُنَصَّرَ، فَسَارَ بُخْتُنَصَّرَ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى بلغوا ذلك المكان فلما سمعوا به تَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي مَدَائِنِهِمْ، فَلَمَّا اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْمَقَامُ أَرَادَ الرُّجُوعَ فَخَرَجَتْ إِلَيْهِ عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَتْ: تُرِيدُ أَنْ ترجع قبل فتح الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَدْ طَالَ مَقَامِي وَجَاعَ أَصْحَابِي، قَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِنْ فَتَحْتُ لَكَ الْمَدِينَةَ تُعْطِينِي مَا أَسْأَلُكَ فَتَقْتُلُ مَنْ أَمَرْتُكَ بقتله وتكف إذ أَمَرْتُكَ أَنْ تَكُفَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قالت: إذا أصبحت
__________
(1) في المطبوع «السطيانوس» .
(2) في المطبوع وط «خلافة» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «هو ابنة» .
(5) في المطبوع «أخيه» .
(6) في المطبوع «فحدقت» .
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) زيادة عن المخطوط.(3/120)
تُقَسِّمُ جُنْدَكَ أَرْبَعَةَ أَرْبَاعٍ ثُمَّ أَقِمْ عَلَى كُلِّ زَاوِيَةٍ رُبْعًا ثُمَّ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ إِلَى السَّمَاءِ فنادوا [اللهم] [1] إِنَّا نَسْتَفْتِحُكَ يَا أَللَّهُ بِدَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا فَإِنَّهَا سَوْفَ تَتَسَاقَطُ، فَفَعَلُوا فَتَسَاقَطَتِ الْمَدِينَةُ وَدَخَلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا، فَقَالَتْ: كُفَّ يَدَكَ وَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى دَمِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا وَقَالَتِ: اقْتُلْ عَلَى هَذَا الدَّمِ حَتَّى يَسْكُنَ فَقَتَلَ عَلَيْهِ سَبْعِينَ أَلْفًا حَتَّى سَكَنَ، فلما سكن قالت: كف الآن يَدَكَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ إِذَا قُتِلَ نَبِيٌّ حَتَّى يُقْتَلَ مَنْ قَتَلَهُ وَمَنْ رَضِيَ بِقَتْلِهِ، فأتاه صَاحِبُ الصَّحِيفَةِ بِصَحِيفَتِهِ فَكَفَّ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فَخَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَطَرَحَ فِيهِ الْجِيَفَ وَأَعَانَهُ عَلَى خَرَابِهِ الرُّومُ مِنْ أَجْلِ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا، وَذَهَبَ مَعَهُ بِوُجُوهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَهَبَ بِدَانْيَالَ وَقَوْمٍ مِنْ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَذَهَبَ مَعَهُ بِرَأْسِ جَالُوتَ، فَلَمَّا قَدِمَ بَابِلَ وَجَدَ صَخَابِينَ قَدْ مَاتَ فَمَلَكَ [2] مَكَانَهُ، وَكَانَ أَكْرَمَ النَّاسِ عِنْدَهُ دَانْيَالُ وَأَصْحَابُهُ فَحَسَدَهُمُ الْمَجُوسُ وَوَشَوْا بهم إليهم وقالوا له: إِنَّ دَانْيَالَ وَأَصْحَابَهُ لَا يَعْبُدُونَ إِلَهَكَ وَلَا يَأْكُلُونَ ذَبِيحَتَكَ، فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا: أَجَلْ [إِنَّ] [3] لَنَا رَبًّا نَعْبُدُهُ وَلَسْنَا نَأْكُلُ مِنْ ذَبِيحَتِكُمْ، فَأَمَرَ الْمَلِكُ بِخَدٍّ فَخُدَّ لَهُمْ فَأُلْقُوا فِيهِ وَهُمْ سِتَّةٌ وَأَلْقَى مَعَهُمْ بِسَبْعٍ ضَارٍ لِيَأْكُلَهُمْ، فَذَهَبُوا ثم راحوا فوجدوه جُلُوسًا وَالسَّبْعُ مُفْتَرِشٌ ذِرَاعَيْهِ مَعَهُمْ لَمْ يَخْدِشْ مِنْهُمْ أَحَدًا وَوَجَدُوا مَعَهُمْ رَجُلًا سَابِعًا، فَقَالَ: مَا [كان] [4] هَذَا السَّابِعُ إِنَّمَا كَانُوا سِتَّةً فَخَرَجَ السَّابِعُ وَكَانَ مَلَكًا فَلَطَمَهُ لطمة فصار في صورة الوحش وَمَسَخَهُ اللَّهُ سَبْعَ سِنِينَ.
وَذَكَرَ وَهْبٌ: أَنَّ اللَّهَ مَسَخَ بُخْتُنَصَّرَ نسرا في الطيور ثُمَّ مَسَخَهُ ثَوْرًا فِي الدَّوَابِّ ثُمَّ مَسَخَهُ أَسَدًا فِي الْوُحُوشِ، فَكَانَ مَسْخُهُ سَبْعَ سِنِينَ وَقَلْبُهُ فِي ذَلِكَ قَلْبُ إِنْسَانٍ، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِ مُلْكَهُ فَآمَنَ. فَسُئِلَ وَهْبٌ أَكَانَ مُؤْمِنًا؟ فَقَالَ: وَجَدْتُ أَهْلَ الْكِتَابِ اخْتَلَفُوا فِيهِ فمنهم من قال مات مُؤْمِنًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ أَحْرَقَ بيت الله وَكُتُبَهُ وَقَتَلَ الْأَنْبِيَاءَ فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقْبَلْ تَوْبَتَهُ. وَقَالَ السدي: إِنَّ بُخْتُنَصَّرَ [لَمَّا] [5] رَجَعَ إِلَى صُورَتِهِ بَعْدَ الْمَسْخِ وَرَدَّ اللَّهُ إليه ملكه وكان دَانْيَالُ وَأَصْحَابُهُ أَكْرَمَ النَّاسِ عَلَيْهِ فَحَسَدَهُمُ الْمَجُوسُ، وَقَالُوا لِبُخْتُنَصَّرَ: إِنَّ دَانْيَالَ إِذَا شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ أَنْ يَبُولَ وَكَانَ ذَلِكَ فِيهِمْ عَارًا فَجَعَلَ لَهُمْ طَعَامًا وَشَرَابًا فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا، وَقَالَ لِلْبَوَّابِ انْظُرْ أَوَّلَ مَنْ يَخْرُجُ لِيَبُولَ فَاضْرِبْهُ بِالطَّبْرَزِينَ فَإِنْ قَالَ [لك] [6] أَنَا بُخْتُنَصَّرُ فَقُلْ كَذَبْتَ بُخْتُنَصَّرُ أمرني بذلك، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَامَ لِلْبَوْلِ بُخْتُنَصَّرُ فَلَمَّا رَآهُ الْبَوَّابُ شَدَّ عَلَيْهِ، فَقَالَ:
وَيْحَكَ أَنَا بُخْتُنَصَّرُ، فَقَالَ: كَذَبْتَ بُخْتُنَصَّرُ أَمَرَنِي فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي «الْمُبْتَدَأِ» ، إِلَّا أَنَّ رِوَايَةَ مَنْ رَوَى أَنَّ بُخْتُنَصَّرَ غَزَا بَنِي إِسْرَائِيلَ عِنْدَ قَتْلِهِمْ شِعْيَاءَ فِي عَهْدِ أَرْمِيَاءَ، وَمِنْ وَقْتِ أَرْمِيَاءَ وَتَخْرِيبِ بُخْتُنَصَّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَى مَوْلِدِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا أَرْبَعُمِائَةٍ وَإِحْدَى وَسِتُّونَ سَنَةً، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُعِدُّونَ مِنْ لَدُنْ تَخْرِيبِ بُخْتُنَصَّرَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ إِلَى حِينِ عمارته في عهد كيوس بن أخشورش بن أصبهبد بِبَابِلَ مِنْ قِبَلِ بَهْمَنَ بْنِ إِسْفَنْدِيَارَ سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ عِمَارَتِهِ إِلَى ظُهُورِ الْإِسْكَنْدَرِ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثَمَانٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً، ثُمَّ مِنْ بَعْدِ مَمْلَكَتِهِ التي قتل يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا ثَلَاثِمِائَةٍ وَسِتُّونَ سَنَةً. وَالصَّحِيحُ مِنْ ذَلِكَ مَا ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ [7] .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ أَيْ: أَعْلَمْنَاهُمْ وأخبرناهم فيما آتيناهم من
__________
(1) زيادة عن المخطوط. [.....]
(2) في المطبوع «فتملك» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) هذه الآثار من الإسرائيليات.(3/121)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
الكتاب [1] أَنَّهُمْ سَيُفْسِدُونَ، وَالْقَضَاءُ عَلَى وُجُوهٍ يَكُونُ أَمْرًا كَقَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ [الْإِسْرَاءِ: 23] ، وَيَكُونُ حُكْمًا كَقَوْلِهِ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ [يونس: 93] وَيَكُونُ خَلْقًا كَقَوْلِهِ: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فُصِّلَتْ: 12] ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقتادة: يعني وقضينا عليهم، فإلى [هاهنا] [2] بِمَعْنَى عَلَى، وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ المحفوظ. لَتُفْسِدُنَّ [اللَّامُ] [3] لَامُ الْقَسَمِ مَجَازُهُ وَاللَّهِ لَتُفْسِدُنَّ، فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ، بِالْمَعَاصِي، وَالْمُرَادُ بِالْأَرْضِ أَرْضُ الشَّامِ وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَلَتَعْلُنَّ، وَلَتَسْتَكْبِرُنَّ وَلَتَظْلِمُنَّ النَّاسَ، عُلُوًّا كَبِيراً [أي استكبارا وظلما كبيرا] [4] .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 5 الى 7]
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (7)
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما، يعني أولى مرتين، قَالَ قَتَادَةُ: إِفْسَادُهُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى مَا خَالَفُوا مِنْ أَحْكَامِ التوراة وركوب المحارم. وقال محمد بن إِسْحَاقَ: إِفْسَادُهُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى قَتْلُ شِعْيَاءَ بَيْنَ الشَّجَرَةِ وَارْتِكَابُهُمُ الْمَعَاصِيَ. بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا، قال قتادة: يعني جالوت الخزري وَجُنُودَهُ، وَهُوَ الَّذِي قَتَلَهُ دَاوُدُ [وذكرنا قصته في البقرة] [5] . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي سنحاريب مِنْ أَهْلِ نِينَوَى. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بُخْتُنَصَّرُ الْبَابِلِيُّ وَأَصْحَابُهُ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. أُولِي بَأْسٍ، ذَوِي بَطْشٍ شَدِيدٍ، فِي الْحَرْبِ، فَجاسُوا، أَيْ: فَطَافُوا وَدَارُوا، خِلالَ الدِّيارِ، وَسَطَهَا يَطْلُبُونَكُمْ وَيَقْتُلُونَكُمْ، وَالْجَوْسُ طَلَبُ الشَّيْءِ بِالِاسْتِقْصَاءِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: جَاسُوا قَتَلُوكُمْ بَيْنَ بُيُوتِكُمْ. وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا، قَضَاءً كَائِنًا لَا خُلْفَ فِيهِ.
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ، يَعْنِي: الرَّجْعَةَ وَالدَّوْلَةَ، عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً، عَدَدًا، أَيْ: مَنْ يَنْفِرُ مَعَهُمْ وَعَادَ الْبَلَدُ أَحْسَنَ مِمَّا كَانَ.
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، أَيْ: لَهَا ثَوَابُهَا، وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها، أَيْ: فعليها [عقاب الإساءة] [6] ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَلامٌ لَكَ [الْوَاقِعَةِ: 91] أَيْ: عَلَيْكَ. وَقِيلَ: فَلَهَا الْجَزَاءُ وَالْعِقَابُ، فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أَيِ: الْمَرَّةُ الْأَخِيرَةُ مِنْ إِفْسَادِكُمْ وَذَلِكَ قَصْدُهُمْ قَتْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ رُفِعَ وَقَتْلُهُمْ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْفُرْسَ وَالرُّومَ، خَرْدُوشَ وَطِيطُوسَ حَتَّى قَتَلُوهُمْ وَسَبَوْهُمْ وَنَفَوْهُمْ عَنْ دِيَارِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ، أَيْ: تَحْزَنُ وُجُوهُكُمْ وَسُوءُ الْوَجْهِ بِإِدْخَالِ الْغَمِّ وَالْحُزْنِ قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: لِنَسُوءَ بِالنُّونِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى التَّعْظِيمِ، كَقَوْلِهِ:
وَقَضَيْنا [الحجر: 66] وَبَعَثْنا [المائدة: 12] وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْهَمْزَةِ [عَلَى التَّوْحِيدِ] [7] ، أَيْ: لِيَسُوءَ اللَّهُ وُجُوهَكُمْ، وَقِيلَ: لِيَسُوءَ الْوَعْدُ وُجُوهَكُمْ، وَقَرَأَ الباقون بالياء وضم الهمزة
__________
(1) في المطبوع «الكتب» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيد في المطبوع.(3/122)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
عَلَى الْجَمْعِ، أَيْ لِيَسُوءَ الْعِبَادُ أولو الْبَأْسِ الشَّدِيدِ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ، يَعْنِي: بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَنَوَاحِيَهُ، كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا، وَلِيُهْلِكُوا، ما عَلَوْا أي: غَلَبُوا عَلَيْهِ مِنْ بِلَادِكُمْ تَتْبِيراً [هلاكا] [1] .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 8 الى 12]
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)
عَسى رَبُّكُمْ، يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَنْ يَرْحَمَكُمْ، بَعْدَ انْتِقَامِهِ مِنْكُمْ فَيَرُدَّ الدَّوْلَةَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا، أَيْ: إِنْ عُدْتُمْ إِلَى الْمَعْصِيَةِ عُدْنَا إِلَى الْعُقُوبَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: فَعَادُوا فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُمْ يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً، سِجْنًا وَمَحْبِسًا مِنَ الْحَصْرِ وَهُوَ الْحَبْسُ قَالَ الْحَسَنُ: حَصِيرًا أي: فراشا. ذهب إِلَى الْحَصِيرِ الَّذِي يُبْسَطُ وَيُفْرَشُ.
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، أَيْ: إِلَى الطَّرِيقَةِ التي هي أصوب. وقيل [إلى] [2] الْكَلِمَةُ الَّتِي هِيَ أَعْدَلُ وَهِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيُبَشِّرُ، يَعْنِي: الْقُرْآنُ، الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ [قولا وفعلا على سنة نبيها] [3] أَنَّ لَهُمْ، بِأَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً، وَهُوَ الْجَنَّةُ.
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) ، وهو النار.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ، حُذِفَ الواو لفظا لاستقلال اللَّامِ السَّاكِنَةِ كَقَوْلِهِ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) [الْعَلَقِ: 18] ، وَحُذِفَ فِي الْخَطِّ أَيْضًا وَهِيَ غَيْرُ مَحْذُوفَةٍ فِي الْمَعْنَى، ومعناه: يدعو الْإِنْسَانُ عَلَى مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ، بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ عِنْدَ الْغَضَبِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ وَأَهْلِكْهُ وَنَحْوَهُمَا، دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ، أَيْ: كَدُعَائِهِ رَبَّهُ بِالْخَيْرِ أَنْ يَهَبَ لَهُ النِّعْمَةَ وَالْعَافِيَةَ وَلَوِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَهَلَكَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ بِفَضْلِهِ، وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا بِالدُّعَاءِ عَلَى مَا يَكْرَهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ فِيهِ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضَجِرًا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ، أَيْ: عَلَامَتَيْنِ دَالَّتَيْنِ عَلَى وُجُودِنَا وَوَحْدَانِيِّتِنَا وَقُدْرَتِنَا، فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَ اللَّهُ نُورَ الشَّمْسِ سَبْعِينَ جُزْءًا وَنُورَ الْقَمَرِ كَذَلِكَ فَمَحَا مِنْ نُورِ الْقَمَرِ تِسْعَةً وَسِتِّينَ جُزْءًا فَجَعَلَهَا مَعَ نور الشمس، حكي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ جِبْرِيلَ فَأَمَرَّ جَنَاحَهُ عَلَى وَجْهِ الْقَمَرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَطُمِسَ عَنْهُ الضَّوْءُ وَبَقِيَ فِيهِ النُّورُ. وَسَأَلَ ابْنُ الكواء عليا [رضي الله عنه] [4] عَنِ السَّوَادِ الَّذِي فِي الْقَمَرِ قَالَ: هُوَ أَثَرُ الْمَحْوِ. وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، مُنِيرَةً مُضِيئَةً، يَعْنِي يُبْصَرُ بِهَا. قَالَ الْكِسَائِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَبْصَرَ النَّهَارُ إِذَا أضاءت بِحَيْثُ يُبْصَرُ بِهَا، لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ، أَيْ: لَوْ تَرَكَ اللَّهُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كَمَا خَلَقَهُمَا لَمْ يعرف الليل والنهار ولم
__________
(1) زيادة عن المخطوط. [.....]
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.(3/123)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
يَدْرِ الصَّائِمُ مَتَى يُفْطِرُ وَلَمْ يُدْرَ وَقْتُ الْحَجِّ وَلَا وَقْتُ حُلُولِ الْآجَالِ وَلَا وَقْتُ السُّكُونِ وَالرَّاحَةِ. وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 13 الى 16]
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَمَلُهُ وَمَا قُدِّرَ عَلَيْهِ فَهُوَ مُلَازِمُهُ أَيْنَمَا كَانَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: خَيْرُهُ وَشَرُّهُ معه لا يفارقه حتى يحاسب [1] بِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
يُمْنُهُ وَشُؤْمُهُ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلا وفي عُنُقِهِ وَرَقَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ.
وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَرَادَ بِالطَّائِرِ مَا قَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَامِلُهُ وَمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ شقاوة وسمي طائر عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِيمَا كَانَتْ تَتَفَاءَلُ وَتَتَشَاءَمُ بِهِ مِنْ سَوَانِحِ الطَّيْرِ وَبَوَارِحِهَا [2] .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْقُتَيْبِيُّ: أَرَادَ بِالطَّائِرِ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ قَوْلِهِمْ طَارَ سهم فلان بكذا وكذا، وَخُصَّ الْعُنُقُ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْقَلَائِدِ وَالْأَطْوَاقِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَزِينُ أَوْ يَشِينُ، فَجَرَى كَلَامُ الْعَرَبِ بِتَشْبِيهِ الْأَشْيَاءِ اللَّازِمَةِ إِلَى الْأَعْنَاقِ، وَنُخْرِجُ لَهُ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى وَنَحْنُ نُخْرِجُ له، يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَيَعْقُوبُ وَيَخْرُجُ لَهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ، مَعْنَاهُ: وَيَخْرُجُ لَهُ الطَّائِرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ يُخْرَجُ بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا وَفَتَحِ الرَّاءِ، يَلْقاهُ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ يَلْقاهُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ، يَعْنِي: يَلْقَى الْإِنْسَانُ ذَلِكَ الْكِتَابَ، أَيْ: يُؤْتَاهُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بفتح الياء وتخفيف [القاف] [3] أَيْ يَرَاهُ مَنْشُوراً، وَفِي الْآثَارِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْمُرُ الْمَلَكَ بِطَيِّ الصَّحِيفَةِ إِذَا تَمَّ عُمْرُ العبد فلا تنشر إلا في يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
اقْرَأْ كِتابَكَ، أَيْ: يُقَالُ لَهُ اقْرَأْ كِتَابَكَ، قَوْلُهُ تَعَالَى: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً، مُحَاسِبًا. قَالَ الْحَسَنُ: لَقَدْ عَدَلَ عَلَيْكَ مَنْ جَعَلَكَ حَسِيبَ نَفْسِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: سَيَقْرَأُ يَوْمَئِذٍ [4] مَنْ لَمْ يَكُنْ قَارِئًا فِي الدُّنْيَا.
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، لَهَا ثَوَابُهُ، وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، لِأَنَّ عَلَيْهَا عِقَابَهُ، وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، أَيْ: لَا تَحْمِلُ حَامِلَةٌ حِمْلَ أُخْرَى مِنَ الْآثَامِ، أَيْ: لَا يُؤْخَذُ أَحَدٌ بِذَنْبِ أَحَدٍ. وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا، إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ وَقَطْعًا لِلْعُذْرِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا وَجَبَ [وَجَبَ بِالسَّمْعِ] [5] لَا بِالْعَقْلِ.
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها
، قَرَأَ مُجَاهِدٌ: «أَمَّرْنَا» بِالتَّشْدِيدِ أَيْ: سَلَّطْنَا شِرَارَهَا فَعَصَوْا وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَيَعْقُوبُ أَمَرْنا
بِالْمَدِّ، أَيْ: أَكْثَرْنَا. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ [مَقْصُورًا مُخَفَّفًا] [6] ، أَيْ: أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى أَكْثَرْنَا، يُقَالُ: أَمَّرَهُمُ اللَّهُ أي كثرهم الله.
__________
(1) في المطبوع «يحاسبه» .
(2) في المخطوط «جوارحها» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المخطوط «اليوم» .
(5) العبارة في المخطوط «بالقطع والسمع» .
(6) العبارة في المطبوع «بالقصر مختلفا» .(3/124)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
«1289» وَفِي الْحَدِيثِ: «خَيْرُ الْمَالِ مُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ» أَيْ كَثِيرَةُ النَّسْلِ. وَيُقَالُ مِنْهُ: أَمَرَ الْقَوْمُ يَأْمُرُونَ أَمْرًا إِذَا كَثُرُوا، وَلَيْسَ مِنَ الْأَمْرِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ قِرَاءَةَ الْعَامَّةِ وَقَالَ: لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الثَّلَاثَةَ تَجْتَمِعُ فِيهَا يَعْنِي الْأَمْرَ وَالْإِمَارَةَ وَالْكَثْرَةَ. مُتْرَفِيها
مُنَعَّمِيهَا وَأَغْنِيَاءَهَا فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
، وَجَبَ عَلَيْهَا الْعَذَابُ، فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
، أَيْ: خَرَّبْنَاهَا وَأَهْلَكْنَا مَنْ فِيهَا.
«1290» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [1] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ [2] ثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا وَهُوَ يَقُولُ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا» [3] وَحَلَّقَ بِأُصْبُعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نعم إذا كثر الخبث» .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 17 الى 19]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19)
قَوْلُهُ: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ أَيِ: الْمُكَذِّبَةِ، مِنْ بَعْدِ نُوحٍ، يُخَوِّفُ كُفَّارَ مَكَّةَ، وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ
__________
1289- ضعيف جدا. أخرجه أحمد 3/ 468 وأبو عبيد في «الغريب» 1/ 349 والبخاري في «التاريخ» 2/ 2/ 144 والطبراني 6470 والقضاعي 1250 من طريق مسلم بن بديل عن إياس بن زهير عن سويد بن هبيرة مرفوعا، وإسناده واه، وله علل: سويد مختلف في صحبته، وإياس وثقه ابن حبان على قاعدته، ومسلم بن بديل لم أجد له ترجمة وقد وقفه النضر بن شميل في روايته كما في «تخريج الكشاف» 2/ 655، ومع ذلك كله قال الهيثمي في «المجمع» 5/ 258:
رجال أحمد ثقات؟!!، وانظر «أحكام القرآن» 1419 بتخريجي.
1290- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم، عقيل هو ابن خالد، الليث هو ابن سعد، ابن شهاب هو محمد بن مسلم.
- رواه المصنف من طريق البخاري وهو في «صحيحه» 3346 عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ بِهَذَا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 2880 ح 2 عن طريق عقيل بن خالد به.
- وأخرجه البخاري 3598 و7135 والمصنف في «شرح السنة» 4096 من طريق شعيب عن الزهري به.
- وأخرجه البخاري 7059 ومسلم 2880 والنسائي في «الكبرى» 11311 من طرق عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزهري به.
- وأخرجه مسلم 2880 والنسائي 11333 وعبد الرزاق 20749 وأحمد 6/ 428 و429 وابن حبان 327 وفي «شرح السنة» 4096 من طرق عن الزهري به.
- وأخرجه مسلم 2880 والترمذي 2187 وابن ماجه 3953 وأحمد 6/ 428 والحميدي 308 وابن أبي شيبة 19061 والبيهقي 10/ 93 من طرق عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ الزهري عن عروة عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عن حبيبة عن أم حبيبة عن زينب بنت جحش.
- وأخرجه ابن حبان 6831 من روآية سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عن زينب بنت أم سلمة عن أم حبيبة قالت: استيقظ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ....
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «بكر» .
(3) في المطبوع «هذه» . [.....](3/125)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى: الْقَرْنُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً، فَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ قَرْنٍ، وَكَانَ فِي آخِرِهِ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ. وَقِيلَ: مِائَةُ سَنَةٍ.
«1291» وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن بشر الْمَازِنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: «سَيَعِيشُ هَذَا الْغُلَامُ قَرْنًا» قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ فَمَا زِلْنَا نَعُدُّ لَهُ حَتَّى تَمَّ لَهُ مِائَةُ سَنَةٍ، ثم مات.
وقال الكلبي: القرن ثَمَانُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً.
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ، يَعْنِي الدُّنْيَا أَيِ الدَّارَ الْعَاجِلَةَ، عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ، مِنَ الْبَسْطِ وَالتَّقْتِيرِ، لِمَنْ نُرِيدُ، أَنْ نَفْعَلَ بِهِ ذَلِكَ أَوْ إِهْلَاكَهُ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، جَهَنَّمَ يَصْلاها، يَدْخُلُ نَارَهَا، مَذْمُوماً مَدْحُوراً، مَطْرُودًا مُبْعَدًا.
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها، عَمِلَ عَمَلَهَا، وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً، مقبولا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 20 الى 23]
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23)
كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ، أَيْ: نُمِدُّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ، مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، أَيْ: يَرْزُقُهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ يَخْتَلِفُ [1] بِهِمَا الْحَالُ فِي الْمَآلِ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ، رِزْقُ رَبِّكَ، مَحْظُوراً، مَمْنُوعًا عَنْ عِبَادِهِ فَالْمُرَادُ مِنَ الْعَطَاءِ الْعَطَاءُ فِي الدُّنْيَا وَإِلَّا فَلَا حَظَّ للكفار في الآخرة.
انْظُرْ، يَا مُحَمَّدُ، كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، فِي الرِّزْقِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، يَعْنِي: طَالِبَ الْعَاجِلَةِ وَطَالِبَ الْآخِرَةِ، وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا.
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تجعل أيها الإنسان [2] فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا، مَذْمُومًا مِنْ غَيْرِ حَمْدٍ مَخْذُولًا مِنْ غَيْرِ نَصْرٍ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَقَضى رَبُّكَ، وَأَمَرَ رَبُّكَ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ. قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ:
وَأَوْجَبَ رَبُّكَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَأَوْصَى رَبُّكَ.
وَحُكِيَ عَنِ الضحاك بن مزاحم أنه قرأها: «وَوَصَّى رَبُّكَ» . وَقَالَ: إِنَّهُمْ أَلْصَقُوا الْوَاوَ بِالصَّادِّ فَصَارَتْ قَافًا، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أَيْ: وَأَمَرَ بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا بِرًّا بِهِمَا وَعَطْفًا عَلَيْهِمَا.
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ، قرأ حمزة والكسائي بِالْأَلِفِ عَلَى التَّثْنِيَةِ فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما، كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ [الْمَائِدَةِ: 71] وَقَوْلِهِ:
__________
1291- تقدم في تفسير سورة الأنعام عند آية: 7.
(1) في المطبوع «يخلف» .
(2) زيد في المطبوع وط عقب لفظ «الْإِنْسَانُ» «مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ» .(3/126)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْأَنْبِيَاءِ: 3] وقوله: الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء: 3] ابْتِدَاءٌ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ يَبْلُغَنَّ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ، فِيهِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وحفص بالكسر والتنوين، و [قرأ] [1] الباقون بِكَسْرِ الْفَاءِ غَيْرَ مُنَوَّنٍ، وَمَعْنَاهَا وَاحِدٌ وَهِيَ كَلِمَةُ كَرَاهِيَةٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَصْلُ الْتُّفِّ وَالْأُفِّ الْوَسَخُ عَلَى الْأَصَابِعِ إِذَا فَتَلْتَهَا. وَقِيلَ: الْأُفُّ مَا يَكُونُ فِي المغابن من الوسخ، والتف مَا يَكُونُ فِي الْأَصَابِعِ. وَقِيلَ: الأف وسخ الأذن والتف وسخ الأظفار.
وقيل: الأف وسخ الظفر والتف مَا رَفَعْتَهُ بِيَدِكَ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ حَقِيرٍ.
وَلا تَنْهَرْهُما، وَلَا تَزْجُرْهُمَا، وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، حَسَنًا جَمِيلًا لَيِّنًا.
قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: كَقَوْلِ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ لِلسَّيِّدِ الْفَظِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تسميهما ولا تكنهما وقل لهما يَا أَبَتَاهُ يَا أُمَّاهُ [2] .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا إِذَا بَلَغَا عِنْدَكَ مِنَ الْكِبَرِ مَا يَبُولَانِ فَلَا تَتَقَذَّرْهُمَا وَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ حِينَ تُمِيطُ عَنْهُمَا الْخَلَاءَ وَالْبَوْلَ كَمَا كَانَا يميطانه عنك صغيرا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 24 الى 25]
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ، أَيْ: ألن جانبك لهما واخضع لهما. وقال عروة بن الزبير: ألن لَهُمَا حَتَّى لَا تَمْتَنِعَ عَنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ مِنَ الرَّحْمَةِ، مِنَ الشفقة، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً، أَرَادَ إذا كانا مسلمين. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مَنْسُوخُ بِقَوْلِهِ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَةِ: 113] .
«1292» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [3] المليحي أَنَا أَبُو مَسْعُودٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ ثَنَا حُمَيْدُ بن زنجويه ثنا سليمان بن حرب ثنا حَمَّادُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرحمن السُّلَمِيَّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَحَافِظْ [4] إِنْ شِئْتَ أَوْ ضيّع» .
__________
1292- إسناده قوي، فيه عطاء بن السائب اختلط، لكن سمع منه حماد بن زيد قبل الاختلاط وكذا الثوري وشعبة سمعا منه قبل الاختلاط، والجمهور على أنه صحيح الحديث قبل الاختلاط.
- وهو في «شرح السنة» 3315 بهذا الإسناد وفيه قصة.
- وأخرجه ابن ماجه 3663 وابن أبي شيبة 8/ 540 وأحمد 6/ 451 من طريق سفيان عن عطاء به.
- وأخرجه أحمد 5/ 197 و198 عن حسين بن محمد عن شريك عن عطاء به.
- وأخرجه الترمذي 1900 والحميدي 395 والحاكم 4/ 152 من طريق سفيان عن عطاء به وفيه قصة.
- وأخرجه أحمد 5/ 196 وابن ماجه 2089 والحاكم 4/ 52 من طريق شعبة عن عطاء به وفيه قصة.
- وأخرجه ابن حبان 425 عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عطاء به. وفيه قصة.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «يا أمها» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «فاحفظ» .(3/127)
«1293» أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الزَّرَّادُ أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الجرجرائي [1] أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عيسى [2] الماليني أنا حسن بن سفيان ثنا يَحْيَى بْنَ حَبِيبِ بْنِ عَرَبِيٍّ ثنا خالد بن الحارث عن شيبة عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدِ وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ» [3] .
«1294» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ ثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ غالب تمتام الضبي ثنا عبد الله بن مسلمة ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ وَلَا عَاقٌّ وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ» .
«1295» أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ
__________
1293- إسناده ضعيف لجهالة عطاء والد يعلى، وثقه ابن حبان وحده على قاعدته، وقال ابن القطان: مجهول الحال، ما روى عنه سوى ابنه يعلى، ووافقه الذهبي في «الميزان» حيث قال: لا يعرف إلّا بابنه.
- وللحديث علة ثانية وهي الوقف.
- وهو في «شرح السنة» 3318 بهذا الإسناد.
- وأخرجه ابن حبان 429 عن الحسن بن سفيان بهذا الإسناد.
- وأخرجه الترمذي 1899 من طريق عمر بن علي عن خالد بن الحارث به.
- وأخرجه الحاكم 4/ 151- 152 من طريق شعبة به، وصححه، ووافقه الذهبي مع أنه قال في «الميزان» عطاء والد يعلى لا يعرف.
- وأخرجه الترمذي 1899 والبخاري في «الأدب المفرد» والبغوي في «شرح السنة» 3317 من طرق عن شعبة به موقوفا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وقال الترمذي: وهذا أصح.
- وفي الباب من حديث ابن عمر أخرجه البزار 1865 وقال الهيثمي في «المجمع» 8/ 136: فيه عصمة بن محمد، وهو متروك.
- فهذا شاهد ساقط وانظر «أحكام القرآن» 1427 بتخريجي، فقد استوفيت الكلام عليه.
1294- صحيح بشواهده. إسناده ضعيف لضعف يزيد بن أبي زياد، لكن للحديث شواهد كثيرة تجعله صحيحا، والله أعلم.
- وهو في «شرح السنة» 3322 بهذا الإسناد مع إسناد آخر إلى يزيد بن أبي زياد.
- وأخرجه أحمد 3/ 28 من طريق عبد العزيز بن مسلم به.
- وأخرجه أحمد 3/ 44 والبيهقي 8/ 288 من طريق شعبة عن يزيد به.
- وأخرجه أبو يعلى 1168 من طريق جرير عن يزيد به.
- وأخرجه النسائي في «الكبرى» 4920 من طريق يزيد بن أبي زياد عن سالم بن أبي الجعد ومجاهد عن أبي سعيد.
- ويشهد له حديث عبد الله بن عمرو. أخرجه النسائي 8/ 318 وأحمد 2/ 201 و203 والطيالسي 2295 والبخاري في «التاريخ الصغير» 1/ 362- 263 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 366 وابن حبان 3384 وإسناده ضعيف، لانقطاعه.
- وله شاهد أيضا من حديث أبي قتادة عن الطحاوي في «المشكل» 915 ومن حديث ابن عباس عند الطبراني 11168 و11170 ومن حديث أنس عند أحمد 2/ 226 وللحديث شواهد لا تخلو من مقال لكن تصلح للاعتبار، فالحديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده.
1295- صحيح. إسناده صحيح، رجاله ثقات، وله شواهد كثيرة.-
(1) في المطبوع «الجرجاني» .
(2) تصحف في المطبوع «الحسين» .
(3) في المخطوط «الوالدين» . [.....](3/128)
بامويه [1] الأصفهاني أَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ [بْنُ محمد] [2] بن زياد البصري أَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصّبّاح ثنا رِبْعِيُّ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَتَى عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ له ورغم أنف امرئ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ الْكِبَرُ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ» .
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ، مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَعُقُوقِهِمَا، إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ، أَبْرَارًا مُطِيعِينَ بَعْدَ تَقْصِيرٍ كَانَ مِنْكُمْ فِي الْقِيَامِ بِمَا لَزِمَكُمْ مِنْ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ، بَعْدَ الْمَعْصِيَةِ غَفُوراً.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هُوَ الرَّجُلُ يَكُونُ مِنْهُ الْبَادِرَةُ إِلَى أَبَوَيْهِ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ فَإِنَّهُ لَا يؤاخذ به. وقال سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الْأَوَّابُ الَّذِي يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ ثُمَّ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: [هو] [3] الرَّجَّاعُ إِلَى الْخَيْرِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الرَّجَّاعُ إِلَى الله فيما يحزنه وَيَنُوبُهُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُمُ الْمُسَبِّحُونَ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ: يَا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ [سَبَأٍ 10] . قَالَ قَتَادَةُ: هم المصلون، قال عون الْعَقِيلِيُّ: هُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الضُّحَى.
«1296» أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ طَاهِرُ بن الحسين الرّوقي [4] الطوسي أَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يعقوب أنا أَبُو النَّضْرِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن يوسف ثنا الحسن بن سفيان ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شيبة ثنا وكيع عن هِشَامُ الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ قُبَاءَ وَهُمْ يُصَلُّونَ صَلَاةَ الضُّحَى، فَقَالَ: «صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ. إِذَا رَمَضَتِ الْفِصَالُ مِنَ الضُّحَى» .
__________
- ربعي هو ابن إبراهيم بن مقسم، ويعرف بابن علية، وهو أخو إسماعيل بن علية.
- وهو في «شرح السنة» 690 بهذا الإسناد.
- وأخرجه الترمذي 3545 وأحمد 2/ 254 من طريق أحمد بن إبراهيم الدورقي عن ربعي بن إبراهيم بن علية به.
- وأخرجه ابن حبان 908 من طريق عبد الرحمن بن إسحاق به.
- وأخرجه إسماعيل القاضي في «الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم» 16 من طريق بشر عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ به.
- وأخرج مسلم عجزه برقم 2551 من طريق سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أبيه عن أبي هريرة.
- وللحديث شواهد كثيرة موضع بسطها في كتب الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وبر الوالدين.
1296- صحيح. الحسن بن سفيان قد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم غير القاسم بن عوف فإنه من رجال مسلم، أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد، وكيع بن الجراح، هشام بن عبد الله، قتادة بن دعامة.
- وهو في «شرح السنة» 1005 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 748 ح 144 من طريق هشام به.
- وأخرجه مسلم 748 وأحمد 4/ 367 و372 وابن خزيمة 1227 وابن حبان 3539 والطبراني في «الكبير» 5108 و5109 و5113 وفي «الصغير» 155 وأبو عوانة 2/ 271 والبيهقي 2/ 49 من طرق عن القاسم به.
(1) تصحف في المطبوع «نامويه» وفي المخطوط «راهويه» .
(2) زيادة عن «شرح السنة» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «الدروفي» وفي نسخة «الدروقي» والمثبت هو الصواب.(3/129)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: الْأَوَّابُ [الَّذِي] [1] يُصَلِّي بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَحُفُّ بِالَّذِينِ يُصَلُّونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَهِيَ صلاة الأوابين [2] .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 26 الى 29]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ، يَعْنِي صِلَةَ الرَّحِمِ، وَأَرَادَ بِهِ قَرَابَةَ الْإِنْسَانِ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ.
[و] عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَرَادَ بِهِ قَرَابَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً، أَيْ: لَا تُنْفِقْ مَالَكَ فِي الْمَعْصِيَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ أَنْفَقَ الْإِنْسَانُ مَالَهُ كُلَّهُ [فِي الْحَقِّ مَا كَانَ] [3] تَبْذِيرًا وَلَوْ أَنْفَقَ مُدًّا فِي بَاطِلٍ كَانَ تَبْذِيرًا، وَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ التَّبْذِيرِ فَقَالَ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ. قَالَ شُعْبَةُ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ أَبِي إِسْحَاقَ فِي طَرِيقِ الْكُوفَةِ فَأَتَى على دار بنيت بِجِصٍّ وَآجُرٍّ، فَقَالَ: هَذَا التَّبْذِيرُ، وَفِي قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ:
إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي [4] غَيْرِ حَقِّهِ.
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ، أَيْ: أولياءهم، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مُلَازِمِ سُنَّةَ قَوْمٍ هُوَ أَخُوهُمْ. وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً، جَحُودًا لِنِعَمِهِ.
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ، نَزَلَتْ فِي مَهْجَعٍ وَبِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَسَالِمٍ وَخَبَّابٍ كَانُوا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَحَايِينِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ وَلَا يَجِدُ فَيُعْرِضُ عَنْهُمْ حَيَاءً مِنْهُمْ وَيُمْسِكُ عَنِ الْقَوْلِ، فَنَزَلَ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ [5] ، وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَمَرْتُكَ أَنْ تُؤْتِيَهُمْ، ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها، انْتِظَارَ رِزْقٍ مِنَ اللَّهِ تَرْجُوهُ أَنْ يَأْتِيَكَ، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً لَيِّنًا وَهِيَ الْعِدَةُ، أَيْ: عِدْهُمْ وَعْدًا جَمِيلًا. وقيل: القول الميسور أن يقول: يَرْزُقُنَا [6] اللَّهُ وَإِيَّاكَ.
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ.
«1297» قَالَ جَابِرٌ: أَتَى صَبِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أُمِّي تَسْتَكْسِيكَ دِرْعًا وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا قَمِيصُهُ، فَقَالَ لِلصَّبِيِّ: «مِنْ سَاعَةٍ إلى ساعة يظهر كذا، فعد إلينا وَقْتًا آخَرَ» ، فَعَادَ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَتْ: قُلْ لَهُ إِنْ أُمِّي تَسْتَكْسِيكَ الدِّرْعَ الَّذِي عَلَيْكَ، فَدَخَلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم داره فنزع قميصه وأعطاه إِيَّاهُ [7] وَقَعَدَ عُرْيَانًا فَأَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَانْتَظَرُوهُ فَلَمْ يَخْرُجْ، فَشَغَلَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَرَآهُ عُرْيَانًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
__________
1297- ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 576 عن جابر بدون إسناد.
- وأخرجه الواحدي 575 من حديث ابن مسعود، وإسناده ضعيف جدا، سليمان بن سفيان الجهني متروك، والخبر شبه موضوع.
(1) سقط من المطبوع.
(2) تصحف في المطبوع «الأولين» .
(3) سقط من المطبوع.
(4) تصحف في المطبوع «من» .
(5) تفرد المصنف بذكره، ولم أقف عليه عند غيره، والظاهر أنه ليس له أصل.
(6) في المطبوع «تقول رزقنا» .
(7) زيد في المطبوع. [.....](3/130)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ.
يَعْنِي: وَلَا تُمْسِكْ يَدَكَ عن النفقة في الخير [1] كَالْمَغْلُولَةِ يَدُهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَدِّهَا، وَلا تَبْسُطْها، بِالْعَطَاءِ، كُلَّ الْبَسْطِ، فَتُعْطِيَ جَمِيعَ مَا عِنْدَكَ، فَتَقْعُدَ مَلُوماً، يَلُومُكَ سَائِلُوكَ بِالْإِمْسَاكِ إذا لم تعطهم، والملوم الَّذِي أَتَى بِمَا يَلُومُ نَفْسَهُ أَوْ يَلُومُهُ [2] غَيْرُهُ، مَحْسُوراً مُنْقَطِعًا لَا شَيْءَ عِنْدَكَ تُنْفِقُهُ. يُقَالُ: حَسَرْتُهُ بِالْمَسْأَلَةِ إِذَا أَلْحَفْتُ عَلَيْهِ، وَدَابَّةٌ حَسِيرَةٌ إِذَا كَانَتْ كَالَّةً رازحة. وقال قَتَادَةُ مَحْسُوراً نَادِمًا عَلَى مَا فرط منك.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 30 الى 33]
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ، يُوسِعُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، أَيْ: يُقَتِّرُ وَيُضَيِّقُ، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، فَقْرٍ، نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَئِدُونَ بَنَاتَهُمْ خَشْيَةَ الْفَاقَةِ فَنُهُوا عَنْهُ، وَأُخْبِرُوا أَنَّ رِزْقَهُمْ وَرِزْقَ أَوْلَادِهِمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ [3] وَأَبُو جَعْفَرٍ خِطْأً بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالطَّاءِ مَقْصُورًا. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ الْخَاءِ مَمْدُودًا وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الْخَاءِ وَجَزْمِ الطَّاءِ وَمَعْنَى الْكُلِّ وَاحِدٌ، أَيْ: إِثْمًا كَبِيرًا.
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَحَقُّهَا مَا رُوِّينَا:
«1298» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِيمَانِهِ أَوْ زَنَى بَعْدَ إِحْصَانِهِ أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ فَيُقْتَلُ بِهَا» .
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً، أَيْ: قُوَّةً وَوِلَايَةً عَلَى الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَالَ الضَّحَاكُ: سُلْطَانُهُ هُوَ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ فَإِنْ شَاءَ اسْتَقَادَ مِنْهُ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ، وَإِنْ شاء عفا عنه. فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: فَلَا تُسْرِفْ بِالتَّاءِ يُخَاطِبُ وَلِيَ الْقَتِيلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَائِبِ أَيْ: لَا يسرف الولي في القتل.
__________
1298- صحيح. أخرجه أبو داود 2502 والترمذي 2158 وابن ماجه 2533 وأحمد 1/ 61 و62 و65 و70 والطيالسي 72 والشافعي 2/ 96 والدارمي 2/ 171 وابن الجارود 836 والحاكم 4/ 350 والطحاوي في «المشكل» 1802 والبيهقي 8/ 18- 19 والمصنف في «شرح السنة» 2512 من طرق حماد بن زيد عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أبي أمامة بن سهل عن عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه. وإسناده صحيح.
- وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حديث حسن.
- وله شواهد في الصحيح.
(1) في المطبوع «الحق» .
(2) في المطبوع «يلوم» .
(3) تصحف في المخطوم «عاصم» .(3/131)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْإِسْرَافِ الَّذِي منع منه ولي القتيل، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: معناه [و] لَا يَقْتُلُ غَيْرَ الْقَاتِلِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا قُتِلَ مِنْهُمْ قَتِيلٌ لَا يَرْضَوْنَ بقتل قاتله حتى يقتل أَشْرَفَ مِنْهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِذَا كَانَ الْقَاتِلُ وَاحِدًا فَلَا يَقْتُلْ جَمَاعَةً بَدَلَ وَاحِدٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ الْمَقْتُولُ شَرِيفًا لَا يَرْضَوْنَ بِقَتْلِ الْقَاتِلِ وَحْدَهُ حَتَّى يَقْتُلُوا مَعَهُ جَمَاعَةً مِنْ أَقْرِبَائِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ لَا يُمَثِّلُ بِالْقَاتِلِ.
إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً، فَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمَقْتُولِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً يَعْنِي: إِنَّ الْمَقْتُولَ مَنْصُورٌ فِي الدُّنْيَا بِإِيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى قَاتِلِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِتَكْفِيرِ خَطَايَاهُ وَإِيجَابِ النَّارِ لِقَاتِلِهِ، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى وَلِيِّ الْمَقْتُولِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَنْصُورٌ عَلَى الْقَاتِلِ بِاسْتِيفَاءِ الْقَصَاصِ مِنْهُ أَوِ الدِّيَةِ.
وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَاتِلَ الْمُعْتَدِيَ، يقول: لا يعتدي بِالْقَتْلِ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَوَلِيُّ الْمَقْتُولِ مَنْصُورٌ عليه باستيفاء القصاص منه.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 34 الى 35]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ، بِالْإِتْيَانِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْعَهْدِ مَا يَلْتَزِمُهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نفسه، إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا، وقال السُّدِّيُّ: كَانَ مَطْلُوبًا.
وَقِيلَ: الْعَهْدُ يُسْأَلُ عَنْ صَاحِبِ الْعَهْدِ، فَيُقَالُ: فِيمَا نُقِضْتَ، كَالْمَؤُودَةِ تُسْأَلُ فِيمَ قُتِلَتْ.
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ بِالْقِسْطاسِ بِكَسْرِ الْقَافِ وَالْبَاقُونَ بالضم [1] ، وهما لغتان وهو الميزان صغيرا كان أو كبيرا أَيْ: بِمِيزَانِ الْعَدْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْقَبَّانُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ رُومِيٌّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ عَرَبِيٌّ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ، أَيْ: زِنُوا بِالْعَدْلِ. الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا، أَيْ: عَاقِبَةً.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 36 الى 38]
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38)
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، قَالَ قَتَادَةُ: لَا تقل رأيت ولم تر [2] وسمعت ولم تسمع [3] وعلمت ولم تعلم [4] . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَرْمِ أَحَدًا بِمَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: لَا تُتْبِعْهُ بِالْحَدْسِ والظن. وهو
__________
(1) في المطبوع «بضمة» .
(2) في المطبوع «تره» .
(3) في المطبوع «تسمعه» .
(4) في المطبوع «تعلمه» والمثبت عن المخطوط والطبري 22309.(3/132)
فِي اللُّغَةِ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ، يُقَالُ: قَفَوْتُ فُلَانًا أَقْفُوهُ وَقَفَيْتُهُ وَأَقْفَيْتُهُ إِذَا اتَّبَعْتُ أَثَرَهُ، وَبِهِ سُمِّيَتِ القافة [1] لِتَتَبُّعِهِمُ الْآثَارَ. قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَفَا كَأَنَّهُ يَقْفُو الْأُمُورَ، أَيْ: يَكُونُ فِي إِقْفَائِهَا يَتْبَعُهَا وَيَتَعَرَّفُهَا.
وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى لَا تَتَكَلَّمْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ بِالْحَدْسِ وَالظَّنِّ. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا، قِيلَ: مَعْنَاهُ يُسْأَلُ الْمَرْءُ عَنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَفُؤَادِهِ.
وَقِيلَ: يُسْأَلُ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْفُؤَادُ عَمَّا فَعَلَهُ الْمَرْءُ. وَقَوْلُهُ: كُلُّ أُولئِكَ أَيْ كُلُّ هَذِهِ الْجَوَارِحِ وَالْأَعْضَاءِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَرْجِعُ أُولَئِكَ إِلَى أربابها.
«1299» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [2] المليحي أنا أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن الحسن أَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَامِدُ بْنُ محمد الرّفّاء ثنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ العزيز أنا الفضل بن دكين ثنا [3] سَعْدُ بْنُ أَوْسٍ الْعَبْسِيُّ حَدَّثَنِي بِلَالُ بْنُ يَحْيَى الْعَبْسِيُّ أَنَّ شُتَيْرَ بْنَ شَكَلٍ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ شَكَلِ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ علمني تعويذا أتعوذ به، قال: فَأَخَذَ بِيَدِي ثُمَّ قَالَ: «قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ شَرِّ سَمْعِي وَشَرِّ بَصَرِي وَشَرِّ لساني وشرّ قلبي وشرّ منيّتي» قال: فحفظتها، قال سعد [4] : والمني مَاؤُهُ.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً، أَيْ بَطَرًا وَكِبْرًا وَخُيَلَاءَ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْمَشْيِ فَلِذَلِكَ أَخْرَجَهُ عَلَى الْمَصْدَرِ، إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ، أَيْ: لَنْ تَقْطَعَهَا بِكِبْرِكَ حَتَّى تَبْلُغَ آخِرَهَا، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أَيْ: لَا تَقْدِرُ أَنْ تُطَاوِلَ الْجِبَالَ وَتُسَاوِيَهَا بِكِبْرِكَ، مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنَالُ بِكِبْرِهِ وَبَطَرِهِ شَيْئًا كَمَنْ يُرِيدُ خَرْقَ الْأَرْضِ وَمُطَاوَلَةَ الْجِبَالِ لَا يَحْصُلُ عَلَى شَيْءٍ. وَقِيلَ: ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ مَشَى مُخْتَالًا يمشي مرة على عقبه وَمَرَّةً عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ لَنْ تَنْقُبَ الْأَرْضَ إِنْ مَشَيْتَ عَلَى عَقِبَيْكَ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا إِنْ مَشَيْتَ عَلَى صُدُورِ قَدَمَيْكَ.
«1300» أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِيُّ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ أَنَا أبو
__________
1299- إسناده حسن، رجاله ثقات- وهو في «شرح السنة» 1363 بهذا الإسناد.
- وأخرجه النسائي 8/ 259 من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين به.
- وأخرجه أبو داود 1551 والترمذي 3487 والنسائي 8/ 256- 260 وأحمد 3/ 429 والحاكم 1/ 533 من طرق عن سعد بن أوس به، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حسن غريب.
1300- صحيح بطرقه. إسناده ضعيف لضعف سفيان بن وكيع، وفي الإسناد المسعودي وهو صدوق لكنه اختلط، وكلاهما قد توبع.
- وكيع هو ابن الجراح، الْمَسْعُودِيُّ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مسعود.
- وهو في «شرح السنة» 3646 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق الترمذي، وهو في «سننه» بإثر 3637 عن ابن وكيع بهذا الإسناد مطوّلا، وقال الترمذي: حسن صحيح. كذا صححه المصنف في «شرح السنة» .
- وأخرجه أحمد 1/ 96 وأبو الشيخ في «أخلاق النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» 214 من طريق وكيع به.
(1) في المطبوع وط «القافية» وفي المخطوط «القامة» ، والمثبت عن القرطبي 10/ 258 وفي الطبري 22314 «القيافة اتباع الأثر» .
(2) زيادة عن المخطوط.
3 تصحف في المطبوع «سعيد» .
4 تصحف في المطبوع «سعيد» . [.....](3/133)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ ثَنَا أَبُو عيسى الترمذي ثنا سفيان بن وكيع ثنا أَبِي عَنِ الْمَسْعُودِيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مَطْعَمٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَشَى يَتَكَفَّأُ تَكَفُّؤًا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ.
«1301» أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ [عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ] [1] الْجَوْزَجَانِيُّ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الخزاعي أنا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ [2] ثَنَا أَبُو عيسى الترمذي ثنا قتيبة بن سعيد ثنا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي يُونُسَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: [مَا] [3] رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي مَشْيِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، إِنَّا لِنُجْهِدُ أَنْفُسَنَا وَإِنَّهُ لَغَيْرُ مُكْتَرِثٍ.
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَضَمِّ الْهَاءِ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَمَعْنَاهُ كُلُّ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23] كانَ سَيِّئُهُ أَيْ: سَيِّئُ مَا عَدَدْنَا عَلَيْكَ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا لأن فيما عددنا أُمُورًا حَسَنَةً كَقَوْلِهِ: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ [الإسراء: 26] وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ [الإسراء: 24] وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ سَيِّئَةً مَنْصُوبَةً مُنَوَّنَةً يَعْنِي: كُلُّ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ سَيِّئَةٌ لَا حَسَنَةَ فِيهِ، إِذِ الْكُلُّ يَرْجِعُ إِلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَمْ يَقُلْ مَكْرُوهَةً لِأَنَّ فيه تقديما وتأخيرا تقديره وكل ذَلِكَ كَانَ مَكْرُوهًا سَيِّئَةً.
وَقَوْلُهُ: مَكْرُوهاً عَلَى التَّكْرِيرِ لَا عَلَى الصِّفَةِ مَجَازُهُ كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سيئة وكان مكروها، وراجع إِلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، لِأَنَّ السيئة الذنب وهو مذكر.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 39 الى 43]
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43)
__________
- أخرجه أحمد 1/ 127 من طريق المسعودي به.
- وأخرجه أحمد 1/ 116 و117 و134 من طرق عن نافع به.
- أخرجه أحمد 1/ 89 و101 وأبو يعلى 370 من رواية ابن الحنفية عن علي بنحوه.
- الخلاصة: هو حديث صحيح بمجموع طرقه.
1301- إسناده ضعيف، مداره على ابن لهيعة، وهو ضعيف الحديث.
- ابن لهيعة هو عبد الله، أبو يونس هو سليم بن جبير مولى أبي هريرة.
- وهو في «شرح السنة» 3543 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق الترمذي، وهو في «سننه» 3648 وفي «الشمائل» 115 عن قتيبة به.
- وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
- وأخرجه أحمد 2/ 380 من طريق قتيبة به.
- وأخرجه أحمد 2/ 350 وأبو الشيخ 779 من طريقين عن ابن لهيعة به.
- والحديث ضعيف بهذا اللفظ، وانظر «ضعيف سنن الترمذي» 750.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) تصحف في المطبوع «كليم» .
(3) سقط من المطبوع.(3/134)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
ذلِكَ، الذي ذكر [1] ، مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ، وَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ به أو نهى الله عَنْهُ فَهُوَ حِكْمَةٌ. وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، خَاطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْأُمَّةُ، فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً، مَطْرُودًا مُبْعَدًا مِنْ كُلِّ خير.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ، أَيِ: اخْتَارَكُمْ فَجَعَلَ لَكُمُ الصَّفْوَةَ وَلِنَفْسِهِ مَا لَيْسَ بِصَفْوَةٍ، يَعْنِي اخْتَارَكُمْ، بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً، يخاطب مشركي مكة.
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ، يعني الْعِبَرِ [2] وَالْحِكَمِ وَالْأَمْثَالِ وَالْأَحْكَامِ وَالْحُجَجِ وَالْإِعْلَامِ [وَالتَّشْدِيدِ] [3] لِلتَّكْثِيرِ [4] وَالتَّكْرِيرِ، لِيَذَّكَّرُوا أَيْ: لِيَتَذَكَّرُوا وَيَتَّعِظُوا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِإِسْكَانِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ وَكَذَلِكَ فِي الْفُرْقَانِ. وَما يَزِيدُهُمْ، تصريفنا وتذكيرنا وتكريرنا، إِلَّا نُفُوراً، ذَهَابًا وَتَبَاعُدًا عَنِ الْحَقِّ.
قُلْ، يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ، قَرَأَ حَفْصٌ وَابْنُ كَثِيرٍ يَقُولُونَ بِالْيَاءِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، إِذاً لَابْتَغَوْا، لَطَلَبُوا يَعْنِي الْآلِهَةَ إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا، للمغالبة [5] والقهر ليزيلوا ملكه [ويضادوا ما يفعله من الإيجاد والإعدام] [6] ، كَفِعْلِ مُلُوكِ الدُّنْيَا بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَطَلَبُوا إِلَى ذِي العرش سبيلا [طريقا] [7] بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ. قَالَ قَتَادَةُ: لَعَرَفُوا الله بفضله وَابْتَغَوْا مَا يُقَرِّبُهُمْ إِلَيْهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ. فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ تقولون بالتاء [وقرأ] [8] الآخرون بالياء، عُلُوًّا كَبِيراً.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 44 الى 46]
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ «تُسَبِّحُ» بِالتَّاءِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ لِلْحَائِلِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّأْنِيثِ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ حَيٍّ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّامِيَاتِ [9] ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الشَّجَرَةُ تسبح والأسطوانة [10] تُسَبِّحُ. وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكرب قال: إن
__________
(1) في المطبوع «ذكرناه» .
(2) في المطبوع «الصبر» .
(3) زيد في المطبوع وط.
(4) في المخطوط «والتفكير» .
(5) في المطبوع «بالمبالغة» وكذا وط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) زيادة عن المخطوط.
(9) في المخطوط «النابتات» . [.....]
(10) زيد في المطبوع وط «لا» والمثبت عن المخطوط والطبري 23727.(3/135)
التُّرَابَ يُسَبِّحُ مَا لَمْ يَبْتَلَّ، فَإِذَا ابْتَلَّ تَرَكَ التَّسْبِيحَ، وَإِنَّ الخرزة لتسبح مَا لَمْ تُرْفَعْ مِنْ مَوْضِعِهَا، فَإِذَا رُفِعَتْ تَرَكَتِ التَّسْبِيحَ، وَإِنَّ الْوَرَقَةَ لَتُسَّبِحُ مَا دَامَتْ عَلَى الشَّجَرَةِ فَإِذَا سَقَطَتْ تَرَكَتِ التَّسْبِيحَ، وَإِنَّ الثَّوْبَ لَيُسَّبِحُ مَا دَامَ جَدِيدًا فَإِذَا وَسِخَ تَرَكَ التَّسْبِيحَ، وَإِنَّ الْمَاءَ يُسَبِّحُ مَا دَامَ جَارِيًا فَإِذَا رَكَدَ تَرَكَ التَّسْبِيحَ، وإن الوحش [1] تُسَبِّحُ إِذَا صَاحَتْ فَإِذَا سَكَنَتْ تَرَكَتِ التَّسْبِيحَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ جَمَادٍ [2] إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ حَتَّى صَرِيرُ الْبَابِ وَنَقِيضُ السَّقْفِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ الْأَشْيَاءِ تُسَبِّحُ لِلَّهِ حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا أَوْ جَمَادًا وَتَسْبِيحُهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ.
«1302» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [3] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا مُحَمَّدُ بن المثنى أنا أبو أحمد الزبيري [4] أنا إِسْرَائِيلُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الْآيَاتِ بَرَكَةً وَأَنْتُمْ تَعُدُّونَهَا تَخْوِيفًا، كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَقَلَّ الْمَاءُ فَقَالَ: «اطْلُبُوا فَضْلَةً مِنْ مَاءٍ» فجاؤوا بِإِنَاءٍ فِيهِ مَاءٌ قَلِيلٌ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ قَالَ: «حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ وَالْبَرَكَةِ مِنَ اللَّهِ» فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ [بَيْنِ] [5] أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ وَهُوَ يُؤْكَلُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ المعاني: تسبيح السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجَمَادَاتُ وَسَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ سوى العقلاء ما دامت تدل بِلَطِيفِ تَرْكِيبِهَا وَعَجِيبِ هَيْئَتِهَا عَلَى خَالِقِهَا، فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّسْبِيحِ مِنْهَا. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ السلف، واعلم أن الله تعالى [أودع] [6] عِلْمًا فِي الْجَمَادَاتِ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُوكَلَ عِلْمُهُ إِلَيْهِ. وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، أَيْ لَا تَعْلَمُونَ تَسْبِيحَ مَا عَدَا مَنْ يُسَبِّحُ بِلُغَاتِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً.
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) ، يَحْجُبُ قُلُوبَهُمْ عَنْ فَهْمِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ. قَالَ قَتَادَةُ: وهو الْأَكِنَّةُ، وَالْمَسْتُورُ بِمَعْنَى السَّاتِرِ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مَرْيَمَ: 61]
__________
1302- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- أبو أحمد الزبيري مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير بن عمر بن درهم الأسدي، إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، منصور بن المعتمر، إبراهيم بن يزيد النخعي، علقمة بن الأسود.
- وهو في «شرح السنة» 3607 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 3579 عن ابن المثنى به.
- وأخرجه الترمذي 3633 وأحمد 1/ 460 والدارمي 1/ 14- 15 وأبو نعيم في «الدلائل» 312 وابن أبي شيبة 11/ 474 والبيهقي في «الإعتقاد» ص 272 من طرق عن إسرائيل به.
- وأخرجه النسائي 1/ 60- 61 وابن حبان 6540 والبيهقي في «الدلائل» 4/ 129- 130 من طريق عبد الرزاق عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إبراهيم به.
- وأخرجه الدارمي 1/ 15 وأبو نعيم في «الدلائل» 311 من طريق عمارة بن زريق عن الأعمش به.
(1) زيد في المطبوع وط «الطير» .
(2) في المخطوط «جمادي» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «الزبير» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) سقط من المطبوع.(3/136)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
مفعول بمعنى الفاعل. وقيل: مستورا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ فَلَا يَرَوْنَهُ. وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالْحِجَابِ عَنِ الْأَعْيُنِ الظَّاهِرَةِ.
«1303» كَمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] جَاءَتِ امْرَأَةُ أَبِي لَهَبٍ وَمَعَهَا حَجَرٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَلَمْ تَرَهُ، فَقَالَتْ لِأَبِي بَكْرٍ أَيْنَ صَاحِبُكَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ هَجَانِي؟
فقال: والله ما ينطق عن الهوى ولا يَنْطِقُ بِالشِّعْرِ وَلَا يَقُولُهُ، فَرَجَعَتْ وَهِيَ تَقُولُ قَدْ كُنْتُ جِئْتُ بِهَذَا الْحَجَرِ لِأَرْضَخَ رَأْسَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا رَأَتْكَ يَا رسول الله، قال: «لا يَزَلْ مَلَكٌ بَيْنِي وَبَيْنَهَا يَسْتُرُنِي» .
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً، أَغْطِيَةً، أَنْ يَفْقَهُوهُ، كراهية أن يفقهوا. وقيل: لئلا يفقهوا، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً، ثِقْلًا لِئَلَّا يَسْمَعُوهُ [1] . وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ، يَعْنِي إِذَا قُلْتَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَنْتَ تَتْلُوهُ، وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً، جَمْعُ نَافِرٍ مِثْلِ قَاعِدٍ وَقُعُودٍ وَجَالِسٍ وَجُلُوسٍ، أَيْ نافرين.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 47 الى 51]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ، قِيلَ: بِهِ صِلَةٌ أَيْ: يَطْلُبُونَ سَمَاعَهُ [2] ، إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، وَأَنْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، وَإِذْ هُمْ نَجْوى، يتناجون في أمرك. وقيل: ذووا نجوى، فبعضهم يقول هو مَجْنُونٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ كَاهِنٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ سَاحِرٌ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ شَاعِرٌ. إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ، يَعْنِي الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَأَصْحَابَهُ، إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً، مَطْبُوبًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَخْدُوعًا. وَقِيلَ: مَصْرُوفًا عَنِ الْحَقِّ.
يُقَالُ: مَا سَحَرَكَ عَنْ كذا أي ما صرفك عنه؟ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ رَجُلًا لَهُ سَحْرٌ، وَالسَّحْرُ الرِّئَةُ أَيْ إنه بشر مثلكم تغذى معللا بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ. قَالَ الشاعر:
أرانا [3] موضعين لأمر غيب ... ونسحر [4] بالطعام وبالشراب
__________
1303- حسن بشواهده. أخرجه أبو يعلى 25 وابن حبان 6511 والبزار 2294 من حديث ابن عباس.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 11529 وقال: قال البزار إسناده حسن، مع أن فيه عطاء بن السائب اختلط هـ.
- وحسنه الحافظ في «الفتح» 8/ 738.
- وأخرجه الحاكم 2/ 526 من حديث زيد بن أرقم وأعله الحاكم بالإرسال، ووافقه الذهبي.
- وأخرجه الحميدي 323 والحاكم 2/ 361 والواحدي في «الوسيط» 3/ 110 من حديث أسماء وصححه، ووافقه الذهبي مع أن في إسناده ابن تدرس، وهو مجهول.
- وللحديث شواهد ضعيفة لكن تتأيد بمجموعها، ويعلم أن للحديث أصلا، والله أعلم. وقد صححه الشيخ شعيب في «الإحسان» .
(1) في المخطوط «يسمعوا» .
(2) في المطبوع «سمعه» .
(3) تصحف في المطبوع «أرنا» .
(4) في المطبوع «ويسحر» .(3/137)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
أي: يغذي ويعلل.
انْظُرْ، يَا مُحَمَّدُ، كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ، الأشباه، فقالوا شَاعِرٌ وَسَاحِرٌ وَكَاهِنٌ وَمَجْنُونٌ، فَضَلُّوا، فَحَارُوا وَحَادُوا، فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أَيْ: وُصُولًا إِلَى طَرِيقِ الْحَقِّ.
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً بعد الموت، قَالَ مُجَاهِدٌ: تُرَابًا. وَقِيلَ: حُطَامًا. والرفات: كل ما يكسر ويبلى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ كَالْفُتَاتِ وَالْحُطَامِ.
أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً.
قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً، فِي الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ، وَلَيْسَ هَذَا بِأَمْرِ إِلْزَامٍ بَلْ هُوَ أَمْرُ تَعْجِيزٍ، أَيِ: اسْتَشْعِرُوا فِي قُلُوبِكُمْ أَنَّكُمْ حِجَارَةٌ أَوْ حَدِيدٌ فِي الْقُوَّةِ.
أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ، قِيلَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ الْمَوْتُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ ابْنِ آدَمَ شَيْءٌ أَكْبَرُ مِنَ الْمَوْتِ، أَيْ: ولو كُنْتُمُ الْمَوْتَ بِعَيْنِهِ لَأُمِيتَنَّكُمْ وَلَأَبْعَثَنَّكُمْ، فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا، مَنْ يَبْعَثُنَا بَعْدَ الْمَوْتِ، قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ، خَلَقَكُمْ، أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْإِنْشَاءِ قَدَرَ عَلَى الْإِعَادَةِ، فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ، أَيْ: يُحَرِّكُونَهَا إِذَا قُلْتَ لَهُمْ ذَلِكَ مُسْتَهْزِئِينَ بِهَا، وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ، أَيِ: الْبَعْثُ وَالْقِيَامَةُ، قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً، أَيْ: هُوَ قَرِيبٌ، لِأَنَّ عَسَى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [الأحزاب: 63] .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 52 الى 55]
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ مِنْ قُبُورِكُمْ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِأَمْرِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِطَاعَتِهِ. وَقِيلَ: مُقِرِّينَ بِأَنَّهُ خَالِقُهُمْ وَبَاعِثُهُمْ وَيَحْمَدُونَهُ حِينَ [1] لَا يَنْفَعُهُمُ الْحَمْدُ. وَقِيلَ: هَذَا خِطَابٌ مَعَ المؤمنين فإنهم يبعثون حامدين [له] [2] وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ، فِي الدُّنْيَا أو في الْقُبُورِ، إِلَّا قَلِيلًا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لو مكث أوفا من السنين في الدنيا أو في القبور عَدَّ ذَلِكَ قَلِيلًا فِي مُدَّةِ الْقِيَامَةِ وَالْخُلُودِ. قَالَ قَتَادَةُ: يَسْتَحْقِرُونَ مُدَّةَ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُؤْذُونَ الْمُسْلِمِينَ فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا لِلْكَافِرِينَ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَلَا يُكَافِئُوهُمْ بِسَفَهِهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ: يَقُولُ لَهُ يَهْدِيكَ اللَّهُ.
وَكَانَ هَذَا قَبْلَ الْإِذْنِ فِي الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] [3] شَتَمَهُ بَعْضُ الْكُفَّارِ فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِالْعَفْوِ.
وَقِيلَ: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقُولُوا وَيَفْعَلُوا الَّتِي هِيَ أحسن أي: الخصلة [4] الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَقِيلَ:
الْأَحْسَنُ: كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ، أَيْ: يُفْسِدُ وَيُلْقِي الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ،
__________
(1) تصحف في المطبوع «حتى» . [.....]
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع وط «الخلة» .(3/138)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً، ظَاهِرَ الْعَدَاوَةِ.
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ، يُوَفِّقْكُمْ لتؤمنوا [فيثيبكم على الإيمان] [1] ، أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ، يُمِيتُكُمْ عَلَى الشِّرْكِ فَتُعَذَّبُوا، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ فَيُنْجِيكُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَإِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ فَيُسَلِّطَهُمْ عَلَيْكُمْ، وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا حَفِيظًا وَكَفِيلًا. قِيلَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ.
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ: رَبُّكَ الْعَالِمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَجَعَلَهُمْ مُخْتَلِفِينَ في صورهم وأخلاقهم وأحوالهم وما لهم [2] ، وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ، قِيلَ جَعَلَ أَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مُخْتَلِفِينَ كَمَا فَضَّلَ بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ. قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَكَلَّمَ [3] مُوسَى تَكْلِيمًا وَقَالَ لِعِيسَى كُنْ فَيَكُونُ، وَآتَى سُلَيْمَانَ مُلْكًا [4] لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَآتَى دَاوُدَ زَبُورًا كَمَا قَالَ: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً، وَالزَّبُورُ كِتَابٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ دَاوُدَ يَشْتَمِلُ عَلَى مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سُورَةً كُلُّهَا دُعَاءٌ وَتَمْجِيدٌ وَثَنَاءٌ عَلَى الله عزّ وجلّ، ليس فِيهَا حَرَامٌ وَلَا حَلَالٌ وَلَا فرائض ولا حدود، ومعناه:
إِنَّكُمْ لَمْ تُنْكِرُوا تَفْضِيلَ النَّبِيِّينَ فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ فَضْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِعْطَاءَهُ الْقُرْآنَ؟ وَهَذَا خِطَابٌ مَعَ مَنْ يُقِرُّ بِتَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ أهل الكتاب وغيرهم.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 57]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَصَابَهُمْ قَحْطٌ شَدِيدٌ حَتَّى أَكَلُوا الْكِلَابَ وَالْجِيَفَ فَاسْتَغَاثُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَدْعُوَ لَهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلِ لِلْمُشْرِكِينَ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ، الْقَحْطِ وَالْجُوعِ، عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا، إِلَى غَيْرِكُمْ أَوْ تَحْوِيلَ الْحَالِ مِنَ الْعُسْرِ إِلَى الْيُسْرِ.
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ، يَعْنِي الَّذِينَ يَدْعُونَهُمُ المشركون آلهة [و] يَعْبُدُونَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: هم عِيسَى وَأُمُّهُ وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ، يَبْتَغُونَ أَيْ يَطْلُبُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ، أَيِ: الْقُرْبَةَ. وقيل: الوسيلة الدرجة [أَيْ: يَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ فِي طَلَبِ الدَّرَجَةِ] [5] الْعُلْيَا. وَقِيلَ: الْوَسِيلَةُ كُلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَوْلُهُ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ، مَعْنَاهُ يَنْظُرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ فَيَتَوَسَّلُونَ بِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيُّهُمْ أَقْرَبُ يَبْتَغِي الْوَسِيلَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ، جَنَّتَهُ، وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً، أَيْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْحَذَرُ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي نَفَرٍ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ فَأَسْلَمَ الْجِنِّيُّونَ وَلَمْ يَعْلَمِ الْإِنْسُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ بِإِسْلَامِهِمْ، فَتَمْسَّكُوا بِعِبَادَتِهِمْ فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «الذين تدعون» بالتاء.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) تصحف في المطبوع «ملكهم» .
(3) زيد في المطبوع «الله» .
(4) زيد في المطبوع «عظيما» .
(5) زيد في المطبوع وط.(3/139)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 58 الى 60]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ وَمَا مِنْ قَرْيَةٍ، إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ، أي: مخربوها ومهلكو أَهْلَهَا، أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً، بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ إِذَا كَفَرُوا وَعَصَوْا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: مُهْلِكُوهَا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِمَاتَةِ وَمُعَذِّبُوهَا فِي حَقِّ الْكُفَّارِ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ أذن الله في إهلاكها. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ، فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، مَسْطُوراً، مَكْتُوبًا.
«1304» قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ الله القلم فقال [له] [1] اكتب، قال: مَا أَكْتُبُ؟ قَالَ الْقَدَرُ، وَمَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأبد» .
قوله: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ.
«1305» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ [رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] [2] أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا وَأَنْ يُنَحِّيَ الْجِبَالَ عَنْهُمْ فَيَزْرَعُوا فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أَسَتَأْنِيَ بِهِمْ فَعَلْتُ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ أُوتِيهِمْ مَا سَأَلُوا فَعَلْتُ، فَإِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا أَهْلَكْتُهُمْ كَمَا أَهْلَكْتُ من كان قبلهم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا بَلْ تَسْتَأْنِي بِهِمْ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ. الَّتِي سَأَلَهَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ فَأَهْلَكْنَاهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُؤَمِنْ قَوْمُكَ بَعْدَ إِرْسَالِ الآيات أهلكناهم، لأن من شأننا فِي الْأُمَمِ إِذَا سَأَلُوا الْآيَاتِ ثم لم يؤمنوا
__________
1304- جيد. أخرجه أبو داود 4700 من طريق أبي حفصة عن عبادة بن الصامت مرفوعا.
- وأخرجه الترمذي 2155 وأحمد 5/ 317 من طريق الوليد بن عبادة عن أبيه مرفوعا، مع اختلاف يسير فيه.
- وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
- وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه أبو يعلى 2329 والبيهقي 9/ 3 وفي «الأسماء والصفات» وإسناده حسن في الشواهد.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 190 من حديث ابن عباس وقال: رواه البزار، ورجاله ثقات اهـ.
- وله شاهد آخر من حديث أبي هريرة أخرجه الآجري في «الشريعة» 168 وإسناده ضعيف، لضعف الحسن بن يحيى الخشني.
1305- إسناده قوي، أخرجه النسائي في «التفسير» 310 وأحمد 1/ 258 والبري 22398 والحاكم 2/ 362 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 371 والواحدي في «أسباب النزول» 579 من طرق عن جرير عن الأعمش عن جعفر بن إياس عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابن عباس به، وإسناده حسن صحيح.
- وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
- وأخرجه البزار 2224 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 272 من حديث سلمة بن كهيل عن عمران السلمي عن ابن عباس به.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 50 وقال: ورجال الروايتين رجال الصحيح ... اهـ.
- وصححه أحمد شاكر في «المسند» 2333.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) سقط من المخطوط.(3/140)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
بَعْدَ إِتْيَانِهَا أَنْ نُهْلِكَهُمْ وَلَا نمهلهم، وقد حكمنا بإمهال هذه الأمة في العذاب، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (64) [الْقَمَرِ: 46] ، ثُمَّ قَالَ: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً، مضيئة مبينة [1] ، فَظَلَمُوا بِها، أَيْ: جَحَدُوا بِهَا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا قَالَ: بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ [الْأَعْرَافِ: 9] ، أَيْ: يَجْحَدُونَ. وَقِيلَ: ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَكْذِيبِهَا يُرِيدُ فَعَاجَلْنَاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ. وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ أَيِ: الْعِبَرِ وَالدَّلَالَاتِ، إِلَّا تَخْوِيفاً، لِلْعِبَادِ لِيُؤْمِنُوا قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخَوِّفُ النَّاسَ بِمَا شَاءَ مِنْ آيَاتِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ، أَيْ: هُمْ فِي قَبْضَتِهِ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْ مَشِيئَتِهِ فَهُوَ حَافِظُكَ وَمَانِعُكَ مِنْهُمْ فَلَا تَهَبْهُمْ وَامْضِ إلى ما أمر الله بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، كَمَا قَالَ:
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [الْمَائِدَةِ: 67] ، وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ مِنَ الْعَجَائِبِ وَالْآيَاتِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ أُرِيَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَمَسْرُوقٍ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَالْأَكْثَرِينَ.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: رَأَيْتُ بِعَيْنِي رُؤْيَةً وَرُؤْيَا، فَلَمَّا ذَكَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنَّاسِ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ، وَكَذَّبُوا وكان فِتْنَةً لِلنَّاسِ. وَقَالَ قَوْمٌ: أُسْرِيَ بِرُوحِهِ دُونَ بَدَنِهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كان له معراجان رُؤْيَةٍ بِالْعَيْنِ وَمِعْرَاجُ رُؤْيَا بِالْقَلْبِ، وَقَالَ قَوْمٌ: أَرَادَ بِهَذِهِ الرُّؤْيَا مَا رَأَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ دَخَلَ مكة هو وأصحابه فجعل السَّيْرَ إِلَى مَكَّةَ قَبْلَ الْأَجَلِ فَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَ رُجُوعُهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ بعد ما أَخْبَرَ أَنَّهُ يَدْخُلُهَا [2] فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ، حَتَّى دَخَلَهَا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الْفَتْحِ: 27] ، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، يَعْنِي شَجَرَةَ الزَّقُّومِ، مَجَازُهُ وَالشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْقُرْآنِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ طَعَامٍ كَرِيهٍ: طَعَامٌ مَلْعُونٌ. وقيل: معناه الملعون أهلها [3] ، وَنُصِبَ الشَّجَرَةُ عَطْفًا عَلَى الرُّؤْيَا، أَيْ: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، فَكَانَتِ الْفِتْنَةُ فِي الرُّؤْيَا مَا ذَكَرْنَا، وَالْفِتْنَةُ فِي الشَّجَرَةِ الْمَلْعُونَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ: إِنَّ ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ يُوعِدُكُمْ بِنَارٍ تُحْرِقُ الْحِجَارَةَ ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَنْبُتُ فِيهَا شَجَرَةٌ، وَتَعْلَمُونَ أَنَّ النَّارَ تحرق الشجر.
وَالثَّانِي: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزِّبَعْرَى قَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُخَوِّفُنَا بِالزَّقُّومِ وَلَا نَعْرِفُ الزَّقُّومَ إِلَّا الزُّبْدَ وَالتَّمْرَ.
وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا جَارِيَةُ تَعَالِي فَزَقِّمِينَا فَأَتَتْ بِالتَّمْرِ وَالزُّبْدِ، فَقَالَ: يَا قَوْمُ تَزَقَّمُوا فَإِنَّ هَذَا مَا يُخَوِّفُكُمْ بِهِ مُحَمَّدٌ، فَوَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّافَّاتِ [62] . وَقِيلَ: الشَّجَرَةُ الْمَلْعُونَةُ هِيَ الَّتِي تَلْتَوِي عَلَى الشَّجَرِ فتخنقه [4] ، يَعْنِي الْكَشُوثَ، وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ، التَّخْوِيفُ، إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً أَيْ: تمردا وعتوا عظيما في قوله عزّ وجلّ:
[سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 63]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63)
__________
(1) في المطبوع «بينة» .
(2) زيد في المطبوع «فكان رجوعه» . [.....]
(3) في المطبوع وط «أكلها» .
(4) في المخطوط وط «فتجففه» .(3/141)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً أَيْ: خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أَنَا جِئْتُ بِهِ، وَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ إِبْلِيسَ حَتَّى أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابِ الأرض من عذبها ومالحها فَخَلَقَ مِنْهُ آدَمَ، فَمَنْ خَلَقَهُ من العذاب فَهُوَ سَعِيدٌ وَإِنْ كَانَ ابْنَ كافرين، ومن خلقه من المالح [1] فَهُوَ شَقِيٌّ وَإِنْ كَانَ ابْنَ مؤمنين [2] .
قالَ، يَعْنِي إِبْلِيسُ، أَرَأَيْتَكَ أَيْ أَخْبِرْنِي وَالْكَافُ لِتَأْكِيدِ الْمُخَاطَبَةِ، هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أَيْ: فَضَّلْتَهُ عَلَيَّ: لَئِنْ أَخَّرْتَنِ أَمْهَلْتَنِي إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أَيْ: لَأَسْتَأْصِلَنَّهُمْ بِالْإِضْلَالِ، يُقَالُ احْتَنَكَ الْجَرَادُ الزَّرْعَ إِذَا أَكَلَهُ كُلَّهُ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ حَنَّكَ الدَّابَّةَ يُحَنِّكُهَا [3] إِذَا شَدَّ فِي حنكها الأسفل حبلا يقودها [به] [4] ، أَيْ لَأَقُودَنَّهُمْ كَيْفَ شِئْتُ. وَقِيلَ: لَأَسْتَوْلِيَنَّ عَلَيْهِمْ بِالْإِغْوَاءِ، إِلَّا قَلِيلًا، يَعْنِي الْمَعْصُومِينَ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الْحِجْرِ: 42] .
قالَ اللَّهُ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أي: جزاءك وَجَزَاءُ أَتْبَاعِكَ، جَزاءً مَوْفُوراً، وَافِرًا مكملا، تقول [5] : وفرته أوفره وفرا.
[سورة الإسراء (17) : آية 64]
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64)
وقوله: وَاسْتَفْزِزْ [أي] [6] استخفف [واستزل] [7] وَاسْتَجْهِدْ [8] مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ، أَيْ: مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، بِصَوْتِكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: بِدُعَائِكَ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكُلُّ دَاعٍ إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَاهُ ادْعُهُمْ دعاء تستفزهم به إلى إجابتك [9] ، أَيْ: تَسْتَخِفُّهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
بِالْغِنَاءِ وَالْمَزَامِيرِ، وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، قِيلَ: اجْمَعْ عَلَيْهِمْ مَكَايِدَكَ وَخَيْلَكَ، يقال: أجلبوا وجلبوا إِذَا صَاحُوا، يَقُولُ: صِحْ بِخَيْلِكَ ورجلك واحتثهم [10] بالإغواء، [و] قَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَعِنْ عَلَيْهِمْ بِرُكْبَانِ جُنْدِكَ وَمُشَاتِهِمْ، وَالْخَيْلُ: الرُّكْبَانِ، وَالرَّجِلُ: الْمُشَاةُ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: كُلُّ رَاكِبٍ وَمَاشٍ فِي مَعَاصِي اللَّهِ فَهُوَ مِنْ جُنْدِ إِبْلِيسَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: إِنَّ لَهُ خَيْلًا وَرَجِلًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَهُوَ كُلُّ مَنْ يُقَاتِلُ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَالرَّجُلُ وَالرَّجَّالَةُ وَالرَّاجِلَةُ وَاحِدٌ، يُقَالُ: رَاجِلٌ وَرَجُلٌ مِثْلُ تَاجِرٍ وَتَجُرٍّ وراكب وركب.
__________
(1) في المطبوع «الملح» .
(2) في المطبوع «نبي» وعند الطبري 22458 «نبيين» وكذا في- ط والمثبت عن المخطوط أقرب للصواب، فليس من النساء نبي.
(3) في المطبوع «يحنك» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «يقال» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) في المخطوط «واستجهل» .
(9) في المطبوع «جانبك» .
(10) في المطبوع «وأحثهم» .(3/142)
وَقَرَأَ حَفْصٌ وَرَجِلِكَ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ، فَالْمُشَارَكَةُ فِي الْأَمْوَالِ كُلُّ مَا أُصِيبَ مِنْ حَرَامٍ أَوْ أُنْفِقَ فِي حَرَامٍ، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْحُسْنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الرِّبَا وَقَالَ قَتَادَةُ هُوَ مَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحَرِّمُونَهُ مِنَ الْأَنْعَامِ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ. وَقَالَ الضَّحَاكُ: هُوَ مَا كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِآلِهَتِهِمْ. وَأَمَّا المشاركة [1] فِي الْأَوْلَادِ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عباس: أنها الموؤدة. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَالضَّحَاكُ: هُمْ أَوْلَادُ الزِّنَا. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ أَنَّهُمْ هَوَّدُوا أَوْلَادَهُمْ وَنَصَّرُوهُمْ وَمَجَّسُوهُمْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [فِي] [2] رِوَايَةِ أُخْرَى: هُوَ تَسْمِيَتُهُمُ الْأَوْلَادَ عَبْدَ الْحَارِثِ وَعَبْدَ شَمْسٍ وَعَبْدَ الْعُزَّى وَعَبْدَ الدَّارِ وَنَحْوَهَا. وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَقْعُدُ عَلَى ذَكَرِ الرَّجُلِ فَإِذَا لَمْ يَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ أَصَابَ مَعَهُ امْرَأَتَهُ وَأَنْزَلَ فِي فَرْجِهَا كَمَا يُنْزِلُ الرَّجُلُ [3] .
«1306» وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ «إِنَّ فِيكُمْ مُغْرِبِينَ» قِيلَ: وَمَا الْمُغْرِبُونَ؟ قَالَ: «الَّذِينَ يُشَارِكُ فِيهِمُ الْجِنُّ» .
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ امْرَأَتِي اسْتَيْقَظَتْ وَفِي فَرْجِهَا شُعْلَةٌ مِنْ نَارٍ، قَالَ: ذَلِكَ مِنْ وَطْءِ الْجِنِّ [4] .
وَفِي الْآثَارِ: أَنَّ إِبْلِيسَ لَمَّا أُخْرِجَ إِلَى الْأَرْضِ، قَالَ: يَا رَبِّ أَخْرَجْتَنِي مِنَ الْجَنَّةِ لِأَجْلِ آدَمَ فَسَلِّطْنِي عَلَيْهِ وَعَلَى ذُرِّيَّتِهِ، قَالَ: أَنْتَ مُسَلَّطٌ، فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُهُ إِلَّا بِكَ فَزِدْنِي، قَالَ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ الْآيَةَ، فَقَالَ آدَمُ: يَا رَبِّ سَلَّطْتَ إِبْلِيسَ عَلَيَّ وَعَلَى ذُرِّيَّتِي وَإِنِّي لَا أَسْتَطِيعُهُ إِلَّا بِكَ، قَالَ: لَا يُولَدُ لَكَ وَلَدٌ إِلَّا وَكَّلْتُ بِهِ من يحفظه، فقال: زِدْنِي، قَالَ: الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا، قَالَ: زِدْنِي، قَالَ: التَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ مَا دَامَ الرُّوحُ فِي الْجَسَدِ، فَقَالَ: زِدْنِي، قَالَ: يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 53] الآية.
وَفِي الْخَبَرِ: أَنَّ إِبْلِيسَ قَالَ: يَا رَبِّ بَعَثْتَ أَنْبِيَاءَ وَأَنْزَلْتَ كتبا فما قرآني [5] ؟ قال: [قرآنك] [6] الشِّعْرُ، قَالَ: فَمَا كِتَابِي؟ قَالَ: الْوَشْمُ، قَالَ: وَمَنْ رُسُلِي؟ قَالَ: الْكَهَنَةُ، قَالَ: وَأَيْنَ مَسْكَنِي؟ قَالَ: الْحَمَّامَاتُ، قَالَ: وَأَيْنَ مَجْلِسِي؟ قَالَ: الأسواق، قال: فما مَطْعَمِي؟ قَالَ: مَا لَمْ يُذْكَرْ عليه اسمي [7] ، قال: ما شرابي؟
قَالَ: كُلُّ مُسْكِرٍ، قَالَ: وَمَا حِبَالِي؟ قَالَ: النِّسَاءُ، قَالَ: وَمَا أَذَانِي؟ قَالَ: الْمَزَامِيرُ [8] . قَوْلُهُ عَزَّ وجلّ:
وَعِدْهُمْ، أي: خذ [أَيْ: مَنِّهِمُ] [9] الْجَمِيلَ فِي طَاعَتِكَ. وَقِيلَ: قُلْ لَهُمْ لَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ وَلَا بَعْثَ.
وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً، وَالْغُرُورُ تَزْيِينُ الْبَاطِلِ بِمَا يُظَنُّ أَنَّهُ الحق، فإن قيل: كيف يذكر اللَّهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الْأَعْرَافِ: 28] ؟ قِيلَ: هَذَا عَلَى طَرِيقِ التهديد، كقوله
__________
1306- ضعيف جدا. أخرجه أبو داود 5107 من طريق ابن جريج عن أبيه عن أم حميد عن عائشة مرفوعا، وإسناده ضعيف جدا، والمتن شبه موضوع، أم حميد لا يعرف حالها، قاله الحافظ في «التقريب» وعبد العزيز بن جريج والد ابن جريج، لين الحديث، غير حجة، وابن جريج مدلس، وقد عنعن.
(1) في المطبوع «الشركة» . [.....]
(2) زيادة عن المخطوط.
3 هكذا ساقه تعليقا عن جعفر بن محمد وعن ابن عباس، وهو باطل لا أصل له عن ابن عباس وجعفر بن محمد.
4 هكذا ساقه تعليقا عن جعفر بن محمد وعن ابن عباس، وهو باطل لا أصل له عن ابن عباس وجعفر بن محمد.
(5) في المطبوع «قراءتي» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) العبارة في المخطوط «كل شيء لم يذكر عليه اسم الله» .
(8) هذا الأثر متلقى عن أهل الكتاب وكذا الذي قبله.
(9) العبارة في المطبوع «خذ منهم» .(3/143)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
تَعَالَى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فُصِّلَتْ: 40] ، وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ: افْعَلْ مَا شِئْتَ فسترى.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 65 الى 69]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)
قَوْلُهُ: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65) ، أَيْ حَافِظًا بمن [1] يُوكِلُ الْأَمْرَ إِلَيْهِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ أَيْ: يَسُوقُ وَيُجْرِي لَكُمُ الْفُلْكَ، فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، لِتَطْلُبُوا مِنْ رِزْقِهِ، إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً.
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ، الشِّدَّةُ وَخَوْفُ الْغَرَقِ، فِي الْبَحْرِ ضَلَّ، أَيْ: بَطَلَ وَسَقَطَ، مَنْ تَدْعُونَ، مِنَ الْآلِهَةِ، إِلَّا إِيَّاهُ، إِلَّا اللَّهُ فَلَمْ تَجِدُوا مغيثا سواه، فَلَمَّا نَجَّاكُمْ، أَجَابَ دُعَاءَكُمْ وَأَنْجَاكُمْ مِنْ هَوْلِ الْبَحْرِ وَأَخْرَجَكُمْ، إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ [أغمضتم] [2] عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ وَالطَّاعَةِ كُفْرًا مِنْكُمْ لِنِعَمِهِ، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً.
أَفَأَمِنْتُمْ، بَعْدَ ذَلِكَ، أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ، يُغَوِّرَ بِكُمْ، جانِبَ الْبَرِّ، نَاحِيَةَ الْبَرِّ وَهِيَ الْأَرْضُ، أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً، أَيْ: يُمْطِرُ عَلَيْكُمْ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ كَمَا أَمْطَرَ عَلَى قَوْمِ لُوطٍ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْقُتَيْبِيُّ: الْحَاصِبُ الرِّيحُ الَّتِي تَرْمِي بِالْحَصْبَاءِ، وَهِيَ الْحَصَا الصِّغَارُ، ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا، قال قتادة: مانعا [يمنع عنكم ما فعلنا بكم] [3] .
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ، يَعْنِي فِي الْبَحْرِ، تارَةً مَرَّةً، أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ: عَاصِفًا وَهِيَ الرِّيحُ الشَّدِيدَةُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هِيَ الرِّيحُ الَّتِي تَقْصِفُ كُلَّ شَيْءٍ، أَيْ تَدُقُّهُ وَتُحَطِّمُهُ. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: هِيَ الَّتِي تَقْصِفُ الشَّجَرَ، أَيْ تُكَسِّرُهُ، فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً، نَاصِرًا ولا ثائرا، وتبيع بِمَعْنَى تَابِعٍ أَيْ [تَابِعًا مُطَالِبًا بِالثَّأْرِ] [4] . وَقِيلَ: مَنْ يُتْبِعُنَا بِالْإِنْكَارِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو «أَنْ نَخْسِفَ، وَنُرْسِلَ، وَنُعِيدَكُمْ، فَنُرْسِلَ، فَنُغْرِقَكُمْ» ، بِالنُّونِ فِيهِنَّ، لِقَوْلِهِ عَلَيْنا وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ: إِلَّا إِيَّاهُ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ فتغرقكم بالتاء يعني الريح.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 70 الى 71]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71)
__________
(1) في المطبوع «ومن» وفي- ط «من» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) العبارة في المخطوط «طالبا للثأر» .(3/144)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ بِالْأَيْدِي وَغَيْرُ الْآدَمِيِّ يَأْكُلُ بِفِيهِ مِنَ الْأَرْضِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أنه قال: بالعقل [الذي يميز به بين الحسن والقبح] [1] .
وَقَالَ الضَّحَاكُ: بِالنُّطْقِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: بِتَعْدِيلِ الْقَامَةِ وَامْتِدَادِهَا، وَالدَّوَابُّ مُنْكَبَّةٌ عَلَى وُجُوهِهَا. وَقِيلَ:
بِحُسْنِ الصُّورَةِ. وَقِيلَ: الرِّجَالُ بِاللِّحَى وَالنِّسَاءُ بِالذَّوَائِبِ.
وَقِيلَ: بِأَنْ سَخَّرَ لَهُمْ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ. وَقِيلَ: بِأَنَّ مِنْهُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، أَيْ: حَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ عَلَى الدَّوَابِّ وَفِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، يعني:
لذيذ الطعام والشراب [2] .
قَالَ مُقَاتِلٌ: السَّمْنُ وَالزُّبْدُ وَالتَّمْرُ وَالْحَلْوَى، وَجَعَلَ رِزْقَ غَيْرِهِمْ مَا لا يخفى [عليكم من التبن والعظام وغيرها] [3] وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ فَضَّلَهُمْ على كثير من خلقه لَا عَلَى الْكُلِّ. وَقَالَ قَوْمٌ: فُضِّلُوا عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ إِلَّا عَلَى الْمَلَائِكَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فُضِّلُوا عَلَى الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ إِلَّا عَلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَمَلَكِ الْمَوْتِ، وَأَشْبَاهِهِمْ.
وَفِي تَفْضِيلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْبَشَرِ اخْتِلَافٌ، فَقَالَ قَوْمٌ: فُضِّلُوا عَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ وَعَلَى الْمَلَائِكَةِ كُلِّهِمْ، وَقَدْ يُوضَعُ الْأَكْثَرُ مَوْضِعَ الْكُلِّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) [الشعراء: 221] ، إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ [الشُّعَرَاءِ: 223] أَيْ: كُلُّهُمْ.
«1307» وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ قَالَ: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: يَا رَبُّ خَلَقْتَهُمْ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَنْكِحُونَ فَاجْعَلْ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الْآخِرَةَ، فَقَالَ تَعَالَى: «لَا أَجْعَلُ مَنْ خَلَقْتُهُ بِيَدِي وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي كَمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ فَكَانَ» . وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: عَوَامُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ مِنْ عَوَامَّ الْمَلَائِكَةِ، وَخَوَاصُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ مِنْ خَوَاصَّ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) [الْبَيِّنَةِ: 7] ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] [4] أَنَّهُ قَالَ: المؤمن من أفضل وأكرم عَلَى اللَّهِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ عنده.
قوله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: بِنَبِيِّهِمْ. وَقَالَ: أَبُو صَالِحٍ وَالضَّحَاكُ: بِكِتَابِهِمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: بِأَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ أَيْضًا: بِكِتَابِهِمُ الَّذِي فِيهِ أَعْمَالُهُمْ، بِدَلِيلِ سِيَاقِ الْآيَةِ، فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، وَيُسَمَّى الْكِتَابُ إِمَامًا كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يَس: 12] . وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: بِإِمَامِ زَمَانِهِمُ [5] الَّذِي دَعَاهُمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى ضَلَالَةٍ أَوْ هُدًى، قَالَ اللَّهُ تعالى: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً
__________
1307- ضعيف جدا. أخرجه البيهقي في «الصفات» 2/ 46 و «الشعب» 149 من حديث جابر، وإسناده ضعيف، فيه عبد ربه بن صالح، ولم أجد له ترجمة، وقال البيهقي: في ثبوته نظر، واستغربه ابن كثير 3/ 68 جدا، وهو خبر منكر، شبه موضوع.
(1) زيادة عن المخطوط. [.....]
(2) في المطبوع «المطاعم والمشارب» .
(3) زيادة عن القرطبي 10/ 295 وبها يتضح المعنى، وقد نسبه لمقاتل أيضا.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المخطوط «زمامهم» .(3/145)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72) وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
يَهْدُونَ بِأَمْرِنا، [الْأَنْبِيَاءِ: 73] وَقَالَ: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [الْقَصَصِ: 41] ، وَقِيلَ:
بِمَعْبُودِهِمْ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كُلُّ قَوْمٍ يَجْتَمِعُونَ إِلَى رَئِيسِهِمْ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: بِإِمامِهِمْ، قيل: يعني بأمهاتهم، [قيل] [1] فيه ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ مِنَ الْحِكْمَةِ أَحَدُهَا: لِأَجْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالثَّانِي لِشَرَفِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ، وَالثَّالِثِ لِئَلَّا يَفْتَضِحَ أَوْلَادُ الزِّنَا. فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أَيْ: لَا يَنْقُصُ مِنْ حَقِّهِمْ قَدْرُ فتيل.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 72 الى 76]
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76)
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى، اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْإِشَارَةِ فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى النِّعَمِ الَّتِي عَدَّدَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ إِلَى قوله: تَفْضِيلًا [الإسراء: 21 و70] يقول: ومن كَانَ مِنْكُمْ فِي هَذِهِ النِّعَمِ التي قد عاين [وشاهد] [2] أَعْمَى، فَهُوَ فِي، أَمْرِ، الْآخِرَةِ، الَّتِي لَمْ يُعَايِنْ وَلَمْ يَرَ، أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا، يُرْوَى هَذَا عن ابن عباس، وقال آخرون [3] : هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى الدُّنْيَا، يَقُولُ: مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَعْمَى الْقَلْبِ عَنْ رُؤْيَةِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرُؤْيَةِ الْحَقِّ، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى أَيْ أَشَدُّ عَمًى وَأَضَلُّ سَبِيلًا أَيْ أَخْطَأُ طَرِيقًا.
وَقِيلَ: مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا أَعْمَى عَنِ الِاعْتِبَارِ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى عَنِ الاعتذار.
وقال الحسن: ومن كَانَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ضَالًّا كَافِرًا فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا لِأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَفِي الْآخِرَةِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، وَأَمَالَ بَعْضُ الْقُرَّاءِ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ وَفَتْحَهُمَا بَعْضُهُمْ، وَكَانَ أَبُو عَمْرٍو يَكْسِرُ الْأَوَّلَ وَيَفْتَحُ الثاني [يعني] [4] فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَشَدُّ عَمًى لقوله: وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الْآيَةَ، اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِهَا.
«1308» قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فَمَنَعَتْهُ قُرَيْشٌ، وقالوا: لا ندعك حَتَّى تُلِمَّ بِآلِهَتِنَا وَتَمَسَّهَا فَحَدَّثَ نفسه [وقال] [5] : مَا عَلَيَّ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ وَاللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنِّي لَهَا كَارِهٌ بَعْدَ أَنْ يَدَعُونِي حَتَّى أستلم الحجر.
وَقِيلَ: طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَمَسَّ آلِهَتَهُمْ حَتَّى يُسَلِمُوا وَيَتَّبِعُوهُ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآية [6] .
__________
1308- مرسل ضعيف. أخرجه الطبري 22536 عن سعيد بن جبير مرسلا، ومع إرساله فيه يعقوب القمي، وشيخه جعفر بن أبي المغيرة، وكلاهما غير قوي.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «الآخرون» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) أخرجه ابن إسحاق وابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «الدر» 3/ 352 من حديث ابن عباس، وهو خبر منكر، لا يصح.(3/146)
«1309» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَدِمَ وَفْدُ ثَقِيفٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: نُبَايِعُكَ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنَا ثَلَاثَ خِصَالٍ، قَالَ: «وَمَا هُنَّ؟» قَالُوا: أَنْ لَا ننحني فِي الصَّلَاةِ وَلَا نَكْسِرُ أَصْنَامَنَا بأيدينا وأن تمتعنا باللات [والعزى] [1] سَنَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ نَعْبُدَهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا رُكُوعَ فِيهِ وَلَا سُجُودَ، وأما أن [لا] [2] تَكْسِرُوا أَصْنَامَكُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَذَاكَ لَكُمْ، وَأَمَّا الطَّاغِيَةُ يَعْنِي اللَّاتَ وَالْعُزَّى فَإِنِّي غَيْرُ مُمَتِّعِكُمْ بِهَا» ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنَّكَ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ غَيْرَنَا، فَإِنْ خَشِيتَ أَنْ تَقُولَ الْعَرَبُ أَعْطَيْتَهُمْ مَا لَمْ تُعْطِنَا، فَقُلْ: اللَّهُ أَمَرَنِي بِذَلِكَ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَمَعَ الْقَوْمُ فِي سُكُوتِهِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ لَيَصْرِفُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ، لِتَخْتَلِقَ، عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً، لَوْ فَعَلْتَ مَا دَعَوْكَ إِلَيْهِ لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أَيْ: وَالَوْكَ وَصَافَوْكَ.
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ، عَلَى الْحَقِّ بِعِصْمَتِنَا، لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ أَيْ: تَمِيلُ، إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا أَيْ: قَرِيبًا مِنَ الْفِعْلِ، فَإِنْ قِيلَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومًا فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَقْرُبَ مِمَّا طَلَبُوهُ وَمَا طَلَبُوهُ كُفْرٌ؟
قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ خَاطِرَ قَلْبٍ ولم يكن عزما وقد عفا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ.
«1310» قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: «اللَّهُمَّ لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ» . وَالْجَوَابُ الصحيح وهو: أن الله تعالى قال: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (74) وَقَدْ ثَبَّتَهُ الله فلم يركن [إليهم] [3] وهذا مثل قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا [النِّسَاءِ: 83] . [وَقَدْ تَفَضَّلَ فَلَمْ يَتَّبِعُوا] [4] .
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ، أَيْ: لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ عَذَابِ الْحَيَاةِ وَضَعْفَ عَذَابِ الْمَمَاتِ، يَعْنِي أَضْعَفْنَا لَكَ الْعَذَابَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الضِّعْفُ هُوَ الْعَذَابُ سُمِّيَ ضِعْفًا لِتَضَاعُفِ الْأَلَمِ فِيهِ. ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً، أَيْ: نَاصِرًا يَمْنَعُكَ مِنْ عَذَابِنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها، اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ.
«1311» قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ كَرِهَ الْيَهُودُ مُقَامَهُ بِالْمَدِينَةِ حسدا منهم، فأتوه وقالوا:
__________
1309- أخرجه الطبري 22540 عن ابن عباس مختصرا بإسناد فيه مجاهيل، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 581 بدون إسناد، فالخبر واه جدا بهذا اللفظ، ولفظ «لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا ركوع فيه» ورد من وجه آخر، ولعله تقدم.
1310- مرسل. أخرجه الطبري 22541 عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
1311- خبر منكر شبه موضوع، والكلبي متروك متهم ليس بأهل لأن يروى عنه.
- وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 5/ 254- 255 وابن أبي حاتم وابن عساكر كما في «الدر» 4/ 452 عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ بنحوه، وهذا مرسل، وإسناده ضعيف لضعف أحمد بن عبد الجبار.
- وقال ابن حجر في «تخريج الكشاف» 2/ 686: لم أجده، وذكره السهيلي في «الروض» عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عبد الرحمن بن غنم....» فذكره اهـ.
- قلت: الخبر منكر شبه موضوع، فالسورة مكية، والخبر مدني، وبعيد أن يصغي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لليهود، راجع «تفسير القرطبي» 6448. [.....]
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيد في المطبوع.(3/147)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
يَا أَبَا الْقَاسِمِ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَذِهِ بِأَرْضِ الْأَنْبِيَاءِ فَإِنَّ أَرْضَ الْأَنْبِيَاءِ الشَّامُ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ، وَكَانَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا مِثْلَهُمْ فَأْتِ الشَّامَ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْهَا مَخَافَتُكَ الرُّومَ، وَإِنَّ اللَّهَ سَيَمْنَعُكَ مِنَ الرُّومِ إِنْ كُنْتَ رَسُولَهُ، فَعَسْكَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ. وَفِي رِوَايَةٍ: إِلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى يَجْتَمِعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَيَخْرُجَ، فأنزل الله هذه الآيةو الْأَرْضِ هَاهُنَا هِيَ الْمَدِينَةُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: الْأَرْضُ أَرْضُ مَكَّةَ. وَالْآيَةُ مَكِّيَّةٌ، هَمَّ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُخْرِجُوهُ مِنْهَا فَكَفَّهُمُ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَمَرَهُ بِالْهِجْرَةِ، فَخَرَجَ بِنَفْسِهِ [ومعه صاحبه أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] [1] . وَهَذَا أَلْيَقُ بِالْآيَةِ لِأَنَّ مَا قَبْلَهَا خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَقِيلَ: هُمُ الْكُفَّارُ كُلُّهُمُ أَرَادُوا أَنْ يَسْتَفِزُّوهُ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ بِاجْتِمَاعِهِمْ وَتَظَاهُرِهِمْ عَلَيْهِ، فَمَنَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ ينالوا منه ما أملوه، وَالِاسْتِفْزَازُ هُوَ الْإِزْعَاجُ بِسُرْعَةٍ، وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ أَيْ: بَعْدَكَ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ «خِلَافَكَ» اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ [التَّوْبَةِ: 81] ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ.
إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: لَا يَلْبَثُونَ بِعَدَكَ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يَهْلَكُوا، فعلى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ مُدَّةُ [2] حَيَاتِهِمْ، وَعَلَى الثَّانِي مَا بَيْنَ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى أَنْ قُتِلُوا بِبَدْرٍ.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 77 الى 79]
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا أَيْ: كَسُنَّتِنَا، فَانْتَصَبَ بِحَذْفِ الْكَافِ، وَسُنَّةُ اللَّهِ فِي الرُّسُلِ إِذَا كَذَّبَتْهُمُ الْأُمَمُ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ مَا دَامَ نَبِيُّهُمْ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، فَإِذَا خَرَجَ نَبِيُّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ عَذَّبَهُمْ. وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا، أي تبديلا.
قَوْلُهُ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ، اخْتَلَفُوا فِي الدُّلُوكِ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ:
الدُّلُوكُ هُوَ الْغُرُوبُ، وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ [3] وَالضَّحَاكِ وَالسُّدِّيِّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ: هُوَ زَوَالُ الشَّمْسِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَأَكْثَرِ التَّابِعِينَ، وَمَعْنَى اللَّفْظِ يَجْمَعُهُمَا لِأَنَّ أَصْلَ الدُّلُوكِ الْمَيْلُ، وَالشَّمْسُ تَمِيلُ إِذَا زالت أو غربت، وَالْحَمْلُ عَلَى الزَّوَالِ أَوْلَى الْقَوْلَيْنِ لِكَثْرَةِ الْقَائِلِينَ بِهِ، وَلِأَنَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ كَانَتِ الْآيَةُ جَامِعَةً لِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ كُلِّهَا، فَدُلُوكُ الشَّمْسِ يتناول صلاة الظهر والعصر، وإلى غَسَقِ اللَّيْلِ يَتَنَاوَلُ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، والقرآن الْفَجْرِ هُوَ صَلَاةُ الصُّبْحِ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أَيْ: ظُهُورِ ظُلْمَتِهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بُدُوُّ اللَّيْلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، يَعْنِي صَلَاةَ الْفَجْرِ، سَمَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ قُرْآنًا لِأَنَّهَا لَا تَجُوزُ إِلَّا بقرآن، وانتصاب قرآن [4] مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى الصَّلَاةِ، أَيْ: وَأَقِمْ قُرْآنَ الْفَجْرِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَقَالَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ: عَلَى الْإِغْرَاءِ أَيْ وَعَلَيْكَ قُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً، أي: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «حده» .
(3) تصحف في المخطوط «حبان» .
(4) في المطبوع «الْقُرْآنِ» .(3/148)
«1312» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثنا أَبُو الْيَمَانِ أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيُّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمِيعِ [1] صلاة أحدكم وحده بخمسة وَعِشْرِينَ جُزْءًا وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ» ، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ أَيْ: قُمْ بَعْدَ نَوْمِكَ، وَالتَّهَجُّدُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ النَّوْمِ، يُقَالُ:
تَهَجَّدَ إِذَا قَامَ بعد ما نَامَ، وَهَجَدَ إِذَا نَامَ [2] ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ: قِيَامُ اللَّيْلِ لِلصَّلَاةِ، وَكَانَتْ صَلَاةُ اللَّيْلِ فَرِيضَةً عَلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَعَلَى الْأُمَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) [الْمُزَّمِّلِ: 1] ، ثُمَّ نَزَلَ التَّخْفِيفُ فَصَارَ الْوُجُوبُ مَنْسُوخًا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَبَقِيَ الِاسْتِحْبَابُ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [الْمُزَّمِّلِ: 20] ، وَبَقِيَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
«1313» وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرِيضَةٌ، وهنّ سنة لكم:
__________
1312- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم، أبو اليمان هو الحكم بن نافع، شعيب هو ابن أبي حمزة- دينار، الزهري هو محمد بن مسلم.
- رواه المصنف من طريق البخاري وهو في «صحيحه» 648 عن أبي اليمان بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 649 ح 246 والواحدي في «الوسيط» 3/ 121 من طريق أبي اليمان به.
- وأخرجه البخاري 4717 ومسلم 649 وعبد الرزاق 2001 وابن حبان 2051 من طريق معمر عن الزهري به.
- وأخرجه ابن أبي شيبة 2/ 480 عن علي بن مسهر عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أبي سلمة به.
- وأخرجه مالك في «الموطأ» 1291 عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بن المسيب به.
- ومن طريق مالك أخرجه مسلم 649 ح 245 والترمذي 216 والنسائي 2/ 103 وأحمد 2/ 486 وابن حبان 2053 وأبو عوانة 2/ 2 والبيهقي 3/ 60 والمصنف في «شرح السنة» 787.
- وأخرجه مسلم 649 ح 247 وأحمد 2/ 475 وأبو عوانة 2/ 2 والبيهقي 3/ 61 من طريق أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عمرو بن حزم عن الأغر عن أبي هريرة.
- وأخرجه أحمد 2/ 328 و454 و525 من طريق الأشعث بن سليم عن الأحوص عن أبي هريرة.
1313- ضعيف. أخرجه الطبراني في «الأوسط» 3290 من حديث عائشة.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 8/ 264 وقال: وفيه مُوسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الصَّنْعَانِيِّ، وهو كذاب.
- وأخرجه أحمد 1/ 231 والحاكم 1/ 300 من حديث ابن عباس، سكت عليه الحاكم، وقال الذهبي: هو غريب منكر، وأبو جناب الكلبي، ضعفه النسائي والدارقطني اهـ.
- وأخرجه الحاكم كما في «نصب الراية» 2/ 115 من طريق آخر، وفيه جابر الجعفي واه.
- وأخرجه ابن الجوزي في «الواهيات» 720 من وجه آخر من حديث ابن عباس، وفيه وضاح بن يحيى ومندل، وكلاهما ضعيف.
- الخلاصة: هو حديث ضعيف، ليس في أسانيده ما يحتج به، وقد حكم الألباني في «ضعيف الجامع» 2561 بوضعه، وفي ذلك نظر، والصواب أنه ضعيف.
(1) في المطبوع «الجمع» والمثبت عن المخطوط و «صحيح البخاري» .
(2) زيد في المطبوع وط ويدل عليه عبارة الطبري 12918 وفي المخطوط «قام» .(3/149)
الْوِتْرُ وَالسِّوَاكُ وَقِيَامُ اللَّيْلِ» .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: نافِلَةً لَكَ أَيْ: زيادة لك، يريد فريضة [1] زَائِدَةٌ، عَلَى سَائِرِ الْفَرَائِضِ، فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَيْكَ. وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْوُجُوبَ صَارَ مَنْسُوخًا فِي حَقِّهِ كَمَا فِي حَقِّ الْأُمَّةِ، فَصَارَتْ نَافِلَةً، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: نافِلَةً لَكَ وَلَمْ يَقُلْ عَلَيْكَ، فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى التَّخْصِيصِ وَهِيَ زِيَادَةٌ فِي حَقِّ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ: التَّخْصِيصُ مِنْ حَيْثُ إِنَّ نَوَافِلَ الْعِبَادِ كَفَّارَةٌ لِذُنُوبِهِمْ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَكَانَتْ نَوَافِلُهُ لَا تَعْمَلُ فِي كَفَّارَةِ الذُّنُوبِ فَتَبْقَى لَهُ زِيَادَةٌ فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ.
«1314» أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِيُّ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ أَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَيْثَمُ بْنُ كليب [الشاشي] [2] ثنا أَبُو عِيسَى [مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى] [3] الترمذي ثنا قُتَيْبَةُ وَبِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَا ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ زِيَادِ بْنِ عَلَاقَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْتَفَخَتْ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ: أَتَتَكَلَّفُ هَذَا وَقَدْ غفر [الله] [4] لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» .
«1315» أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبي بكر عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَأَرْمُقَنَّ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّيْلَةَ، فَتَوَسَّدْتُ عَتَبَتَهُ أَوْ فسطاطه،
__________
1314- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- قتيبة هو ابن سعيد، أبو عوانة هو وضاح اليشكري مشهور بكنيته.
- وهو في «شرح السنة» 926 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق الترمذي، وهو في «سننه» 412 وفي «الشمائل» 258 عن قتيبة وبشر بن معاذ بهذا الإسناد.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
- وأخرجه مسلم 2819 ح 79 من طريق أبي عوانة به.
- وأخرجه البخاري 1130 و6471 وأحمد 4/ 255 والبيهقي 7/ 39 من طريق مسعر بن كدام عن زياد بن علاقة به.
- وأخرجه البخاري 4836 و2819 ح 80 والنسائي 3/ 219 وابن ماجه 1419 وأحمد 4/ 255 و251 وعبد الرزاق 4746 والحميدي 759.
- وابن حبان 311 والبيهقي 3/ 16 من طريق سفيان عن زياد بن علاقة به.
1315- إسناده صحيح. رجاله رجال البخاري ومسلم غير عبد الله بن قيس فإنه من رجال مسلم.
- أبو مصعب هو أحمد بن أبي بكر، أبو بكر والد عبد الله يعرف بكنيته، وهو ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ.
- وهو في «شرح السنة» 904 بهذا الإسناد.
- ورواه المصنف من طريق مالك، وهو في «الموطأ» 1/ 122 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بكر بهذا الإسناد.
- ومن طريق مالك أخرجه مسلم 765 وأبو داود 1366 والترمذي في «الشمائل» 266 وابن ماجه 1362 والنسائي في «الكبرى» 396 و1336 وعبد الرزاق 4712 وعبد الله بن أحمد 5/ 193 وابن حبان 2608 والطبراني 5245 والبيهقي 3/ 8.
- وأخرجه أحمد 5/ 193 عن عبد الرحمن عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن أبي بكر عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ به.
- وأخرجه الطبراني 5246 من طريق زهير بن محمد عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه به. [.....]
(1) في المطبوع «فضيلة» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.(3/150)
فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا، [ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ دُونَ اللَّتَيْنِ قَبْلَهُمَا] [1] ، ثُمَّ أَوْتَرَ فَذَلِكَ ثَلَاثُ عَشْرَةَ رَكْعَةً.
«1316» أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ؟ قَالَ: فَقَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسْأَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا. قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ:
«يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنِيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي» .
«1317» أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ الإِسْفَرَاينِيُّ أَنَا أَبُو عُوَانَةَ يعقوب بن إسحاق أنا يونس [هو] [2] بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى أَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ وَابْنُ أَبِي ذئب وعمرو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُمْ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَفْرَغَ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُسَلِّمُ مِنْ كل ركعتين ويوتر بواحدة، ويسجد سجدتين [3] قَدْرَ مَا يَقْرَأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِينَ آيَةً قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، فإذا سكت المؤذن من صلاة الْفَجْرِ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْفَجْرُ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمُؤَذِّنُ لِلْإِقَامَةِ فَيَخْرُجُ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ على بعض.
__________
1316- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- أبو مصعب هو أحمد بن أبي بكر المدني، أحد رواة «الموطأ» .
- وهو في «شرح السنة» 894 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق مالك، وهو في «الموطأ» 1/ 120 عن سعيد المقبري بهذا الإسناد.
- ومن طريق مالك أخرجه البخاري 1147 و2013 و3569 ومسلم 738 ح 125 وأبو داود 341 والنسائي 3/ 234 والترمذي 439 وعبد الرزاق 4711 وأحمد 6/ 36 و73 و104 وابن خزيمة 166 وابن حبان 2431 وأبو عوانة 2/ 327 والبيهقي 1/ 122 و2/ 495- 496 و3/ 6 و7/ 62 وفي «دلائل النبوة» 1/ 371- 372.
1317- إسناده صحيح. يونس بن عبد الأعلى من رجال مسلم، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، ابن وهب هو عبد الله، يونس، هو ابن يزيد، ابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن، ابن شهاب هو محمد بن مسلم.
- وهو في «شرح السنة» 896 بهذا الإسناد.
- وأخرجه أبو داود 1337 والنسائي 2/ 30 و3/ 65 من طريقين عن ابن وهب به.
- وأخرجه ابن ماجه 1358 من طريق ابن أبي ذئب والأوزاعي به.
- وأخرجه مسلم 736 ح 122 من طريق ابن وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عن ابن شهاب به.
- وأخرجه مسلم بإثر 736 (122) من طريق ابن وهب عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ به.
- وأخرجه البخاري 994 عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري به.
(1) سقط من المخطوط.
(2) في المطبوع «بن هارون» والمثبت هو الصواب.
(3) في المطبوع «السجدة» .(3/151)
«1318» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ أَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُنِيبٍ أَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
مَا كُنَّا نَشَاءُ أَنْ نَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ الليل مصليا إلا رأيناه، وما نَشَاءُ أَنْ نَرَاهُ نَائِمًا إِلَّا رأيناه، وقال: وكان يَصُومُ [مِنَ] [1] الشَّهْرِ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ [مِنْهُ شَيْئًا] [2] ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ مِنْهُ شَيْئًا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً عَسَى مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ لِأَنَّهُ لَا يَدْعُ أَنْ يُعْطِيَ عِبَادَهُ أَوْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا أَطْمَعَهُمْ فِيهِ، وَالْمَقَامُ الْمَحْمُودُ هُوَ مَقَامُ الشَّفَاعَةِ لِأُمَّتِهِ لِأَنَّهُ، يَحْمَدُهُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ.
«1319» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ ثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زنجويه أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ المقري أنا حيوة عن كعب بن عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عليّ فمن صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا، ثُمَّ سَلُوا لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ» .
«1320» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يوسف ثنا محمد بن
__________
1318- حديث صحيح. إسناده ضعيف عبد الرحيم بن منيب مجهول، لكن توبع هو ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- حميد هو ابن أبي حميد.
- وهو في «شرح السنة» 927 بهذا الإسناد.
- وأخرجه النسائي 3/ 213- 214 وأبو يعلى 3852 وابن حبان 2617 من طرق عن يزيد بن هارون به.
- وأخرجه البخاري 1141 و1972 و1973 والترمذي 769 وأحمد 3/ 104 و236 و264 وابن خزيمة 2134 وابن حبان 2618 والبيهقي 3/ 17 من طرق عن حميد به.
1319- صحيح. حميد بن زنجويه ثقة وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال مسلم.
- وهو في «شرح السنة» 422 بهذا الإسناد.
- وأخرجه الترمذي 3614 وأحمد 2/ 168 وابن خزيمة 418 وابن حبان 1692 والبيهقي 1/ 410 من طرق عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ المقري بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 384 وأبو داود 523 والنسائي 2/ 25 و26 وابن حبان 1690 والطحاوي في «المعاني» 1/ 143 وابن السني ص 44 وأبو عوانة 1/ 336 والبيهقي 1/ 410 من طرق عن حيوة بن شريح به.
- وصححه المصنف في «شرح السنة» .
1320- إسناده على شرط البخاري، حيث تفرد عن علي بن عياش.
- أبو حمزة والد شعيب اسمه دينار.
- وهو في «شرح السنة» 421 بهذا الإسناد.
- ورواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 614 و4719 عن علي بن عياش بهذا الإسناد.
- وأخرجه أبو داود 529 والترمذي 211 والنسائي 2/ 26- 28 وابن ماجه 722 وابن خزيمة 420 وأحمد 3/ 354
(1) سقط من المطبوع.
(2) سقط من المطبوع. [.....](3/152)
إسماعيل ثنا علي بن عياش ثنا شُعَيْبُ [1] بْنُ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
«1321» أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ أَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بن منيب أنا يَعْلَى عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي وَهِيَ نَائِلَةٌ مِنْكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بالله شيئا» .
«1322» وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: وَقَالَ الحجاج بن منهال ثنا همام بن يحيى ثنا قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُحْبَسُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَهْتَمُّوا بِذَلِكَ [2] فَيَقُولُونَ لَوِ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ وَأَسْجَدَ لَكَ مَلَائِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا من مكاننا هذا [قال] [3] ، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ التي أصاب أكله مِنَ الشَّجَرَةِ، وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ ويذكر خطيئته
__________
والطحاوي في «شرح معاني الآثار» 1/ 146 وابن حبان 1689 وابن أبي عاصم في «السنة» 826 وابن السني ص 45 والبيهقي 1/ 410 من طرق عن علي بن عياش به.
1321- حديث صحيح، إسناده ضعيف لجهالة عبد الرحيم بن منيب، لكن توبع هو ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- يعلى هو ابن عبيد، الأعمش هو سليمان بن مهران، أبو صالح اسمه ذكوان.
- وهو في «شرح السنة» 1230 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 199 والترمذي 3602 وابن ماجه 4307 وأحمد 2/ 426 وأبو عوانة 1/ 90 وابن مندة في «الإيمان» 912 و913 من طرق عن الأعمش به.
- وأخرجه البخاري 6304 وأحمد 2/ 486 وابن حبان 6461 من طريق مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأعرج عن أبي هريرة.
- وأخرجه البخاري 7474 ومسلم 198 وعبد الرزاق 20864 وأحمد 2/ 275 و313 و381 و396 وأبو عوانة 1/ 90 والطبراني في «الأوسط» 1748 والقضاعي 1039 و1040 من طرق عن أبي هريرة.
1322- حديث صحيح. رجاله رجال البخاري ومسلم، وحجاج قد سمع منه البخاري وعبارة البخاري توهم التعليق، لكن قد توبع من طرق.
- قتادة هو ابن دعامة السدوسي.
- وهو عند البخاري 7440 عن حجاج بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 3/ 244 وابن أبي عاصم في «السنة» 804 من طريق همام بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 4476 و7410 و7516 ومسلم 193 وابن حبان 6464 وابن أبي عاصم 805 و806 وابن مندة في «الإيمان» 864 وأبو عوانة 1/ 178 و179 و180 وأحمد 3/ 116 والبيهقي في «الإعتقاد» ص 89 و192 من طرق عن قتادة به.
(1) تصحف في المطبوع «سعيد» .
(2) زيد في المطبوع وط و «صحيح البخاري» في المخطوط «يهنوا لذلك» .
(3) سقط من المطبوع.(3/153)
الَّتِي أَصَابَ سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ، قَالَ: فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ، فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ وَيَذْكُرُ [ثَلَاثَ] [1] كَذِبَاتٍ كَذَبَهُنَّ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ وَكَلَّمَهُ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا. قَالَ:
فَيَأْتُونَ مُوسَى، فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَيَذْكُرُ خطيئته التي أصاب قتله النَّفْسِ، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَرُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ، قال: فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ، وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمَّدًا عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ: فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ الله أن يدعني، فيقول ارفع [رأسك] [2] مُحَمَّدُ وَقُلْ تُسْمَعْ وَاشْفَعْ [تُشَفَّعْ] [3] ، وسل تعط قَالَ:
فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى ربي بثناء وتحميد يعلمنيه [قال] [4] ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدَّ لِي حَدًّا فأخرج، وأدخلهم الجنة، [ثم أعود الثانية فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي] [5] عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ [سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: ارفع مُحَمَّدُ وَقُلْ تُسْمَعْ وَاشْفَعْ] [6] تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَهُ، [قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدَّ لِي حدا فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي، ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ تُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَهُ، قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدَّ لِي حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ] [7] . قَالَ قتادة: وقد سمعته يَقُولُ: «فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ» ، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قَالَ: «وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» .
«1323» وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ [8] : حَدَّثَنَا محمد بن إسماعيل ثنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن زيد ثنا معبد بن هلال قَالَ: ذَهَبْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ، بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ: «فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فَيُؤْذَنُ لِي وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لَا تَحْضُرُنِي الْآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أُمَّتِي أُمَّتِي، فَيُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ له ساجدا فذكر مثله، وقال: فيقال لي: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ أَوْ خَرْدَلَةٍ من إيمان، قال: فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ ثُمَّ أَعُودُ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ ساجدا، فذكر مِثْلَهُ، ثُمَّ يُقَالُ: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أدنى مثقال
__________
1323- صحيح، رجاله رجال البخاري ومسلم.
- وهو في «شرح السنة» 4229 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 7510 عن سليمان بن حرب بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 193 ح 326 من طريق حماد بن زيد به.
(1) سقط من المطبوع.
(2) سقط من المطبوع.
(3) سقط من المطبوع.
(4) سقط من المطبوع.
(5) سقط من المخطوط.
(6) سقط من المخطوط.
(7) ما بين الحاصرتين سقط من المخطوط، وهو مثبت في «صحيح البخاري» والمطبوع. [.....]
(8) القائل هو محمد بن يونس الفربري أحد رواة «صحيح البخاري» .(3/154)
حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ» ، فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ أَنَسٍ مَرَرْنَا بِالْحَسَنِ فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِ فَحَدَّثْنَاهُ بِالْحَدِيثِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ [1] ، فَقَالَ: هِيهِ، فَقُلْنَا [لَمْ] [2] يَزِدْنَا عَلَى هَذَا، فَقَالَ: لَقَدْ حَدَّثَنِي وَهُوَ يَوْمَئِذٍ جَمِيعٌ [3] مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً كَمَا حَدَّثَكُمْ، ثُمَّ قال: «أَعُودُ الرَّابِعَةَ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ وَقُلْ تُسْمَعْ وَسَلْ تُعْطَهُ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقول يا ربي ائذن لي فيمن قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَيَقُولُ وَعِزَّتِي وَجَلَالِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي لَأُخْرِجَنَّ مِنْهَا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ الشَّمْسَ تَدْنُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَبْلُغَ الْعَرَقُ نِصْفَ الْأُذُنِ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ اسْتَغَاثُوا بِآدَمَ ثُمَّ بِمُوسَى ثُمَّ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ، فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ فَيَوْمَئِذٍ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مَقَامًا مَحْمُودًا يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ.
«1324» وَأَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ بَامُوَيْهِ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الحسين القطان ثنا محمد بن حيويه ثنا سعيد بن سليمان ثنا منصور بن أبي الأسود ثنا اللَّيْثُ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَوَّلُهُمْ خُرُوجًا [إِذَا بُعِثُوا] [4] وَأَنَا قَائِدُهُمْ إِذَا وَفَدُوا وَأَنَا خَطِيبُهُمْ إِذَا أَنْصَتُوا وَأَنَا شَفِيعُهُمْ إِذَا حُبِسُوا وَأَنَا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أَيِسُوا، الْكَرَامَةُ وَالْمَفَاتِيحُ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي، وَلِوَاءُ الْحَمْدِ يَوْمَئِذٍ بِيَدِي، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلَى رَبِّي، يَطُوفُ عَلِيَّ أَلْفُ خَادِمٍ كَأَنَّهُمْ لؤلؤ بِيضٌ مَكْنُونٌ أَوْ لُؤْلُؤٌ مَنْثُورٌ» .
«1325» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ثنا
__________
1324- ضعيف بهذا الفظ. إسناده ضعيف، مداره على ليث وهو ابن أبي سليم، ضعفه ابن معين والنسائي، وقال أحمد:
مضطرب الحديث، وقال ابن حبان: اختلط في آخر عمره. انظر «الميزان» 3/ 420.
- أبو الأسود والد منصور قيل: اسمه حازم.
- وهو في «شرح السنة» 3518 بهذا الإسناد.
- وأخرجه الدارمي 1/ 26- 27 سعيد بن سفيان عن منصور بن أبي الأسود به.
- وأخرجه الترمذي 3610 من طريق الليث به دون عجزه وقال: هذا حديث حسن غريب.
- وكذا استغربه المصنف في «شرح السنة» .
- وقد تفرد ليث بألفاظ لا يتابع عليها، وهو ضعيف بهذا اللفظ الإسناد.
- تنبيه: وقع عند الدارمي: سعيد بن سفيان، والذي عند البغوي وفي «التهذيب» سعيد بن سليمان عن منصور.
1325- إسناده صحيح على شرط مسلم، الأوزاعي هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو، أبو عمار هو شداد بن عبد الله.
- وهو في «شرح السنة» 3519 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق مسلم، وهو في «صحيحه» 2278 عن الحكم بن موسى بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 2/ 540، وابن خزيمة في «التوحيد» ص 166 وابن أبي عاصم 792 من طرق عن الأوزاعي عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عن أبي هريرة بنحوه.
- وفي الباب أحاديث منها:
(1) تصحف في المطبوع «الموضوع» .
(2) سقط من المطبوع.
(3) أي مجمع العقل، والمراد ذاكرته قوية حيث كان في سنن الشباب.
(4) زيد في المطبوع، وهو يناسب سياق الفقرات.(3/155)
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بن موسى ثنا هقل [1] بْنُ زِيَادٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو عَمَّارٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَرُّوخٍ حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ وَأَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» .
وَالْأَخْبَارُ فِي الشفاعة متواترة كَثِيرَةٌ وَأَوَّلُ مَنْ أَنْكَرَهَا عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَهُوَ مُبْتَدِعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
«1326» وَرُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ صُهَيْبٍ الْفَقِيرِ [2] قَالَ: كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ، وَكُنْتُ رَجُلًا شَابًّا فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَةٍ نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ [3] ، فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وذكر حديث الْجُهَنَّمِيِّينَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ مَا هَذَا الَّذِي تحدثون [4] وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: 192] ، وكُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السَّجْدَةِ: 20] ، فَقَالَ لِي: يَا فتى أتقرأ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ الْمَحْمُودِ الَّذِي يَبْعَثُهُ اللَّهُ فِيهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ الْمَحْمُودُ الَّذِي يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مَنْ [النار من] [5] يخرج، ثُمَّ نَعَتَ وَضْعَ الصِّرَاطِ وَمَرَّ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ من النار بعد ما يَكُونُونَ فِيهَا، قَالَ: فَرَجَعْنَا وَقُلْنَا أَتَرَوْنَ هَذَا الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
«1327» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ اتَّخَذَ إبراهيم خليلا، وإن صاحبكم خليل اللَّهِ وَأَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ» ، ثُمَّ قَرَأَ: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً، قَالَ: يُجْلِسُهُ عَلَى الْعَرْشِ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ قال: يقعده على الكرسي [6] .
__________
- حديث واثلة بن الأسقع أخرجه مسلم 2276 والترمذي 3605 و3606 وأحمد 4/ 107 وابن حبان 6242 والطبراني 22/ 161.
- وحديث أبي سعيد الخدري أخرجه الترمذي 3615 وابن ماجه 4308 وأحمد 3/ 2 وإسناده ضعيف، لضعف عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ.
- وحديث عبد الله بن سلام أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» 793 وأبو يعلى 1807 وابن حبان 6478 وإسناده ضعيف، لضعف عمرو بن عثمان الكلابي.
1326- ضعيف. أخرجه الآجري في «الشريعة» 787 وابن مردويه كما في «الدر» 6/ 460 عن يزيد الفقير به، وإسناده ضعيف، فيه سنان بن فروخ ولم أجد له ترجمة، وفيه مبارك بن فضالة، وهو لين الحديث. وأخرجه الآجري 786- بترقيمي- من وجه آخر بنحوه، وإسناده ضعيف جدا، فيه عبد الواحد بن سليم، وهو متهم بالكذب.
1327- ضعيف. أخرجه الطبراني 10256 من حديث ابن مسعود، وفي إسناده يحيى الحماني، وهو ضعيف كما في «المجمع» 8/ 255.
- وأصله في الصحيح انظر الحديث المتقدم في تفسير سورة النساء عند آية: 155، وليس فيه ذكر هذه الآية، والأشبه في هذا الوقف.
(1) تصحف في المطبوع «معقل» .
(2) في المطبوع «الفقيه» .
(3) في المطبوع «تريد الحج» .
(4) في المطبوع وط «يحدثون» . [.....]
(5) جاءت في المطبوع عقب قوله «يخرج» أي بعد كلمة.
(6) لا أصل لهذا الخبر عن عبد الله بن سلام، وأما أثر مجاهد فقد أنكره أهل العلم، وليس لمجاهد مستند في ذلك.(3/156)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
[سورة الإسراء (17) : الآيات 80 الى 81]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ المراد مِنَ الْمُدْخَلِ وَالْمُخْرَجِ الْإِدْخَالُ وَالْإِخْرَاجُ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ فِيهِ.
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحُسْنُ وَقَتَادَةُ: أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ الْمَدِينَةَ، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صدق من مَكَّةَ، نَزَلَتْ حِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهِجْرَةِ. وَقَالَ الضَّحَاكُ: وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ مِنْ مَكَّةَ آمِنًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ مَكَّةَ ظَاهِرًا عَلَيْهَا بِالْفَتْحِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَدْخِلْنِي فِي أَمْرِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَنِي بِهِ مِنَ النُّبُوَّةِ مُدْخَلَ صِدْقٍ [الْجَنَّةَ] [1] ، وَأَخْرِجْنِي مِنَ الدُّنْيَا وَقَدْ قُمْتُ بِمَا وَجَبَ عَلَيَّ مِنْ حَقِّهَا مُخْرَجَ صِدْقٍ.
وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ الْجَنَّةَ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ مِنْ مَكَّةَ وَقِيلَ أَدْخِلْنِي فِي طَاعَتِكَ وَأَخْرِجْنِي مِنَ الْمَنَاهِي.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَدْخِلْنِي حَيْثُ مَا أَدْخَلْتَنِي بِالصِّدْقِ، وَأَخْرِجْنِي بِالصِّدْقِ، أَيْ: لَا تَجْعَلْنِي مِمَّنْ يَدْخُلُ بِوَجْهٍ وَيَخْرُجُ بِوَجْهٍ، فَإِنَّ ذَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَكُونُ آمِنًا [2] وَوَجِيهًا عِنْدَ اللَّهِ. وَوَصَفَ الْإِدْخَالَ والإخراج بالصدق لما يؤول إِلَيْهِ الْخُرُوجُ وَالدُّخُولُ مِنَ النَّصْرِ وَالْعِزِّ وَدَوْلَةِ الدِّينِ، كَمَا وَصَفَ الْقَدَمَ بِالصِّدْقِ فَقَالَ:
أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يُونُسَ: 2] . وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً، قَالَ مُجَاهِدٌ: حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: مُلْكًا قَوِيًّا تَنْصُرُنِي بِهِ عَلَى مَنْ نَاوَأَنِي وَعِزًّا ظَاهِرًا أُقِيمُ بِهِ دِينَكَ، فَوَعَدَهُ اللَّهُ لَيَنْزِعَنَّ مُلْكَ فَارِسٍ وَالرُّومِ وَغَيْرِهِمَا فَيَجْعَلُهُ لَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: عَلِمَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا طَاقَةَ لَهُ بِهَذَا الْأَمْرِ إِلَّا بِسُلْطَانٍ نَصِيرٍ، فَسَأَلَ سُلْطَانًا نَصِيرًا كِتَابَ الله وحدوده وإقامة دينه.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَزَهَقَ الْباطِلُ، أي [مذهب] [3] الشيطان، قاله [4] قَتَادَةُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْحَقُّ الْإِسْلَامُ، والباطل الشِّرْكُ. وَقِيلَ: الْحَقُّ عِبَادَةُ اللَّهِ، والباطل عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ. إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ذَاهِبًا، يُقَالُ: زَهَقَتْ نَفْسُهُ أَيْ خَرَجَتْ.
«1328» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يوسف ثنا محمد بن
__________
1328- إسناده صحيح على شرط البخاري، فقد تفرد عن صدقة بن الفضل، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، ابن عيينة هو سفيان، ابن أبي نجيح هو عبد الله، مجاهد بن جبر، أبو معمر هو عبد الله بن سخبرة.
- وهو في «شرح السنة» 3707 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 4287 عن صدقة بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 2478 و4720 ومسلم 1781 والترمذي 3138 والنسائي في «الكبرى» 11298 و11428 وأحمد 1/ 377 وابن حبان 5863 والطبراني 10427 والبيهقي 6/ 101 من طرق عن سفيان بن عيينة به.
- وأخرجه مسلم 1781 والطبري 22663 والطبراني في «الصغير» 210 وفي «الكبير» 10535 من طريق عبد الرزاق عن الثوري عن ابن أبي نجيح به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «أمينا» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) تصحف في المطبوع «قال» .(3/157)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
إسماعيل ثنا صدقة بن الفضل ثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَوْلَ البيت ستون وثلاثمائة صنم، فَجَعَلَ يَطْعَنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد» .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 82 الى 84]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، قِيلَ: مِنَ لَيْسَ لِلتَّبْعِيضِ، وَمَعْنَاهُ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا كُلُّهُ شِفَاءٌ، أَيْ: بَيَانٌ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ يُتَبَيَّنُ بِهِ الْمُخْتَلَفُ وَيَتَّضِحُ بِهِ الْمُشْكِلُ وَيُسْتَشْفَى بِهِ مِنَ الشُّبْهَةِ وَيُهْتَدَى بِهِ مِنَ الحيرة، هو شفاء للقلوب [1] بِزَوَالِ الْجَهْلِ عَنْهَا، وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً، لِأَنَّ الظَّالِمَ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَالْمُؤْمِنَ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ فَيَكُونُ رَحْمَةً لَهُ، وَقِيلَ: زِيَادَةُ الْخَسَارَةِ لِلظَّالِمِ مِنْ حَيْثُ أَنَّ كُلَّ آيَةٍ تَنْزِلُ يَتَجَدَّدُ مِنْهُمْ تَكْذِيبٌ وَيَزْدَادُ لَهُمْ خَسَارَةٌ، قَالَ قَتَادَةُ:
لَمْ يُجَالِسْ هَذَا [2] الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ [3] قَضَى اللَّهُ الَّذِي قَضَى شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ، عَنْ ذِكْرِنَا وَدُعَائِنَا، وَنَأى بِجانِبِهِ، أي تباعد منا بِنَفْسِهِ، أَيْ تَرَكَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ بِالدُّعَاءِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: تَعَظَّمَ وَتَكْبَّرَ، وَيَكْسِرُ النُّونَ وَالْهَمْزَةَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ، وَيَفْتَحُ النُّونَ وَيَكْسِرُ الْهَمْزَةَ أَبُو بَكْرٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَنَاءَ مِثْلَ جَاءَ قِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى نَأَى، وَقِيلَ: نَاءَ مِنَ النَّوْءِ وَهُوَ النُّهُوضُ وَالْقِيَامُ. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ، الشِّدَّةُ والضر، كانَ يَؤُساً، أَيْ آيِسًا قَنُوطًا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَضَرَّعُ وَيَدْعُو عِنْدَ الضُّرِّ وَالشِّدَّةِ، فَإِذَا تَأَخَّرَتِ الْإِجَابَةُ يَئِسَ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَيْأَسَ مِنَ الْإِجَابَةِ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ فَيَدَعُ الدعاء.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ، قَالَ ابْنُ عباس: على ناحيته. قالا الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ:
عَلَى نِيَّتِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى خَلِيقَتِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: عَلَى طَرِيقَتِهِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: عَلَى طَبِيعَتِهِ وَجِبِلَّتِهِ. وَقِيلَ: عَلَى السَّبِيلِ الَّذِي اخْتَارَهُ لِنَفْسِهِ، وَهُوَ مِنَ الشَّكْلِ، يُقَالُ: لَسْتَ عَلَى شَكْلِي وَلَا شَاكِلَتِي، وكلها لغات مُتَقَارِبَةٌ، تَقُولُ الْعَرَبُ: طَرِيقٌ ذُو شَوَاكِلَ إِذَا تَشَعَّبَتْ مِنْهُ الطُّرُقُ، وَمَجَازُ الْآيَةِ: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى مَا يُشْبِهُهُ كَمَا يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: كُلُّ امْرِئٍ يُشْبِهُهُ فِعْلُهُ. فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا، أوضح طريقا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 85 الى 88]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88)
قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، الآية.
__________
(1) في المطبوع «القلوب» .
(2) في المخطوط «أهل» .
(3) في المخطوط «انتقاص» .(3/158)
«1329» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثنا قيس بن حفص ثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ ثنا الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ [بْنِ مَسْعُودٍ] [1] قَالَ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مَنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ لَا يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَقُمْتُ فلما أنجى عنه، وقال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وفي رواية «وما أوتوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» قَالَ الْأَعْمَشُ: هَكَذَا فِي قِرَاءَتِنَا.
«1330» وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا قَدِ اجْتَمَعُوا وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا نَشَأَ فِينَا بِالْأَمَانَةِ وَالصِّدْقِ وَمَا اتَّهَمْنَاهُ بِكَذِبٍ، وَقَدِ ادَّعَى مَا ادَّعَى، فَابْعَثُوا نَفَرًا إِلَى الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ وَاسْأَلُوهُمْ عَنْهُ [وأخبروهم بخبره وما ادعاه وانظروا ما يقولون في أمره] [2] فَإِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَبَعَثُوا جَمَاعَةً إِلَيْهِمْ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ: سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فَإِنْ أَجَابَ عَنْ كُلِّهَا أَوْ لَمْ يُجِبْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَإِنْ أَجَابَ عَنِ اثْنَيْنِ وَلَمْ يُجِبْ عن واحد فَهُوَ نَبِيٌّ فَسَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ فُقِدُوا فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فَإِنَّهُ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجِيبٌ وَعَنْ رَجُلٍ بلغ مشرق الأرض ومغربها وما خَبَرُهُ، وَعَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُخْبِرُكُمْ بِمَا سَأَلْتُمْ غَدًا» وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَبِثَ الوحي، قال مجاهد: اثنتي عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَقِيلَ: خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَهْلُ مَكَّةَ يَقُولُونَ: وَعَدَنَا مُحَمَّدٌ غَدًا وَقَدْ أَصْبَحْنَا لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءٍ، حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مُكْثِ الْوَحْيِ وَشَقَّ عَلَيْهِ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ مَكَّةَ، ثُمَّ نَزَلَ جِبْرِيلُ بقوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الكهف: 23] ، ونزل في الْفِتْيَةِ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) ، ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَنَزَلَ فِي الروح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي.
وَاخْتَلَفُوا فِي الرُّوحِ الَّذِي وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْهُ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ جِبْرِيلُ [عليه السلام] [3] ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] [4] أَنَّهُ قَالَ: [هُوَ] [5] مَلَكٌ لَهُ سبعون ألف وجه
__________
1329- إسناده صحيح على شرط البخاري.
- الأعمش هو سليمان بن مهران، إبراهيم هو ابن يزيد النخعي، علقمة هو ابن الأسود.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 125 عن قيس بن حفص بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 4721 و6462 و7297 ومسلم 2794 والترمذي 3140 وأحمد 1/ 410 و444 وأبو يعلى 5390 والطبري 22676 والواحدي في «أسبابه» 588 من طريق عن الأعمش به.
1330- ضعيف. أخرجه البيهقي في «الدلائل» 2/ 269- 271 من طريق ابن إسحاق قال: حدثني رجل من أهل مكة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابن عباس مطوّلا.
- وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 590 نقلا عن المفسرين بنحوه.
- وفي «الوسيط» 3/ 125 عن ابن عباس بدون إسناد.
- وهو بهذا اللفظ ضعيف.
- أما السؤال عن الروح فقد صح من حديث ابن مسعود وهو الحديث المتقدم.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.(3/159)
لِكُلِّ وَجْهٍ سَبْعُونَ أَلْفَ لِسَانٍ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى بِكُلِّهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خَلْقٌ عَلَى صُوَرِ بَنِي آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس وَلَيْسُوا بِمَلَائِكَةَ وَلَا نَاسٍ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقًا أَعْظَمَ مِنَ الرُّوحِ غَيْرَ الْعَرْشِ، لَوْ شَاءَ أَنْ يَبْتَلِعَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمَنْ فِيهَا بِلُقْمَةٍ وَاحِدَةٍ لَفَعَلَ، صُورَةُ خَلْقِهِ عَلَى صُورَةِ خَلْقِ الْمَلَائِكَةِ وَصُورَةُ وَجْهِهِ عَلَى صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ، يَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ وَهُوَ أَقْرَبُ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْيَوْمَ عِنْدَ الْحُجُبِ السَّبْعِينَ، وَأَقْرَبُ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مِمَّنْ يَشْفَعُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ، وَلَوْلَا أَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الملائكة سترا من نور لاحتراق أَهْلُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِهِ. وَقِيلَ:
الرُّوحُ هُوَ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّهُ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ ليس كما يقوله الْيَهُودُ وَلَا كَمَا يَقُولُهُ النَّصَارَى، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ الرُّوحُ الْمُرَكَّبُ في الخلق الذي يحيى [1] بِهِ الْإِنْسَانُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَتَكَلَّمَ فِيهِ قَوْمٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الدَّمُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَيَوَانَ إِذَا مَاتَ لَا يَفُوتُ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا الدَّمُ.
[وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ نَفَسُ الْحَيَوَانِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَمُوتُ بِاحْتِبَاسِ النَّفَسِ] [2] . وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ عَرَضٌ. وَقَالَ قَوْمٌ:
هُوَ جِسْمٌ لَطِيفٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرُّوحُ مَعْنَى اجْتَمَعَ فِيهِ النُّورُ وَالطِّيبُ والعلو والعلم وَالْبَقَاءُ، أَلَّا تَرَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَوْجُودًا يَكُونُ الْإِنْسَانُ مَوْصُوفًا بِجَمِيعِ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَإِذَا خَرَجَ ذَهَبَ الْكُلُّ، وَأُولَى الْأَقَاوِيلِ: أَنْ يُوكَلَ عِلْمُهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُطْلِعْ عَلَى الرُّوحِ مَلَكًا مُقَرَّبًا وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي قِيلَ: مِنْ عِلْمِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أَيْ: فِي جَنْبِ عِلْمِ اللَّهِ قِيلَ: هَذَا خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: خِطَابٌ لِلْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَفِيهَا الْعِلْمُ الْكَثِيرُ. وَقِيلَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْلَمُ مَعْنَى الرُّوحِ وَلَكِنْ لَمْ يُخْبِرْ بِهِ أَحَدًا لِأَنَّ تَرْكَ إِخْبَارِهِ بِهِ كَانَ عَلَمًا لِنُبُوَّتِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وجلّ استأثر بعلمه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، [يَعْنِي الْقُرْآنَ، مَعْنَاهُ: إِنَّا كَمَا مَنَعْنَا عِلْمَ الرُّوحِ عَنْكَ وَعَنْ غَيْرِكَ، لَوْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يَعْنِي الْقُرْآنَ] [3] ، ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا، أَيْ: مَنْ يَتَوَكَّلُ بِرَدِّ الْقُرْآنِ إِلَيْكَ.
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ، هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ: وَلَكِنْ لَا نَشَاءُ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ. إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَذْهَبُ الْقُرْآنُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ مَحْوُهُ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَإِذْهَابُ مَا فِي الصُّدُورِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: اقرؤوا الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ فَإِنَّهُ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُرْفَعَ. قِيلَ هَذِهِ الْمَصَاحِفُ تُرْفَعُ فَكَيْفَ بِمَا فِي صُدُورِ النَّاسِ؟ قَالَ: يَسْرِي عَلَيْهِ لَيْلًا فَيُرْفَعُ مَا فِي صُدُورِهِمْ فَيُصْبِحُونَ لَا يَحْفَظُونَ [منه] [4] شَيْئًا وَلَا يَجِدُونَ فِي الْمَصَاحِفِ شَيْئًا، ثُمَّ يُفِيضُونَ فِي الشِّعْرِ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَرْجِعَ الْقُرْآنُ مِنْ حَيْثُ نَزَلَ، لَهُ دَوِيٌّ حَوْلَ الْعَرْشِ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، [فَيَقُولُ الرَّبُّ مَا لَكَ وَهُوَ أَعْلَمُ] ؟ [5] فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أُتْلَى وَلَا يُعْمَلُ بِي.
قَوْلُهُ جَلَّ وَعَلَا: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً، عونا ومظاهرا، فنزلت حِينَ قَالَ الْكُفَّارُ: لَوْ نَشَاءُ
__________
(1) في المطبوع «يحيل» .
(2) زيد في المطبوع وط.
(3) سقط من المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) سقط من المخطوط.(3/160)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَالْقُرْآنُ مُعْجِزٌ فِي النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ وَالْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ، وَهُوَ كلام في أعلى طبقات المبالغة لَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْخَلْقِ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَلَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لأتوا بمثله.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 89 الى 93]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنَ الْعِبَرِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَغَيْرِهَا، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً، جحودا.
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ، لَنْ نُصَدِّقَكَ، حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَيَعْقُوبُ تَفْجُرَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ الْجِيمِ مُخَفَّفًا، لِأَنَّ الْيَنْبُوعَ وَاحِدٌ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّفْجِيرِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَشْدِيدِ قَوْلِهِ: فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً، لِأَنَّ الْأَنْهَارَ جَمْعٌ وَالتَّشْدِيدُ يَدُلُّ عَلَى التَّكْثِيرِ، ولقوله:
«تفجيرا من بعده» .
«1331» وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَأَبَا الْبُخْتُرِيَّ بْنَ هشام والأسود بن الْمُطَّلِبِ وَزَمَعَةَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ وَأَبَا جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ وَأُمِّيَّةَ بْنَ خَلَفٍ وَالْعَاصَ بْنَ وَائِلٍ وَنَبِيهًا وَمُنَبِّهًا ابْنَيِ الْحَجَّاجِ اجْتَمَعُوا وَمَنِ اجْتَمَعَ مَعَهُمْ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ابْعَثُوا إِلَى مُحَمَّدٍ فَكَلِّمُوهُ وَخَاصِمُوهُ حَتَّى تُعْذَرُوا فِيهِ، فَبَعَثُوا إِلَيْهِ أَنَّ أَشْرَافَ قَوْمِكَ قَدِ اجْتَمَعُوا لَكَ لِيُكَلِّمُوكَ فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيعًا وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ بَدَا لَهُمْ فِي أَمْرِهِ بَدْءٌ وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَرِيصًا يُحِبُّ رُشْدَهُمْ حَتَّى جَلَسَ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنَّا بَعَثْنَا إِلَيْكَ لِنُعْذَرَ فِيكَ وَإِنَّا وَاللَّهِ لَا نَعْلَمُ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مَا أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِكَ، لَقَدْ شَتَمْتَ الْآبَاءَ وَعِبْتَ الدِّينَ وَسَفَّهْتَ الْأَحْلَامَ وَشَتَمْتَ الْآلِهَةَ، وَفَرَّقْتَ الْجَمَاعَةَ فَمَا بَقِيَ أَمْرٌ قَبِيحٌ إِلَّا وَقَدْ جِئْتَهُ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَنَا، فَإِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ بِهِ مَالًا جَعَلَنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنَّ كُنْتَ تَطْلُبُ الشَّرَفَ سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ الَّذِي بِكَ رَئِيٌّ تَرَاهُ حَتَّى قَدْ غَلَبَ عَلَيْكَ لَا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ بَذَلْنَا لَكَ أَمْوَالَنَا فِي طلب [الطلب] [1] حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ، أَوْ نُعْذَرَ فِيكَ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ التَّابِعَ مِنَ الْجِنِّ: الرَّئِيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بِي مَا تَقُولُونَ مَا جِئْتُكُمْ بما جئتكم به أطلب [2] أَمْوَالِكُمْ وَلَا الشَّرَفَ عَلَيْكُمْ، وَلَا الْمُلْكَ عَلَيْكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلِيَّ كِتَابًا وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تردوه عليّ أصبر
__________
1331- ضعيف. أخرجه الطبري 22719 عن ابن إسحاق عن شيخ من أهل مصر عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ به، وإسناده ضعيف، فيه راو لم يسمّ، وكرره الطبري 22720 عن ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد به وإسناده ضعيف لجهالة محمد هذا.
(1) سقط من المطبوع.
(2) في المطبوع «لطلب» .(3/161)
لِأَمْرِ اللَّهِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ إِنْ كُنْتَ غَيْرَ قَابِلٍ مِنَّا مَا عَرَضْنَا عَلَيْكَ فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَضْيَقَ مِنَّا بِلَادًا وَلَا أَشَدَّ مِنَّا عَيْشًا فَسَلْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضَيَّقَتْ عَلَيْنَا، وَيَبْسُطْ لَنَا بِلَادَنَا وَيُفَجِّرَ فِيهَا أَنْهَارًا كَأَنْهَارِ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَلْيَبْعَثْ لَنَا مَنْ مَضَى من آبائنا وليكن فيهم [1] قُصَيُّ بْنُ كِلَابٍ فَإِنَّهُ كَانَ شَيْخًا صَدُوقًا فَنَسْأَلُهُمْ عَمَّا تَقُولُ أَحَقٌّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ، فَإِنْ صَدَّقُوكَ صَدَّقْنَاكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا بِهَذَا بُعِثْتُ فَقَدْ بَلَّغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ، فَإِنْ تَقْبَلُوهُ مِنِّي فَهُوَ حَظُّكُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ تَرُدُّوهُ [عَلَيَّ] [2] أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللَّهِ» ، قَالُوا: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا فَسَلْ رَبَّكَ أَنْ يَبْعَثَ لَنَا مَلَكًا يُصَدِّقُكَ وَاسْأَلْهُ أَنْ يَجْعَلَ لَكَ جِنَانًا وَقُصُورًا وَكُنُوزًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ يُغْنِيكَ بِهَا عَمَّا نَرَاكَ، فَإِنَّكَ تَقُومُ بِالْأَسْوَاقِ وتلتمس المعاش كما نلتسمه، فَقَالَ: «مَا بُعِثْتُ بِهَذَا وَلَكِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا» ، قَالُوا:
فَأَسْقِطِ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ، أَنَّ رَبَّكَ لَوْ شَاءَ فَعَلَ، فَقَالَ: «ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ فِعْلَ ذَلِكَ بِكُمْ فَعَلَهُ» ، وَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَأْتِيَنَا بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا، فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَامَ مَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ وَهُوَ ابْنُ عَمَّتِهِ عَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ عَرَضَ عَلَيْكَ قَوْمُكَ مَا عَرَضُوا عَلَيْكَ فَلَمْ تَقْبَلْهُ مِنْهُمْ ثُمَّ سَأَلُوكَ لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا يَعْرِفُونَ بِهَا مَنْزِلَتَكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ تَفْعَلْ، ثُمَّ سَأَلُوكَ أَنْ تُعَجِّلَ مَا تُخَوِّفُهُمْ بِهِ من العذاب، فلم تفعل، فو الله لَا أُؤْمِنُ لَكَ أَبَدًا حَتَّى تَتَّخِذَ إِلَى السَّمَاءِ سُلَّمًا تَرْقَى فِيهَا وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى تَأْتِيَهَا وَتَأْتِيَ بِنُسْخَةٍ مَنْشُورَةٍ مَعَكَ وَنَفَرٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَكَ بِمَا تَقُولُ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ لَظَنَنْتُ أَنْ لَا أُصَدِّقَكَ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِهِ حَزِينًا لِمَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَعْنِي: أَرْضَ مَكَّةَ يَنْبُوعاً أَيْ:
عُيُونًا.
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ، بُسْتَانٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً، تَشْقِيقًا.
أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ بِفَتْحِ السِّينِ، أَيْ قِطَعًا وَهِيَ جَمْعُ كِسْفَةٍ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ وَالْجَانِبُ مِثْلُ كِسْرَةٍ وَكِسَرٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِسُكُونِ السِّينِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَجَمْعُهُ أَكْسَافٍ وَكُسُوفٍ، أَيْ: تُسْقِطُهَا طَبَقًا وَاحِدًا. وَقِيلَ: أَرَادَ جَانِبَهَا عَلَيْنَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَيْضًا الْقِطَعُ، وَهِيَ جَمْعُ التَّكْسِيرِ مِثْلُ سِدْرَةٍ وَسِدْرٍ فِي الشُّعَرَاءِ [87] وَسَبَأٍ [9] «كِسَفًا» بِالْفَتْحِ، حَفْصٌ، وَفِي الرُّومِ [48] سَاكِنَةٌ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ. أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَفِيلًا أَيْ يَكْفُلُونَ بِمَا تَقُولُ. وَقَالَ الضَّحَاكُ: ضَامِنًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ جَمْعُ الْقَبِيلَةِ أَيْ: بِأَصْنَافِ الْمَلَائِكَةِ قَبِيلَةً قَبِيلَةً.
وَقَالَ قَتَادَةُ: عَيَانًا، أَيْ: [نراهم مقابلة] [3] . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مِنْ قَوْلِ العرب لقيت فلانا قبلا [4] ، وَقَبِيلًا أَيْ: مُعَايَنَةً.
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَيْ: مِنْ ذَهَبٍ، وَأَصْلُهُ الزِّينَةُ، أَوْ تَرْقى، تَصَعَدُ، فِي السَّماءِ، هَذَا قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ، لِصُعُودِكَ، حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ، أُمِرْنَا فِيهِ بِاتِّبَاعِكَ، قُلْ سُبْحانَ رَبِّي، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ «قَالَ» يَعْنِي مُحَمَّدًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ عَلَى الْأَمْرِ، أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا، أَمَرَهُ بِتَنْزِيهِهِ وَتَمْجِيدِهِ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أن ينزل ما
__________
(1) في المطبوع «منهم» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) العبارة في المطبوع وط «تراهم القابلة أي معاينة» والمثبت عن المخطوط، ويدل عليه عبارة «الوسيط» 3/ 127. [.....]
(4) في المطبوع وط «قبيلا» .(3/162)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
طَلَبُوا لَفَعَلَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ لَا يُنَزِّلُ الْآيَاتِ عَلَى مَا يَقْتَرِحُهُ الْبَشَرُ، وَمَا أَنَا إِلَّا بَشَرٌ وليس ما سألتم من [1] طَوْقِ الْبَشَرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَعْطَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ مَا يُغْنِي عَنْ هَذَا كُلِّهِ، مِثْلَ الْقُرْآنِ وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَتَفْجِيرِ الْعُيُونِ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ وَمَا أَشْبَهَهَا، وَالْقَوْمُ عَامَّتُهُمْ كَانُوا مُتَعَنِّتِينَ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ طَلَبَ الدَّلِيلِ لِيُؤْمِنُوا، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سؤالهم.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 97]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا، جَهْلًا مِنْهُمْ، أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا، أَرَادَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقُولُونَ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ لِأَنَّكَ بَشَرٌ، وَهَلَّا بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا مَلَكًا فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى:
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ، مُسْتَوْطِنِينَ مُقِيمِينَ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا، مِنْ جِنْسِهِمْ لِأَنَّ الْقَلْبَ إِلَى الْجِنْسِ أَمْيَلُ مِنْهُ إِلَى غَيْرِ الْجِنْسِ.
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، إِنِّي رَسُولُهُ إِلَيْكُمْ، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ، يَهْدُونَهُمْ، وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ.
«1332» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصالحي أنا الحسين [2] بْنُ شُجَاعٍ الصُّوفِيُّ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ الْمَوْصِلِيِّ أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الهيثم ثنا جعفر بن محمد الصائغ ثنا حسين بن محمد ثنا شيبان [3] عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ [بْنِ مالك] [4] أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ» .
__________
1332- صحيح. جعفر بن محمد ثقة، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم. شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّحْوِيُّ، قتادة بن دعامة.
- وهو في «شرح السنة» 4210 بهذا الإسناد.
- وأخرجه النسائي في «الكبرى» 11367 وابن حبان 7323 وأبو نعيم في «الحلية» 2/ 343 من طرق عن الحسين بن محمد به.
- وأخرجه البخاري 4760 و6523 ومسلم 2806 وأبو يعلى 3046 وأحمد 3/ 229 من طريق يونس بن محمد البغدادي عن شيبان به.
(1) في المطبوع «في» .
(2) تصحف في المطبوع «الحسن» .
(3) تصحف في المطبوع «سفيان» .
(4) زيادة عن المخطوط.(3/163)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
«1333» وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهُمْ يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِمْ كُلَّ حَدَبٍ وَشَوْكٍ» ، عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ عُمْيٌ وَبُكْمٌ وَصُمٌّ. وَقَدْ قَالَ: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ [الْكَهْفِ: 53] ، وَقَالَ:
دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الْفُرْقَانِ: 13] وَقَالَ: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان: 12] ، أثبت [لهم] [1] الرُّؤْيَةَ وَالْكَلَامَ وَالسَّمْعَ؟ قِيلَ: يُحْشَرُونَ عَلَى مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ تُعَادُ إِلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ، وَجَوَابٌ آخَرُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عُمْيًا لا يرون ما يسرهم كما لَا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ، صُمًّا لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا يَسُرُّهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
هَذَا حِينَ يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْقِفِ إِلَى أَنْ يَدْخُلُوا النَّارَ. وَقَالَ مقاتل: هَذَا حِينَ [يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْقِفِ] [2] يقال لهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [الْمُؤْمِنُونَ: 108] فَيَصِيرُونَ بِأَجْمَعِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا لَا يَرَوْنَ وَلَا يَنْطِقُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ. مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلَّمَا سَكَنَتْ، أَيْ: سكن لهبها. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: طُفِئَتْ وَقَالَ قَتَادَةُ: ضعف وَقِيلَ: هُوَ الْهُدُوُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوجَدَ نُقْصَانٌ فِي أَلَمِ [3] الْكُفَّارِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ [الزُّخْرُفُ: 75] ، وَقِيلَ: [كُلَّمَا خَبَتْ] أَيْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْبُوَ، زِدْناهُمْ سَعِيراً، أَيْ: وَقُودًا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ كُلَّما خَبَتْ أَيْ نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ وَاحْتَرَقَتْ أعيدوا [4] إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَزَيْدَ في تسعير النار لتحرقهم [وتؤلمهم] [5] .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 98 الى 101]
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً (101)
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى:
فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، فِي عَظَمَتِهَا وَشِدَّتِهَا]
، قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ، فِي صِغَرِهِمْ وَضَعْفِهِمْ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: 57] . وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا، وَقْتًا لِعَذَابِهِمْ، لَا رَيْبَ فِيهِ، أَنَّهُ يَأْتِيهِمْ، قِيلَ: هُوَ الْمَوْتُ، وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً، جُحُودًا وَعِنَادًا.
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أَيْ: نِعْمَةِ رَبِّي. وَقِيلَ: رِزْقِ رَبِّي، إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ، لبخلتم
__________
1333- هو عجز حديث أخرجه الترمذي 3142 وأحمد 2/ 447 والبيهقي في «الشعب» 1/ 318 عن أبي هريرة مرفوعا، وصدره «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثلاثة أصناف» وإسناده ضعيف، لضعف عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، لكن للحديث شواهد بمعناه، انظر «الدر المنثور» 4/ 368 فالحديث حسن «بشواهده» إن شاء الله، والله أعلم.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «آلام» .
(4) زيد في المطبوع «فيها» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيد في المطبوع وط، وفي المخطوط «عظمها وشدتها» والأشبه «عظمتهما وشدتهما» .(3/164)
وحسبتم، خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ، أَيْ: خَشْيَةَ الْفَاقَةِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقِيلَ: خَشْيَةَ النَّفَادِ، يُقَالُ: أَنْفَقَ الرَّجُلُ أَيْ أَمْلَقَ وذهب ماله ونفق الشيء، إذا: ذَهَبَ، وَقِيلَ: لَأَمْسَكْتُمْ عَنِ الْإِنْفَاقِ خَشْيَةَ الْفَقْرِ، وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً، بَخِيلًا: مُمْسِكًا عَنِ الْإِنْفَاقِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ، أَيْ: دَلَالَاتٍ واضحات، والآيات التِّسْعُ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: هِيَ الْعَصَا وَالْيَدُ الْبَيْضَاءُ وَالْعُقْدَةُ الَّتِي كَانَتْ بِلِسَانِهِ فَحَلَّهَا وَفَلْقُ الْبَحْرِ وَالطُّوفَانُ وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: هِيَ الطُّوفَانُ وَالْجَرَادُ وَالْقُمَّلُ وَالضَّفَادِعُ وَالدَّمُ وَالْعَصَا وَالْيَدُ وَالسُّنُونَ وَنَقْصُ الثَّمَرَاتِ. وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: الطَّمْسَ وَالْبَحْرَ بَدَلَ السنين ونقص من الثمرات، وقال فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ مَعَ أَهْلِهِ في فراشه وقد صارا حَجَرَيْنِ، وَالْمَرْأَةُ مِنْهُمْ قَائِمَةٌ تَخْبِزُ وَقَدْ صَارَتْ حَجَرًا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُنَّ آيَاتُ الْكِتَابِ.
«1334» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنِي الحسن [1] بن محمد الثقفي أنا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الْعَطَّارُ [2] أَنْبَأَنَا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ الله بن ماهان ثنا [أبو] [3] الوليد الطيالسي ثنا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عن عبد الله بن سلمة [4] عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ أن يهوديا قال لصاحبه تعالى حَتَّى نَسْأَلَ هَذَا النَّبِيَّ، فَقَالَ الْآخَرُ: لَا تَقُلْ نَبِيٌّ فَإِنَّهُ لَوْ سَمِعَ [صَارَتْ أَرْبَعَةَ أَعْيُنٍ] [5] ، فَأَتَيَاهُ فَسَأَلَاهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَقَالَ: «لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تحسروا وَلَا تَمْشُوا بِالْبَرِيءِ إِلَى سُلْطَانٍ ليقتله، ولا تسرفوا وَلَا تَقْذِفُوا الْمُحْصَنَةَ، وَلَا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةَ الْيَهُودِ أَنْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ» ، فقبلا يده، قالا [6] : نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ، قَالَ: فَمَا يَمْنَعُكُمْ أَنْ تَتَّبِعُونِي؟ قَالَا: إِنَّ دَاوُدَ دَعَا رَبَّهُ أَنْ لَا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ وَإِنَّا نخاف إن تبعناك أن تقتلنا اليهود.
قوله عزّ وجلّ: فَسْئَلْ، يَا مُحَمَّدُ، بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ، مُوسَى، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الخطاب معه
__________
1334- ضعيف. إسناده ضعيف لضعف عبد الله بن سلمة، قال البخاري: لا يتابع على حديثه، وقال أبو حاتم والنسائي:
يعرف وينكر، أبو الوليد هو هشام بن عبد الملك، شعبة بن الحجاج.
- وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 130 عن طريق أبي الوليد الطيالسي بهذا الإسناد.
- وأخرجه الترمذي 3144 من طرق أبي داود ويزيد بن هارون وأبي الوليد عن شعبة به وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
- وأخرجه أحمد 2/ 239 من طريق يزيد ومحمد بن جعفر عن شعبة به.
- وأخرجه النسائي في «الكبرى» 3541 و8656 من طريق ابن إدريس عن شعبة به.
- وأخرجه أحمد 2/ 240 من طريق يحيى بن سعيد عن شعبة به.
- وأخرجه الحاكم 1/ 9 من طريق وهب بن جرير وآدم بن إياس ومحمد بن جعفر عن شعبة به.
- وصححه ووافقه الذهبي. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 2/ 697: عبد الله بن سلمة كبر فساء حفظه.
- وأخرجه ابن ماجه 3705 من طريق شعبة بهذا الإسناد باختصار شديد. [.....]
(1) في المخطوط «الحسين» .
(2) في المطبوع وحده «العطارد» .
(3) سقط من المطبوع.
(4) في المطبوع «مسلمة» .
(5) سقط من المخطوط.
(6) في المطبوع «وقال» وفي المخطوط «وقالوا» .(3/165)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَاطَبَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَمَرَهُ بِالسُّؤَالِ لِيَتَبَيَّنَ كَذِبَهُمْ مَعَ قَوْمِهِمْ. فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسى مَسْحُوراً، أَيْ: مَطْبُوبًا سَحَرُوكَ، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَخْدُوعًا. وَقِيلَ:
مَصْرُوفًا عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: سَاحِرًا، فَوَضَعَ الْمَفْعُولَ مَوْضِعَ الْفَاعِلِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ: مُعْطًى عِلْمُ السِّحْرِ، فَهَذِهِ الْعَجَائِبُ الَّتِي تَفْعَلُهَا من سحرك.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 102 الى 104]
قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)
قالَ، مُوسَى، لَقَدْ عَلِمْتَ، قَرَأَ الْعَامَّةُ بِفَتْحِ التَّاءِ خِطَابًا لِفِرْعَوْنَ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِضَمِّ التَّاءِ، وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَلَيٍّ [رَضِيَ اللَّهُ عنه] [1] ، وَقَالَ: لَمْ يَعْلَمِ الْخَبِيثُ أَنَّ مُوسَى عَلَى الْحَقِّ، وَلَوْ عَلِمَ لَآمَنَ وَلَكِنْ مُوسَى هُوَ الَّذِي علمه، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلِمَهُ فِرْعَوْنُ وَلَكِنَّهُ عَانَدَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النَّمْلُ: 14] ، وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ وَهِيَ نَصْبُ التَّاءِ أَصَحُّ فِي الْمَعْنَى وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ، لِأَنَّ مُوسَى لَا يحتج عليه بعلم نفسه، ولم يَثْبُتُ عَنْ عَلِيٍّ رَفْعُ التَّاءِ لأنه يروى عَنْ رَجُلٍ مَنْ مُرَادٍ عَنْ علي، وذلك الرَّجُلَ مَجْهُولٌ وَلَمْ يَتَمَسَّكْ بِهَا أَحَدٌ مِنَ الْقُرَّاءِ غَيْرَ الْكِسَائِيُّ، مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ، هَذِهِ الْآيَاتَ التِّسْعَ، إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ، جَمْعُ بَصِيرَةٍ أَيْ يُبَصَرُ بِهَا، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَلْعُونًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَالِكًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُهْلَكًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ مَصْرُوفًا مَمْنُوعًا عَنِ الْخَيْرِ. يُقَالُ: مَا ثَبَرَكَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَيْ مَا مَنَعَكَ وَصَرَفَكَ عَنْهُ.
فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ، أَيْ: أَرَادَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَسْتَفِزَّ [2] مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ يُخْرِجَهُمْ، مِنَ الْأَرْضِ، يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ، فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً، وَنَجَّيْنَا مُوسَى وَقَوْمَهُ.
وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ، لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ، يَعْنِي أَرْضَ مِصْرَ وَالشَّامِ، فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ، يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أَيْ: جَمِيعًا إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ.
وَاللَّفِيفُ: الْجَمْعُ الْكَثِيرُ إِذَا كَانُوا مُخْتَلِطِينَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ، يُقَالُ: لَفَّتِ [3] الْجُيُوشُ إِذَا اخْتَلَطُوا، وَجَمْعُ الْقِيَامَةِ.
كَذَلِكَ، فِيهِمُ [4] الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ وَالْبَرُّ وَالْفَاجِرُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يَعْنِي مَجِيءَ عِيسَى مِنَ السَّمَاءِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا أَيِ [5] النُّزَّاعُ: مِنْ كُلِّ قوم من هاهنا وهاهنا لفوا جميعا.
[سورة الإسراء (17) : الآيات 105 الى 109]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)
__________
- وانظر «تفسير الكشاف» 637 بتخريجي، وفي الحديث بعض الألفاظ المنكرة، وقد نبه عليها الحافظ ابن كثير عند هذه الآية.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «يستفزهم» .
(3) في المخطوط «لفف» .
(4) في المخطوط «منهم» .
(5) زيد في المطبوع وط، وفي المخطوط «أنواعا» والمثبت هو الراجح، ويدل عليه ونزعنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً ... الآية.(3/166)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً لِلْمُطِيعِينَ، وَنَذِيراً، لِلْعَاصِينَ.
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ، قيل: أنزلنا نُجُومًا لَمْ يَنْزِلْ مَرَّةً وَاحِدَةً، بِدَلِيلِ قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «وَقُرْآنًا فَرَّقْنَاهُ» بِالتَّشْدِيدِ، وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: فَصَّلْنَاهُ. وَقِيلَ: بَيَّنَّاهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ فَرَّقْنَا بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أَيْ: عَلَى تُؤَدَةٍ وَتَرَسُّلٍ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [أي رتلناه ترتيلا] [1] .
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا، هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ، إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ، قِيلَ:
هُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ الدِّينَ قَبْلَ مَبْعَثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَسْلَمُوا بَعْدَ مَبْعَثِهِ، مِثْلُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو [2] بْنِ نُفَيْلٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي ذَرٍّ وَغَيْرِهِمْ. إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ، يَعْنِي الْقُرْآنَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ أَيْ: يَسْقُطُونَ عَلَى الْأَذْقَانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِهَا الْوُجُوهَ، سُجَّداً.
وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) ، أَيْ: كَائِنًا وَاقِعًا.
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ، أَيْ: يَقَعُونَ عَلَى الوجوه يبكون، والبكاء مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَيَزِيدُهُمْ، نُزُولُ الْقُرْآنِ، خُشُوعاً، خُضُوعًا لِرَبِّهِمْ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا [مَرْيَمُ: 58] .
«1335» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو عَمْرٍو بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيُّ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله الحفيد [3] ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَجَلِيُّ أَنَا عاصم بن علي بن عاصم ثنا الْمَسْعُودِيُّ هُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى آلِ طَلْحَةَ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَلِجُ النَّارَ مَنْ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ، وَلَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي مَنْخَرَيْ مُسْلِمٍ أَبَدًا» .
«1336» أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ هَوَازِنٍ الْقُشَيْرِيُّ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ عَلِيِّ بن
__________
1335- حديث حسن. إسناده ضعيف، فيه عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المسعودي، وقد اختلط، لكن تابعه مسعر عند النسائي وابن حبان، ومسعر ثقة.
- والحديث بدون «حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ» صحيح له شواهد كثيرة.
- وهو في «شرح السنة» 4063 بهذا الإسناد.
- وأخرجه الترمذي 2311 و1633 والنسائي 6/ 12 وأحمد 2/ 505 والحاكم 4/ 259 من طرق عن المسعودي به.
- وأخرجه النسائي 6/ 12 من طريق مسعر عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ به.
- وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي حسن صحيح.
- وأخرج ابن حبان 4607 عجزه فقط من طريق مسعر عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ به.
1336- متن حسن صحيح بشواهده. إسناده ضعيف لضعف محمد بن يونس الكديمي، وجهالة أبي حبيب القنوي، حيث لم أجد له ترجمة، وقد توبع محمد بن يونس عند الطبراني، فانحصرت العلة في أبي حبيب، وللحديث شواهد كثيرة.
- وهو في «شرح السنة» 4064 بهذا الإسناد. [.....]
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) تصحف في المطبوع «عمر» .
(3) تصحف في المطبوع «الجنيد» .(3/167)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
عبد الخالق المؤذن أَنَا [أَبُو] [1] أَحْمَدَ بَكْرُ بْنُ محمد بن حمدان ثنا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْكُدَيْمِيُّ [2] أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ ثنا أبو حبيب القنوي [3] ثنا بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«حُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى ثَلَاثِ أَعْيُنٍ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ غَضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ الله» .
[سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)
قوله جلّ وعلّا: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ.
«1337» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَجَدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ فِي سُجُودِهِ: «يَا أللَّهُ يَا رَحْمَنُ» فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَنْهَانَا عَنْ آلِهَتِنَا وَهُوَ يَدْعُو إِلَهَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمَا اسْمَانِ لِوَاحِدٍ، أَيًّا مَا تَدْعُوا، «مَا» صِلَةٌ مَعْنَاهُ أَيًّا [4] تدعو مِنْ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ وَمِنْ جَمِيعِ أَسْمَائِهِ، فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها.
«1338» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أنا يعقوب بن إبراهيم [نا] هشيم ثنا أَبُو بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قَالَ: نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ كَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ أَنْزَلَهُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أَيْ بِقِرَاءَتِكَ فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ فَيَسُبُّوا الْقُرْآنَ، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا عَنْ أَصْحَابِكَ فَلَا تُسْمِعَهُمْ وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا.
__________
- وأخرجه الطبراني في «الكبير» 19/ 416 من طريق عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَاهِلِيُّ بهذا الإسناد.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 4/ 288 وقال: وفيه أبو حبيب العنقزي ويقال: القنوي ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
- وله شاهد من حديث ابن عباس أخرجه أبو نعيم في «الحلية» 5/ 209 وفي إسناده محمد بن يونس الكديمي وهو ضعيف كما في «التقريب» . وعطاء الخراساني لين الحديث، وللحديث شواهد كثيرة يتقوى بها انظر «الترغيب والترهيب» للمنذري 2/ 207- 209.
1337- ضعيف. أخرجه الطبري 2801 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، لضعف حسين بن داود، الملقب ب «سنيد» .
- وأخرجه الطبري 222802 عن مكحول مرسلا، ومع إرساله فيه سنيد، وهو ضعيف.
1338- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم، هشيم هو ابن بشير، أبو بشر هو جعفر بن إياس.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 4722 عن يعقوب بن إبراهيم بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 7490 و7525 و7547 ومسلم 446 والترمذي 3144 والنسائي 2/ 177- 178 وأحمد 2/ 23 و215 والطبري 22825 وابن حبان 6563 والبيهقي 2/ 184 والواحدي في «أسباب النزول» 596 من طرق عن هشيم به.
- وأخرجه النسائي 2/ 178 والطبري 22828 والطبراني 12454 من طرق عن الأعمش عن أبي بشر بهذا الإسناد.
- وأخرجه الترمذي 3145 من طريق شعبة عن أبي بشر به.
(1) سقط من المطبوع.
(2) تصحف في المطبوع «الكريمي» .
(3) تصحف في المطبوع «الغنوي» .
(4) زيد في المطبوع وط «ما» .(3/168)
«1339» وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسماعيل قال: ثنا مُسَدَّدٌ عَنْ هُشَيْمٍ عَنْ أَبِي بِشْرٍ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ وَزَادَ وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا، أَسْمِعْهُمْ وَلَا تَجْهَرْ حَتَّى يَأْخُذُوا عَنْكَ الْقُرْآنَ.
وقال قوم: نزلت الْآيَةُ فِي الدُّعَاءِ وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَالنَّخَعِيِّ وَمُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ.
«1340» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثنا طلق بن غنام ثنا زَائِدَةُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا [فِي قَوْلِهِ تَعَالَى] [1] وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها، قَالَتْ: أُنْزِلَ ذَلِكَ فِي الدُّعَاءِ.
«1341» وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: كَانَ أَعْرَابٌ مَنْ بَنِي تَمِيمٍ إِذَا سُلِّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا مَالًا وَوَلَدًا فَيَجْهَرُونَ بِذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ.
أَيْ: لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ بِقِرَاءَتِكَ أَوْ بِدُعَائِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا، وَالْمُخَافَتَةُ خَفْضُ الصَّوْتِ وَالسُّكُوتُ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا أَيْ: بَيْنَ الجهر والخفاء.
«1342» أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أحمد الْمَحْبُوبِيُّ ثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ ثنا محمود بن غيلان ثنا يحيى بن إسحاق ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: «مَرَرْتُ بك وأنت تقرأ القرآن وأنت تخفض صوتك، فقال: إني سمعت مَنْ نَاجَيْتُ، فَقَالَ: ارْفَعْ قَلِيلًا، وَقَالَ لِعُمَرَ:
مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تَقْرَأُ وَأَنْتَ تَرْفَعُ صَوْتَكَ، فَقَالَ: إِنِّي أُوقِظُ الْوَسْنَانَ وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، فَقَالَ: اخْفِضْ قَلِيلًا» .
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً، أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَحْمَدَهُ [2] عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَمَعْنَى الْحَمْدِ لِلَّهِ هُوَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، قال الحسين بن الفضل: معناه الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَرَّفَنِي أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ، قال مجاهد: لم يذل حتى يحتاج إِلَى وَلِيٍّ يَتَعَزَّزُ بِهِ، وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً، أَيْ: وَعَظِّمْهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ أَوْ وَلِيٌّ.
__________
1339- إسناده على شرط البخاري لتفرده عن مسدد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 7490 عن مسدد بهذا الإسناد، وانظر الحديث المتقدم.
1340- إسناده صحيح على شرط البخاري فقد تفرد عن طلق، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- زائدة هو ابن قدامة، هشام هو ابن عروة بن الزبير.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 4723 عن طلق بن غنام بهذا الإسناد. وأخرجه البخاري 6327 و7526 والطبري 22806 و22807 و22808 من طرق عن هشام به.
1341- ضعيف جدا. أخرجه الطبري 22821 عن عبد الله بن شداد، وهذا مرسل، فهو ضعيف، والمتن منكر جدا شبه موضوع ثم إن السورة مكية.
1342- حديث صحيح، إسناده على شرط مسلم، وله شواهد.
- ثابت هو ابن أسلم البناني.
- وهو في «شرح السنة» 1914 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق الترمذي، وهو في «سننه» 447 عن محمد بن غيلان بهذا الإسناد.
- وأخرجه أبو داود 1329 والحاكم 1/ 310 من طريق يحيى بن إسحاق عن حماد به. [.....]
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «يحمد» .(3/169)
«1343» أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بن محمد القاضي أنا الْإِمَامُ أَبُو الطَّيِّبِ سَهْلُ بْنُ محمد بن سليمان ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ [ثَنَا محمد بن يعقوب] [1] ثنا محمد بن إسحاق الصّغاني ثنا نصر بْنُ حَمَّادٍ أَبُو الْحَارِثِ الْوَرَّاقُ ثنا شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الحمادون الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ والضراء» .
«1344» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرمادي أنبأنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عمر [و] قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ رَأْسُ الشُّكْرِ، مَا شَكَرَ اللَّهَ عبدا لَا يَحْمَدُهُ» .
«1345» أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ زياد بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَنَفِيُّ أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَحْمَدَ الأنصاري أَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ محمد بن صاعد ثنا يَحْيَى بْنُ خَالِدِ بْنِ أَيُّوبَ المخزومي ثنا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ كَثِيرِ بن بشر الحرامي [2] الْأَنْصَارِيُّ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ خِرَاشٍ [3] عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَفْضَلَ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَأَفْضَلَ الذِّكْرِ لا إله إلا الله» .
__________
- وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
- وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو داود 1330 وإسناده حسن.
- وشاهد من حديث علي، أخرجه أحمد 1/ 109، وله شاهد من مرسل ابن سيرين، أخرجه الطبري 22835، وانظر «الكشاف» 638 بتخريجي.
1343- ضعيف. إسناده ضعيف جدا لأجل نصر بن حماد، فإنه متروك، لكن توبع، فانحصرت العلة في حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، وَهُوَ مدلس ويرسل عمن لم يلقه، ولا عبرة بتصريحه في رواية البغوي بالتحديث، لأنه إسناد ساقط.
- وهو في «شرح السنة» 1264 بهذا الإسناد.
- وأخرجه البيهقي في «الآداب» 887 من طريق أبي العباس الأصم بهذا الإسناد.
- وأخرجه الحاكم 1/ 502 والطبراني في «الكبير» 12345 و «الصغير» 288 والبزار 3114 والبيهقي في «الآداب» 887 وأبو نعيم في «صفة الجنة» 82 وفي «الحلية» 5/ 69 من طريقين عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ به.
- وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي!؟ وليس كذلك، فإن في إسناد «المستدرك» عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ المسعودي، وقد اختلط، وفيه قراد أبو نوح وعنده مناكير.
- وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» 206 عن مسعر عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عن سعيد بن جبير قوله، ولعل الصواب وقفه، فإن مسعرا ثقة ثبت.
- وقد علقه المصنف في سورة التوبة عند آية: 112 من حديث ابن عباس.
1344- ضعيف. رجاله ثقات مشاهير إلّا أنه منقطع، قتادة لم يسمع من عبد الله بن عمرو بن العاص.
- عبد الرزاق بن همام، معمر بن راشد، قتادة بن دعامة.
- وهو في «شرح السنة» 1264 بهذا الإسناد.
- وأخرجه البيهقي في «الشعب» 5395 وفي «الآداب» 888 عن أبي الحسين بن بشران بهذا الإسناد.
- قال البيهقي: هكذا جاء مرسلا بين قتادة، ومن فوقه.
- وقال السيوطي في «تدريب الراوي» 1/ 57: رجاله ثقات، لكنه منقطع.
1345- حسن. يحيى بن خالد لم أجد له ترجمة، لكن تابعه غير واحد، وشيخه صدوق حسن الحديث، وكذا شيخ شيخه.
(1) سقط من المطبوع.
(2) تصحف في المطبوع وط «الخزامي» .
(3) تصحف في المطبوع «حراش» .(3/170)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
«1346» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ ثَنَا عَلِيُّ بن الجعد ثنا زهير ثنا منصور عن هلال بن يساف [1] عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَمِيلَةَ [2] عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرْبَعٌ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بدأت» .
تفسير سورة الكهف
مَكِّيَّةٌ [3] وَهِيَ مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آية
[سورة الكهف (18) : آيَةً 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1)
__________
- وهو في «شرح السنة» 1262 بهذا الإسناد.
- وأخرجه الترمذي 3383 والنسائي في «عمل اليوم والليلة» 831 والحاكم 1/ 503 وابن حبان 846 من طرق عن يحيى بن عربي بهذا الإسناد.
- وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا يعرف إلّا من حديث موسى بن إبراهيم.
- وأخرجه ابن ماجه 3800 والبيهقي في «الشعب» 4371 وابن أبي الدنيا في «الشكر» ص 37 من طرق عن موسى بن إبراهيم الأنصاري به، وصححه الحاكم 1/ 498 ووافقه الذهبي.
- وحسبه الحسن من أجل موسى وشيخه طلحة.
1346- إسناده على شرط الصحيح.
- زهير هو ابن معاوية، منصور هو ابن المعتمر.
- وهو في «شرح السنة» 1269 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 2137 وأحمد 5/ 10 و21 والطبراني 6791 من طرق عن زهير بهذا الإسناد.
- وأخرجه النسائي في «عمل اليوم والليلة» 846 وابن حبان 835 من طريقين عن جرير عن منصور به.
- وأخرجه النسائي في «عمل اليوم والليلة» 847 وابن ماجه 3811 والطيالسي 899 وأحمد 5/ 11 و20 وابن حبان 839 من طرق عن سلمة بن كهيل عن هلال بن يساف عن سمرة بن جندب به.
(1) تصحف في المطبوع «بشار» وفي المخطوط «يسار» والمثبت عن كتب الحديث والتراجم.
(2) تصحف في المطبوع «خثيم» .
(3) وقع في المخطوط «مدنية» والمثبت هو الصواب.
- قال القرطبي رحمه الله 10/ 346: هي مكية في قول جميع المفسرين، وروي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله «جرزا» والأول أصح. [.....](3/171)
قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ، أَثْنَى اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ بِإِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَخَصَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالذِّكْرِ، لِأَنَّ إِنْزَالَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ كَانَ نِعْمَةً عَلَيْهِ عَلَى الْخُصُوصِ وَعَلَى سَائِرِ النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ.
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.
[سورة الكهف (18) : الآيات 2 الى 7]
قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)
إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7)
قَيِّماً، فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَعْنَاهُ أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قَيِّمًا وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّماً أَيْ مُسْتَقِيمًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَدْلًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: قَيِّمًا عَلَى الْكُتُبِ كُلِّهَا أَيْ: مُصَدِّقًا لَهَا ناسخا لشرائعها.
وقال قتادة: ليسى عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بَلْ مَعْنَاهُ: أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، وَلَكِنْ جَعَلَهُ قيما. قوله عزّ وجلّ: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً [وَلَمْ يَكُنْ] [1] مُخْتَلِفًا، عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاءُ: 82] وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَمْ يَجْعَلْهُ مَخْلُوقًا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ [تعالى] [2] قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزُّمُرُ: 28] أَيْ: غَيْرَ مَخْلُوقٍ. لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً، أَيْ [لِيُنْذِرَ] [3] بِبَأْسٍ شَدِيدٍ، مِنْ لَدُنْهُ، أَيْ مِنْ عِنْدِهِ، وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً، أَيِ الْجَنَّةَ.
ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) أَيْ: مُقِيمِينَ فِيهِ.
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) .
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ، أَيْ قَالُوهُ عَنْ جَهْلٍ لَا عَنْ عِلْمٍ، كَبُرَتْ، أَيْ: عَظُمَتْ، كَلِمَةً، نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ [4] ، تَقْدِيرُهُ: كَبُرَتِ الْكَلِمَةُ كَلِمَةً. وَقِيلَ: مِنْ كَلِمَةٍ، فَحُذِفَ «مِنْ» فَانْتَصَبَ، تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أَيْ: تَظْهَرُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، إِنْ يَقُولُونَ، مَا يَقُولُونَ، إِلَّا كَذِباً.
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ [قاتل نَفْسَكَ] [5] عَلى آثارِهِمْ، مِنْ بَعْدِهِمْ، إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ، أَيِ: الْقُرْآنِ، أَسَفاً، أَيْ حُزْنًا وَقِيلَ غَضَبًا.
إِنَّا جَعَلْنا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها، فَإِنْ قِيلَ: أَيُّ زِينَةٍ فِي الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ وَالشَّيَاطِينِ؟ قِيلَ: فِيهَا زِينَةٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أراد به الرجال خاصة هم زينة الأرض. وقيل: أراد به الْعُلَمَاءَ وَالصُّلَحَاءَ.
وَقِيلَ: الزِّينَةُ بِالنَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ، كَمَا قَالَ: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ [يُونُسُ: 24] ، لِنَبْلُوَهُمْ، لِنَخْتَبِرَهُمْ، أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، أَيْ أَصْلَحُ عَمَلًا. وَقِيلَ: أيهم أترك للدنيا.
__________
(1) في المطبوع «أي» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيد في المطبوع وط.
(4) زيد في المطبوع «يقال» .
(5) سقط من المطبوع وط.(3/172)
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
[سورة الكهف (18) : الآيات 8 الى 10]
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10)
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) ، فَالصَّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: هُوَ التُّرَابُ، جُرُزاً يَابِسًا أَمْلَسَ لَا يُنْبِتُ [1] شَيْئًا يُقَالُ: جَرَزَتِ الْأَرْضُ إِذَا أُكِلَ نَبَاتُهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) ، يَعْنِي أَظَنَنْتَ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا أَيْ هُمْ عَجَبٌ مِنْ آيَاتِنَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِأَعْجَبَ مِنْ آيَاتِنَا فَإِنَّ مَا خَلَقْتُ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ مِنَ الْعَجَائِبِ أعجب منهم، والكهف:
هُوَ الْغَارُ فِي الْجَبَلِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الرَّقِيمِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ لَوْحٌ كُتِبَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَقَصَصُهُمْ وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَقَاوِيلِ، ثُمَّ وَضَعُوهُ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ وَكَانَ اللَّوْحُ مِنْ رَصَاصٍ، وَقِيلَ: مِنْ حِجَارَةٍ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الرَّقِيمُ بِمَعْنَى الْمَرْقُومِ، أَيِ: الْمَكْتُوبِ، وَالرَّقْمُ: الْكِتَابَةُ.
وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هو اسْمٌ لِلْوَادِي الَّذِي فِيهِ أَصْحَابُ الْكَهْفِ، وَعَلَى هَذَا هُوَ مِنْ رَقْمَةِ الْوَادِي وَهُوَ جَانِبُهُ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: هُوَ اسْمٌ لِلْقَرْيَةِ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا أَصْحَابُ الْكَهْفِ. وقيل: اسم للجبل الي فيه الكهف، ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ.
فَقَالَ: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ، أَيْ صَارُوا إِلَيْهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ مَصِيرِهِمْ إِلَى الْكَهْفِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: مَرَجَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ وَعَظُمَتْ فِيهِمُ الْخَطَايَا وَطَغَتْ فِيهِمُ الْمُلُوكُ حَتَّى عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَذَبَحُوا لِلطَّوَاغِيتِ، وَفِيهِمْ بَقَايَا عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ مُتَمَسِّكِينَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَتَوْحِيدِهِ، فَكَانَ مِمَّنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ مُلُوكِهِمْ مَلِكٌ مِنَ الرُّومِ يُقَالُ لَهُ دِقْيَانُوسُ عَبَدَ الْأَصْنَامَ وَذَبَحَ لِلطَّوَاغِيتِ، وَقَتَلَ مَنْ خَالَفَهُ، وَكَانَ يَنْزِلُ قُرَى الرُّومِ وَلَا يَتْرُكُ فِي قَرْيَةٍ نَزَلَهَا أَحَدًا إِلَّا فَتَنَهُ حَتَّى يَعْبُدَ الْأَصْنَامَ وَيَذْبَحَ لِلطَّوَاغِيتِ أَوْ قَتَلَهُ حَتَّى نَزَلَ مدينة أصحاب الكهف وهي أقسوس فَلَمَّا نَزَلَهَا كَبُرَ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ فَاسْتَخْفَوْا مِنْهُ وَهَرَبُوا فِي كُلِّ وَجْهٍ، وَكَانَ دِقْيَانُوسُ حِينَ قَدِمَهَا أَمَرَ أَنْ يُتْبَعَ أَهْلُ الْإِيمَانِ فَيُجْمَعُوا لَهُ وَاتَّخَذَ شُرَطًا مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِهَا يَتَّبِعُونَ أَهْلَ الْإِيمَانِ فِي أَمَاكِنِهِمْ فَيُخْرِجُونَهُمْ إِلَى دِقْيَانُوسَ، فَيُخَيِّرُهُمْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَبَيْنَ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالذَّبْحِ لِلطَّوَاغِيتِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْغَبُ فِي الْحَيَاةِ [فيعبدهم] [2] وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْبَى أَنْ يَعْبُدَ غَيْرَ اللَّهِ فَيُقْتَلُ.
فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الشِّدَّةِ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ جَعَلُوا يُسَلِّمُونَ [3] أَنْفُسَهُمْ لِلْعَذَابِ وَالْقَتْلِ، فَيُقْتَلُونَ وَيُقَطَّعُونَ ثُمَّ يُرْبَطُ ما قطع من أجسادهم عَلَى سُورِ الْمَدِينَةِ مِنْ نَوَاحِيهَا وَعَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِهَا حَتَّى عَظُمَتِ الْفِتْنَةُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْفِتْيَةُ حَزِنُوا حُزْنًا شَدِيدًا فَقَامُوا وَاشْتَغَلُوا بِالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ والتسبيح والدعاء.
__________
(1) تصحف في المطبوع «يبيت» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «يسلموا» .(3/173)
وَكَانُوا مِنْ أَشْرَافِ الرُّومِ، وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ نَفَرٍ بَكَوْا وَتَضَرَّعُوا إِلَى الله وجعلوا يقولون: ربن رب السموات وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا إِنْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ اكْشِفْ عَنْ عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْفِتْنَةَ، وَارْفَعْ عَنْهُمْ هَذَا الْبَلَاءَ حَتَّى يُعْلِنُوا عِبَادَتَكَ، فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَقَدْ دَخَلُوا فِي مُصَلًّى لَهُمْ أَدْرَكَهُمُ الشُّرَطُ فَوَجَدُوهُمْ وَهُمْ سُجُودٌ عَلَى وُجُوهِهِمْ يَبْكُونَ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَى اللَّهِ، فَقَالُوا لَهُمْ: مَا خَلَّفَكُمْ عَنْ أَمْرِ الْمَلِكِ انْطَلِقُوا إِلَيْهِ ثُمَّ خَرَجُوا فَرَفَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَى دِقْيَانُوسَ، فَقَالُوا: تَجْمَعُ النَّاسَ لِلذَّبْحِ لِآلِهَتِكَ وَهَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ يَسْتَهْزِئُونَ بِكَ وَيَعْصُونَ أَمْرَكَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ فَأَتَى بِهِمْ تَفِيضُ أَعْيُنُهُمْ مِنَ الدَّمْعِ مُعَفَّرَةً وُجُوهُهُمْ بِالتُّرَابِ. فَقَالَ لَهُمْ: مَا مَنَعَكُمْ أَنْ تَشْهَدُوا الذَّبْحَ لِآلِهَتِنَا الَّتِي تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ وَتَجْعَلُوا أَنْفُسَكُمْ أُسْوَةً لسراة [1] أهل مدينتكم؟ فاختاروا إِمَّا أَنْ تَذْبَحُوا لِآلِهَتِنَا وَإِمَّا أَنْ أَقْتُلَكُمْ [2] ، فَقَالَ مَكْسِلْمِينَا وَهُوَ أكبرهم سنا: إِنَّ لَنَا إِلَهًا مَلَأَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ عَظَمَةً لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا أَبَدًا لَهُ الْحَمْدُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّسْبِيحُ مِنْ أَنْفُسِنَا خَالِصًا أَبَدًا، إِيَّاهُ نَعْبُدُ وَإِيَّاهُ نَسْأَلُ النَّجَاةَ وَالْخَيْرَ، فَأَمَّا الطَّوَاغِيتُ فَلَنْ نَعْبُدَهَا أَبَدًا فَاصْنَعْ بِنَا مَا بَدَا لَكَ.
وَقَالَ أَصْحَابُ مَكْسِلْمِينَا لِدِقْيَانُوسَ مِثْلَ مَا قَالَ [مَكْسِلْمِينَا] [3] ، فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ أَمَرَ فَنَزَعَ عنهم لبوسا كانت عَلَيْهِمْ مِنْ لُبُوسِ عُظَمَائِهِمْ، ثُمَّ قَالَ: سَأَفْرُغُ لَكُمْ فَأُنْجِزُ لَكُمْ مَا أَوْعَدْتُكُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أُعَجِّلَ ذَلِكَ لَكُمْ إِلَّا أَنِّي أَرَاكُمْ شُبَّانًا حَدِيثَةً أَسْنَانُكُمْ، فَلَا أُحِبُّ أَنْ أُهْلِكَكُمْ حَتَّى أَجْعَلَ لَكُمْ أَجَلًا تَذَكَّرُونَ فِيهِ وَتُرَاجِعُونَ عُقُولَكُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِحِلْيَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَهَبٍ وفضة فنزعت عنهم.
ثم أمرهم فَأُخْرِجُوا مِنْ عِنْدِهِ وَانْطَلَقَ دِقْيَانُوسُ إِلَى مَدِينَةٍ سِوَى مَدِينَتِهِمْ قَرِيبًا مِنْهُمْ لِبَعْضِ أُمُورِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْفِتْيَةُ خُرُوجَهُ بَادَرُوا قُدُومَهُ وَخَافُوا إِذَا قَدِمَ مَدِينَتَهُمْ أَنْ يَذْكُرَهُمْ [وأن يفتك بهم] [4] فأتمروا بينهم أن يأخذ كل مِنْهُمْ نَفَقَةً مِنْ بَيْتِ أَبِيهِ فَيَتَصَدَّقُوا مِنْهَا وَيَتَزَوَّدُوا بِمَا بَقِيَ ثُمَّ يَنْطَلِقُوا إِلَى كَهْفٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَدِينَةِ فِي جَبَلٍ يُقَالُ له مخلوس، فَيَمْكُثُونَ فِيهِ وَيَعْبُدُونَ اللَّهَ حَتَّى إِذَا جَاءَ دِقْيَانُوسُ أَتَوْهُ فَقَامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَصْنَعُ بِهِمْ مَا شَاءَ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَمَدَ كُلُّ فَتًى مِنْهُمْ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ فَأَخَذَ نَفَقَةً فَتَصَدَّقَ مِنْهَا، ثُمَّ انْطَلَقُوا بِمَا بَقِيَ مَعَهُمْ وَاتَّبَعَهُمْ كَلْبٌ كَانَ لَهُمْ حَتَّى أَتَوْا ذَلِكَ الْكَهْفَ، فَلَبِثُوا فِيهِ. قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ:
مروا بكلب فتبعهم فطردوه [فعاد] ففعلوا [5] ذَلِكَ مِرَارًا فَقَالَ لَهُمُ الْكَلْبُ: يَا قَوْمُ مَا تُرِيدُونَ مِنِّي لا تخشوا جَانِبِي أَنَا أُحِبُّ أَحْبَابَ اللَّهِ، فَنَامُوا حَتَّى أَحْرُسَكُمْ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَرَبُوا لَيْلًا مِنْ دِقْيَانُوسَ، وَكَانُوا سَبْعَةً فَمَرُّوا بِرَاعٍ مَعَهُ كَلْبٌ فَتَبِعَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَتَبِعَهُ كَلْبُهُ فَخَرَجُوا مِنَ الْبَلَدِ إِلَى الْكَهْفِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْبَلَدِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَبِثُوا فِيهِ لَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ إِلَّا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّحْمِيدُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَجَعَلُوا نَفَقَتَهُمْ إِلَى فَتًى مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ تَمْلِيخَا فَكَانَ يَبْتَاعُ لَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ سِرًّا وَكَانَ مِنْ أَحْمَلِهِمْ وَأَجْلَدِهِمْ، وَكَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَدِينَةَ يَضَعُ ثِيَابًا كَانَتْ عَلَيْهِ حِسَانًا وَيَأْخُذُ ثِيَابًا كَثِيَابِ الْمَسَاكِينِ الَّذِينَ يَسْتَطْعِمُونَ فِيهَا ثُمَّ يَأْخُذُ وَرِقَهُ فَيَنْطَلِقُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَيَشْتَرِي لَهُمْ طَعَامًا وَشَرَابًا وَيَتَجَسَّسُ لَهُمُ الْخَبَرَ هَلْ ذُكِرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَلَبِثُوا بذلك ما لبثوا.
__________
(1) في المطبوع «لسادات من» .
(2) في المطبوع «أقتلنكم» .
(3) زيد في المطبوع.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «ففعل» .(3/174)
ثُمَّ قَدِمَ دِقْيَانُوسُ الْمَدِينَةَ فَأَمَرَ عُظَمَاءَ أَهْلِهَا فَذَبَحُوا لِلطَّوَاغِيتِ فَفَزِعَ مِنْ ذَلِكَ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَكَانَ تَمْلِيخَا بِالْمَدِينَةِ يَشْتَرِي لِأَصْحَابِهِ طَعَامَهُمْ فَرَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُوَ يَبْكِي وَمَعَهُ طَعَامٌ قَلِيلٌ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْجَبَّارَ قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَأَنَّهُمْ قَدْ ذُكِرُوا وَالْتُمِسُوا مَعَ عُظَمَاءِ الْمَدِينَةِ فَفَزِعُوا وَوَقَعُوا سُجُودًا يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ وَيَتَعَوَّذُونَ مِنَ الْفِتْنَةِ.
ثُمَّ إِنَّ تَمْلِيخَا قَالَ لهم: يا إخوتاه ارفعوا رؤوسكم وَاطْعَمُوا وَتَوَكَّلُوا عَلَى رَبِّكُمْ، فَرَفَعُوا رؤوسهم وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ، فَطَعِمُوا وذلك [مع] [1] غُرُوبَ الشَّمْسِ ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ وَيَتَدَارَسُونَ وَيُذَكِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ ضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمُ النَّوْمَ فِي الْكَهْفِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِبَابِ الْكَهْفِ، فَأَصَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ وَهُمْ مؤمنون موقنون ونفقتهم عند رؤوسهم.
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ فَقَدَهُمْ دِقْيَانُوسُ فَالْتَمَسَهُمْ فَلَمْ يَجِدْهُمْ، فَقَالَ لِبَعْضِهِمْ: لَقَدْ سَاءَنِي شَأْنُ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ الَّذِينَ ذَهَبُوا، لَقَدْ كَانُوا ظَنُّوا أَنَّ بِي غَضَبًا عَلَيْهِمْ لِجَهْلِهِمْ مَا جَهِلُوا مِنْ أَمْرِي مَا كُنْتُ لِأَحْمِلَ عَلَيْهِمْ إِنْ هُمْ تَابُوا وَعَبَدُوا آلِهَتِي.
فَقَالَ عُظَمَاءُ الْمَدِينَةِ: مَا أَنْتَ بِحَقِيقٍ أَنْ تَرْحَمَ قَوْمًا فَجَرَةً مَرَدَةً عُصَاةً قَدْ كُنْتَ أَجَّلْتَ لَهُمْ أجلا ولو شاؤوا لَرَجَعُوا فِي ذَلِكَ الْأَجَلِ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَتُوبُوا.
فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى آبَائِهِمْ فَأَتَى بِهِمْ فَسَأَلَهُمْ عَنْهُمْ، فَقَالَ: أَخْبِرُونِي عَنْ أَبْنَائِكُمُ المردة الذين عصوني [وتوعدهم بِالْقَتْلِ] [2] فَقَالُوا لَهُ: أَمَّا نَحْنُ فَلَمْ نَعْصِكَ فَلِمَ تَقْتُلُنَا بِقَوْمٍ مَرَدَةٍ قَدْ ذَهَبُوا بِأَمْوَالِنَا، فَأَهْلَكُوهَا فِي أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ انْطَلَقُوا وارتقوا إلى جبل يدعى بمخلوس.
فَلَمَّا قَالُوا لَهُ ذَلِكَ خَلَّى سَبِيلَهُمْ وَجَعَلَ لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ بِالْفِتْيَةِ، فَأَلْقَى اللَّهُ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْكَهْفِ فَيُسَدَّ عَلَيْهِمْ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُكْرِمَهُمْ وَيَجْعَلَهُمْ آيَةً لِأُمَّةٍ تُسْتَخْلَفُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَأَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا. وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، فَأَمَرَ دِقْيَانُوسُ بِالْكَهْفِ أَنْ يُسَدَّ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: دَعُوهُمْ كَمَا هُمْ فِي الْكَهْفِ يَمُوتُونَ جُوعًا وعطشا ويكون كهفهم الذي اختاروه قَبْرًا لَهُمْ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ أَيْقَاظٌ يَعْلَمُونَ مَا يُصْنَعُ بِهِمْ.
وَقَدْ تَوَفَّى اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ وَفَاةَ النَّوْمِ، وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِبَابِ الكهف قد غشيه [3] مَا غَشِيَهُمْ يَتَقَلَّبُونَ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ.
ثُمَّ إِنَّ رَجُلَيْنِ مُؤْمِنَيْنِ فِي بَيْتِ الْمَلِكِ دِقْيَانُوسَ يكتمان إيمانهم اسم أحدهما بيدروس [4] و [اسم] الْآخَرِ رُونَاسُ، ائْتَمَرَا أَنْ يَكْتُبَا شَأْنَ الْفِتْيَةِ وَأَنْسَابَهُمْ وَأَسْمَاءَهُمْ وَخَبَرَهُمْ في لوحين مِنْ رَصَاصٍ وَيَجْعَلَاهُمَا فِي تَابُوتٍ مِنْ نُحَاسٍ، وَيَجْعَلَا التَّابُوتَ فِي الْبُنْيَانِ، وَقَالَا لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُظْهِرَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةِ قَوْمًا مُؤْمِنِينَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيَعْلَمُ من فتح عليهم حِينَ يَقْرَأُ هَذَا الْكِتَابَ خَبَرَهُمْ، فَفَعَلَا وَبَنَيَا عَلَيْهِ فَبَقِيَ دِقْيَانُوسُ ما بقي.
__________
(1) زيادة عن المخطوط. [.....]
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «غشيهم» .
(4) في المخطوط «روماس» .(3/175)
ثُمَّ مَاتَ هُوَ وَقَوْمُهُ وَقُرُونٌ بَعْدَهُ كَثِيرَةٌ وَخَلَفَتِ الْمُلُوكُ بَعْدَ الْمُلُوكِ.
وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: كَانَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ فِتْيَانًا مُطَوَّقِينَ مُسَوَّرِينَ ذَوِي ذَوَائِبَ وَكَانَ مَعَهُمْ كَلْبُ صَيْدِهِمْ فَخَرَجُوا فِي عِيدٍ لهم [فِي زِيٍّ] [1] عَظِيمٍ وَمَوْكِبٍ وَأَخْرَجُوا مَعَهُمْ آلِهَتَهُمُ الَّتِي يَعْبُدُونَهَا، وَقَدْ قَذَفَ اللَّهُ [فِي] [2] قُلُوبِ الْفِتْيَةِ الْإِيمَانَ وَكَانَ أَحَدُهُمْ وَزِيرَ الْمَلِكِ فَآمَنُوا وَأَخْفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِيمَانَهُ فَقَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لا يصيبنا عقاب يحرمهم فَخَرَجَ شَابٌّ مِنْهُمْ حَتَّى انْتَهَى إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ فَجَلَسَ فِيهِ ثُمَّ خَرَجَ آخَرُ فَرَآهُ جَالِسًا وَحْدَهُ فَرَجَا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُظْهِرَ ذَلِكَ، ثُمَّ خَرَجَ الْآخَرُ فاجتمعوا.
فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا جَمَعَكُمْ وَكُلُّ وَاحِدٍ يَكْتُمُ صَاحِبَهُ إِيمَانَهُ مَخَافَةً عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالُوا: لِيَخْرُجْ كُلُّ فَتَى فَيَخْلُوَ بِصَاحِبِهِ ثم يفشي واحد منكم سِرَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، فَفَعَلُوا فَإِذَا هُمْ جَمِيعًا عَلَى الْإِيمَانِ، وَإِذَا كَهْفٌ فِي الْجَبَلِ قَرِيبٌ مِنْهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الكهف:
16] ، فَدَخَلُوا الْكَهْفَ وَمَعَهُمْ كَلْبُ صَيْدِهِمْ فَنَامُوا ثَلَاثَمِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا، وَفَقَدَهُمْ قَوْمُهُمْ فَطَلَبُوهُمْ فَعَمَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ آثَارَهُمْ وَكَهْفَهُمْ.
فَكَتَبُوا أَسْمَاءَهُمْ وَأَنْسَابَهُمْ فِي لَوْحٍ: فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ أَبْنَاءُ مُلُوكِنَا فَقَدْنَاهُمْ فِي شَهْرِ كَذَا فِي سَنَةِ كَذَا فِي مَمْلَكَةِ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ وَوَضَعُوا اللَّوْحَ فِي خِزَانَةِ الْمَلِكِ.
وَقَالُوا: لَيَكُونَنَّ لِهَذَا شَأْنٌ وَمَاتَ ذَلِكَ الْمَلِكُ، وَجَاءَ قَرْنٌ بَعْدَ [قَرْنٍ] [3] . وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: جَاءَ حَوَارِيُّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى مَدِينَةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَلَى بَابِهَا صَنَمًا لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إِلَّا سَجَدَ لَهُ فَكَرِهَ أَنْ يَدْخُلَهَا فَأَتَى حَمَّامًا قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ فَكَانَ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ مِنَ الْحَمَّامِيِّ، وَيَعْمَلُ فِيهِ وَرَأَى صَاحِبُ الْحَمَّامِ فِي حَمَّامِهِ الْبَرَكَةَ واجتمع عليه فِتْيَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَجَعَلَ يخبرهم [من] [4] خَبَرَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَخَبَرَ الْآخِرَةِ حَتَّى آمَنُوا وَصَدَّقُوهُ، وَكَانَ شَرَطَ [عَلَى] [5] صَاحِبِ الْحَمَّامِ أَنَّ اللَّيْلَ لِي لَا يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَلَا بَيْنَ الصَّلَاةِ أَحَدٌ.
وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى أَتَى ابْنُ الْمَلِكِ بِامْرَأَةٍ فَدَخَلَ بِهَا الْحَمَّامَ فَعَيَّرَهُ الْحَوَارِيُّ، وَقَالَ: أَنْتَ ابْنُ الْمَلِكِ وَتَدْخُلُ مَعَ هَذِهِ فَاسْتَحْيَا وَذَهَبَ فَرَجَعَ مَرَّةً أُخْرَى. فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ فَسَبَّهُ وَانْتَهَرَهُ ولم يلتفت إلى مقالته حَتَّى دَخَلَا مَعًا فَمَاتَا فِي الْحَمَّامِ وَأَتَى الْمَلِكُ فَقِيلَ لَهُ قَتَلَ صَاحِبُ الْحَمَّامِ ابْنَكَ فَالْتُمِسَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ وَهَرَبَ.
فَقَالَ: مَنْ كَانَ يَصْحَبُهُ فَسَمَّوُا الْفِتْيَةَ فَالْتُمِسُوا فَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فَمَرُّوا بِصَاحِبٍ لَهُمْ عَلَى مَثَلِ إِيمَانِهِمْ فَانْطَلَقَ مَعَهُمْ وَمَعَهُ كَلْبٌ حَتَّى آوَاهُمُ اللَّيْلُ إِلَى الْكَهْفِ فَدَخَلُوهُ، وقالوا: نبيت هنا الليلة ثُمَّ نُصْبِحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَتَرَوْنَ رَأْيَكُمْ فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ فَخَرَجَ الْمَلِكُ فِي أصحابه يبتغونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف، فأراد رجل منهم الدخول [عليهم] [6] فأرعب فَلَمْ يُطِقْ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَهُ.
__________
(1) وقعت في المطبوع بعد «عظيم» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) سقط من المطبوع.
(6) زيادة عن المخطوط.(3/176)
فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلَيْسَ لَوْ قَدَرْتَ عَلَيْهِمْ قَتَلْتَهُمْ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَابْنِ عَلَيْهِمْ بَابَ الْكَهْفِ وَاتْرُكْهُمْ فِيهِ يَمُوتُونَ جُوعًا [وَعَطَشًا] [1] ، ففعل.
قال وهب: فعبر بعد ما سدوا عليهم باب الكهف زمانا بعد زمان، ثُمَّ إِنَّ رَاعِيًا أَدْرَكَهُ الْمَطَرُ عِنْدَ الْكَهْفِ فَقَالَ لَوْ فَتَحْتُ باب هَذَا الْكَهْفَ وَأَدْخَلْتُ غَنَمِي فِيهِ من المطر فأكنهم مِنَ الْمَطَرِ [لَكَانَ حَسَنًا] [2] ، فَلَمْ يزل يعالجه حتى فتحه [3] وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ مِنَ الْغَدِ حِينَ أَصْبَحُوا.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ مَلَكَ أَهْلَ تِلْكَ الْبِلَادِ رَجُلٌ صَالِحٌ يُقَالُ لَهُ بَيْدَرُوسُ، فَلَمَّا مَلَكَ بَقِيَ فِي مُلْكِهِ ثَمَانِيًا وَسِتِّينَ سَنَةً فَتَحَزَّبَ النَّاسُ فِي مُلْكِهِ فَكَانُوا أَحْزَابًا مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيَعْلَمُ أَنَّ السَّاعَةَ حَقٌّ وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَذِّبُ بِهَا، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ فَبَكَى وَتَضَرَّعَ إِلَى اللَّهِ وَحَزِنَ حُزْنًا شَدِيدًا لَمَّا رَأَى أَهْلَ الْبَاطِلِ يَزِيدُونَ وَيَظْهَرُونَ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ، وَيَقُولُونَ لَا حَيَاةَ إِلَّا حَيَاةُ الدُّنْيَا وَإِنَّمَا تُبْعَثُ الْأَرْوَاحُ وَلَا تُبْعَثُ الْأَجْسَادُ، فَجَعَلَ بَيْدَرُوسُ يُرْسِلُ إِلَى من يظن فيهم خَيَّرَا وَأَنَّهُمْ أَئِمَّةٌ فِي الْخَلْقِ، فَجَعَلُوا يُكَذِّبُونَ بِالسَّاعَةِ حَتَّى كَادُوا أَنْ يُحَوِّلُوا النَّاسَ عَنِ الْحَقِّ وَمِلَّةِ الْحَوَارِيِّينَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمَلِكُ الصَّالِحُ دَخَلَ بَيْتَهُ وَأَغْلَقَهُ عَلَيْهِ، وَلَبِسَ مِسْحًا وَجَعَلَ تَحْتَهُ رَمَادًا فَجَلَسَ عَلَيْهِ فَدَأَبَ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ زَمَانًا يَتَضَرَّعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَبْكِي.
وَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ قَدْ تَرَى اخْتِلَافَ هَؤُلَاءِ فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ آيَةً تُبَيِّنُ لَهُمْ بُطْلَانَ مَا هُمْ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنَّ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ الَّذِي يَكْرَهُ هَلَكَةَ الْعِبَادِ أَرَادَ أَنْ يُظْهِرَ الْفِتْيَةَ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ شَأْنَهُمْ وَيَجْعَلَهُمْ آيَةً وَحُجَّةً عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَيَسْتَجِيبُ لِعَبْدِهِ الصَّالِحِ بَيْدَرُوسَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَجْمَعَ مَنْ كَانَ تَبَدَّدَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَأَلْقَى اللَّهُ فِي نَفْسِ رَجُلٍ من [أهل] [4] تلك البلد التي فيها الْكَهْفُ، وَكَانَ اسْمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ أولياس أَنْ يَهْدِمَ ذَلِكَ الْبُنْيَانَ الَّذِي عَلَى فَمِ الْكَهْفِ فَيَبْنِي بِهِ حَظِيرَةً لِغَنَمِهِ فَاسْتَأْجَرَ غُلَامَيْنِ فَجَعَلَا يَنْزِعَانِ تِلْكَ الْحِجَارَةَ وَيَبْنِيَانِ تِلْكَ الْحَظِيرَةَ، حَتَّى نَزَعَا مَا عَلَى فَمِ الْكَهْفِ وَفَتَحَا بَابَ الْكَهْفِ وَحَجَبَهُمُ اللَّهُ عَنِ النَّاسِ بِالرُّعْبِ، فَلَمَّا فَتَحَا بَابَ الْكَهْفِ أَذِنَ اللَّهُ ذُو الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ مُحْيِي الْمَوْتَى لِلْفِتْيَةِ أَنْ يَجْلِسُوا بَيْنَ ظَهَرَانَيِ الْكَهْفِ.
فَجَلَسُوا فَرِحِينَ مُسْفِرَةً وُجُوهُهُمْ طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ فَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ على بعض، كأنما اسْتَيْقَظُوا مِنْ سَاعَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَسْتَيْقِظُونَ فِيهَا إِذَا أَصْبَحُوا مِنْ لَيْلَتِهِمْ.
ثُمَّ قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ فَصَلَّوْا كَالَّذِي كَانُوا يَفْعَلُونَ لَا يُرَى فِي وُجُوهِهِمْ وَلَا أَلْوَانِهِمْ شَيْءٌ يُنْكِرُونَهُ كَهَيْئَتِهِمْ حِينَ رَقَدُوا وَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّ دِقْيَانُوسَ فِي طَلَبِهِمْ فَلِمَا قَضَوْا صَلَاتَهُمْ قَالُوا لتمليخا صَاحِبِ نَفَقَاتِهِمْ أَنْبِئْنَا مَا الَّذِي قَالَ النَّاسُ فِي شَأْنِنَا عَشِيَّةَ أَمْسٍ عِنْدَ هَذَا الْجَبَّارِ؟ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ رَقَدُوا كَبَعْضِ مَا كانوا يرقدون، وقد تخيل لهم أَنَّهُمْ قَدْ نَامُوا أَطْوَلَ مِمَّا كانوا ينامون، حتى تساءلوا بَيْنَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:
كَمْ لَبِثْتُمْ نِيَامًا؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، ثُمَّ قَالُوا: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ، وَكُلُّ ذلك في أنفسكم يسير.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «فتح» .
(4) زيادة عن المخطوط.(3/177)
فقال لهم تمليخا: الْتُمِسْتُمْ فِي الْمَدِينَةِ فَلَمْ تُوجَدُوا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُؤْتَى بِكُمُ الْيَوْمَ، فَتَذْبَحُونَ لِلطَّوَاغِيتِ أَوْ يَقْتُلُكُمْ فَمَا شَاءَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَ، فَقَالَ لَهُمْ مَكْسِلْمِينَا: يَا إِخْوَتَاهُ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُو اللَّهِ فَلَا تَكْفُرُوا بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِذَا دَعَاكُمْ عَدُوُّ اللَّهِ ثُمَّ قَالُوا لتمليخا انْطَلِقْ إِلَى الْمَدِينَةِ فَتَسَمَّعْ مَا يقال لنا بِهَا، وَمَا الَّذِي يُذْكَرُ عِنْدَ دِقْيَانُوسَ وَتَلَطَّفْ وَلَا تُشْعِرَنَّ بِكَ أَحَدًا وَابْتَعْ لَنَا طَعَامًا فَائْتِنَا بِهِ وَزِدْنَا عَلَى الطَّعَامِ الَّذِي جئتنا [1] بِهِ، فَقَدْ أَصْبَحْنَا جِيَاعًا.
فَفَعَلَ تمليخا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ وَوَضَعَ ثِيَابَهُ وأخذ الثياب التي [كان] [2] يَتَنَكَّرُ فِيهَا وَأَخَذَ وَرِقًا مِنْ نَفَقَتِهِمُ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُمْ وَالَّتِي ضُرِبَتْ بِطَابَعِ دِقْيَانُوسَ، فَكَانَتْ كَخِفَافِ الربع [والربع أول ما ينتج من ولد الضأن في الربيع] [3] ، فانطلق تمليخا خَارِجًا فَلَمَّا مَرَّ بِبَابِ الْكَهْفِ رَأَى الْحِجَارَةَ مَنْزُوعَةً عَنْ بَابِ الْكَهْفِ فَعَجِبَ مِنْهَا ثُمَّ مَرَّ وَلَمْ يُبَالِ بِهَا حَتَّى [أَتَى] [4] باب المدينة مستخفيا يصد عن الطريق مخافة أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهَا فَيَعْرِفَهُ وَلَا يَشْعُرُ أَنَّ دِقْيَانُوسَ وَأَهْلَهُ قَدْ هَلَكُوا قَبْلَ ذَلِكَ بثلاثمائة سنة.
فلما أتى تمليخا بَابَ الْمَدِينَةِ رَفَعَ بَصَرَهُ فَرَأَى فَوْقَ ظَهْرِ الْبَابِ عَلَامَةً تَكُونُ لأهل الإيمان إذا كان [أمر] [5] الْإِيمَانُ ظَاهِرًا فِيهَا فَلَمَّا رَآهَا عَجِبَ وَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا مُسْتَخْفِيًا يَنْظُرُ يَمِينًا وَشِمَالًا، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ الْبَابَ فَتَحَوَّلَ إِلَى بَابٍ آخَرَ مِنْ أَبْوَابِهَا فَرَأَى مِثْلَ ذَلِكَ فَجَعَلَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّ الْمَدِينَةَ لَيْسَتْ بِالَّتِي كَانَ يَعْرِفُ وَرَأَى نَاسًا كَثِيرًا مُحْدَثِينَ لَمْ يَكُنْ يَرَاهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَجَعَلَ يَمْشِي وَيَتَعَجَّبُ وَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ حَيْرَانُ.
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْبَابِ الَّذِي أَتَى مِنْهُ فَجَعَلَ يَتَعَجَّبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَيَقُولُ: يَا لَيْتَ شِعْرِي مَا هَذَا؟ أَمَّا عيشة أمس فكان المسلمون يخبئون هَذِهِ الْعَلَامَةَ وَيَسْتَخْفُونَ بِهَا، وَأَمَّا اليوم فإنها ظاهرة لعلي حالم ثُمَّ يَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِنَائِمٍ، فَأَخَذَ كِسَاءَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَجَعَلَ يَمْشِي بين ظهراني سُوقِهَا فَيَسْمَعُ نَاسًا يَحْلِفُونَ بِاسْمِ عيسى ابن مريم فزاده [ذلك] [6] فَرَقًا وَرَأَى أَنَّهُ حَيْرَانُ.
فَقَامَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى جِدَارٍ مِنْ جدر المدينة، وقال فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي ما هذا؟ أما عيشة أَمْسٍ فَلَيْسَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ إِنْسَانٌ يَذْكُرُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ إِلَّا قُتِلَ، وَأَمَّا الْغَدَاةُ فَأَسْمَعُهُمْ وَكُلُّ إِنْسَانٍ يَذْكُرُ اسْمَ عِيسَى وَلَا يَخَافُ أَحَدًا، ثُمَّ قَالَ فِي نَفْسِهِ: لَعَلَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِالْمَدِينَةِ الَّتِي أَعْرِفُ، وَاللَّهِ مَا أعلم مدينة أقرب [من] [7] مَدِينَتِنَا، فَقَامَ كَالْحَيْرَانِ ثُمَّ لَقِيَ فَتًى فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ يَا فَتَى قَالَ اسمها أقسوس، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَعَلَّ بِي مَسًّا أَوْ أَمْرًا أَذْهَبَ عَقْلِي وَاللَّهِ يَحِقُّ لِي أَنْ أُسْرِعَ الْخُرُوجَ مِنْهَا قَبْلَ أَنْ أَخْزَى فِيهَا أَوْ يُصِيبَنِي شَرٌّ فَأَهْلَكُ ثُمَّ إِنَّهُ أَفَاقَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ عَجَّلْتُ الْخُرُوجَ مِنَ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يُفْطَنَ بِي لَكَانَ أكيس.
فَدَنَا مِنَ الَّذِينَ يَبِيعُونَ الطَّعَامَ فَأَخْرَجَ الْوَرِقَ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ فَأَعْطَاهَا رَجُلًا مِنْهُمْ فَقَالَ بِعْنِي بِهَذِهِ الْوَرِقِ طَعَامًا فَأَخَذَهَا الرَّجُلُ فَنَظَرَ [إِلَى ضَرْبِ الْوَرِقِ وَنَقْشِهَا فَعَجِبَ مِنْهُ ثُمَّ طَرَحَهَا إِلَى رجل آخر من أصحابه فنظر إليها] [8] فجعلوا يتطار حونها بَيْنَهُمْ مِنْ رَجُلٍ إِلَى رَجُلٍ. ويتعجبون مِنْهَا. ثُمَّ جَعَلُوا يَتَشَاوَرُونَ بَيْنَهُمْ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا أَصَابَ كَنْزًا خَبِيئًا فِي الْأَرْضِ مُنْذُ زَمَانٍ وَدَهْرٍ طَوِيلٍ، فَلَمَّا رآهم تمليخا يَتَشَاوَرُونَ مِنْ أَجْلِهِ فَرَقَ فَرَقًا شَدِيدًا وَجَعَلَ يَرْتَعِدُ وَيَظُنُّ أَنَّهُمْ قد فطنوا به وعرفوه
__________
(1) في المطبوع «جئنا» . [.....]
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيد في المطبوع.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) سقط من المخطوط.(3/178)
وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يَذْهَبُوا بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ دِقْيَانُوسَ وَجَعَلَ أُنَاسٌ آخَرُونَ يَأْتُونَهُ فَيَتَعَرَّفُونَهُ فَلَا يَعْرِفُونَهُ، فَقَالَ لَهُمْ وَهُوَ شَدِيدُ الْفَرَقِ مِنْهُمُ: افْضُلُوا [1] عَلَيَّ قَدْ أَخَذْتُمْ وَرِقِي فَأَمْسِكُوهَا [2] وَأَمَّا طَعَامُكُمْ فَلَا حَاجَةَ لِي بِهِ.
فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ يَا فَتَى وَمَا شَأْنُكَ وَاللَّهِ لَقَدْ وَجَدْتَ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ الْأَوَّلِينَ، وَأَنْتَ تريد أن تخفيه منا، فَانْطَلِقْ مَعَنَا وَأَرِنَا وَشَارِكْنَا فِيهِ، نُخْفِ عَلَيْكَ مَا وَجَدْتَ، فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ نَأْتِ بِكَ إِلَى السُّلْطَانِ فَنُسَلِّمْكَ إِلَيْهِ فَيَقْتُلْكَ، فَلَمَّا سَمِعَ قَوْلَهُمْ قَالَ فِي نَفْسِهِ: قَدْ وَقَعْتُ فِي كُلِّ شَيْءٍ كُنْتُ أَحْذَرُ مِنْهُ، فَقَالُوا:
يَا فَتَى إِنَّكَ وَاللَّهِ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَكْتُمَ مَا وَجَدْتَ.
فجعل تمليخا لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ لَهُمْ وَمَا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ، وَفَرَقَ حَتَّى مَا يُخْبِرُ [3] إِلَيْهِمْ شَيْئًا، فَلَمَّا رَأَوْهُ لَا يَتَكَلَّمُ أَخَذُوا كِسَاءَهُ فَطَرَحُوهُ فِي عُنُقِهِ، ثُمَّ جَعَلُوا يقودونه في سكك المدينة حَتَّى سَمِعَ بِهِ مَنْ فِيهَا، وقيل: قد أخذ رجل معه كَنْزٌ، فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ صَغِيرُهُمْ وَكَبِيرُهُمْ فَجَعَلُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا هَذَا الْفَتَى مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ وَمَا رأيناه فينا قَطُّ وَمَا نَعْرِفُهُ قَطُّ، فَجَعَلَ تمليخا لَا يَدْرِي مَا يَقُولُ لَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَرَقَ فَسَكَتَ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ.
وَكَانَ مُسْتَيْقِنًا أَنَّ أَبَاهُ وَإِخْوَتَهُ بِالْمَدِينَةِ وَأَنَّ حَسَبَهُ وَنَسَبَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِهَا وَأَنَّهُمْ سَيَأْتُونَهُ إِذَا سَمِعُوا بِهِ فَبَيْنَا هُوَ قَائِمٌ كَالْحَيْرَانِ يَنْتَظِرُ مَتَى يَأْتِيهِ بَعْضُ أَهْلِهِ فَيُخَلِّصُهُ مِنْ أيديهم إذا اختطفوه وانطلقوا به إلى رئيس المدينة ومدبرها اللَّذَيْنِ يُدَبِّرَانِ أَمْرَهَا، وَهُمَا رَجُلَانِ صَالِحَانِ اسْمُ أَحَدِهِمَا أَرْيُوسُ وَاسْمُ الْآخَرِ طَنْطَيُوسُ.
فَلَمَّا انْطُلِقَ بِهِ إليهما ظن تمليخا أَنَّهُ يُنْطَلَقُ بِهِ إِلَى دِقْيَانُوسَ الْجَبَّارِ، فَجَعَلَ يَلْتَفِتُ يَمِينًا وَشِمَالًا وَجَعَلَ النَّاسُ يَسْخَرُونَ مِنْهُ كَمَا يسخر من المجنون، وجعل تمليخا يَبْكِي ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ فِي نَفْسِهِ:
اللَّهُمَّ إِلَهَ السَّمَاءِ وَإِلَهَ الْأَرْضِ أَفْرِغِ الْيَوْمَ عَلَيَّ صَبْرًا وَأَوْلِجْ مَعِيَ رُوحًا مِنْكَ تُؤَيِّدُنِي بِهِ عِنْدَ هَذَا الْجَبَّارِ، وَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ فِي نَفْسِهِ: فُرِّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي يَا لَيْتَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا لقيت يا ليتهم يأتوني فَنَقُومُ جَمِيعًا بَيْنَ يَدَيْ هَذَا الْجَبَّارِ، فَإِنَّا كُنَّا تَوَاثَقْنَا لَنَكُونَنَّ معا لا نَكْفُرُ بِاللَّهِ وَلَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، فُرِّقَ بَيْنِي، وَبَيْنَهُمْ فَلَنْ يَرَوْنِي وَلَنْ أَرَاهُمْ أَبَدًا وَكُنَّا تَوَاثَقْنَا أَنْ لَا نَفْتَرِقَ فِي حَيَاةٍ وَلَا مَوْتٍ أَبَدًا يُحَدِّثُ به نفسه تمليخا، فيما يخبر أصحابه حين يرجع إليهم، حتى انتهوا إلى الرجلين الصالحين أريوس وطنطيوس، فلما رأى تمليخا أَنَّهُ لَا يُذْهَبُ بِهِ إِلَى دِقْيَانُوسَ أَفَاقَ وَذَهَبَ عَنْهُ الْبُكَاءُ فَأَخَذَ أَرْيُوسُ وَطَنْطَيُوسُ الْوَرِقَ فَنَظَرَا إِلَيْهَا وَعَجِبَا مِنْهَا ثُمَّ قَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: أَيْنَ الْكَنْزُ الَّذِي وجدت يا فتى؟ فقال تمليخا: مَا وَجَدْتُ كَنْزًا وَلَكِنَّ هَذَا وَرِقُ آبَائِي وَنَقْشُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ وَضَرْبُهَا، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا شَأْنِي وَمَا أَقُولُ لَكُمْ.
فَقَالَ أَحَدُهُمَا: فَمَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: تمليخا أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَرَى أَنِّي مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: وَمَنْ أَبُوكَ وَمَنْ يَعْرِفُكَ فِيهَا؟ فَأَنْبَأَهُمْ بِاسْمِ أَبِيهِ فَلَمْ يَجِدُوا أَحَدًا يَعْرِفُهُ وَلَا أَبَاهُ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: أَنْتَ رَجُلٌ كَذَّابٌ لَا تُنْبِئُنَا بِالْحَقِّ، فَلَمْ يَدْرِ تمليخا مَا يَقُولُ لَهُمْ غَيْرَ أَنَّهُ نكس بَصَرَهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَقَالَ بَعْضُ مَنْ حَوْلَهُ: هَذَا رَجُلٌ مَجْنُونٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ بِمَجْنُونٍ وَلَكِنَّهُ يحمق نفسه عمدا لكي يتفلت [4] منكم.
__________
(1) في المخطوط «تنصبوا» .
(2) في المخطوط «فأمسكتموها» .
(3) في المخطوط «مَا وَجَدَ مَا يُخْبِرُ إِلَيْهِمْ شيئا» .
(4) في المطبوع «ينقلب» .(3/179)
فقال له أحدهما و [قد] [1] نظر إليه نظرا شديدا: أتظن [يا هذا] [2] أَنَّا نُرْسِلُكَ وَنُصَدِّقُكَ بِأَنَّ هَذَا مَالُ أَبِيكَ وَنَقْشُ هَذَا الْوَرِقِ وَضَرْبُهَا أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، وَإِنَّمَا أَنْتَ غُلَامٌ شَابٌّ أَتَظُنُّ أَنَّكَ تَأْفِكُنَا وَتَسْخَرُ بِنَا وَنَحْنُ شيوخ كَمَا تَرَى، وَحَوْلَكَ سُرَاةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَوُلَاةُ أَمْرِهَا وَخَزَائِنُ هَذِهِ الْبَلْدَةِ بِأَيْدِينَا، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ هَذَا الضَّرْبِ دِرْهَمٌ وَلَا دِينَارٌ، وَإِنِّي لَأَظُنُّنِي سَآمُرُ بِكَ فَتُعَذَّبُ عَذَابًا شَدِيدًا، ثُمَّ أُوثِقُكَ حَتَّى تَعْتَرِفَ [3] بِهَذَا الْكَنْزِ الَّذِي وَجَدْتَهُ.
فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ قَالَ لَهُمْ تمليخا: أَنْبِئُونِي عَنْ شَيْءٍ أَسْأَلُكُمْ عَنْهُ فَإِنْ فَعَلْتُمْ صَدَقْتُكُمْ عَمَّا عِنْدِي، قَالُوا: سَلْ لَا نَكْتُمُكَ شَيْئًا، قَالَ لَهُمْ: مَا فَعَلَ الْمَلِكُ دِقْيَانُوسُ؟ قَالُوا: لَا نَعْرِفُ الْيَوْمَ على وجه الأرض ملك يُسَمَّى دِقْيَانُوسَ، وَلَمْ يَكُنْ إِلَّا مَلِكٌ هَلَكَ مُنْذُ زَمَانٍ وَدَهْرٍ طَوِيلٍ وَهَلَكَتْ بَعْدَهُ قُرُونٌ كَثِيرَةٌ.
فقال تمليخا: إِنِّي إِذًا لَحَيْرَانُ وَمَا يُصَدِّقُنِي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِمَا أَقُولُ، لَقَدْ كُنَّا فِتْيَةٌ [عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْإِسْلَامُ] وَإِنَّ الْمَلِكَ أَكْرَهَنَا عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالذَّبْحِ لِلطَّوَاغِيتِ فَهَرَبْنَا مِنْهُ عَشِيَّةَ أَمْسٍ فَنِمْنَا فَلَمَّا انْتَبَهْنَا خَرَجْتُ لِأَشْتَرِيَ [4] له طَعَامًا وَأَتَجَسَّسَ الْأَخْبَارَ فَإِذَا أَنَا كَمَا تَرَوْنَ، فَانْطَلِقُوا مَعِي إِلَى الكهف [الذي بجبل بَنْجَلُوسَ] [5] أُرِيكُمْ أَصْحَابِي، فَلَمَّا سَمِعَ أريوس ما يقول تمليخا، قَالَ: يَا قَوْمُ لَعَلَّ هَذِهِ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ جَعَلَهَا اللَّهُ لَكُمْ عَلَى يَدَيْ هَذَا الفتى، فانطلقوا بنا معه يرنا أصحابه، فانطلق معه أريوس وطنطيوس وَانْطَلَقَ مَعَهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ كَبِيرُهُمْ وَصَغِيرُهُمْ نَحْوَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ لِيَنْظُرُوا إِلَيْهِمْ.
وَلَمَّا رَأَى الْفِتْيَةُ أَصْحَابُ الكهف تمليخا قَدِ احْتَبَسَ عَنْهُمْ بِطَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ عَنِ الْقَدْرِ الَّذِي كَانَ يَأْتِي بِهِ ظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ أُخِذَ فَذُهِبَ بِهِ إِلَى مَلِكِهِمْ دِقْيَانُوسَ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَظُنُّونَ ذَلِكَ وَيَتَخَوَّفُونَهُ إِذْ سَمِعُوا الْأَصْوَاتَ وَجَلَبَ الْخَيْلِ مُصَعِّدَةً نَحْوَهُمْ، فَظَنُّوا أَنَّهُمْ رُسُلُ الْجَبَّارِ دِقْيَانُوسَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ لِيُؤْتَى بِهِمْ [6] ، فَقَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَسَلَّمَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَأَوْصَى بَعْضُهُمْ بعضا وقالوا انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا فَإِنَّهُ الْآنَ بَيْنَ يَدَيِ الْجَبَّارِ يَنْتَظِرُ مَتَى نَأْتِيهِ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ وَهُمْ جُلُوسٌ بَيْنَ ظهراني الْكَهْفِ لَمْ يَرَوْا إِلَّا أَرْيُوسَ وَأَصْحَابَهُ وُقُوفًا عَلَى بَابِ الْكَهْفِ. وسبقهم تمليخا فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ يَبْكِي فَلَمَّا رَأَوْهُ يَبْكِي بَكَوْا مَعَهُ، ثُمَّ سَأَلُوهُ عَنْ شَأْنِهِ فَأَخْبَرَهُمْ، وَقَصَّ عليهم القصة والنبأ كُلَّهُ، فَعَرَفُوا عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا نِيَامًا بِأَمْرِ اللَّهِ ذَلِكَ الزَّمَانَ كُلَّهُ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا أُوقِظُوا لِيَكُونُوا آيَةً لِلنَّاسِ وَتَصْدِيقًا لِلْبَعْثِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا.
ثُمَّ دَخَلَ على أثر تمليخا أَرْيُوسُ فَرَأَى تَابُوتًا مِنْ نُحَاسٍ مَخْتُومًا بِخَاتَمٍ مِنْ فِضَّةٍ، فَقَامَ بباب الكهف ثم دعا رجالا مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَفُتِحَ التَّابُوتَ عِنْدَهُمْ فَوَجَدُوا فِيهِ لَوْحَيْنِ مِنْ رَصَاصٍ مَكْتُوبًا فِيهِمَا أَنَّ مكسلمينا ومخشلمينا وتمليخا وَمَرْطُونِسْ وَكَشْطُونِسْ وَيَبْرُونِسْ وَدِيمُوسُ وَبَطْيُوسُ [والكلب اسمه قطمير] [7] كَانُوا فَتْيَةً هَرَبُوا مِنْ مَلِكِهِمْ دِقْيَانُوسَ الْجَبَّارِ مَخَافَةَ أَنْ يَفْتِنَهُمْ عندينهم فَدَخَلُوا هَذَا الْكَهْفَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِمَكَانِهِمْ أَمَرَ بِالْكَهْفِ فَسُدَّ عَلَيْهِمْ بِالْحِجَارَةِ وَإِنَّا كَتَبْنَا شَأْنَهُمْ وَخَبَرَهُمْ لِيَعْلَمَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ إِنْ عَثَرَ عليهم فلما قرأوه عجبوا، وَحَمِدُوا اللَّهَ الَّذِي أَرَاهُمْ آيَةً الْبَعْثِ فِيهِمْ، ثُمَّ رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَسْبِيحِهِ ثُمَّ دَخَلُوا عَلَى الْفِتْيَةِ إِلَى الْكَهْفِ فَوَجَدُوهُمْ جُلُوسًا بَيْنَ ظهرانيهم مُشْرِقَةً وُجُوهُهُمْ لم تبل ثيابهم فخر
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «تعرف» . [.....]
(4) زيد في المطبوع وط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «لهم» .
(7) زيد في المطبوع.(3/180)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
أَرْيُوسُ وَأَصْحَابُهُ سُجُودًا وَحَمِدُوا اللَّهَ الَّذِي أَرَاهُمْ آيَةً مِنْ آيَاتِهِ، ثُمَّ كَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَأَنْبَأَهُمُ الْفِتْيَةُ عَنِ الَّذِي لَقُوا مِنْ مَلِكِهِمْ دِقْيَانُوسَ [مِنْ إِكْرَاهِهِمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالذَّبْحِ لِلطَّوَاغِيتِ وَإِخْفَاءِ إيمانهم منه وهروبهم إِلَى الْكَهْفِ] [1] ، ثُمَّ إِنَّ أَرْيُوسَ وَأَصْحَابَهُ بَعَثُوا بَرِيدًا إِلَى مَلِكِهِمُ الصالح بيدروس أن عجل لَعَلَّكَ تَنْظُرُ إِلَى آيَةٍ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي مُلْكِكَ وَجَعَلَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ لِتَكَوُنَ لَهُمْ نُورًا وَضِيَاءً وَتَصْدِيقًا لِلْبَعْثِ فَاعْجَلْ إِلَى فِتْيَةٍ بَعَثَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ كَانَ تَوَفَّاهُمْ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ فَلَمَّا أَتَى الْمَلِكَ الْخَبَرُ رَجَعَ إليه عقله وذهب عنه غمه فَقَالَ أَحْمَدُكَ اللَّهَ رَبَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْبُدُكَ وَأُسَبِّحُ لَكَ تَطَوَّلْتَ عَلَيَّ وَرَحِمْتَنِي فَلَمْ تُطْفِئِ النُّورَ الذي كنت جعلته لآبائي وللعبد الصالح بيدروس الْمَلِكِ.
فَلَمَّا نَبَّأَ بِهِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ رَكِبُوا إِلَيْهِ وَسَارُوا مَعَهُ حتى أتوا مدينة أقسوس فَتَلَقَّاهُمْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَسَارُوا مَعَهُ حَتَّى صَعِدُوا نَحْوَ الْكَهْفِ، فَلَمَّا رَأَى الْفِتْيَةُ بَيْدَرُوسَ فَرِحُوا بِهِ وخرجوا سُجَّدًا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَقَامَ بَيْدَرُوسُ قدامهم ثم اعتنقهم وَبَكَى وَهُمْ جُلُوسٌ بَيْنَ يَدَيْهِ على الأرض يسبحون الله ويحمدون، ثُمَّ قَالَ الْفِتْيَةُ لِبَيْدَرُوسَ: نَسْتَوْدِعُكَ الله والسلام عليك ورحمة الله وبركاته حَفِظَكَ اللَّهُ وَحَفِظَ مُلْكَكَ، وَنُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَبَيْنَمَا الْمَلِكُ قَائِمٌ إِذْ رَجَعُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ فَنَامُوا وَتَوَفَّى اللَّهُ تَعَالَى أَنْفُسَهُمْ.
وَقَامَ الْمَلِكُ إِلَيْهِمْ فَجَعَلَ ثِيَابَهُمْ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي تَابُوتٍ مِنْ ذَهَبٍ فَلَمَّا أَمْسَى وَنَامَ أَتَوْهُ فِي الْمَنَامِ، فَقَالُوا لَهُ: إِنَّنَا لَمْ نُخْلَقْ مِنْ ذَهَبٍ وَلَا مِنْ فِضَّةٍ وَلَكِنَّا خلقنا من تراب إلى التُّرَابِ نَصِيرُ فَاتْرُكْنَا كَمَا كُنَّا فِي الْكَهْفِ عَلَى التُّرَابِ حَتَّى يَبْعَثَنَا [2] اللَّهُ مِنْهُ.
فَأَمَرَ الْمَلِكُ حِينَئِذٍ بِتَابُوتٍ مِنْ سَاجٍ فَجُعِلُوا فِيهِ وَحَجَبَهُمُ اللَّهُ حِينَ خَرَجُوا مِنْ عِنْدِهِمْ بِالرُّعْبِ فَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ فَأَمَرَ الْمَلِكُ فَجَعَلَ عَلَى بَابِ الْكَهْفِ مَسْجِدًا يُصَلَّى فِيهِ وَجَعَلَ لَهُمْ عِيدًا عَظِيمًا وَأَمَرَ أَنْ يُؤْتَى كُلَّ سَنَةٍ.
وَقِيلَ: إِنَّ تمليخا لَمَّا حُمِلَ إِلَى الْمَلِكِ الصَّالِحِ قَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَنْ أَنْتَ قَالَ: أَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْمَدِينَةِ وَذَكَرَ أَنَّهُ خَرَجَ أَمْسَ أَوْ مُنْذُ أَيَّامٍ وَذَكَرَ مَنْزِلَهُ وَأَقْوَامًا لَمْ يَعْرِفْهُمْ أَحَدٌ وَكَانَ الْمَلِكُ قَدْ سَمِعَ أَنَّ فِتْيَةٍ فُقِدُوا فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ وَأَنَّ أَسْمَاءَهُمْ مَكْتُوبَةٌ عَلَى اللَّوْحِ بِالْخِزَانَةِ، فَدَعَا بِاللَّوْحِ وَقَدْ نَظَرَ فِي أَسْمَائِهِمْ فَإِذَا هُوَ مِنْ أُولَئِكَ الْقَوْمِ، وَذَكَرَ أَسْمَاءَ الْآخَرِينَ فقال تمليخا هُمْ أَصْحَابِي.
فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ ذَلِكَ رَكِبَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْقَوْمِ فَلَمَّا أَتَوْا بَابَ الْكَهْفِ قال تمليخا دَعُونِي حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى أَصْحَابِي فَأُبَشِّرُهُمْ فَإِنَّهُمْ إِنْ رَأَوْكُمْ مَعِي أَرْعَبْتُمُوهُمْ، فَدَخَلَ فَبَشَّرَهُمْ فَقَبَضَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ وَأَعْمَى عَلَيْهِمْ أَثَرَهُمْ فَلَمْ يهتدوا إليهم مرة ثانية، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ أَيْ: صَارُوا إِلَى الْكَهْفِ، يُقَالُ أَوَى فَلَانٌ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا أَيِ: اتَّخَذَهُ مَنْزِلًا، إِلَى الْكَهْفِ، وَهُوَ غار في جبل مخلوس واسم الكهف جيرم [3] .
فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً. وَمَعْنَى الرَّحْمَةِ الْهِدَايَةُ فِي الدِّينِ. وَقِيلَ: الرِّزْقُ، وَهَيِّئْ لَنا، يَسِّرْ لَنَا، مِنْ أَمْرِنا رَشَداً، أي: ما نلتمس من خير رِضَاكَ وَمَا فِيهِ رُشْدُنَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رَشَّدَا أَيْ: مَخْرَجًا من الغار في سلامة.
[سورة الكهف (18) : الآيات 11 الى 15]
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15)
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «بعثنا» .
(3) في المطبوع «خيرم» .(3/181)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ، أَيْ: أَنَمْنَاهُمْ وَأَلْقَيْنَا عَلَيْهِمُ النَّوْمَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَنَعْنَا نُفُوذَ الْأَصْوَاتِ إِلَى مَسَامِعِهِمْ، فَإِنَّ النَّائِمَ إِذَا سَمِعَ الصَّوْتَ يَنْتَبِهُ، فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً، أَيْ: أَنَمْنَاهُمْ سِنِينَ مَعْدُودَةً وَذِكْرُ الْعَدَدِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ. وَقِيلَ: ذِكْرُهُ يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ فَإِنَّ الْقَلِيلَ لَا يُعَدُّ فِي الْعَادَةِ.
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ، يَعْنِي مِنْ نَوْمِهِمْ، لِنَعْلَمَ أَيْ: عِلْمَ الْمُشَاهَدَةِ، أَيُّ الْحِزْبَيْنِ، أَيُّ الطَّائِفَتَيْنِ، أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً. وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ تَنَازَعُوا فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الْكَهْفِ وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ:
أَحْصى لِما لَبِثُوا [أي] [1] أَحْفَظُ لِمَا مَكَثُوا فِي كَهْفِهِمْ نِيَامًا [أَمَدًا] أَيْ: غَايَةً. وَقَالَ مجاهد: عددا. نصبه عَلَى التَّفْسِيرِ.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَقْرَأُ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ، خَبَرَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. بِالْحَقِّ، بِالصِّدْقِ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ، شُبَّانٌ، آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً، إيمانا وبصيرة.
وَرَبَطْنا، وشددنا، عَلى قُلُوبِهِمْ، بِالصَّبْرِ وَالتَّثْبِيتِ وَقَوَّيْنَاهُمْ بِنُورِ الْإِيمَانِ حَتَّى صَبَرُوا عَلَى هِجْرَانِ دَارِ قَوْمِهِمْ وَمُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ [الْعِزِّ] وَخِصْبِ [2] الْعَيْشِ وَفَرُّوا بِدِينِهِمْ إِلَى الْكَهْفِ، إِذْ قامُوا، بَيْنَ يَدَيْ دِقْيَانُوسَ حِينَ عَاتَبَهُمْ عَلَى تَرْكِ عِبَادَةِ الأصنام، فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً، قَالُوا ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْمَهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً، يَعْنِي إِنْ دَعَوْنَا غَيْرَ اللَّهِ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا، قَالَ ابْنُ عباس: جوزا. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَذِبًا. وَأَصْلُ الشَّطَطِ وَالْإِشْطَاطِ مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ وَالْإِفْرَاطُ.
هؤُلاءِ قَوْمُنَا، يَعْنِي أَهْلَ بَلَدِهِمْ، اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ، أَيْ: مِنْ دُونِ اللَّهِ، آلِهَةً، يَعْنِي الْأَصْنَامَ يَعْبُدُونَهَا، لَوْلا، أَيْ: هَلَّا، يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ، أَيْ: عَلَى عِبَادَتِهِمْ، بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ، بِحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ [تُبَيِّنُ وَتُوَضِّحُ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ] [3] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، وَزَعْمَ أَنَّ لَهُ شريكا أو ولدا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 16 الى 17]
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17)
ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ، يعني قومكم، وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» ، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ فَمَعْنَاهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ ويعبدون معه الأوثان، يقول: إذ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَجَمِيعَ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا الله فإنكم لم تعتزلوا، فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ، فَالْجَأُوا إِلَيْهِ، يَنْشُرْ لَكُمْ، يَبْسُطْ لَكُمْ، رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ، يُسَهِّلْ لَكُمْ، مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً أَيْ: ما يعود
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «خفض» .
(3) زيادة عن المخطوط.(3/182)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
إِلَيْهِ يُسْرُكُمْ وَرِفْقُكُمْ. قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ مِرفَقاً بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ مَا يَرْتَفِقُ [1] به الإنسان.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ، قرأ ابن عامر ويعقوب بِسُكُونِ الزَّايِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ عَلَى وَزْنِ تَحْمَرُّ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِفَتْحِ الزَّايِ خَفِيفَةً وَأَلِفٍ بَعْدَهَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ، وَكُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ: تَمِيلُ وَتَعْدِلُ، عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ أَيْ: جَانِبِ الْيَمِينِ، وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ، أَيْ:
تَتْرُكُهُمْ وَتَعْدِلُ عَنْهُمْ، ذاتَ الشِّمالِ، وأصل الْقَرْضِ الْقَطْعُ، وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أَيْ: مُتَّسَعٍ مِنَ الْكَهْفِ وَجَمْعُهَا فَجَوَاتٌ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: كَانَ كَهْفُهُمْ مُسْتَقْبِلَ بَنَاتِ نَعْشٍ، لَا تَقَعُ فِيهِ الشَّمْسُ عِنْدَ الطلوع ولا عند الغروب و [لا] [2] فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ: اخْتَارَ اللَّهُ لَهُمْ مُضْطَجَعًا فِي مَقْنَاةٍ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمُ الشَّمْسُ فَتُؤْذِيهِمْ بِحَرِّهَا وَتُغَيِّرُ أَلْوَانَهُمْ وَهُمْ فِي مُتَّسَعٍ يَنَالُهُمْ بَرْدُ الرِّيحِ وَنَسِيمُهَا وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ كَرْبَ الْغَارِ وَغُمُومَهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ وَهُوَ أَنَّ الْكَهْفَ كَانَ مُسْتَقْبِلَ بَنَاتِ نَعْشٍ فَكَانَتِ الشَّمْسُ لَا تَقَعُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ صَرَفَ الشَّمْسَ عَنْهُمْ بِقُدْرَتِهِ وَحَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ، مَنْ عَجَائِبِ صُنْعِ اللَّهِ وَدَلَالَاتِ قُدْرَتِهِ الَّتِي يُعْتَبَرُ بِهَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ، أَيْ: مَنْ يُضْلِلْهُ اللَّهُ وَلَمْ يُرْشِدْهُ، فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا، معينا، مُرْشِداً.
[سورة الكهف (18) : آية 18]
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً أَيْ: منتبهين جمع يقظ، وَهُمْ رُقُودٌ، نِيَامٌ [3] جَمْعُ رَاقِدٍ مِثْلِ قَاعِدٍ وَقُعُودٍ وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ حالهم لأنهم كانوا مفتحة أعينهم يَتَنَفَّسُونَ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ، وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ، مَرَّةً لِلْجَنْبِ الْأَيْمَنِ وَمَرَّةً لِلْجَنْبِ الْأَيْسَرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا يُقَلَّبُونَ فِي السَّنَةِ مَرَّةً مِنْ جَانِبٍ إِلَى جنب لِئَلَّا تَأْكُلَ الْأَرْضُ لُحُومَهُمْ. وَقِيلَ كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمَ تَقَلُّبِهِمْ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَانَ لَهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ تَقَلُّبَانِ، وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ، أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَنْ جِنْسِ الْكِلَابِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أَنَّهُ كَانَ أَسَدًا وَسُمِّي الْأَسَدُ كَلْبًا.
«1347» فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كلابك» ، فافترسه أسد، والأول المعروف، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ كَلْبًا أغر [4] . ويروى عنه [أنه] [5] فَوْقَ الْقَلَطِيِّ وَدُونَ الْكُرْدِيِّ [6] ، وَالْقَلَطِيُّ كَلْبٌ صِينِيٌّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ أصفر. وقال القرظي: كانت شِدَّةُ صُفْرَتِهِ تَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ. وقال الكلبي: لونه كالحليج. وَقِيلَ: لَوْنُ الْحَجَرِ. قَالَ ابْنُ عباس: اسْمُهُ قِطْمِيرَ. وَعَنْ عَلِيٍّ: اسْمُهُ
__________
1347- أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» 381 من طريق ابن إسحاق عن عثمان بن عروة عن جماعة من أهل بيته.
- وكرره 380 عن هبار بن الأسود، وهذا مرسل.
- وأخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 3021 وأبو نعيم 383 عن طاوس مرسلا بنحوه فهذه المراسيل تتأيد بمجموعها، وسيأتي.
(1) في المخطوط «ما يرفق» .
(2) سقط من المطبوع.
(3) تصحف في المطبوع «ينام» . [.....]
(4) في المخطوط «أنمر» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «الكرزي» .(3/183)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
ريان. وقال الأوزاعي: يثور. وقال السدي: يور. وقال كعب: صهبا. وقال خَالِدُ بْنُ مَعْدَانِ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَيْءٌ مِنَ الدَّوَابِّ سِوَى كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَحِمَارِ بَلْعَامَ. قَوْلُهُ: بِالْوَصِيدِ [قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَاكُ:
الوصيد فناء الكهف. وقال عطاء] [1] : عَتَبَةُ الْبَابِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْوَصِيدُ الْبَابُ، وَهُوَ رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ لِلْكَهْفِ بَابٌ وَلَا عَتَبَةٌ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ مَوْضِعُ الْبَابِ وَالْعَتَبَةِ كَانَ الْكَلْبُ قَدْ بَسَطَ ذِرَاعَيْهِ وَجَعَلَ وَجْهَهُ عَلَيْهِمْ. قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ أَصْحَابُ الْكَهْفِ إِذَا انْقَلَبُوا انْقَلَبَ الْكَلْبُ مَعَهُمْ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى الْيَمِينِ كَسَرَ الْكَلْبُ أُذُنَهُ الْيُمْنَى وَرَقَدَ عَلَيْهَا، وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى الشَّمَالِ كَسَرَ أُذُنَهُ الْيُسْرَى وَرَقَدَ عَلَيْهَا. لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ، يَا مُحَمَّدُ، لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً، لِمَا أَلْبَسَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْهَيْبَةِ حَتَّى لَا يَصِلَ إِلَيْهِمْ أَحَدٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ فَيُوقِظُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ رَقْدَتِهِمْ، وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً، خَوْفًا، قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ وَالْآخَرُونَ بِتَخْفِيفِهَا وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الرُّعْبَ كَانَ لماذا؟ قِيلَ: مِنْ وَحْشَةِ الْمَكَانِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لِأَنَّ أَعْيُنَهُمْ كَانَتْ مُفَتَّحَةً كَالْمُسْتَيْقِظِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَتَكَلَّمَ، وَهُمْ نِيَامٌ، وَقِيلَ: لِكَثْرَةِ شُعُورِهِمْ وطول أظفارهم وتقلبهم من غير حس ولا شعور. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَنَعَهُمْ بِالرُّعْبِ لِئَلَّا يَرَاهُمْ أَحَدٌ، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ نَحْوَ الرُّومِ فَمَرَرْنَا بِالْكَهْفِ الَّذِي فِيهِ أَصْحَابُ الْكَهْفِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ كُشِفَ لَنَا عَنْ هَؤُلَاءِ فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ [2] . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: لَقَدْ مُنِعَ ذَلِكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، فَقَالَ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ نَاسًا فَقَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا فَلَمَّا دَخَلُوا الْكَهْفَ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ريحا فأخرجتهم [3] [4] .
[سورة الكهف (18) : الآيات 19 الى 20]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ، أَيْ: كَمَا أَنَمْنَاهُمْ فِي الْكَهْفِ وَحَفِظْنَا أَجْسَادَهُمْ مِنَ الْبِلَى عَلَى طُولِ الزَّمَانِ فَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ مِنَ النَّوْمَةِ التي تشبه الموت، لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ، لِيَسْأَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَاللَّامُ فِيهِ لَامُ الْعَاقِبَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُبْعَثُوا لِلسُّؤَالِ، قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ، وَهُوَ رَئِيسُهُمْ مَكْسِلْمِينَا، كَمْ لَبِثْتُمْ، فِي نَوْمِكُمْ وَذَلِكَ أَنَّهُمُ اسْتَنْكَرُوا طُولَ نَوْمِهِمْ. وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ رَاعَهُمْ مَا فَاتَهُمْ مِنَ الصَّلَاةِ فَقَالُوا ذَلِكَ، قالُوا لَبِثْنا يَوْماً، وَذَلِكَ أنهم دخلوا الكهف غدوة [5] فانتبهوا [6] عَشِيَّةً فَقَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا ثُمَّ نَظَرُوا وَقَدْ بَقِيَتْ مِنَ الشَّمْسِ بَقِيَّةٌ، فَقَالُوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَى [طُولِ] [7] شُعُورِهِمْ وَأَظْفَارِهِمْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ لَبِثُوا أَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ، قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ رَئِيسَهُمْ مَكْسِلْمِينَا لَمَّا سَمِعَ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ قال:
__________
(1) سقط من المخطوط.
(2) كذا في المطبوع وط، وفي المخطوط «عليهما» .
(3) في المطبوع «فأحرقتهم» .
(4) عزاه الحافظ في «تخريج الكشاف» 2/ 709 لابن أبي حاتم وعبيد بن محمد، وأبي بكر بن أبي شيبة من رواية يَعْلَى بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وقال: وإسناده صحيح.
(5) زيد في المطبوع «فقالوا» .
(6) زيد في المطبوع وط «حين انتبهوا» .
(7) زيادة عن المخطوط.(3/184)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
دَعُوا الِاخْتِلَافَ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ، فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ، يعني تمليخا، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ بِوَرِقِكُمْ سَاكِنَةَ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهِيَ الْفِضَّةُ مَضْرُوبَةٌ كَانَتْ أَوْ غَيْرُ مَضْرُوبَةٍ. إِلَى الْمَدِينَةِ، قِيلَ: هِيَ طَرْسُوسُ وكان اسمها في الجاهلية أقسوس فَسَمَّوْهَا فِي الْإِسْلَامِ طَرْسُوسَ، فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً أَيْ: أَحَلَّ طَعَامًا حَتَّى لَا يَكُونَ مِنْ غَصْبٍ [1] أَوْ سَبَبٍ حَرَامٍ، وَقِيلَ:
أَمَرُوهُ أَنْ يَطْلُبَ ذَبِيحَةَ مُؤْمِنٍ وَلَا يَكُونَ مِنْ ذَبِيحَةِ مَنْ يَذْبَحُ لِغَيْرِ اللَّهِ وَكَانَ فِيهِمْ مُؤْمِنُونَ يُخْفُونَ إِيمَانَهُمْ وَقَالَ الضَّحَاكُ: أَطْيَبُ طَعَامًا. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: أَجْوَدُ طَعَامًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَكْثَرُ، وَأَصْلُ الزَّكَاةِ الزِّيَادَةُ.
وَقِيلَ: أَرْخَصُ طَعَامًا. فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ، أَيْ: قُوتٍ وَطَعَامٍ تَأْكُلُونَهُ، وَلْيَتَلَطَّفْ، وَلِيَتَرَفَّقْ فِي الطَّرِيقِ وَفِي الْمَدِينَةِ وَلْيَكُنْ فِي سَتْرٍ وَكِتْمَانٍ، وَلا يُشْعِرَنَّ، وَلَا يُعْلِمَنَّ، بِكُمْ أَحَداً، مِنَ النَّاسِ.
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ، أَيْ: يَعْلَمُوا بِمَكَانِكُمْ، يَرْجُمُوكُمْ قال ابن جريج: يشتموكم ويؤذوكم بِالْقَوْلِ. وَقِيلَ: يَقْتُلُوكُمْ، وَقِيلَ: كَانَ من عادتهم الْقَتْلُ بِالْحِجَارَةِ وَهُوَ أَخْبَثُ الْقَتْلِ. وَقِيلَ يَضْرِبُوكُمْ، أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أَيْ: إِلَى الْكُفْرِ، وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً، إِنْ عُدْتُمْ إليه.
[سورة الكهف (18) : الآيات 21 الى 22]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا أَيْ: أَطْلَعْنَا، عَلَيْهِمْ، يُقَالُ: عَثَرْتُ عَلَى الشَّيْءِ إِذَا اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ وَأَعْثَرْتُ غَيْرِي أَيْ أَطْلَعْتُهُ، لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، يَعْنِي أصحاب بَيْدَرُوسَ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَنَازَعُونَ فِي الْبُنْيَانِ، فَقَالَ: الْمُسْلِمُونَ: نَبْنِي عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ النَّاسُ لِأَنَّهُمْ عَلَى دِينِنَا، وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: نَبْنِي عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ نَسَبِنَا [2] . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تَنَازَعُوا فِي الْبَعْثِ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: الْبَعْثُ لِلْأَجْسَادِ وَالْأَرْوَاحِ [مَعًا] [3] ، وَقَالَ قَوْمٌ لِلْأَرْوَاحِ دُونَ الْأَجْسَادِ، فَبَعَثَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَرَاهُمْ أَنَّ الْبَعْثَ لِلْأَجْسَادِ وَالْأَرْوَاحِ.
وَقِيلَ: تَنَازَعُوا فِي مُدَّةِ لُبْثِهِمْ. وَقِيلَ: فِي عَدَدِهِمْ. فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ، بَيْدَرُوسُ الْمَلِكُ وَأَصْحَابُهُ، لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً.
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، رُوِيَ أَنَّ السَّيِّدَ وَالْعَاقِبَ وَأَصْحَابَهُمَا مِنْ نَصَارَى أَهْلِ نَجْرَانَ كَانُوا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَرَى ذِكْرُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، فَقَالَ السَّيِّدُ وَكَانَ يَعْقُوبِيًّا: كَانُوا ثَلَاثَةً رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ، وَقَالَ الْعَاقِبُ وَكَانَ نُسْطُورِيًّا: كَانُوا خَمْسَةً سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ.
وَقَالَ المسلمون: كانوا سبعة [و] ثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، فَحَقَّقَ اللَّهُ قَوْلَ المسلمين بعد ما حَكَى قَوْلَ النَّصَارَى، فَقَالَ: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ، أَيْ: ظَنًّا وَحَدْسًا مِنْ غَيْرِ يَقِينٍ، وَلَمْ يَقُلْ هَذَا فِي حَقِّ السَّبْعَةِ، فَقَالَ: وَيَقُولُونَ يَعْنِي: الْمُسْلِمِينَ، سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ، [و] اخْتَلَفُوا فِي الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ وَثامِنُهُمْ قِيلَ: تَرْكُهَا وَذِكْرُهَا سَوَاءٌ.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «ديننا» .
(3) زيادة عن المخطوط.(3/185)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
وَقِيلَ: هِيَ وَاوُ الْحُكْمِ وَالتَّحْقِيقِ كَأَنَّهُ حَكَى اخْتِلَافَهُمْ، وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ ثُمَّ حَقَّقَ هَذَا الْقَوْلَ بِقَوْلِهِ: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ وَالثَّامِنُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ السَّابِعِ. وَقِيلَ: هَذِهِ وَاوُ الثَّمَانِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ فَتَقُولُ وَاحِدٌ اثْنَانِ ثَلَاثَةٌ أَرْبَعَةٌ خَمْسَةٌ سِتَّةٌ سَبْعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ، لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ عِنْدَهُمْ سَبْعَةً كَمَا هُوَ الْيَوْمَ عِنْدَنَا عَشْرَةٌ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ إِلَى قَوْلِهِ: وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التَّوْبَةِ: 112] ، وَقَالَ فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) [التَّحْرِيمِ: 5] . قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ، أَيْ: بِعَدَدِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، أَيْ: إِلَّا قَلِيلٌ مِنَ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَا مِنَ الْقَلِيلِ: كَانُوا سَبْعَةً.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: كَانُوا ثمانية. [و] قَرَأَ: وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ أَيْ: حَافِظُهُمْ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُمْ مكسلمينا وتمليخا وَمَرْطُونَسُ وَبَيْنُونُسَ وَسَارِينُونُسَ وَذُو نَوَانِسَ وَكَشْفَيْطَطْنُونَسَ، وَهُوَ الرَّاعِي وَالْكَلْبُ قِطْمِيرُ. فَلا تُمارِ فِيهِمْ، أَيْ: لَا تُجَادِلْ وَلَا تَقُلْ فِي عَدَدِهِمْ وَشَأْنِهِمْ، إِلَّا مِراءً ظاهِراً، إِلَّا بِظَاهِرِ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ، يَقُولُ حسبك [1] ما قصصنا عَلَيْكَ فَلَا تَزِدْ عَلَيْهِ وَقِفْ عِنْدَهُ، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ، مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، أَحَداً أَيْ: لَا تَرْجِعْ إِلَى قَوْلِهِمْ بَعْدَ أن أخبرناك.
[سورة الكهف (18) : الآيات 23 الى 25]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25)
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، يَعْنِي: إِذَا عَزَمْتَ عَلَى أَنْ تَفْعَلَ غَدًا شَيْئًا فَلَا تَقُلْ أَفْعَلُ غَدًا حَتَّى تَقُولَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ وَعَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَعَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ: أُخْبِرُكُمْ غَدًا وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَبِثَ الْوَحْيُ أَيَّامًا ثُمَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: مَعْنَاهُ إِذَا نَسِيتَ الِاسْتِثْنَاءَ ثُمَّ ذَكَرْتَ فَاسْتَثْنِ، وَجَوَّزَ ابْنُ عَبَّاسٍ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُنْقَطِعَ وَإِنْ كَانَ إِلَى سَنَةٍ، وَجَوَّزَهُ الْحَسَنُ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ، وَجَوَّزَهُ بَعْضُهُمْ إِذَا قَرُبَ الزَّمَانُ، فَإِنْ بعد فلا يصح، ولم يجوزه جماعة حتى يكون الكلام مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا غَضِبْتَ. وَقَالَ وَهْبٌ: مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ: ابْنَ آدَمَ اذْكُرْنِي حِينَ تَغْضَبُ أَذْكُرُكَ حِينَ أَغْضَبُ. وَقَالَ الضَّحَاكُ وَالسُّدِّيُّ: هَذَا فِي الصَّلَاةِ.
«1348» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [2] الْمَلِيحِيُّ أَنْبَأَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَخَلِدِيُّ ثنا [3] أبو العباس
__________
1348- إسناده صحيح، رجاله رجال البخاري ومسلم.
- قتيبة بن سعيد، أبو عوانة هو وضاح اليشكري، قتادة هو ابن دعامة.
- وهو في «شرح السنة» 394 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 684 والترمذي 178 والنسائي 1/ 293 وابن ماجه 696 وأحمد 3/ 243 وابن حبان 1555 وأبو عوانة 2/ 252 والبيهقي 2/ 318 من طرق عن أبي عوانة بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 597 ومسلم 684 ح 314 وأبو داود 442 وأحمد 3/ 269 وأبو عوانة 1/ 385 والبيهقي 2/ 218 [.....]
(1) في المطبوع «يحسبك» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيد في المطبوع «عبد الواحد» .(3/186)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
السراج ثنا قتيبة ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ نَسْيِ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا» .
وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً، أَيْ: يُثَبِّتُنِي عَلَى طَرِيقٍ هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَأَرْشَدُ.
وَقِيلَ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أَنْ يَذْكُرَهُ إِذَا نَسِيَ شَيْئًا وَيَسْأَلَهُ أَنْ يَهْدِيَهُ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ذِكْرِ مَا نَسِيَهُ. وَيُقَالُ: هُوَ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا سَأَلُوهُ عَنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ عَلَى وَجْهِ الْعِنَادِ أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُخْبِرَهُمْ أَنَّ اللَّهَ سَيُؤْتِيهِ مِنَ الْحُجَجِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ مَا هُوَ أَدَلُّ لَهُمْ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ [وَقَدْ فَعَلَ حَيْثُ أَتَاهُ من علم الغيب حال الْمُرْسَلِينَ مَا كَانَ أَوْضَحَ لَهُمْ فِي الْحُجَّةِ وَأَقْرَبَ إِلَى الرُّشْدِ مِنْ خَبَرِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ] [1] ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا شَيْءٌ أُمِرَ أَنْ يَقُولَهُ مَعَ قَوْلِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِذَا ذَكَرَ الِاسْتِثْنَاءَ بَعْدَ النِّسْيَانِ وَإِذَا نَسِيَ الْإِنْسَانُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَتَوْبَتُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ، يَعْنِي أَصْحَابَ الْكَهْفِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ خَبَرًا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ قَدْرِ لُبْثِهِمْ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا [الكهف: 26] وَجْهٌ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: «وَقَالُوا لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ» ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وَقَالَ الْآخَرُونَ: هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ قَدْرِ لُبْثِهِمْ فِي الْكَهْفِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْأَمْرَ مِنْ مُدَّةِ لُبْثِهِمْ كَمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ نَازَعُوكَ فِيهَا فَأَجِبْهُمْ، وَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا، أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ، وَقَدْ أَخْبَرَنَا بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ. وَقِيلَ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ مِنْ لَدُنْ دَخَلُوا الْكَهْفَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَتِسْعُ سِنِينَ فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا يَعْنِي بَعْدَ قَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى:
ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ثَلَاثَ مِائَةَ بِلَا تَنْوِينٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّنْوِينِ، فَإِنْ قِيلَ: لم قال ثلاثمائة سِنِينَ وَلَمْ يَقُلْ سَنَةً؟ قِيلَ: نَزَلَ قَوْلُهُ: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ، فَقَالُوا: أَيَّامًا أَوْ شُهُورًا أَوْ سِنِينَ؟ فَنَزَلَتْ سِنِينَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَضَعُ سِنِينَ فِي مَوْضِعِ سَنَةٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ سنين ثلاثمائة. وَازْدَادُوا تِسْعاً، قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَتْ نصارى نجران أما ثلاثمائة فقد عرفناه [2] وَأَمَّا التِّسْعُ فَلَا عِلْمَ لَنَا علم بها فنزلت.
[سورة الكهف (18) : الآيات 26 الى 28]
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)
__________
و456 من طرق عن همام عن قتادة به.
- وأخرجه مسلم 684 ح 315 وأحمد 3/ 100 والدارمي 1/ 280 وأبو عوانة 1/ 385 و2/ 260 وابن خزيمة 992 والبيهقي 2/ 456 من طرق عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عن قتادة به.
- وأخرجه مسلم 684 ح 316 وأبو عوانة 1/ 385 من طريق المثنى عن قتادة به.
- وأخرجه النسائي 1/ 293 و294 وابن ماجه 695 وأحمد 3/ 267 وأبو عوانة 1/ 285 و2/ 260 وابن خزيمة 991 من طرق عن حجاج بن الحجاج الأحول عن قتادة به.
(1) سقط من المخطوط.
(2) في المطبوع «عرفنا» .(3/187)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ لَبِثُوا ثلاثمائة شمسية والله تعالى ذكر ثلاثمائة قَمَرِيَّةً وَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الشَّمْسِيَّةِ وَالْقَمَرِيَّةِ فِي كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ ثَلَاثَ سنين، فيكون في الثلاثمائة تِسْعُ سِنِينَ، فَلِذَلِكَ قَالَ: وَازْدَادُوا تِسْعاً. لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فالغيب ما يغيب عن إدراكك وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَغِيبُ عَنْ إِدْرَاكِهِ شَيْءٌ. أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أَيْ: مَا أَبْصَرَ اللَّهَ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَأَسْمَعَهُ لِكُلِّ مَسْمُوعٍ، أَيْ لَا يَغِيبُ عَنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ شَيْءٌ، مَا لَهُمْ أَيْ: مَا لِأَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، مِنْ دُونِهِ أَيْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، مِنْ وَلِيٍّ نَاصِرٍ] [1] ، وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ: «وَلَا تُشْرِكْ» بِالتَّاءِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ وَالنَّهْيِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ الياء أَيْ لَا يُشْرِكُ اللَّهُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا. وَقِيلَ: الْحُكْمُ هَنَا عِلْمُ الْغَيْبِ أَيْ لَا يُشْرِكُ في علم غيبه أحدا.
قوله عزّ وجلّ: وَاتْلُ أي: وَاقْرَأْ يَا مُحَمَّدُ، مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَاتَّبِعْ مَا فِيهِ، لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا مُغَيِّرَ لِلْقُرْآنِ. وَقِيلَ: لَا مُغَيِّرَ لِمَا أَوْعَدَ بِكَلِمَاتِهِ أَهْلَ مَعَاصِيهِ، وَلَنْ تَجِدَ، أَنْتَ، مِنْ دُونِهِ، إِنْ لَمْ تَتَّبِعِ الْقُرْآنَ، مُلْتَحَداً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: حِرْزًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَدْخَلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَلْجَأً. وَقِيلَ: مَعْدَلًا. وَقِيلَ: مَهْرَبًا. وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَيْلِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ الْآيَةَ.
«1349» نَزَلَتْ فِي عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيِّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ فِيهِمْ سَلْمَانُ وَعَلَيْهِ شَمْلَةٌ قَدْ عَرِقَ فِيهَا وَبِيَدِهِ خُوصَةٌ يَشُقُّهَا ثُمَّ يَنْسِجُهَا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا يُؤْذِيكَ رِيحُ هَؤُلَاءِ وَنَحْنُ سَادَاتُ مُضَرَ وَأَشْرَافُهَا، فَإِنْ أَسْلَمْنَا أَسْلَمَ النَّاسُ وَمَا يَمْنَعُنَا مِنَ اتِّبَاعِكَ إِلَّا هَؤُلَاءِ فَنَحِّهِمْ [عَنْكَ] [2] حَتَّى نَتْبَعَكَ أَوِ اجْعَلْ لَنَا مَجْلِسًا وَلَهُمْ مَجْلِسًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجلّ: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ.
أي: واحبس يَا مُحَمَّدُ نَفْسَكَ، مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ، طَرَفَيِ النَّهَارِ، يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، أَيْ: يُرِيدُونَ اللَّهَ لَا يُرِيدُونَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا.
«1350» قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي أَصْحَابِ الصُّفَةِ وَكَانُوا سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ فُقَرَاءَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَرْجِعُونَ إِلَى تِجَارَةٍ وَلَا إلى زرع ولا ضرع ويصلون صَلَاةً وَيَنْتَظِرُونَ أُخْرَى، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي أُمَّتِي مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ» .
وَلا تَعْدُ أَيْ: لَا تَصْرِفْ وَلَا تَتَجَاوَزْ، عَيْناكَ عَنْهُمْ، إِلَى غَيْرِهِمْ، تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا،
__________
1349- باطل. أخرجه الطبري 23022 وأبو نعيم 1/ 345 والواحدي في «أسباب النزول» 600 والبيهقي في «الشعب» 10494 من حديث سلمان.
- وإسناده ضعيف جدا فيه سليمان بن عطاء، قال البخاري: منكر الحديث. والمتن باطل، فإن السورة مكية، وإسلام سلمان مدني، وكذا عيينة بن حصن وفد في المدينة.
1350- رواه المصنف عن قتادة مرسلا، وسنده إليه في أول الكتاب.
- والمرفوع منه أخرجه الطبري 23020 عن قتادة مرسلا أيضا، فهو ضعيف.
- وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 1/ 351- 352 من حديث أبي سعيد الخدري، وإسناده ضعيف، فيه العلاء بن بشير، وهو مجهول. ومع ذلك ليس فيه ذكر سلمان وعيينة ولا نزول الآية، فالمرفوع من هذا الخبر لا بأس به.
(1) سقط من المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.(3/188)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
أي: تطلب [1] مُجَالَسَةِ الْأَغْنِيَاءِ وَالْأَشْرَافِ وَصُحْبَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا، أَيْ جَعَلْنَا قَلْبَهُ غَافِلًا عَنْ ذِكْرِنَا يَعْنِي عيينة بن حصين. وَقِيلَ: أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَاتَّبَعَ هَواهُ، أَيْ مُرَادَهُ فِي طَلَبِ الشَّهَوَاتِ، وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً، قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: ضَيَاعًا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ ضَيَّعَ أَمْرَهُ وَعَطَّلَ أَيَّامَهُ.
وَقِيلَ: ندما [2] . وقال مقاتل ابن حَيَّانَ: سَرَفًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مَتْرُوكًا. وَقِيلَ بَاطِلًا. وَقِيلَ: مُخَالِفًا لِلْحَقِّ.
وقال الأخفش: مجاوزا للحد. وقيل: مَعْنَى التَّجَاوُزِ فِي الْحَدِّ، هُوَ قَوْلُ عُيَيْنَةَ: إِنْ أَسْلَمْنَا أَسْلَمَ الناس وهذا إفراط عظيم.
[سورة الكهف (18) : آية 29]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، أي ما ذكرناه مِنَ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ، مَعْنَاهُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْفَلْنَا قُلُوبَهُمْ عَنْ ذِكْرِنَا أَيُّهَا النَّاسُ الحق من ربكم وَإِلَيْهِ التَّوْفِيقُ وَالْخِذْلَانُ وَبِيَدِهِ الْهُدَى وَالضَّلَالُ، لَيْسَ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ. فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ، هَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ كَقَوْلِهِ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فُصِّلَتْ: 40] ، وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَسْتُ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ لِهَوَاكُمْ، فَإِنْ شِئْتُمْ فَآمِنُوا وَإِنْ شِئْتُمْ فَاكْفُرُوا فَإِنْ كَفَرْتُمْ فَقَدْ أَعَدَّ لَكُمْ رَبُّكُمْ نَارًا أَحَاطَ بِكُمْ سُرَادِقُهَا، وَإِنْ آمَنْتُمْ فَلَكُمْ مَا وَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ شَاءَ اللَّهُ لَهُ الْإِيمَانَ آمَنَ وَمَنْ شَاءَ لَهُ الْكُفْرَ كَفَرَ وهو قوله: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْإِنْسَانِ: 30] . إِنَّا أَعْتَدْنا، أَعْدَدْنَا وَهَيَّأْنَا مِنَ الْإِعْدَادِ [3] وَهُوَ الْعُدَّةُ، لِلظَّالِمِينَ لِلْكَافِرِينَ، نَارًا أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها، السُّرَادِقُ الحجزة [4] التي تطيف بالفسطاط [5] .
«1351» أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن المبارك عن
__________
1351- ضعيف. إسناده ضعيف جدا، رشدين بن سعد واه، ودراج عن أبي الهيثم ضعيف أيضا، وقد توبع رشدين، فانحصرت العلة في درّاج.
أبو الهيثم هو سليمان بن عمرو بن عبيد، دراج هو ابن سمعان.
- رواه المصنف من طريق ابن المبارك وهو في «الزهد» 316 «زيادات نعيم بن حماد» عن رشدين بن سعد بهذا الإسناد.
- وأخرجه الترمذي 2584 والطبري 23037 من طريق ابن المبارك به.
- وأخرجه الحاكم 4/ 600- 601 والطبري 23038 من طريق عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ عمرو بن الحارث به، وصححه! وسكت عنه الذهبي! مع أنه من رواية درّاج عن أبي الهيثم، لكن قال الذهبي في مواضع كثيرة: درّاج ذو مناكير.
- وأخرجه أحمد 3/ 29 وأبو يعلى 1389 والواحدي في «الوسيط» 3/ 146 من طريق الحسن بن موسى عن ابن لهيعة عن درّاج به.
(1) في المطبوع «طلب» .
(2) تصحف في المطبوع «ندماء» .
(3) في المطبوع «العتاد» . [.....]
(4) تصحف في المخطوط «الحجرة» .
(5) في المطبوع «بالفساطيط» والمثبت عن المخطوط و «تفسير القرطبي» 10/ 393.(3/189)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ [1] أَبِي السَّمْحِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ [2] عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «سُرَادِقُ النَّارِ أَرْبَعَةُ جُدُرٍ كثف [3] كل جدار مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً» .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ حَائِطٌ مِنْ نَارٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ عُنُقٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ فَيُحِيطُ بِالْكُفَّارِ كَالْحَظِيرَةِ. وَقِيلَ: هُوَ دُخَانٌ يُحِيطُ بِالْكُفَّارِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) [الْمُرْسَلَاتِ: 20] . وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا، مِنْ شِدَّةِ الْعَطَشِ، يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ.
«1352» أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ [4] أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عن رشدين بن سعد ثنا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجِ أَبِي السَّمْحِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بِماءٍ كَالْمُهْلِ قَالَ كَعَكَرِ الزَّيْتِ، فَإِذَا قُرِّبَ إِلَيْهِ سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ» .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ مَاءٌ غَلِيظٌ مِثْلُ دُرْدِيِّ الزَّيْتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْقَيْحُ وَالدَّمُ.
وَسُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ الْمُهْلِ فَدَعَا بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَأَوْقَدَ عَلَيْهِمَا النَّارَ حَتَّى ذَابَا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْمُهْلِ، يَشْوِي الْوُجُوهَ، يُنْضِجُ الْوُجُوهَ مِنْ حَرِّهِ، بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ النَّارُ، مُرْتَفَقاً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْزِلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُجْتَمَعًا. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَقَرًّا. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: مَجْلِسًا. وَأَصْلُ الْمُرْتَفَقِ المتكأ.
[سورة الكهف (18) : الآيات 30 الى 33]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) ، فَإِنْ قيل: أين
__________
1352- ضعيف، إسناده ضعيف جدا، رشدين واه، ودرّاج عن أبي الهيثم ضعيف، وقد توبع رشدين تابعه ابن وهب وابن لهيعة، فانحصرت العلة في دراج عن أبي الهيثم.
- درّاج بن سمعان، أبو الهيثم هو سليمان بن عمرو بن عبيد.
- ورواه المصنف من طريق ابن المبارك، وهو في «الزهد» 316 «زيادات نعيم بن حماد» عن رشدين بهذا الإسناد.
- وأخرجه الترمذي 2581 و3322 من طريق رشدين بن سعد به.
- وأخرجه الطبري 23039 والحاكم 2/ 501 وابن حبان 7473 والبيهقي في «البعث» 550 من طرق عن ابن وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ به.
- وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
- وأخرجه أحمد 3/ 70- 71 وأبو يعلى 1375 والواحدي 3/ 146 من طريق الحسن بن موسى عن ابن لهيعة عن درّاج به.
(1) زيد في المطبوع وط «بن» .
(2) زيد في المطبوع وط «بن عبد الله» .
(3) تصحف في المطبوع «كنف» .
(4) في المطبوع «محمد» .(3/190)
جَوَابُ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ؟ قِيلَ: جَوَابُهُ قَوْلُهُ: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي، وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّا لَا نُضِيعُ فَكَلَامٌ مُعْتَرِضٌ. وَقِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ مَعْنَاهُ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَإِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَهُمْ بَلْ نُجَازِيهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ الْجَزَاءَ.
فَقَالَ: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ، أَيْ: إِقَامَةٌ، يُقَالُ: عَدَنَ فُلَانٌ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ، سُمِّيَتْ عَدْنًا لِخُلُودِ الْمُؤْمِنِينَ فِيهَا، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يُحَلَّى كُلٌّ واحد منهم ثلاثة أَسَاوِرَ، وَاحِدٌ مِنْ ذَهَبٍ وَوَاحِدٌ مِنْ فِضَّةٍ وَوَاحِدٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَيَوَاقِيتَ، وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ، وهو مارق مِنَ الدِّيبَاجِ، وَإِسْتَبْرَقٍ، وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنْهُ، وَمَعْنَى الْغِلَظِ فِي ثِيَابِ الْجَنَّةِ إِحْكَامُهُ. وَعَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ: السُّنْدُسُ هُوَ الدِّيبَاجُ الْمَنْسُوجُ بِالذَّهَبِ، مُتَّكِئِينَ فِيها، فِي الْجِنَانِ، عَلَى الْأَرائِكِ، وَهِيَ السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ وَاحِدَتُهَا أَرِيكَةٌ، نِعْمَ الثَّوابُ. أَيْ نِعْمَ الْجَزَاءُ، وَحَسُنَتْ، الْجِنَانُ مُرْتَفَقاً أَيْ: مَجْلِسًا وَمَقَرًّا.
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ الْآيَةَ، قِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَخَوَيْنِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ أَحَدُهُمَا مُؤْمِنٌ وَهُوَ أَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ، وَكَانَ زَوْجَ أُمِّ سَلَمَةَ قَبْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ كَافِرٌ وَهُوَ الْأُسُودُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ [1] . وَقِيلَ: هَذَا مَثَلٌ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَأَصْحَابِهِ [مَعَ سَلْمَانَ، وَأَصْحَابِهِ] [2] شَبَّهَهُمَا بِرَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَخَوَيْنِ أَحَدُهُمَا مُؤْمِنٌ وَاسْمُهُ يَهُوذَا فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تمليخا وَالْآخَرُ كَافِرٌ وَاسْمُهُ قُطْرُوسُ، وَقَالَ وَهْبٌ: قِطْفِيرُ، وَهُمَا اللَّذَانِ وَصَفَهُمَا الله تعالى في سورة الصافات [50- 51] .
وَكَانَتْ قِصَّتُهُمَا عَلَى مَا حَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ شَرِيكَيْنِ [3] لَهُمَا ثَمَانِيَةُ آلَافِ دِينَارٍ، وَقِيلَ: كَانَا أَخَوَيْنِ وَرِثَا مِنْ أَبِيهِمَا ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَاقْتَسَمَاهَا، فَعَمَدَ أَحَدُهُمَا فَاشْتَرَى أَرْضًا بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ صَاحِبُهُ: اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا قَدِ اشْتَرَى أَرْضًا بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَإِنِّي أَشْتَرِي مِنْكَ أَرْضًا [4] فِي الْجَنَّةِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَهُ بَنَى دَارًا بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ هَذَا: اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا بَنَى دَارًا بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَإِنِّي أَشْتَرِي مِنْكَ دَارًا فِي الْجَنَّةِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ ثُمَّ تَزَوَّجَ صَاحِبُهُ امْرَأَةً فَأَنْفَقَ عَلَيْهَا أَلْفَ دِينَارٍ فَقَالَ هَذَا الْمُؤْمِنُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَخْطِبُ إِلَيْكَ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ الْجَنَّةِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ اشْتَرَى صَاحِبُهُ خَدَمًا وَمَتَاعًا بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَقَالَ هَذَا: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْتَرِي مِنْكَ مَتَاعًا وَخَدَمًا فِي الْجَنَّةِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، فَتَصَدَّقَ بِأَلْفِ دِينَارٍ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، فَقَالَ: لَوْ أَتَيْتُ صَاحِبِي لَعَلَّهُ يَنَالُنِي مِنْهُ مَعْرُوفٌ، فَجَلَسَ عَلَى طَرِيقِهِ حَتَّى مَرَّ بِهِ فِي حَشَمِهِ، فَقَامَ إِلَيْهِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ الْآخَرُ فَعَرَفَهُ، فَقَالَ: فُلَانٌ؟ قَالَ: نعم، فقال: ما شأنك؟ فقال: أَصَابَتْنِي حَاجَةٌ بَعْدَكَ فَأَتَيْتُكَ لِتُصِيبَنِي بِخَيْرٍ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ مَالُكَ وقد اقتسمنا مالا وَأَخَذْتَ شَطْرَهُ؟ فَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فَقَالَ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ بِهَذَا؟ اذْهَبْ فَلَا أُعْطِيكَ شَيْئًا، فَطَرَدَهُ فَقُضِيَ لَهُمَا أَنْ تُوُفِّيَا، فَنَزَلَ فِيهِمَا: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) ، وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ أَخَذَ بِيَدِهِ وَجَعَلَ يَطُوفُ بِهِ وَيُرِيهِ أموال
__________
(1) لم أقف عليه، ولا يصح، وسياق الآيات يدل على أن ذلك كان في بني إسرائيل.
(2) سقط من المخطوط.
(3) في المخطوط «شريكان» .
(4) في المخطوط «دارا» .(3/191)
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
نَفْسِهِ، فَنَزَلَ فِيهِمَا: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ اذْكُرْ لَهُمْ خَبَرَ رَجُلَيْنِ، جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ، بُسْتَانَيْنِ، مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ، أَيْ: أَطَفْنَاهُمَا مِنْ جَوَانِبِهِمَا بِنَخْلٍ، وَالْحِفَافُ الْجَانِبُ، وَجَمْعُهُ أَحِفَّةٌ، يُقَالُ: حَفَّ بِهِ الْقَوْمُ أَيْ طَافُوا بِجَوَانِبِهِ، وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً، أَيْ: جَعَلْنَا حَوْلَ الْأَعْنَابِ النَّخِيلَ وَوَسَطَ الْأَعْنَابِ الزَّرْعَ. وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا أَيْ بَيْنَ الْجَنَّتَيْنِ زَرْعًا يَعْنِي لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْجَنَّتَيْنِ مَوْضِعٌ خَرَابٌ.
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ، أَيْ: أَعْطَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْجَنَّتَيْنِ، أُكُلَها، ثَمَرَهَا تَامًّا، وَلَمْ تَظْلِمْ، لَمْ تُنْقِصْ، مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا، قَرَأَ الْعَامَّةُ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِتَخْفِيفِ الْجِيمِ، خِلالَهُما نَهَراً يَعْنِي شَقَقْنَا وَأَخْرَجْنَا وسطهما نهرا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 34 الى 39]
وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38)
وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39)
وَكانَ لَهُ، لِصَاحِبِ الْبُسْتَانِ، ثَمَرٌ قَرَأَ عَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ ثَمَرٌ بِفَتْحِ الثَّاءِ وَالْمِيمِ، وَكَذَلِكَ «بِثَمَرِهِ» ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِضَمِّ الثَّاءِ سَاكِنَةَ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بضمهما، فمن قرأ بالفتح فهو جَمْعُ ثَمَرَةٍ وَهُوَ مَا تُخْرِجُهُ الشَّجَرَةُ [1] مِنَ الثِّمَارِ الْمَأْكُولَةِ، وَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ فَهِيَ الْأَمْوَالُ الْكَثِيرَةُ الْمُثْمِرَةُ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، جَمْعُ ثِمَارٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ. وَقِيلَ: جَمِيعُ الثَّمَرَاتِ [2] . قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الثَّمَرَةُ تُجْمَعُ عَلَى ثَمَرٍ، وَيُجْمَعُ الثَّمَرُ عَلَى ثِمَارٍ، ثُمَّ تُجْمَعُ الثِّمَارُ عَلَى ثُمُرٍ. فَقالَ، يَعْنِي صَاحِبَ الْبُسْتَانِ، لِصاحِبِهِ، الْمُؤْمِنِ، وَهُوَ يُحاوِرُهُ، يُخَاطِبُهُ وَيُجَاوِبُهُ، أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَراً أَيْ: عَشِيرَةً وَرَهْطًا. وَقَالَ قَتَادَةُ:
خَدَمًا وَحَشَمًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَلَدًا، تَصْدِيقُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَداً [الْكَهْفِ: 39] .
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ، يَعْنِي الْكَافِرُ، أَخَذَ بِيَدِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ يَطُوفُ بِهِ فِيهَا وَيُرِيهِ أَثْمَارَهَا [3] وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، بِكَفْرِهِ، قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ، تَهْلَكَ، هذِهِ أَبَداً، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: رَاقَهُ حُسْنُهَا وَغَرَّتْهُ زَهْرَتُهَا فَتَوَهَّمَ أَنَّهَا لَا تَفْنَى أَبَدًا وَأَنْكَرَ الْبَعْثَ.
فَقَالَ: وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً، كَائِنَةً، وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً، وقرأ أهل الحجاز والشام [منهما] [4] هَكَذَا عَلَى التَّثْنِيَةِ، يَعْنِي مِنَ الْجَنَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ مِنْها أَيْ: مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي دَخَلَهَا، مُنْقَلَباً أَيْ: مرجعا، فإن قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي، وهو ينكر الْبَعْثِ؟
قِيلَ: مَعْنَاهُ وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي عَلَى مَا تَزْعُمُ أَنْتَ يُعْطِينِي [5] هُنَالِكَ خَيْرًا مِنْهَا فَإِنَّهُ لَمْ يُعْطِنِي هَذِهِ الْجَنَّةَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا لِيُعْطِيَنِي فِي الآخرة أفضل منها.
__________
(1) في المخطوط «يخرجه الشجر» .
(2) في المخطوط «جمع الثمر» .
(3) زيد في المطبوع وط، وهو جمع الجمع كما في «القاموس» ووقع في المخطوط «آثارها» وفي «الوسيط» 3/ 148 والقرطبي 10/ 404 «إياها» . [.....]
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «تعطيني» .(3/192)
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ، الْمُسْلِمُ، وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ، أَيْ خَلَقَ أَصْلَكَ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ، خَلَقَكَ، مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أَيْ: عَدَلَكَ بَشَرًا سَوِيًّا ذَكَرًا.
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ لَكِنَّا بِالْأَلِفِ فِي الْوَصْلِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِلَا أَلِفٍ وَاتَّفَقُوا عَلَى إِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الْوَقْفِ، وَأَصْلُهُ لَكِنَّ أَنَا، فَحُذِفَتِ الْهَمْزَةُ طَلَبًا لِلتَّخْفِيفِ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا ثُمَّ أُدْغِمَتْ إِحْدَى النُّونَيْنِ فِي الْأُخْرَى.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَجَازُهُ لَكِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي، وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً.
وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ، أَيْ: هَلَّا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ، قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ أَيِ: الْأَمْرُ مَا شَاءَ اللَّهُ.
وَقِيلَ: جَوَابُهُ مُضْمَرٌ أَيْ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ، وَقَوْلُهُ: لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، أَيْ لَا أَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ مَالِي أَوْ دَفْعِ شَيْءٍ عَنْهُ إلا بالله.
وَرُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى مِنْ مَالِهِ شَيْئًا يُعْجِبُهُ أَوْ دَخْلَ حَائِطًا مَنْ حِيطَانِهِ.
قَالَ: مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً [أَنَا] عِمَادٌ [1] ، وَلِذَلِكَ نُصِبَ [أَقَلَّ] مَعْنَاهُ: إِنْ تَرَنِي أَقَلَّ مِنْكَ مالا وولدا فتكبرت وتعاظمت [2] عليّ.
[سورة الكهف (18) : الآيات 40 الى 44]
فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44)
فَعَسى رَبِّي، فَلَعَلَّ رَبِّي، أَنْ يُؤْتِيَنِ، يُعْطِيَنِي فِي الْآخِرَةِ، خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها، أَيْ عَلَى جَنَّتِكَ، حُسْباناً، قَالَ قَتَادَةُ: عَذَابًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: نَارًا. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: مَرَامِيَ.
مِنَ السَّماءِ، وَهِيَ مِثْلُ صَاعِقَةٍ أَوْ شَيْءٍ يُهْلِكُهَا، وَاحِدَتُهَا حسبانة، فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً، أَرْضًا جَرْدَاءَ مَلْسَاءَ لَا نَبَاتَ فِيهَا. وَقِيلَ: تَزْلَقُ فِيهَا الْأَقْدَامُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: رَمْلًا هَائِلًا.
أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً، أَيْ: غَائِرًا مُنْقَطِعًا ذَاهِبًا لَا تَنَالُهُ الْأَيْدِي، ولا الدّلاء، والغور مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ، مِثْلُ زَوْرٍ وَعَدْلٍ، فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً، يَعْنِي: إِنْ طَلَبْتَهُ لَمْ تَجِدْهُ.
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ، أَيْ: أَحَاطَ الْعَذَابُ بِثَمَرِ جَنَّتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ عَلَيْهَا نَارًا فَأَهْلَكَتْهَا وَغَارَ مَاؤُهَا، فَأَصْبَحَ، صَاحِبُهَا الْكَافِرُ، يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ، أَيْ يُصَفِّقُ بيديه [الواحدة] [3] عَلَى الْأُخْرَى وَيُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظَهْرًا لِبَطْنٍ تَأَسُّفًا وَتَلَهُّفًا، عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ، أَيْ سَاقِطَةٌ، عَلى عُرُوشِها، سُقُوفِهَا، وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ، جَمَاعَةٌ، يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، يَمْنَعُونَهُ مِنْ عذاب الله،
__________
(1) تصحف في «ب» «حماد» وعبارة «الوسيط» 3/ 149 «أنا: عماد، وأقلّ: مفعول ثان لترى» .
(2) في المطبوع وط «تعظمت» .
(3) زيادة عن المخطوط.(3/193)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
وَما كانَ مُنْتَصِراً، مُمْتَنِعًا مُنْتَقِمًا [أَيْ] [1] لَا يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِصَارِ لِنَفْسِهِ. وَقِيلَ: لَا يَقْدِرُ عَلَى ردّ ما ذهب منه [2] .
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ، يَعْنِي فِي الْقِيَامَةِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الْوَلايَةُ بِكَسْرِ الْوَاوِ، يَعْنِي السُّلْطَانَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْوَاوِ مِنَ الموالاة والنصرة، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَقَرَةِ:
257] ، قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: يُرِيدُ أنهم يتولونه [3] يومئذ ويتبرؤون مِمَّا كَانُوا يَعْبُدُونَ.
وَقِيلَ: بِالْفَتْحِ الرُّبُوبِيَّةُ وَبِالْكَسْرِ الْإِمَارَةُ، الْحَقِّ بِرَفْعِ الْقَافِ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ عَلَى نَعْتِ الْوِلَايَةِ، وَتَصْدِيقُهُ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ: «هنالك الولاية الحق الله» ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَرِّ عَلَى صِفَةِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ [الْأَنْعَامِ: 62] هُوَ خَيْرٌ ثَواباً، أَفْضَلُ جَزَاءً لِأَهْلِ طَاعَتِهِ لَوْ كَانَ غَيْرُهُ يُثِيبُ، وَخَيْرٌ عُقْباً، أَيْ عَاقِبَةُ طَاعَتِهِ خَيْرٌ مِنْ عَاقِبَةِ طَاعَةِ غيره، فهو خير إثابة، وعاقبة: طَاعَةٌ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ عُقْباً ساكنة القاف، وقرأ الباقون بضمها.
[سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 48]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاضْرِبْ لَهُمْ، يَا محمد لِقَوْمِكَ: مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ، يَعْنِي الْمَطَرَ، فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ، خَرَجَ مِنْهُ [4] كُلُّ لَوْنٍ وَزَهْرَةٍ، فَأَصْبَحَ، عن قريب، هَشِيماً، يابسا.
قاله [5] ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَالَ الضَّحَاكُ: كَسِيرًا. وَالْهَشِيمُ: مَا يَبِسَ وَتَفَتَّتَ مِنَ النباتات، تَذْرُوهُ الرِّياحُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تفرقه [6] . وقال أبو عبيدة مثله. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: تَنْسِفُهُ، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً، قَادِرًا.
الْمالُ وَالْبَنُونَ، الَّتِي يَفْتَخِرُ بِهَا عيينة [7] وَأَصْحَابُهُ الْأَغْنِيَاءُ، زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا، لَيْسَتْ مِنْ زَادِ الْآخِرَةِ، قَالَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْمَالُ وَالْبَنُونَ حَرْثُ الدُّنْيَا وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ حَرْثُ الْآخِرَةِ، وَقَدْ يَجْمَعُهَا اللَّهُ لِأَقْوَامٍ. وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ، اخْتَلَفُوا فِيهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ:
هِيَ قَوْلُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ.
«1353» وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَفْضَلُ الْكَلَامِ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ» .
«1354» أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ الحنفي أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الحسن الحيري أخبرنا أبو
__________
1353- تقدم في تفسير سورة الإسراء آية: 111 رقم 1346 من حديث سمرة بن جندب.
1354- صحيح، إسناده ضعيف لضعف أحمد بن عبد الجبار، لكن توبع هو ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- أبو معاوية محمد بن خازم، الأعمش سليمان بن مهران، أبو صالح اسمه ذكوان.
- وهو في «شرح السنة» 1270 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 2695 والترمذي 3597 والنسائي في «عمل اليوم والليلة» 835 وابن أبي شيبة 10/ 288 وابن حبان
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «عنه» .
(3) تصحف في المطبوع «يتلونه» .
(4) في المخطوط «أخرج من» .
(5) تصحف في المطبوع «قال» .
(6) زيد في المطبوع «الرياح» .
(7) تصحف في المطبوع «عقبة» . [.....](3/194)
جَعْفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْهَاشِمِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الجبار العطاردي ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» .
«1355» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ أَنْبَأَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَنْبَأَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ ثنا عثمان بن [1] صالح ثنا ابن لهيعة حدثني دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اسْتَكْثِرُوا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» ، قِيلَ: وَمَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ [قَالَ: «الْمِلَّةُ» قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ] ؟ [2] قَالَ: «التَّكْبِيرُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ» .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَسْرُوقٌ وَإِبْرَاهِيمُ: الباقيات الصَّالِحَاتُ هِيَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّهَا الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً، أَيْ جَزَاءً، الْمُرَادُ وَخَيْرٌ أَمَلًا، أَيْ مَا يُأَمِّلُهُ الْإِنْسَانُ.
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ. قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ: تَسِيرُ بِالتَّاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ الْجِبَالُ رَفْعٌ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْيَاءِ، الْجِبالَ نَصْبٌ، وَتَسْيِيرُ [3] الْجِبَالِ نَقْلُهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً، أَيْ ظَاهِرَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا شَجَرٌ وَلَا جَبَلٌ وَلَا نَبَاتٌ، كَمَا قَالَ: فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً (106) لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) [طَهَ: 106- 107] ، قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ بُرُوزُ مَا فِي بَاطِنِهَا مِنَ الْمَوْتَى وَغَيْرِهِمْ، فَتَرَى بَاطِنَ الْأَرْضِ ظَاهِرًا، وَحَشَرْناهُمْ، جَمِيعًا إِلَى الْمَوْقِفِ وَالْحِسَابِ، فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ، أي [فلم] [4] نترك منهم، أَحَداً.
عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
، أَيْ صَفًّا صَفًّا، فَوْجًا فَوْجًا، لَا أَنَّهُمْ صَفٌّ وَاحِدٌ. وَقِيلَ: قِيَامًا، ثُمَّ يقال لهم يعني الكفار: قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
، يَعْنِي أَحْيَاءً، وَقِيلَ: فُرَادَى كَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [92] . وَقِيلَ: [عراة وقيل] [5] : غرلا. لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
، يوم القيامة، يقوله
__________
834 من طرق عن أبي معاوية به.
1355- حديث حسن بشواهده دون لفظ «الملة» فإنه ضعيف ليس له شواهد.
- إسناده ضعيف لضعف ابن لهيعة، ودرّاج عن أبي الهيثم، وقد توبع ابن لهيعة، وللحديث شواهد يحسن بها.
- ابن لهيعة عبد الله، درّاج بن سمعان، أبو الهيثم سليمان بن عمرو بن عبيد.
- وهو في «شرح السنة» 1275 بهذا الإسناد.
- وأخرجه أبو يعلى 1384 وأحمد 3/ 75 من طريق الحسن بن موسى عن ابن لهيعة به.
- وأخرجه الحاكم 1/ 512 والطبري 23102 وابن حبان 840 من طريق ابن وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عن درّاج به، وصححه الحاكم!، ووافقه الذهبي!؟.
- وله شواهد منها:- حديث عثمان بن عفان عند أحمد 1/ 71 ورجاله رجال الصحيح كما في «المجمع» 10/ 89.
- وحديث أبي هريرة عند الطبري 23100 وإسناده حسن.
- وانظر «مجمع الزوائد» 10/ 89 و «الإحسان» 480 و «صحيح الجامع» 3214 و «تفسير الشوكاني» 1505 و1507 و «أحكام القرآن» 1469 وكلاهما بتخريجي.
(1) في المطبوع وط «عن أبي» .
(2) سقط من المخطوط- ب-.
(3) في المطبوع «سير» .
(4) زيادة عن- ب-.
(5) زيادة عن- ب- ظ.(3/195)
لِمُنْكِرِي الْبَعْثِ.
«1356» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثنا معلى بن أسد ثنا وهيب [1] عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ [عَنْ أَبِيهِ] [2] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ، رَاغِبِينَ وَرَاهِبِينَ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ وَأَرْبَعَةٌ عَلَى بَعِيرٍ وَعَشَرَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وَتَحْشُرُ بَقِيَّتَهُمُ النَّارُ تُقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا، وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أَمْسَوْا» .
«1357» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا محمد بن كثير ثنا سفيان ثنا الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ، ثُمَّ قَرَأَ، كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: 104] ، وَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَإِنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِي يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ أصحابي أصحابى، فيقول: إنهم لن يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصالح [عيسى ابن مريم] [3] وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] .
«1358» أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ [مُحَمَّدُ بْنُ محمد] [4] السرخسي أنا [أَبُو عَلِيٍّ] [5] زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ السرخسي أنا
__________
1356- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- وهيب هو ابن خالد، ابن طاوس هو عبد الله بن كيسان اليماني، وطاوس لقب.
- وهو في «شرح السنة» 4209 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 6522 عن معلّى بن أسد بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 2861 والنسائي 4/ 115- 116 وابن حبان 7336 من طرق عن وهيب به.
- قال المصنف في «شرح السنة» : هذا الحشر قبل قيام الساعة إنما يكون إلى الشام أحياء فأما الحشر بعد البعث من القبول على خلاف هذه الصفة من ركوب الإبل، والمعاقبة عليها إنما هو كما أخبر أنهم يبعثون حفاة عراة، وقيل: هذا في البعث دون الحشر.
1357- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- ابن كثير هو العبدي البصري، سفيان هو ابن سعيد الثوري.
- وهو في «شرح السنة» 4207 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 3349 عن محمد بن كثير بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 4625 و4626 و4740 ومسلم 2861 ح 58 والترمذي 2425 والنسائي 4/ 114 و117 وأحمد 1/ 233 و229 و235 و253 والدارمي 2/ 326 وأبو يعلى 2578 من طرق عن المغيرة بن النعمان به.
1358- صحيح، هارون بن إسحق ثقة، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، أبو خالد هو سليمان بن حيان، أبو صغيرة اسمه مسلم، وهو جد حاتم لأمه، وقيل: هو زوج أمه. انظر «التقريب» ابن أبي مليكة. هو عبد الله بن عبيد الله.
(1) تصحف في المطبوع وط «وهب» .
(2) سقط من النسخ.
(3) زيادة عن- ب-.
(4) زيادة عن- ب-. [.....]
(5) زيادة عن- ب-.(3/196)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
أَبُو الْقَاسِمِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بن المغلس ببغداد ثنا هارون بن إسحاق الهمداني أَنْبَأَنَا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ عَنْ حَاتِمُ بْنُ أَبِي صَغِيرَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «عُرَاةً حُفَاةً» ، قَالَتْ: قُلْتُ وَالنِّسَاءُ؟ قال: و «النساء» ، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَسْتَحِي، قَالَ:
«يَا عَائِشَةُ الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُهِمَّهُمْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ» .
[سورة الكهف (18) : الآيات 49 الى 51]
وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)
قوله تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ، يعني كتاب أعمال العباد يوضع فِي أَيْدِي النَّاسِ فِي أَيْمَانِهِمْ وشمائلهم وقيل: معناه يوضع بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى: فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ، خَائِفِينَ، مِمَّا فِيهِ، مِنَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ، وَيَقُولُونَ، إِذَا رَأَوْهَا، يَا وَيْلَتَنا، يَا هَلَاكَنَا، والويل والويلة الْهَلَكَةُ، وَكُلُّ مَنْ وَقَعَ فِي هَلَكَةٍ دَعَا بِالْوَيْلِ، وَمَعْنَى النِّدَاءِ تنبيه المخاطبين، مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً، مِنْ ذُنُوبِنَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّغِيرَةُ التَّبَسُّمُ والكبيرة الْقَهْقَهَةُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الصغيرة اللمم واللمس والقبلة، والكبيرة الزنا [ونحوه] [1] . إِلَّا أَحْصاها، عَدَّهَا [2] ، قَالَ السُّدِّيُّ: كتبها وأثبتها. وقال مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: حَفِظَهَا.
«1359» أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هارون
__________
- وهو في «شرح السنة» 4208 بهذا الإسناد.
- وأخرجه ابن ماجه 4276 من طريق أبي خالد الأحمر بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 6527 ومسلم 2859 والنسائي في «التفسير» 324 من طريقين عن حاتم بن أبي صغيرة به.
- وأخرجه النسائي 4/ 114- 115 من طريق أبي يونس القشيري عن ابن أبي مليكة به.
1359- حديث صحيح بشواهده. أحمد بن سيّار ثقة، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم غير يوسف بن عدي، فإنه من رجال البخاري، أبو حازم هو سلمة بن دينار.
- وهو في «شرح السنة» 4098 بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 5/ 331 والبيهقي في «الشعب» 72067 من طريق أنس بن عياض به.
- وأخرجه الطبراني في «الكبير» 5872 و «الأوسط» 7319 و «الصغير» 904 من طريق عبد الوهّاب عن أنس بن عياض به.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 10/ 190 وقال: رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح. ورواه الطبراني في «الثلاثة» من طريقين، ورجال إحداهما رجال الصحيح غير عبد الوهاب بن عبد الحكيم، وهو ثقة.
- وقال المنذري في «الترغيب» 3638: رواه أحمد، ورواته محتج بهم في الصحيح.
- وللحديث شواهد انظر «الترغيب والترهيب» 3/ 277- 279 للمنذري.
(1) سقط من المطبوع.
(2) في المطبوع «عددها» .(3/197)
الطَّيْسَفُونِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ التُّرَابِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بْنِ بَسْطَامَ أَنْبَأَنَا [أَبُو] [1] الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ سَيَّارٍ [2] الْقُرَشِيُّ ثنا يوسف بن عدي المصري ثنا أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ:
لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَثَلُ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وَادٍ فَجَاءَ هَذَا بِعُودٍ وَجَاءَ هَذَا بِعُودٍ وَجَاءَ هَذَا بِعُودٍ، فَأَنْضَجُوا خُبْزَهُمْ [3] ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ لَمُوبِقَاتٌ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً، مَكْتُوبًا مُثْبَتًا فِي كِتَابِهِمْ، وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً، أَيْ: لَا يَنْقُصُ ثَوَابُ أَحَدٍ عَمِلَ خَيْرًا. وَقَالَ الضَّحَاكُ: لَا يُؤَاخِذُ أَحَدًا بِجُرْمٍ لَمْ يَعْمَلْهُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ: تعرض النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ عَرْضَاتٍ، فَأَمَّا الْعَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ، وَأَمَّا الْعَرْضَةُ الثَّالِثَةُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ. وَرَفَعَهُ بَعْضُهُمْ عَنْ أبي موسى [4] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، يَقُولُ وَاذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ مِنْ حَيٍّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ مِنَ الْجِنِّ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَهُوَ أَصْلُ الْجِنِّ كَمَا أَنَّ آدَمَ أَصْلُ الْإِنْسِ.
فَفَسَقَ، أَيْ خَرَجَ، عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، أَفَتَتَّخِذُونَهُ، يَعْنِي يَا بَنِي آدَمَ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ، أَيْ أَعْدَاءٌ.
رَوَى مُجَالِدٌ [5] عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: إِنِّي لَقَاعِدٌ يَوْمًا إِذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي هَلْ لِإِبْلِيسَ زَوْجَةٌ؟
قُلْتُ: إِنَّ ذلك لعرس [6] مَا شَهِدْتُهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَا تَكُونُ ذرية إلا من زوجة، فَقُلْتُ: نَعَمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَتَوَالَدُونَ كَمَا يَتَوَالَدُ بَنُو آدَمَ. وَقِيلَ:
إِنَّهُ يُدْخِلُ ذَنَبَهُ فِي دُبُرِهِ فَيَبِيضُ فَتَنْفَلِقُ الْبَيْضَةُ عَنْ جَمَاعَةٍ من الشياطين. وقال مجاهد: من ذريته إبليس لا قيس وولهان، وهما صاحبا الطهارة والصلاة، والهفاف ومرّة وبه يكنى، وزلنبور وَهُوَ صَاحِبُ الْأَسْوَاقِ، يُزَيِّنُ اللَّغْوَ والحلف الكاذبة ومدح السلع، وثبر [7] وهو صاحب المصائب يزين للناس خَمْشَ الْوُجُوهِ وَلَطْمَ الْخُدُودِ وَشَقَّ الجيوب، والأعور وَهُوَ صَاحِبُ الزِّنَا يَنْفُخُ فِي إحليل الرجل وعجز المرأة، ومطووس وَهُوَ صَاحِبُ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ يُلْقِيهَا فِي أَفْوَاهِ النَّاسِ، لَا يَجِدُونَ لها أصلا، وداسم وَهُوَ الَّذِي إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ وَلَمْ يُسَلِّمْ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ بَصَّرَهُ مِنَ الْمَتَاعِ ما لم يرفع ولم يوضع في موضعه أَوْ يَحْتَبِسْ مَوْضِعَهُ، وَإِذَا أَكَلَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ أَكَلَ مَعَهُ.
قَالَ الْأَعْمَشُ: رُبَّمَا دَخَلْتُ الْبَيْتَ وَلَمْ أَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ، فَرَأَيْتُ مِطْهَرَةً فَقُلْتُ ارْفَعُوا هَذِهِ وَخَاصَمْتُهُمْ، ثُمَّ أَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ فَأَقُولُ دَاسِمُ دَاسِمُ.
__________
(1) زيادة عن- ب-.
(2) تصحف في المطبوع «يسار» .
(3) في المطبوع «خبزتهم» .
(4) يأتي تخريجه إن شاء الله تعالى.
(5) تصحف في المطبوع والمخطوط «مجاهد» .
(6) تصحف في المطبوع «العرش» .
(7) تصحف في المطبوع «بتر» .(3/198)
«1360» وَرُوِيَ عَنْ أَبِيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنْ لِلْوُضُوءِ شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ الْوَلْهَانُ. فَاتَّقُوا وَسْوَاسَ الْمَاءِ» .
«1361» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ [الْفَارِسِيُّ] [1] أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيِّ أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ أَنْبَأَنَا مسلم بن الحجاج ثنا يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ الْبَاهِلِيُّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدٍ الْجَرِيرِيِّ عَنْ أَبِي الْعَلَاءِ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلَاتِي وقراءتي يُلَبِّسُهَا [2] عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خَنْزَبُ، فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، وَاتْفُلْ عَنْ يَسَارِكَ ثَلَاثًا» ، [قَالَ] [3] فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللَّهُ عَنِّي.
«1362» وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ [أَنْبَأَنَا مُحَمَّدِ بْنِ] [4] عِيسَى الْجُلُودِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ أنبأنا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ثَنَا أَبُو كريب محمد بن العلاء أنبأنا أبو معاوية ثنا الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ [5] ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نَعَمْ أَنْتَ» . قَالَ الْأَعْمَشُ أَرَاهُ قال: «فيلتزمه» .
__________
1360- ضعيف جدا. أخرجه الترمذي 57 وابن ماجه 421 وابن خزيمة 122 والحاكم 1/ 162 والبيهقي 1/ 197 وابن عدي في «الكامل» 3/ 54 من حديث أبي بن كعب.
- وإسناده ضعيف جدا، فيه خارجة بن مصعب، وهو متروك، وكان يدلس عن كذابين.
- قال الترمذي: هذا حديث غريب، وليس إسناده بالقوي، وقد روى من غير وجه عن الحسن قوله، ولا يصح في هذا الباب عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم شيء.
- وقال البيهقي: هذا الحديث معلول برواية الثوري عن بيان عن الحسن بعضه من قوله غير مرفوع، باقيه عن يونس بن عبيد من قوله غير مرفوع.
- وقال الحافظ في «تلخيص الحبير» 1/ 144: وفيه خارجه بن مصعب، وهو ضعيف! مع أنه قال في التقريب: متروك.
- وأخرجه البيهقي 1/ 197 من طريق عبد الله بن الوليد بن سفيان عن بيان عن الحسن قوله.
1361- إسناده صحيح على شرط مسلم.
- عبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى، سعيد الجريري هو ابن إياس، أبو العلاء هو يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشخير.
- رواه المصنف من طريق مسلم، وهو في «صحيحه» 2203 عن يحيى بن خلف الباهلي بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 2203 وأحمد 4/ 216 والطحاوي في «المشكل» 370 و371 من طرق عن سعيد بن إياس الجريري. [.....]
1362- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- أبو معاوية محمد بن خازم، الأعمش سليمان بن مهران، أبو سفيان هو طلحة بن نافع.
- وهو في «صحيح مسلم» 2813 ح 67 عن أبي كريب بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 3/ 314 من طريق أبي معاوية به.
- وأخرجه مسلم 2813 ح 68 وأحمد 3/ 332 و384 و366 وأبو يعلى 2153 من طريقين عن أبي الزبير عن جابر بنحوه.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «يلبسهما» والمثبت هو الصواب.
(3) سقط من المطبوع.
(4) سقط من المطبوع.
(5) زيد في المطبوع وحده «يفتنون الناس» .(3/199)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
قَوْلُهُ تَعَالَى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا، قَالَ قَتَادَةُ: بِئْسَ مَا اسْتَبْدَلُوا طَاعَةَ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتِهِ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ.
مَا أَشْهَدْتُهُمْ، مَا أَحْضَرْتُهُمْ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ مَا أَشْهَدْنَاهُمْ بِالنُّونِ وَالْأَلْفِ عَلَى التَّعْظِيمِ، أَيْ أَحْضَرْنَاهُمْ يَعْنِي إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ. وَقِيلَ: الْكُفَّارُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ، يقول: ما أشهدتم خَلْقًا فَأَسْتَعِينُ بِهِمْ عَلَى خَلْقِهَا وَأُشَاوِرُهُمْ فِيهَا، وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً، أَيِ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ يُضِلُّونَ النَّاسَ عَضُدًا أَيْ: أَنْصَارًا وأعوانا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 52 الى 56]
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56)
قوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ قَرَأَ حَمْزَةُ بِالنُّونِ وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ أَيْ: يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نادُوا شُرَكائِيَ، يَعْنِي الْأَوْثَانَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ، أَنَّهُمْ شُرَكَائِي، فَدَعَوْهُمْ، فَاسْتَغَاثُوا بِهِمْ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، أَيْ: لَمْ يُجِيبُوهُمْ وَلَمْ يَنْصُرُوهُمْ، وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ، يَعْنِي بَيْنَ الْأَوْثَانِ وَعَبَدَتِهَا وَقِيلَ بَيْنَ أَهْلِ الْهُدَى وَأَهْلِ الضَّلَالَةِ، مَوْبِقاً مَهْلِكًا قَالَهُ عَطَاءٌ وَالضَّحَاكُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ وَادٍ فِي النَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ نَهْرٌ فِي النَّارِ يَسِيلُ نَارًا عَلَى حافتيه [1] حَيَّاتٌ مِثْلُ الْبِغَالِ الدُّهْمِ قَالَ ابن الأعرابي: كل حَاجِزٍ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَهُوَ مَوْبِقٌ، وأصله الهلاك يقال: أوبقه [فهو وابق] [2] أَيْ أَهْلَكَهُ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَعَلْنَا تَوَاصُلَهُمْ فِي الدُّنْيَا مُهْلِكًا لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَالْبَيْنُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ التَّوَاصُلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الْأَنْعَامِ: 94] عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالرَّفْعِ.
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ، أَيِ الْمُشْرِكُونَ، فَظَنُّوا، أَيْقَنُوا، أَنَّهُمْ مُواقِعُوها، دَاخِلُوهَا وَوَاقِعُونَ فِيهَا، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً، مَعْدِلًا لِأَنَّهَا أَحَاطَتْ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جانب.
قوله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنا، بَيَّنَّا، فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، أَيْ لِيَتَذَكَّرُوا وَيَتَّعِظُوا، وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، خُصُومَةً فِي الْبَاطِلِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَجِدَالَهُ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَرَادَ بِهِ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ الْجُمَحِيَّ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ الْكُفَّارُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ [الْكَهْفِ: 56] ، وَقِيلَ: هِيَ عَلَى الْعُمُومِ، وَهَذَا أَصَحُّ.
«1363» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا محمد بن يوسف أنبأنا
__________
- وأخرجه مسلم 2813 وأبو يعلى 1909 من طريقين عن جرير عن الأعمش به.
- وأخرجه أحمد 3/ 354 من طريق صفوان عن ماعز التيمي عن جابر بنحوه.
- وفي الباب من حديث أبي موسى عند الحاكم 4/ 350 وابن حبان 6189 وإسناده صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
1363- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
(1) في المطبوع «حافته» .
(2) زيادة عن المخطوط.(3/200)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ أَنَّ الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً فَقَالَ: «ألا تصليان؟» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَنْفُسَنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُوَلٍّ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَهُوَ يَقُولُ: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى، الْقُرْآنُ وَالْإِسْلَامُ وَالْبَيَانُ مِنَ الله عزّ وجلّ. وقيل: إِنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، يَعْنِي سُنَّتَنَا فِي إِهْلَاكِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. وَقِيلَ إِلَّا طَلَبَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ مِنْ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، كما قالوا: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَالِ: 32] أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا، قَالَ ابن عباس: عَيَانًا مِنَ الْمُقَابَلَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَجْأَةً، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ:
«قُبُلًا» بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ، جَمْعُ قَبِيلٍ أَيْ: أَصْنَافُ الْعَذَابِ نَوْعًا نَوْعًا.
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ، وَمُجَادَلَتُهُمْ قَوْلُهُمْ: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 94] . ولَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
[الزُّخْرُفِ: 31] ، وَمَا أَشْبَهَهُ [1] . لِيُدْحِضُوا، لِيُبْطِلُوا، بِهِ الْحَقَّ، وَأَصْلُ الدَّحْضِ الزَّلَقُ يُرِيدُ لِيُزِيلُوا بِهِ الْحَقَّ، وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً، فِيهِ إِضْمَارٌ يَعْنِي وَمَا أُنْذِرُوا بِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، هزوا أي استهزاء.
[سورة الكهف (18) : الآيات 57 الى 60]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ، وُعِظَ، بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها، تَوَلَّى عَنْهَا وَتَرَكَهَا وَلَمْ يُؤْمِنْ بِهَا، وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ، أَيْ مَا عَمِلَ مِنَ الْمَعَاصِي مِنْ قَبْلُ، إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً، أَغْطِيَةً، أَنْ يَفْقَهُوهُ، أَيْ: يَفْهَمُوهُ يُرِيدُ لِئَلَّا يَفْهَمُوهُ، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً، أَيْ صَمَمًا وَثِقَلًا، وَإِنْ تَدْعُهُمْ، يَا مُحَمَّدُ إِلَى الْهُدى، إلى الدين [الحق] [2] ، فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً، وَهَذَا فِي أَقْوَامٍ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ، ذُو النِّعْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ، يُعَاقِبُ الْكُفَّارَ، بِما كَسَبُوا، مِنَ الذُّنُوبِ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ، فِي الدُّنْيَا، بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ، يَعْنِي الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ، لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا، ملجأ.
__________
- أبو اليمان هو الحكم بن نافع، شعيب هو ابن أبي حمزة واسمه دينار، الزهري محمد بن مسلم.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 1127 عن أبي اليمان بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 4724 و7347 و7465 ومسلم 775 والنسائي 3/ 205 وأحمد 1/ 91 و112 وابن حبان 2566 وأبو عوانة 2/ 292 وابن خزيمة 1139 والبيهقي 2/ 500 من طرق عن الزهري به.
(1) في المخطوط «أشبهها» .
(2) زيادة عن المخطوط.(3/201)
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ، يَعْنِي قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَغَيْرَهُمْ، لَمَّا ظَلَمُوا، كَفَرُوا، وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً، أَيْ أَجَلًا، قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ لِمَهْلِكِهِمْ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَكَذَلِكَ فِي النَّمْلِ [49] «مهلك» أي وقت هَلَاكِهِمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ أَيْ: لِإِهْلَاكِهِمْ.
قَوْلُهُ تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا:
إِنَّهُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مُوسَى بْنُ مِيشَا مِنْ أَوْلَادِ يُوسُفَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
«1364» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا الحميدي ثنا سفيان ثنا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذِبَ عَدُوُّ اللَّهِ حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ، قَالَ مُوسَى: يَا رَبِّ فَكَيْفَ لِي بِهِ؟ قَالَ: تَأْخُذُ مَعَكَ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ فَحَيْثُ ما فقدت الحوت فهو ثمة، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ يُوشَعُ بْنُ نُونَ، حَتَّى إِذَا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فَنَامَا، وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ فَخَرَجَ مِنْهُ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا وَأَمْسَكَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْحُوتِ جَرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالْحُوتِ، فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتَهُمَا حَتَّى إِذَا كَانَ من الغد، فلما جاوزا قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا، قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أمره الله بِهِ، وَقَالَ لَهُ فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا، قَالَ: فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلِمُوسَى وَلِفَتَاهُ عَجَبًا، وَقَالَ مُوسَى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نبغ نطلبه، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، قَالَ:
رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ مُوسَى، فَقَالَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السلام، فقال له: أَنَا مُوسَى، قَالَ: مُوسَى بَنِي إسرائيل؟ قال: نعم، قال: أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [1] ، يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى علم من علم اللَّهِ عَلَّمَنِيهُ لَا تَعْلَمُهُ أَنْتَ، وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ علمكه اللَّهُ لَا أَعْلَمُهُ، فَقَالَ مُوسَى: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا، فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ على
__________
1364- إسناده صحيح على شرط البخاري لتفرده عن الحميدي.
- الحميدي هو عبد الله بن الزبير، سفيان هو ابن عيينة.
- وهو في «صحيح البخاري» 4725 عن الحميد بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 122 و3278 و3401 و4727 و6672 ومسلم 2380 وأبو داود 4707 والترمذي 3149 والحميدي 371 وأحمد 5/ 117 و118 وابن حبان 6220 والطبري 23208 من طرق عن سفيان به. مطوّلا ومختصرا.
- وأخرجه البخاري 4726 وأحمد 5/ 119 و120 من طريق ابن جريج عن يعلى بن مسلم وعمرو بن دينار به.
- وأخرجه البخاري 74 و78 و3400 ومسلم 2380 ح 174 وأحمد 5/ 116 وابن حبان 102 والطبري 23213 و23214 من طرق عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عباس مختصرا. [.....]
(1) زيد في المطبوع في هذا الموضع وغيره زيادات متعددة ليست في المخطوط ولا في «صحيح البخاري» لذا أسقطتها.(3/202)
سَاحِلِ الْبَحْرِ فَمَرَّتْ سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُمْ بغير نول، حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ لم يفجأ إِلَّا وَالْخَضِرُ قَدْ قَلَعَ لَوْحًا مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ بِالْقَدُومِ، فَقَالَ له موسى: قوم قد حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا، قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟
قَالَ: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عسرا، قال: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: فكانت الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا وَالْوُسْطَى شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا» ، قَالَ: وَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ [اللَّهِ] [1] إِلَّا مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ، ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرُ غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَ الخضر برأسه فاقتلعه بيده وقتله، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا، قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى، قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا، فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعما أهلها فأبوا أن يضيفو هما، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ ينقض، قَالَ: كَانَ مَائِلًا، فَقَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ، فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا وَلَمْ يُضَيِّفُونَا لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا، قَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، إلى قوله: ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف: 78] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَدِدْنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا من خبر هما» قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: «وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا» وَكَانَ يَقْرَأُ «وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ» .
«1365» وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَامَ مُوسَى رَسُولُ اللَّهِ فَذَكَّرَ النَّاسَ يَوْمًا حَتَّى إِذَا فَاضَتِ الْعُيُونُ وَرَقَّتِ الْقُلُوبُ وَلَّى فَأَدْرَكَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ هَلْ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ؟ قَالَ: لَا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ، إِذْ لَمْ يرد العلم إِلَى الله [فأوحى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ لِي عَبْدًا بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هو أعلم منك] [2] ، قال: يا رب وأين بمجمع البحرين، قال خذ حُوتًا مَيِّتًا حَيْثُ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ، وَفِي رِوَايَةٍ قِيلَ لَهُ: تَزَوَّدْ حُوتًا مَالِحًا فَإِنَّهُ حَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ، فَأَخَذَ حُوتًا فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ» .
رَجَعْنَا إِلَى التَّفْسِيرِ قوله: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ، يُوشَعَ بْنِ نُونَ، لَا أَبْرَحُ، أَيْ لَا أَزَالُ أَسِيرُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ، قَالَ قَتَادَةُ: بَحْرِ فَارِسٍ وَبَحْرِ الرُّومِ، مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: طَنْجَةُ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: إفريقية. أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً، أَيْ دَهْرًا طَوِيلًا [3] وَزَمَانًا، وَجَمْعُهُ أَحْقَابٌ، وَالْحِقَبُ: جَمْعُ الْحِقْبِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَالْحِقْبُ ثَمَانُونَ سَنَةً، فَحَمَلَا خُبْزًا وَسَمَكَةً مَالِحَةً حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ الَّتِي عِنْدَ مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ لَيْلًا وَعِنْدَهَا عَيْنٌ تُسَمَّى مَاءُ الْحَيَاةِ لَا يُصِيبُ ذَلِكَ الْمَاءُ شيئا إلا حيي، فَلَمَّا أَصَابَ السَّمَكَةَ رُوحُ الْمَاءِ وَبَرْدُهُ اضْطَرَبَتْ فِي الْمِكْتَلِ وَعَاشَتْ ودخلت البحر.
__________
1365- صحيح. أخرجه البخاري 4726 وأحمد 5/ 119 و120 من طريق ابن جريج عن يعلى بن مسلم وعمرو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) ما بين الحاصرتين في المطبوع «قيل بلى عبدنا الخضر» .
(3) زيد في المطبوع «وإن كان حقبا» .(3/203)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)
[سورة الكهف (18) : الآيات 61 الى 62]
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً (62)
فَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَلَمَّا بَلَغا، يَعْنِي مُوسَى وَفَتَاهُ، مَجْمَعَ بَيْنِهِما، أي: بين البحرين [1] نَسِيا، تَرَكَا، حُوتَهُما، وَإِنَّمَا كَانَ الحوت مع يوشع [بن نون] [2] ، وَهُوَ الَّذِي نَسِيَهُ وَأَضَافَ النِّسْيَانَ إِلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا تَزَوَّدَاهُ لِسَفَرِهِمَا، كَمَا يُقَالُ: خَرَجَ الْقَوْمُ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا وَحَمَلُوا مِنَ الزَّادِ كَذَا وَإِنَّمَا حَمَلَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، فَاتَّخَذَ، أَيِ الْحُوتُ، سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً، أَيْ مَسْلَكًا.
«1366» وَرُوِيَ عن ابن كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «انْجَابَ الْمَاءُ عَنْ مَسْلَكِ الْحُوتِ فَصَارَ كُوَّةً لَمْ يَلْتَئِمْ فَدَخَلَ مُوسَى الْكُوَّةَ عَلَى أَثَرِ الْحُوتِ فَإِذَا هُوَ بِالْخَضِرِ» ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلَ الْحُوتُ لَا يَمَسُّ شَيْئًا مِنَ الْبَحْرِ إِلَّا يَبِسَ حَتَّى صَارَ صَخْرَةً، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: تَوَضَّأَ يُوشَعُ بْنُ نُونَ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ فَانْتَضَحَ عَلَى الْحُوتِ الْمَالِحِ فِي الْمِكْتَلِ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَعَاشَ ثُمَّ وَثَبَ فِي ذلك الماء فجعل [لا] [3] يَضْرِبُ بِذَنَبِهِ فَلَا يَضْرِبُ بِذَنَبِهِ شَيْئًا مِنَ الْمَاءِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إِلَّا يَبِسَ، وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّهُمَا لَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، وَضَعَا رؤوسهما فَنَامَا وَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فَخَرَجَ وَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ الْحُوتِ جَرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ عَلَيْهِ مِثْلُ الطَّاقِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ [مُوسَى] [4] نَسِيَ صَاحِبُهُ أَنْ يُخْبِرَهُ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ [5] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاوَزا، يَعْنِي ذَلِكَ الْمَوْضِعَ وَهُوَ مَجْمَعُ الْبَحْرَيْنِ، قالَ، مُوسَى، لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا، أَيْ طَعَامَنَا، وَالْغَدَاءُ مَا يُعَدُّ لِلْأَكْلِ غُدْوَةً، وَالْعَشَاءُ مَا يُعَدُّ لِلْأَكْلِ عَشِيَّةً، لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هَذَا نَصَباً
، أَيْ تَعَبًا وَشِدَّةً وَذَلِكَ أَنَّهُ أُلْقِيَ عَلَى مُوسَى الْجُوعُ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الصَّخْرَةِ، لِيَتَذَكَّرَ الْحُوتَ وَيَرْجِعَ إِلَى مَطْلَبِهِ.
[سورة الكهف (18) : الآيات 63 الى 67]
قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67)
قالَ لَهُ فَتَاهَ وَتَذَكَّرَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ، وَهِيَ صَخْرَةٌ كَانَتْ بِالْمَوْضِعِ الْمَوْعُودِ، قَالَ هقل [6] بْنُ زِيَادٍ: هِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي دُونَ نَهْرِ الزَّيْتِ، فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ، أَيْ تَرَكْتُهُ وَفَقَدْتُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ يُوشَعَ حِينَ رَأَى ذَلِكَ مِنَ الْحُوتِ قَامَ لِيُدْرِكَ مُوسَى فَيُخْبِرَهُ، فَنَسِيَ أَنْ يُخْبِرَهُ فَمَكَثَا يومهما حتى صليا
__________
1366- ضعيف. أخرجه الطبري 23185 من طريق عَبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بن كعب به.
- وإسناده ضعيف، فيه ابن إسحاق، وهو مدلس، وقد عنعن.
(1) في المطبوع «الفريقين» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) يلاحظ أن المصنف اختصر الخبر لعل فيه خللا في هذا الموضع، وانظر تمامه في «صحيح البخاري» 4725.
(6) تصحف في المطبوع «مقاتل» .(3/204)
الظُّهْرَ مِنَ الْغَدِ. قِيلَ فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ مَعْنَاهُ: نَسِيتُ أَنْ أَذْكُرَ لَكَ أَمْرَ الْحُوتِ، ثُمَّ قَالَ: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، أَيْ وَمَا أَنْسَانِي أَنْ أَذْكُرَ لَكَ أَمْرَ الْحُوتِ إِلَّا الشَّيْطَانُ، وَقَرَأَ حَفْصٌ: أَنْسانِيهُ، وَفِي الْفَتْحِ [10] عَلَيْهُ اللَّهَ بِضَمِّ الْهَاءِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنْسَانِيهُ لِئَلَّا أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً، قِيلَ هَذَا مِنْ قَوْلِ يوشع، يقول طَفَرَ الْحُوتُ إِلَى الْبَحْرِ فَاتَّخَذَ فِيهِ مَسْلَكًا فَعَجِبْتُ مِنْ ذَلِكَ عَجَبًا. وَرُوِّينَا فِي الْخَبَرِ: كَانَ لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا. وَقِيلَ: هَذَا مِنْ قَوْلِ مُوسَى لَمَّا قَالَ لَهُ يُوشَعُ وَاتَّخَذَ سبيله في البحر سربا، قَالَ لَهُ مُوسَى: عَجَبًا، كَأَنَّهُ قَالَ: أَعْجَبُ عَجَبًا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَيُّ شَيْءٍ أَعْجَبُ مِنْ حوت يؤكل منه دهرا ثم صار حيا بعد ما أُكِلَ بَعْضُهُ.
قالَ. مُوسَى ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ، أَيْ: نَطْلُبُ، فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً أَيْ: رجعا يقصان الأثر الذي جاءا [1] منه يبتغيانه، فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا، قِيلَ: كَانَ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي جَاءَ فِي التَّوَارِيخِ، وَثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ الْخَضِرُ، وَاسْمُهُ بَلِيَا بْنُ مَلْكَانَ، قِيلَ: كَانَ مِنْ نَسْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقِيلَ: كَانَ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ تَزَهَّدُوا فِي الدُّنْيَا، وَالْخَضِرُ لَقَبٌ لَهُ [سُمِّيَ بِذَلِكَ لِمَا] [2] :
«1367» أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قال: ثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا سُمِّيَ خَضِرًا لِأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ فَإِذَا هي تهتز تحته خضرا» .
قَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَ خَضِرًا لِأَنَّهُ إِذَا صَلَّى اخْضَرَّ مَا حَوْلَهُ.
وَرُوِّينَا أَنَّ مُوسَى رَأَى الْخَضِرَ مُسَجًّى بِثَوْبٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ الخضر وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلَامُ، فَقَالَ:
أَنَا موسى أتيتك لتعملني مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [3] .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَقِيَهُ مُسَجًّى بِثَوْبٍ مُسْتَلْقِيًا عَلَى قَفَاهُ، بَعْضُ الثَّوْبِ تَحْتَ رَأْسِهِ وَبَعْضُهُ تَحْتَ رِجْلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لَقِيَهُ وَهُوَ يُصَلِّي. وَيُرْوَى لَقِيَهُ عَلَى طُنْفُسَةٍ خَضْرَاءَ عَلَى كَبِدِ الْبَحْرِ.
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً، أَيْ نِعْمَةً، مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً، أَيْ عِلْمَ الْبَاطِنِ إِلْهَامًا وَلَمْ يَكُنِ الْخَضِرُ نَبِيًّا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ [يقول جئت لأتبعك] [4] وأصبحك، عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ: رُشْداً بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالشِّينِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ، أَيْ صَوَابًا. وَقِيلَ: عِلْمًا تُرْشِدُنِي بِهِ. وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ لَهُ مُوسَى هَذَا قَالَ لَهُ الْخَضِرُ: كَفَى بِالتَّوْرَاةِ علما ببني [5] إِسْرَائِيلَ شُغْلًا، فَقَالَ لَهُ مُوسَى: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِهَذَا فَحِينَئِذٍ:
__________
1367- إسناده صحيح، أحمد بن يوسف ثقة روى له مسلم، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، عبد الرزاق بن همام، معمر بن راشد.
- وأخرجه الترمذي 3151 وأحمد 2/ 312 و318 وابن حبان 6222 من طرق عن عبد الرزاق بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 3402 من طريق ابن المبارك عن معمر به.
(1) في المطبوع «جاء» . [.....]
(2) زيد في المطبوع وط.
(3) هو بعض الحديث المتقدم برقم 1364.
(4) العبارة في المطبوع وقعت قبل هذه الآية.
(5) في المطبوع «بني» .(3/205)
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
قالَ، لَهُ الْخَضِرُ، إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَرَى أُمُورًا مُنْكَرَةً، وَلَا يَجُوزُ لِلْأَنْبِيَاءِ أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى الْمُنْكَرَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ عُذْرَهُ فِي تَرْكِ الصَّبْرِ:
[سورة الكهف (18) : الآيات 68 الى 71]
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71)
فقال له: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) ، أَيْ عِلْمًا.
قالَ [له] [1] مُوسَى، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً، [و] إِنَّمَا اسْتَثْنَى لِأَنَّهُ لَمْ يَثِقْ مِنْ نَفْسِهِ بِالصَّبْرِ وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً، أَيْ لَا أُخَالِفُكَ فيما تأمرني.
قالَ، الخضر، فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي، فَإِنْ صَحِبْتَنِي وَلَمْ يَقُلْ اتَّبِعْنِي وَلَكِنْ جَعَلَ الِاخْتِيَارَ إِلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ شَرَطَ عَلَيْهِ شرطا فقال، فَلا تَسْئَلْنِي، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ [وقرأ] [2] الآخرون بِسُكُونِ اللَّامِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ، عَنْ شَيْءٍ [أعلمه فيما تنكره و [لا] تَعْتَرِضْ عَلَيْهِ] [3] ، حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً، حتى ابتدأ لَكَ بِذِكْرِهِ فَأُبَيِّنُ لَكَ شَأْنَهُ.
فَانْطَلَقا، يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ يَطْلُبَانِ سَفِينَةً يَرْكَبَانِهَا فَوَجَدَا سَفِينَةً فَرَكِبَاهَا، فَقَالَ أَهْلُ السَّفِينَةِ هَؤُلَاءِ لُصُوصٌ وَأَمَرُوهُمَا [4] بِالْخُرُوجِ، فَقَالَ صَاحِبُ السَّفِينَةِ: مَا هُمْ بِلُصُوصٍ وَلَكِنِّي أَرَى [وجوههم] [5] وُجُوهَ الْأَنْبِيَاءِ.
«1368» وَرُوِّينَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «مَرَّتْ بِهِمْ سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمْ فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُمْ بِغَيْرِ نَوْلٍ، فَلَمَّا لَجَّجُوا الْبَحْرَ أَخَذَ الْخَضِرُ فَأْسًا فَخَرَقَ لَوْحًا مِنَ السفينة» فذلك قوله: حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ، لَهُ مُوسَى، أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: «لِيَغْرَقَ» بِالْيَاءِ وَفَتْحِهَا وَفَتْحِ الرَّاءِ، «أَهْلُهَا» بِالرَّفْعِ عَلَى اللُّزُومِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ وَرَفْعِهَا وَكَسْرِ الرَّاءِ «أَهْلَهَا» بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لِلْخَضِرِ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أَيْ مُنْكَرًا، وَالْإِمْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الدَّاهِيَةُ، وَأَصْلُهُ كُلُّ شَيْءٍ شَدِيدٌ كَثِيرٌ، يُقَالُ: أَمِرَ الْقَوْمُ إِذَا كَثُرُوا وَاشْتَدَّ أَمْرُهُمْ. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ إِمْراً أَيْ عَجَبًا. وَرُوِيَ أَنَّ الْخَضِرَ لَمَّا خَرَقَ السَّفِينَةَ لَمْ يَدْخُلْهَا الْمَاءُ. وَرُوِيَ أَنَّ موسى لما رأى ذلك [من الخضر] [6] أَخَذَ ثَوْبَهُ فَحَشَّى بِهِ الْخَرْقَ. وَرُوِيَ أَنَّ الْخَضِرَ أَخَذَ قَدَحًا من زجاج [7] ورقع به خرق السفينة.
__________
1368- هو بعض الحديث المتقدم برقم: 1364.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «و» .
(3) العبارة في المخطوط «أعلمه مِمَّا تُنْكِرُهُ وَلَا تَعْتَرِضْ عَلَيْهِ» .
(4) في المطبوع «وأمرهما» .
(5) سقط من المطبوع.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المطبوع «الزجاج» .(3/206)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
[سورة الكهف (18) : الآيات 72 الى 77]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76)
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77)
قالَ، العالم وهو الخضر [لما اشتد على الخضر من موسى بالإنكار] [1] ، أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً.
قالَ، مُوسَى، لَا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ لَمْ يَنْسَ وَلَكِنَّهُ مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ، فَكَأَنَّهُ نَسِيَ شَيْئًا آخَرَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِمَا تَرَكْتُ مِنْ عَهْدِكَ وَالنِّسْيَانُ التَّرْكُ. وَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَتِ الْأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا وَالْوُسْطَى شَرْطًا وَالثَّالِثَةُ عَمْدًا» [2] . وَلا تُرْهِقْنِي، وَلَا تَغْشَنِي، مِنْ أَمْرِي عُسْراً، وَقِيلَ: لَا تُكَلِّفْنِي مَشَقَّةً، يُقَالُ أَرْهَقْتُهُ عُسْرًا أَيْ كَلَّفْتُهُ ذَلِكَ، يَقُولُ لَا تُضَيِّقْ عَلَيَّ أَمْرِي وَعَامِلْنِي بِالْيُسْرِ وَلَا تُعَامِلْنِي بِالْعُسْرِ.
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ وفي الْقِصَّةِ أَنَّهُمَا خَرَجَا مِنَ الْبَحْرِ يَمْشِيَانِ فَمَرَّا بِغِلْمَانٍ يَلْعَبُونَ فَأَخَذَ الْخَضِرُ غُلَامًا ظَرِيفًا وَضِيءَ الْوَجْهِ فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ. قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ أَحْسَنَهُمْ وَجْهًا وَكَانَ وَجْهُهُ يَتَوَقَّدُ حُسْنًا. وَرُوِّينَا أَنَّهُ أَخَذَ بِرَأْسِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ. وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ هَذَا الْخَبَرَ: وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثَ الْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَقَلَعَ بِرَأْسِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ رَضَخَ رَأْسَهُ بِالْحِجَارَةِ. وَقِيلَ: ضَرَبَ رَأْسَهُ بِالْجِدَارِ فَقَتَلَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ غُلَامًا لَمْ يَبْلُغِ الْحِنْثَ، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَكُنْ نَبِيُّ اللَّهِ يَقُولُ: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً إِلَّا وَهُوَ صَبِيٌّ لَمْ يَبْلُغْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ رَجُلًا. وَقَالَ شُعَيْبٌ الْجَبَّائِيُّ [3] : كَانَ اسْمُهُ حَيْسُورَ. وَقَالَ الكلبي: كان فتى يقطع الطريق وَيَأْخُذُ الْمَتَاعَ وَيَلْجَأُ إِلَى أَبَوَيْهِ. وَقَالَ الضَّحَاكُ: كَانَ غُلَامًا يَعْمَلُ بِالْفَسَادِ وَتَأَذَّى [4] مِنْهُ أَبَوَاهُ.
«1369» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ [الْفَارِسِيُّ] أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بن قعنب [5] ثنا معتمر بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رقبة بْنِ مَصْقَلَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ كَافِرًا وَلَوْ عَاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طغيانا وكفرا» .
__________
1369- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- سليمان والد معتمر هو سليمان بن طرخان، أبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السّبيعي.
- وهو في «صحيح مسلم» 2380 ح 172 عن محمد بن عبد الأعلى عن معتمر به مطوّلا.
- وأخرجه أبو داود 4705 وأحمد 5/ 121 وابن حبان 6221 من طرق عن معتمر به.
- وأخرجه أبو داود 4706 والترمذي 3150 من طريقين عن أبي إسحاق به.
(1) زيادة عن المخطوط. [.....]
(2) هو بعض المتقدم برقم 1364.
(3) في المخطوط «الحمادي» والمثبت الصواب كما في «الجرح والتعديل» 4/ 353.
(4) في المخطوط «يتأذى» .
(5) تصحف في المطبوع «مغيث» .(3/207)
قالَ. مُوسَى، أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: زَاكِيَةً بِالْأَلِفِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ زَكِيَّةً، قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، مِثْلُ: الْقَاسِيَةُ وَالْقَسِيَّةُ، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: الزَّاكِيَةُ الَّتِي لَمْ تُذْنِبْ قط، والزكية الَّتِي أَذْنَبَتْ ثُمَّ تَابَتْ، بِغَيْرِ نَفْسٍ، أَيْ لَمْ تَقْتُلْ نَفْسًا بِشَيْءٍ وَجَبَ بِهِ عَلَيْهَا الْقَتْلُ، لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً، أَيْ: مُنْكَرًا. قَالَ قَتَادَةُ: النُّكْرُ أَعْظَمُ مِنَ الْإِمْرِ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الْهَلَاكِ، وَفِي خَرْقِ السَّفِينَةِ كَانَ خَوْفُ الْهَلَاكِ، وَقِيلَ: الْإِمْرُ أَعْظَمُ لِأَنَّهُ كَانَ فِيهِ تَغْرِيقُ جَمْعٍ كَثِيرٍ. قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ وَأَبُو بَكْرٍ هَاهُنَا نُكْراً وَفِي سُورَةِ الطَّلَاقِ [8] بِضَمِّ الْكَافِ، وَالْآخَرُونَ بسكونها.
قالَ، يَعْنِي الْخَضِرَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً، قيل: زاد هنالك لِأَنَّهُ نَقَضَ الْعَهْدَ مَرَّتَيْنِ، وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ يُوشَعَ كَانَ يَقُولُ لِمُوسَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ اذْكُرِ الْعَهْدَ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ.
قالَ، مُوسَى، إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها [أي] [1] بَعْدَ هَذِهِ الْمَرَّةِ، فَلا تُصاحِبْنِي، وَفَارِقْنِي، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: فَلَا تَصْحَبْنِي بِغَيْرِ أَلِفٍ مِنَ الصُّحْبَةِ. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ مِنْ لَدُنِّي خَفِيفَةَ النُّونِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ، بِتَشْدِيدِهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ قَدْ أُعْذِرْتَ فِيمَا بَيْنِي وبينك. وقيل: قد حَذَّرْتَنِي أَنِّي لَا أَسْتَطِيعُ مَعَكَ صَبْرًا. وَقِيلَ: اتَّضَحَ لَكَ الْعُذْرُ فِي مُفَارَقَتِي.
«1370» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ [الْفَارِسِيُّ] [2] أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنِ عِيسَى [الْجُلُودِيُّ] [3] ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن عبد الأعلى القيسي ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رُقَيَّةَ [4] عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى» ، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، «لَوْلَا أَنَّهُ عَجَّلَ لَرَأَى الْعَجَبَ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَتْهُ مَنْ صَاحِبِهِ ذَمَامَةٌ، قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَلَوْ صَبَرَ لَرَأَى الْعَجَبَ» .
قَوْلُهُ تعالى: فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي أَنْطَاكِيَةَ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: هِيَ الأيلة وَهِيَ أَبْعَدُ الْأَرْضِ مِنَ السَّمَاءِ. وَقِيلَ: بَرْقَةُ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: بَلْدَةٌ بِالْأَنْدَلُسِ. اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما.
«1371» قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئَامًا فَطَافَا فِي المجالس فاستطعما
__________
1370- إسناده صحيح على شرط مسلم فقد تفرد عن محمد بن عبد الأعلى، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، سليمان بن طرخان، رقبة بن مصقلة، أبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السبيعي.
- وهو في «صحيح مسلم» 2380 ح 172 عن محمد بن عبد الأعلى بهذا الإسناد مطوّلا.
- وأخرجه أبو داود 3984 وابن حبان 988 والطبري 23232 من طريقين عن حمزة الزيات عن أبي إسحاق به.
- وأخرجه النسائي في «الكبرى» 11310 من طريق إسرائيل عن أبي إسحاق به.
- وورد بنحوه من طرق عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عمرو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جبير به عند البخاري 122 و3401 و4725 و4727 ومسلم 2380.
1371- صحيح. أخرجه مسلم 2380 ح 172 وقد تقدم.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) تصحف في المخطوط «رقيه» .(3/208)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا» . وَرُوِيَ أنهما طافا في القوم فاستطعماهم فلم يطعموهما واستضافاهم فَلَمْ يُضَيِّفُوهُمَا. قَالَ قَتَادَةُ: شَرُّ الْقُرَى الَّتِي لَا تُضَيِّفُ الضَّيْفَ. وَرَوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَطْعَمَتْهُمَا امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ بَرْبَرَ بَعْدَ أَنْ طَلَبَا مِنَ الرِّجَالِ فلم يطعموهما. فدعوا لنسائهم ولعنا رِجَالَهُمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ، أَيْ يَسْقُطَ، وَهَذَا مِنْ مَجَازِ كَلَامِ الْعَرَبِ، لِأَنَّ الْجِدَارَ لَا إِرَادَةَ لَهُ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ قَرُبَ وَدَنَا مِنَ السُّقُوطِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: دَارِي تَنْظُرُ إِلَى دَارِ فُلَانٍ إِذَا كَانَتْ تُقَابِلُهَا. فَأَقامَهُ، أَيْ سَوَّاهُ.
«1372» وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَقَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ» .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَسَحَ الْجِدَارَ بِيَدِهِ فَاسْتَقَامَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَدَمَهُ ثُمَّ قَعَدَ يَبْنِيهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: بَلْ طَيَّنَا وَجَعَلَ يَبْنِي الْحَائِطَ. قالَ مُوسَى لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ لَتَخِذْتَ بِتَخْفِيفِ التَّاءِ وكسر الخاء، وقرأ الآخرون لَاتَّخَذْتَ بِتَشْدِيدِ التَّاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ اتَّبَعَ وَتَبِعَ عَلَيْهِ يَعْنِي عَلَى إِصْلَاحِ الْجِدَارِ، أَجْراً يَعْنِي جُعْلًا، مَعْنَاهُ: إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ أَنَّنَا جِيَاعٌ وَأَنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ لَمْ يُطْعِمُونَا فَلَوْ أَخَذْتَ على عملك أجرا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 78 الى 81]
قالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81)
قالَ الْخَضِرُ، هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، يَعْنِي هَذَا وَقْتُ فِرَاقٍ بَيْنِي وَبَيْنِكَ. وَقِيلَ: هَذَا الْإِنْكَارُ عَلَى تَرْكِ الْأَجْرِ هُوَ الْمُفَرِّقُ بَيْنَنَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِنَا أَيْ فِرَاقُ اتِّصَالِنَا وكرر بَيْنِي تَأْكِيدًا سَأُنَبِّئُكَ، أَيْ سَوْفَ أُخْبِرُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً.
وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ أَنَّ مُوسَى أَخَذَ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَعْنَى مَا عَمِلْتَ قَبْلَ أَنْ تُفَارِقَنِي.
فَقَالَ: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ، قَالَ كَعْبٌ: كَانَتْ لِعَشَرَةِ إِخْوَةٍ خَمْسَةٍ زَمْنَى وَخَمْسَةٍ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ وإن كان يملك شيئا لا يزول عنه اسم المسكنة إذ لم يقم ما يملكه بِكِفَايَتِهِ، يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ أَيْ يُؤَاجِرُونَ وَيَكْتَسِبُونَ بِهَا، فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها، أَجْعَلُهَا ذَاتَ عَيْبٍ، وَكانَ وَراءَهُمْ، أَيْ أَمَامَهُمْ، مَلِكٌ، كَقَوْلِهِ: مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ [إِبْرَاهِيمَ: 16] ، وَقِيلَ: وَرَاءَهُمْ خَلْفَهُمْ، وَكَانَ رُجُوعُهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ يَدُلُّ عليه قراءة ابن مسعود [1] «وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ» يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً، أَيْ كل سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يقرؤها كَذَلِكَ فَخَرَقَهَا وَعَيَّبَهَا الْخَضِرُ حَتَّى لَا يَأْخُذَهَا الْمَلِكُ الْغَاصِبُ، وَكَانَ اسمه الجلندى وكان كافرا. وقال مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ اسْمُهُ مُتَوَلِّهُ بْنُ جَلَنْدِيِّ [2] الْأَزْدِيُّ. وَقَالَ شُعَيْبٌ الْجَبَّائِيُّ اسْمُهُ هُدَدُ بْنُ بُدَدَ.
__________
1372- أخرجه مسلم 2380 ح 170 من طريق عمرو بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أبي بن كعب مطوّلا، والأشبه في هذه اللفظة الوقف، فإن ابن عباس صرح عقب هذه اللفظة برفع اللفظة التي بعدها. ولم يصرح برفع هذه اللفظة، وهي غريبة، والأشبه أقامه بأن أعاد بناءه، والله أعلم.
(1) في المطبوع «عباس» .
(2) في المخطوط «خليفة» .(3/209)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
وَرُوِيَ أَنَّ الْخَضِرَ اعْتَذَرَ إِلَى الْقَوْمِ وَذَكَرَ لَهُمْ شَأْنَ [الْمَلِكِ] [1] الْغَاصِبِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ بِخَبَرِهِ، وَقَالَ: أَرَدْتُ إِذَا هِيَ مَرَّتْ بِهِ أَنْ يَدَعَهَا لِعَيْبِهَا فَإِذَا جَاوَزُوهُ [2] أصلحوها فانتفعوا بها. وقيل: سَدُّوهَا بِقَارُورَةٍ. وَقِيلَ: بِالْقَارِ.
قَوْلُهُ تعالى: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا، أَيْ فَعَلِمْنَا، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ «وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنِينَ فَخَشِينَا» أَيْ فَعَلِمْنَا، أَنْ يُرْهِقَهُما، يُغْشِيَهُمَا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يُكَلِّفَهُمَا، طُغْياناً وَكُفْراً، قال سعيد بن جبير: خشينا أَنْ يَحْمِلَهُمَا حُبُّهُ عَلَى أَنْ يُتَابِعَاهُ عَلَى دِينِهِ.
فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو [3] بِالتَّشْدِيدِ هَاهُنَا وَفِي سورة التحريم [5] والقلم [32] ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: التَّبْدِيلُ تَغْيِيرُ الشَّيْءِ أَوْ تَغْيِيرُ حَالِهِ وَعَيْنُ الشيء قائم [4] والإبدال رَفْعُ الشَّيْءِ وَوَضْعُ شَيْءٍ آخَرَ مَكَانَهُ، رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً، أَيْ صَلَاحًا وَتَقْوَى، وَأَقْرَبَ رُحْماً، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْبَاقُونَ بِجَزْمِهَا أَيْ:
عَطْفًا مِنَ الرَّحْمَةِ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الرَّحِمِ وَالْقَرَابَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ أَوْصَلُ لِلرَّحِمِ وَأَبَرُّ بِوَالِدَيْهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَبْدَلَهُمَا اللَّهُ جَارِيَةً فَتَزَوَّجَهَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَوَلَدَتْ لَهُ نَبِيًّا فَهَدَى اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ أُمَّةً مِنَ الْأُمَمِ.
وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَبْدَلَهُمَا اللَّهُ جَارِيَةً وَلَدَتْ سَبْعِينَ نَبِيًّا. وَقَالَ ابْنُ جريج: أبدلهما بغلام مسلم. قَالَ مُطَرِّفٌ: فَرِحَ بِهِ أَبَوَاهُ حِينَ وُلِدَ وَحَزِنَا عَلَيْهِ حِينَ قُتِلَ. وَلَوْ بَقِيَ لَكَانَ فِيهِ هَلَاكُهُمَا، فَلْيَرْضَ امْرُؤٌ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ قَضَاءَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِ فِيمَا يَكْرَهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ قضائه فيما يحب.
[سورة الكهف (18) : آية 82]
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)
قوله تعالى: وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ، وَكَانَ اسْمُهُمَا أَصْرَمُ وَصَرِيمٌ، وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما، اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْكَنْزِ.
«1373» رُوِيَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ ذَهَبًا وَفِضَّةً» .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ مَالًا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: كَانَ الْكَنْزُ صُحُفًا فِيهَا عِلْمٌ.
«1374» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ لَوْحًا مِنْ ذَهَبٍ مَكْتُوبًا فِيهِ: عَجَبًا لِمَنْ أيقن بالموت كيف يفرح،
__________
1373- ضعيف جدا. أخرجه الترمذي 3152 والحاكم 2/ 369 والواحدي في «الوسيط» 3/ 162 وابن عدي في «الكامل» 7/ 268 من حديث أبي الدرداء.
- وضعفه الحافظ في «تخريج الكشاف» 2/ 742 وفي إسناده يزيد بن يوسف الصنعاني، وهو متروك.
- قلت: وهذا الخبر وإن لم يصح عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فمعناه صحيح وهو أن الكنز إنما هو مال أو ذهب وفضة. [.....]
1374- الصحيح موقوف. أخرجه ابن عدي في «الكامل» 1/ 393 عن ابن عباس موقوفا، وفيه أبين بن سفيان، قال ابن عدي: وما يرويه عن من رواه منكر كله اهـ.
- وأخرجه البيهقي في «الشعب» 213 عن علي موقوفا.
- وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 162 من حديث أنس مرفوعا، وفيه محمد بن مروان السدي وأبان. قال الحافظ
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع وط «جاوزه» .
(3) تصحف في المطبوع «عمر» .
(4) في- ب- «قائمة» .(3/210)
عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ كَيْفَ يَغْفُلُ، عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالرِّزْقِ كَيْفَ يَتْعَبُ، عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْقَدَرِ كَيْفَ يَنْصَبُ، عَجَبًا لِمَنْ أَيْقَنَ بِزَوَالِ الدُّنْيَا وَتَقَلُّبِهَا بِأَهْلِهَا كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ مَكْتُوبٌ: أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا وَحْدِي لَا شَرِيكَ لِي خَلَقْتُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، فَطُوبَى لِمَنْ خَلَقْتُهُ للخير وأجريته على يديه [وويل لِمَنْ خَلَقْتُهُ لِلشَّرِّ وَأَجْرَيْتُهُ عَلَى يَدَيْهِ] [1] .
وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وروي ذلك [أيضا] [2] مَرْفُوعًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْكَنْزُ إِذَا أطلق ينصرف إلى الْمَالِ وَيَجُوزُ عِنْدَ التَّقْيِيدِ أَنْ يُقَالَ عِنْدَهُ كَنْزُ عِلْمٍ، وَهَذَا اللَّوْحُ كَانَ جَامِعًا لَهُمَا. وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً، قِيلَ: كَانَ اسْمُهُ كاشح وَكَانَ مِنَ الْأَتْقِيَاءِ. قَالَ ابْنُ عباس حفظا بصلاح أبيهما، وَقِيلَ: كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَبِ الصَّالِحِ سَبْعَةُ آبَاءٍ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ بِصَلَاحِ الْعَبْدِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ، وَعِتْرَتَهُ وَعَشِيرَتَهُ وَأَهْلَ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ، فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللَّهِ مَا دَامَ فِيهِمْ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنِّي لَأُصَلِّي فَأَذْكُرُ وَلَدِي فَأَزِيدُ فِي صَلَاتِي. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما، أَيْ يَبْلُغَا وَيَعْقِلَا. وَقِيلَ:
أَنْ يُدْرِكَا شِدَّتَهُمَا وَقُوَّتَهُمَا. وَقِيلَ: ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً. وَيَسْتَخْرِجا حِينَئِذٍ كَنزَهُما رَحْمَةً، نِعْمَةً، مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، أَيْ بِاخْتِيَارِي وَرَأْيِي، بَلْ فَعَلْتُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَإِلْهَامِهِ، ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً، أَيْ لَمْ تُطِقْ عَلَيْهِ صَبْرًا، واستطاع واسطاع بمعنى واحد، وروي أَنَّ مُوسَى لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُفَارِقَهُ قَالَ لَهُ: أَوْصِنِي، قَالَ: لَا تَطْلُبِ الْعِلْمَ لِتُحَدِّثَ بِهِ وَاطْلُبْهُ لِتَعْمَلَ بِهِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْخَضِرَ حَيٌّ أَمْ مَيِّتٌ؟
قِيلَ: إِنَّ الْخَضِرَ وَإِلْيَاسَ حَيَّانِ يلتقيان [في] [3] كُلَّ سَنَةٍ بِالْمَوْسِمِ.
[4] وَكَانَ سَبَبُ حَيَاتِهِ فِيمَا يُحْكَى أَنَّهُ شَرِبَ مِنْ عَيْنِ الْحَيَاةِ، وَذَلِكَ أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ دَخَلَ الظُّلُمَاتِ لِطَلَبِ عَيْنِ الْحَيَاةِ. وَكَانَ الْخَضِرُ عَلَى مقدمة [عسكر ذي القرنين] [5] فَوَقَعَ الْخَضِرُ عَلَى الْعَيْنِ فَنَزَلَ واغتسل وَشَرِبَ وَصَلَّى شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَخْطَأَ ذُو الْقَرْنَيْنِ الطَّرِيقَ فَعَادَ [6] . وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ مَيِّتٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الْأَنْبِيَاءِ: 34] .
«1375» وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بعد ما صَلَّى الْعَشَاءَ لَيْلَةً: «أَرَأَيْتُكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ عَلَى رَأْسِ مِائَةِ سنة منها لا
__________
- في «تخريج الكشاف» 2/ 742: أبان والسدي الصغير متروكان.
- وأخرجه البزار 2229 من حديث أبي ذر مرفوعا.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 53- 54 وقال: رواه البزار من طرق بشر بن المنذر عن الحارث بن عبد الله اليحصبي، ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات اهـ.
- قلت: المرفوع لا أصل له، وإنما رواه مجاهيل، وأما الموقوف فهو متلقى عن أهل الكتاب، والصحيح أن الكنز كان مالا، فتنبه، والله أعلم.
1375- صحيح. أخرجه البخاري 116 و601 ومسلم 2537 وأبو داود 4348 والترمذي 2251 وأحمد 2/ 88 وابن حبان 2989 من حديث ابن عمر، وله شواهد كثيرة.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيد في المطبوع وحده «وقيل ميت» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) القول الذي ذهب إليه الآخرون هو الصواب، وأما الأول فباطل مفترى، إنما مصدره أضغاث أحلام، وقصص عن مجاهيل.(3/211)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)
يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ الْيَوْمَ حَيٌّ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَحَدٌ» .
وَلَوْ كَانَ الْخَضِرُ حَيًّا لَكَانَ لَا يعيش بعده.
[سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 87]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)
قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) ، خَبَرًا، وَاخْتَلَفُوا فِي نُبُوَّتِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ نَبِيًّا، وَقَالَ أَبُو الطُّفَيْلِ: سُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَكَانَ نَبِيًّا أَمْ ملكا، فقال: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَا مَلِكًا ولكن كان عبدا [صالحا] [1] أَحَبَّ اللَّهَ وَأَحَبَّهُ اللَّهُ، نَاصَحَ اللَّهَ فَنَاصَحَهُ اللَّهُ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ لِآخَرَ: يَا ذَا القرنين، فقال: سميتم بأسماء الأنبياء فَلَمْ تَرْضَوْا حَتَّى تَسَمَّيْتُمْ بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا عَادِلًا صَالِحًا. وَاخْتَلَفُوا فِي سبب تسميته بذي الْقَرْنَيْنِ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: لِأَنَّهُ بَلَغَ قَرْنَيِ الشَّمْسِ مَشْرِقَهَا وَمَغْرِبَهَا. وَقِيلَ: لأنه كان مَلَكَ الرُّومَ وَفَارِسَ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ دَخَلَ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ. وَقِيلَ لِأَنَّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ كَأَنَّهُ أَخَذَ بِقَرْنَيِ الشَّمْسِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَتْ لَهُ ذُؤَابَتَانِ حَسَنَتَانِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ قَرْنَانِ تُوَارِيهِمَا الْعِمَامَةُ. وَرَوَى أَبُو الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: سُمِّيَ ذَا الْقَرْنَيْنِ لِأَنَّهُ أَمَرَ قَوْمَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ الْأَيْمَنِ فَمَاتَ فَبَعَثَهُ اللَّهُ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنِهِ الْأَيْسَرِ فَمَاتَ، فَأَحْيَاهُ اللَّهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِهِ قِيلَ: اسْمُهُ مَرْزُبَانُ بْنُ مِرْزَبَّةَ [2] الْيُونَانِيُّ مِنْ وَلَدِ يُونَانَ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. وَقِيلَ: اسْمُهُ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فَيْلَفُوسَ [3] بْنِ ياملوس الرومي.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ، أَوْطَأْنَا، وَالتَّمْكِينُ: تمهيد الأسباب. وقال عَلِيٌّ: سَخَّرَ لَهُ السَّحَابَ فَحَمَلَهُ عَلَيْهَا، وَمَدَّ لَهُ فِي الْأَسْبَابِ وَبَسَطَ لَهُ النُّورَ فَكَانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ عَلَيْهِ سَوَاءً، فَهَذَا مَعْنَى تَمْكِينِهِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ أَنَّهُ سَهَّلَ عَلَيْهِ السَّيْرَ فِيهَا وَذَلَّلَ لَهُ طُرُقَهَا. وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْخَلْقُ. وَقِيلَ: مِنْ كُلِّ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ الْمُلُوكُ عَلَى فَتْحِ الْمُدُنِ وَمُحَارَبَةِ الْأَعْدَاءِ، سَبَباً، أَيْ:
عِلْمًا يَتَسَبَّبُ بِهِ إِلَى كُلِّ مَا يُرِيدُ، وَيَسِيرُ بِهِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَالسَّبَبُ: مَا يُوَصِّلُ به إِلَى الشَّيْءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: بَلَاغًا إِلَى حَيْثُ أَرَادَ. وَقِيلَ: قَرَّبْنَا إِلَيْهِ أَقْطَارَ الْأَرْضِ.
فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) ، أي: سلك وسار طريقا، قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ «فَاتَّبَعَ» «ثُمَّ اتَّبَعَ» مَوْصُولًا [4] مُشَدَّدًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَجَزْمِ التَّاءِ: قيل: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَالصَّحِيحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَمَنْ قَطَعَ الْأَلِفَ فَمَعْنَاهُ أَدْرَكَ وَلَحِقَ، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّشْدِيدِ فَمَعْنَاهُ سَارَ، يُقَالُ: مَا زِلْتُ أَتْبَعُهُ حَتَّى أَتْبَعْتُهُ [5] أَيْ: مَا زِلْتُ أَسِيرُ خَلْفَهُ حَتَّى لَحِقْتُهُ. وَقَوْلُهُ: سَبَبًا أَيْ طَرِيقًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْزِلًا.
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ [6] عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ «حَامِيَةٍ» بِالْأَلِفِ غَيْرِ مَهْمُوزَةٍ، أَيْ حَارَّةٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ حَمِئَةٍ مَهْمُوزًا بِغَيْرِ الْأَلِفِ أَيْ ذَاتُ
__________
(1) سقط من المطبوع وط. [.....]
(2) في المطبوع «مرزبة بن مرزبان» .
(3) في المخطوط «فيليوس» .
(4) أي همزته الوصل.
(5) في- ط «أتبعته» .
(6) تصحف في المطبوع «أبو» .(3/212)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
حَمْأَةٍ، وَهِيَ الطِّينَةُ السَّوْدَاءُ، وَسَأَلَ مُعَاوِيَةُ كَعْبًا كَيْفَ تَجِدُ فِي التوراة أين [1] تغرب الشمس؟ قال: أجد فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهَا تَغْرُبُ فِي ماء وطين. وقال الْقُتَيْبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أَيْ عِنْدَهَا عَيْنٌ حَمِئَةٌ أَوْ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ. وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً، أَيْ عِنْدَ الْعَيْنِ أُمَّةً، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَدِينَةٌ لَهَا اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ بَابٍ، لَوْلَا ضَجِيجُ أَهْلِهَا لَسُمِعَتْ وَجْبَةُ الشَّمْسِ حِينَ تَجِبُ. قُلْنا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ، استدل بها [2] مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ نَبِيًّا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَهُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْإِلْهَامُ، إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ، يَعْنِي إِمَّا أَنْ تَقْتُلَهُمْ إِنْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً، يَعْنِي تَعْفُو وَتَصْفَحُ. وَقِيلَ: تَأْسِرُهُمْ فَتُعَلِّمُهُمُ الْهُدَى، خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ.
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ [أَيْ] كَفَرَ، فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ، أَيْ: نَقْتُلُهُ، ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ، فِي الْآخِرَةِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً أَيْ: مُنْكَرًا يَعْنِي بِالنَّارِ، وَالنَّارُ أَنْكَرُ من القتل.
[سورة الكهف (18) : الآيات 88 الى 91]
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ [وَحَفْصٌ] [3] وَيَعْقُوبُ جَزاءً مَنْصُوبًا مُنَوَّنًا أَيْ: فَلَهُ الْحُسْنَى جَزاءً نصب على المصدر، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الْإِضَافَةِ، والحسنى الجنة وإضافة الحسن إِلَيْهَا كَمَا قَالَ: وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ [يُوسُفَ: 109] ، وَالدَّارُ [4] هِيَ الْآخِرَةُ. وقيل:
المراد بالحسنى عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ. أَيْ لَهُ جَزَاءُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً، أَيْ نُلِينُ لَهُ الْقَوْلَ وَنُعَامِلُهُ بِالْيُسْرِ مِنْ أَمْرِنَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُسْرًا أَيْ مَعْرُوفًا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) ، أَيْ سَلَكَ طُرُقًا وَمَنَازِلَ.
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ، أَيْ مَوْضِعَ طُلُوعِهَا، وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً، قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّمْسِ سِتْرٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوُا فِي مَكَانٍ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ بِنَاءٌ، فَكَانُوا يَكُونُونَ فِي أَسْرَابٍ لَهُمْ حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ عَنْهُمْ خَرَجُوا إِلَى مَعَايِشِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانُوا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ يَدْخُلُونَ الْمَاءَ، فَإِذَا ارْتَفَعَتْ عنهم خرجوا فرعوا كَالْبَهَائِمِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمْ قَوْمٌ عُرَاةٌ يَفْتَرِشُ أَحَدُهُمْ إِحْدَى أُذُنَيْهِ ويلتحف بالأخرى.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: كَذلِكَ، قِيلَ: مَعْنَاهُ كَمَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ كَذَلِكَ بَلَغَ مَطْلِعَهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ كَمَا حَكَمَ فِي الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ كَذَلِكَ حَكَمَ فِي الَّذِينَ هُمْ عِنْدَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ، وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً، يَعْنِي: بِمَا عِنْدَهُ وَمَعَهُ مِنَ الْجُنْدِ وَالْعُدَّةِ والآلات «خبرا» أي علما.
[سورة الكهف (18) : الآيات 92 الى 94]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ السَّدَّيْنِ و «سدا» هاهنا بفتح
__________
(1) تصحف في المطبوع «أن» .
(2) في المطبوع «يستدل بها» .
(3) في المطبوع «أبو جعفر يعقوب» .
(4) تصحف في المطبوع «والدار» .(3/213)
السين ووافق حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فِي سَدًّا وَقَرَأَ الباقون بضم السين وفي [سورة] [1] يَس سَدًّا بِالْفَتْحِ حَمْزَةُ [وَالْكِسَائِيُّ] [2] وَحَفْصٌ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالضَّمِّ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ:
مَا كَانَ مِنْ صَنْعَةِ بَنِي آدَمَ فَهُوَ السَّدُّ بِالْفَتْحِ، وَمَا كَانَ مِنْ صُنْعِ اللَّهِ فَهُوَ سُدٌّ بِالضَّمِّ. وَقَالَهُ أَبُو عَمْرٍو.
وَقِيلَ: السَّدُّ بِالْفَتْحِ مَصْدَرٌ وَبِالضَّمِّ اسْمٌ، وَهُمَا هنا جَبَلَانِ سَدَّ ذُو الْقَرْنَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا حَاجِزًا بَيْنَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمَنْ وَرَائَهُمْ. وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً يَعْنِي: أَمَامَ السَّدَّيْنِ. لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَفْقَهُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ القاف على معنى لا يفهمون غَيْرَهُمْ قَوْلًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الياء والقاف، أي لا يفهمون كَلَامَ غَيْرِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا يفهمون كَلَامَ أَحَدٍ وَلَا يَفْهَمُ النَّاسُ كَلَامَهُمْ.
قالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالُوا ذَلِكَ وهم لا يفهمون؟ قيل: تكلم [3] عَنْهُمْ مُتَرْجِمٌ، دَلِيلُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ: «لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا قَالَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِمْ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ» إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، قرأهما عاصم مهموزين، و [قرأ] [4] الآخرون بغير همز، وَهُمَا لُغَتَانِ أَصْلُهُمَا مِنْ أَجِيجِ النار، وهو ضوؤها وَشَرَرُهَا، شُبِّهُوا بِهِ لِكَثْرَتِهِمْ وَشِدَّتِهِمْ، وقيل: بالهمز من أَجِيجِ النَّارِ وَبِتَرْكِ الْهَمْزِ اسْمَانِ أَعْجَمِيَّانِ، مِثْلُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَهُمْ مِنْ أَوْلَادِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ جِيلٌ مِنَ التُّرْكِ. قَالَ السُّدِّيُّ: التُّرْكُ سَرِيَّةٌ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، خَرَجَتْ فَضَرَبَ ذُو الْقَرْنَيْنِ السَّدَّ، فَبَقِيَتْ خَارِجَهُ، فَجَمِيعُ التُّرْكِ مِنْهُمْ. وَعَنْ قَتَادَةَ: أنهم اثنتان وَعِشْرُونَ قَبِيلَةً، بَنَى ذُو الْقَرْنَيْنِ السَّدَّ عَلَى إِحْدَى وَعِشْرِينَ قَبِيلَةً فَبَقِيَتْ قَبِيلَةٌ وَاحِدَةٌ فَهُمُ التُّرْكُ، سُمُّوا التُّرْكَ لِأَنَّهُمْ تُرِكُوا خَارِجِينَ. قَالَ أَهْلُ التَّوَارِيخِ: أَوْلَادُ نُوحٍ ثَلَاثَةٌ سَامٌ وَحَامٌ ويَافِثُ، فَسَامٌ أَبُو الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالرُّومِ، وَحَامٌ أَبُو الْحَبَشَةِ وَالزَّنْجِ وَالنُّوبَةِ، ويَافِثُ أَبُو التُّرْكِ وَالْخُزْرِ وَالصَّقَالِبَةِ، وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: هُمْ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ وولد آدم كلهم جزء.
«1375» م وروي عَنْ حُذَيْفَةَ مَرْفُوعًا: إِنَّ يَأْجُوجَ [أُمَّةٌ] [5] وَمَأْجُوجَ أُمَّةٌ، كُلُّ أُمَّةٍ [أربعمائة] [6] أُمَّةٍ لَا يَمُوتُ الرَّجُلُ مِنْهُمْ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى أَلْفِ ذَكَرٍ مِنْ صُلْبِهِ، كُلُّهُمْ قَدْ حَمَلَ السِّلَاحَ وَهُمْ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، يسيرون إلى خراب الدنيا. قلت [7] : [يا رسول الله صفهم لنا، قال] [8] : «هُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ صِنْفٌ مِنْهُمْ أمثال الأرز شجر
__________
1375- م أخرجه ابن عدي في «الكامل» 6/ 169 والطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» 8/ 6 (12572) من حديث حذيفة وفيه محمد بن إسحاق العكاشي قال ابن عدي: أحاديث كلها مناكير موضوعة وقال الهيثمي: وفيه يحيى بن سعيد القطان وهو ضعيف.
وفي الباب من حديث ابن مسعود عند ابن حبان 6828 بلفظ «إن يأجوج ومأجوج أقل ما يترك أحدهم من الذرية لصلبه ألفا من الذرية وإن من وراءهم أمما ثلاثا.....» وفي إسناده أبو إسحاق السبيعي قد اختلط، وللحديث شواهد أخرى انظر «الكشاف» 651 بتخريجي.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع وط «كلم» .
(4) زيادة عن المخطوط. [.....]
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «أربعة آلاف» والمثبت عن المخطوط وكتب التخريج.
(7) في المطبوع وب- «وقيل» وفي «ط» قيل وفي- أ- «وقال» والمثبت عن كتب التخريج.
(8) زيادة عن كتب التخريج.(3/214)
بِالشَّامِ طُولُهُ عِشْرُونَ وَمِائَةُ ذِرَاعٍ فِي السَّمَاءِ وَصِنْفٌ مِنْهُمْ عَرْضُهُ وَطُولُهُ سَوَاءٌ عِشْرُونَ وَمِائَةُ ذِرَاعٍ في السماء، وَهَؤُلَاءِ لَا يَقُومُ لَهُمْ جَبَلٌ وَلَا حَدِيدٌ، وَصِنْفٌ مِنْهُمْ يَفْتَرِشُ أحدهم أذنه [1] وَيَلْتَحِفُ الْأُخْرَى لَا يَمُرُّونَ بِفِيلٍ وَلَا وَحْشٍ وَلَا خِنْزِيرٍ [2] إِلَّا أَكَلُوهُ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ أَكَلُوهُ، مُقَدَّمَتُهُمْ بِالشَّامِ وَسَاقَتُهُمْ بِخُرَاسَانَ، يَشْرَبُونَ أنهار المشرق [3] وَبُحَيْرَةَ طَبَرِيَّةَ» وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: مِنْهُمْ مَنْ طُولُهُ شِبْرٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مُفْرِطٌ فِي الطُّولِ. وَقَالَ كَعْبٌ: هُمْ نَادِرَةٌ [فِي] [4] وَلَدِ آدَمَ وَذَلِكَ أَنَّ آدَمَ احْتَلَمَ [5] ذَاتَ يَوْمٍ وَامْتَزَجَتْ نُطْفَتُهُ بِالتُّرَابِ، فَخَلَقَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ فَهُمْ يَتَّصِلُونَ بِنَا مِنْ جِهَةِ الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ.
وَذَكَرَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ كَانَ رَجُلًا مِنَ الرُّومِ ابْنَ عَجُوزٍ، فَلَمَّا بَلَغَ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا.
قَالَ اللَّهُ لَهُ: إِنِّي بَاعِثُكَ إِلَى أُمَمٍ مُخْتَلِفَةٍ أَلْسِنَتُهُمْ، مِنْهُمْ أُمَّتَانِ بَيْنَهُمَا طُولُ الْأَرْضِ إِحْدَاهُمَا عِنْدَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ، يُقَالُ لَهَا نَاسِكُ، وَالْأُخْرَى عِنْدَ مَطْلِعِهَا، يُقَالُ لَهَا مَنْسَكُ، وَأُمَّتَانِ بَيْنَهُمَا عَرْضُ الْأَرْضِ إِحْدَاهُمَا فِي الْقُطْرِ الْأَيْمَنِ يُقَالُ لَهَا هَاوِيلُ، وَالْأُخْرَى فِي قُطْرِ الْأَرْضِ الْأَيْسَرِ يُقَالُ لَهَا تَاوِيلُ، وَأُمَمٌ فِي وَسَطِ الْأَرْضِ مِنْهُمُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، فقال ذو القرنين: يا رب بِأَيِّ قُوَّةٍ أُكَابِرُهُمْ وَبِأَيِّ جَمْعٍ أُكَاثِرُهُمْ وَبِأَيِّ لِسَانٍ أُنَاطِقُهُمْ؟ قَالَ الله عزّ وجلّ: إني سأقويك وَأَبْسُطُ لَكَ لِسَانَكَ وَأَشُدُّ عَضُدَكَ فَلَا يَهُولَنَّكَ شَيْءٌ، وَأُلْبِسُكَ الْهَيْبَةَ فَلَا يَرُوعُكَ شَيْءٌ، وَأُسَخِّرُ لَكَ النُّورَ وَالظُّلْمَةَ وَأَجْعَلُهُمَا مِنْ جُنُودِكَ، يَهْدِيكَ النُّورُ مِنْ أَمَامِكَ وتَحُوطُكَ الظُّلْمَةُ مِنْ وَرَائِكَ، فَانْطَلَقَ، حَتَّى أَتَى مَغْرِبَ الشَّمْسِ فَوَجَدَ جَمْعًا وعددا لا يحصبه إِلَّا اللَّهُ.
فَكَابَرَهُمْ بِالظُّلْمَةِ حَتَّى جَمَعَهُمْ فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ، فَعَمَدَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا عَنْهُ فَأَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الظُّلْمَةَ فَدَخَلَتْ فِي أَجْوَافِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ فَدَخَلُوا فِي دَعْوَتِهِ، فَجَنَّدَ مِنْ أَهْلِ الْمَغْرِبِ جُنْدًا عَظِيمًا فَانْطَلَقَ يَقُودُهُمْ وَالظُّلْمَةُ تَسُوقُهُمْ حَتَّى أَتَى هَاوِيلَ [6] فَعَمِلَ فِيهِمْ كَعَمَلِهِ فِي نَاسِكَ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَنْسَكٍ عِنْدَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ، فَعَمِلَ فِيهَا وَجَنَّدَ [مِنْهَا] [7] جُنُودًا كَفِعْلِهِ فِي الْأُمَّتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ نَاحِيَةَ الْأَرْضِ الْيُسْرَى فَأَتَى تَاوِيلَ فَعَمِلَ فِيهَا كَعَمَلِهِ [فِيمَا قَبْلَهَا] [8] ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى الْأُمَمِ الَّتِي فِي وَسَطِ الأرض.
فلما كان [9] مِمَّا يَلِي مُنْقَطَعَ التُّرْكِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ قَالَتْ لَهُ أُمَّةٌ صَالِحَةٌ مِنَ الْإِنْسِ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إن بين
__________
(1) في المخطوط «إحدى أذنيه» والمثبت عن المطبوع وكتب الحديث.
(2) زيد في المطبوع وحده «ولا كلب» .
(3) في المطبوع «المشارق» وفي المخطوط «الشرق» والمثبت عن كتب التخريج.
(4) زيادة عن المخطوط وط.
(5) هذا الخبر من إسرائيليات كعب الأحبار، وهو كعب بن ماتع الحميري اليمني، فقد أظهر إسلامه، إلّا أنه بقي على سرد أخبار الماضين من كتب كانت عنده، والأولى به أن ينكبّ على دراسة القرآن وحديث النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدل ذلك، والله الموفق للصواب.
(6) في المطبوع وحده «هويل» وتكررت هكذا في مواضع.
(7) في المطبوع «فيها» .
(8) سقط من المطبوع.
(9) في المطبوع وط «دنا» والمثبت عن المخطوطتين.(3/215)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
هَذَيْنِ الْجَبَلَيْنِ خَلْقًا أَشْبَاهَ الْبَهَائِمِ يَفْتَرِسُونَ الدَّوَابَّ وَالْوُحُوشَ، لَهُمْ أَنْيَابٌ وَأَضْرَاسٌ كَالسِّبَاعِ، يَأْكُلُونَ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ، وَكُلَّ ذِي رُوحٍ، خُلِقَ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ يَزْدَادُ خَلْقٌ كَزِيَادَتِهِمْ، ولا شك أنهم سيملؤون [1] الأرض ويظهرون عليها [2] وَيُفْسِدُونَ فِيهَا، فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا.
قَالَ مَا مَكَّنِّي فيه ربي خير، [ثم] [3] قال: اعمدوا [4] إِلَيَّ الصُّخُورَ وَالْحَدِيدَ وَالنُّحَاسَ حَتَّى أَعْلَمَ عِلْمَهُمْ، فَانْطَلَقَ حَتَّى تَوَسَّطَ بِلَادَهُمْ فَوَجَدَهُمْ عَلَى مِقْدَارٍ وَاحِدٍ يَبْلُغُ طُولُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ مِثْلَ نِصْفِ الرَّجُلِ الْمَرْبُوعِ مِنَّا، لَهُمْ مَخَالِيبُ كَالْأَظْفَارِ فِي أَيْدِينَا وَأَنْيَابٌ وأضراس كالسباع، ولهم هلب [5] من الشعر في أجسادهم يُوَارِيهِمْ وَيَتَّقُونَ بِهِ مِنَ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أُذُنَانِ عَظِيمَتَانِ يَفْتَرِشُ إِحْدَاهُمَا وَيَلْتَحِفُ بِالْأُخْرَى ويصيف في إحداهما ويشتور فِي الْأُخْرَى، يَتَسَافَدُونَ تَسَافُدَ الْبَهَائِمِ حَيْثُ الْتَقَوْا، فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ ذُو الْقَرْنَيْنِ انْصَرَفَ إِلَى مَا بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ فَقَاسَ مَا بَيْنَهُمَا فَحُفِرَ لَهُ الْأَسَاسُ حَتَّى بَلَغَ الْمَاءَ، وَجَعَلَ حَشْوَهُ الصَّخْرَ وَطِينَهُ النُّحَاسَ، يُذَابُ فَيَصُبُّ عَلَيْهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ عِرْقٌ مِنْ جَبَلٍ تَحْتَ الأرض.
قوله تعالى: مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: فَسَادُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْرُجُونَ أَيَّامَ الربيع إلى [أرض هؤلاء الذين شكوهم إلى ذي القرنين] [6] فَلَا يَدَعُونَ فِيهَا شَيْئًا أَخْضَرَ إلا أكلوه ولا يابسا إلّا احتملوه، وَأَدْخَلُوهُ أَرْضَهُمْ، وَقَدْ لَقُوا مِنْهُمْ أَذًى شَدِيدًا وَقَتْلًا.
وَقِيلَ: فَسَادُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ النَّاسَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ سَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ.
فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «خَرَاجًا» بِالْأَلِفِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ خَرْجاً بِغَيْرِ أَلِفٍ وَهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ جُعْلًا وَأَجْرًا مِنْ أَمْوَالِنَا. قال أبو عمرو: [و] الخرج ما تبرعت به، والخراج مَا لَزِمَكَ أَدَاؤُهُ. وَقِيلَ: الْخَرَاجُ على الأرض والخرج عَلَى الرِّقَابِ. يُقَالُ: أَدِّ خَرْجَ [7] رَأْسِكَ وَخَرَاجَ مَدِينَتِكَ.
عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا، أَيْ حاجزا فلا يصلون إلينا.
[سورة الكهف (18) : الآيات 95 الى 98]
قالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
قالَ، لَهُمْ ذُو الْقَرْنَيْنِ، مَا مَكَّنِّي فِيهِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ مَكَّنَنِي بِنُونَيْنِ ظَاهِرَيْنِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ
__________
(1) في- ب- «سيملكون» . [.....]
(2) في المطبوع «علينا» .
(3) زيادة عن- ب-.
(4) في المطبوع وط «اعدوا» .
(5) أي كثرة من الشعر، وفي المطبوع «هدب» .
(6) ما بين الحاصرتين في المطبوع «أرضهم» وفي المخطوط «الأرض» والمثبت مع الزيادة عن «الوسيط» 3/ 167 وبها يتضح المعنى.
(7) في المخطوط «ذا خرج» .(3/216)
بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ عَلَى الْإِدْغَامِ، أَيْ مَا قَوَّانِي عَلَيْهِ، رَبِّي خَيْرٌ، مِنْ جُعْلِكُمْ، فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ، مَعْنَاهُ إِنِّي لَا أُرِيدُ الْمَالَ بَلْ أَعِينُونِي بِأَبْدَانِكُمْ وَقُوَّتِكُمْ، أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً، أَيْ سَدًّا، قَالُوا: وَمَا تِلْكَ الْقُوَّةُ؟
قَالَ: فَعَلَةٌ وَصُنَّاعٌ يُحْسِنُونَ الْبِنَاءَ وَالْعَمَلَ، وَالْآلَةُ. قَالُوا: وَمَا تِلْكَ الْآلَةُ؟ قال:
آتُونِي، أَعْطُوْنِي وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ ائْتُونِي أَيْ جِيئُونِي، زُبَرَ الْحَدِيدِ، أَيْ: قِطَعَ الْحَدِيدِ، وَاحِدَتُهَا زُبْرَةٌ، فَآتَوْهُ بِهَا وَبِالْحَطَبِ وَجَعَلَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فَلَمْ يَزَلْ يَجْعَلُ الْحَدِيدَ عَلَى الْحَطَبِ وَالْحَطَبَ عَلَى الْحَدِيدِ، حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ بِضَمِّ الصَّادِّ وَالدَّالِّ، وَجَزَمَ أَبُو بَكْرٍ الدال، وقرأ الآخرون بفتحهما [1] ، وَهُمَا الْجَبَلَانِ، سَاوَى أَيْ: سَوَّى بَيْنَ طَرَفَيِ الْجَبَلَيْنِ. قالَ انْفُخُوا.
وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّهُ جَعَلَ الْفَحْمَ وَالْحَطَبَ فِي خِلَالِ زُبَرِ الْحَدِيدِ ثُمَّ قَالَ: انْفُخُوا يَعْنِي فِي النَّارِ، حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا، أَيْ صَارَ الْحَدِيدُ نَارًا، قالَ آتُونِي، قَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَصْلًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ. أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً، أَيْ آتَوْنِي قطرا أفرغ عليه، والإفراغ الصبّ والقطر هُوَ النُّحَاسُ الْمُذَابُ، فَجَعَلَتِ النَّارُ تَأْكُلُ الْحَطَبَ وَيَصِيرُ النُّحَاسُ مَكَانَ الْحَطَبِ حَتَّى لَزِمَ الْحَدِيدُ النُّحَاسَ.
قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ كَالْبُرْدِ الْمُحَبَّرِ [2] طَرِيقَةٌ سَوْدَاءُ وَطَرِيقَةٌ حَمْرَاءُ، وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ عَرْضَهُ كَانَ خَمْسِينَ ذِرَاعًا وَارْتِفَاعَهُ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ وَطُولُهُ فَرْسَخٌ.
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ، أَنْ يَعْلُوهُ مِنْ فَوْقِهِ لِطُولِهِ وَمَلَاسَتِهِ، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً، من أسفله لشدته وصلابته. وَقَرَأَ حَمْزَةُ فَمَا اسْتَطَاعُوا بِتَشْدِيدِ الطَّاءِ أَدْغَمَ تَاءَ الافْتِعَالِ فِي الطَّاءِ.
قالَ، يَعْنِي ذَا الْقَرْنَيْنِ، هذا، السد، رَحْمَةٌ، نِعْمَةٌ، مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي، قِيلَ:
[يَوْمُ] [3] الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: وَقْتُ خُرُوجِهِمْ. جَعَلَهُ دَكَّاءَ، قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ دَكَّاءَ بِالْمَدِّ والهمز، أرضا ملساء، وقرأ الآخرون [دكاء] [4] بِلَا مَدٍّ أَيْ: جَعَلَهُ مَدْكُوكًا مُسْتَوِيًا مَعَ وَجْهِ الْأَرْضِ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا.
«1376» وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ «أَنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَحْفِرُونَهُ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ [5] غَدًا فَيُعِيدُهُ اللَّهُ كَمَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتُهُمْ حَفَرُوا حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ: ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غدا إن شاء الله،
__________
1376- أخرجه ابن ماجه 4199 والحاكم 4/ 448 والواحدي في «الوسيط» 3/ 168 من طريق قتادة عن أبي رافع به.
- وصححه الحاكم على شرطهما، وسكت الذهبي.
- وقال البوصيري: إسناده صحيح، رجاله ثقات.
- وقال ابن كثير في «تفسيره» 3/ 110: إسناده جيد قوي ولكن متنه في رفعه نكارة لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا نقبه، لإحكام بنائه وصلابته، ثم ذكر ابن كثير أحاديث صحيحة مثل «فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ ومأجوج مثل هذا» وهذا متفق عليه، وفيه أن ما فتح من الردم شيء يسير، فهو يخالف ما ذكره المصنف من الحديث، وأنه يظهر لهم شعاع الشمس، والله أعلم، وانظر بقية كلام ابن كثير. عند هذه الآية بتخريجي، وانظر «تفسير الشوكاني» 1530.
(1) في المطبوع «بفتحها» .
(2) في المطبوع «كالبر والبحر» والمثبت عن المخطوطتين، وعبارة البغوي «كالبرد الحبير» 3/ 168.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المخطوط «فتستفتحونه» وعبارة الطبري «فتحفرونه» .(3/217)
وَاسْتَثْنَى فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ، فَيَحْفِرُونَهُ فَيَخْرُجُونَ عَلَى الناس، فيتتبعون الْمِيَاهَ وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ فِي حُصُونِهِمْ مِنْهُمْ فَيَرْمُونَ بِسِهَامِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرْجِعُ فِيهَا كَهَيْئَةِ الدَّمِ فَيَقُولُونَ قَهَرْنَا أَهْلَ الْأَرْضِ وَعَلَوْنَا أَهْلَ السَّمَاءِ فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَغَفًا [1] فِي أَقْفَائِهِمْ فَيَهْلِكُونَ، وَإِنَّ دَوَابَّ الْأَرْضِ لَتَسْمُنُ وَتَشْكَرُ مِنْ لُحُومِهِمْ شَكَرًا» .
«1377» أَخْبَرْنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بن الحجاج ثنا محمد بن مهران الرازي ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ الطَّائِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذلك فينا، قال: «مَا شَأْنُكُمْ» ؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ الله ذكرت الدجال الغداة [2] فَخَفَّضْتَ فِيهِ وَرَفَّعْتَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَقَالَ: «غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفُنِي عَلَيْكُمْ؟ إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَكُلُّ امْرِئٍ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ عَيْنُهُ الْيُمْنَى [3] طَافِيَةٌ كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللَّهِ فَاثْبُتُوا» قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا لَبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قال: «أربعون يوما أول يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ» [قُلْنَا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ أَيَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: لَا اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ] [4] ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: «كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأْتِي عَلَى القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون لَهُ، فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًى وَأَسْبَغَهُ [5] ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، قَالَ: فينصرف عنهم فيصبحون مملحين لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا أَخْرِجِي كُنُوزَكِ فَيَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وجهه يضحك، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ الله المسيح ابن مريم، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ [6] وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ مِثْلُ جُمَانِ اللُّؤْلُؤِ، فَلَا يحل لكافر يجد رِيحِ [7] نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى قَوْمٌ قَدْ عصمهم الله
__________
1377- إسناده صحيح على شرط مسلم.
- وهو في «شرح السنة» 4156 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح مسلم» 2937 عن محمد بن مهران بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 4/ 181- 182 عن الوليد بن مسلم به.
- وأخرجه ابن ماجه 4075 من طريق يحيى بن حمزة عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بن جابر به.
(1) النغف: دود يكون في أنوف الإبل والغنم، والواحدة نغفة. [.....]
(2) في المطبوع «ذات غداة» .
(3) زيد في المطبوع.
(4) سقط من المخطوط.
(5) في المخطوط «وأشبعه» .
(6) تضحف في المطبوع «مهرب ودستين» .
(7) في المطبوع «من ريح نفسه» وفي المخطوط «ريحه» والمثبت عن «شرح السنة» .(3/218)
فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى عِيسَى إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ [1] لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُ [2] : لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، وَيُحْصَرُ نَبِيُّ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ [3] فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتْنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللَّهِ، فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ، فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ فيغسل الأرض، حتى يتركها كالزلقة [4] ، ثم يقال للأرض أنبتي ثمرك [5] ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا وَيُبَارَكُ فِي الرِّسْلِ حَتَّى أَنَّ اللِّقْحَةَ من الإبل لتكفي ألفا مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ وَيَبْقَى شِرَارُ الناس يتهارجون [فيها] [6] تَهَارُجَ الْحُمُرِ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ» .
«1378» وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الحجاج ثنا علي بن حجر السعدي ثنا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ نَحْوَ مَا ذَكَرْنَا وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ:
«لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ ثُمَّ يَسِيرُونَ حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى جَبَلِ الْخَمْرِ [7] وَهُوَ جَبَلُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَيَقُولُونَ لَقَدْ قَتَلْنَا مَنْ فِي الْأَرْضِ هَلُمَّ فَلْنَقْتُلْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، فَيَرْمُونَ بِنُشَّابِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نُشَّابَهُمْ مَخْضُوبَةً دَمًا» .
وَقَالَ وهب: إنهم يَأْتُونَ الْبَحْرَ فَيَشْرَبُونَ مَاءَهُ وَيَأْكُلُونَ دَوَابَّهُ، ثُمَّ يَأْكُلُونَ الْخَشَبَ وَالشَّجَرَ، وَمَنْ ظَفِرُوا بِهِ مِنَ النَّاسِ، وَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَأْتُوا مَكَّةَ وَلَا الْمَدِينَةَ وَلَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ.
«1379» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [8] الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يوسف
__________
1378- إسناده صحيح على شرط مسلم.
- وهو في «شرح السنة» بإثر 4156 بهذا الإسناد.
- وفي «صحيح مُسْلِمٌ» 2937 عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُجْرٍ السعدي به.
1379- إسناده صحيح على شرط البخاري، أحمد هو ابن حفص بن عبد الله بن راشد السلمي، إبراهيم هو ابن طهمان، قتادة هو ابن دعامة.
- وهو في «صحيح البخاري» 1593 عن أحمد بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 3/ 27 و48 و64 وابن خزيمة 2507 والحاكم 4/ 453 من طريق أبا بن يزيد عن قتادة به.
- وأخرجه أبو يعلى 1030 وأحمد 3/ 27- 28 وابن خزيمة 2507 وابن حبان 6832 من طريق عمران القطان عن قتادة به.
(1) تصحف في المطبوع «لا بد» وفي المخطوط «لا يؤذن» .
(2) في المطبوع «فيقولون» .
(3) النغف: دود يكون في أنوف الإبل والغنم، والواحدة نغفة.
(4) في المطبوع «كالزلفة» .
(5) في المطبوع «ثمرتك» .
(6) سقط من المطبوع. [.....]
(7) كذا في المطبوع و «شرح السنة» والخمر هنا: الشجر الملتف الذي يستر من فيه، وقع في المخطوط «الجمر» .
(8) زيادة عن المخطوط.(3/219)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ [1] أَنْبَأَنَا أَبِي أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» .
وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ ذَا الْقَرْنَيْنِ دَخَلَ الظُّلْمَةَ فَلَمَّا رَجَعَ تُوُفِّيَ بِشَهْرَزُورَ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّ عُمْرَهُ كَانَ نيفا وثلاثين سنة.
[سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 102]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102)
قوله تعالى: وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ، قِيلَ: هَذَا عِنْدَ فَتْحِ السَّدِّ، يَقُولُ تَرَكْنَا يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يموج [بعضهم في بعض] [2] أَيْ يَدْخُلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، كَمَوْجِ الْمَاءِ وَيَخْتَلِطُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ لِكَثْرَتِهِمْ، وَقِيلَ: هَذَا عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ يَدْخُلُ الْخَلْقُ بَعْضُهُمْ فِي بعض، ويختلط إنسهم بجنهم [3] حَيَارَى، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ، لِأَنَّ خُرُوجَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِنْ عَلَامَاتِ السَّاعَةِ، فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً، فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ.
وَعَرَضْنا، أَبْرَزْنَا، جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً، حَتَّى يُشَاهِدُوهَا عِيَانًا.
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ، أي غشاء والغطاء ما يغطي [4] الشيء ويستره، عَنْ ذِكْرِي، عَنِ الْإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ. وَعَنِ الْهُدَى وَالْبَيَانِ. وَقِيلَ: عَنْ رُؤْيَةِ الدَّلَائِلِ. وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً، أَيْ سَمْعَ الْقَبُولِ، وَالْإِيمَانِ لِغَلَبَةِ الشَّقَاوَةِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: لَا يَعْقِلُونَ، وَقِيلَ: كانوا لا يستطيعون [سمعا] [5] أَيْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ لِشِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ [لَهُ] [6] ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْمَعَ مِنْ فلان شيئا لعداوته.
أَفَحَسِبَ، أَفَظَنَّ، الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ، أَرْبَابًا يُرِيدُ بِالْعِبَادِ عِيسَى وَالْمَلَائِكَةَ، كَلَّا بَلْ هُمْ لَهُمْ أَعْدَاءٌ ويتبرؤون مِنْهُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الشَّيَاطِينَ أَطَاعُوهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وقال مقاتل: الأصنام سماها عِبَادًا، كَمَا قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ [الْأَعْرَافِ: 194] ، وَجَوَابُ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ محذوف. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ إِنِّي لَأَغْضَبُ لِنَفْسِي، يَقُولُ أَفَظَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا غَيْرِي أَوْلِيَاءَ وَأَنِّي لَا أَغْضَبُ لِنَفْسِي وَلَا أُعَاقِبُهُمْ. وَقِيلَ: أَفَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنْفَعُهُمْ أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ. إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا، أَيْ: مَنْزِلًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ مَثْوَاهُمْ. وَقِيلَ: النُّزُلُ مَا يُهَيَّأُ لِلضَّيْفِ، يُرِيدُ هِيَ مُعَدَّةٌ لهم عندنا كالنزل للضيف.
[سورة الكهف (18) : الآيات 103 الى 105]
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105)
__________
(1) زيد في المخطوط «بن رجا» وانظر الكلام على ترجمة الإسناد في تخريج الحديث.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع وط «إنسيهم وجنيهم» .
(4) زيد في المطبوع وط «به» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.(3/220)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (103) ، يعني الذين أتبعوا أَنْفُسَهُمْ فِي عَمَلٍ يَرْجُونَ بِهِ فَضْلًا وَنَوَالًا فَنَالُوا هَلَاكًا وَبَوَارًا، كمن يشتري سلعة يرجو بها [1] [نوالا و] [2] رِبْحًا فَخَسِرَ وَخَابَ سَعْيُهُ. وَاخْتَلَفُوا فيهم، فقال ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقِيلَ: هُمُ الرُّهْبَانُ.
الَّذِينَ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ فِي الصَّوَامِعِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هُمْ أَهْلُ حَرُورَاءَ [3] . ضَلَّ سَعْيُهُمْ، بَطَلَ عَمَلُهُمْ وَاجْتِهَادُهُمْ، فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، أَيْ: عَمَلًا.
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ، بَطَلَتْ، أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً، أَيْ لَا نَجْعَلُ لَهُمْ خَطَرًا وَقَدْرًا، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَا لِفُلَانٍ عندنا [4] وَزْنٌ أَيْ قَدْرٌ لِخِسَّتِهِ.
«1380» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [5] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النعيمي أنا أَحْمَدُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ عن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا مُحَمَّدُ بن عبد الله ثنا سعيد بن [أبي] [6] مريم أنبأنا المغيرة [حدثني أَبُو] [7] الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: « [إنه] [8] لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جناح بعوضة» ، وقال: [اقرؤوا] [9] فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: يَأْتِي أُنَاسٌ بِأَعْمَالٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هِيَ عِنْدَهُمْ [10] فِي الْعِظَمِ كَجِبَالِ تِهَامَةَ، فَإِذَا وَزَنُوهَا لَمْ تَزِنْ شَيْئًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً.
[سورة الكهف (18) : الآيات 106 الى 110]
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)
ذلِكَ الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ حُبُوطِ أَعْمَالِهِمْ وَخِسَّةِ أَقْدَارِهِمْ [11] ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي، يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَرُسُلِي هُزُواً، أَيْ: سُخْرِيَةً وَمَهْزُوءًا بِهِمْ.
__________
1380- إسناده صحيح على شرط البخاري، محمد بن عبد الله هو محمد بن يحيى بن عبد الله الذهلي، أبو مريم والد سعيد هو الحكم بن محمد، المغيرة، هو ابن عبد الرحمن أبو الزِّنَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، الأعرج عبد الرحمن بن هرمز.
- وهو في «شرح السنة» 4222 بهذا الإسناد.
- وفي «صحيح البخاري» 4729 عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 2785 والواحدي في «الوسيط» 3/ 170 من طريق المغيرة به.
- وأخرجه البيهقي في «الشعب» 5670 والواحدي 3/ 170 من وجه آخر عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التَّوْأَمَةِ عَنِ أبي هريرة مرفوعا.
(1) في المطبوع «عليها» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) تصحف في المخطوط «حوراء» .
(4) في المطبوع وط «عندي» .
(5) زيادة عن المخطوط. [.....]
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المطبوع وط «عن أبي» .
(8) زيادة عن المخطوط وكتب التخريج.
(9) زيادة عن المخطوط وكتب التخريج.
(10) في المخطوط «عندكم» .
(11) في المخطوط «قدرهم» .(3/221)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ.
«1381» رُوِّينَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تفجر أنهار الجنة» .
[و] قَالَ كَعْبٌ: لَيْسَ فِي الْجِنَانِ جَنَّةٌ أَعْلَى مِنْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ فِيهَا الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الجنة وأوسطها أفضلها [1] وَأَرْفَعُهَا. قَالَ كَعْبٌ: الْفِرْدَوْسُ هُوَ الْبُسْتَانُ الَّذِي فِيهِ الْأَعْنَابُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْبُسْتَانُ بِالرُّومِيَّةِ. وَقَالَ عكرمة: هي الجنة بلسان الحبشة. وقال الزَّجَّاجُ: هُوَ بِالرُّومِيَّةِ مَنْقُولٌ إِلَى لَفْظِ الْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ الْجَنَّةُ الْمُلْتَفَّةُ الْأَشْجَارِ. وَقِيلَ: هِيَ الرَّوْضَةُ الْمُسْتَحْسَنَةُ. وَقِيلَ: هِيَ الَّتِي تُنْبِتُ ضُرُوبًا مِنَ النَّبَاتِ، وَجَمْعُهُ فراديس، نُزُلًا، أَيْ مَنْزِلًا.
وَقِيلَ: مَا يُهَيَّأُ لِلنَّازِلِ عَلَى مَعْنَى كَانَتْ لَهُمْ ثِمَارُ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ وَنَعِيمُهَا نُزُلًا، وَمَعْنَى كَانَتْ لَهُمْ أَيْ فِي عِلْمِ اللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقُوا.
خالِدِينَ فِيها لَا يَبْغُونَ، لَا يَطْلُبُونَ، عَنْها حِوَلًا، أَيْ تَحَوُّلًا [2] إِلَى غَيْرِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْهَا كَمَا يَنْتَقِلُ الرَّجُلُ مِنْ دَارٍ إِذَا [لَمْ] تُوَافِقْهُ إِلَى دَارٍ أخرى.
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَتِ الْيَهُودُ يَا مُحَمَّدُ تَزْعُمُ أَنَّا قَدْ أُوتِينَا الْحِكْمَةَ، وَفِي كِتَابِكَ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، ثُمَّ تَقُولُ: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقِيلَ: لَمَّا نَزَلَتْ: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الْإِسْرَاءِ: 85] ، قَالَتِ الْيَهُودُ: أُوتِينَا التَّوْرَاةَ وَفِيهَا عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً سُمِّيَ الْمِدَادُ مِدَادًا لِإِمْدَادِ الْكَاتِبِ، وَأَصْلُهُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَمَجِيءُ الشَّيْءِ بَعْدَ الشَّيْءِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِلْقَلَمِ وَالْقَلَمُ يَكْتُبُ، لَنَفِدَ الْبَحْرُ، أَيْ مَاؤُهُ، قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَنْفَدُ بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ، والباقون بالتاء، لِكَلِماتِ رَبِّي، أَيْ عِلْمُهُ وَحُكْمُهُ، وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً، مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ الْخَلَائِقُ يَكْتُبُونَ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُمْ لنفد [ماء] [3] البحر ولم تنفد كلمات الله، ولو جئنا بمثله [أي] [4] البحر في كثرته مدادا وزيادة، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ [لقمان: 27] .
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَّمَ اللَّهُ رَسُولَهُ التَّوَاضُعَ لِئَلَّا يَزْهُوَ عَلَى خَلْقِهِ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُقِرَّ فَيَقُولَ: «إِنِّي آدَمِيٌّ مِثْلُكُمْ إِلَّا أَنِّي خُصِّصْتُ بِالْوَحْيِ وَأَكْرَمَنِي اللَّهُ بِهِ، يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ» ، فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ، أَيْ يَخَافُ الْمَصِيرَ إِلَيْهِ. وَقِيلَ: يَأْمُلُ رُؤْيَةَ رَبِّهِ، فَالرَّجَاءُ يَكُونُ بِمَعْنَى الْخَوْفِ وَالْأَمَلِ جميعا، قال الشاعر:
__________
1381- تقدم في تفسير سورة النساء عند آية: 96.
(1) في المطبوع «أقصاها» .
(2) في المخطوط «تحويلا» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «مدادا بمثل ماء» .(3/222)
فلا كُلُّ مَا تَرْجُو مِنَ الْخَيْرِ كَائِنٌ ... وَلَا كُلُّ مَا تَرْجُو مِنَ الشَّرِّ وَاقِعُ
فَجَمَعَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً، أَيْ: لَا يُرَائِي بِعَمَلِهِ.
«1382» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أنا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ [أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بن إسماعيل] [1] أنبأنا أَبُو نُعَيْمٍ أَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ هُوَ ابْنُ كُهَيْلٍ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدُبًا يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِي يُرَائِي اللَّهُ بِهِ» .
«1383» وَرُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكَ الْأَصْغَرَ» ، قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ: «الرِّيَاءُ» .
«1384» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ موسى الصيرفي ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يعقوب الأصم ثنا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عبد الحكم ثنا أبي وشعيب قالا [2] : ثنا الليث عن ابن الهاد
__________
1382- إسناده على شرط البخاري ومسلم، أبو نعيم هو الفضل بن دكين، سفيان هو ابن سعيد الثوري، جندب هو ابن عبد الله البجلي.
- وهو في «شرح السنة» 4029 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 6499 عن أبي نعيم بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 6499 ومسلم 2987 وأحمد 4/ 313 وابن ماجه 4207 وابن حبان 406 من طرق عن سفيان الثوري به.
- وأخرجه مسلم 2987 والحميدي 778 من طريق سفيان عن الوليد بن حرب على سلمة به.
- وأخرجه البخاري 7152 من وجه آخر عن طريق أبي تميمة عن جندب عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يوم القيامة، ومن شاق شقّ الله عليه يوم القيامة» .
- وللحديث شواهد منها:
- حديث ابن عباس أخرجه مسلم 2986 وابن حبان 407 وأبو نعيم في «الحلية» 4/ 301.
- وحديث أبي بكرة أخرجه أحمد 5/ 45.
- وحديث أبي سعيد الخدري أخرجه الترمذي 2381.
- وحديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العاص أخرجه أحمد 2/ 162 و195 و224 وأبو نعيم في «الحلية» 4/ 123 و124 و5/ 99 والمصنف في «شرح السنة» 4033.
1383- تقدم في تفسير سورة البقرة عند آية 264 وسورة هود عند آية: 16.
1384- إسناده صحيح، عبد الله بن عبد الحكم ثقة، وتابعه شعيب وهو من رجال مسلم، ومن فوقهما رجال البخاري ومسلم سوى عمرو، فإن كان ابن أبي عمرو، فهو من رجال البخاري وإن كان ابن شعيب فهو ثقة، شعيب هو ابن الليث بن سعد، ابن الهاد هو يزيد بن عبد الله.
- وهو في «شرح السنة» 4031 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 2985 وابن ماجه 4202 وأحمد 2/ 301 و435 والطيالسي 2559 وأبو يعلى 6552 وابن حبان 395 والواحدي 3/ 172 من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة.
- وله شاهد من حديث شداد بن أوس أخرجه الطيالسي 1120.
- ومن حديث أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري أخرجه الترمذي 3154 وابن ماجه 4203 والواحدي 3/ 173 وأحمد 3/ 466 و4/ 215 وابن حبان 404 وإسناده حسن. [.....]
(1) سقط من المطبوع.
(2) في المطبوع «قال» .(3/223)
عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سمعت رسول الله يقول: «إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غيري فأنا منه بريء وهو لِلَّذِي عَمِلَهُ» .
«1385» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ ثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ ثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ ثنا حفص بن عمر ثنا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ [أَبِي] [1] الْجَعْدِ الغَطَفَانِيُّ عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ يَرْوِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ» .
«1386» وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [2] الْمَلِيحِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ ثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ [مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ] [3] الرَّيَّانِيُّ ثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ ثَنَا أَبُو الْأَسْوَدِ ثَنَا ابن لهيعة عن زبّان]
عَنْ سَهْلٍ هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ قَرَأَ أَوَّلَ سُورَةِ الْكَهْفِ وَآخِرَهَا كانت له نورا من قرنه إلى قدمه [5] ، وَمَنْ قَرَأَهَا كُلَّهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ» [والله أعلم] [6] .
__________
1385- صحيح، حميد بن زنجويه ثقة، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم سوى معدان بن أبي طلحة، فإنه من رجال مسلم.
- همام هو ابن يحيى، قتادة هو ابن دعامة، أبو الدرداء اسمه عويمر قيل: ابن زيد.
- وهو في «شرح السنة» 1197 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم بإثر 809 النسائي في «الكبرى» 10787 وابن الضريس في «فضائل القرآن» 209 والواحدي في «الوسيط» 3/ 134 من طرق عن همام به.
- وأخرجه مسلم 809 وأبو داود 4323 والنسائي في «عمل اليوم والليلة» 951 وأحمد 5/ 196 و6/ 449 وابن حبان 785 من طرق عن قتادة به.
1386- إسناده ضعيف. ابن لهيعة وزبّان وسهل بن معاذ ثلاثتهم ضعفاء، وتوبع ابن لهيعة عند الطبراني، تابعه رشدين لكنه متروك، فلا يفرح بمتابعته، لكن في الباب أحاديث، أبو الأسود هو النضر بن عبد الجبار.
- ابن لهيعة هو عبد الله، زبّان هو ابن فائد.
- وهو في «شرح السنة» 1189 بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 4/ 439 من طريق ابن لهيعة، والطبراني 20/ (443) من طريق رشدين كلاهما عن زبّان بن فائد به.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 52 وقال: وفي إسناد أحمد: ابن لهيعة، وهو ضعيف، وقد يحسن حديثه. قلت:
ليس الراوي عنه أحد العبادلة، ثم إن شيخه ضعيف وكذا شيخ شيخه.
- وله شاهد من حديث أبي سعيد «من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين» أخرجه الحاكم 1/ 564 والبيهقي في «الشعب» 2446، ورجاله ثقات.
- وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ورجح البيهقي الوقف، وانظر «الكشاف» 656 و «فتح القدير» 1483 و1484 بتخريجي، وانظر «صحيح الجامع» 6470.
(1) سقط من المطبوع.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) تصحف في المطبوع «زياد» .
(5) في المطبوع وط «من قدميه إلى رأسه» .
(6) زيادة عن المخطوط.(3/224)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
تفسير سُورَةِ مَرْيَمَ
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ ثَمَانٍ وتسعون آية
[سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: كهيعص (1) ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ وَضِدُّهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وبكسر هما الْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهِمَا، وَيُظْهِرُ الدَّالَ عِنْدَ الذَّالِ [1]
مِنْ «صَادْ ذِكْرُ» ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ وَالْبَاقُونَ بِالْإِدْغَامِ.
قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِلسُّورَةِ. وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ الله به. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: كهيعص (1) قَالَ: الْكَافُ مِنْ كِرِيمٍ وكبير، وَالْهَاءُ مِنْ هَادِي، وَالْيَاءُ مِنْ رَحِيمٍ، وَالْعَيْنُ مِنْ عَلِيمٍ، وَعَظِيمٍ، والصاد من صادق. قال الْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ كَافٍ لِخَلْقِهِ، هَادٍ لِعِبَادِهِ، يَدُهُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، عَالِمٌ بِبَرِّيَّتِهِ، صَادَقٌ فِي وَعْدِهِ.
ذِكْرُ، رُفِعَ بِالْمُضْمَرِ أَيْ هَذَا الَّذِي نتلوه عليك ذكر رَحْمَتِ رَبِّكَ، وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَعْنَاهُ:
ذِكْرُ رَبِّكَ، عَبْدَهُ زَكَرِيَّا، بِرَحْمَتِهِ.
إِذْ نَادَى، دَعَا، رَبَّهُ، فِي مِحْرَابِهِ، نِداءً خَفِيًّا، دَعَا سِرًّا مِنْ قَوْمِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ.
قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ، ضَعُفَ وَرَقَّ، الْعَظْمُ مِنِّي، مِنَ الْكِبَرِ. قَالَ قَتَادَةُ: اشْتَكَى سُقُوطَ الْأَضْرَاسِ، وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ، أَيْ ابْيَضَّ شَعْرُ الرَّأْسِ، شَيْباً، شَمْطًا، وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا، يَقُولُ عَوَّدْتَنِي الْإِجَابَةَ فِيمَا مَضَى وَلَمْ تُخَيِّبْنِي. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَمَّا دَعَوْتَنِي إِلَى الْإِيمَانِ آمَنْتُ وَلَمْ أَشْقَ بِتَرْكِ الإيمان.
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ، والموالي: بنو العم. [و] [2] قَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَصَبَةُ. وَقَالَ أَبُو صالح: الكلالة.
__________
(1) تصحف في المطبوع «الدال» .
(2) سقط من المطبوع.(3/225)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْوَرَثَةُ. مِنْ وَرائِي مِنْ بَعْدِ مَوْتِي، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: مِنْ وَرائِي بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْآخَرُونَ بِإِسْكَانِهَا. وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً، لَا تَلِدُ، فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ، أَعْطِنِي مِنْ عِنْدِكَ، وَلِيًّا.
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِجَزْمِ الثَّاءِ فِيهِمَا عَلَى جَوَابِ الدُّعَاءِ، وقرأ الباقون [1] بالرفع على الحال والصفة، يعني وَلِيًّا وَارِثًا، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الإرث، قال الحسن: معناه يرث مَالِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ النُّبُوَّةَ والْحُبُورَةَ. وَقِيلَ: أَرَادَ مِيرَاثَ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ. وَقِيلَ: أَرَادَ إِرْثَ الْحُبُورَةِ، لِأَنَّ زَكَرِيَّا كَانَ رَأْسَ الأحبار. وقال الزَّجَّاجُ: وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مِيرَاثِ غَيْرِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُشْفِقَ زَكَرِيَّا وَهُوَ نَبِيٌّ من الأنبياء أن يرث [2] بَنُو عَمِّهِ مَالَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ خَافَ تَضْيِيعَ بَنِي عَمِّهِ دِينَ اللَّهِ وَتَغْيِيرَ أَحْكَامِهِ عَلَى مَا كان يشاهده مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ تَبْدِيلِ الدِّينِ وَقَتْلِ الْأَنْبِيَاءِ، فَسَأَلَ رَبَّهُ ولدا صَالِحًا يَأْمَنُهُ عَلَى أُمَّتِهِ، وَيَرِثُ نُبُوَّتَهُ وَعِلْمَهُ [3] لِئَلَّا يَضِيعَ الدِّينُ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا، أَيْ بَرًّا تقيا مرضيا.
[سورة مريم (19) : الآيات 7 الى 10]
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ، وَفِيهِ اخْتِصَارٌ، مَعْنَاهُ فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، فَقَالَ: يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ، بِغُلامٍ، بِوَلَدٍ ذَكَرٍ، اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا، قَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: لَمْ يُسَمَّ أَحَدٌ قَبْلَهُ يَحْيَى.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ شَبَهًا وَمِثْلًا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم: 65] ، أَيْ مِثْلًا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْصِ وَلَمْ يَهُمَّ بِمَعْصِيَةٍ قَطُّ. وقيل: لم يكن له ميل فِي أَمْرِ النِّسَاءِ، لِأَنَّهُ كَانَ سَيِّدًا وَحَصُورًا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَيْ لَمْ تَلِدِ الْعَوَاقِرُ مِثْلَهُ وَلَدًا. وَقِيلَ: لَمْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ [4] اجْتِمَاعَ الْفَضَائِلِ كُلِّهَا لِيَحْيَى إِنَّمَا أَرَادَ بَعْضَهَا لِأَنَّ الْخَلِيلَ وَالْكَلِيمَ كَانَا قَبْلَهُ وَهُمَا أَفْضَلُ مِنْهُ.
قالَ رَبِّ أَنَّى، مِنْ أَيْنَ، يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، أي يبسا، وقال قَتَادَةُ: يُرِيدُ نُحُولَ الْعَظْمِ، يُقَالُ: عتا الشيخ يعتو عتيا وعتيا [5] ، إِذَا انْتَهَى سِنَّهُ وَكَبِرَ، وَشَيْخٌ عَاتٍ وَعَاسٍ إِذَا صَارَ إِلَى حَالَةِ الْيَبَسِ وَالْجَفَافِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: «عِتِيًّا وَبِكِيًّا وَصِلِيًّا وَجِثِيًّا» بِكَسْرِ أَوَائِلِهِنَّ، وَالْبَاقُونَ بِرَفْعِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ.
قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، يَسِيرٌ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ خَلَقْنَاكَ بِالنُّونِ وَالْأَلِفِ عَلَى التَّعْظِيمِ، مِنْ قَبْلُ، أَيْ مِنْ قَبْلِ يَحْيَى، وَلَمْ تَكُ شَيْئاً.
__________
(1) في المطبوع «الآخرون» .
(2) في النسخ والمخطوط «يرثه» والمثبت يناسب السياق. [.....]
(3) في المطبوع «وعمله» .
(4) في المخطوط «قيه» .
(5) في المطبوع «عسيا» .(3/226)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً، دَلَالَةً عَلَى حَمْلِ امْرَأَتِي، قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا، أَيْ صَحِيحًا سَلِيمًا مِنْ غَيْرِ مَا بَأْسٍ وَلَا خَرَسٍ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ لَا يَمْنَعُكَ مِنَ الْكَلَامِ مَرَضٌ. وَقِيلَ: ثلاث ليال سويّا أي متتابعا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ فِيهَا أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَ النَّاسِ فَإِذَا أَرَادَ ذِكْرَ الله تعالى انطلق لسانه.
[سورة مريم (19) : الآيات 11 الى 17]
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17)
قوله تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ، وَكَانَ النَّاسُ مِنْ وَرَاءِ الْمِحْرَابِ يَنْتَظِرُونَهُ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمُ الْبَابَ فَيَدْخُلُونَ وَيُصَلُّونَ إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ زكريا متغيرا لونه فأنكروه، فقالوا: مَا لَكَ يَا زَكَرِيَّا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ قَالَ مُجَاهِدٌ: كَتَبَ لَهُمْ [فِي] [1] الْأَرْضِ، أَنْ سَبِّحُوا، أَيْ صَلُّوا لِلَّهِ، بُكْرَةً، غُدْوَةً، وَعَشِيًّا معناه أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ عَلَى قَوْمِهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا فَيَأْمُرُهُمْ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ حَمْلِ امْرَأَتِهِ وَمَنَعَ الكلام خَرَجَ إِلَيْهِمْ فَأَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ إِشَارَةً.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا يَحْيى، قيل: فيه حذف [و] [2] معناه: [و] [3] وهبنا لَهُ يَحْيَى وَقُلْنَا لَهُ يَا يَحْيَى، خُذِ الْكِتابَ، يَعْنِي التَّوْرَاةَ، بِقُوَّةٍ، بِجَدٍّ، وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: النُّبُوَّةَ، صَبِيًّا، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثِ سِنِينَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْحُكْمِ فَهْمَ الْكِتَابِ، فَقَرَأَ التَّوْرَاةَ وَهُوَ صَغِيرٌ. وعن بعض السلف قال: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ فَهُوَ مِمَّنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ صَبِيًّا.
وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا، رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا.
قَالَ الْحُطَيْئَةُ لِعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، شعر:
تَحَنَّنْ عَلَيَّ هَدَاكَ المَلِيكُ ... فَإِنَّ لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالًا
أَيْ: تَرَحَّمْ. وَزَكاةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي بِالزَّكَاةِ الطَّاعَةَ وَالْإِخْلَاصَ. وَقَالَ قَتَادَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هِيَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمَعْنَى الْآيَةِ وَآتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَتَحَنُّنًا عَلَى الْعِبَادِ، لِيَدْعُوَهُمْ إِلَى طَاعَةِ رَبِّهِمْ وَيَعْمَلَ عَمَلًا صَالِحًا فِي إِخْلَاصٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي صَدَقَةً تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَى أَبَوَيْهِ، وَكانَ تَقِيًّا، مُسْلِمًا وَمُخْلِصًا مُطِيعًا، وَكَانَ مِنْ تَقْوَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً وَلَا هَمَّ بِهَا.
وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ
، أَيْ بَارًّا لَطِيفًا بِهِمَا مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا. وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا
، الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ، وَقِيلَ:
الْجَبَّارُ الَّذِي يضرب، ويقتل على الغضب، والعصي الْعَاصِي.
وَسَلامٌ عَلَيْهِ
، أَيْ: سَلَامَةٌ [4] لَهُ، يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
، قَالَ سُفْيَانُ بن عيينة:
__________
(1) سقط من المطبوع.
(2) زيادة عن المخطوط وط.
(3) زيادة عن المخطوط وط.
(4) في المطبوع «سلام» .(3/227)
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
أَوْحَشُ مَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ فِي هذه الأحوال يوم يولد [1] فَيَخْرُجُ مِمَّا كَانَ فِيهِ، وَيَوْمَ يَمُوتُ فَيَرَى قَوْمًا لَمْ يَكُنْ عاينهم، ويوم يبعث حيا فَيَرَى نَفْسَهُ فِي مَحْشَرٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهُ، فَخَصَّ يَحْيَى بِالسَّلَامَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ
، فِي الْقُرْآنِ، مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ
، تَنَحَّتْ وَاعْتَزَلَتْ، مِنْ أَهْلِها
، مِنْ قَوْمِهَا، مَكاناً شَرْقِيًّا
، أَيْ مَكَانًا فِي الدَّارِ مِمَّا يَلِي الْمَشْرِقَ، وَكَانَ يَوْمًا شَاتِيًا شَدِيدَ الْبَرْدِ فَجَلَسَتْ فِي مَشْرُقَةٍ تَفْلِي رَأْسَهَا. وَقِيلَ: كانت طهرت من الحيض، فَذَهَبَتْ لِتَغْتَسِلَ [2] . قَالَ الْحَسَنُ: وَمِنْ ثم اتخذ النصارى المشرق قبلة.
فَاتَّخَذَتْ
، فَضَرَبَتْ، مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً
، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سِتْرًا. وَقِيلَ:
جَلَسَتْ وَرَاءَ جِدَارٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَرَاءَ جَبَلٍ.
قال عِكْرِمَةُ: إِنَّ مَرْيَمَ كَانَتْ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا حَاضَتْ تَحَوَّلَتْ إِلَى بَيْتِ خَالَتِهَا حَتَّى إِذَا طَهُرَتْ عَادَتْ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَبَيْنَمَا هي تغتسل من الحيض قد تجردت [عن ثيابها] إِذْ عَرَضَ لَهَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ شَابٍّ أَمْرَدَ وَضِيءَ الْوَجْهِ جَعْدَ الشَّعْرِ سَوِيَّ الْخَلْقِ، فَذَلِكَ قوله: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
[يعني جبريل عليه السلام] [3] ، وقيل: المراد بالروح عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، جَاءَ فِي صُورَةِ بَشَرٍ فَحَمَلَتْ بِهِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فَلَمَّا رَأَتْ مَرْيَمُ جِبْرِيلَ يَقْصِدُ نَحْوَهَا نَادَتْهُ مِنْ بَعِيدٍ:
[سورة مريم (19) : الآيات 18 الى 22]
قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22)
وقالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
(18) ، مُؤْمِنًا مُطِيعًا، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا يُسْتَعَاذُ مِنَ الْفَاجِرِ، فَكَيْفَ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا؟ قِيلَ: هَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَلَا تَظْلِمْنِي أَيْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِيمَانُكَ مَانِعًا مِنَ الظُّلْمِ، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا مَعْنَاهُ: وَيَنْبَغِي أن يكون تَقْوَاكَ مَانِعًا لَكَ مِنَ الْفُجُورِ.
قالَ
، لَهَا جِبْرِيلُ، إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ
، قَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ: لِيَهَبَ لَكِ أَيْ لِيَهَبَ لَكِ رَبُّكِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: لِأَهَبَ لَكِ
أَسْنَدَ الْفِعْلَ إِلَى الرَّسُولِ، وَإِنْ كَانَتِ الْهِبَةُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهُ أَرْسَلَ بِهِ، غُلاماً زَكِيًّا
، وَلَدًا صَالِحًا طَاهِرًا مِنَ الذُّنُوبِ.
قالَتْ، مَرْيَمُ، أَنَّى، مِنْ أَيْنَ، يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ، لَمْ يَقْرَبْنِي زَوْجٌ، وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا، فاجرة، تريد أن الولد إنما يَكُونُ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ سِفَاحٍ، وَلَمْ يَكُنْ هُنَا وَاحِدٌ مِنْهُمَا.
قالَ، جِبْرِيلُ، كَذلِكِ، قِيلَ مَعْنَاهُ كَمَا قُلْتِ يَا مَرْيَمُ وَلَكِنْ، قالَ رَبُّكِ، وَقِيلَ هَكَذَا قَالَ رَبُّكِ، هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، أَيْ: خَلْقُ وَلَدٍ بِلَا أَبٍ، وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً، علامة، لِلنَّاسِ، [و] دلالة عَلَى قُدْرَتِنَا، وَرَحْمَةً مِنَّا، وَنِعْمَةً لِمَنْ تَبِعَهُ عَلَى دِينِهِ، وَكانَ ذَلِكَ، أَمْراً مَقْضِيًّا، مَحْكُومًا مَفْرُوغًا منه [4] لا يرد ولا يبدل.
__________
(1) في المطبوع «ولد» .
(2) تصحف في المطبوع «لتغسل» .
(3) وقعت العبارة في المطبوع قبل لفظ «فتمثل» .
(4) في المطبوع «عنه» .(3/228)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَحَمَلَتْهُ، قِيلَ: إن جبريل رفع عنها درعها فنفخ في جيبها فحملت حين لبسته [1] . وَقِيلَ: مَدَّ جَيْبَ دِرْعَهَا بِأُصْبُعِهِ ثُمَّ نَفَخَ فِي الْجَيْبِ. وَقِيلَ: نَفَخَ فِي كُمِّ قَمِيصِهَا. وَقِيلَ: فِي فِيهَا. وَقِيلَ: نَفَخَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَفْخًا مِنْ بَعِيدٍ فَوَصَلَ الرِّيحُ إِلَيْهَا فَحَمَلَتْ بِعِيسَى فِي الْحَالِ، فَانْتَبَذَتْ بِهِ، أَيْ: [فلما حملته انتبذت به] [2] تَنَحَّتْ بِالْحَمْلِ، وَانْفَرَدَتْ، مَكاناً قَصِيًّا، أي بَعِيدًا مِنْ أَهْلِهَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَقْصَى الْوَادِي، وَهُوَ وَادِي بَيْتِ لَحْمٍ، فِرَارًا مَنْ قَوْمِهَا أَنْ يُعَيِّرُوهَا بِوِلَادَتِهَا مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ حَمْلِهَا وَوَقْتِ وَضْعِهَا.
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ الْحَمْلُ وَالْوِلَادَةُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ. وَقِيلَ: كَانَ مُدَّةُ حَمْلِهَا تِسْعَةَ أَشْهُرٍ كَحَمْلِ سَائِرِ النِّسَاءِ. وَقِيلَ: كَانَ مُدَّةُ [حَمْلِهَا] [3] ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ آيَةً أُخْرَى لِأَنَّهُ لَا يَعِيشُ وَلَدٌ يُولَدُ لِثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ، وَوُلِدَ عِيسَى لِهَذِهِ الْمُدَّةِ وَعَاشَ. وَقِيلَ: وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَمَلَتْهُ مَرْيَمُ فِي سَاعَةٍ وَصُوِّرَ فِي سَاعَةٍ وَوَضَعَتْهُ فِي سَاعَةٍ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِهَا، وَهِيَ بِنْتُ عَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَتْ قَدْ حَاضَتْ حَيْضَتَيْنِ قَبْلَ أن تحمل بعيسى.
[سورة مريم (19) : الآيات 23 الى 28]
فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27)
يَا أُخْتَ هارُونَ مَا كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
فَأَجاءَهَا، أَيْ أَلْجَأَهَا وَجَاءَ بِهَا، الْمَخاضُ، وَهُوَ وَجَعُ الْوِلَادَةِ، إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ وَكَانَتْ نَخْلَةً يَابِسَةً فِي الصَّحْرَاءِ، فِي شِدَّةِ الشِّتَاءِ، لَمْ يَكُنْ لَهَا سَعَفٌ.
وَقِيلَ: الْتَجَأَتْ إِلَيْهَا لِتَسْتَنِدَ إِلَيْهَا وَتَتَمَسَّكَ بِهَا عَلَى وَجَعِ الْوِلَادَةِ، قالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا، تَمَنَّتِ الْمَوْتَ اسْتِحْيَاءً مِنَ النَّاسِ وَخَوْفَ الْفَضِيحَةِ، وَكُنْتُ نَسْياً، قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ نَسْياً بِفَتْحِ النُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، مِثْلَ الْوَتْرِ وَالْوِتْرِ وَالْجِسْرِ وَالْجَسْرِ، وَهُوَ الشيء المنسي، والنسي فِي اللُّغَةِ كُلُّ مَا أُلْقِيَ وَنُسِيَ وَلَمْ يُذْكَرْ لِحَقَارَتِهِ، مَنْسِيًّا، أَيْ: مَتْرُوكًا، قَالَ قَتَادَةُ: شَيْءٌ لَا يُعْرَفُ وَلَا يُذْكَرُ.
قَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ: جِيفَةٌ مُلْقَاةٌ. وقيل: يعني لَمْ أُخْلَقْ.
فَناداها مِنْ تَحْتِها، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ مِنْ تَحْتِها بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالتَّاءِ يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ مَرْيَمُ عَلَى أَكَمَةٍ وَجِبْرِيلُ وَرَاءَ الْأَكَمَةِ تَحْتَهَا فَنَادَاهَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالتَّاءِ وَأَرَادَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا نَادَاهَا مِنْ سَفْحِ الْجَبَلِ.
وَقِيلَ: هُوَ عِيسَى لَمَّا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ نَادَاهَا، أَلَّا تَحْزَنِي، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ، وَالْأَوَّلُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنهما، والسدي وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَجَمَاعَةٍ أَنَّ الْمُنَادِيَ كَانَ جِبْرِيلَ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَهَا وَعَرَفَ جَزَعَهَا نَادَاهَا أَلَّا تَحْزَنِي، قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا، والسري: النهر الصغير.
__________
(1) في المطبوع وط «لبست» .
(2) العبارة في المطبوع «أي تنحت بالحمل فلما حملته انتبذت به أي وانفردت» .
(3) زيادة عن المخطوط. [.....](3/229)
وَقِيلَ: تَحْتَكَ أَيْ جَعَلَهُ اللَّهُ تَحْتَ أَمْرِكِ إِنْ أَمَرْتِيهِ أَنْ يَجْرِيَ جَرَى وَإِنْ أَمَرْتِيهِ بِالْإِمْسَاكِ أَمْسَكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله تعالى عَنْهُمَا: ضَرَبَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَيُقَالُ [ضَرَبَ] [1] عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِرِجْلِهِ الْأَرْضَ فَظَهَرَتْ عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ وَجَرَى. وَقِيلَ: كَانَ هُنَاكَ نَهْرٌ يَابِسٌ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيهِ الْمَاءَ وَحَيِيَتِ النَّخْلَةُ الْيَابِسَةُ، فَأَوْرَقَتْ وَأَثْمَرَتْ وَأَرْطَبَتْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَحْتَكِ سَرِيًّا يَعْنِي عِيسَى وَكَانَ وَاللَّهِ عَبْدًا سَرِيًّا يعني رفيعا.
وَهُزِّي إِلَيْكِ، يَعْنِي قِيلَ لِمَرْيَمَ حَرِّكِي بِجِذْعِ النَّخْلَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: هزّه وهزّ به، كما تقول:
حَزَّ رَأْسَهُ وَحَزَّ بِرَأْسِهِ، وَأَمْدَدَ الْحَبَلَ وَأَمْدَدَ بِهِ، تُساقِطْ عَلَيْكِ، الْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْقَافِ وتشديد السين، يعني تَتَسَاقَطُ، فَأُدْغِمَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي السين يعني تُسْقِطُ عَلَيْكِ النَّخْلَةُ رُطَبًا، وَخَفَّفَ [2] حَمْزَةُ السِّينَ وَحَذَفَ التَّاءَ الَّتِي أَدْغَمَهَا غَيْرُهُ.
وَقَرَأَ حَفْصٌ بِضَمِّ التاء وكسر القاف خفيف عَلَى وَزْنِ تَفَاعُلٍ وتُسَاقِطُ بِمَعْنَى أَسْقَطَ، وَالتَّأْنِيثُ لِأَجْلِ النَّخْلَةِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ يَسَّاقَطُ بِالْيَاءِ مُشَدَّدَةً رِدَّةً إِلَى الْجِذْعِ، رُطَباً جَنِيًّا، مَجْنِيًّا. وَقِيلَ: الْجَنْيُ هُوَ الَّذِي بَلَغَ الْغَايَةَ، وَجَاءَ أَوَانَ اجْتِنَائِهِ.
قَالَ الربيع بن خيثم: مَا لِلنُّفَسَاءِ عِنْدِي خَيْرٌ مِنَ الرُّطَبِ، وَلَا لِلْمَرِيضِ خَيْرٌ مِنَ الْعَسَلِ.
قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: فَكُلِي وَاشْرَبِي، أَيْ: فَكُلِي يَا مَرْيَمُ مِنَ الرُّطَبِ وَاشْرَبِي مِنْ مَاءِ النَّهْرِ، وَقَرِّي عَيْناً، أَيْ: طِيبِي نَفْسًا، وَقِيلَ: قَرِّي عَيْنَكِ بِوَلَدِكِ عِيسَى. يُقَالُ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَكَ يعني صَادَفَ فُؤَادَكَ مَا يُرْضِيكَ، فَتَقَرُّ عينك من النظر إليه [3] . وَقِيلَ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ يَعْنِي أَنَامَهَا، يُقَالُ: قَرَّ يَقِرُّ إِذَا سَكَنَ. وَقِيلَ: إِنَّ الْعَيْنَ إِذَا بَكَتْ مِنَ السُّرُورِ فَالدَّمْعُ بَارِدٌ، وَإِذَا بَكَتْ مِنَ الْحُزْنِ فَالدَّمْعُ يَكُونُ حَارًّا، فَمِنْ هَذَا قِيلَ: أَقَرَّ اللَّهُ عَيْنَهُ وَأَسْخَنَ اللَّهُ عَيْنَهُ. فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً، أَيْ تَرَيْ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ نُونُ التَّأْكِيدِ فَكُسِرَتِ الْيَاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، مَعْنَاهُ: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَيَسْأَلُكِ عَنْ وَلَدِكِ [4] فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً، يعني: صَمْتًا، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقْرَأُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَالصَّوْمُ فِي اللُّغَةِ الْإِمْسَاكُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكَلَامِ.
قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ في بني إسرائيل من إذا أَرَادَ أَنْ يَجْتَهِدَ صَامَ عَنِ الْكَلَامِ كَمَا يَصُومُ عَنِ الطَّعَامِ فَلَا يَتَكَلَّمُ حَتَّى يُمْسِيَ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمْرَهَا أَنْ تَقُولَ هَذَا إِشَارَةً. وَقِيلَ: أَمَرَهَا أَنْ تَقُولَ هَذَا الْقَدْرَ نُطْقًا ثُمَّ تُمْسِكُ عَنِ الْكَلَامِ بَعْدَهُ، فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا، يُقَالُ كَانَتْ تُكَلِّمُ الْمَلَائِكَةَ وَلَا تُكَلِّمُ الْإِنْسَ.
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ، وقيل: إنها ولدته ثم حملته إلى قومها في الحال. وقال الكلبي: احتمل [5] يوسف النجار مريم عليها السلام وابنها [6] إلى غار مكثت أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى طَهُرَتْ مِنْ نفاسها، ثم حملته
__________
(1) زيد في المطبوع.
(2) في المخطوط «وحذف» .
(3) في المخطوط «إلى غيره» .
(4) تصحف في المطبوع «وعدك» .
(5) في المخطوط وط «حمل» .
(6) زيد في المطبوع وحده «عيسى صلوات الله على نبينا وعليه» .(3/230)
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ إِلَى قَوْمِهَا. فَكَلَّمَهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ أَبْشِرِي فَإِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَمَسِيحُهُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَى أَهْلِهَا وَمَعَهَا الصَّبِيُّ بَكَوْا وَحَزِنُوا وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتٍ صَالِحِينَ، قالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا، عَظِيمًا مُنْكَرًا، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ أَمْرٍ فَائِقٍ مِنْ عَجَبٍ أَوْ عَمَلٍ فَهُوَ فَرِيٌّ.
«1387» قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمَرَ: «فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرِيَّهُ» ، يعني عَمَلَهُ.
يَا أُخْتَ هارُونَ، يُرِيدُ يَا شَبِيهَةَ هَارُونَ، قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: كَانَ هَارُونُ رَجُلًا صَالِحًا عابدا في بني إسرائيل.
وروي أَنَّهُ اتَّبَعَ جَنَازَتَهُ يَوْمَ مَاتَ أَرْبَعُونَ أَلْفًا كُلُّهُمْ يُسَمَّى هَارُونُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سِوَى سَائِرِ النَّاسِ، شَبَّهُوهَا [بِهِ] [1] عَلَى مَعْنَى إِنَّا ظَنَنَّا أَنَّكِ مِثْلُهُ فِي الصَّلَاحِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْأُخُوَّةَ فِي النَّسَبِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الإِسْرَاءِ: 27] ، أَيْ أَشْبَاهَهُمْ.
«1388» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ [2] بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مسلم بن الحجاج ثنا مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نمير ثنا ابْنُ إِدْرِيسَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمْتُ نَجْرَانَ [3] سَأَلُونِي فَقَالُوا إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ: يَا أُخْتَ هارُونَ وَمُوسَى قَبْلَ عِيسَى بكذا وكذا سنة، فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: «إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِأَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ» .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ هَارُونُ أَخَا مَرْيَمَ مِنْ أَبِيهَا، وَكَانَ أَمْثَلَ رَجُلٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ:
إِنَّمَا عَنَوْا بِهِ هَارُونَ أَخَا مُوسَى لِأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ نَسْلِهِ كَمَا يُقَالُ لِلتَّمِيمِيِّ يَا أَخَا تَمِيمٍ.
وَقِيلَ: كَانَ هَارُونُ رَجُلًا فَاسِقًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ عَظِيمَ الْفِسْقِ فَشَبَّهُوهَا بِهِ.
مَا كانَ أَبُوكِ، عِمْرَانُ، امْرَأَ سَوْءٍ، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: زَانِيًا، وَما كانَتْ أُمُّكِ، حَنَّةُ، بَغِيًّا، أَيْ: زَانِيَةً فَمِنْ أَيْنَ لك هذا الولد؟
[سورة مريم (19) : الآيات 29 الى 33]
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
__________
1387- صحيح. هو قطعة مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر أخرجه البخاري 3633 و3682 ومسلم 2393 والترمذي 2290 وأحمد 2/ 27- 28 و89 و604 وأبو يعلى 5514.
- وصدره «أريت في النوم أني أنزع بدلو.....» .
1388- إسناده على شرط مسلم.
- ابن إدريس هو عبد الله بن إدريس بْنِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأودي.
- وهو في «شرح السنة» 3255 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح مسلم» 2135 عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن نمير بهذا الإسناد.
- وأخرجه الترمذي 3155 والنسائي في «التفسير» 325 والواحدي في «الوسيط» 3/ 182 من طريقين عن عبد الله بن إدريس به.
- وأخرجه الطبري 23692 من طريق سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَلْقَمَةَ به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «الغفار» .
(3) تصحف في المطبوع «خراسان» .(3/231)
فَأَشارَتْ، مَرْيَمُ، إِلَيْهِ، أَيْ إِلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ كَلِّمُوهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ [1] رَضِيَ اللَّهُ عنهما: لَمَّا لَمْ تَكُنْ لَهَا حُجَّةٌ أَشَارَتْ إِلَيْهِ لِيَكُونَ كَلَامُهُ حُجَّةً لَهَا.
وَفِي الْقِصَّةِ: لَمَّا أَشَارَتْ إِلَيْهِ غَضِبَ الْقَوْمُ، وَقَالُوا مَعَ ما فعلت أتسخرين بنا؟ ثم، قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أَيْ: مَنْ هو في المهد، وهو [في] [2] حِجْرُهَا. وَقِيلَ: هُوَ الْمَهْدُ بِعَيْنِهِ، كانَ بِمَعْنَى هُوَ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كَانَ صِلَةٌ أَيْ كَيْفَ نُكَلِّمُ صَبِيًّا فِي الْمَهْدِ، وَقَدْ يَجِيءُ كَانَ حَشْوًا فِي الْكَلَامِ لَا مَعْنَى لَهُ كَقَوْلِهِ: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإِسْرَاءِ: 93] أَيْ: هَلْ أَنَا؟ قَالَ السُّدِّيُّ: فَلَمَّا سَمِعَ عِيسَى كَلَامَهُمْ تَرَكَ الرِّضَاعَ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: لَمَّا أَشَارَتْ إِلَيْهِ تَرَكَ الثَّدْيَ وَاتَّكَأَ عَلَى يَسَارِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَمِينِهِ.
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، وَقَالَ وَهْبٌ: أَتَاهَا زَكَرِيَّا عِنْدَ مُنَاظَرَتِهَا الْيَهُودَ فَقَالَ لِعِيسَى انْطِقْ بِحُجَّتِكَ إِنْ كُنْتَ أُمِرْتَ بِهَا، فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بَلْ هُوَ يَوْمَ وُلِدَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ، أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوَّلَ مَا تَكَلَّمَ لِئَلَّا يُتَّخَذَ إِلَهًا، آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، قِيلَ: مَعْنَاهُ سَيُؤْتِينِي الْكِتَابَ وَيَجْعَلُنِي نَبِيًّا. وَقِيلَ: هَذَا إِخْبَارٌ عَمَّا كُتِبَ [لَهُ] [3] فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
«1389» كَمَا قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتَّى كُنْتَ نَبِيًّا؟ قَالَ: «كُنْتُ نَبِيًّا وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ» .
وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ أُوتِيَ الْإِنْجِيلَ وَهُوَ صَغِيرٌ طِفْلٌ، وَكَانَ يَعْقِلُ عَقْلَ الرِّجَالِ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ:
أُلْهِمَ التَّوْرَاةَ وَهُوَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.
__________
1389- صحيح. أخرجه أحمد 5/ 59 والحاكم 2/ 609 والطبراني 2/ 353 والآجري في «الشريعة» 956 من طرق عن بديل بن ميسرة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عن ميسرة الفجر، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، ورجاله رجال مسلم.
- وقال الهيثمي في «المجمع» 8/ 222: رجاله رجال الصحيح.
- وللحديث شواهد منها:.
- حديث أبي هريرة عند الترمذي 3609 والحاكم 2/ 609 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 129.
والآجري 959 وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
- وحديث العرباض بن سارية عند أحمد 4/ 128 والحاكم 2/ 600 وابن أبي عاصم في «السنة» 409 وابن حبان 6404 وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وقال الهيثمي في «المجمع» 8/ 222: رواه أحمد بأسانيد وأحد أسانيده رجال الصحيح غير سعيد بن سويد، وقد وثقه ابن حبان اهـ.
- وحديث ابن عباس عند البزار 2364 والطبراني 12571 و12626 وفيه جابر بن يزيد الجعفي، ضعيف، لكن يصلح للمتابعة.
- وحديث خالد الحذاء عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عن رجل قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ... فذكره، وإسناده صحيح كما في «المجمع» 8/ 223 وجهالة الصحابي لا تضر.
وانظر «المقاصد الحسنة» 837 للسخاوي و «الشريعة» 428- 430 للآجري بتخريجي، والله الموفق.
(1) في المخطوط «مسعود» .
(2) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3) زيادة عن المخطوط.(3/232)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ، أَيْ نَفَّاعًا حَيْثُ مَا تَوَجَّهْتُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُعَلِّمًا لِلْخَيْرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ وَإِلَى تَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ. وَقِيلَ: مُبَارَكًا عَلَى مَنْ تَبِعَنِي: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ، أَيْ أَمَرَنِي بِهِمَا، فَإِنْ قِيلَ: لَمْ يَكُنْ لِعِيسَى مَالٌ فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِالزَّكَاةِ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ بِالزَّكَاةِ لَوْ كَانَ لِي مَالٌ. وَقِيلَ:
أوصاني بالزكاة أي أمرني أن أوصيكم بالزكاة. وَقِيلَ: بِالِاسْتِكْثَارِ مِنَ الْخَيْرِ. مَا دُمْتُ حَيًّا.
وَبَرًّا بِوالِدَتِي أَيْ: وَجَعَلَنِي بَرًّا بِوَالِدَتِي، وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا، أَيْ عَاصِيًا لِرَبِّهِ. وقيل:
الشَّقِيُّ الَّذِي يُذْنِبُ وَلَا يَتُوبُ.
وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ، أَيْ السَّلَامَةُ [1] عِنْدَ الْوِلَادَةِ مِنْ طَعْنِ الشَّيْطَانِ. وَيَوْمَ أَمُوتُ، أَيْ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنَ الشِّرْكِ، وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا، من الأهوال، فلما كَلَّمَهُمْ عِيسَى بِهَذَا عَلِمُوا بَرَاءَةَ مَرْيَمَ ثُمَّ سَكَتَ [عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ] [2] فَلَمْ يَتَكَلَّمْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى بَلَغَ الْمُدَّةَ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فيها الصبيان.
[سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 37]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ ذَلِكَ الَّذِي قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، قَوْلَ الْحَقِّ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ: قَوْلَ الْحَقِّ بِنَصْبِ اللَّامِ وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ: قَالَ:
قَوْلَ الْحَقِّ، الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ أَيْ: يَخْتَلِفُونَ، فَقَائِلٌ يَقُولُ هُوَ ابْنُ اللَّهِ، وَقَائِلٌ يَقُولُ هُوَ اللَّهُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ هُوَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِرَفْعِ اللَّامِ يَعْنِي هُوَ قَوْلُ الْحَقِّ، أَيْ هَذَا الْكَلَامُ هُوَ قَوْلُ الْحَقِّ، أَضَافَ الْقَوْلَ إِلَى الْحَقِّ، كَمَا قَالَ: حَقُّ الْيَقِينِ، ووعد الصِّدْقِ، وَقِيلَ: هُوَ نَعْتٌ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، يَعْنِي ذَلِكَ عِيسَى ابن مريم كلمة الحق [والحق] [3] هُوَ اللَّهُ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ يشكون وَيَخْتَلِفُونَ وَيَقُولُونَ غَيْرَ الْحَقِّ، ثُمَّ نفى عن نفسه الولد، ثم عظّم نفسه فَقَالَ:
مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، أَيْ مَا كَانَ مِنْ صِفَتِهِ اتِّخَاذُ الْوَلَدِ. وَقِيلَ: اللَّامُ مَنْقُولَةٌ أَيْ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً، إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْدِثَ أَمْرًا، فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَأَبُو عَمْرٍو إِنَّ اللَّهَ بِفَتْحِ الْأَلِفِ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَبِأَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ، وَقَرَأَ أَهْلُ الشَّامِ وَالْكُوفَةِ وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ.
فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.
قوله: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ، يَعْنِي النَّصَارَى سُمُّوا أَحْزَابًا لِأَنَّهُمْ تَحَزَّبُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ فِي أَمْرِ عِيسَى، النُّسْطُورِيَّةُ وَالمَلِكَانِيَّةُ وَاليَعْقُوبِيَّةُ. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ، يعني يوم القيامة.
[سورة مريم (19) : الآيات 38 الى 43]
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42)
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43)
__________
(1) في المطبوع «السلام» .
(2) زيد في المطبوع.
(3) زيادة عن المخطوط.(3/233)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ، أَيْ: مَا أَسْمَعَهُمْ وَأَبْصَرَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمُ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ، أَخْبَرَ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ فِي الْآخِرَةِ مَا لَمْ يَسْمَعُوا وَلَمْ يُبْصِرُوا فِي الدُّنْيَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا أَحَدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَسْمَعُ مِنْهُمْ وَلَا أَبْصَرُ حِينَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِعِيسَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: 116] الآية. يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، أَيْ: فِي خطأ بيّن.
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ، فُرِغَ مِنَ الْحِسَابِ وَأُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، وَذُبِحَ الْمَوْتُ.
«1390» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ أَنَا أبي أنا الأعمش أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مناد: يا أهل الجنة فيشرئبون [1] وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ [ثُمَّ يُنَادِي: يَا أهل النار فيشرئبون وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ:
هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا فَيَقُولُونَ: نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ] [2] فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ» ثُمَّ قَرَأَ: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) .
«1391» وَرَوَاهُ أَبُو عِيسَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ عَنِ النَّضْرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْأَعْمَشِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَزَادَ:
«فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ الْحَيَاةَ وَالْبَقَاءَ لَمَاتُوا فَرَحًا، وَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَضَى لِأَهْلِ النَّارِ الْحَيَاةَ وَالْبَقَاءَ لَمَاتُوا تَرَحًا» [3] .
«1392» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أنا
__________
1390- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- الأعمش هو سليمان بن مهران، أبو صالح اسمه ذكوان، مشهور بكنيته.
- وهو في «شرح السنة» 4262 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 4730 عن عمر بن حفص بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 2849 وأحمد 3/ 9 وأبو يعلى 1175 والطبري 23733 والآجري في «الشريعة» 955 والبيهقي في «البعث» 584 من طرق عن الأعمش به.
- وأخرجه الترمذي 2558 وأبو نعيم في «صفة الجنة» 106 من طريقين عَنْ فُضَيْلِ بْنِ مَرْزُوقٍ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ.
- وفي الباب من حديث أبي هريرة عند أحمد 2/ 261 و513 وابن ماجه 4327 وابن حبان 7450 وانظر ما بعده.
1391- ضعيف بهذه الزيادة. أخرجه الترمذي 3156 عن أحمد بن منيع به وقال: هذا حديث حسن صحيح.
قلت: فيه النضر بن إسماعيل، قال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي وأبو زرعة: ليس بالقوي. فالرجل غير حجة، وقد زاد زيادة غريبة تدل على ضعفه، والصحيح الحديث المتقدم.
1392- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم سوى معاذ بن أسد، فقد تفرد عنه البخاري عبد الله هو ابن المبارك، زيد والد محمد هو ابن عبد الله بن عمر.
(1) في المطبوع «فيشرفون» والمثبت عن كتب الحديث و «شرح السنة» .
(2) سقط من المخطوط وط.
(3) في المخطوط «حزنا» .(3/234)
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا مُعَاذُ بن أسد أنا عبد الله أنا عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَأَهْلُ النَّارِ إِلَى النَّارِ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُجْعَلَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. ثُمَّ يُذْبَحُ ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ لَا مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ» .
«1393» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أنا أحمد النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا أبو اليمان أنا شعيب أنا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ إِلَّا رَأَى مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ لَوْ أَسَاءَ لِيَزْدَادَ شُكْرًا، وَلَا يَدْخُلُ النار أحد إلّا رأى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ لَوْ أَحْسَنَ لِيَكُونَ عَلَيْهِ حَسْرَةً» .
«1394» أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الداودي أَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ الصَّلْتِ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عبد الصمد الهاشمي أنا الحسين بن الحسن أنا ابن المبارك أنا يحيى بْنُ عُبَيْدِ [1] اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إِلَّا نَدِمَ» ، قَالُوا: فَمَا نَدَمُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ مُحَسِّنًا نَدِمَ أَنْ لَا يَكُونَ ازْدَادَ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا نَدِمَ أَنْ لَا يكون نزع» .
وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ، أَيْ عَمَّا يُفْعَلُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، لا يصدقون.
__________
- وهو في «شرح السنة» 4263 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 6548 عن معاذ بن أسد بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 2850 وأحمد 2/ 2/ 118 و120- 121 وابن حبان 7474 وأبو نعيم في «الحلية» 8/ 183- 184 من طريقين عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زيد به.
- وأخرجه البخاري 6544 ومسلم 2850 ح 24 وابن أبي داود في «البعث» 55 من طريقين عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
1393- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم، أبو اليمان هو الحكم بن نافع، شعيب هو ابن حمزة- دينار، أبو الزِّنَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، الأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.
- وهو في «شرح السنة» 4264 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 6569 عن أبي اليمان به.
- وأخرجه البيهقي في «البعث» 244 من طريق أبي اليمان به.
- وأخرجه ابن حبان 7451 من طريق ورقاء وأحمد 2/ 541 من طريق ابن أبي الزناد كلاهما عن أبي الزناد به.
- وورد بنحوه من وجه آخر عن أبي هريرة، أخرجه ابن ماجه 4341.
1394- إسناده ضعيف جدا. مداره على يحيى بن عَبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن وهب عن أبيه، ويحيى ضعيف، وأبوه مجهول، قال أحمد: يحيى بن عبد الله أحاديثه مناكير، لا يعرف هو ولا أبوه. وقال ابن معين: ليس بشيء.
- وهو في «شرح السنة» 4204 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق ابن المبارك، وهو في «الزهد» 33 عن يحيى بن عبيد الله به.
- وأخرجه الترمذي 2403 والبيهقي في «الزهد» 716 وأبو نعيم في «الحلية» 8/ 178 من طرق عن ابن المبارك به.
وقال الترمذي: هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه، ويحيى بن عبيد الله قد تكلم فيه شعبة، وهو يحيى بن عبيد الله بن موهب مدني.
وقال أبو نعيم: غريب من حديث يحيى، لم نكتبه إلا من حديث ابن المبارك.
- الخلاصة: هو حديث ضعيف جدا، شبه موضوع.
(1) تصحف في المطبوع «عبد» . [.....](3/235)
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها، أَيْ نُمِيتُ سُكَّانَ الْأَرْضِ وَنُهْلِكُهُمْ جَمِيعًا، وَيَبْقَى الرَّبُّ وَحْدَهُ فَيَرِثُهُمْ، وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ، فيجزيهم بأعمالهم.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) ، الصِّدِّيقُ الْكَثِيرُ الصِّدْقِ الْقَائِمُ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: مَنْ صَدَّقَ اللَّهَ فِي وَحْدَانِيَّتِهِ، وَصَدَّقَ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ، وَصَدَّقَ بِالْبَعْثِ، وَقَامَ بِالْأَوَامِرِ فَعَمِلَ بِهَا، فَهُوَ الصِّدِّيقُ.
والنبي الْعَالِي فِي الرُّتْبَةِ بِإِرْسَالِ اللَّهِ تعالى إيّاه.
قوله تعالى: إِذْ قالَ
، إِبْرَاهِيمُ، لِأَبِيهِ
، آزَرَ وَهُوَ يَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ
، صَوْتًا، وَلا يُبْصِرُ
، شَيْئًا، وَلا يُغْنِي عَنْكَ
، أَيْ لَا يَكْفِيكَ، شَيْئاً.
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ، بِاللَّهِ وَالْمَعْرِفَةِ، مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي، عَلَى دِينِي، أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا، مُسْتَقِيمًا.
[سورة مريم (19) : الآيات 44 الى 46]
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ، لَا تُطِعْهُ فِيمَا يُزَيِّنُ لَكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ، إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا، عَاصِيًا، كَانَ بِمَعْنَى الْحَالِ، أَيْ هُوَ كَذَلِكَ.
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ، أَيْ أَعْلَمُ، أَنْ يَمَسَّكَ، يُصِيبَكَ، عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ، إِنْ أَقَمْتَ عَلَى الْكُفْرِ، فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا، قَرِينًا فِي النَّارِ.
قالَ أَبُوهُ مُجِيبًا لَهُ، أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ، لَئِنْ لَمْ تسكن وَتَرْجِعْ عَنْ عَيْبِكَ آلِهَتَنَا وَشَتْمِكَ إِيَّاهَا، لَأَرْجُمَنَّكَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ: لَأَشْتُمَنَّكَ وَلَأُبْعِدَنَّكَ عَنِّي بِالْقَوْلِ الْقَبِيحِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَضْرِبَنَّكَ. وقال الحسن: لَأَقْتُلَنَّكَ بِالْحِجَارَةِ. وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا، قَالَ الكلبي:
اجتنبني طَوِيلًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: حِينًا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: دَهْرًا. أصله المكث، ومنه يقال:
تمليت حِينًا، وَالْمَلَوَانِ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ: سَالِمًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اعْتَزِلْنِي سَالِمًا لَا تُصِيبُكَ مِنِّي مَعَرَّةٌ، يُقَالُ: فُلَانٌ مَلِيٌّ بِأَمْرِ كَذَا إِذَا كَانَ كَافِيًا.
[سورة مريم (19) : الآيات 47 الى 52]
قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51)
وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52)
قالَ إِبْرَاهِيمُ سَلامٌ عَلَيْكَ، أَيْ سَلِمْتَ مِنِّي لَا أُصِيبُكَ بِمَكْرُوهٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِ عَلَى كُفْرِهِ. وَقِيلَ: هَذَا سَلَامُ هِجْرَانٍ وَمُفَارَقَةٍ. وَقِيلَ: سَلَامُ بِرٍّ وَلُطْفٍ، وَهُوَ جَوَابُ الْحَلِيمِ لِلسَّفِيهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان: 63] . سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، قِيلَ: إِنَّهُ لَّمَّا أَعْيَاهُ أَمَرَهُ وَوَعَدَهُ أَنْ يُرَاجِعَ اللَّهَ فِيهِ، فَيَسْأَلَهُ أَنْ يَرْزُقَهُ التَّوْحِيدَ وَيَغْفِرَ لَهُ، مَعْنَاهُ سَأَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى لَكَ تَوْبَةً تَنَالُ بِهَا الْمَغْفِرَةَ. إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا، بَرًّا لَطِيفًا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: عَالِمًا يَسْتَجِيبُ لِي إِذَا دَعَوْتُهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: عَوَّدَنِي الْإِجَابَةَ لِدُعَائِي.(3/236)
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أي [و] [1] أَعْتَزِلُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ اعْتِزَالُهُ إِيَّاهُمْ أَنَّهُ فَارَقَهُمْ مِنْ كُوثَى، فَهَاجَرَ مِنْهَا إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَدْعُوا رَبِّي، أَيْ أَعْبُدُ رَبِّي، عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا، أَيْ عَسَى أَنْ لَا أَشْقَى بدعائه وعبادته، كما [2] تشقون بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.
وَقِيلَ: عَسَى أَنْ يجيبني إذا دعوته ولا يجيبني.
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَذَهَبَ مُهَاجِرًا [وَهَبْنا لَهُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ آنَسْنَا وَحْشَتَهُ مِنْ فِرَاقِهِمْ وَأَقْرَرْنَا عَيْنَهُ بِأَوْلَادٍ كِرَامٍ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا يَعْنِي إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ] [3] .
وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا أي: نعمتنا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَالُ وَالْوَلَدُ، وَهُوَ قول الأكثرين، قالوا معناه: مَا بُسِطَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ سَعَةِ الرِّزْقِ. وَقِيلَ الْكِتَابُ وَالنُّبُوَّةُ، وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا، يَعْنِي ثَنَاءً حَسَنًا رَفِيعًا فِي كُلِّ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، فَكُلُّهُمْ يَتَوَلَّوْنَهُمْ وَيُثْنُونَ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً، غَيْرَ مُرَاءٍ أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ وَالطَّاعَةَ لِلَّهِ عَزَّ وجلّ. قرأ أَهْلُ الْكُوفَةِ «مُخْلَصًا» بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ مُخْتَارًا اخْتَارَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: أَخْلَصَهُ اللَّهُ مِنَ الدَّنَسِ. وَكانَ رَسُولًا نَبِيًّا.
وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ، يَعْنِي يَمِينَ مُوسَى، وَالطَّورُ: جَبَلٌ بَيْنَ مِصْرَ وَمَدْيَنَ. وَيُقَالُ اسْمُهُ الزُّبَيْرُ، وَذَلِكَ حِينَ أَقْبَلَ مِنْ مَدْيَنَ وَرَأَى النَّارَ «فَنُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ» . وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا، أَيْ: مُنَاجِيًا، فَالنَّجِيُّ الْمُنَاجِي، كَمَا يُقَالُ: جَلِيسٌ وَنَدِيمٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ قَرَّبَهُ فَكَلَّمَهُ، وَمَعْنَى التَّقْرِيبِ إِسْمَاعُهُ كَلَامَهُ. وَقِيلَ: رَفَعَهُ عَلَى الْحَجْبِ حَتَّى سمع صرير القلم.
[سورة مريم (19) : الآيات 53 الى 57]
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57)
وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَذَلِكَ حِينَ دَعَا مُوسَى فَقَالَ: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) [طَهَ: 29، 30] ، فأجاب الله دعاءه وأرسل إلى هَارُونَ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ هِبَةً لَهُ.
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ، وَهُوَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَدُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ، قَالَ مُجَاهِدٌ:
لَمْ يَعِدْ شَيْئًا إِلَّا وَفَّى بِهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَعَدَ رَجُلًا أَنْ يُقِيمَ مَكَانَهُ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ، فَأَقَامَ إِسْمَاعِيلُ مَكَانَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِلْمِيعَادِ [4] حَتَّى رَجَعَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: انْتَظَرَهُ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَكانَ رَسُولًا، إِلَى جُرْهُمَ، نَبِيًّا، مُخْبِرًا عن الله عزّ وجلّ.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيد في المطبوع «أنتم» .
(3) زيادة عن المخطوط وط.
(4) في المخطوط «في الميعاد» .(3/237)
وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ أَيْ: قَوْمَهُ. وقيل: أهله جميع أُمَّتِهِ، بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الَّتِي افْتَرَضَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ، وَهِيَ الْحَنِيفِيَّةُ الَّتِي افْتُرِضَتْ عَلَيْنَا، وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا، قائما لله بطاعته وقيل: رَضِيَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنُبُّوتِهِ ورسالته.
قوله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ، وَهُوَ جَدُّ أَبِي نُوحٍ، وَاسْمُهُ أَخْنُوخُ، سُمِّيَ إِدْرِيسَ لِكَثْرَةِ دَرْسِهِ الْكُتُبَ.
وَكَانَ خَيَّاطًا وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ خَطَّ بِالْقَلَمِ، وَأَوَّلُ مَنْ خَاطَ الثياب، ولبس الثياب المخيطة، وَكَانُوا مِنْ قَبْلِهِ يَلْبَسُونَ الْجُلُودَ، وَأَوَّلُ مَنِ اتَّخَذَ السِّلَاحَ، وَقَاتَلَ الْكُفَّارَ، وَأَوَّلُ مَنْ نَظَرَ فِي عِلْمِ النُّجُومِ وَالْحِسَابِ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا.
وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) ، قيل: هي الْجَنَّةَ. وَقِيلَ: هِيَ الرِّفْعَةُ بِعُلُوِّ الرتبة في الدنيا. وقيل: أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ.
«1395» رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَأَى إِدْرِيسَ فِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ.
وَكَانَ سَبَبُ رَفْعِ إدريس عَلَى مَا قَالَهُ كَعْبٌ وَغَيْرُهُ، أَنَّهُ سَارَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي حَاجَةٍ فَأَصَابَهُ وَهَجُ الشَّمْسِ، فَقَالَ: يا رب إني مشيت يوما واحدا فأصابني المشقة الشديدة من وهج الشمس وأضرّني حرّها ضررا بليغا، فَكَيْفَ بِمَنْ يَحْمِلُهَا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، اللَّهُمَّ خَفِّفْ عَنْهُ مِنْ ثِقَلِهَا وَحَرِّهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ الْمَلَكُ وَجَدَ مِنْ خِفَّةِ الشَّمْسِ وَحَرِّهَا مَا لَمْ يَعْرِفْ. فَقَالَ: يَا رَبِّ مَا الذي قضيت فيه حتى خففت عنّي ما أنا فيه؟ قال: إِنْ عَبْدِي إِدْرِيسَ سَأَلَنِي أَنْ أُخَفِّفَ عَنْكَ حِمْلَهَا وَحَرَّهَا فَأَجَبْتُهُ، فقال: يا رَبِّ اجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خُلَّةً، فَأَذِنَ لَهُ حَتَّى أَتَى إِدْرِيسَ، فَكَانَ يَسْأَلُهُ إِدْرِيسُ، فَقَالَ لَهُ [يوما] [1] إِنِّي أُخْبِرْتُ أَنَّكَ أَكْرَمُ الْمَلَائِكَةِ وَأَمْكَنُهُمْ عِنْدَ مَلَكِ الْمَوْتِ، فَاشْفَعْ لِي إِلَيْهِ لِيُؤَخِّرَ أَجْلِي، فَأَزْدَادَ شُكْرًا وَعِبَادَةً، فَقَالَ الْمَلَكُ: لَا يُؤَخِّرُ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أجلها، وأنا مكلمه [في ذلك إن شاء الله فقال له ارفعني إلى السماء] [2] فَرَفَعَهُ إِلَى السَّمَاءِ وَوَضَعَهُ عِنْدَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ، ثُمَّ أَتَى مَلَكَ الْمَوْتِ فَقَالَ لِي حَاجَةٌ إِلَيْكَ، فقال: وما هي؟ قال صَدِيقٌ لِي مِنْ بَنِي آدَمَ تَشَفَّعَ بِي إِلَيْكَ لِتُؤَخِّرَ أَجَلَهُ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيَّ وَلَكِنْ إن أحببت أعلمته أجله متى يموت، فيقدم لنفسه، فقال: نَعَمْ، فَنَظَرَ فِي دِيوَانِهِ فَقَالَ: إِنَّكَ كَلَّمْتَنِي فِي إِنْسَانٍ مَا أراه يموت أبدا [في الأرض] [3] ، قال: وكيف ذلك؟ قَالَ: لَا أَجِدُهُ يَمُوتُ إِلَّا عِنْدَ مَطْلِعِ الشَّمْسِ، قَالَ: فَإِنِّي أَتَيْتُكَ وَتَرَكْتُهُ هُنَاكَ، قَالَ: فَانْطَلِقْ فَلَا أَرَاكَ تَجِدُهُ إِلَّا وَقَدْ مات، فو الله مَا بَقِيَ مِنْ أَجَلِ إِدْرِيسَ شَيْءٌ، فَرَجَعَ الْمَلَكُ فَوَجَدَهُ مَيِّتًا.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ حَيٌّ فِي السَّمَاءِ أَمْ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مَيِّتٌ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ حَيٌّ، وَقَالُوا:
أَرْبَعَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْأَحْيَاءِ اثْنَانِ فِي الْأَرْضِ: الْخَضِرُ وَإِلْيَاسُ [4] ، وَاثْنَانِ فِي السَّمَاءِ: إِدْرِيسُ وَعِيسَى.
وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ يُرْفَعُ لِإِدْرِيسَ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الْعِبَادَةِ مِثْلَ مَا يُرْفَعُ لِجَمِيعِ أهل الأرض في زمانه
__________
1395- تقدم في تفسير سورة الإسراء، متفق عليه.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) هذه آثار إسرائيلية.(3/238)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
فَعَجِبَ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ وَاشْتَاقَ إِلَيْهِ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي زِيَارَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ فَأَتَاهُ فِي صُورَةِ بَنِي آدَمَ، وَكَانَ إِدْرِيسُ يَصُومُ الدَّهْرَ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ إِفْطَارِهِ دَعَاهُ إِلَى طَعَامِهِ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مَعَهُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَأَنْكَرَهُ إدريس، فقال له [إدريس] [1] في اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَعْلَمَ مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ:
أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَصْحَبَكَ، قَالَ: فَلِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ، قال: وما وهي؟ قَالَ: تَقْبِضُ رُوحِي، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنِ اقْبِضْ رَوْحَهُ، فَقَبَضَ روحه وردها إليه بعد ساعة [بإذن الله تعالى] [2] قَالَ لَهُ مَلَكُ الْمَوْتِ: مَا الفائدة في سؤالك قَبْضِ الرُّوحِ؟ قَالَ لِأَذُوقَ كَرْبَ الموت وغيمته فأكون [3] أَشَدَّ اسْتِعْدَادًا لَهُ، ثُمَّ قَالَ إِدْرِيسُ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً أُخْرَى، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تَرْفَعُنِي إِلَى السَّمَاءِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهَا وَإِلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَأَذِنَ الله [له] [4] فِي رَفْعِهِ، فَلَمَّا قَرُبَ مِنَ النار قال: لِي [إِلَيْكَ] [5] حَاجَةً أُخْرَى، قَالَ: وَمَا تُرِيدُ؟ قَالَ: تَسْأَلُ مَالِكًا أن يَفْتَحَ لِي أَبْوَابَهَا فَأَرِدُهَا فَفَعَلَ ثم قال: فكما أَرَيْتَنِي النَّارَ فَأَرِنِي الْجَنَّةَ، فَذَهَبَ به إلى الجنة فاستفتح فَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا، فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ قال له مَلَكُ الْمَوْتِ: اخْرُجْ لِتَعُودَ إِلَى مَقَرِّكَ، فَتَعَلَّقَ بِشَجَرَةٍ وَقَالَ: لَا أَخْرُجُ مِنْهَا، فَبَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا حكما بَيْنَهُمَا، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: مَا لَكَ لَا تَخْرُجُ؟ قَالَ:
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ، وَقَدْ ذُقْتُهُ، وَقَالَ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مَرْيَمَ: 71] ، وَقَدْ وَرَدْتُهَا، وَقَالَ: وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 48] ، فلست أخرج [حين دخلتها] [6] فَأَوْحَى اللَّهُ [إِلَى] [7] مَلَكِ الْمَوْتِ: بِإِذْنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَبِأَمْرِي لَا يخرج، فهو حي هناك، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) .
[سورة مريم (19) : الآيات 58 الى 59]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، أَيْ إِدْرِيسَ وَنُوحًا، وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ، أَيْ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ فِي السفينة، يريد إبراهيم لأنه [من] [8] ولد سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ، يُرِيدُ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، قَوْلُهُ: وَإِسْرائِيلَ، أَيْ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ وَهُمْ مُوسَى وَهَارُونُ وَزَكَرِيَّا ويحيى، وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا، هَؤُلَاءِ كَانُوا مِمَّنْ أَرْشَدْنَا وَاصْطَفَيْنَا، إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا، سُجَّدًا جَمْعُ سَاجِدٍ وَبُكِيًّا جَمْعُ بَاكٍ، أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا بِآيَاتِ الله سجدوا وبكوا.
قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، أَيْ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّينَ الْمَذْكُورِينَ خَلْفٌ وَهُمْ قَوْمُ سُوءٍ وَالْخَلَفُ بِالْفَتْحِ الصَّالِحُ وَبِالْجَزْمِ الطَّالِحُ، قَالَ السُّدِّيُّ: أَرَادَ بِهِمُ الْيَهُودَ وَمَنْ لَحِقَ بِهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُمْ قوم فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَضاعُوا الصَّلاةَ أي: تَرَكُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمُ: أَخَّرُوهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: هُوَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ الظُّهْرَ حَتَّى يَأْتِيَ الْعَصْرُ وَلَا الْعَصْرَ حَتَّى تغرب الشمس،
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «وغمه لأكون» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط. [.....]
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) سقط من المطبوع.(3/239)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ، أَيِ الْمَعَاصِي وَشُرْبَ الخمر [والزنا] [1] ، أي آثَرُوا شَهَوَاتِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ يَظْهَرُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ يَنْزُو بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَالْأَزِقَّةِ. فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا، قَالَ [2] وَهْبٌ: الْغَيُّ نَهْرٌ فِي جَهَنَّمَ بَعِيدٌ قَعْرُهُ، خَبِيثٌ طَعْمُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْغَيُّ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، وَإِنَّ أَوْدِيَةَ جَهَنَّمَ لَتَسْتَعِيذُ حَرِّهِ أُعِدَّ لِلزَّانِي الْمُصِرِّ عَلَيْهِ، وَلِشَارِبِ الْخَمْرِ الْمُدْمِنِ عَلَيْهَا، وَلِآكِلِ الرِّبَا الَّذِي لَا يَنْزِعُ عَنْهُ، ولأهل العقوق ولشاهد الزور، [ولا مرأة أدخلت على زوجها ولدا] [3] ، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْغَيُّ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَسِيلُ قَيْحًا وَدَمًا. وَقَالَ كَعْبٌ: هُوَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ أبعدها قعرا، وأشدها حرا فيه بِئْرٍ تُسَمَّى الْهِيمُ، كُلَّمَا خَبَتْ جَهَنَّمُ فَتَحَ اللَّهُ تِلْكَ الْبِئْرَ فتستعر بِهَا جَهَنَّمَ.
«1396» أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أنا محمد بن أحمد الْحَارِثِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ هُشَيْمِ بْنِ بشير أنا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي مَرْيَمَ الْخُزَاعِيُّ قال: سمعت أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيَّ يَقُولُ: إِنَّ مَا بَيْنَ شَفِيرِ جَهَنَّمَ إِلَى قَعْرِهَا مَسِيرَةُ سَبْعِينَ خَرِيفًا مِنْ حَجَرٍ يَهْوِي أَوْ قَالَ صَخْرَةٍ تَهْوِي عظمها كعشر عشراوات [4] ، فَقَالَ لَهُ مَوْلَىً لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ:
هَلْ تَحْتَ ذَلِكَ شَيْءٌ يَا أَبَا أُمَامَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ غَيٌّ وَآثَامُّ.
وقال الضحاك: غيا خسرانا. وَقِيلَ: هَلَاكًا. وَقِيلَ: عَذَابًا. وَقَوْلُهُ: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا لَيْسَ مَعْنَاهُ يَرَوْنَ فَقَطْ بَلْ مَعْنَاهُ الِاجْتِمَاعُ والملابسة مع الرؤية.
[سورة مريم (19) : الآيات 60 الى 62]
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ، وَلَمْ يَرَوْهَا، إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا، يَعْنِي آتِيًا مَفْعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ. وَقِيلَ: لَمْ يَقُلْ آتِيًا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَتَاكَ فَقَدْ أَتَيْتَهُ [5] ، وَالْعَرَبُ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ أَتَتْ عَلَيَّ خَمْسُونَ سَنَةً وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَتَيْتُ عَلَى خَمْسِينَ سَنَةً، وَيَقُولُ: وَصَلَ إِلَيَّ الْخَيْرُ وَوَصَلْتُ إِلَى الخير [و] [6] قال ابن جرير: وعده أي موعوده، وَهُوَ الْجَنَّةُ مَأْتِيًّا يَأْتِيهِ أَوْلِيَاؤُهُ وَأَهْلُ طَاعَتِهِ.
لَا يَسْمَعُونَ فِيها، فِي الْجَنَّةِ لَغْواً، بَاطِلًا وَفُحْشًا وَفُضُولًا مِنَ الْكَلَامِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ، إِلَّا سَلاماً، اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ يَعْنِي بَلْ يَسْمَعُونَ فِيهَا سَلَامًا أَيْ قولا يسلمون منه،
__________
1396- موقوف ضعيف. رجاله ثقات سوى زكريا بن أبي مريم، فإنه مجهول، تفرد عنه هشيم.
- وهو في «شرح السنة» 4308 بهذا الإسناد.
- وهو في «الزهد» 302 «زيادات نعيم بن حماد» عن هشيم بن بشير به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيد في المطبوع «ابن» .
(3) سقط من المخطوط.
(4) العبارة في المطبوع «كعشر عشرت وأسمان» وفي المخطوط «تغير عشروات سمان» والمثبت عن «شرح السنة» .
(5) في المطبوع «أتته» .
(6) زيادة عن المخطوط.(3/240)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
وَالسَّلَامُ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ السَّلَامَةَ، مَعْنَاهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَا يَسْمَعُونَ مَا يُؤَثِّمُهُمْ، إِنَّمَا يَسْمَعُونَ مَا يُسَلِّمُهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ تَسْلِيمُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: هُوَ تَسْلِيمُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا، قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ لَيْلٌ يُعْرَفُ بِهِ الْبُكْرَةُ وَالْعَشِيُّ، بَلْ هُمْ فِي نُورٍ أَبَدًا وَلَكِنَّهُمْ يؤتون بِأَرْزَاقِهِمْ عَلَى مِقْدَارِ طَرَفَيِ النَّهَارِ. وَقِيلَ: إِنَّهُمْ يَعْرِفُونَ وَقْتَ النَّهَارِ بِرَفْعِ الْحُجُبِ، وَوَقْتَ اللَّيْلِ بِإِرْخَاءِ الْحُجُبِ [1] ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ رَفَاهِيَةُ الْعَيْشِ وَسَعَةُ الرِّزْقِ مِنْ غَيْرِ تَضْيِيقٍ، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يَقُولُ: كَانَتِ الْعَرَبُ لَا تَعْرِفُ مِنَ الْعَيْشِ أَفْضَلَ مِنَ الرِّزْقِ بِالْبُكْرَةِ وَالْعَشِيِّ، فَوَصَفَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ [2] جنته بذلك.
[سورة مريم (19) : الآيات 63 الى 67]
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا أَيْ نُعْطِي ونُنْزِلُ. وَقِيلَ: يُورِثُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الْمَسَاكِنَ الَّتِي كَانَتْ لِأَهْلِ النَّارِ لَوْ آمَنُوا، مَنْ كانَ تَقِيًّا، أَيِ الْمُتَّقِينَ من عباده.
وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ.
«1397» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أنا خلاد بن يحيى أنا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَا جِبْرِيلُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أكثر مما تَزُورَنَا» فَنَزَلَتْ: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا الْآيَةَ.
قَالَ [3] : كَانَ هَذَا الْجَوَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
«1398» وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: احْتَبَسَ جِبْرِيلُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَأَلَهُ قَوْمُهُ
__________
1397- إسناده صحيح على شرط البخاري.
ذرّ والد عمر هو ابن عبد الله بن زرارة الهمداني.
- وهو في «شرح السنة» 3634 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 7455 عن خلاد بن يحيى بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 3268 و4731 والترمذي 3158 والطبري 23805 والواحدي في «الوسيط» 3/ 189 و «أسباب النزول» 606 من طرق عن عمر بن ذر به.
1398- ذكره هاهنا تعليقا، وإسناده إليهم أول الكتاب، وتقدم الكلام عليه وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 608 عنهم بدون إسناد.
- وأثر الضحاك رواه الطبري 23812.
- وأثر قتادة أخرجه الطبري 23809.
- ويشهد لأصله خبر ابن عباس المتقدم.
(1) في المطبوع «الستور» .
(2) زيد في المطبوع «أهل» . [.....]
(3) في المخطوط «قال» والمثبت عن البخاري.(3/241)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
عَنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَالرُّوحِ، فَقَالَ أُخْبِرُكُمْ غَدًا وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْطَأْتَ عَلَيَّ حَتَّى سَاءَ ظَنِّي وَاشْتَقْتُ إِلَيْكَ» ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إني كنت أشوق [إليك منك] [1] ، ولكن عَبْدٌ مَأْمُورٌ إِذَا بُعِثْتُ نَزَلْتُ وَإِذَا حُبِسْتُ احْتَبَسْتُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ وأَنْزَلَ: وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) [الضحى: 1- 3] .
لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ، أَيْ لَهُ عِلْمُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا [وما خلفنا] [2] وَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: مَا بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَمَا خَلْفَنَا مَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِينَا مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وما خلفنا من أمر الدنيا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ أَيْ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِينَا مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا خَلْفَنَا مَا مَضَى مِنْهَا، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ مُدَّةُ حَيَاتِنَا. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِينَا بَعْدَ أَنْ نَمُوتَ وَمَا خَلْفَنَا قَبْلَ أَنْ نُخْلَقَ وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ الْهَوَاءُ يُرِيدُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِأَمْرِهِ. وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا، أَيْ نَاسِيًا، يَقُولُ: مَا نَسِيَكَ رَبُّكَ أَيْ مَا تَرَكَكَ، وَالنَّاسِي التَّارِكُ.
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ، أي اصبر على نهيه وأمره. هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا [هل تعلم له مثالا] [3] . وقال سعيد بن جبير: عدلا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا يُسَمَّى اللَّهُ غَيْرَهُ.
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ، يَعْنِي أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ الْجُمَحِيَّ كان منكرا للبعث، قال: أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا، من القبر، قَالَهُ اسْتِهْزَاءً وَتَكْذِيبًا لِلْبَعْثِ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَوَلا يَذْكُرُ، أَيْ يَتَذَكَّرُ وَيَتَفَكَّرُ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ يَذْكُرُ خفيف، الْإِنْسانُ، يَعْنِي أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً، أَيْ لَا يَتَفَكَّرُ هَذَا الْجَاحِدُ فِي بَدْءِ خَلْقِهِ فَيَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى الْإِعَادَةِ، ثُمَّ أقسم بنفسه، فقال:
[سورة مريم (19) : الآيات 68 الى 71]
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71)
فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أي لَنَجْمَعَنَّهُمْ فِي الْمَعَادِ يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، وَالشَّياطِينَ، مَعَ الشَّيَاطِينِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَحْشُرُ كُلَّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ فِي سِلْسِلَةٍ، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ
، قِيلَ فِي جَهَنَّمَ جِثِيًّا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: جَمَاعَاتٍ، جَمْعُ جَثْوَةٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: جَمْعُ جَاثٍ أَيْ جَاثِينَ عَلَى الرُّكَبِ. قَالَ السُّدِّيُّ: قَائِمِينَ عَلَى الرُّكَبِ لِضِيقِ الْمَكَانِ.
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ، لَنُخْرِجَنَّ، مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ، أَيْ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ وَأَهْلِ دِينٍ مِنَ الْكُفَّارِ. أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا، عُتُوًّا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يَعْنِي جَرْأَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فُجُورًا يُرِيدُ الْأَعْتَى فَالْأَعْتَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَائِدُهُمْ وَرَأْسُهُمْ فِي الشَّرِّ يُرِيدُ أَنَّهُ يُقَدِّمُ في إدخال النار مَنْ هُوَ أَكْبَرُ جُرْمًا وَأَشَدُّ
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.(3/242)
كفرا. وفي بعض الآثار أنهم يحضرون جميعا حول جهنم مسلمين مَغْلُولِينِ، ثُمَّ يُقَدَّمُ الْأَكْفَرُ فَالْأَكْفَرُ، وَرَفَعَ أَيُّهُمْ عَلَى مَعْنَى الَّذِي، يُقَالُ لَهُمْ: أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا. وَقِيلَ: عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، ثُمَّ لَننْزِعَنَّ يَعْمَلُ فِي مَوْضِعِ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ.
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) ، أَيْ أَحَقُّ بِدُخُولِ النَّارِ، يُقَالُ: صَلِي يَصْلَى صِلِيًّا مِثْلُ لَقِيَ يَلْقَى لِقِيًّا، وَصَلَى يَصْلِي صُلِيًّا مِثْلُ مَضَى يَمْضِي مُضِيًّا، إِذَا دَخَلَ النَّارَ وَقَاسَى حَرَّهَا.
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها، أي وَمَا مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا، وَقِيلَ: الْقَسَمُ فِيهِ [1] مُضْمَرٌ أَيْ وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَارِدُهَا، وَالْوُرُودُ هُوَ مُوَافَاةُ الْمَكَانِ، [واختلفوا في معنى الورود هنا] [2] وَفِيمَا تَنْصَرِفُ إِلَيْهِ الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: وارِدُها قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ مَعْنَى الْوُرُودِ هَاهُنَا هُوَ الدُّخُولُ، وَالْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّارِ، وَقَالُوا: النَّارُ يَدْخُلُهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، ثُمَّ يُنْجِّي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ، فَيُخْرِجُهُمْ مِنْهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوُرُودَ هُوَ الدُّخُولُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حِكَايَةً عَنْ فِرْعَوْنَ: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ [هود:
98] ، وَرَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ (نَافِعَ بن الأزرق ما روى ابْنِ عَبَّاسٍ) [3] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْوُرُودِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُوَ الدُّخُولُ. وَقَالَ نَافِعٌ: لَيْسَ الْوُرُودُ الدُّخُولَ، تلا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنه قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) [الْأَنْبِيَاءِ: 98] أَدْخَلَهَا هَؤُلَاءِ أَمْ لَا؟ ثُمَّ قَالَ: يا نافع أما والله أنا وأنت سَنَرِدُهَا، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَنِي اللَّهُ مِنْهَا، وَمَا أَرَى اللَّهَ عزّ وجلّ يُخْرِجَكَ مِنْهَا بِتَكْذِيبِكِ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْوُرُودِ الدُّخُولَ، وَقَالُوا: النَّارُ لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ أَبَدًا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها [الْأَنْبِيَاءِ: 101- 102] ، وَقَالُوا: كُلُّ مَنْ دَخَلَهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها، الْحُضُورُ وَالرُّؤْيَةُ، لَا الدُّخُولُ، كَمَا قال تعال: وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ [القَصَصِ: 23] أَرَادَ بِهِ الْحُضُورَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ. الْآيَةُ [فِي الْكُفَّارِ] [4] فَإِنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا. وَرُوِيَ عَنِ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا يَعْنِي الْقِيَامَةَ وَالْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ منها. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَعَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ أَنَّهُمْ جَمِيعًا يَدْخُلُونَ النَّارَ ثُمَّ يُخْرِجُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهَا أَهْلَ الْإِيمَانِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم: 72] ، أَيِ اتَّقَوُا الشِّرْكَ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَالنَّجَاةُ إِنَّمَا تَكُونُ مِمَّا دَخَلْتَ فيه لا ما وردت، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ نُنْجِي بِالتَّخْفِيفِ وَالْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا:
«1399» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ أَنَا حاجب بن أحمد
__________
1399- حديث صحيح. عبد الرحيم بن منيب مجهول، لكن توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، سفيان بن عيينة، الزهري محمد بن مسلم.
- وهو في «شرح السنة» 1537 بهذا الإسناد.
- أخرجه البخاري 1251 ومسلم 2632 ح 150 وابن ماجه 1603 وأحمد 2/ 239 من طرق عن سفيان بن عيينة به.
- أخرجه البخاري 6656 ومسلم 2632 ج 150 والترمذي 1060 والنسائي 4/ 25 وابن حبان 2942 والبيهقي 4/ 67 و7/ 78 و10/ 64 من طرق عن مالك عن الزهري به، وهو في «الموطأ» 1/ 235.
(1) في المطبوع «في» .
(2) زيد في المطبوع وط.
(3) في «الدر المنثور» (4/ 280) : «خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس» .
(4) زيادة عن المخطوط.(3/243)
الطُّوسِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ منيب أنا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَمُوتُ لِمُسْلِمٍ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَيَلِجُ النَّارَ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» ، وَأَرَادَ بِالْقَسَمِ قَوْلَهُ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها.
«1400» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [1] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ [بْنُ عَبْدِ اللَّهِ] [2] النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَا هشام أنا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ. وَيَخْرُجُ مِنَ النَّارَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ.»
وَقَالَ أَبَانُ عَنْ قَتَادَةَ: «مِنْ إِيمَانٍ» مَكَانَ «خَيْرٍ» .
«1401» أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ علي الشجاعي أنا أَبُو نَصْرٍ النُّعْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بن محمود الجرجاني أَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَمْرُو بْنُ عبد الله البصري أنا محمد بن عبد الوهاب أنا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ أَبُو النُّعْمَانِ أنا سلام بن مسكين أنا أَبُو الظِّلَالِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ رَجُلًا فِي النَّارِ يُنَادِي أَلْفَ سَنَةٍ يَا حَنَّانُ يَا مَنَّانُ فَيَقُولُ الله عزّ وجلّ لجبير اذهب فائتني بِعَبْدِي هَذَا، قَالَ: فَذَهَبَ جِبْرِيلُ فَوَجَدَ أَهْلَ النَّارِ مُنْكَبِّينَ يَبْكُونَ، قال: فرجع [جبريل] [3] فَأَخْبَرَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: اذْهَبْ فَإِنَّهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ:
فَجَاءَ بِهِ، قَالَ [الله] [4] : يَا عَبْدِي كَيْفَ وَجَدْتَ مَكَانَكَ وَمَقِيلَكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ شَرَّ مَكَانٍ وَشَرَّ مَقِيلٍ، قَالَ:
رُدُّوا عَبْدِي، قَالَ: مَا كُنْتُ أَرْجُو أَنْ تُعِيدَنِي إِلَيْهَا إِذْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ: دعوا عبدي» .
__________
- وأخرجه مسلم 2632 ح 150 والبيهقي 4/ 67 من طريق معمر عن الزهيري به.
- وأخرجه البيهقي 4/ 68 من طريق مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هريرة.
1400- إسناده صحيح الى شرط البخاري ومسلم، هشام هو ابن عبد الله الدّستوائي، قتادة هو ابن دعامة.
- وهو في «شرح السنة» 4254 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 44 عن مسلم بن إبراهيم به.
- وأخرجه مسلم 193 ح 325 والترمذي 2593 والطيالسي 1966 وأبو يعلى 2927 و2977 و3273 وابن أبي عاصم 850 وأبو عوانة 1/ 184 وابن حبان 7484 من طرق عن هشام به.
- وأخرجه الترمذي 2593 والطيالسي 1966 وأبو يعلى 3273 وابن أبي عاصم 851 وأحمد 3/ 173 و276 وأبو عوانة 1/ 184 من طريق شعبة به.
- أخرجه البخاري تعليقا بإثر الحديث 44 عن أبان بن يزيد العطار عن قتادة به.
- وأخرجه البخاري 7509 والآجري في الشريعة 345 من طريق أبي بكر بن عياش عن حميد عن أنس.
- وأخرجه أحمد 3/ 247- 248 من طريق ثابت عن أنس.
- وأخرجه الحاكم 1/ 70 من طريق عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ عن جدة أنس.
- وأخرجه الطبراني في «الصغير» 2/ 41 من طريق عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أنس.
1401- إسناده ضعيف لضعف أبي ظلال واسمه هلال، قيل: ابن أبي هلال، وقيل: ابن أبي مالك، وقيل غير ذلك، جزم الحافظ في «التقريب» بضعفه، ولم يتهمه أحد بكذب.
- وهو في «شرح السنة» 4257 بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 3/ 230 وأبو يعلى 4210 وابن خزيمة في «التوحيد» 2/ 749- 750 وابن حبان في «المجروحين» 3/
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.(3/244)
وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها [الأنبياء: 102] فقيل: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَخْبَرَ عَنْ وَقْتِ كَوْنِهِمْ فِي الْجَنَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَدْ سَمِعُوا ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَمْ يَسْمَعُوا حَسِيسَهَا وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَسْمَعُوا حَسِيسَهَا عِنْدَ دُخُولِهِمْ إِيَّاهَا، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَجْعَلُهَا عَلَيْهِمْ بَرْدًا وَسَلَامًا.
وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: يَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَلَمْ يَعِدْنَا رَبُّنَا أن نرد النار [قبل أن ندخل الجنة] [1] ، فَيُقَالُ:
بَلَى وَلَكِنَّكُمْ مَرَرْتُمْ بِهَا، وَهِيَ خَامِدَةٌ.
«1402» وَفِي الْحَدِيثِ «تَقُولُ النَّارُ لِلْمُؤْمِنِ جُزْ يَا مُؤْمِنُ فَقَدْ أَطْفَأَ نُورُكَ لَهَبِي» .
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ [فِي] [2] قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها قَالَ: مَنْ حُمَّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فقد وردها.
__________
86 والبيهقي في «البعث» 53 وفي «الأسماء والصفات» 140 وابن الجوزي في «الموضوعات» 3/ 267 من طرق عن سلام بن مسكين به.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 10/ 384 وقال: رواه أحمد وأبو يعلى، ورجالهما رجال الصحيح، غير أبي ظلال، وضعفه الجمهور، ووثقه ابن حبان.
- وقال ابن الجوزي: هذا حديث ليس بصحيح قال يحيى بن معين: أبو ظلال اسمه هلال ليس بشيء، وقال ابن حبان:
كان مغفلا يروي عن أنس ما ليس من حديثه.
- ويشهد لقوله «يا حنان يا منان» حديث أبي ذر عند الحاكم في «معرفة علوم الحديث» ص 105 وفي إسناده حكيم بن جبير، وهو ضعيف كما في «التقريب» .
- وفيه كثير بن يحيى، وهو ضعيف عنده مناكير، فالخبر ضعيف لا يتقوى مع شاهده لقعود الجابر، ونكارة المتن، والله أعلم.
1402- ضعيف منكر. أخرجه ابن عدي في «الكامل» 6/ 394 والطبراني في «الكبير» 22/ 258 والواحدي في «الوسيط» 3/ 92.
وأبو نعيم في «الحلية» 9/ 329 من طرق عن سليم بن منصور بن عمّار عن أبيه عن بشير بن طلحة عن خالد بن الدريك عن يعلى بن منية مرفوعا، وإسناده ضعيف جدا لضعيف سليم وأبيه، وبشير بن طلحة غير قوي، وهو منقطع بين خالد ويعلى.
- وقال الهيثمي في «المجمع» 10/ 360: رواه الطبراني، وفيه سليم بن منصور بن عمار، وهو ضعيف.
- وأخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» 5/ 194 من طريق منصور بن عمّار عن خالد بن الدريك عن يعلى بن منية وإسناده ضعيف لانقطاعه.
- وأخرجه أبو نعيم في «الحلية» 9/ 329 من طريق محمد بن جعفر- صاحب منصور- عن بشير بن طلحة عن خالد عن يعلى به، وإسناده منقطع.
- وأخرجه البيهقي في «الشعب» 375 من طريق سليم بن منصور عن أبيه عن الهقل بن زياد عن خالد عن بشير عن يعلى به.
وقال البيهقي: تفرّد به سليم بن منصور، وهو منكر.
وانظر «المقاصد الحسنة» للسخاوي 1010 فالحديث معلول، والمتن منكر.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.(3/245)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
«1403» وَفِي الْخَبَرِ «الْحُمَّى كِيرٌ مِنْ جَهَنَّمَ وَهِيَ حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنَ النَّارِ» .
«1404» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى أَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] [1] عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ فَأَبْرِدُوهَا بِالْمَاءِ» .
كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا، أَيْ كَانَ وُرُودُكُمْ جَهَنَّمَ حَتْمًا لَازِمًا مَقْضِيًّا قضاه الله [تعالى] [2] عليكم.
[سورة مريم (19) : آية 72]
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
__________
1403- صدره صحيح، وعجزه حسن. أخرجه أحمد 5/ 252 و264 والطبراني في «الكبير» 7468 من حديث أبي أمامة بلفظ «الحمى كير من جهنم، فما أصاب المؤمن منها كان حظه من جهنم» وإسناده ضعيف لجهالة أبي حصين.
- ولقوله «الحمى كير من جهنم» شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه 3475 بلفظ «الحمى كير من كير جهنم فنحوها عنكم بالماء البارد» .
وقال البوصيري في «الزوائد» : إسناده صحيح، ورجاله ثقات.
- وله شاهد آخر من حديث ابن عمر أخرجه البخاري 5723 ومسلم 2209 وابن ماجه 3472 وأحمد 2/ 21 وابن أبي شيبة 8/ 81 وابن حبان 6066 و6067 بلفظ «الحمى من فيح جهنم، فأطفئوها بالماء» .
- ومن حديث ابن عباس عند البخاري 3261 وأحمد 1/ 291 وابن أبي شيبة 8/ 81 وابن حبان 6068.
- ومن حديث عائشة، وهو الآتي.
- ومن حديث أسماء عند البخاري 5724 ومسلم 2211.
- ولقوله: «وهي حظ المؤمن من النار» شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجه 3470 وأحمد 2/ 410 وابن أبي شيبة 2/ 299 والحاكم 1/ 345 والواحدي في «الوسيط» 3/ 192 ورجاله ثقات، صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
ويشهد له أيضا حديث أنس عند البزار 762 وحديث عائشة عنده أيضا برقم 765 وكلا الإسنادين ضعيف.
- وله شواهد أخرى قال الحافظ في «تخريج الكشاف» 3/ 35: وكلها ضعيفة اهـ.
لكن لعلها تتأيد بمجموعها.
وانظر «الكشاف» 672 و673 بترقيمي. و «مجمع الزوائد» 2/ 206 و «الصحيحة» 4/ 438.
1404- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- يحيى هو ابن سعيد القطعان، هشام هو ابن عروة بن الزبير.
- وهو في «شرح السنة» 3129 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 5725 عن محمد بن المثنى بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 6/ 50 وأبو يعلى 4635 من طريق يحيى بن سعيد به.
- وأخرجه البخاري 3263 ومسلم 2210 والترمذي 2075 وابن ماجه 3471 من طرق عن أبي هريرة به، وانظر ما قبله.
- وأخرجه مسلم 186 ح 309 وأحمد 1/ 378- 379 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 317- 318 وابن مندة في «الإيمان» 843 وابن حبان 7427 من طرق عن أبي معاوية به.
- وأخرجه ابن مندة 844 من طريق وكيع عن الأعمش به.
- أخرجه البخاري 7511 وابن خزيمة ص 317 وأحمد 1/ 460 والطبراني 10339 من طرق عن منصور عن إبراهيم به بنحوه.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.(3/246)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا، أَيِ اتقوا الشرك، قرأ الكسائي [ويعقوب] [1] نُنْجِي بِالتَّخْفِيفِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ، وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا، جَمِيعًا. وَقِيلَ: جَاثِينَ عَلَى الرُّكَبِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ دَخَلُوهَا ثُمَّ أَخْرَجَ اللَّهُ مِنْهَا الْمُتَّقِينَ، وَتَرَكَ فِيهَا الظَّالِمِينَ، وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ.
«1405» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزهري قال: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدِ اللَّيْثِيُّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: «هَلْ تمارون [2] فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دونه سحاب» ، فقالوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» [3] ، قَالُوا: لَا، قَالَ: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الْقَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ [هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ] [4] : أَنْتَ رَبُّنَا [فَيَدْعُوهُمْ] [5] وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يومئذ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بِعَمَلِهِ، ومنهم من يخردل ثم ينجو، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرجه ممن كان يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وأمر الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَيُخْرِجُونَهُمْ وَيَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، [فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ]]
فَكُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ النَّارُ إِلَّا أَثَرَ السُّجُودِ، فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ [ثُمَّ يَفْرُغُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ] [7] ، وَيَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَهُوَ آخِرُ أهل الأرض دخولا إلى الْجَنَّةَ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ، فَيَقُولُ:
يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النَّارِ، قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا، فَيَقُولُ: هَلْ عَسَيْتَ أن أفعل ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ فَيُعْطِي الله ما يشاء مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيَصْرِفُ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ، فَإِذَا أَقْبَلَ به على الجنة ورأى بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنْتَ سَأَلْتَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا أَكُونُ أَشْقَى خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: فَمَا عَسَيْتَ إِنْ أُعْطِيتَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ؟ فَيَقُولُ: لَا وَعِزَّتِكَ لا أسأل غَيْرَ ذَلِكَ، فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ، فَيُقَدِّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ فَإِذَا بَلَغَ بَابَهَا فَرَأَى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا من النضرة
__________
1405- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم. أبو اليمان هو الحكم بن نافع، شعيب هو ابن أبي حمزة- دينار. وهو في «شرح السنة» 4242 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 806 عن أبي اليمان بهذا الإسناد. وأخرجه البخاري 6573 ومسلم 182 ح 300 وابن أبي عاصم في «السنة» 456 و478 واللالكائي 815 وابن مندة في «الإيمان» 807 من طرق عن أبي اليمان به.
تنبيه: ساق المصنّف رحمه الله متن الحديث من رواية البخاري الأولى أولا ثم أدخل فيه بعض الألفاظ من الرواية الثانية عند البخاري.
(1) زيادة عن- ط- وهو الصواب كما في كتب القراءات.
(2) في المطبوع «تضارون» والمثبت من عامة كتب الحديث.
(3) في المطبوع المخطوط «حجاب» . [.....]
(4) زيادة عن المخطوط و «صحيح البخاري» .
(5) سقط من المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط و «صحيح البخاري» .
(7) زيادة عن المخطوط و «صحيح البخاري» .(3/247)
وَالسُّرُورِ، فسكت مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْكُتَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أدخلني الجنة فيقول الله تعالى: ويلك [1] يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ [2] ، أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ الْعُهُودَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا تَسْأَلَ غَيْرَ الَّذِي أُعْطِيتَ؟ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ لَا تجعلني أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك الله منه [فإذا ضحك أذن لَهُ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ] [3] فَيَقُولُ: تمن فيتمنى حتى إذا انقطعت أمنيته، قال الله تعالى: تمن كَذَا وَكَذَا أَقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ حَتَّى إِذَا انْتَهَتْ بِهِ الْأَمَانِيُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَكَ ذَلِكَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ قَالَ أَبُو سَعِيدٍ لأبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَالَ [الله تعالى لَكَ] [4] ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لَمْ أَحْفَظْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا قَوْلَهُ لَكَ ذَلِكَ: وَمِثْلَهُ مَعَهُ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ «ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ» .
«1406» وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ بِمَعْنَاهُ، فقال: «فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي غَيْرِ الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا آتَانَا رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأْتِيهِمُ اللَّهُ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا فَيَتْبَعُونَهُ» .
«1407» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحِيرِيُّ أَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ أَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ [5] عَنْ جَابِرِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«يُعَذَّبُ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي النَّارِ حَتَّى يَكُونُوا حُمَمًا ثُمَّ تُدْرِكُهُمُ الرَّحْمَةُ، قَالَ: فَيُخْرَجُونَ فَيُطْرَحُونَ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، قَالَ: فَيَرُشُّ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْمَاءَ فَيَنْبُتُونَ كَمَا تنبت القثاء في حميل السَّيْلِ، ثُمَّ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ» .
«1408» أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِيُّ [6] أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ أَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ أَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ أنا هناد بن السّريّ أَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لِأَعْرِفُ آخر أهل النار [خروجا من النار] [7] رجل
__________
1406- حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم، عبد الرزاق بن همام، معمر بن راشد، الزهري هو محمد بن مسلم، وهو عند البخاري 6573.
من طريق عبد الرزاق، وإنما أخرجه مسلم 182 ح 301 وأحمد 2/ 275- 276 و533- 534 وابن أبي عاصم 455 و476 وابن منده 805 من طريق عبد الرزاق به.
- وأخرجه البخاري 7437 ومسلم 182 ح 299 وابن أبي عاصم 453 و475 وأحمد 2/ 293- 294 والطيالسي 2382 وابن منده 804 من طرق عن الزهري به.
1407- صحيح، محمد بن حماد هو الأبيوردي ثقة، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
أبو معاوية محمد بن حازم، الأعمش سليمان بن مهران، أبو سفيان طلحة بن نافع. وهو في «شرح السنة» 4255 بهذا الإسناد. وأخرجه الترمذي 2597 وأحمد 3/ 391 من طريقين عن أبي معاوية به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه مسلم 191 من وجه آخر من حديث جابر بنحوه.
1408- إسناده صحيح، رجاله رجال البخاري ومسلم سوى هناد، فإنه من رجال مسلم، وقد توبع ومن دونه.
- أبو معاوية محمد بن خازم، الأعمش سليمان بن مهران، إبراهيم هو ابن يزيد النخعي، عبيدة هو ابن عمرو.
- وهو في «شرح السنة» 4252 بهذا الإسناد. وهو في «سنن الترمذي» 2595 عن هناد بهذا الإسناد.
(1) كذا في المطبوع و «شرح السنة» و «صحيح البخاري» ووقع في المخطوط وط «ويحك» .
(2) تصحف في المطبوع «أعذرك» .
(3) زيادة عن المطبوع و «صحيح البخاري» في الرواية الثانية.
(4) سقط من المخطوط.
(5) تصحف في المخطوط «شقيق» .
(6) تصحف في المخطوط «الجرجاني» .
(7) سقط من المطبوع. [.....](3/248)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
يخرج منها زحفا فَيُقَالُ لَهُ: انْطَلِقْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ، قال: فيذهب ليدخل الجنة فَيَجِدُ النَّاسَ قَدْ أَخَذُوا الْمَنَازِلَ، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ قَدْ أخذ الناس المنازل، فَيُقَالُ لَهُ: أَتَذْكُرُ الزَّمَانَ الَّذِي كُنْتَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيُقَالُ له: تمن، فيتمنى، فيقال له: إن لَكَ الذي تمنيته وَعَشْرَةَ أَضْعَافِ الدُّنْيَا، قَالَ فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي وأنت الملك [1] ؟ قال: فلقد رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ» .
«1409» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ أَنَا حَاجِبُ بْنُ أَحْمَدَ الطُّوسِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَمَّادٍ أَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أُمِّ مبشر عن حفصة قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ لَا يَدْخُلَ النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا والحديبية» قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) [مريم: 71] ؟ قَالَ:
أَفَلَمْ [2] تَسْمَعِيهِ يَقُولُ: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) .
[سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 77]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً (77)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ، وَاضِحَاتٍ، قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا، يَعْنِي النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ وَذَوِيهِ مِنْ قُرَيْشٍ، لِلَّذِينَ آمَنُوا، يَعْنِي فُقَرَاءَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ فِيهِمْ قَشَافَةٌ وَفِي عَيْشِهِمْ خُشُونَةٌ وَفِي ثِيَابِهِمْ رَثَاثَةٌ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُرَجِّلُونَ شُعُورَهُمْ [3] وَيَدْهُنُونَ رؤوسهم ويلبسون [أعز] [4] ثِيَابِهِمْ، فَقَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً، مَنْزِلًا وَمَسْكَنًا، وَهُوَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: «مقاما» بضم الميم أي [موضع الإقامة] [5] ، وَأَحْسَنُ نَدِيًّا، أَيْ مَجْلِسًا، وَمِثْلُهُ النَّادِي، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ:
__________
1409- إسناده صحيح، محمد بن حماد هو الأبيوردي ثقة، وقد توبع ومن دونه ومن فوقه رجال البخاري ومسلم سوى أم مبشر، روى لها مسلم دون البخاري، أبو معاوية محمد بن خازم، الأعمش سليمان بن مهران، أبو سفيان طلحة بن نافع، جابر بن عبد الله، أم مبشر هي حميمة بنت صيفي.
- وهو في «شرح السنة» 3889 بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 6/ 285 والطبري 23860 وأبو يعلى 7044 من طرق عن أبي معاوية بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 6/ 362 والطبري 23858 من طريق ابن إدريس عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أُمِّ مُبَشِّرٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي بيت حفصة ...
- وأخرجه مسلم 2496 وأحمد 6/ 420 من وجه آخر عن أبي الزبير أنه سمع جابر يقول: أخبرتني أم مبشر أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يقول عند حفصة ...
(1) زيد في المطبوع «الجبار» .
(2) في «شرح السنة» «فكم» .
(3) في المطبوع «شعارهم» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «إقامة» .(3/249)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً، أَيْ مَتَاعًا وأموالا. قال مقاتل: لباسا وثيابا، وَرِءْياً، قَرَأَ أَكْثَرُ الْقُرَّاءِ بِالْهَمْزِ أَيْ مَنْظَرًا مِنَ الرُّؤْيَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ غَيْرَ ورش «ريا» مُشَدَّدًا بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَلَهُ تَفْسِيرَانِ أحدهما هو الأول بطرح الهمزة وَالثَّانِي مِنَ الرَّيِّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْعَطَشِ، وَمَعْنَاهُ الِارْتِوَاءُ مِنَ النِّعْمَةِ، فَإِنَّ الْمُتَنَعِّمَ يَظْهَرُ فِيهِ ارْتِوَاءُ النِّعْمَةِ، وَالْفَقِيرُ يَظْهَرُ عَلَيْهِ [1] ذُيُولُ الْفَقْرِ.
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا، هَذَا أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ، مَعْنَاهُ يَدَعُهُ فِي طُغْيَانِهِ وَيُمْهِلُهُ فِي كُفْرِهِ، حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ، وَهُوَ الْأَسْرُ وَالْقَتْلُ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا السَّاعَةَ، يَعْنِي الْقِيَامَةُ فَيَدْخُلُونَ النَّارَ، فَسَيَعْلَمُونَ، عن ذَلِكَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً، مَنْزِلًا، وَأَضْعَفُ جُنْداً، أَقَلُّ نَاصِرًا أَهُمْ أَمِ الْمُؤْمِنُونَ؟ لِأَنَّهُمْ فِي النَّارِ وَالْمُؤْمِنُونَ فِي الْجَنَّةِ. وَهَذَا رَدٌّ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا.
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً، أَيْ إِيمَانًا وَإِيقَانًا عَلَى يَقِينِهِمْ، وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ، الْأَذْكَارُ وَالْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي تَبْقَى لِصَاحِبِهَا، خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا عَاقِبَةً ومرجعا.
قوله: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَداً (77) .
«1410» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ أَنَا أَبِي أَنَا الْأَعْمَشِ عَنْ [2] مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ حَدَّثَنَا خَبَّابٌ قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ فَاجْتَمَعَ مَالِي عِنْدَهُ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ [فَلَا] [3] ، قَالَ: وَإِنِّي لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ؟ قلت: نعم، قال: [و] [4] إنه سَيَكُونُ لِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأِقْضِيَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً (77) .
[سورة مريم (19) : الآيات 78 الى 85]
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85)
__________
1410- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- حفص والد عمر هو ابن غياث، الأعمش سليمان بن مهران، مسلم هو ابن صبيح، مسروق هو ابن الأجدع، خباب بن الأرت.
- وهو في «صحيح البخاري» 2275 من طريق عمر بن حفص بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 4732 و4733 ومسلم 2795 ح 36 والترمذي 3162 وأحمد 5/ 110 وابن حبان 5010 من طرق عن سفيان عن الأعمش به.
- وأخرجه البخاري 2091 و2425 و4734 و4735 ومسلم 2795 والنسائي في «التفسير» 342 وأحمد 1/ 111 وابن حبان 4885 والواحدي في «أسباب النزول» 610 و611 والطبراني 3651 و3652 و3654 من طرق عن الأعمش به.
(1) في المخطوط «فيه» .
(2) تصحف في المطبوع «بن» .
(3) سقط من المطبوع.
(4) زيادة عن «صحيح البخاري» .(3/250)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَنَظَرَ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَعَلِمَ [عِلْمَ] [1] الْغَيْبِ حَتَّى يَعْلَمَ أَفِي الْجَنَّةِ هُوَ أَمْ لَا؟ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً، يَعْنِي قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي عمل عَمَلًا صَالِحًا قَدَّمَهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عهد إِلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ.
كَلَّا، رَدَّ عَلَيْهِ يَعْنِي لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، سَنَكْتُبُ، سَنَحْفَظُ عَلَيْهِ، مَا يَقُولُ، فَنُجَازِيهِ بِهِ فِي الْآخِرَةِ. وقيل: نأمر الْمَلَائِكَةَ حَتَّى يَكْتُبُوا مَا يَقُولُ. وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا، أَيْ نَزِيدُهُ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: نُطِيلُ مُدَّةَ عَذَابِهِ.
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ، أَيْ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ بِإِهْلَاكِنَا إِيَّاهُ وَإِبْطَالِ مُلْكِهِ وَقَوْلُهُ مَا يَقُولُ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ لَهُ مَالًا وَوَلَدًا فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لَا يعطيه ويعطي غَيْرَهُ فَيَكُونُ الْإِرْثُ رَاجِعًا إِلَى مَا تَحْتَ الْقَوْلِ لَا إِلَى نَفْسِ الْقَوْلِ. وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ أَيْ: نَحْفَظُ مَا يَقُولُ حَتَّى نُجَازِيَهُ بِهِ، وَيَأْتِينا فَرْداً، يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلَا مال ولا ولد.
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً يَعْنِي مُشْرِكِي قُرَيْشٍ اتَّخَذُوا الْأَصْنَامَ آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا، لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا، أي منعة، يعني يكونون لَهُمْ شُفَعَاءَ يَمْنَعُونَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ.
كَلَّا، أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زعموا، سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ، أي يجحد الْأَصْنَامُ وَالْآلِهَةُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عبادة المشركين ويتبرؤون مِنْهُمْ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى [عنهم] [2] تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ مَا كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ [الْقَصَصِ: 63] ، وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا، أَيْ أَعْدَاءً لَهُمْ، وَكَانُوا أَوْلِيَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ:
أَعْوَانًا عَلَيْهِمْ يكذبونهم ويلعنونهم.
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ، أَيْ سَلَّطْنَاهُمْ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ حِينَ قَالَ لِإِبْلِيسَ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء: 64] ، الآية، تَؤُزُّهُمْ أَزًّا، تُزْعِجُهُمْ إِزْعَاجًا مِنَ الطَّاعَةِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، وَالْأَزُّ وَالْهَزُّ التَّحْرِيكُ أَيْ تُحَرِّكُهُمْ وَتَحُثُّهُمْ عَلَى المعاصي.
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ، أَيْ لَا [تُعَجِّلُ بِطَلَبِ] [3] عُقُوبَتِهِمْ، إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ وَالشُّهُورَ وَالْأَعْوَامَ. وَقِيلَ: الْأَنْفَاسَ الَّتِي يَتَنَفَّسُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا إِلَى الْأَجَلِ الَّذِي أُجِّلَ لعذابهم.
قوله: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) أَيْ اذْكُرْ لَهُمْ يَا محمد اليوم الذي يجتمع فِيهِ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ فِي الدنيا بطاعته إلى الرحمن، أي إِلَى جَنَّتِهِ وَفْدًا أَيْ جَمَاعَاتٍ جَمْعُ وَافِدٍ، مِثْلُ رَاكِبٍ وَرَكْبٍ، وَصَاحِبٍ وَصَحْبٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: رُكْبَانًا. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: عَلَى الْإِبِلِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: مَا يُحْشَرُونَ وَاللَّهِ عَلَى أَرْجُلِهِمْ وَلَكِنْ عَلَى نُوقٍ رِحَالُهَا الذَّهَبُ وَنَجَائِبُ سَرْجِهَا يَوَاقِيتُ إِنْ هَمُّوا بِهَا سَارَتْ وَإِنْ هَمُّوا بها طارت.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «تطلب» بدل المثبت. [.....](3/251)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
[سورة مريم (19) : الآيات 86 الى 91]
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ، الكافرين الكاذبين، إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً، أَيْ: مُشَاةً. وَقِيلَ: عِطَاشًا قَدْ تَقَطَّعَتْ أَعْنَاقُهُمْ مِنَ الْعَطَشِ. وَالْوِرْدُ جَمَاعَةٌ يَرِدُونَ الْمَاءَ وَلَا يَرِدُ أَحْدٌ الْمَاءَ إلا بعد العطش.
لَا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) ، يَعْنِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: معناه لا يشفع الشافعون لِمَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا يعني المؤمنين، كقوله: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الْأَنْبِيَاءِ:
28] ، وَقِيلَ: لَا يَشْفَعُ إِلَّا مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَيْ لَا يَشْفَعُ إِلَّا الْمُؤْمِنُ.
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) ، يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «وُلْدًا» بِضَمِّ الْوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ هَاهُنَا وَفِي الزُّخْرُفِ [81] وَسُورَةِ نُوحٍ [27] ، وَوَافَقَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ فِي سُورَةِ نُوحٍ، [وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَاللَّامِ] [1] ، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ الْعَرَبِ وَالْعُرْبِ وَالْعَجَمِ وَالْعُجْمِ.
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مُنْكَرًا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: عَظِيمًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَقَدْ قُلْتُمْ قَوْلًا عَظِيمًا. وَالْإِدُّ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَعْظَمُ الدَّوَاهِي.
تَكادُ السَّماواتُ، قَرَأَ نافع والكسائي يَكَادُ بِالْيَاءِ هَاهُنَا وَفِي حم (1) عسق (2) [الشورى: 1- 2] لِتُقَدِّمِ الْفِعْلِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ لِتَأْنِيثِ السَّمَوَاتِ، يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، هَاهُنَا وَفِي حم عسق بِالنُّونِ مِنَ الانفطار [قَرَأَ] [2] أَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ [3] وَافَقَ ابْنَ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ هَاهُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) [الانفطار: 1] والسَّماءُ مُنْفَطِرٌ [الْمُزَّمِّلِ: 18] ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ مِنَ التَّفَطُّرِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، يُقَالُ: انْفَطَرَ الشَّيْءُ وَتَفَطَّرَ أَيْ تَشَقَّقَ. وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، أي: تنكسر كسرا. وقيل:
تنشق الْأَرْضُ أَيْ تَنْخَسِفُ بِهِمْ، وَالِانْفِطَارُ فِي السَّمَاءِ أَنْ تُسْقَطَ عَلَيْهِمْ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَيْ تَنْطَبِقُ عليهم.
أَنْ دَعَوْا، أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنْ جَعَلُوا لِلرَّحْمنِ وَلَداً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ: فَزِعَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ، وَكَادَتْ أَنْ تَزُولَ وَغَضِبَتِ الْمَلَائِكَةُ وَاسْتَعَرَتْ جَهَنَّمُ حِينَ قَالُوا: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، ثُمَّ نَفَى اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ الْوَلَدَ فَقَالَ:
[سورة مريم (19) : الآيات 92 الى 98]
وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96)
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)
__________
(1) عبارة المخطوط «وقرأ أبو عمرو بفتح الواو واللام» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيد في المخطوط «بالياء» .(3/252)
وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) ، أَيْ مَا يَلِيقُ بِهِ اتِّخَاذُ الْوَلَدِ وَلَا يُوصَفُ بِهِ.
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ، أَيْ إِلَّا آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَبْداً ذَلِيلًا خَاضِعًا يَعْنِي [أَنَّ] [1] الْخَلْقَ كُلَّهُمْ عَبِيدُهُ [2] .
لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا أَيْ عَدَّ أَنْفَاسَهُمْ وَأَيَّامَهُمْ وَآثَارَهُمْ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ.
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) [أي] [3] وَحِيدًا لَيْسَ مَعَهُ مِنَ الدُّنْيَا شيء.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) أَيْ: مَحَبَّةً. قَالَ مُجَاهِدٌ: يُحِبُّهُمُ اللَّهُ ويحببهم إلى عباده المؤمنين.
«1411» أنا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ محمد الدوادي أَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ الصَّلْتِ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العبد قال لجبريل: قَدْ أَحْبَبْتُ فَلَانًا فَأَحِبَّهُ، فَيُحِبُّهُ جبريل، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَحَبَّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ في الأرض، وإذا أبغض [الله] [4] الْعَبْدَ» قَالَ مَالِكٌ لَا أَحْسَبُهُ إِلَّا قَالَ فِي الْبُغْضِ مِثْلَ ذَلِكَ.
قَالَ هَرِمُ بْنُ حَيَّانَ: مَا أَقْبَلَ عَبْدٌ بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا أَقْبَلَ اللَّهُ بِقُلُوبِ أَهْلِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِ حَتَّى يَرْزُقَهُ مَوَدَّتَهُمْ.
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ، أَيْ سَهَّلْنَا الْقُرْآنَ بِلِسَانِكَ يَا مُحَمَّدُ، لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ، يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ، وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا شِدَادًا فِي الْخُصُومَةِ، جَمْعُ الْأَلَدِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: صُمًّا عَنِ الْحَقِّ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَلَدُّ الظَّالِمُ الَّذِي لَا يَسْتَقِيمُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْأَلَدُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ وَيَدَّعِي الْبَاطِلَ.
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ، هَلْ تَرَى، وَقِيلَ: هَلْ تَجِدُ، مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً، أَيْ صَوْتًا، وَالرِّكْزُ الصوت الخفي قال الحسن: أي بَادُوا جَمِيعًا فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عين ولا أثر.
__________
1411- إسناده صحيح، رجاله رجال البخاري ومسلم سوى سهيل بن أبي صالح، من رجال مسلم، وروى له البخاري مقرونا، أبو مصعب هو أحمد بن أبي بكر. أبو صالح اسمه ذكوان مشهور بكنيته.
- وهو في «شرح السنة» 3364 بهذا الإسناد.
- وهو في «الموطأ» 2/ 953 و3/ 128 عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ به.
- وأخرجه مسلم 2637 وابن حبان 365 من طريقين عن مالك به.
- وأخرجه عبد الرزاق 19673 ومسلم 2637 والترمذي 3161 وأحمد 2/ 267 و341 والطيالسي 2436 وأبو نعيم في «الحلية» 7/ 141 و306 من طرق سهيل بن أبي صالح به.
- وأخرجه البخاري 3209 و6040 و7485 وأحمد 2/ 514 وابن حبان 364 وأبو نعيم في «الحلية» 3/ 258 من طريقين عن أبي هريرة به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «عبيد» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.(3/253)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
تفسير سورة طه
مكية [وهي مائة وأربع، وقيل: خمس وثلاثون آية] [1]
[سورة طه (20) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (1) مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6)
«1412» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَانِيُّ أَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ أَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ [2] حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ [3] عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ السُّورَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الْبَقَرَةُ مِنَ الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَأُعْطِيتُ طه وَالطَّوَاسِينَ مِنْ أَلْوَاحِ موسى [عليه السلام] [4] ، وَأُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْقُرْآنِ وَخَوَاتِيمَ السُّورَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الْبَقَرَةُ مِنَ كنز تَحْتِ الْعَرْشِ، وَأُعْطِيتُ الْمُفَصَّلَ نَافِلَةً» .
طه، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الطاء وكسر الهاء، ويكسرهما حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهِمَا، قِيلَ: هُوَ قَسَمٌ. وَقِيلَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ:
مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ يَا رَجُلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ يَا إِنْسَانُ بِلُغَةِ عك. وقال مقاتل:
مَعْنَاهُ طَإِ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْكَ يُرِيدُ فِي التَّهَجُّدِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كعب القرظي: هو قسم أقسم الله عزّ وجلّ
__________
1412- إسناده ضعيف لضعف أبي بكر الهذلي، وابن أبي أويس، فيه كلام، وأبو عنده مناكير، وكلاهما وثق، وعلة الحديث هي ضعف الهذلي، وهو سلّمى بن عبد الله بن سلّمى البصري، ابن أبي أويس هو إسماعيل بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله بن أويس الأصبحي، عكرمة هو مولى ابن عباس.
- وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» 4/ 515 لابن مردويه وحده!.
- وله شاهد من حديث معقل بن يسار:
- أخرجه الحاكم 1/ 568/ 2087 والبيهقي في «الشعب» 2478 وإسناده ضعيف جدا، صححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: عبيد الله بن أبي حميد، قال أحمد: تركوا حديثه.
(1) زيد في المطبوع.
(2) تصحف في المخطوط «إدريس» .
(3) تصحف في المخطوط «الهزلي» .
(4) زيادة عن المخطوط.(3/254)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
بِطَوْلِهِ وَهِدَايَتِهِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: الطاء افتتاح اسمه طاهر والهاء افتتاح اسمه هاد.
ع «1413» قال الْكَلْبِيُّ: لَمَّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ بِمَكَّةَ اجْتَهَدَ فِي الْعِبَادَةِ حَتَّى كَانَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لِطُولِ قِيَامِهِ وَكَانَ يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخَفِّفَ عن [1] نَفْسِهِ فَقَالَ:
مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) .
ع «1414» وَقِيلَ: لَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ اجْتِهَادَهُ في العبادة فقالوا مَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا لِشَقَائِكَ، فَنَزَلَتْ: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) أَيْ لِتَتَعَنَّى وَتَتْعَبَ، وَأَصْلُ الشَّقَاءِ فِي اللُّغَةِ الْعَنَاءُ.
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) ، أَيْ لَكِنْ أَنْزَلْنَاهُ عِظَةً لِمَنْ يَخْشَى. وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى.
تَنْزِيلًا، بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ تَذْكِرَةً، مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ أَيْ مِنَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ، وَالسَّماواتِ الْعُلى، يَعْنِي الْعَالِيَةَ الرَّفِيعَةَ وَهِيَ جَمْعُ العليا كقولهم كُبْرَى وَكُبَرُ وَصُغْرَى وَصُغَرُ.
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) .
لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما، يَعْنِي الْهَوَاءَ، وَما تَحْتَ الثَّرى، وَالثَّرَى هُوَ التُّرَابُ الندي [و] [2] قال الضحاك: يعني ما وارى الثَّرَى مِنْ شَيْءٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْأَرَضِينَ عَلَى ظَهْرِ النُّونِ وَالنُّونُ عَلَى بَحْرٍ وَرَأْسُهُ وَذَنَبُهُ يَلْتَقِيَانِ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَالْبَحْرُ عَلَى صَخْرَةٍ خَضْرَاءَ خُضْرَةُ السَّمَاءِ مِنْهَا، وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي قِصَّةِ لُقْمَانَ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ، وَالصَّخْرَةُ عَلَى قَرْنِ ثَوْرٍ وَالثَّوْرُ عَلَى الثَّرَى، وَمَا تَحْتَ الثَّرَى لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الله، وَذَلِكَ الثَّوْرُ فَاتِحٌ فَاهُ فَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْبِحَارَ بَحْرًا وَاحِدًا سَالَتْ فِي جَوْفِ ذَلِكَ الثَّوْرِ، فَإِذَا وَقَعَتْ فِي جوفه يبست [3] .
[سورة طه (20) : الآيات 7 الى 14]
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى نَارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يَا مُوسى (11)
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14)
ع
__________
1413- ساقه المصنف هاهنا بدون إسناد، وإسناده إلى الكلبي أول الكتاب، وهو إسناد ساقط، الكلبي هو محمد بن السائب، متروك الحديث متهم بالكذب، ليس بأهل للرواية عنه.
- وورد بنحوه من حديث علي، أخرجه البزار 2232 «كشف» وإسناده ضعيف لضعف يزيد بن بلال وكيسان أبي عمرو، وانظر «المجمع» 7/ 56 و «الكشاف» 3/ 51 بتخريجي. [.....]
1414- أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 614 عن الضحاك مرسلا.
- وفي إسناده جويبر بن سعيد، وهو ضعيف جدا كما في «التقريب» .
(1) في المطبوع «على» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) هذا الأثر من الإسرائيليات المنكرة الباطلة، ولا يصح عن ابن عباس.(3/255)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ، أَيْ تُعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى، قَالَ الْحَسَنُ: السِّرُّ مَا أَسَرَّ [1] الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَخْفَى مِنْ ذلك ما أسر في [2] نفسه. [ولم يعلم به أحد إلا الله] [3] . وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: السِّرُّ مَا تُسِرُّ فِي نَفْسِكَ وَأَخْفَى مِنَ السِّرِّ مَا يلقيه عَزَّ وَجَلَّ فِي قَلْبِكَ مِنْ بَعْدُ وَلَا تَعْلَمُ أَنَّكَ سَتُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ لِأَنَّكَ تَعْلَمُ مَا تُسِرُّ بِهِ الْيَوْمَ وَلَا تَعْلَمُ مَا تُسِرُّ بِهِ غَدًا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا أَسْرَرْتَ الْيَوْمَ وَمَا تُسِرُّ بِهِ غَدًا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ السِّرُّ مَا أَسَرَّ ابْنُ آدَمَ فِي نَفْسِهِ، وَأَخْفَى مَا خَفِيَ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ قبل أن يعمله. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: السِّرُّ الْعَمَلُ الَّذِي تَسِرُّونَ [4] مِنَ النَّاسِ، وَأَخْفَى: الْوَسْوَسَةُ.
وَقِيلَ: السِّرُّ هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَأَخْفَى: مَا يَخْطُرُ عَلَى الْقَلْبِ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى أَيْ يَعْلَمُ أَسْرَارَ الْعِبَادِ، وَأَخْفَى سِرَّهُ عن [5] عِبَادِهِ فَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ، ثُمَّ وَحَّدَ نَفْسَهَ، فَقَالَ:
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) .
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) ، أَيْ: قَدْ أَتَاكَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التقرير.
إِذْ رَأى نَارًا، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى اسْتَأْذَنَ شُعَيْبًا فِي الرُّجُوعِ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ لِزِيَارَةِ وَالِدَتِهِ وَأُخْتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ بِأَهْلِهِ، وَمَالِهِ، وَكَانَتْ أَيَّامَ الشِّتَاءِ، فأخذ على غير الطريق مخافة من ملوك الشام وامرأته في شهرها [6] لا تدري أليلا تضع أَمْ نَهَارًا، فَسَارَ فِي الْبَرِيَّةِ غَيْرَ عَارِفٍ بِطُرُقِهَا، فَأَلْجَأَهُ الْمَسِيرُ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الْغَرْبِيِّ الْأَيْمَنِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ مُثَلَّجَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ الطَّلْقُ فَقَدَحَ زنده فلم يور.
وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا غيورا وكان يَصْحَبُ الرُّفْقَةَ بِاللَّيْلِ وَيُفَارِقُهُمْ بِالنَّهَارِ لِئَلَّا تُرَى امْرَأَتُهُ فَأَخْطَأَ مَرَّةً الطَّرِيقَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ شَاتِيَةٍ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ من كرامته [وإظهار رسالته] [7] ، فَجَعَلَ يَقْدَحُ الزَّنْدَ فَلَا يُوَرِي، فَأَبْصَرَ نَارًا مِنْ بَعِيدٍ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ، فَقالَ لِأَهْلِهِ [لزوجته] [8] امْكُثُوا، أَقِيمُوا، قَرَأَ حَمْزَةُ بِضَمِّ الْهَاءِ هَاهُنَا وَفِي الْقَصَصِ [29] ، إِنِّي آنَسْتُ، أَيْ أَبْصَرْتُ، نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ، [أي شُعْلَةٍ] [9] مِنْ نَارٍ، وَالْقَبَسُ قِطْعَةٌ من نار يأخذها فِي طَرَفِ عَمُودٍ مِنْ مُعْظَمِ النَّارِ، أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً، أَيْ أَجِدُ عِنْدَ النَّارِ مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى الطَّرِيقِ.
فَلَمَّا أَتاها، رَأَى شَجَرَةً خَضْرَاءَ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا أَطَافَتْ بِهَا نار بيضاء تتقد كأضوأ مَا يَكُونُ، فَلَا ضَوْءُ النَّارِ يُغَيِّرُ خُضْرَةَ الشَّجَرَةِ وَلَا خُضْرَةُ الشَّجَرَةِ تُغَيِّرُ ضَوْءَ النَّارِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانَتِ الشَّجَرَةُ سَمُرَةً خَضْرَاءَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَتْ مِنَ الْعَوْسَجِ. وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَتْ مِنَ الْعَلِيقِ. وَقِيلَ:
كَانَتْ شجرة العناب، وَرَوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عنهما، وقال أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِي رَآهُ مُوسَى نَارًا بَلْ كَانَ نُورًا ذُكِرَ بِلَفْظِ النَّارِ لِأَنَّ مُوسَى حَسِبَهُ نَارًا. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ نُورُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ النَّارُ بِعَيْنِهَا وَهِيَ إِحْدَى حُجُبِ اللَّهِ تَعَالَى، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا:
«1415» رُوِّينَا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «حجابه النار لو كشفها الله لأحرقت
__________
1415- تقدم في تفسير سورة البقرة عند آية: 255 خرجه مسلم وغيره.
(1) في المطبوع «أسره» .
(2) في المخطوط «من» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «تسره» والمثبت عن المخطوط و «الدر المنثور» 4/ 519.
(5) في المطبوع «من» .
(6) في المطبوع «سقمها» .
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) زيادة عن المخطوط.
(9) في المطبوع «قطعة» . [.....](3/256)
سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» .
وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ مُوسَى أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الحشيش اليابس وقصد الشجرة فكان كُلَّمَا دَنَا نَأَتْ مِنْهُ النَّارُ، وَإِذَا نَأَى دَنَتْ، فَوَقَفَ مُتَحَيِّرًا فسمع تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ، وَأُلْقِيَتْ عَلَيْهِ السَّكِّينَةُ، نُودِيَ يَا مُوسى.
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كثير وأبو عمرو، وإني بِفَتْحِ الْأَلِفِ عَلَى مَعْنَى نُودِيَ بِأَنِّي، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ أَيْ نُودِيَ، فَقِيلَ: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، قَالَ وَهْبٌ: نُودِيَ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَقِيلَ يَا مُوسَى فَأَجَابَ سَرِيعًا لَا يَدْرِي مَنْ دَعَاهُ، فَقَالَ إِنِّي أَسْمَعُ صَوْتَكَ وَلَا أَرَى مَكَانَكَ فَأَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فَوْقَكَ وَمَعَكَ، وَأَمَامَكَ وَخَلْفَكَ وَأَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ فَعَلِمَ أَنْ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ فَأَيْقَنَ بِهِ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ:
«1416» مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا فِي قَوْلِهِ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، قَالَ: «كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ» . وَيُرْوَى «غَيْرُ مَدْبُوغٍ» . وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: أُمِرَ بِخَلْعِ النَّعْلَيْنِ لِيُبَاشِرَ بِقَدَمِهِ تُرَابَ الْأَرْضِ المقدسة، فتناله بَرَكَتُهَا لِأَنَّهَا قُدِّسَتْ مَرَّتَيْنِ، فَخَلَعَهُمَا مُوسَى وَأَلْقَاهُمَا مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ، أَيِ الْمُطَهَّرِ، طُوىً، وَطُوًى اسم الوادي، قرأ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَالشَّامِ: «طُوًى» بِالتَّنْوِينِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [16] ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِلَا تَنْوِينٍ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ به عَنْ طَاوٍ فَلَمَّا كَانَ مَعْدُولًا عَنْ وَجْهِهِ كَانَ مَصْرُوفًا عَنْ إِعْرَابِهِ، مِثْلُ عُمْرَ وَزُفَرَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: طُوًى وَادٍ مُسْتَدِيرٌ عَمِيقٌ مِثْلُ الطَّوِيِّ فِي اسْتِدَارَتِهِ.
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ، اصْطَفَيْتُكَ بِرِسَالَاتِي [1] ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَأَنَّا مُشَدَّدَةَ النُّونِ، اخْتَرْنَاكَ عَلَى التَّعْظِيمِ.
فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى، إِلَيْكَ.
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي، وَلَا تَعْبُدْ غَيْرِي، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِتَذْكُرَنِي فِيهَا [2] ، وقال مقاتل: إذا تركت صلاة ثُمَّ ذَكَرْتَهَا، فَأَقِمْهَا.
«1417» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو عُمَرَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بن عبد الله
__________
1416- باطل، أخرجه الترمذي 1734 والحاكم 2/ 379 والطبري 24038 وابن حبان في «المجروحين» 1/ 262 والذهبي في «الميزان» 1/ 615 وابن العربي في «أحكام القرآن» 1480 من طرق عن حميد بن عبد الله الأعرج عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عن ابن مسعود مرفوعا.
- وصححه الحاكم على شرط البخاري! وتعقبه الذهبي بقوله: بل ليس على شرط البخاري وإنما غره أن في الإسناد حميد بن قيس كذا، وهو خطأ. إنما هو حميد الأعرج الكوفي ابن علي أو ابن عمار، أحمد المتروكين فظنه المكي الصادق.
- وقال الترمذي: غريب، وحميد هو ابن علي، سمعت محمدا- البخاري- يقول: منكر الحديث.
- ونقل الذهبي في «الميزان» 1/ 615 عن ابن حبان في قوله: روى عن ابن مسعود نسخة كأنها موضوعة.
1417- صحيح. الحسين بن الفضل فمن دونه توبعوا، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- عفان بن مسلم، همام بن يحيى، قتادة بن دعامة.
- وهو في «شرح السنة» 395 بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 597 ومسلم 684 ح 314 وأبو داود 442 وأحمد 3/ 269 والطحاوي في «المعاني» 1/ 466
(1) في المخطوط «برسالتي» .
(2) في المطبوع «بها» .(3/257)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
الْحَفِيدُ أَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَجَلِيُّ [1] أَنَا عَفَّانُ أَنَا هَمَّامٌ أنا قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ نَسْيِ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» ، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي.
[سورة طه (20) : الآيات 15 الى 23]
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يَا مُوسى (19)
فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها، قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أخفيها وأكاد صِلَةٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا:
مَعْنَاهُ أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي، وَكَذَلِكَ هو فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي فَكَيْفَ يَعْلَمُهَا مَخْلُوقٌ» ، وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ [2] «فَكَيْفَ أُظْهِرُهَا لَكُمْ» وَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا بَالَغُوا فِي كِتْمَانِ الشَّيْءِ يَقُولُونَ كَتَمْتُ سِرَّكَ مِنْ نَفْسِي أَيْ أَخْفَيْتُهُ غَايَةَ الإخفاء والله تعالى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَالَ [الْأَخْفَشُ] [3] أَكَادُ أَيْ أُرِيدُ وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أُرِيدُ أُخْفِيهَا، وَالْمَعْنَى فِي إِخْفَائِهَا [4] التَّهْوِيلُ وَالتَّخْوِيفُ لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ كَانُوا عَلَى حَذَرٍ مِنْهَا كُلَّ وَقْتٍ، وَقَرَأَ الحسن [أخفيها] [5] بِفَتْحِ الْأَلِفِ أَيْ أُظْهِرُهَا، يُقَالُ: خَفِيتُ الشَّيْءَ إِذَا أَظْهَرْتَهُ وَأَخْفَيْتُهُ إِذَا سَتَرْتُهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى، أَيْ بِمَا تَعْمَلُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها، فَلَا يَصْرِفَنَّكَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ، مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ، مُرَادُهُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فَتَرْدى، أَيْ فَتَهْلَكَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى (17) ، سُؤَالُ تَقْرِيرٍ وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا السُّؤَالِ تَنْبِيهُهُ وَتَوْقِيفُهُ عَلَى أَنَّهَا عَصًا حَتَّى إِذَا قَلَبَهَا حَيَّةً عَلِمَ أنها مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهَذَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: هَلْ تَعْرِفُ هَذَا وَهُوَ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ يَعْرِفُهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْضَمَّ [6] إِقْرَارُهُ بِلِسَانِهِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِقَلْبِهِ.
قالَ هِيَ عَصايَ، قيل: وكان لَهَا شُعْبَتَانِ وَفِي أَسْفَلِهَا سِنَانٌ وَلَهَا مِحْجَنٌ، قَالَ مُقَاتِلٌ: اسْمُهَا نبعة، أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها، أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا إِذَا مَشَيْتُ وإذا عييت وَعِنْدَ الْوَثْبَةِ، وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي، أضرب
__________
وأحمد 3/ 269 والبيهقي 2/ 218 و456 من طرق عن همام به.
- وأخرجه مسلم 684 والترمذي 178 والنسائي 1/ 293 وابن ماجه 696 وأحمد 3/ 243 وابن حبان 1555 وأبو عوانة 2/ 252 والبيهقي 2/ 218 من طرق عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ به.
- وأخرجه مسلم 684 ح 315 وأحمد 3/ 100 والدارمي 1/ 280 وأبو عوانة 1/ 385 و2/ 260 من طرق عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عن قتادة به.
وانظر الحديث المتقدم في سورة الكهف عند آية: 24.
(1) تصحف في المطبوع «الجبلي» .
(2) في المطبوع «القراءة» .
(3) سقط من المطبوع.
(4) في المخطوط «حقائها» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المخطوط «يتضمن» .(3/258)
بِهَا الشَّجَرَةَ الْيَابِسَةَ لِيَسْقُطَ وَرَقُهَا فَتَرْعَاهُ الْغَنَمُ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَهُسُّ بِالسِّينِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ أَزْجُرُ بها الغنم، والهس زَجْرُ الْغَنَمِ، وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى، حَاجَاتٌ وَمَنَافِعُ أُخْرَى، جَمْعُ مَأْرَبَةٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ [وَضَمِّهَا] [1] وَلَمْ يقل أخر لرؤوس الآي، وأراد بالمئارب مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْعَصَا فِي السفر، فكان يَحْمِلُ بِهَا الزَّادَ وَيَشُدُّ بِهَا الْحَبْلَ فَيَسْتَقِي الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ، وَيَقْتُلُ بِهَا الْحَيَّاتِ وَيُحَارِبُ بِهَا السِّبَاعَ، وَيَسْتَظِلُّ بِهَا إِذَا قَعَدَ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ مُوسَى كَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهَا زَادَهُ وَسِقَاءَهُ، فَجَعَلَتْ تُمَاشِيهِ وتحادثه وَكَانَ يَضْرِبُ بِهَا الْأَرْضَ فَيَخْرُجُ مَا يَأْكُلُ يَوْمَهُ، وَيَرْكُزُهَا فَيَخْرُجُ الْمَاءُ فَإِذَا رَفَعَهَا ذَهَبَ الْمَاءُ وإذا اشتهى ثمرة ركزها فتفصّنت [2] غصنا كالشجرة وَأَوْرَقَتْ وَأَثْمَرَتْ، وَإِذَا أَرَادَ الِاسْتِقَاءَ مِنَ الْبِئْرِ أَدْلَاهَا فَطَالَتْ عَلَى طُولِ الْبِئْرِ وَصَارَتْ شُعْبَتَاهَا كَالدَّلْوِ حَتَّى يَسْتَقِيَ، وَكَانَتْ تُضِيءُ بِاللَّيْلِ بِمَنْزِلَةِ السِّرَاجِ، وَإِذَا ظَهَرَ لَهُ عَدُوٌّ كَانَتْ تُحَارِبُ وَتُنَاضِلُ عَنْهُ.
قالَ، اللَّهُ تَعَالَى، أَلْقِها يَا مُوسى، انْبِذْهَا، قَالَ وَهْبٌ: ظَنَّ مُوسَى أَنَّهُ يَقُولُ ارْفُضْهَا.
فَأَلْقاها، عَلَى وَجْهِ الرَّفْضِ [3] ثُمَّ حَانَتْ مِنْهُ نَظْرَةٌ، فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ، صَفْرَاءُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَّاتِ، تَسْعى، تَمْشِي بِسُرْعَةٍ عَلَى بَطْنِهَا وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخر: كَأَنَّها جَانٌّ [القصص: 31] وَهِيَ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ الْخَفِيفَةُ [4] الْجِسْمِ، وقال في موضع: [فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الأعراف: 107] ، وهي أَكْبَرُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَّاتِ، فَأَمَّا الْحَيَّةُ فَإِنَّهَا تَجْمَعُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَقِيلَ: الْجَآنُّ عِبَارَةٌ عَنِ ابْتِدَاءِ حَالِهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً عَلَى قَدْرِ الْعَصَا ثُمَّ كَانَتْ تَتَوَرَّمُ وَتَنْتَفِخُ حَتَّى صارت ثعبان، وَالثُّعْبَانُ عِبَارَةٌ عَنِ انْتِهَاءِ حَالِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي عِظَمِ الثعبان خفة [5] الْجَانِّ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: نَظَرَ مُوسَى فَإِذَا الْعَصَا حَيَّةٌ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَّاتِ صَارَتْ شُعْبَتَاهَا شِدْقَيْنِ لَهَا، والمحجن عنقا لها وَعُرْفًا تَهْتَزُّ كَالنَّيَازِكِ، وَعَيْنَاهَا تَتَّقِدَانِ كَالنَّارِ تَمُرُّ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ مِثْلَ الحلقة من الإبل، فتلتقمها وَتَقْصِفُ الشَّجَرَةَ الْعَظِيمَةَ بِأَنْيَابِهَا، وَيُسْمَعُ لِأَسْنَانِهَا صَرِيفٌ عَظِيمٌ، فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ مُوسَى وَلَّى مُدْبِرًا وَهَرَبَ، ثُمَّ ذَكَرَ رَبَّهُ فَوَقَفَ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، ثُمَّ نُودِيَ أَنْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَارْجِعْ حَيْثُ كُنْتَ، فَرَجَعَ وَهُوَ شَدِيدُ الْخَوْفِ.
قالَ خُذْها، بِيَمِينِكَ، وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى، هَيْئَتَهَا الْأُولَى أَيْ نَرُدُّهَا عَصًا كَمَا كَانَتْ، وَكَانَ عَلَى مُوسَى مُدَرَّعَةٌ مِنْ صُوفٍ قد خللها بِعِيدَانٍ [6] فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: خُذْها وَلا تَخَفْ لَفَّ طَرَفَ الْمُدَرَّعَةِ عَلَى يَدِهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكْشِفَ يده فكشفها، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ لَمَّا لَفَّ كُمَّ الْمُدَرَّعَةِ عَلَى يَدِهِ قَالَ لَهُ مَلَكٌ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَذِنَ اللَّهُ بِمَا تُحَاذِرُهُ أَكَانَتِ الْمُدَرَّعَةُ تُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا [7] ولكن ضَعِيفٌ وَمِنْ ضَعْفٍ خُلِقْتُ، فَكَشَفَ عَنْ يَدِهِ ثُمَّ وَضَعَهَا [فِي فَمِ الْحَيَّةِ] [8] فَإِذَا هِيَ عَصًا كَمَا كَانَتْ وَيَدُهُ فِي شُعْبَتِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ يَضَعُهَا إِذَا تَوَكَّأَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُرِيَ مُوسَى مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا مَخْلُوقٌ لِئَلَّا يَفْزَعَ مِنْهَا إِذَا أَلْقَاهَا عند فرعون. وقوله: سِيرَتَهَا نصب
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «فجعلت تماشيه» .
(3) في المطبوع وحده «الأرض» . [.....]
(4) في المخطوط «الخفية» .
(5) في المطبوع «سرعة» .
(6) زيد في المطبوع «من الخلال» .
(7) في المخطوط «بلى» .
(8) زيادة عن المخطوط.(3/259)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)
بِحَذْفِ إِلَى يُرِيدُ إِلَى سِيرَتِهَا «الْأُولَى» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ، يعني إِبْطِكَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: تَحْتَ عَضُدِكَ، وَجَنَاحُ الْإِنْسَانِ عَضُدُهُ إِلَى أَصْلِ إِبْطِهِ، تَخْرُجْ بَيْضاءَ، نَيِّرَةً مُشْرِقَةً، مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، مِنْ غَيْرِ عيب [قال مجاهد] [1] :
وَالسُّوءُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْبَرَصِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ لِيَدِهِ نُورٌ سَاطِعٌ يُضِيءُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَضَوْءِ الشمس والقمر، آيَةً أُخْرى، يعني دَلَالَةً أُخْرَى عَلَى صِدْقِكَ سِوَى الْعَصَا.
لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) ، ولم يقل الكبر لرؤوس الْآيِ. وَقِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ مَعْنَاهُ لنريك من آياتنا [الآية] [2] الْكُبْرَى، دَلِيلُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ يَدُ مُوسَى أَكْبَرَ آيَاتِهِ.
[سورة طه (20) : الآيات 24 الى 38]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38)
قوله تَعَالَى: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) ، يعني جَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْعِصْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ، فَادْعُهُ إِلَى عِبَادَتِي.
قالَ، مُوسَى، رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَسِّعْهُ لِلْحَقِّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ حَتَّى لَا أَخَافَ غَيْرَكَ، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى كَانَ يَخَافُ فِرْعَوْنَ خَوْفًا شَدِيدًا لِشِدَّةِ شَوْكَتِهِ وَكَثْرَةِ جُنُودِهِ، وَكَانَ يَضِيقُ صَدْرًا بِمَا كلّف من مقاومة فرعون وجنده، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ قَلْبَهُ لِلْحَقِّ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مَضَرَّتِهِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ لم يخف فرعون مع [3] شدة شَوْكَتِهِ وَكَثْرَةَ جُنُودِهِ.
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) ، يعني سَهِّلْ عَلَيَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَى فِرْعَوْنَ.
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) ، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى كَانَ فِي حَجْرِ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي صِغَرِهِ، فَلَطَمَ فِرْعَوْنَ لَطْمَةً وَأَخْذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ لِآسِيَةَ امْرَأَتِهِ: إِنَّ هَذَا عَدُوِّي وَأَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَقَالَتْ آسِيَةُ: إِنَّهُ صَبِيٌّ لَا يَعْقِلُ وَلَا يُمَيِّزُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ أُمَّ مُوسَى لَمَّا فَطَمَتْهُ رَدَّتْهُ فَنَشَأَ مُوسَى فِي حَجْرِ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتِهِ آسِيَةَ يُرَبِّيَانِهِ، وَاتَّخَذَاهُ وَلَدًا فَبَيْنَمَا هُوَ يَلْعَبُ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ وَبِيَدِهِ قَضِيبٌ يَلْعَبُ بِهِ إِذْ رَفَعَ الْقَضِيبَ فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَ فِرْعَوْنَ، فَغَضِبَ فِرْعَوْنُ [وَتَطَيَّرَ بِضَرْبِهِ] [4] حَتَّى هَمَّ بقتله، فقالت [له] [5] آسِيَةُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ صَغِيرٌ لَا يَعْقِلُ فَجَرِّبْهُ إِنْ شِئْتَ، فجاءت بطستين فِي أَحَدِهِمَا الْجَمْرُ وَفِي الْآخَرِ الْجَوَاهِرُ، فَوَضَعَتْهُمَا بَيْنَ يَدَيْ مُوسَى فأراد [موسى] [6] أَنْ يَأْخُذَ الْجَوَاهِرَ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ بِيَدِ مُوسَى فَوَضَعَهَا عَلَى النَّارِ فأخذ جمرة فوضعها في فيه [7] فأحرقت لِسَانُهُ وَصَارَتْ عَلَيْهِ عُقْدَةٌ.
يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) ، يَقُولُ احْلُلِ الْعُقْدَةَ كَيْ يفقهوا كلامي.
__________
(1) سقط من المطبوع.
(2) زيد في المطبوع «عن» .
(3) في المطبوع «و» .
(4) في المخطوط «من ذلك» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المطبوع «فمه» .(3/260)
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً، مُعِينًا وَظَهِيرًا، مِنْ أَهْلِي وَالْوَزِيرُ مَنْ يُوَازِرُكَ وَيُعِينُكَ وَيَتَحَمَّلُ عَنْكَ بَعْضَ ثِقَلِ عَمَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ هُوَ فَقَالَ:
هارُونَ أَخِي (30) ، وَكَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى بِأَرْبَعِ سِنِينَ وَكَانَ أَفْصَحَ مِنْهُ لِسَانًا وَأَجْمَلَ وأوسم، أبيض اللَّوْنِ، وَكَانَ مُوسَى آدَمَ أَقْنَى أجعد.
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) ، قَوِّ بِهِ ظهري.
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) ، يعني فِي النُّبُوَّةِ وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «أَشْدُدْ» بِفَتْحِ الْأَلِفِ «وَأُشْرِكْهُ» بِضَمِّهَا عَلَى الْجَوَابِ حِكَايَةً عن موسى يعني أَفْعَلُ ذَلِكَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ عَلَى الدُّعَاءِ، وَالْمَسْأَلَةِ عَطْفًا عَلَى مَا تقدم من قوله: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) .
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: نُصَلِّي لَكَ كَثِيرًا.
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) ، نَحْمَدُكَ وَنُثْنِي عَلَيْكَ بِمَا أَوْلَيْتَنَا مِنْ نِعَمِكَ.
إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) ، خَبِيرًا عَلِيمًا.
قالَ، اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أُوتِيتَ، أُعْطِيتَ، سُؤْلَكَ، جَمِيعَ مَا سَأَلْتَهُ، يَا مُوسى.
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ، أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ، مَرَّةً أُخْرى، يَعْنِي قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ وَهِيَ:
إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ، وَحْيُ إِلْهَامٍ، مَا يُوحى، مَا يُلْهَمُ. ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ الْإِلْهَامَ وَعَدَّدَ نِعَمَهُ عليه فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 39 الى 40]
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ، يعني أَلْهَمْنَاهَا أَنِ اجْعَلِيهِ فِي التَّابُوتِ، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، يَعْنِي نَهْرَ النِّيلِ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، يَعْنِي شاطىء النَّهْرِ، لَفْظُهُ أَمْرٌ وَمَعْنَاهُ خَبَرٌ، ومجازه حَتَّى يُلْقِيَهُ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ، يَعْنِي فِرْعَوْنَ، فَاتَّخَذَتْ تَابُوتًا وَجَعَلَتْ فِيهِ قُطْنًا مَحْلُوجًا وَوَضَعَتْ فِيهِ مُوسَى وَقَيَّرَتْ رَأْسَهَ وَخَصَاصَهُ يَعْنِي شُقُوقَهُ ثُمَّ أَلْقَتْهُ فِي النِّيلِ، وَكَانَ يَشْرَعُ مِنْهُ نَهْرٌ كَبِيرٌ فِي دَارِ فِرْعَوْنَ، فَبَيْنَمَا فِرْعَوْنُ جَالِسٌ عَلَى رَأْسِ الْبِرْكَةِ مَعَ امْرَأَتِهِ آسية إذ التابوت [1] يَجِيءُ بِهِ الْمَاءُ فَأَمَرَ الْغِلْمَانَ وَالْجَوَارِيَ بِإِخْرَاجِهِ، فَأَخْرَجُوهُ وَفَتَحُوا رَأْسَهُ فَإِذَا صَبِيٌّ مِنْ أَصْبَحِ النَّاسِ وَجْهًا، فَلَمَّا رَآهُ فِرْعَوْنُ أَحَبَّهُ بحيث لم يتمالك [لبه في محبته] [2] ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحَبَّهُ وَحَبَّبَهُ إِلَى خَلْقِهِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: مَا رَآهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ. قَالَ قَتَادَةُ: مَلَاحَةٌ كَانَتْ فِي عَيْنَيْ مُوسَى، مَا رَآهُ أَحَدٌ إِلَّا عَشِقَهُ. وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي، أي لِتُرَبَّى بِمَرْأَى وَمَنْظَرٍ مِنِّي، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَلِتُصْنَعَ بِالْجَزْمِ.
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ، وَاسْمُهَا مَرْيَمُ مُتَعَرِّفَةً خَبَرَهُ، فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ، أَيْ عَلَى امْرَأَةٍ تُرْضِعُهُ وَتَضُمُّهُ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْبَلُ ثَدْيَ امْرَأَةٍ فلما قالت لهم أخته ذلك قالوا: نعم، فجاءت بالأم [فضمته وألقمته ثديها] [3] فَقَبِلَ ثَدْيَهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
__________
(1) في المطبوع «إذ تابوت» .
(2) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3) زيادة عن المخطوط.(3/261)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها، بِلِقَائِكَ، وَلا تَحْزَنَ، أَيْ ليذهب عَنْهَا الْحَزَنُ، وَقَتَلْتَ نَفْساً، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ قَتَلَ قِبْطِيًّا كَافِرًا. قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: كَانَ إِذْ ذَاكَ ابْنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ، أَيْ مِنْ غَمِّ الْقَتْلِ وَكَرْبِهِ، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اخْتَبَرْنَاكَ اخْتِبَارًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلَاءً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَخْلَصْنَاكَ إِخْلَاصًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْفُتُونَ وُقُوعُهُ فِي مِحْنَةٍ بَعْدَ مِحْنَةٍ خَلَّصَهُ اللَّهُ مِنْهَا، أَوَّلُهَا أَنَّ أُمَّهُ حَمَلَتْهُ فِي السَّنَةِ التي كان فرعون يذبح فيها الْأَطْفَالَ، ثُمَّ إِلْقَاؤُهُ فِي الْبَحْرِ فِي التَّابُوتِ، ثُمَّ مَنْعُهُ الرِّضَاعَ إِلَّا مِنْ ثَدْيِ أُمِّهِ، ثُمَّ أَخْذُهُ بِلِحْيَةِ فِرْعَوْنَ حَتَّى هَمَّ بِقَتْلِهِ، ثُمَّ تَنَاوُلُهُ الْجَمْرَةَ بَدَلَ الدرة، ثم قتله القبطي، ثم خروجه إِلَى مَدْيَنَ خَائِفًا فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُصُّ الْقِصَّةَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى فتناك خَلَّصْنَاكَ مِنْ تِلْكَ الْمِحَنِ كَمَا يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ فَيُخَلَّصُ مَنْ كُلِّ خَبَثٍ فِيهِ، وَالْفُتُونُ مَصْدَرٌ، فَلَبِثْتَ
، فَمَكَثْتَ أَيْ فَخَرَجْتَ مِنْ أرض مصر إلى مدين فَلَبِثْتَ، سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ، يعني ترعى الأغنام [لشعيب] [1] عَشْرَ سِنِينَ، وَمَدْيَنُ بَلْدَةُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ثَمَانِ مَرَاحِلَ مِنْ مِصْرَ، هَرَبَ إِلَيْهَا مُوسَى.
وَقَالَ وَهْبٌ: لَبِثَ عِنْدَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، عشر سنين منها مهر [زوجته صفوراء بِنْتُ] [2] شُعَيْبٍ، وَثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً أَقَامَ عِنْدَهُ حَتَّى وُلِدَ لَهُ، ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى، قَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى مَوْعِدٍ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَوْعِدُ مَعَ مُوسَى وَإِنَّمَا كَانَ مَوْعِدًا فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ:
جِئْتَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي قَدَّرْتُ لك أنك تجيء إليّ فيه. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَيْسَانَ: عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُوحَى فِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، أَيْ عَلَى الْمَوْعِدِ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً.
[سورة طه (20) : الآيات 41 الى 48]
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45)
قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) ، أَيِ اخْتَرْتُكَ وَاصْطَفَيْتُكَ لِوَحْيِي وَرِسَالَتِي، يعني لتتصرف عَلَى إِرَادَتِي وَمَحَبَّتِي وَذَلِكَ أَنَّ قِيَامَهُ بِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ تَصَرُّفٌ عَلَى إِرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، قَالَ الزَّجَّاجُ:
اخْتَرْتُكَ لِأَمْرِي وَجَعَلْتُكَ الْقَائِمَ بِحُجَّتِي وَالْمُخَاطَبَ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي، كَأَنِّي الَّذِي أَقَمْتُ بِكَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَخَاطَبْتُهُمُ.
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي، بدلالاتي، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْآيَاتِ التِّسْعَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا مُوسَى وَلا تَنِيا، ولا تَضْعُفَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا تَفْتُرَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَا تُقَصِّرَا، فِي ذِكْرِي.
اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْحِجَازِ: لِنَفْسِي اذْهَبْ، وذِكْرِي اذْهَبا، وإِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا ومِنْ بَعْدِي اسْمُهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ فِيهِنَّ وَوَافَقَهُمْ أَبُو بكر:
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «ابنته صغير ابنة» .(3/262)
مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ [1] بِإِسْكَانِهَا.
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً، يقول دارياه وارفقا بِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنه: لا تعنفا في قولكما [له] [2] ، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَعِكْرِمَةُ: كَنِّيَاهُ فَقُولَا يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، وَقِيلَ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بالقول اللَّيِّنَ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) [النازعات: 18- 19] ، وقيل: أمرهما بِاللَّطَافَةِ فِي الْقَوْلِ لِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ التَّرْبِيَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْقَوْلُ اللَّيِّنُ أَنَّ مُوسَى أَتَاهُ وَوَعَدَهُ عَلَى قَبُولِ الْإِيمَانِ شَبَابًا لا يهرم معه وَمُلْكًا لَا يُنْزَعُ مِنْهُ إِلَّا بالموت، ويبقى له لَذَّةُ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ، وَإِذَا مَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَكَانَ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَ هَامَانَ، وَكَانَ غَائِبًا فَلَمَّا قَدِمَ أَخْبَرَهُ بِالَّذِي دَعَاهُ إِلَيْهِ مُوسَى، وَقَالَ أَرَدْتُ أَنْ أَقْبَلَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ هَامَانُ: كُنْتُ أَرَى أَنَّ لَكَ عَقْلًا وَرَأْيًا أَنْتَ رَبٌّ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مَرْبُوبًا وَأَنْتَ تُعْبَدُ تريد أن تعبد، فغلبه على رَأْيِهِ، وَكَانَ هَارُونُ يَوْمَئِذٍ بِمِصْرَ، فَأَمْرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَ هَارُونَ وَأَوْحَى إِلَى هَارُونَ وَهُوَ بِمِصْرَ أَنْ يَتَلَقَّى مُوسَى فَتَلَقَّاهُ إِلَى [3] مَرْحَلَةٍ وَأَخْبَرَهُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى، أَيْ يَتَّعِظُ وَيَخَافُ فَيُسْلِمُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ وقد سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يُسْلِمُ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ اذْهَبَا عَلَى رَجَاءٍ مِنْكُمَا وَطَمَعٍ وَقَضَاءُ اللَّهِ وَرَاءَ أَمْرِكُمَا. وَقَالَ الْحُسَيْنُ [4] بْنُ الْفَضْلِ: هُوَ يَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِ فِرْعَوْنَ مَجَازُهُ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ [مُتَذَكِّرٌ] [5] وَيَخْشَى خَاشٍ إِذَا رَأَى بِرِّي وَأَلْطَافِي بِمَنْ خَلَقْتُهُ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَرَّاقُ: لَعَلَّ مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ، وَلَقَدْ تَذَكَّرَ فِرْعَوْنُ وَخَشِيَ حِينَ لَمْ تَنْفَعْهُ الذِّكْرَى وَالْخَشْيَةُ وَذَلِكَ حِينَ أَلْجَمَهُ الْغَرَقُ، قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ هَذِهِ الآية: فقالا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا، فَبَكَى يَحْيَى، وَقَالَ: إِلَهِي هَذَا رِفْقُكَ [6] بِمَنْ يَقُولُ أَنَا الْإِلَهُ، فَكَيْفَ رِفْقُكَ بِمَنْ يَقُولُ أَنْتَ الْإِلَهُ؟! قَالَا، يَعْنِي مُوسَى وَهَارُونَ، رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
يَعْجَلُ عَلَيْنَا بِالْقَتْلِ وَالْعُقُوبَةِ، يُقَالُ: فَرَطَ عَلَيْهِ فُلَانٌ إِذَا عَجِلَ بِمَكْرُوهٍ، وَفَرَطَ مِنْهُ أَمْرٌ أَيْ بَدَرَ وَسَبَقَ، أَوْ أَنْ يَطْغى، أَيْ يُجَاوِزُ الْحَدَّ فِي الْإِسَاءَةِ إِلَيْنَا.
قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) ، قَالَ ابْنُ عباس: أسمع دعاء كما فَأُجِيبُهُ وَأَرَى مَا يُرَادُ بِكُمَا فَأَمْنَعُهُ لَسْتُ بِغَافِلٍ عَنْكُمَا فَلَا تَهْتَمَّا.
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ، أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ، فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ، أَيْ خَلِّ عَنْهُمْ وأطلقهم عن [7] أَعْمَالِكَ، وَلا تُعَذِّبْهُمْ لَا تُتْعِبْهُمْ فِي الْعَمَلِ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ، قَالَ فِرْعَوْنُ: وَمَا هِيَ فَأَخْرَجَ يَدَهُ لَهَا شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى، لَيْسَ الْمُرَادُ منه التحية إنما معناه يسلم مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَنْ أَسْلَمَ.
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أي إِنَّمَا يُعَذِّبُ اللَّهُ مَنْ كَذَّبَ بِمَا جِئْنَا بِهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ.
__________
(1) في المخطوط «الآخرون» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «من» .
(4) في المخطوط «الحسن» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «برك» .
(7) في المطبوع «من» .(3/263)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
[سورة طه (20) : الآيات 49 الى 56]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56)
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) ، مَنْ إِلَهُكُمَا الَّذِي أَرْسَلَكُمَا.
قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) ، قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صَلَاحَهُ ثم هداه لِمَا يُصْلِحُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ، لَمْ يَجْعَلْ خَلْقَ الْإِنْسَانِ كَخَلْقِ الْبَهَائِمِ، وَلَا خَلْقَ الْبَهَائِمِ كَخَلْقِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى مَنَافِعِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ يَعْنِي الْيَدَ لِلْبَطْشِ وَالرِّجْلَ لِلْمَشْيِ وَاللِّسَانَ لِلنُّطْقِ وَالْعَيْنَ لِلنَّظَرِ وَالْأُذُنَ لِلسَّمْعِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَعْطَى كُلَّ شيء خلقه يعني زوج الإنسان المرأة، والبعير الناقة والفرس الرمكة والحمار الأتان، ثُمَّ هَدى أَيْ أَلْهَمَهُ كَيْفَ يأتي الذكر الأنثى.
قالَ فِرْعَوْنُ، فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى، وَمَعْنَى الْبَالِ الْحَالُ، أَيْ مَا حَالُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ فِيمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [1] فَإِنَّهَا كَانَتْ تَعْبُدُ الْأَوْثَانَ وَتُنْكِرُ الْبَعْثَ.
قالَ، مُوسَى، عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، أَيْ أَعْمَالُهُمْ مَحْفُوظَةٌ عِنْدَ اللَّهِ يُجَازِي بِهَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا رَدَّ مُوسَى عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، فَإِنَّ التوراة أنزلت إليه بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. فِي كِتابٍ، يَعْنِي فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، لَا يَضِلُّ رَبِّي، أَيْ لَا يخطىء. وقيل: لا يغيب عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَغِيبُ عَنْ شيء، وَلا يَنْسى، مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَقِيلَ: لَا يَنْسَى أي لا يترك الانتقام فَيَنْتَقِمُ مِنَ الْكَافِرِ وَيُجَازِي الْمُؤْمِنَ.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً، قرأ أهل الكوفة: مَهْداً، هاهنا وَفِي الزُّخْرُفِ [10] فَيَكُونُ مَصْدَرًا أَيْ فَرْشًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: «مِهَادًا» ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) [النَّبإِ: 6] أَيْ فِرَاشًا وَهُوَ اسْمٌ [لِمَا] [2] يُفْرَشُ كَالْبِسَاطِ اسْمٌ لِمَا يُبْسَطُ، وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا السَّلْكُ إِدْخَالُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ وَالْمَعْنَى أَدْخَلَ فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِكُمْ طُرُقًا تَسْلُكُونَهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَهَّلَ [3] لَكُمْ فِيهَا طُرُقًا تَسْلُكُونَهَا، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً، يَعْنِي الْمَطَرَ. تَمَّ الْإِخْبَارُ عَنْ مُوسَى، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ، بِذَلِكَ الْمَاءِ أَزْواجاً، أَصْنَافًا، مِنْ نَباتٍ شَتَّى، مُخْتَلِفِ الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالْمَنَافِعِ مِنْ أَبْيَضَ وَأَحْمَرَ وَأَخْضَرَ وَأَصْفَرَ، فَكُلُّ صنف منها زوج، فمنها الناس ومنها الدواب [4] .
كُلُوا وَارْعَوْا أَيْ وَارْتَعُوا، أَنْعامَكُمْ، تَقُولُ الْعَرَبُ: رَعَيْتُ [5] الْغَنَمَ فَرَعَتْ أي أسيموا أنعامكم
__________
(1) في المخطوط «تدعوني إليها» .
(2) سقط من المطبوع.
(3) في المطبوع «سلك» .
(4) في المطبوع «للناس- للدواب» . [.....]
(5) في المطبوع «رعيتم» .(3/264)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
تَرْعَى، إِنَّ فِي ذلِكَ، الَّذِي ذَكَرْتُ، لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى، لِذَوِي الْعُقُولِ، وَاحِدَتُهَا نُهْيَةٌ سُمِّيَتْ نُهْيَةً لِأَنَّهَا تَنْهَى صَاحِبَهَا عَنِ الْقَبَائِحِ وَالْمَعَاصِي. قَالَ الضَّحَّاكُ: لِأُولِي النُّهَى الذين ينتهون عمّا حرّم الله عَلَيْهِمْ، قَالَ قَتَادَةُ: لِذَوِي الْوَرَعِ.
مِنْها أَيْ مِنَ الْأَرْضِ، خَلَقْناكُمْ، يَعْنِي أَبَاكُمْ آدَمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: إِنَّ الْمَلَكَ يَنْطَلِقُ فَيَأْخُذُ مِنْ تُرَابِ الْمَكَانِ الَّذِي يُدْفَنُ [فِيهِ] [1] فَيَذَرُهُ عَلَى النُّطْفَةِ فَيَخْلُقُ مِنَ التُّرَابِ وَمِنَ النُّطْفَةِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ، أَيْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالدَّفْنِ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى، يَوْمَ البعث.
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ، يَعْنِي فِرْعَوْنَ، آياتِنا كُلَّها، يَعْنِي الْآيَاتِ التِّسْعَ الَّتِي أَعْطَاهَا اللَّهُ مُوسَى، فَكَذَّبَ، بِهَا وَزَعَمَ أَنَّهَا سِحْرٌ، وَأَبى، أَنْ يسلم.
[سورة طه (20) : الآيات 57 الى 61]
قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61)
قالَ، يَعْنِي فِرْعَوْنَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا، يعنى أرض مصر، بِسِحْرِكَ يا مُوسى، أي أتريد أَنْ تَغْلِبَ عَلَى دِيَارِنَا فَيَكُونَ لَكَ الْمُلْكُ وَتُخْرِجَنَا مِنْهَا.
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً، أي فاضرب بيننا وبينك أَجَلًا وَمِيقَاتًا، لَا نُخْلِفُهُ، قَرَأَ أبو جعفر لا نُخْلِفُهُ جزما لَا نُجَاوِزُهُ، نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ: سُوىً بِضَمِّ السِّينِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ عِدًى وَعُدًى وَطِوًى وَطُوًى، قَالَ مُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ: مَكَانًا عَدْلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ. وَعَنِ ابْنِ عباس: نصفا، ومعناه تستوي [فيه] [2] مسافة الفريقين إليه. قال أبو عبيدة والقتيبي: وسطا بين الفريقين. قَالَ مُجَاهِدٌ: مُنْصِفًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي سِوَى هَذَا الْمَكَانِ.
قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ يَوْمَ عِيدٍ لَهُمْ يَتَزَيَّنُونَ فِيهِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ النَّيْرُوزِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى، أَيْ وقت الضحوة نهارا وجهارا لِيَكُونَ [أَبْعَدَ] [3] مِنَ الرَّيْبَةِ.
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ، مَكْرَهُ وَحِيلَتَهُ وسحرته، ثُمَّ أَتى، إلى الْمِيعَادَ.
قالَ لَهُمْ مُوسى، يَعْنِي لِلسَّحَرَةِ الَّذِينَ جَمَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَاحِرًا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ حَبْلٌ وَعَصًا. وَقِيلَ: كَانُوا أربعمائة. وقال كعب [الأحبار] [4] : كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ: أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: فَيُسْحِتَكُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: فَيُهْلِكَكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَيَسْتَأْصِلَكُمْ، وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.(3/265)
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
[سورة طه (20) : الآيات 62 الى 64]
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ، أَيْ تَنَاظَرُوا وَتَشَاوَرُوا، يَعْنِي السَّحَرَةَ فِي أَمْرِ مُوسَى سِرًّا مِنْ فِرْعَوْنَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالُوا سِرًّا إِنْ غَلَبَنَا مُوسَى اتَّبَعْنَاهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا قَالَ لَهُمْ مُوسَى [وَيْلَكُمْ] [1] لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا هَذَا بِقَوْلِ سَاحِرٍ [2] . وَأَسَرُّوا النَّجْوى، أي المناجاة يكون مصدورا أو اسما، ثُمَّ قالُوا، وَأَسَرَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بعض يتناجون، إنّ هذين لساحران، يعني موسى وهارون، وقرأ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ: إِنْ بِتَخْفِيفِ النُّونِ، هذانِ أَيْ مَا هَذَانِ إِلَّا سَاحِرَانِ، كَقَوْلِهِ:
وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ [الشُّعَرَاءِ: 186] ، أَيْ مَا نظنك إلّا من الكاذبين، وشدد ابْنُ كَثِيرٍ النُّونَ مِنْ هذانِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو إِنْ بِتَشْدِيدِ النُّونِ هَذَيْنِ بِالْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: إِنْ بِتَشْدِيدِ النُّونِ، هذانِ بِالْأَلِفِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، [فَرَوَى عَنْ] [3] هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أنه خطأ من الكاتب [4] . وقال قوم: هو لغة بالحارث بْنِ كَعْبٍ وَخَثْعَمَ وَكِنَانَةَ فَإِنَّهُمْ يجعلون الاثنين في موضع الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ بِالْأَلِفِ، يَقُولُونَ: أَتَانِي الزَّيْدَانِ وَرَأَيْتُ الزَّيْدَانِ وَمَرَرْتُ بالزَّيْدَانِ، فَلَا يَتْرُكُونَ أَلِفَ التَّثْنِيَةِ في شيء، وَكَذَلِكَ يَجْعَلُونَ كُلَّ يَاءٍ سَاكِنَةٍ انْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا أَلِفًا، [كَمَا فِي التَّثْنِيَةِ] [5] ، يَقُولُونَ: كَسَرْتُ يَدَاهُ وَرَكِبْتُ عَلَاهُ، يَعْنِي يَدَيْهِ وَعَلَيْهِ. وَقَالَ شَاعِرُهُمْ:
تَزَوَّدَ مِنِّي بَيْنَ أُذْنَاهُ [6] ضَرَبَةً ... دَعَتْهُ إِلَى هَابِي [7] التراب عقيم
يريد بين أذنه. وَقَالَ آخَرُ:
إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا ... قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجِدِ غَايَتَاهَا [8]
وَقِيلَ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ إِنَّهُ هَذَانِ، فَحَذَفَ الْهَاءَ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ حَرْفَ إِنَّ هَاهُنَا بِمَعْنَى نَعَمْ، أَيْ نَعَمْ هَذَانِ. رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ شَيْئًا فَحَرَّمَهُ، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّ وَصَاحِبَهَا، أَيْ: نَعَمْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
بَكَرَتْ عَلَيَّ عواذلي ... يلحينني [9] فألومهنّه
وَيقُلْنَ شَيبٌ قَدْ عَلَا ... كَ وَقَدْ كَبُرْتَ فَقُلْتُ إَنَّهْ
أَيْ: نَعَمْ. يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، مِصْرَ، بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِسَرَاةِ قَوْمِكُمْ وَأَشْرَافِكُمْ، يُقَالُ: هَؤُلَاءِ طريقة قومهم أي أشرافهم، والمثل تأنيث الأمثل
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «الساحر» .
(3) في المطبوع «قرأ» وفي- ط- «فروى» .
(4) منكر. أخرجه أبو بكر بن أبي داود في «المصاحف» ص 43 من طريق عمرو بن عبد الله الأودي، وهو ثقة عن أبي معاوية عن هشام به، وإسناده ضعيف، فيه عنعنة أبي معاوية، وهو مدلس، والمتن منكر.
(5) زيد في المطبوع وط.
(6) في المطبوع «أدناه» .
(7) في المطبوع «هاني» .
(8) في المطبوع «غايتها» .
(9) في المطبوع «يلهمني» . [.....](3/266)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
وهو الأفضل، حدث [1] الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: يَصْرِفَانِ وجوه الناس إليهما. وقال قتادة: طريقتهم المثلى كان بنو إسرائيل يومئذ أَكْثَرَ الْقَوْمِ عَدَدًا وَأَمْوَالًا، فَقَالَ عدو الله: يريد أَنْ يَذْهَبَا بِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ:
بطريقتكم بِسُنَّتِكُمْ وَدِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، والمثلى نَعْتُ الطَّرِيقَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى، يَعْنِي عَلَى الصراط المستقيم.
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فَاجْمَعُوا بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، مِنَ الْجَمْعِ [2] أَيْ لَا تَدَعُوا شَيْئًا [3] مِنْ كَيْدِكُمْ إِلَّا جِئْتُمْ بِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: [ (فَجَمَعَ كَيْدَهُ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الْمِيمِ فَقَدْ قِيلَ: مَعْنَاهُ الْجَمْعُ أَيْضًا تَقُولُ الْعَرَبُ أَجْمَعْتُ الشَّيْءَ) ] [4] وَجَمَعْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ الْعَزْمُ وَالْإِحْكَامُ، أَيِ اعْزِمُوا كُلُّكُمْ عَلَى كَيْدِهِ مُجْتَمِعِينِ لَهُ وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيَخْتَلَّ أَمْرُكُمْ، ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أَيْ جَمِيعًا، قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ، وَقَالَ قَوْمٌ أَيْ مُصْطَفِّينَ مُجْتَمِعِينَ لِيَكُونَ أَشَدَّ لِهَيْبَتِكُمْ، وقال أبو عبيدة [5] : الصف المجتمع، وَيُسَمَّى الْمُصَلَّى صَفًّا مَعْنَاهُ ثُمَّ ائتوا المكان الموعود [6] صَفًّا، وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى، أَيْ فَازَ مَنْ غَلَبَ.
[سورة طه (20) : الآيات 65 الى 71]
قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71)
قالُوا، يَعْنِي السَّحَرَةَ، يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ، عَصَاكَ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى، عَصَاهُ [7] .
قالَ، مُوسَى، بَلْ أَلْقُوا، أَنْتُمْ أَوَّلًا، فَإِذا حِبالُهُمْ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ فَأَلْقَوْا فَإِذَا حِبَالُهُمْ، وَعِصِيُّهُمْ، جَمْعُ الْعَصَا، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ تُخَيَّلُ بالتاء رد إِلَى الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ رَدُّوهُ إِلَى الْكَيْدِ وَالسِّحْرِ، [مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى، حتى تظن أنها تسعى أي تمشي وذلك أنهم كانوا لطخوا حبالهم وعصيّهم بالزئبق، فلما أصابه حرّ الشمس انهمست واهتزت فظن موسى أنها تقصده] [8] وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَلْقَوُا الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ أَخَذُوا أَعْيُنَ النَّاسِ فَرَأَى مُوسَى وَالْقَوْمُ كَأَنَّ الْأَرْضَ امْتَلَأَتْ حَيَّاتٍ، وَكَانَتْ قَدْ أَخَذَتْ مَيْلًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَرَأَوْا أنها تسعى [وهو قوله يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى] [9] .
__________
(1) في المطبوع «حديث» .
(2) في المخطوط «المجمع» .
(3) في المطبوع «أشياء» .
(4) سقط من المطبوع.
(5) في المطبوع «عبدة» .
(6) في المطبوع «الموعد» .
(7) في المطبوع «عصيّنا» .
(8) زيد في المطبوع.
(9) زيادة عن المخطوط.(3/267)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) ، أَيْ وَجَدَ، وَقِيلَ: أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ خَوْفًا، وَاخْتَلَفُوا فِي خَوْفِهِ طَبْعِ الْبَشَرِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا تَقْصِدُهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَافَ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ فَيَشُكُّوا فِي أَمْرِهِ فَلَا يتبعوه [1] .
قُلْنا، لِمُوسَى، لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى، أَيِ الْغَالِبُ، يَعْنِي لَكَ الْغَلَبَةُ وَالظَّفَرُ.
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ، يَعْنِي الْعَصَا، تَلْقَفْ، تَلْتَقِمُ، وَتَبْتَلِعُ، مَا صَنَعُوا، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَلْقُفُ بِرَفْعِ الْفَاءِ هَاهُنَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَزْمِ عَلَى جواب الأمر، إِنَّما صَنَعُوا، أي الَّذِي صَنَعُوا، كَيْدُ ساحِرٍ، أَيْ حِيلَةُ سِحْرٍ هَكَذَا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ السِّينِ بِلَا أَلِفٍ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ «سَاحِرٍ» لِأَنَّ إِضَافَةَ الْكَيْدِ إِلَى الْفَاعِلِ أَوْلَى مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى، مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَسْعَدُ حَيْثُ كَانَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَيْثُ احْتَالَ.
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ، لَرَئِيسُكُمْ وَمُعَلِّمُكُمْ، الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً، يعني على إيمانكم به أنا أَوْ رَبُّ مُوسَى عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَأَبْقى، أَيْ أَدْوَمُ.
[سورة طه (20) : الآيات 72 الى 75]
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75)
قالُوا، يَعْنِي السَّحَرَةَ، لَنْ نُؤْثِرَكَ، لَنْ نَخْتَارَكَ، عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ، يَعْنِي الدَّلَالَاتِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْيَدَ الْبَيْضَاءَ وَالْعَصَا. وَقِيلَ: كَانَ اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ كَانَ هَذَا سِحْرًا فَأَيْنَ حِبَالُنَا وَعِصِيُّنَا. وَقِيلَ: مِنَ الْبَيِّنَاتِ يعني من اليقين [2] وَالْعِلْمِ. حُكِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ لَمَّا أُلْقُوا سُجَّدًا مَا رَفَعُوا رؤوسهم [من السجود] [3] حَتَّى رَأَوُا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَرَأَوْا ثَوَابَ أَهْلِهَا وَرَأَوْا مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ، وَالَّذِي فَطَرَنا، أَيْ لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى اللَّهِ الَّذِي فَطَرَنَا، وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ، فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ، فَاصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا، أَيْ: أَمْرُكَ وَسُلْطَانُكَ فِي الدُّنْيَا وَسَيَزُولُ عَنْ قَرِيبٍ.
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالُوا هَذَا وَقَدْ جَاءُوا مُخْتَارِينَ يَحْلِفُونَ بِعَزَّةِ فِرْعَوْنَ أَنَّ لَهُمُ الْغَلَبَةَ. قِيلَ: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ فِرْعَونُ يُكْرِهُ قَوْمًا [4] عَلَى تَعَلُّمِ السِّحْرِ لِكَيْلَا يَذْهَبَ أَصْلُهُ وَقَدْ كَانَ أَكْرَهَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَتِ السَّحَرَةُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ اثْنَانِ مِنَ الْقِبْطِ وَسَبْعُونَ مِنْ بَنِي إسرائيل كان عدو الله فِرْعَوْنُ أَكْرَهَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى تَعَلُّمِ السِّحْرِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُمْ [5] وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبَانَ: قَالَتِ السَّحَرَةُ لِفِرْعَوْنَ
__________
(1) في المطبوع «فلا يتبعونه» .
(2) في المخطوط «التبين» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «قومه» .
(5) في المطبوع «قوله» . [.....](3/268)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
أَرِنَا مُوسَى إِذَا نَامَ فَأَرَاهُمْ مُوسَى نَائِمًا وَعَصَاهُ تَحْرُسُهُ، فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِسَاحِرٍ إِنَّ السَّاحِرَ إِذَا نَامَ بَطَلَ سِحْرُهُ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يتعلموا [وأكرههم على السحر] [1] ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: خير منك ثوابا وأبقى عذابا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: خَيْرٌ مِنْكَ ثَوَابًا إِنْ أُطِيعَ وَأَبْقَى عذابا منك إِنْ عُصِيَ وَهَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى [طه: 71] .
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً، قِيلَ هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: مِنْ تَمَامِ قَوْلِ السَّحَرَةِ مُجْرِماً أَيْ مُشْرِكًا يعني من مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها، فَيَسْتَرِيحُ، وَلا يَحْيى، حَيَاةً يَنْتَفِعُ بِهَا.
وَمَنْ يَأْتِهِ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو سَاكِنَةَ الْهَاءِ، وَيَخْتَلِسُهَا أَبُو جَعْفَرٍ، وَقَالُونُ وَيَعْقُوبُ، وقرأ الآخرون بالإشباع، مُؤْمِناً، أي: من مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ، قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى، أي الرفيعة، والعلى جمع العليا [والعليا] [2] تأنيث الأعلى.
[سورة طه (20) : الآيات 76 الى 81]
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80)
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) ، يعني تَطَهَّرَ مِنَ الذُّنُوبِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَعْطَى زَكَاةَ نَفْسِهِ [3] وَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
«1418» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عبيد الله [4] السمسار أنا أبو
__________
1418- للحديث شواهد دون لفظ «وإن أبا بكر ... » فإنه ضعيف، والظاهر أنه مدرج.
- إسناده ضعيف جدا، فيه أحمد بن عبد الجبار، وهو ضعيف، وعطية العوفي ضعيف مدلس، وقد عنعن، وقد توبع أحمد فانحصرت العلة في عطية.
- أبو معاوية محمد بن خازم، الأعمش سليمان بن مهران، عطية بن سعد.
- وهو في «شرح السنة» 3785 بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 3/ 27 و98 وابن ماجه 96 وأبو يعلى 1278 من طرق عن الأعمش به.
وأخرجه أبو داود 3987 والترمذي 3659 وأحمد 3/ 93 وأبو يعلى 1130 و1299 والبيهقي في «البعث» 250 من طرق عن عطية به، وقد توبع عطية فقد:
- أخرجه أحمد 3/ 26 و61 وأبو يعلى 1278 وابن حبان في «المجروحين» 3/ 11 والذهبي في «الميزان» 3/ 438 من طريق مُجَالِدٍ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أبي سعيد الخدري به. وإسناده ضعيف، مجالد غير حجة. قال أحمد: يرفع كثيرا مما لا يرفعه الناس، ليس بحجة.
- وأخرجه البخاري 3256 ومسلم 2831 ح 11 وأحمد 5/ 340 وابن حبان 7393 والبيهقي 249 من طرق عَنْ مَالِكٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سَلِيمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عن أبي سعيد الخدري، وليس فيه لفظ «وإن أبا بكر.....» والأشبه أنه
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «الزكاة» .
(4) في المطبوع «عبيد» دون لفظ الجلالة.(3/269)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
أَحْمَدَ حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ العباس الدّهقان أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ العطاردي أَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي أُفُقٍ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا [1] بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا» .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي، يعني سِرْ بِهِمْ لَيْلًا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ، يعني اجْعَلْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ بالضرب بالعصا، يَبَساً، لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ وَلَا طِينٌ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَيْبَسَ لَهُمُ الطَّرِيقَ فِي الْبَحْرِ، لَا تَخافُ دَرَكاً، قَرَأَ حَمْزَةُ لَا تَخَفْ بِالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ، وَالْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ وَالرَّفْعِ عَلَى النَّفْيِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَخْشى، قِيلَ: لَا تَخَافُ أَنْ يُدْرِكَكَ فِرْعَوْنُ مِنْ وَرَائِكَ وَلَا تَخْشَى أَنْ يُغْرِقَكَ الْبَحْرُ [من] [2] أمامك.
فَأَتْبَعَهُمْ، فَلَحِقَهُمْ، فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَمَرَ فِرْعَوْنُ جُنُودَهُ أَنْ يَتْبَعُوا مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَالْبَاءُ فِيهِ زَائِدَةٌ وَكَانَ هُوَ فِيهِمْ، فَغَشِيَهُمْ، أَصَابَهُمْ، مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ، وَهُوَ الْغَرَقُ. وَقِيلَ: غَشِيَهُمْ عَلَاهُمْ وسترهم من اليم ما غشيهم يريد غشيهم بَعْضُ مَاءِ الْيَمِّ لَا كُلُّهُ. وَقِيلَ: غَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا يغشى [3] قوم موسى فغرقهم [4] وَنَجَا مُوسَى وَقَوْمُهُ.
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) ، يعني مَا أَرْشَدَهُمْ وَهَذَا تَكْذِيبٌ لِفِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر: 29] .
قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، فِرْعَوْنَ، وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى.
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ، قَرَأَ حمزة والكسائي أنجيتكم وواعدتكم ورزقتكم بِالتَّاءِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ وَالْأَلِفِ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي وَنَزَّلْنَا لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ بِالْأَلِفِ، وَلا تَطْغَوْا فِيهِ، قَالَ ابن عباس: لا تظلموا، وقال الْكَلْبِيُّ: لَا تَكْفُرُوا النِّعْمَةَ فَتَكُونُوا ظالمين طَاغِينَ. وَقِيلَ: لَا تُنْفِقُوا فِي معصيتي. وقيل: لا تتقووا بنعمتي على معاصيي [5] . وقيل: لا تدخروا، فادخروا فَتَدَوَّدَ، فَيَحِلَّ، قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ فَيَحِلَّ بِضَمِّ الْحَاءِ، وَمَنْ يَحْلِلْ بضم اللام، يعني ينزل، وقرأ الآخرون بكسرها يعني يَجِبُ، عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى، هَلَكَ وتردى في النار.
[سورة طه (20) : الآيات 82 الى 86]
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
__________
- مدرج، والله أعلم.
الخلاصة: الطريق الآخر لا يقوي ما قبله لشدة ضعف الأول.
(1) في المطبوع «وإنما أبو» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع وط «غشيهم» .
(4) في المخطوط «ففرقوا هم» .
(5) في المطبوع «معاصي» .(3/270)
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ، وَآمَنَ، وحدّ اللَّهَ وَصَدَّقَهُ، وَعَمِلَ صالِحاً، أَدَّى الْفَرَائِضَ، ثُمَّ اهْتَدى، قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَلِمَ أَنَّ ذلك توفيق من الله تعالى.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَعْنِي لَزِمَ الْإِسْلَامَ حَتَّى مَاتَ عَلَيْهِ. وقال الشَّعْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: عَلِمَ أَنَّ لِذَلِكَ [1] ثَوَابًا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيَهْتَدِيَ بِهِ كيف يعمل. وقال الضحاك: استقام [لَهُ] [2] .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَقَامَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَما أَعْجَلَكَ، أي ما حَمَلَكَ عَلَى الْعَجَلَةِ، عَنْ قَوْمِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى اخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا حَتَّى يَذْهَبُوا مَعَهُ إِلَى الطُّورِ [3] لِيَأْخُذُوا التَّوْرَاةَ فَسَارَ بِهِمْ ثُمَّ عَجَّلَ مُوسَى مِنْ بَيْنِهِمْ شَوْقًا إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَلَّفَ السَّبْعِينَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتْبَعُوهُ إِلَى الْجَبَلِ فَقَالَ الله تعالى: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) .
قالَ، مُجِيبًا لِرَبِّهِ تَعَالَى: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي، يعني هُمْ بِالْقُرْبِ مِنِّي يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي، وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى، لِتَزْدَادَ رِضًا.
قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ، أَيِ ابْتَلَيْنَا الَّذِينَ خَلَّفْتَهُمْ مَعَ هَارُونَ وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ فَافْتُتِنُوا بِالْعِجْلِ غَيْرَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ بَعْدِكَ أَيْ مِنْ بَعْدِ انْطِلَاقِكَ إِلَى الْجَبَلِ، وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ، أَيْ دَعَاهُمْ وَصَرَفَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، [أضاف الضلال] [4] إِلَى السَّامِرِيِّ لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا بِسَبَبِهِ.
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً، حزينا. قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً، صِدْقًا أَنَّهُ يُعْطِيكُمُ التَّوْرَاةَ، أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ، مُدَّةُ مُفَارَقَتِي إِيَّاكُمْ، أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ، أَيْ أَرَدْتُمْ أن تفعلوا فعلا يوجب [5] عليكم الْغَضَبُ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي.
[سورة طه (20) : الآيات 87 الى 90]
قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا، قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَعَاصِمٌ: بِمَلْكِنا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا أَيْ وَنَحْنُ نَمْلِكُ أَمْرَنَا. وَقِيلَ: بِاخْتِيَارِنَا، وَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهُ بِقُدْرَتِنَا وَسُلْطَانِنَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا وَقَعَ فِي الْبَلِيَّةِ وَالْفِتْنَةِ لَمْ يَمْلُكْ نَفْسَهُ، وَلكِنَّا حُمِّلْنا، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ حُمِّلْنا بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ جَعَلُونَا نَحْمِلُهَا وَكُلِّفْنَا حَمْلَهَا، أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ، مِنْ حُلِيِّ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، سَمَّاهَا أَوْزَارًا لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهَا عَلَى وَجْهِ الْعَارِيَةِ فَلَمْ يَرُدُّوهَا [6] ، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا قد استعاروا حليا من
__________
(1) في المطبوع «ذلك» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «الجبل» . [.....]
(4) في المطبوع «وأضافه» .
(5) في المطبوع «يجب» .
(6) في المطبوع «يردها» .(3/271)
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
الْقِبْطِ وَكَانَ ذَلِكَ مَعَهُمْ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ [وقومه] [1] نبذ البحر حليهم فأخذوها فكانت غَنِيمَةً وَلَمْ تَكُنِ الْغَنِيمَةُ حَلَالًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَسَمَّاهَا أَوْزَارًا لِذَلِكَ، فَقَذَفْناها، قِيلَ: إِنَّ السَّامِرِيَّ قَالَ لَهُمُ احْفِرُوا حُفَيْرَةً فَأَلْقُوهَا فِيهَا حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى، قَالَ السُّدِّيُّ:
قَالَ لَهُمْ هَارُونُ إِنَّ تِلْكَ غَنِيمَةٌ لَا تَحِلُّ فَاحْفِرُوا حُفَيْرَةً فَأَلْقُوهَا فِيهَا حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى، فَيَرَى فِيهَا رَأْيَهُ، فَفَعَلُوا. قَوْلُهُ: فَقَذَفْناها أَيْ طَرَحْنَاهَا في الحفيرة [2] ، فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ
، مَا مَعَهُ مِنَ الْحُلِيِّ فِيهَا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أو قد هارون نارا وقال: اقذفوا ما معكم فيها، [فَأَلْقَوْهُ فِيهَا] [3] ثُمَّ أَلْقَى السَّامِرِيُّ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ تُرْبَةِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ. قَالَ قَتَادَةُ: كان [قد] صر قَبْضَةً مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ فِي عِمَامَتِهِ.
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ، أَيْ تَرَكَهُ مُوسَى هَاهُنَا وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ. وَقِيلَ: أَخْطَأَ الطَّرِيقَ وَضَلَّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا، أَيْ: لَا يَرَوْنَ أن العجل لا يكلمهم ولا يجيبهم إِذَا دَعَوْهُ، وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً، وَقِيلَ: إِنَّ هَارُونَ مَرَّ عَلَى اَلسَّامِرِيِّ وَهُوَ يَصُوغُ الْعِجْلَ فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: أَصْنَعُ مَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ فَادْعُ لِي، فَقَالَ هَارُونُ: اللَّهُمَّ أَعْطِهِ مَا سَأَلَكَ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، فَأَلْقَى [السامري] [4] التُّرَابَ فِي فَمِ الْعِجْلِ وَقَالَ: كن عجلا يخور فكان ذلك بِدَعْوَةِ هَارُونَ، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِتْنَةً ابْتَلَى اللَّهُ بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ، أَيْ مِنْ قَبْلِ رجوع موسى، يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ، ابْتُلِيتُمْ بِالْعِجْلِ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي، عَلَى دِينِي فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَأَطِيعُوا أَمْرِي، فِي تَرْكِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ.
[سورة طه (20) : الآيات 91 الى 96]
قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95)
قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
قالُوا لَنْ نَبْرَحَ، أَيْ لَنْ نَزَالَ، عَلَيْهِ، عَلَى عِبَادَتِهِ، عاكِفِينَ، مُقِيمِينَ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى، فَاعْتَزَلَهُمْ هَارُونُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ ألفا وهم الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ، فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى وَسَمِعَ الصِّيَاحَ وَالْجَلَبَةَ وكانوا يرقصون حول العجل فقال لِلسَّبْعِينَ الَّذِينَ [5] مَعَهُ هَذَا صَوْتُ الْفِتْنَةِ، فَلَمَّا رَأَى هَارُونَ أَخَذَ شَعْرَ رَأْسِهِ بِيَمِينِهِ وَلِحْيَتِهِ بِشِمَالِهِ.
وقالَ، له، يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَشْرَكُوا.
أَلَّا تَتَّبِعَنِ، أي: أن تتبعني ولا صلة أي [أن] [6] تَتَّبِعَ أَمْرِي وَوَصِيَّتِي، يَعْنِي: هَلَّا قاتلتهم
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «الحفرة» .
(3) زيد في المطبوع وط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيد في المطبوع «كانوا» .
(6) سقط من المطبوع.(3/272)
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنِّي لَوْ كُنْتُ فِيهِمْ لِقَاتَلْتُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: أَنْ لَا تَتَّبِعَنِي أَيْ مَا مَنَعَكَ مِنَ اللُّحُوقِ بِي وَإِخْبَارِي بضلالتهم، فتكون مفارقتك إياهم تقريعا وزجرا لَهُمْ عَمَّا أَتَوْهُ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي، أي خالفت أمري.
لَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
، أَيْ بِشَعْرِ رَأْسِي وَكَانَ قد أخذ ذوائبه، نِّي خَشِيتُ
، لَوْ أَنْكَرْتُ عَلَيْهِمْ لَصَارُوا حزبين يقتل بعضهم بعضا، نْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
، أني خَشِيتُ إِنْ فَارَقْتُهُمْ وَاتَّبَعْتُكَ صَارُوا أحزابا يتقاتلون، فتفول: أَنْتَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
، وَلَمْ تَحْفَظْ وَصِيَّتِي حِينَ قُلْتُ لَكَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي، وَأَصْلِحْ أَيِ ارْفُقْ بِهِمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ مُوسَى عَلَى السَّامِرِيِّ.
قالَ فَما خَطْبُكَ أي مَا أَمْرُكَ وَشَأْنُكَ؟ وَمَا الَّذِي حملك على ما صنعت؟ يا سامِرِيُّ.
قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، رَأَيْتُ مَا لَمْ يَرَوْا وَعَرَفْتُ مَا لَمْ يَعْرِفُوا، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مَا لَمْ تَبْصُرُوا بالتاء على الخطاب، وقرأ الباقون بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، أَيْ مِنْ تُرَابِ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ، فَنَبَذْتُها، أَيْ أَلْقَيْتُهَا فِي فَمِ الْعِجْلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا خَارَ لِهَذَا [السبب] [1] لِأَنَّ التُّرَابَ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ تَحْتِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ، فَإِنْ قيل: كيف عرف [2] وَرَأَى جِبْرِيلَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ أُمَّهُ لَمَّا ولدته فِي السَّنَةِ الَّتِي [كَانَ فِرْعَوْنُ] [3] يقتل فيها البنين وضعته في كهف حذرا عليه [من فرعون] [4] فَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ لِيُرَبِّيَهُ لِمَا قَضَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْفِتْنَةِ. وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ، أَيْ زَيَّنَتْ، لِي نَفْسِي.
[سورة طه (20) : الآيات 97 الى 101]
قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101)
قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ، أَيْ مَا دُمْتَ حَيًّا، أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ، أَيْ لَا تُخَالِطْ أَحَدًا وَلَا يُخَالِطْكَ أَحَدٌ وَأَمَرَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ لَا يُخَالِطُوهُ وَلَا يَقْرَبُوهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا مِسَاسَ لك ولولدك، والمساس مِنَ الْمُمَاسَّةِ مَعْنَاهُ لَا يَمَسُّ بَعْضُنَا بَعْضًا، فَصَارَ السَّامِرِيُّ يَهِيمُ فِي الْبَرِّيَّةِ مَعَ الْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ لَا يَمَسُّ أَحَدًا وَلَا يَمَسُّهُ أحد، فعاقبه اللَّهُ بِذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا لَقِيَ أَحَدًا يَقُولُ لَا مِسَاسَ، أَيْ لَا تَقْرَبْنِي وَلَا تَمَسَّنِي، وَقِيلَ: كَانَ إِذَا مَسَّ أَحَدًا أَوْ مَسَّهُ أَحَدٌ حُمَّا جَمِيعًا حَتَّى أَنَّ بَقَايَاهُمُ الْيَوْمَ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَإِذَا مَسَّ [أَحَدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ أَحَدًا مِنْهُمْ] [5] حُمَّا جَمِيعًا فِي الْوَقْتِ، وَإِنَّ لَكَ، يَا سَامِرِيُّ، مَوْعِداً، لعذابك، لَنْ تُخْلَفَهُ.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «عرفه» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) العبارة في المخطوط «واحدا منهم واحدا من غيرهم» . [.....](3/273)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ: لَنْ تُخْلَفَهُ بِكَسْرِ اللَّامِ. أَيْ لَنْ تَغِيبَ عَنْهُ وَلَا مَذْهَبَ لَكَ عَنْهُ بَلْ تُوَافِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ لَنْ تُكَذِّبَهُ وَلَنْ يُخْلِفَكَ اللَّهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تعالى يكافئك على فعلك فلا تَفُوتُهُ، وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ، بِزَعْمِكَ، الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً، أَيْ ظَلْتَ وَدُمْتَ عَلَيْهِ مُقِيمًا تَعْبُدُهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: ظَلْتُ أَفْعَلُ كَذَا بِمَعْنَى ظَلَلْتُ وَمِسْتُ بِمَعْنَى مَسَسْتُ [لَنُحَرِّقَنَّهُ بالنار] [1] ، وقرأ أَبُو جَعْفَرٍ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِحْرَاقِ، ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ، لَنَذْرِيَنَّهُ، فِي الْيَمِّ، فِي الْبَحْرِ، نَسْفاً.
رُوِيَ أَنَّ مُوسَى أَخْذَ الْعِجْلَ فَذَبَحَهُ فَسَالَ مِنْهُ دَمٌ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ صَارَ لَحْمًا وَدَمًا ثُمَّ حَرَّقَهُ بِالنَّارِ، ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الْيَمِّ، قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: لَنُحَرِّقَنَّهُ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الرَّاءِ لَنَبْرُدَنَّهُ بِالْمِبْرَدِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمِبْرَدِ الْمُحْرِقُ. وَقَالَ [2] السُّدِّيُّ: أَخَذَ مُوسَى الْعِجْلَ فَذَبَحَهُ ثُمَّ حَرَّقَهُ بِالْمِبْرَدِ ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الْيَمِّ.
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) ، وَسِعَ عِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ.
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ، مِنَ الْأُمُورِ، وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً، يَعْنِي الْقُرْآنَ.
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، أَيْ عَنِ الْقُرْآنِ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً، حِمْلًا ثَقِيلًا مِنَ الْإِثْمِ.
خالِدِينَ فِيهِ، مُقِيمِينَ فِي عَذَابِ الْوِزْرِ، وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا، أَيْ بِئْسَ مَا حَمَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الإثم كفرا [3] بالقرآن.
[سورة طه (20) : الآيات 102 الى 108]
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً (106)
لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو نَنْفُخُ بِالنُّونِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّ الْفَاءِ لِقَوْلِهِ: وَنَحْشُرُ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا وَفَتَحِ الْفَاءِ عَلَى غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ، وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ، الْمُشْرِكِينَ، يَوْمَئِذٍ زُرْقاً، وَالزُّرْقَةُ هِيَ الْخُضْرَةُ فِي سَوَادِ الْعَيْنِ فَيُحْشَرُونَ زُرْقَ الْعُيُونِ سُودَ الْوُجُوهِ. وَقِيلَ: زُرْقًا أَيْ عُمْيًا. وَقِيلَ:
عِطَاشًا.
يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ، أَيْ يَتَشَاوَرُونَ بَيْنَهُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ خُفْيَةً، إِنْ لَبِثْتُمْ، أَيْ مَا مَكَثْتُمْ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا عَشْراً، أَيْ عَشْرَ لَيَالٍ. وَقِيلَ: فِي الْقُبُورِ. وَقِيلَ: بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، لِأَنَّ الْعَذَابَ يُرْفَعُ عَنْهُمْ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ اسْتَقْصَرُوا مُدَّةَ لَبْثِهِمْ لِهَوْلِ مَا عَايَنُوا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، أي يتشاورون بَيْنَهُمْ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً، أَوْفَاهُمْ عَقْلًا وَأَعْدَلُهُمْ قَوْلًا، إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً، قَصُرَ ذَلِكَ فِي أَعْيُنِهِمْ فِي جَنْبِ مَا اسْتَقْبَلَهُمْ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: نَسُوا مِقْدَارَ لَبْثِهِمْ لِشِدَّةِ ما دهمهم.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «قال» .
(3) في المخطوط «لأنهم كفروا» .(3/274)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) .
«1419» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْفَ تَكُونُ الْجِبَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَالنَّسْفُ هو القلع يعني يَقْلَعُهَا مِنْ أَصْلِهَا وَيَجْعَلُهَا هَبَاءً منثورا.
فَيَذَرُها، أي يدع [1] أَمَاكِنَ الْجِبَالِ مِنَ الْأَرْضِ، قَاعًا صَفْصَفاً، يعني أَرْضًا مَلْسَاءَ مُسْتَوِيَةً لَا نَبَاتَ فيها، والقاع ما انبسط من الأرض والصفصف الْأَمْلَسُ.
لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) ، قَالَ مُجَاهِدٌ: انْخِفَاضًا وَارْتِفَاعًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْعِوَجُ مَا انخفض من الأرض، والأمت مَا نَشَزَ مِنَ الرَّوَابِي، أَيْ لَا تَرَى وَادِيًا وَلَا رَابِيَةً. قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَرَى فِيهَا صَدْعًا وَلَا أَكَمَةً.
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ، أَيْ صَوْتَ الدَّاعِي الَّذِي يَدْعُوهُمْ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ إِسْرَافِيلُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَضَعُ الصُّورَ فِي فِيهِ، وَيَقُولُ أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ وَالْجُلُودُ الْمُتَمَزِّقَةُ وَاللُّحُومُ الْمُتَفَرِّقَةُ هَلُمُّوا إِلَى عَرْضِ الرَّحْمَنِ، لَا عِوَجَ لَهُ، يعني لدعائه، وهو من المقلوب يعني لَا عِوَجَ لَهُمْ عَنْ دُعَاءِ الدَّاعِي لَا يَزِيغُونَ عَنْهُ يَمِينًا ولا شمالا وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بَلْ يَتَّبِعُونَهُ سراعا، وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ، يعني سكتت وَذَلَّتْ وَخَضَعَتْ وَوَصَفَ الْأَصْوَاتَ بِالْخُشُوعِ وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا، فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً، يَعْنِي صَوْتَ وَطْءِ الْأَقْدَامِ إلى المحشر، والهمس الصَّوْتُ الْخَفِيُّ كَصَوْتِ أَخْفَافِ الْإِبِلِ فِي الْمَشْيِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ تَخَافُتُ الْكَلَامِ وَخَفْضُ الصَّوْتِ.
وَرَوَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَحْرِيكُ الشِّفَاهِ مِنْ غير منطق.
[سورة طه (20) : الآيات 109 الى 114]
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113)
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ، يَعْنِي لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ، يَعْنِي إِلَّا مَنْ أَذِنَ له الله أَنْ يَشْفَعَ، وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا، يَعْنِي وَرَضِيَ قَوْلَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي قَالَ لَا إِلَهَ إلا الله، فهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ لغير [2] الْمُؤْمِنِ.
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، الْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ، أَيْ يَعْلَمُ الله مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَمَا خَلَّفُوا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ [أمر] [3] الْآخِرَةِ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ،
__________
1419- ساقه المصنف تعليقا هاهنا، وإسناده إلى ابن عباس أول الكتاب فله عدة أسانيد بعضها ضعيف، وبعضها ضعيف جدا، وبعضها الآخر حسن صحيح، والظاهر أن هذا مما ورد بإسناد ساقط، حيث تفرد المصنف به عند هذه الآية دون سائر أهل التفسير، ولم أجده عند غيره، فهو شبه موضوع.
(1) في المطبوع «يعني فيدع» .
(2) في المطبوع «غير» .
(3) زيادة عن المخطوط.(3/275)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً، قِيلَ: الْكِنَايَةُ تَرْجِعُ إِلَى مَا، أَيْ هُوَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَهُ. وَقِيلَ: الْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ عِبَادَهُ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا.
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، أي ذَلَّتْ وَخَضَعَتْ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسِيرِ: عَانٍ. وَقَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ:
هو [ما قدم من] [1] السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَسِرَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ، وَالظُّلْمُ هُوَ الشِّرْكُ.
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ «فَلَا يَخَفْ» مَجْزُومًا عَلَى النَّهْيِ جَوَابًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ فَلا يَخافُ مَرْفُوعًا عَلَى الْخَبَرِ، ظُلْماً وَلا هَضْماً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يخاف أن يزداد [عليه في] [2] سيآته ولا أن يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِ حَسَنَاتِهِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ ذَنْبُ مُسِيْءٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يُؤْخَذُ بِذَنْبٍ لم يعمله ولا يبطل [3] حَسَنَةٌ عَمِلَهَا، وَأَصِلُ الْهَضْمِ النَّقْصُ وَالْكَسْرُ، وَمِنْهُ هَضْمُ الطَّعَامِ.
وَكَذلِكَ، أَيْ كَمَا بَيَّنَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَنْزَلْناهُ، يَعْنِي أَنْزَلْنَا هَذَا الْكِتَابَ، قُرْآناً عَرَبِيًّا، يَعْنِي [4] بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ، أَيْ صَرَّفْنَا الْقَوْلَ فِيهِ بِذِكْرِ الْوَعِيدِ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، أَيْ يَجْتَنِبُونَ الشِّرْكَ، أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً، أَيْ يُجَدِّدُ لَهُمُ الْقُرْآنُ عِبْرَةً وعظة فيعتبروا ويتعظوا بذكر عتاب اللَّهِ لِلْأُمَمِ الْخَالِيَةِ.
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [أي] [5] جَلَّ اللَّهُ عَنْ إِلْحَادِ الْمُلْحِدِينَ وَعَمَّا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ، وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ، أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ يُبَادِرُ فَيَقْرَأُ مَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ جِبْرِيلُ مما يريد من التلاوة، مخافة الِانْفِلَاتِ وَالنِّسْيَانِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ، أَيْ لَا تَعْجَلْ بِقِرَاءَتِهِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْرَغَ جِبْرِيلُ مِنَ الْإِبْلَاغِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
[الْقِيَامَةِ: 16] وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: نَقْضِي بِالنُّونِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِ الضَّادِ، وَفَتْحِ الْيَاءِ وَحْيُهُ بالنصب، وقال مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ لَا تُقْرِئْهُ أَصْحَابَكَ وَلَا تُمْلِهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى نبين [6] لَكَ مَعَانِيهِ، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً، يَعْنِي بِالْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ. وَقِيلَ: عِلْمًا إِلَى مَا عَلِمْتُ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الآية قال: اللهم زدني إيمانا ويقينا.
[سورة طه (20) : الآيات 115 الى 119]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ، يَعْنِي أَمَرْنَاهُ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَكَ وَتَرَكُوا الْإِيمَانَ بِي، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [طه: 113] ، فَنَسِيَ، فَتَرْكَ الْأَمْرَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ [إن] [7] نَقَضُوا الْعَهْدَ فَإِنَّ آدَمَ أَيْضًا عهدنا إليه فنسي،
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «على» .
(3) في المطبوع «وتبطل» .
(4) زيد في المطبوع «لتعجل به» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «يتبين» .
(7) زيادة عن المخطوط. [.....](3/276)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً، قَالَ الْحَسَنُ لَمْ نَجِدْ لَهُ صَبْرًا عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: حِفْظًا لِمَا أُمِرَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: رَأْيًا مَعْزُومًا حَيْثُ أَطَاعَ عَدُوَّهُ إِبْلِيسَ الَّذِي حَسَدَهُ وَأَبَى أَنْ يَسْجُدَ لَهُ، والعزم فِي اللُّغَةِ هُوَ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى الْفِعْلِ، قَالَ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ: لَوْ وُزِنَ حِلْمُ آدَمَ وحلم [1] جميع ولده لرجع حِلْمُهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً، فَإِنْ قِيلَ: أَتَقُولُونَ إِنَّ آدَمَ كَانَ نَاسِيًا لِأَمْرِ اللَّهِ حِينَ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ؟ قِيلَ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَكُنِ النِّسْيَانُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَرْفُوعًا عَنِ الْإِنْسَانِ بَلْ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ، وَإِنَّمَا رُفِعَ عَنَّا، وَقِيلَ: نَسِيَ عقوبة الله وظن أنه نهاه تنزيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى (116) ، أن يسجد.
فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، حَوَّاءَ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى، يَعْنِي تَتْعَبُ وَتَنْصَبُ، وَيَكُونُ عَيْشُكَ مِنْ كَدِّ يَمِينِكَ بِعَرَقِ جَبِينِكَ. قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي الْحَرْثَ والزرع والحصيد والطحن والخبز. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: قَالَ أُهْبِطَ إِلَى آدَمَ ثَوْرٌ أَحْمَرُ فَكَانَ يَحْرُثُ عَلَيْهِ وَيَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ، فَذَلِكَ شَقَاؤُهُ، وَلَمْ يَقُلْ: فَتَشْقَيَا رُجُوعًا بِهِ إِلَى آدَمَ لِأَنَّ تَعَبَهُ أَكْثَرُ فَإِنَّ الرَّجُلَ هُوَ السَّاعِي عَلَى زَوْجَتِهِ. وقيل: لأجل رؤوس الْآيِ.
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها، أَيْ فِي الْجَنَّةِ وَلا تَعْرى.
وَأَنَّكَ، قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ نَسَقًا عَلَى قوله:
أَلَّا تَجُوعَ فِيها لا تَظْمَؤُا، لَا تَعْطَشُ، فِيها وَلا تَضْحى، يَعْنِي لَا تَبْرُزُ لِلشَّمْسِ فَيُؤْذِيكَ حَرُّهَا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا تُصِيبُكَ الشَّمْسُ وَأَذَاهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَمْسٌ، وَأَهْلُهَا فِي ظِلٍّ ممدود.
[سورة طه (20) : الآيات 120 الى 125]
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ، يَعْنِي عَلَى شَجَرَةٍ إِنْ أَكَلْتَ مِنْهَا بَقِيتَ مُخَلَّدًا، وَمُلْكٍ لَا يَبْلى، لَا يَبِيدُ وَلَا يَفْنَى.
فَأَكَلا، يَعْنِي آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ، [بأكله من] [2] الشَّجَرَةِ، فَغَوى، يَعْنِي فَعْلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلُهُ. وَقِيلَ: أخطأ طريق الحق وَضَلَّ حَيْثُ طَلَبَ الْخُلْدَ بِأَكْلِ مَا نُهِيَ عَنْ أَكْلِهِ، فَخَابَ ولم ينل مراده. وقال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَيْ فَسَدَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ وَصَارَ مِنَ الْعِزِّ إِلَى الذُّلِّ، وَمِنَ الرَّاحَةِ إِلَى التَّعَبِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَصَى آدَمُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ آدَمُ عَاصٍ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ عَاصٍ لِمَنِ اعْتَادَ فِعْلَ الْمَعْصِيَةِ، كَالرَّجُلِ يَخِيطُ ثَوْبَهُ ويقال خَاطَ ثَوْبَهُ وَلَا يُقَالُ هُوَ خَيَّاطٌ حَتَّى يُعَاوِدَ ذَلِكَ وَيَعْتَادَهُ.
__________
(1) في المطبوع «بحلم» .
(2) في المطبوع «بأكل» .(3/277)
«1420» حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ زِيَادُ بْنُ محمد الحنفي أنا أَبُو مُعَاذٍ الشَّاهُ [بْنُ] [1] عَبْدِ الرحمن المزني [حدثنا] [2] أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيُّ بِبَغْدَادَ أَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصدفي أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى:
يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا [خَيَّبْتَنَا] [3] وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» .
«1421» وَرَوَاهُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَادَ: «قَالَ آدَمُ يَا مُوسَى بِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا، قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» .
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ، اخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ، فَتابَ عَلَيْهِ، بِالْعَفْوِ، وَهَدى، هَدَاهُ إلى التوبة حتى قَالَا [4] رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا.
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ، يَعْنِي الْكِتَابَ وَالرَّسُولَ، فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى، رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ هَدَاهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الضَّلَالَةِ، ووقاه يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُوءَ الْحِسَابِ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَجَارَ اللَّهُ تَعَالَى تَابِعَ الْقُرْآنِ مِنْ أَنْ يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَيَشْقَى فِي الْآخِرَةِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي، يَعْنِي الْقُرْآنَ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَلَمْ يَتَّبِعْهُ، فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، ضَيِّقًا، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: يُضْغَطُ حتى تختلف أضلاعه.
__________
1420- إسناده صحيح، يونس بن عبد الأعلى من رجال مسلم، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- طاوس هو ابن كيسان اليماني، قيل: طاوس لقب، واسمه ذكوان.
- وهو في «شرح السنة» 67 بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 6614 ومسلم 2652 وأبو داود 4701 وابن ماجه 80 وأحمد 2/ 248 والحميدي 115 وابن أبي عاصم في «السنة» 145 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 56 وابن حبان 6180 والآجري في «الشريعة» 695 والبيهقي في «الإعتقاد» ص 138 وفي «الأسماء والصفات» 415 من طرق عن سفيان به.
- وأخرجه البخاري 3409 و4736 و4738 و7515 ومسلم 2652 والترمذي 2134 وأحمد 2/ 264 و268 و398 وابن أبي عاصم 139 و146 وابن حبان 6179 والبيهقي في «الإعتقاد» ص 99 من طرق من حديث أبي هريرة.
1421- صحيح. أخرجه البخاري 6614 ومسلم 2652 ح 14 وابن أبي عاصم في: «السنة» 155 وابن خزيمة في «التوحيد» 54 وابن حبان 6210 من طرق عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ به.
(1) سقط من المطبوع.
(2) سقط من المطبوع.
(3) زيادة عن «صحيح البخاري» .
(4) في المخطوط «قال» .(3/278)
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
«1422» وَفِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ [1] مَرْفُوعًا. «يَلْتَئِمُ عَلَيْهِ الْقَبْرُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ فَلَا يَزَالُ يُعَذَّبُ حَتَّى يُبْعَثَ» . وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الزَّقُّومُ وَالضَّرِيعُ وَالْغِسْلِينُ فِي النَّارِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْحَرَامُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
هُوَ الْكَسْبُ الْخَبِيثُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الشَّقَاءُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَالٍ [2] أُعْطِيَ الْعَبْدُ قَلَّ أَمْ كَثُرَ فَلَمْ يَتَّقِ فِيهِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَهُوَ الضَّنْكُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَإِنَّ أَقْوَامًا أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ وَكَانُوا أُولِي سَعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا مُكْثِرِينَ، فَكَانَتْ مَعِيشَتُهُمْ ضَنْكًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ [أن] [3] الله ليس بمخلف [4] لهم فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ مَعَايِشُهُمْ مِنْ سُوءِ ظنهم بالله [عَزَّ وَجَلَّ] [5] ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: نسلبه الْقَنَاعَةَ حَتَّى لَا يَشْبَعَ، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْمَى الْبَصَرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْمَى عَنِ الْحُجَّةِ.
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (25) ، بِالْعَيْنِ أَوْ بَصِيرًا بِالْحُجَّةِ.
[سورة طه (20) : الآيات 126 الى 129]
قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
قالَ كَذلِكَ، أَيْ كَمَا أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها، فَتَرَكْتَهَا وَأَعْرَضَتْ عَنْهَا، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى، تُتْرَكُ فِي النَّارِ. قَالَ قَتَادَةُ: نُسُوا مِنَ الْخَيْرِ وَلَمْ يُنْسَوْا مِنَ الْعَذَابِ.
وَكَذلِكَ، أَيْ وَكَمَا جَزَيْنَا مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْقُرْآنِ كَذَلِكَ، نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ، أَشَرَكَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ، مِمَّا يُعَذِّبُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْقَبْرِ، وَأَبْقى، وَأَدْوَمُ.
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ، يُبَيِّنْ لَهُمُ الْقُرْآنُ يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، دِيَارِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ [إِذَا سَافَرُوا، وَالْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ كَانُوا يُسَافِرُونَ إِلَى الشَّامِ فَيَرَوْنَ دِيَارَ الْمُهْلَكِينَ] [6] مَنْ أَصْحَابِ الجر وثمود وقريات قوم لُوطٍ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى، لذوي العقول.
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) ، فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ [إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى] [7] لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى، وَالْكَلِمَةُ الْحُكْمُ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، أَيْ وَلَوْلَا حُكْمٌ سَبَقَ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عنهم وأجل مسمى وهو [يوم]]
الْقِيَامَةُ لَكَانَ لِزَامًا، أَيْ لَكَانَ العذاب
__________
1422- الصحيح موقوف. أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 1844 بإسناد كالشمس عن أبي سعيد الخدري موقوفا.
- وأخرجه الطبري 24419 من وجه آخر بإسناد على شرطهما عن أبي سعيد موقوفا.
- وأخرجه الطبري 24421 بإسناد حسن عن أبي هريرة موقوفا، والمرفوع لم أر له إسنادا.
(1) في المخطوط «الأسانيد» .
(2) في المطبوع «ما» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «بمختلف» .
(5) زيادة عن المخطوط. [.....]
(6) زيد في المطبوع وط.
(7) سقط من المطبوع وط.
(8) زيادة عن المخطوط.(3/279)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
لازما لهم [في الدنيا] [1] كَمَا لَزِمَ الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ الْكَافِرَةَ.
[سورة طه (20) : الآيات 130 الى 133]
فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133)
فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ، نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، أَيْ صَلِّ بِأَمْرِ رَبِّكَ. وَقِيلَ:
صَلِّ لِلَّهِ بِالْحَمْدِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَقَبْلَ غُرُوبِها، صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ، سَاعَاتِهَا وَاحِدُهَا إِنْيٌ، فَسَبِّحْ، يَعْنِي صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَأَطْرافَ النَّهارِ، يَعْنِي صَلَاةَ الظُّهْرِ، وَسَمَّى وَقْتَ الظُّهْرِ أَطْرَافَ النَّهَارِ لِأَنَّ وَقْتَهُ عِنْدَ الزَّوَالِ، وَهُوَ [طَرَفُ] [2] النِّصْفِ الْأَوَّلِ انْتِهَاءً وَطَرَفُ النِّصْفِ الْآخَرِ ابْتِدَاءً، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَمِنْ أَطْرَافِ النَّهَارِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ، لِأَنَّ الظَّهْرَ فِي آخِرِ الطَّرَفِ الْأَوَّلِ مِنَ النَّهَارِ، وَفِي أَوَّلِ الطَّرَفِ الآخر من النهار، فَهُوَ فِي طَرَفَيْنِ مِنْهُ وَالطَّرَفُ الثَّالِثُ غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُصَلَّى الْمَغْرِبُ، لَعَلَّكَ تَرْضى، أَيْ تَرْضَى ثَوَابَهُ فِي الْمَعَادِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ (تَرْضَى) بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ تُعْطَى ثَوَابَهُ. وَقِيلَ: تَرْضَى أَيْ يَرْضَاكَ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مَرْيَمَ: 55] ، وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ لَعَلَّكَ تَرْضَى بِالشَّفَاعَةِ، كَمَا قَالَ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) [الضَّحَى: 5] .
«1423» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الخطيب الحميدي أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يعقوب الشيباني إملاء أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السعدي أَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنِ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ [3] رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ، ثُمَّ قَرَأَ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ.
__________
1423- حديث صحيح. إبراهيم السعدي فمن دونه توبعوا، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- وهو في «شرح السنة» 379 بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 554 و7434 ومسلم 633 وأبو داود 4729 والترمذي 2551 وابن ماجه 177 والحميدي 799 وأحمد 4/ 360 و365 وابن أبي عاصم في «السنة» 446- 449 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 167- 168 وابن حبان 7442 والطبراني 2224- 2237 وابن مندة 791 و793- 880 من طرق عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «سترون» .(3/280)
«1424» قَالَ أَبُو رَافِعٍ: نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَيْفٌ فَبَعَثَنِي إِلَى يَهُودِيٍّ فَقَالَ لِي: «قُلْ لَهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ لَكَ بِعْنِي كَذَا وَكَذَا مِنَ الدَّقِيقِ وَأَسْلِفْنِي إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ» فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ وَاللَّهُ لَا أَبِيعُهُ وَلَا أُسْلِفُهُ إِلَّا بَرْهَنٍ، فَأَتَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «وَاللَّهِ لَئِنْ بَاعَنِي وَأَسْلَفَنِي لَقَضَيْتُهُ وَإِنِّي لِأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ وَأَمِينٌ فِي الْأَرْضِ، اذْهَبْ بِدِرْعِي الْحَدِيدِ إِلَيْهِ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ، لَا تَنْظُرْ، إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ، أَعْطَيْنَا، أَزْواجاً، أَصْنَافًا، مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا، أَيْ زِينَتَهَا وَبَهْجَتَهَا، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ زَهَرَةَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِجَزْمِهَا، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، أَيْ لِنَجْعَلَ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ بِأَنْ أُزِيدَ لَهُمُ النِّعْمَةَ فَيَزِيدُوا كُفْرًا وَطُغْيَانًا وَرِزْقُ رَبِّكَ، في المعاد يعني في الْجَنَّةَ، خَيْرٌ وَأَبْقى، قَالَ أُبَيُّ بن كعب: من لم يعتز بعز اللَّهِ تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ حَسَرَاتٍ، وَمَنْ يتبع بصره فيما في أيدي الناس طال حُزْنُهُ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَلْبَسِهِ فقد قلّ علمه وَحَضَرَ عَذَابُهُ.
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ، أَيْ قَوْمَكَ. وَقِيلَ: مَنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ [مَرْيَمَ: 55] ، وَاصْطَبِرْ عَلَيْها، أَيِ اصْبِرْ عَلَى الصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً، لَا نُكَلِّفُكَ أَنْ تَرْزُقَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِنَا، وَلَا أَنْ تَرْزُقَ نَفْسَكَ وَإِنَّمَا نُكَلِّفُكَ عَمَلًا، نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ، الْخَاتِمَةُ الْجَمِيلَةُ الْمَحْمُودَةُ، لِلتَّقْوى، أَيْ لِأَهْلِ التَّقْوَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الَّذِينَ صَدَّقُوكَ وَاتَّبَعُوكَ وَاتَّقَوْنِي.
«1425» وَفِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ إِذَا أَصَابَ أَهْلَهُ ضُرٌّ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا، يعني المشركين، لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ، أَيِ الْآيَةُ الْمُقْتَرَحَةُ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَتَاهُمْ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ، أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وحفص عن عاصم: (تأتهم) [بالتاء] لِتَأْنِيثِ الْبَيِّنَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ لتقديم الْفِعْلِ، وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْبَيَانُ فَرُدَّ إِلَى الْمَعْنَى، بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى، أَيْ بَيَانُ مَا فِيهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ أَقْوَى دَلَالَةٍ وَأَوْضَحُ آيَةٍ: وَقِيلَ: أَوَلَمْ يَأْتِهِمْ بَيَانُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ، فَلَمَّا أَتَتْهُمْ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، كَيْفَ عَجَّلْنَا لَهُمُ الْعَذَابَ وَالْهَلَاكَ، فَمَا يُؤَمِّنُهُمْ إِنْ أَتَتْهُمُ الْآيَةُ أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ كَحَالِ أُولَئِكَ.
__________
1424- إسناده ضعيف، والمتن منكر. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 615 من طريق روح عن موسى بن عبيدة الربذي عن يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قسيط عن أبي رافع به.
- وفيه موسى بن عبيدة الربذي، ضعيف ليس بشيء.
- وأخرجه الطبري 24455 من طريق موسى بن عبيدة بالإسناد السابق مختصرا.
- وأخرجه الطبري 24456 من وجه آخر من حديث أبي رافع، وفيه الحسين بن داود، وهو ضعيف.
- ثم إن السورة مكية كما تقدم في مطلعها، وأما الخبر فمدني.
- وانظر «فتح القدير» 1616 و «الكشاف» 688 بتخريجي.
1425- ضعيف. أخرجه الطبراني في «الأوسط» 890 والبيهقي في «الشعب» 9705 وأبو نعيم في «الحلية» 8/ 176 مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سلام.
وصححه السيوطي في «الدر» 4/ 561.
وقال الهيثمي في «المجمع» 11173: رجال الطبراني ثقات اهـ.
قلت: هو عند أبي نعيم والطبراني «عن معمر عن محمد بن حمزة عن عبد الله بن سلام» وهذا منقطع، وهو عند البيهقي عن يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سلام به وفيه يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، وهو متروك، فالخبر ضعيف.
- وانظر «فتح القدير» 1620 بتخريجي.(3/281)
[سورة طه (20) : الآيات 134 الى 135]
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ، يعني من قبل إرسال الرسل وإنزال القرآن، لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا، هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا، يَدْعُونَا، إلى لقاء يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى، بِالْعَذَابِ وَالذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَالْخِزْيِ وَالِافْتِضَاحِ.
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ، مُنْتَظِرٌ دَوَائِرَ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا نَتَرَبَّصُ بِمُحَمَّدٍ حَوَادِثَ الدَّهْرِ، فَإِذَا مَاتَ تَخَلَّصْنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَتَرَبَّصُوا، فَانْتَظِرُوا، فَسَتَعْلَمُونَ، إِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ، مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ، الْمُسْتَقِيمِ، وَمَنِ اهْتَدى، مِنَ الضَّلَالَةِ نَحْنُ أَمْ أَنْتُمْ؟
تفسير سورة الأنبياء
[مكية وهي مائة واثنتا عشرة آية]
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ، قِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى من، يعني اقْتَرَبَ مِنَ النَّاسِ حِسَابُهُمْ، أَيْ وَقْتُ مُحَاسَبَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَزَلَتْ فِي مُنْكِرِي الْبَعْثِ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ، عَنِ التَّأَهُّبِ لَهُ.
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ، يَعْنِي مَا يُحْدِثُ اللَّهُ مِنْ تَنْزِيلِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ يُذَكِّرُهُمْ وَيَعِظُهُمْ بِهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يُحْدِثُ اللَّهُ الْأَمْرَ بَعْدَ الأمر. وقيل: الذِّكْرُ الْمُحْدَثُ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَهُ مِنَ السُّنَنِ وَالْمَوَاعِظِ سِوَى [مَا في] [1] القرآن، وإضافته [2] إِلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ قَالَ بِأَمْرِ الرَّبِّ، إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، يعني اسْتَمَعُوهُ لَاعِبِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ وَلَا يتعظون.
__________
(1) سقط من المطبوع، وفي- ط «ما» .
(2) في المطبوع وط «وأضافه» .(3/282)
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
لاهِيَةً، سَاهِيَةً غَافِلَةً، قُلُوبُهُمْ، مُعْرِضَةً عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَقَوْلُهُ: لاهِيَةً نَعْتٌ تَقَدَّمَ الِاسْمَ، وَمِنْ حَقِّ النَّعْتِ أَنْ يَتْبَعَ الِاسْمَ فِي الْإِعْرَابِ، وَإِذَا تَقَدَّمَ النَّعْتُ الِاسْمَ فَلَهُ حَالَتَانِ فَصْلٌ وَوَصْلٌ، فَحَالَتُهُ فِي الْفَصْلِ النَّصْبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ [القَمَرِ: 7] ، وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها [الإنسان: 14] ، ولاهِيَةً قُلُوبُهُمْ، وَفِي الْوَصْلِ حَالَةُ مَا قبله من الإعراب كقوله، رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [النِّسَاءِ: 75] . وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، يعني أَشْرَكُوا، قَوْلُهُ: وَأَسَرُّوا فِعْلٌ تَقَدَّمَ [1] الْجَمْعَ وَكَانَ حَقُّهُ وَأَسَرَّ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَرَادَ: الذين ظَلَمُوا أَسَرُّوا النَّجْوَى. وَقِيلَ: مَحَلُّ [2] الَّذِينَ رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ، مَعْنَاهُ: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، ثُمَّ قَالَ: وَهُمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقِيلَ: رُفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي أَسَرُّوا. قَالَ الْمُبَرِّدُ: هَذَا كَقَوْلِكَ إِنَّ الَّذِينَ فِي الدَّارِ انْطَلَقُوا بَنُو عَبْدِ اللَّهِ، عَلَى الْبَدَلِ مِمَّا فِي انْطَلَقُوا ثُمَّ بَيَّنَ سِرَّهِمُ الَّذِي تَنَاجَوْا بِهِ فَقَالَ: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْكَرُوا إِرْسَالَ الْبَشَرِ وَطَلَبُوا إِرْسَالَ الْمَلَائِكَةِ، أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ، يعني أتحضرون السِّحْرَ وَتَقْبَلُونَهُ، وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ، تَعْلَمُونَ أنه سحر.
قالَ، لهم مُحَمَّدُ، رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: «قَالَ رَبِّي» ، عَلَى الْخَبَرِ عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَيْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَهُوَ السَّمِيعُ، لِأَقْوَالِهِمْ، الْعَلِيمُ، بِأَفْعَالِهِمْ.
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ، أباطيلها [3] وَأَهَاوِيلُهَا رَآهَا فِي النَّوْمِ، بَلِ افْتَراهُ، [أي] [4] اخْتَلَقَهُ، بَلْ هُوَ شاعِرٌ، يَعْنِي أَنَّ الْمُشْرِكِينَ اقْتَسَمُوا الْقَوْلَ فِيهِ وفيما يقوله: فقال بَعْضُهُمْ: أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ هُوَ فِرْيَةٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ مُحَمَّدٌ شَاعِرٌ وَمَا جَاءَكُمْ بِهِ شِعْرٌ. فَلْيَأْتِنا مُحَمَّدٌ، بِآيَةٍ، إِنْ كَانَ صَادِقًا كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ، من الرسل بالآيات.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 6 الى 10]
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ، أي قَبْلَ مُشْرِكِي مَكَّةَ، مِنْ قَرْيَةٍ، أَيْ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ أَتَتْهُمُ الْآيَاتُ، أَهْلَكْناها، أَهْلَكْنَاهُمْ بِالتَّكْذِيبِ، أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ، إِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ، مَعْنَاهُ:
[أَنَّ] [5] أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالْآيَاتِ لَمَّا أَتَتْهُمْ أَفَيُؤْمِنُ هَؤُلَاءِ.
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ، هَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الأنبياء: 3] يَعْنِي إِنَّا لَمْ نُرْسِلِ الْمَلَائِكَةَ إِلَى الْأَوَّلِينَ إِنَّمَا أَرْسَلْنَا رِجَالًا نوحي إليهم، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ،
__________
(1) في المخطوط «تقدمه» .
(2) في المطبوع «حمل» .
(3) في المطبوع زيادة «وأقاويلها» . [.....]
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.(3/283)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)
يَعْنِي أَهْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يُرِيدُ عُلَمَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُمْ لَا يُنْكِرُونَ أَنَّ الرُّسُلَ كَانُوا بَشَرًا، وَإِنْ أَنْكَرُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ الْمُشْرِكِينَ بمساءلتهم لِأَنَّهُمْ إِلَى تَصْدِيقِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرَبُ مِنْهُمْ إِلَى تَصْدِيقِ مَنْ آمَنَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَرَادَ بِالذِّكْرِ الْقُرْآنَ [أَرَادَ] [1] فَاسْأَلُوا الْمُؤْمِنِينَ الْعَالَمِينَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ، إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
وَما جَعَلْناهُمْ، أَيِ الرُّسُلُ، جَسَداً، وَلَمْ يَقُلْ أَجْسَادًا لِأَنَّهُ اسْمُ الْجِنْسِ، لَا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ، هَذَا رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ [الفُرْقَانِ: 7] ، يَقُولُ لَمْ نَجْعَلِ الرُّسُلَ مَلَائِكَةً بَلْ جَعَلْنَاهُمْ بَشَرًا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ، وَما كانُوا خالِدِينَ، فِي الدُّنْيَا.
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ، الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ بِإِهْلَاكِ أَعْدَائِهِمْ، فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ، يعني أَنْجَيْنَا الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ صَدَّقُوهُمْ، وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ، يعني الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ، وَكُلُّ مُشْرِكٍ مُسْرِفٌ عَلَى نَفْسِهِ.
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فِيهِ ذِكْرُكُمْ، يعني شَرَفُكُمْ، كَمَا قَالَ: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزُّخْرُفِ: 44] ، وَهُوَ شَرَفٌ لمن آمن به، وقال مُجَاهِدٌ: فِيهِ حَدِيثُكُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَيْ ذِكْرُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِكُمْ، أَفَلا تَعْقِلُونَ.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 18]
وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
وَكَمْ قَصَمْنا، أَهْلَكْنَا، وَالْقَصْمُ الْكَسْرُ، مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً، أَيْ كَافِرَةً، يَعْنِي أَهْلَهَا، وَأَنْشَأْنا بَعْدَها، يعني: أَحْدَثْنَا بَعْدَ هَلَاكِ أَهْلِهَا، قَوْماً آخَرِينَ.
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا، يعني رَأَوْا عَذَابَنَا بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ، يعني يسرعون هاربين.
لا تَرْكُضُوا، يعني قِيلَ لَهُمْ لَا تَرْكُضُوا لَا تهربوا لا تذهبوا، وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ، يعني نعمتم به، وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ قَتْلِ نبيكم. وقيل [2] : من دنياكم شيئا، نزلت الآية في أهل حضوراء [3] ، وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالْيَمَنِ وَكَانَ أَهْلُهَا من الْعَرَبَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ فَكَذَّبُوهُ وَقَتَلُوهُ فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بَخْتُنَصَّرَ، حَتَّى قتلهم وسباهم، فلما استحر [4] فِيهِمُ الْقَتْلُ نَدِمُوا وَهَرَبُوا وَانْهَزَمُوا، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهُمُ اسْتِهْزَاءً لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فيه ومساكنكم وَأَمْوَالِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ، قَالَ قَتَادَةُ: لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ شَيْئًا مِنْ دُنْيَاكُمْ فَتُعْطُونَ مَنْ شِئْتُمْ وَتَمْنَعُونَ مَنْ شِئْتُمْ، فَإِنَّكُمْ أَهْلُ ثَرْوَةٍ وَنِعْمَةٍ، يقولون ذلك استهزاء بهم، فاتبعتهم [عسكر] [5] بُخْتُنَصَّرُ وَأَخَذَتْهُمُ السُّيُوفُ، وَنَادَى مُنَادٍ من جَوِّ السَّمَاءِ يَا ثَارَّاتِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ أَقَرُّوا بِالذُّنُوبِ حين لم ينفعهم.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «وقال قتادة يسألون» .
(3) في المطبوع «حضرموت» وفي- ط «حصور» وفي «الدر المنثور» 4/ 564 «حضور» وهو يوافق المخطوط.
(4) في المطبوع «استمر» .
(5) زيادة عن المخطوط.(3/284)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ، أَيْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ وَهِيَ قَوْلُهُمْ يَا وَيْلَنَا، دُعَاؤُهُمْ يَدْعُونَ بِهَا وَيُرَدِّدُونَهَا، حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً، بِالسُّيُوفِ كَمَا يُحْصَدُ الزَّرْعُ، خامِدِينَ، ميتين.
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) ، أَيْ عَبَثًا وَبَاطِلًا.
لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً، اخْتَلَفُوا فِي اللَّهْوِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: اللَّهْوُ هاهنا الْمَرْأَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: اللَّهْوُ الْوَلَدُ، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ، وَهُوَ فِي الْمَرْأَةِ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُسَمَّى لَهْوًا فِي اللُّغَةِ، وَالْمَرْأَةُ مَحَلُّ الْوَطْءِ. لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا، يعني من عندنا من حور الْعَيْنِ لَا مِنْ عِنْدِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا ذَلِكَ فِي صِفَتِهِ لَمْ يَتَّخِذْهُ بِحَيْثُ يَظْهَرُ لَهُمْ بل يستر ذَلِكَ حَتَّى لَا يَطَّلِعُوا عَلَيْهِ، وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ أَنَّ النَّصَارَى لَمَّا قَالُوا فِي الْمَسِيحِ وَأَمِّهِ مَا قَالُوا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذَا وَقَالَ: لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا لِأَنَّكُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ وَلَدَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتَهُ يَكُونَانِ عِنْدَهُ، لَا عِنْدَ غَيْرِهِ، إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ، قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: «إِنْ» لِلنَّفْي، معناه: مَا كُنَّا فَاعِلِينَ. وَقِيلَ: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ لِلشَّرْطِ أَيْ [إِنْ] [1] كُنَّا مِمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا، وَلَكِنَّا لَمْ نَفْعَلْهُ لِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِالرُّبُوبِيَّةِ.
بَلْ، يعني دَعْ ذَلِكَ الَّذِي قَالُوا فَإِنَّهُ كَذِبٌ وَبَاطِلٌ، نَقْذِفُ، نَرْمِي وَنُسَلِّطُ، بِالْحَقِّ، بِالْإِيمَانِ، عَلَى الْباطِلِ، عَلَى الْكُفْرِ، وَقِيلَ: الْحَقُّ قَوْلُ اللَّهِ، فإنه لَا وَلَدَ لَهُ، وَالْبَاطِلُ قَوْلُهُمُ اتخذ الله ولدا، فَيَدْمَغُهُ، يعني يهلكه، وَأَصْلُ الدَّمْغِ شَجُّ الرَّأْسِ حَتَّى يَبْلُغَ الدِّمَاغَ، فَإِذا هُوَ زاهِقٌ، ذاهب، والمعنى: أنا نُبْطِلُ كَذِبَهُمْ بِمَا نُبَيِّنُ مِنَ الْحَقِّ حَتَّى يَضْمَحِلَّ وَيَذْهَبَ، ثُمَّ أَوْعَدَهَمْ عَلَى كَذِبِهِمْ فَقَالَ: وَلَكُمُ الْوَيْلُ، يَا مَعْشَرَ الْكُفَّارِ. مِمَّا تَصِفُونَ، اللَّهَ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ. وَقَالَ مجاهد: مما تكذبون.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 19 الى 23]
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، عَبِيدًا وَمُلْكًا، وَمَنْ عِنْدَهُ، يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ، لَا يَأْنَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَتَعَظَّمُونَ عَنْهَا، وَلا يَسْتَحْسِرُونَ، لَا يَعْيَوْنَ، يُقَالُ: حَسِرَ وَاسْتَحْسَرَ إِذَا تَعِبَ وَأَعْيَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا ينقطعون عَنِ الْعِبَادَةِ.
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) ، لَا يَضْعُفُونَ [وَلَا يَسْأَمُونَ] [2] ، قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: التَّسْبِيحُ لَهُمْ كَالنَّفَسِ لِبَنِي آدَمَ.
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْجَحْدِ أَيْ لَمْ يَتَّخِذُوا، مِنَ الْأَرْضِ، يَعْنِي الْأَصْنَامَ مِنَ الْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ وَهُمَا مِنَ الْأَرْضِ، هُمْ يُنْشِرُونَ، يُحْيُونَ الْأَمْوَاتَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْإِلَهِيَّةَ إِلَّا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْإِحْيَاءِ وَالْإِيجَادِ مِنَ الْعَدَمِ وَالْإِنْعَامِ بِأَبْلَغِ وُجُوهِ النِّعَمِ.
لَوْ كانَ فِيهِما، يعني فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ، يعني غَيْرُ اللَّهِ، لَفَسَدَتا، لَخَرِبَتَا وَهَلَكَ مَنْ فِيهِمَا بِوُجُودِ التَّمَانُعِ بَيْنَ [3] الْآلِهَةِ لِأَنَّ كُلَّ أَمْرٍ صَدَرَ عَنِ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ لَمْ يَجْرِ على النظام، ثم نزّه
__________
(1) سقط من المطبوع.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «من» .(3/285)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
نَفْسَهُ فَقَالَ: فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ، يعني عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الشريك والولد.
لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، ويحكم في [1] خلقه لأنه الربّ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [أَيِ الْخَلْقُ يُسْأَلُونَ] [2] ، عَنْ أَفْعَالِهِمْ وأعمالهم لأنهم عبيد.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 24 الى 29]
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ، قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ، يعني حُجَّتَكُمْ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ مُسْتَأْنِفًا، هَذَا، يَعْنِي الْقُرْآنَ. ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ، فِيهِ خَبَرُ مَنْ مَعِيَ عَلَى دِينِي وَمَنْ يَتَّبِعُنِي [3] إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِمَا لَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. وَذِكْرُ، خَبَرُ، مَنْ قَبْلِي، مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ مَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَمَا يُفْعَلُ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ: الْقُرْآنُ، وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَمَعْنَاهُ: رَاجِعُوا الْقُرْآنَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَسَائِرَ الْكُتُبِ هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ وَلَدًا، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ «نوحي» بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْحَاءِ عَلَى التَّعْظِيمِ، لقوله: وَما أَرْسَلْنا [الإسراء: 54] ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ، أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ، وَحِّدُونِ.
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، نَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ حَيْثُ قَالُوا الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، سُبْحانَهُ، نَزَّهَ نَفْسَهُ عَمَّا قَالُوا، بَلْ عِبادٌ، أَيْ هُمْ عِبَادٌ، يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، مُكْرَمُونَ.
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ، لَا يَتَقَدَّمُونَهُ بِالْقَوْلِ وَلَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا بِمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ، وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يُخَالِفُونَهُ قَوْلًا وفعلا [4] .
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، [أَيْ مَا عَمِلُوا وَمَا هُمْ عَامِلُونَ. وَقِيلَ: مَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِهِمْ وَمَا يَكُونُ بَعْدَ خَلْقِهِمْ] [5] ، وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى، قال ابن عباس: لِمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله، وقال مجاهد:
إِلَّا لِمَنْ رَضِيَ [اللَّهُ] [6] عَنْهُ، وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ، [أي] خَائِفُونَ لَا يَأْمَنُونَ مَكْرَهُ.
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ، قَالَ قَتَادَةُ [7] : عَنَى بِهِ إِبْلِيسَ حِينَ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ نَفْسِهِ وَأَمَرَ بِطَاعَةِ نَفْسِهِ، فَإِنَّ أَحَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَقُلْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ، الْوَاضِعِينَ الْإِلَهِيَّةَ وَالْعِبَادَةَ فِي غير موضعها.
__________
(1) في المطبوع «على» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «تبعني» .
(4) في المطبوع «ولا عملا» . [.....]
(5) سقط من المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المطبوع «مقاتل» .(3/286)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33]
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا، قَرَأَ العامة بالواو وقرأ ابْنُ كَثِيرٍ أَلَمْ يَرَ بِغَيْرِ وَاوٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ، معناه: أو لم [1] يَعْلَمِ الَّذِينَ كَفَرُوا، أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالضَّحَّاكُ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: كَانَتَا شَيْئًا وَاحِدًا مُلْتَزِقَتَيْنِ، فَفَتَقْناهُما، فَصَلْنَا بَيْنَهُمَا بِالْهَوَاءِ وَالرَّتْقُ فِي اللُّغَةِ السَّدُّ، وَالْفَتْقُ الشق، قال كعب [الأحبار] [2] : خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، ثُمَّ خَلَقَ رِيحًا فوسطها ففتحهما بِهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانَتِ السماوات مرتقة طبقة واحدة ففتقها وجعلها سبع سماوات، وكذلك الأرض كانت مرتقة طبقة واحدة ففتقها وجعلها سَبْعَ أَرَضِينَ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطِيَّةُ: كَانَتِ السَّمَاءُ رَتْقًا لَا تُمْطِرُ وَالْأَرْضُ رَتْقًا لَا تُنْبِتُ، فَفَتَقَ السَّمَاءَ بِالْمَطَرِ وَالْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ.
وَإِنَّمَا قَالَ: رَتْقاً عَلَى التَّوْحِيدِ وَهُوَ من نعت السماوات وَالْأَرْضِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ الِاسْمِ، مِثْلَ الزَّوْرِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، وَجَعَلْنا، وَخَلَقْنَا، مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، أي أحيينا بِالْمَاءِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَيْ مِنَ الْحَيَوَانِ وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّبَاتُ وَالشَّجَرُ، يَعْنِي أَنَّهُ سَبَبٌ لِحَيَاةِ كُلِّ شَيْءٍ.
وَالْمُفَسِّرُونَ يَقُولُونَ: يَعْنِي أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ فَهُوَ مَخْلُوقٌ من الماء. لقوله تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ [النُّورِ: 45] ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: يَعْنِي النُّطْفَةَ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ خَلَقَ اللَّهُ بَعْضَ مَا هُوَ حَيٌّ مِنْ غَيْرِ الْمَاءِ؟ قِيلَ:
هَذَا عَلَى وَجْهِ التَّكْثِيرِ [3] ، يَعْنِي أَنَّ أَكْثَرَ الْأَحْيَاءِ فِي الأرض مخلوق مِنَ الْمَاءِ أَوْ بَقَاؤُهُ بِالْمَاءِ، أَفَلا يُؤْمِنُونَ.
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ، أي جِبَالًا ثَوَابِتَ، أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ، لئلا تَمِيدَ بِهِمْ، وَجَعَلْنا فِيها، فِي الرَّوَاسِي، فِجاجاً، طُرُقًا وَمَسَالِكَ، وَالْفَجُّ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ [4] بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، أَيْ جعلنا بين الجبال طرقا [ومسالك] [5] كي يهتدوا [بها] [6] إِلَى مَقَاصِدِهِمْ، سُبُلًا، تَفْسِيرٌ لِلْفِجَاجِ، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ.
وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً، مِنْ أَنْ تَسْقُطَ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الحَجِّ: 65] ، وَقِيلَ: مَحْفُوظًا مِنَ الشَّيَاطِينِ بِالشُّهُبِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) [الحِجْرِ: 17] ، وَهُمْ، يَعْنِي الْكُفَّارَ، عَنْ آياتِها، أي عن مَا خَلْقَ اللَّهُ فِيهَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَغَيْرِهَا، مُعْرِضُونَ، لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) ، يَجْرُونَ وَيَسِيرُونَ بِسُرْعَةٍ كَالسَّابِحِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَسْبَحُونَ، ولم يقل تسبح عَلَى مَا يُقَالُ لِمَا لَا يَعْقِلُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ عَنْهَا [7] فِعْلَ الْعُقَلَاءِ مِنَ الْجَرْيِ وَالسَّبْحِ، فَذُكِرَ عَلَى مَا يَعْقِلُ، وَالْفَلَكُ مَدَارُ النُّجُومِ الَّذِي يَضُمُّهَا، وَالْفَلَكُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَدِيرٍ وجمعه أفلاك، ومنه فلكة المغزل.
__________
(1) في المطبوع (ألم) .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «التفكير» .
(4) في المخطوط «السالك» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المخطوط «عنهما» .(3/287)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
وَقَالَ الْحَسَنُ: الْفَلَكُ طَاحُونَةٌ كَهَيْئَةِ فَلَكَةِ الْمِغْزَلِ، يُرِيدُ أَنَّ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ النُّجُومُ مُسْتَدِيرٌ كَاسْتِدَارَةِ الطاحونة [1] . [قال الضحاك: فلكها مجراها وسرعة سيرها. قال مجاهد: كهيئة حديد الرحى] [2] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْفَلَكُ السَّمَاءُ الَّذِي فِيهِ ذَلِكَ الْكَوْكَبُ، فَكُلُّ كَوْكَبٍ يَجْرِي فِي السَّمَاءِ الَّذِي قُدِّرَ فِيهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْفَلَكُ اسْتِدَارَةُ السَّمَاءِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: الْفَلَكُ مَوْجٌ مَكْفُوفٌ دون السماء تجري فيه الشمس والقمر والنجوم.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 39]
وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ، دَوَامَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا، أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ، أَيْ أَفْهُمُ الْخَالِدُونَ إِنْ مِتَّ، قيل: نزلت هذه الآية حين قال [مشركو مكة] [3] نَتَرَبَّصُ بِمُحَمَّدٍ رَيْبَ الْمَنُونِ.
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ، نَخْتَبِرُكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ، بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَقِيلَ: بِمَا تُحِبُّونَ وَمَا تَكْرَهُونَ، فِتْنَةً، ابْتِلَاءً لِنَنْظُرَ كَيْفَ شُكْرُكُمْ [4] فِيمَا تُحِبُّونَ، وَصَبْرُكُمْ فِيمَا تَكْرَهُونَ، وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ.
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ، مَا يَتَّخِذُونَكَ، إِلَّا هُزُواً، سُخْرِيًّا، قَالَ السُّدِّيُّ:
نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ مَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ، وَقَالَ: هَذَا نَبِيُّ بَنِي عَبْدِ منَافٍ، أَهذَا الَّذِي، أَيْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَهَذَا الَّذِي، يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ، أَيْ يَعِيبُهَا، يُقَالُ: فُلَانٌ يَذْكُرُ فُلَانًا أَيْ يَعِيبُهُ، وَفُلَانٌ يذكر الله أي يعظّمه ويبجّله، وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لَا نعرف الرحمن إلا مسيلمة [الكذاب] [5] ، و «هم» الثانية صلة.
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ، اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ أَنْ بِنْيَتَهُ وَخِلْقَتَهُ مِنَ الْعَجَلَةِ وَعَلَيْهَا طبع، كما قال الله تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الإِسْرَاءِ: 11] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالسُّدِّيُّ: لَمَّا دَخَلَتِ الرُّوحُ فِي رَأْسِ آدَمَ وعينيه نَظَرَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا دخلت في جوفه اشتهى الطعام، فوثب قائما قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ إِلَى رجليه عجلان إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَوَقَعَ، فَقِيلَ: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ، وَالْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ آدَمُ، وَأُورِثَ أَوْلَادُهُ الْعَجَلَةَ، والعرب تقول للذي يكثر من [6] الشيء: خلقت منه، كما يقول: خلقت من لعب [7]
__________
(1) في المطبوع «الطاحون» .
(2) زيد في المطبوع.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «شكرتم» . [.....]
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «منه» .
(7) في المطبوع «تعب» .(3/288)
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
وخلقت من غضب، تريد الْمُبَالَغَةُ فِي وَصْفِهِ بِذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الإسراء: 11] ، وَقَالَ قَوْمُّ: مَعْنَاهُ خُلِقَ الْإِنْسَانُ يَعْنِي آدَمَ مِنْ تَعْجِيلٍ فِي خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُ، لِأَنَّ خَلْقَهُ كَانَ بَعْدَ خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ فِي آخِرِ النَّهَارِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَسْرَعَ فِي خَلْقِهِ قَبْلَ مَغِيبِ الشمس. وقال مُجَاهِدُّ: فَلَمَّا أَحْيَا الرُّوحُ رَأْسَهُ [قَالَ] [1] يَا رَبِّ اسْتَعْجِلْ بِخَلْقِي قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقِيلَ: بِسُرْعَةٍ وَتَعْجِيلٍ عَلَى غَيْرِ تَرْتِيبِ خَلْقِ سائر الآدميين من النطفة ثم العلقة ثم المضغة وَغَيْرِهَا. وَقَالَ قَوْمُّ: مِنْ عَجَلٍ أَيْ مِنْ طِينٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
والنبع في الصخرة الصماء منتبه [2] ... وَالنَّخْلُ يَنْبُتُ بَيْنَ المَاءِ وَالْعَجَلِ
سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ، [هذا خطاب للمشركين] [3] ، نَزَلَ هَذَا فِي الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ، وَيَقُولُونَ أَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ، فَقَالَ تعالى: سَأُرِيكُمْ آياتِي أي مواعيد [عذابي] [4] فَلَا تَسْتَعْجِلُونَ، أَيْ فَلَا تَطْلُبُوا الْعَذَابَ مِنْ [قَبْلِ] [5] وَقْتِهِ، فَأَرَاهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقِيلَ: كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ الْقِيَامَةَ.
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) ، فَقَالَ تَعَالَى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ، لَا يَدْفَعُونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ، قِيلَ: وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمُ السِّيَاطَ، وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، يُمْنَعُونَ مِنْ الْعَذَابِ، وَجَوَابُ لَوْ فِي قَوْلِهِ: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ مَحْذُوفٌ مَعْنَاهُ: لو عَلِمُوا لَمَا أَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ، ولما استعجلوا [العذاب] [6] ، وَلَا قَالُوا مَتَى هَذَا الْوَعْدُ.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 40 الى 43]
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
بَلْ تَأْتِيهِمْ، يَعْنِي السَّاعَةَ بَغْتَةً، فَجْأَةً، فَتَبْهَتُهُمْ، أَيْ تُحَيِّرُهُمْ، يُقَالُ فُلَانٌ مَبْهُوتٌ أَيْ مُتَحَيِّرٌ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ، يُمْهَلُونَ.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ، نَزَلَ، بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، أَيْ جَزَاءُ اسْتِهْزَائِهِمْ.
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ، يَحْفَظُكُمْ، بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ، إِنْ أَنْزَلَ بِكُمْ عَذَابَهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
مَنْ يَمْنَعُكُمْ مِنْ عَذَابِ الرَّحْمَنِ، بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ، عَنِ الْقُرْآنِ وَمَوَاعِظِ اللَّهِ، مُعْرِضُونَ.
أَمْ لَهُمْ، أي: صِلَةٌ فِيهِ، وَفِي أَمْثَالِهِ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا، فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ مِنْ دُونِنَا تَمْنَعُهُمْ، ثُمَّ وَصَفَ الْآلِهَةَ بِالضَّعْفِ، فَقَالَ تَعَالَى: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ، مَنْعَ أَنْفُسِهِمْ، فَكَيْفَ يَنْصُرُونَ عَابِدِيهِمْ، وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يمنعون. وقال عطية عنه:
__________
(1) سقط من المطبوع.
(2) في المطبوع «منبتة» .
(3) زيد في المطبوع.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.(3/289)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
يُجَارُونَ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنَا لَكَ جَارٌ وَصَاحِبٌ مَنْ فُلَانٍ، أَيْ مُجِيرٌ مِنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُنْصَرُونَ ويحفظون.
وقال قتادة: لا يصحبون [1] من الله بخير.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 44 الى 49]
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ، الْكَفَّارَ، وَآباءَهُمْ، فِي الدُّنْيَا أَيْ أَمْهَلْنَاهُمْ. وَقِيلَ: أَعْطَيْنَاهُمُ النِّعْمَةَ، حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ، أَيِ امْتَدَّ بِهِمُ الزَّمَانُ فَاغْتَرُّوا، أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها، أي مَا نَنْقُصُ مِنْ أَطْرَافِ الْمُشْرِكِينَ وَنَزِيدُ فِي أَطْرَافِ الْمُؤْمِنِينَ، يُرِيدُ ظُهُورَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَتْحَهُ دِيَارَ الشِّرْكِ أَرْضًا فَأَرْضًا، أَفَهُمُ الْغالِبُونَ، أَمْ نَحْنُ.
قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ، أَيْ أُخَوِّفُكُمْ بِالْقُرْآنِ، وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ، قرأ ابن عامر [2] [تسمع] [3] بِالتَّاءِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِ الْمِيمِ، الصُّمُّ نصب، عَلَى [4] الْخِطَابِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَفَتْحِهَا وَفَتْحِ الْمِيمِ، الصُّمُّ رُفِعَ، إِذا مَا يُنْذَرُونَ، يُخَوَّفُونَ.
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ، أَصَابَتْهُمْ نَفْحَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: طَرَفٌ. وقيل: قليل.
وقال ابْنُ جُرَيْجٍ: نَصِيبٌ، مِنْ قَوْلِهِمْ نَفَحَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ مِنْ مَالِهِ أي أعطاه حظا ونصيبا مِنْهُ. وَقِيلَ: ضَرْبَةٌ مِنْ قَوْلِهِمْ نَفَحَتِ الدَّابَّةُ بِرِجْلِهَا إِذَا ضَرَبَتْ بها، مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ، أَيْ بِإِهْلَاكِنَا إِنَّا كُنَّا مُشْرِكِينَ، دَعَوْا عَلَى أنفسهم بالويل بعد ما أَقَرُّوا بِالشِّرْكِ.
وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ، أَيْ ذَوَاتِ الْقِسْطِ وَالْقِسْطُ الْعَدْلُ، لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، أَيْ: لَا يَنْقُصُ مِنْ ثواب حسناتها ولا يزاد على سيآتها، وَفِي الْأَخْبَارِ: إِنَّ الْمِيزَانَ لَهُ لِسَانٌ وَكِفَّتَانِ [5] . رُوِيَ أَنَّ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ الْمِيزَانَ فَأَرَاهُ كُلَّ كِفَّةٍ [قدر] [6] مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَغُشِيَ عليه، فلما أفاق قال: يَا إِلَهِي مَنِ الَّذِي يَقْدِرُ أن يملأ كفته حسنات؟ قال: يَا دَاوُدُ إِنِّي إِذَا رَضِيتُ عن عَبْدِي مَلَأْتُهَا بِتَمْرَةٍ [7] ، وَإِنْ كانَ، الشَّيْءُ، مِثْقالَ حَبَّةٍ، أَيْ زِنَةَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ، مِنْ خَرْدَلٍ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ (مِثْقَالَ) بِرَفْعِ اللَّامِ هاهنا وفي سورة لقمان [16] ، يعني وإن وقع مثقال حبة من خردل، وَنَصَبَهَا الْآخَرُونَ عَلَى مَعْنًى وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ [أي زنة مِثْقَالَ حَبَّةٍ] [8] مِنْ خَرْدَلٍ، أَتَيْنا بِها
__________
(1) في المطبوع «يصبحون» .
(2) في المطبوع «ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا» وهو خطأ من صنع النساخ.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «نصبا، جعل» .
(5) لا أصل له في المرفوع، وإنما ورد عن الحسن قوله، وسيأتي. [.....]
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المخطوط وحده «بثمرة» .
(8) زيادة عن المخطوط.(3/290)
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
أَحْضَرْنَاهَا لِنُجَازِيَ بِهَا.
وَكَفى بِنا حاسِبِينَ، قَالَ السُّدِّيُّ: مُحْصِينَ، وَالْحَسْبُ معناه: العدل، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَالِمِينَ حَافِظِينَ، لِأَنَّ مَنْ حَسَبَ شَيْئًا عَلِمَهُ وَحَفِظَهُ.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ، يَعْنِي الْكِتَابَ الْمُفَرِّقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْفَرْقَانُ النَّصْرُ [1] عَلَى الْأَعْدَاءِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ [الْأَنْفَالِ: 41] ، يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ لِأَنَّهُ قَالَ وَضِياءً، أَدْخَلَ الْوَاوَ فِيهِ أَيْ آتَيْنَا مُوسَى النَّصْرَ وَالضِّيَاءَ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ. وَمَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالْفُرْقَانِ التَّوْرَاةُ، قَالَ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَضِياءً، زَائِدَةٌ مُقْحَمَةٌ، مَعْنَاهُ: آتَيْنَاهُ التَّوْرَاةَ ضِيَاءً، وَقِيلَ: هُوَ صِفَةٌ أُخْرَى لِلتَّوْرَاةِ، وَذِكْراً، تَذْكِيرًا، لِلْمُتَّقِينَ.
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ، أَيْ يَخَافُونَهُ وَلَمْ يَرَوْهُ، وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ، خائفون.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 50 الى 57]
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54)
قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ، يَعْنِي الْقُرْآنَ وَهُوَ ذِكْرٌ لِمَنْ تذكر به مبارك لمن يَتَبَرَّكُ بِهِ وَيَطْلُبُ مِنْهُ الْخَيْرَ، أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ، يَا أَهْلَ مَكَّةَ، لَهُ مُنْكِرُونَ، جَاحِدُونَ، وَهَذَا اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وتعيير.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَيْ صلاحه، مِنْ قَبْلُ، يَعْنِي مِنْ قَبْلِ مُوسَى وَهَارُونَ، وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: رُشْدَهُ من قبل، أي هداه مِنْ قَبْلِ الْبُلُوغِ، وَهُوَ حِينُ خَرَجَ مِنَ السَّرْبِ وَهُوَ صَغِيرٌ، يُرِيدُ هَدْيَنَاهُ صَغِيرًا كَمَا قَالَ تَعَالَى لِيَحْيَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَمَ: 12] ، وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ، أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْهِدَايَةِ وَالنُّبُوَّةِ.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذِهِ التَّماثِيلُ، أَيْ الصُّوَرُ، يَعْنِي الْأَصْنَامَ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ، يعني عَلَى عِبَادَتِهَا مُقِيمُونَ.
قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) ، فَاقْتَدَيْنَا بِهِمْ.
قَالَ، إِبْرَاهِيمُ، لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، خَطَأٍ بَيِّنٍ بِعِبَادَتِكُمْ إِيَّاهَا.
قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) ، يعنون أصادق [2] أنت فيما تقول أم لاعب؟
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ، خَلَقَهُنَّ، وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ، يعني عَلَى أَنَّهُ الْإِلَهُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: مِنَ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى أَنَّهُ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ، لَأَمْكُرَنَّ بِهَا، بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ، يعني بَعْدَ أَنْ تُدْبِرُوا مُنْطَلِقِينَ إِلَى عِيدِكُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: إِنَّمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ هَذَا سِرًّا مِنْ قَوْمِهِ وَلَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَأَفْشَاهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ.
قَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ لَهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَجْمَعٌ وعيد فكانوا إِذَا رَجَعُوا مِنْ عِيدِهِمْ دَخَلُوا على الأصنام
__________
(1) في المخطوط «الناصر» .
(2) في المطبوع «أجاد» .(3/291)
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
فَسَجَدُوا لَهَا، ثُمَّ عَادُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْعِيدُ قَالَ أَبُو إِبْرَاهِيمَ لَهُ يَا إِبْرَاهِيمُ لَوْ خَرَجْتَ مَعَنَا إِلَى عيدنا لأعجبك [1] دِينُنَا فَخَرَجَ مَعَهُمْ إِبْرَاهِيمُ فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ أَلْقَى نَفْسَهُ، وَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ، يَقُولُ أَشْتَكِي رجله فلما مضوا نادى إبراهيم فِي آخِرِهِمْ وَقَدْ بَقِيَ ضُعَفَاءُ النَّاسِ، وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فَسَمِعُوهَا مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى بَيْتِ الْآلِهَةِ وَهُنَّ فِي بَهْوٍ عَظِيمٍ مُسْتَقْبِلُ بَابِ الْبَهْوِ صَنَمٌ عظيم إلى جنبه صنم أَصْغَرُ مِنْهُ وَالْأَصْنَامُ بَعْضُهَا إِلَى جَنْبِ بَعْضٍ كُلِّ صَنَمٍ يَلِيهِ أَصْغَرُ مِنْهُ إِلَى بَابِ الْبَهْوِ، وَإِذَا هُمْ قَدْ جَعَلُوا طَعَامًا فَوَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيِ الْآلِهَةِ، وَقَالُوا: إِذَا رَجَعْنَا وَقَدْ بَرَّكَتِ الْآلِهَةُ في طعامنا أكلنا [منه] [2] ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمْ إِبْرَاهِيمُ وَإِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ الطَّعَامِ، قَالَ لَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِهْزَاءِ أَلَا تَأْكُلُونَ، فَلَمَّا لَمْ تُجِبْهُ قَالَ مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ، فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ، وَجَعَلَ يكسرهم بفأس فِي يَدِهِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا الصَّنَمُ الْأَكْبَرُ عَلَّقَ الْفَأْسَ فِي عُنُقِهِ ثُمَّ خَرَجَ، فذلك قوله عزّ وجلّ:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 58 الى 64]
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ (62)
قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً، قَرَأَ الْكِسَائِيُّ جِذَاذًا بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ كِسَرًا وَقِطَعًا جَمْعُ جَذِيذٍ، وَهُوَ الْهَشِيمُ [3] مِثْلُ خفيف وخفاف، وقرأ الآخرون بضمها، مِثْلَ الْحُطَامِ وَالرُّفَاتِ، إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكْسِرْهُ وَوَضَعَ الْفَأْسَ فِي عُنُقِهِ، وَقِيلَ رَبَطَهُ بِيَدِهِ وَكَانَتِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ صَنَمًا بَعْضُهَا مِنْ ذَهَبٍ وَبَعْضُهَا مِنْ فضة وبعضها من حديد وبعضها من رصاص وَشَبَّةٍ وَخَشَبٍ وَحَجَرٍ، وَكَانَ الصَّنَمُ الْكَبِيرُ مِنَ الذَّهَبِ مُكَلَّلًا بِالْجَوَاهِرِ فِي عَيْنَيْهِ يَاقُوتَتَانِ تَتَّقِدَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، قِيلَ: مَعْنَاهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَى دِينِهِ وَإِلَى مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ إِذَا عَلِمُوا ضَعْفَ الْآلِهَةِ وَعَجْزِهَا، وَقِيلَ: لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فَيَسْأَلُونَهُ، فَلَمَّا رَجَعَ الْقَوْمُ مِنْ عِيدِهِمْ إِلَى بيت آلهتهم ورأوا الأصنام جُذَاذًا:
قالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، يعني من المجرمين.
قالُوا يعني [الضعفاء] [4] الَّذِينَ سَمِعُوا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ، سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ، يَعِيبُهُمْ وَيَسُبُّهُمْ، يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ، هو الذي نظن أنه صَنَعَ هَذَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ نَمْرُودَ الْجَبَّارَ وَأَشْرَافَ قَوْمِهِ.
قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ، قاله نَمْرُودُ يَقُولُ جِيئُوا بِهِ ظَاهِرًا بِمَرْأَى مِنَ النَّاسِ، لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ، عليه أنه الذي فعله، وكرهوا أن يأخذوه بغير بيّنة، قاله الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ أَيْ يَحْضُرُونَ عِقَابَهُ وَمَا يُصْنَعُ بِهِ فِلَمَّا أَتَوْا بِهِ.
قالُوا، لَهُ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنا يَا إِبْراهِيمُ.
__________
(1) في المطبوع «أعجبك» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «الهشم» .
(4) زيادة عن المخطوط.(3/292)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
قالَ، إِبْرَاهِيمُ، بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا، غضب من أن يعبد معه الصِّغَارَ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا فَكَسَّرَهُنَّ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ إِقَامَةَ الْحُجَّةِ عليهم، فذلك قوله: فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ، حَتَّى يُخْبَرُوا بمن [1] فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ. قَالَ القُتَيْبِيُّ: مَعْنَاهُ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ فَجَعَلَ النُّطْقَ شَرْطًا لِلْفِعْلِ أَيْ إِنْ قَدَرُوا عَلَى النُّطْقِ قَدَرُوا عَلَى الْفِعْلِ، فَأَرَاهُمْ عَجْزَهُمْ عَنِ النطق، وفي ضميره أَنَا فَعَلْتُ، وَرُوِيَ عَنِ الْكِسَائِيُّ أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ: بَلْ فَعَلَهُ وَيَقُولُ مَعْنَاهُ فَعَلَهُ مَنْ فَعَلَهُ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
«1426» لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، اثْنَتَانِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ، قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ [الصَّافَاتِ: 89] ، وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ، وقوله على سارة [2] «هَذِهِ أُخْتِي» .
وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] أي سأسقم، وقيل: سقيم الْقَلْبِ أَيْ مُغْتَمٌ بِضَلَالَتِكُمْ، وَقَوْلُهُ على سارة [3] : هَذِهِ أُخْتِي أَيْ فِي الدِّينِ، وَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ لِنَفْيِ الْكَذِبِ عَنْ إبراهيم، والأول هو الأولى لِلْحَدِيثِ فِيهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ لِقَصْدِ الصَّلَاحِ وَتَوْبِيخِهِمْ وَالِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَذِنَ لِيُوسُفَ حتى أمر مناديه [أن ينادي] [4] فَقَالَ لِإِخْوَتِهِ: أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ [يُوسُفَ: 7] . وَلَمْ يَكُونُوا سَرَقُوا.
فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ، أَيْ: فَتَفَكَّرُوا بِقُلُوبِهِمْ وَرَجَعُوا إِلَى عُقُولِهِمْ، فَقالُوا، مَا نَرَاهُ إِلَّا كَمَا قَالَ، إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، يَعْنِي بِعِبَادَتِكُمْ من لا يتكلم [ولم تشعر بمن آذاها] [5] . وقيل: أنتم الظالمون لهذا الرَّجُلَ [فِي] [6] سُؤَالِكُمْ إِيَّاهُ وَهَذِهِ آلهتكم حاضرة فاسألوها.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 65 الى 68]
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ، قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَجْرَى اللَّهُ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِهِمْ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَدْرَكَتْهُمُ الشَّقَاوَةُ، فَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ أَيْ رُدُّوا إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالظُّلْمِ، يُقَالُ نُكِسَ الْمَرِيضُ إِذَا رَجَعَ إلى حالته [7] الأولى، وَقَالُوا: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ، فَكَيْفَ نَسْأَلُهُمْ؟ فَلَمَّا اتَّجَهَتِ الْحُجَّةُ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قالَ، لَهُمْ، أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا
__________
1426- صحيح. أخرجه البخاري 3357 و3358 و5084 ومسلم 2371 وأبو داود 2212 وأحمد 2/ 403- 404 والترمذي 3166 وابن حبان 5737 والبيهقي 7/ 366 من حديث أبي هريرة مطوّلا.
(1) في المطبوع «من» .
(2) في المطبوع «لسارة» .
(3) في المطبوع «لسارة» .
(4) زيادة عن المخطوط. [.....]
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المطبوع «حاله» .(3/293)
يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً، إِنْ عَبَدْتُمُوهُ، وَلا يَضُرُّكُمْ، إِنْ تَرَكْتُمْ عِبَادَتَهُ.
أُفٍّ لَكُمْ، يعني تَبًّا وَقَذَرًا لَكُمْ، وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ، يعني أليس لكم عقل تعرفون به هَذَا، فَلَمَّا لَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ وَعَجَزُوا عَنِ الْجَوَابِ:
قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) ، يعني إن كنتم ناصرين لها، وقال ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ الَّذِي قَالَ هَذَا رَجُلٌ من الأكراد. وقيل: إن اسْمُهُ هيزن فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يوم القيامة، قيل: قَالَهُ [1] نَمْرُودُ، فَلَمَّا أَجْمَعَ نَمْرُودُ وَقَوْمُهُ عَلَى إِحْرَاقِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَبَسُوهُ فِي بَيْتٍ وَبَنَوْا لَهُ بُنْيَانًا كَالْحَظِيرَةِ. وَقِيلَ: بَنَوْا أَتُونًا بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا كُوثَى ثُمَّ جَمَعُوا لَهُ صِلَابَ الْحَطَبِ مِنْ أَصْنَافِ الْخَشَبِ مُدَّةً حَتَّى كَانَ الرَّجُلُ يَمْرَضُ فَيَقُولُ لَئِنْ عَافَانِي اللَّهُ لَأَجْمَعَنَّ حَطَبًا لِإِبْرَاهِيمَ، وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَنْذِرُ فِي بَعْضِ مَا تَطْلُبُ لَئِنْ أَصَابَتْهُ لَتَحْطِبَنَّ فِي نَارِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَ الرَّجُلُ يوصي بشراء الحطب وإلقائه فيها وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَغْزِلُ وَتَشْتَرِي الْحَطَبَ بِغَزْلِهَا، فَتُلْقِيهِ فِيهِ احْتِسَابًا [فِي دِينِهَا] [2] . قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانُوا يَجْمَعُونَ الْحَطَبَ شَهْرًا فَلَمَّا جَمَعُوا مَا أَرَادُوا أَشْعَلُوا فِي كُلِّ ناحية من الحطب النار فاشتعلت النار [فيه] [3] وَاشْتَدَّتْ حَتَّى أَنْ كَانَ الطَّيْرُ ليمرّ بها [فتخطفه] [4] فَيَحْتَرِقُ مِنْ شِدَّةِ وَهَجِهَا، فَأَوْقَدُوا عَلَيْهَا سَبْعَةَ أَيَّامٍ.
رُوِيَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا كَيْفَ يُلْقُونَهُ فِيهَا فَجَاءَ إِبْلِيسُ فَعَلَّمَهُمْ عَمَلَ الْمَنْجَنِيقِ [ليتوصلوا إلى إلقائه فيها] [5] فعملوه ثُمَّ عَمَدُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ فَرَفَعُوهُ عَلَى رَأْسِ الْبُنْيَانِ وَقَيَّدُوهُ ثُمَّ وَضَعُوهُ فِي الْمَنْجَنِيقِ مُقَيَّدًا مَغْلُولًا، فَصَاحَتِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَجَمِيعُ الْخَلْقِ إِلَّا الثقلين صيحة واحدة [وضجت ضجة عظيمة] [6] ، أَيْ رَبَّنَا إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُكَ يُلْقَى فِي النَّارِ وَلَيْسَ فِي أَرْضِكَ أَحَدٌ يَعْبُدُكَ غَيْرُهُ فَأْذَنْ لَنَا فِي نُصْرَتِهِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ خَلِيلِي لَيْسَ لِي غيره خليل، وَأَنَا إِلَهُهُ وَلَيْسَ لَهُ إِلَهٌ غَيْرِي، فَإِنِ اسْتَغَاثَ بِشَيْءٍ مِنْكُمْ أَوْ دَعَاهُ فَلْيَنْصُرْهُ فَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَدْعُ غَيْرِي فَأَنَا أَعْلَمُ بِهِ وَأَنَا وَلِيُّهُ فَخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، فَلَمَّا أَرَادُوا إِلْقَاءَهُ فِي النَّارِ أتاه خازن المياه فقال [له] [7] إِنْ أَرَدْتَ أَخْمَدْتُ النَّارَ، وَأَتَاهُ خَازِنُ الرِّيَاحِ فَقَالَ: إِنْ شِئْتَ طَيَّرْتُ النَّارَ فِي الْهَوَاءِ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لَا حَاجَةَ لِي إِلَيْكُمْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حِينَ أَوْثَقُوهُ لِيُلْقُوهُ في النار قال: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الْمُلْكُ لَا شَرِيكَ لَكَ، ثُمَّ رَمَوْا بِهِ فِي الْمَنْجَنِيقِ إِلَى النار، فاستقبله جبريل فقال يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال: [إبراهيم] [8] أمّا إليك فلا، فقال جبريل فسل رَبَّكَ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ حَسَبِي مِنْ سؤالي علمه بحالي.
__________
(1) في المطبوع «له» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) زيادة عن المخطوط.(3/294)
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: جَعَلَ كُلُّ شيء يطفىء عَنْهُ النَّارَ إِلَّا الْوَزَغَ فَإِنَّهُ كَانَ يَنْفُخُ فِي النَّارِ.
«1427» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [1] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا عبيد [2] الله بن موسى أو ابن سلام عنه [3] أنا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ، وَقَالَ: «كَانَ يَنْفُخُ النَّارَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» .
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 69 الى 71]
قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71)
قال الله تعالى: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَوْ لَمْ يَقُلْ سَلَامًا لَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بَرْدِهَا، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ فِي الْآثَارِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ يَوْمَئِذٍ نَارٌ فِي الْأَرْضِ إِلَّا طَفِئَتْ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِنَارٍ فِي الْعَالَمِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ بَقِيَتْ ذَاتَ بَرْدٍ أَبَدًا. قَالَ السُّدِّيُّ: فَأَخَذَتِ الْمَلَائِكَةُ بِضَبْعَيْ إِبْرَاهِيمَ فَأَقْعَدُوهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِذَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ وَوَرْدٌ أَحْمَرُ وَنَرْجِسٌ.
قَالَ كَعْبٌ: مَا أَحْرَقَتِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا وِثَاقَهُ، قَالُوا: وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ.
قَالَ الْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو: قَالَ إِبْرَاهِيمُ مَا كُنْتُ أَيَّامًا قَطُّ أَنْعَمَ مِنِّي مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتُ فِيهَا فِي النَّارِ.
قَالَ ابْنُ يسار: وبعث الله مَلَكَ الظِّلِّ فِي صُورَةِ إِبْرَاهِيمَ فَقَعَدَ فِيهَا إِلَى جَنْبِ إِبْرَاهِيمَ يؤنسه، قال [4] وبعث الله جبريل إليه بقميص من حرير الجنة وطنفسة فَأَلْبَسَهُ الْقَمِيصَ وَأَقْعَدَهُ عَلَى الطِّنْفِسَةِ وَقَعَدَ مَعَهُ يُحَدِّثُهُ، وَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ لك أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّارَ لَا تَضُرُّ أَحِبَّائِي، ثُمَّ نَظَرَ نَمْرُودُ وَأَشْرَفَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ صَرْحٍ لَهُ فَرَآهُ جَالِسًا فِي رَوْضَةٍ والملك قاعدا إِلَى جَنْبِهِ وَمَا حَوْلَهُ نَارٌ تُحْرِقُ الْحَطَبَ، فَنَادَاهُ يَا إِبْرَاهِيمُ كَبِيرٌ إِلَهُكَ الَّذِي بَلَغَتْ قُدْرَتُهُ، أَنْ [5] حَالَ [6] بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَا أرى، يا إبراهيم هل
__________
1427- إسناده على شرط البخاري.
- ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز، وابن سلام هو محمد.
- وهو في «شرح السنة» 3160 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 3359 عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى به.
- وأخرجه مسلم 2237 ح 143 وأحمد 6/ 421 والدارمي 2/ 89 وابن حبان 5634 والبيهقي 5/ 211 و9/ 316 من طرق عن ابن جريج به.
- وأخرجه البخاري 3307 ومسلم 2237 ح 142 والنسائي 5/ 209 وابن ماجه 228، واحمد 6/ 462 وعبد الرزاق 8395 والحميدي 350 وابن أبي شيبة 5/ 401 والبيهقي 5/ 211 من طرق عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عبد الحميد به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «عبد» . [.....]
(3) قال الحافظ في «الفتح» 6/ 394: كأن البخاري شكّ في سماعه له من عبيد الله بن موسى- وهو من أكبر مشايخه- وتحقق أنه سمعه من محمد بن سلام عنه، فأورده هكذا، وقد وقع له نظير هذا في أماكن عديدة.
(4) في المطبوع «قالوا» .
(5) في المطبوع «أي» .
(6) في المخطوط «حالت» .(3/295)
تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هَلْ تَخْشَى إِنْ أَقَمْتَ فِيهَا أَنْ تَضُرَّكَ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَقُمْ فَاخْرُجْ مِنْهَا، فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ يَمْشِي فِيهَا حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا، فَلَمَّا خَرَجَ إِلَيْهِ قَالَ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي رَأَيْتُهُ مَعَكَ فِي مثل صُورَتِكَ قَاعِدًا إِلَى جَنْبِكَ؟ قَالَ: ذَاكَ مَلَكُ الظِّلِّ أَرْسَلَهُ إِلَيَّ رَبِّي لِيُؤْنِسَنِي فِيهَا، فَقَالَ نَمْرُودُ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنِّي مُقَرِّبٌ إِلَى إِلَهِكَ قُرْبَانًا لِمَا رَأَيْتُ مِنْ قُدْرَتِهِ وَعِزَّتِهِ فِيمَا صَنَعَ بِكَ حيث أَبَيْتَ إِلَّا عِبَادَتَهُ وَتَوْحِيدَهُ إِنِّي ذَابِحٌ لَهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَقَرَةٍ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: إِذًا لَا يقبلها مِنْكَ مَا كُنْتَ عَلَى دِينِكَ حَتَّى تُفَارِقَهُ إِلَى دِينِي، فَقَالَ: لا أستطيع ترك ملتي وملكي ولكن سوف أذبحها، فَذَبَحَهَا لَهُ نَمْرُودُ ثُمَّ كَفَّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنَعَهُ اللَّهُ مِنْهُ.
قَالَ شُعَيْبٌ الْجُبَّائِيُّ: أُلْقِيَ إِبْرَاهِيمُ فِي النَّارِ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عشرة سنة.
قوله: وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) ، قِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّهُمْ خَسِرُوا السَّعْيَ وَالنَّفَقَةَ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مُرَادُهُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجلّ أرسل على نمرود وقومه الْبَعُوضَ فَأَكَلَتْ لُحُومَهُمْ وَشَرِبَتْ دِمَاءَهُمْ، وَدَخَلَتْ وَاحِدَةٌ فِي دِمَاغِهِ فَأَهْلَكَتْهُ.
قوله: وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً، مِنْ نَمْرُودَ وَقَوْمِهِ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ، يَعْنِي الشَّامَ بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا بِالْخِصْبِ وَكَثْرَةِ الْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَمِنْهَا بَعْثُ أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ أُبَيُّ بن كعب: سماها [الله] [1] مُبَارَكَةً لِأَنَّهُ مَا مِنْ مَاءٍ عَذْبٍ إِلَّا وَيَنْبُعُ أَصْلُهُ مِنْ تَحْتِ الصَّخْرَةِ الَّتِي هِيَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ.
«1428» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٌ الرَّمَادِيُّ [2] أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ لِكَعْبٍ: أَلَا تتحول إلى المدينة فبها مُهَاجَرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَبْرُهُ، فَقَالَ كَعْبٌ: إِنِّي وَجَدْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْمَنْزِلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الشَّامَ كَنْزُ اللَّهِ مِنْ أَرْضِهِ، وَبِهَا كَنْزُهُ مِنْ عِبَادِهِ.
«1429» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحمد الظاهري أَنَا جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّازُ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعُذَافِرِيُّ أَنَا إِسْحَاقُ الدَّبَرِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّهَا سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَخِيَارُ النَّاسِ إليّ مهاجر إبراهيم» .
__________
1428- موقوف على كعب. وهو ضعيف لانقطاعه بين قتادة وعمر.
- عبد الرزاق بن حمام معمر بن راشد، قتادة بن دعامة، كعب بن ماتع الحميري.
- رواه المصنف من طريق عبد الرزاق، وهو في «مصنفه» 11/ 20459 عن معمر بهذا الإسناد.
1429- حديث حسن. إسحاق صدوق، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم سوى شهر بن حوشب، وهو حسن الحديث إن صرح بالتحديث، وقد صرح في رواية عبد الرزاق وأحمد، وللحديث شاهد ضعيف.
- وهو في «شرح السنة» 3903 بهذا الإسناد مطوّلا.
- وهو في «مصنف عبد الرزاق» 11/ 20790 عن معمر به مطوّلا.
- وأخرجه أحمد 2/ 198 و199 من طريق عبد الرزاق به.
- وأخرجه أحمد 2/ 209 والطيالسي 2292 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 970 من طريق مُعَاذِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عن قتادة به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «الزيادي» .(3/296)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اسْتَجَابَ لإبراهيم رجال من قَوْمِهِ حِينَ رَأَوْا مَا صَنَعَ اللَّهُ بِهِ مِنْ جَعْلِ النَّارِ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى خَوْفٍ من نمرود وملئه وَآمَنَ بِهِ لُوطٌ، وَكَانَ ابْنَ أَخِيهِ وَهُوَ لُوطُ بْنُ هَارَانَ بْنِ تَارِخَ، وَهَارَانُ هُوَ أَخُو إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ لَهُمَا أَخٌ ثَالِثٌ يقال له تاخور بْنُ تَارِخَ، وَآمَنَتْ بِهِ أَيْضًا سَارَةُ وَهِيَ بِنْتُ عَمِّهِ وَهِيَ سَارَةُ بِنْتُ هَارَانَ الْأَكْبَرِ، عَمِّ إِبْرَاهِيمَ فَخَرَجَ مِنْ كَوْثَى مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ مُهَاجِرًا إِلَى رَبِّهِ، وَمَعَهُ لُوطٌ وَسَارَةُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [العَنْكَبُوتِ: 26] ، فَخَرَجَ يَلْتَمِسُ الْفِرَارَ بِدِينِهِ وَالْأَمَانَ عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ، حَتَّى نَزَلَ حَرَّانَ فَمَكَثَ بِهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا مُهَاجِرًا حَتَّى قَدِمَ مِصْرَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مِصْرَ إِلَى الشَّامِ، فَنَزَلَ السَّبْعَ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، وَهِيَ بَرِّيَّةُ [1] الشَّامِ، وَنَزَلَ لُوطٌ بِالْمُؤْتَفِكَةِ وَهِيَ مِنَ السَّبْعِ عَلَى مسيرة يوم وليلة، أو أقرب، فَبَعَثَهُ اللَّهُ نَبِيًّا فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) .
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 72 الى 76]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً، قَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: مَعْنَى النَّافِلَةِ الْعَطِيَّةُ وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ عَطَاءِ الله نافلة يعني عطاء. وقال الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ: فَضْلًا. وَعَنِ ابْنِ عباس وأبيّ بن كعب وابن زَيْدٍ وَقَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: النَّافِلَةُ هُوَ يَعْقُوبُ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَعْطَاهُ إِسْحَاقَ بِدُعَائِهِ حَيْثُ قَالَ: هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: 100] ، وزاده [2] يعقوب وهو وِلْدُ الْوَلَدِ، وَالنَّافِلَةُ الزِّيَادَةُ، وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ، يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ويعقوب.
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا، يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْخَيْرِ [3] يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى دِينِنَا، وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ، يعني الْعَمَلَ بِالشَّرَائِعِ، وَإِقامَ الصَّلاةِ، يَعْنِي الْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا، وَإِيتاءَ الزَّكاةِ، إِعْطَاءَهَا، وَكانُوا لَنا عابِدِينَ، مُوَحِّدِينَ.
وَلُوطاً آتَيْناهُ، يعني وَآتَيْنَا لُوطًا، وَقِيلَ: وَاذْكُرْ لُوطًا آتَيْنَاهُ، حُكْماً، يَعْنِي الْفَصْلَ بَيْنَ الخصوم بالحق، وَعِلْماً، وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ، يعني سدوما و [هي القرية
__________
- وأخرجه البيهقي في «الأسماء والصفات» 971 من حديث ابن عمر، وفي إسناده راو لم يسم، ومع ذلك هو شاهد لما قبله.
- وأخرجه أحمد 3/ 84 من طريق أبي جناب عن شهر بن حوشب قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عمر يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم ...
وأبو جناب ضعيف.
- الخلاصة: هو حديث حسن بطرقه وشاهده، والله أعلم.
(1) في المخطوط «وهو يريد» .
(2) في المطبوع «وزاد» .
(3) في المطبوع «الخيرات» .(3/297)
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
التي] [1] كان أَهْلُهَا يَأْتُونَ الذُّكْرَانَ فِي أَدْبَارِهِمْ وَيَتَضَارَطُونَ فِي أَنْدِيَتِهِمْ مَعَ أَشْيَاءَ أخر، كانوا يعملونها مِنَ الْمُنْكَرَاتِ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ.
وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) .
وَنُوحاً إِذْ نادى، دعا، مِنْ قَبْلُ، يَعْنِي مِنْ قَبْلِ إِبْرَاهِيمَ وَلُوطٍ، فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ الْغَرَقِ وَتَكْذِيبِ قَوْمِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ أَطْوَلَ الْأَنْبِيَاءِ عُمْرًا وَأَشَدَّهُمْ بَلَاءً وَالْكَرْبُ أشد الغم.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 77 الى 79]
وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79)
وَنَصَرْناهُ، مَنَعْنَاهُ، مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، أَنْ يَصِلُوا إِلَيْهِ بسوء. وقال أبو عبيدة: يعني عَلَى الْقَوْمِ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ.
قوله تعالى: وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ، اخْتَلَفُوا فِي الْحَرْثِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَ الْحَرْثُ كَرْمًا قَدْ تَدَلَّتْ عَنَاقِيدُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ زَرْعًا، إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ، يعني رَعَتْهُ لَيْلًا فَأَفْسَدَتْهُ، وَالنَّفْشُ الرَّعْيُ بِاللَّيْلِ وَالْهَمَلُ بِالنَّهَارِ وَهُمَا الرَّعْيُ بِلَا رَاعٍ، وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ، يعني كان ذلك بعلمنا وبمرأى مِنَّا لَا يَخْفَى عَلَيْنَا عِلْمُهُ. قال الفراء [هو] [2] جَمَعَ اثْنَيْنِ، فَقَالَ لِحُكْمِهِمْ وَهُوَ يُرِيدُ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ جَمْعٌ وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ [النِّسَاءِ: 11] ، وَهُوَ يُرِيدُ أَخَوَيْنِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلَيْنِ دَخَلَا عَلَى دَاوُدَ أَحَدُهُمَا صَاحِبُ حَرْثٍ [3] وَالْآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ، فَقَالَ صَاحِبُ الزَّرْعِ إِنَّ هَذَا انْفَلَتَتْ غَنَمُهُ لَيْلًا وَوَقَعَتْ فِي حَرْثِي فَأَفْسَدَتْهُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ فَأَعْطَاهُ دَاوُدُ رِقَابَ الْغَنَمِ بِالْحَرْثِ، فَخَرَجَا فَمَرَّا عَلَى سُلَيْمَانَ فَقَالَ: كَيْفَ قَضَى بَيْنَكُمَا فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ سُلَيْمَانُ لَوْ وُلِّيتُ أمركما [4] لقضيت [بينكما] [5] بِغَيْرِ هَذَا.
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ غَيْرُ هَذَا أَرْفَقُ بِالْفَرِيقَيْنِ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ دَاوُدُ فَدَعَاهُ فَقَالَ كَيْفَ تقضي؟ ويروى أنه قال [له] [6] بِحَقِّ النُّبُوَّةِ وَالْأُبُوَّةِ إِلَّا أَخْبَرْتَنِي بِالَّذِي هُوَ أَرْفَقُ بِالْفَرِيقَيْنِ، قَالَ: ادْفَعِ الْغَنَمَ إِلَى صَاحِبِ الْحَرْثِ يَنْتَفِعُ بِدَرِّهَا وَنَسْلِهَا وَصُوفِهَا وَمَنَافِعِهَا وَيَبْذُرُ صَاحِبُ الْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ مِثْلَ حَرْثِهِ، فَإِذَا صَارَ الْحَرْثُ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ أُكِلَ دُفِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَأَخَذَ صَاحِبُ الْغَنَمِ غَنَمَهُ، فَقَالَ دَاوُدُ الْقَضَاءُ مَا قَضَيْتَ وَحَكَمَ بِذَلِكَ.
وَقِيلَ: إِنَّ سُلَيْمَانَ يوم حكم بذلك كَانَ ابْنَ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَمَّا حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَاشِيَةُ الْمُرْسَلَةُ بِالنَّهَارِ مِنْ مَالِ الْغَيْرِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى رَبِّهَا، وَمَا أفسدته بِاللَّيْلِ ضَمِنَهُ رَبُّهَا [7] لِأَنَّ فِي عُرْفِ النَّاسِ أَنَّ أَصْحَابَ الزَّرْعِ يَحْفَظُونَهُ بِالنَّهَارِ، وَالْمَوَاشِي تَسْرَحُ بِالنَّهَارِ وترد بالليل إلى المراح.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3) في المطبوع «زرع» .
(4) في المطبوع «أمرهما» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المطبوع «ضمنته بها» .(3/298)
«1430» أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقُ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَرَامِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُحَيِّصَةَ أَنَّ نَاقَةً لِلْبَرَاءِ بْنِ عازب دخلت حائطا فأفسدت فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ وَأَنَّ مَا أفسدت [1] المواشي بالليل ضامن [2] عَلَى أَهْلِهَا» .
وَذَهَبَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ إِلَى أَنَّ الْمَالِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فيما أتلفت ما شيته ليلا كان أو نهارا.
قوله تعالى: فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ، أَيْ عَلَّمْنَاهُ الْقَضِيَّةَ وَأَلْهَمْنَاهَا سُلَيْمَانَ، وَكُلًّا، يَعْنِي دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ، آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً، قَالَ الْحَسَنُ: لَوْلَا هَذِهِ الْآيَةُ لَرَأَيْتُ الحكام قد أهلكوا وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمِدَ هَذَا بِصَوَابِهِ وَأَثْنَى عَلَى هَذَا بِاجْتِهَادِهِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ حُكْمَ دَاوُدَ كان بالاجتهاد أو بِالنَّصِّ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ سُلَيْمَانَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فِعْلًا بِالِاجْتِهَادِ. وَقَالُوا يَجُوزُ الِاجْتِهَادُ لِلْأَنْبِيَاءِ لِيُدْرِكُوا ثَوَابَ الْمُجْتَهِدِينَ، إِلَّا أَنَّ دَاوُدَ أَخْطَأَ وَأَصَابَ سُلَيْمَانُ. وَقَالُوا: يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ إِلَّا أَنَّهُمْ لَا يُقِرُّونَ عَلَيْهِ، فَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَلَهُمُ الِاجْتِهَادُ فِي الْحَوَادِثِ إِذَا لَمْ يَجِدُوا فيها نص كتاب ولا سنة، فإذا أَخْطَأُوا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ عَنْهُمْ، لِمَا:
«1431» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا
__________
1430- صحيح، رجاله رجال البخاري ومسلم غير حرام بن سعد، وهو ثقة، إلّا أنه لم يدرك البراء، لكن للحديث طرق، وسيأتي موصولا.
أَبُو مُصْعَبٍ، أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بكر، مالك بن أنس، ابن شهاب محمد بن مسلم.
- وهو في «شرح السنة» 2162 بهذا الإسناد.
- وهو في «الموطأ» 2/ 747- 748 عن ابن شهاب به.
- ومن طريق مالك أخرجه الشافعي 3/ 107 والطحاوي في «المشكل» 6159 وفي «المعاني» 3/ 203 والدارقطني 3/ 156 والبيهقي 8/ 341.
- وأخرجه الطحاوي في «المشكل» 6160 والبيهقي 8/ 342 من طريق سفيان عن الزهري به.
- وأخرجه النسائي في «الكبرى» 5787 وأحمد 5/ 436 عن سعيد بن المسيب مرسلا.
- وأخرجه أبو داود 3569 وأحمد 5/ 436 والدارقطني 3/ 154- 155 وابن حبان 6008 والبيهقي 8/ 342 من طريق عبد الرزاق معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة للبراء.... وهو في «المصنّف» برقم 18437.
- وأخرجه النسائي في «الكبرى» 5784 من طريق الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه محيصة بن مسعود، أن ناقة للبراء.....
- وأخرجه الدارقطني 3/ 155 من طريق الزهري عن حرام عن أبيه عن البراء.
- وانظر «أحكام القرآن» 1497 بتخريجي.
1431- إسناده صحيح، الشافعي ثقة إمام، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم سوى عبد العزيز بن محمد، وهو الدراوردي، فإنه من رجال مسلم، روى له البخاري مقرونا.
الشافعي محمد بن إدريس، أبو قيس عبد الرحمن بن ثابت.
- وهو في «شرح السنة» 2503 بهذا الإسناد.
- وهو في «مسند الشافعي» 2/ 176 عن عبد العزيز بن محمد بهذا الإسناد.-
(1) في المطبوع «فأفسدته» .
(2) في المطبوع «ضمان» والمثبت عن المخطوط و «شرح السنة» .(3/299)
الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبراهيم التيمي عن بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ العاصِ عَنْ عَمْرِو بْنِ العاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» .
وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّ دَاوُدَ وسليمان حكما بالوحي، فكان حُكْمُ سُلَيْمَانَ نَاسِخًا لِحُكْمِ دَاوُدَ، وَهَذَا الْقَائِلُ يَقُولُ لَا يَجُوزُ لِلْأَنْبِيَاءِ الْحُكْمُ بِالِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُمْ مُسْتَغْنُونَ عَنِ الِاجْتِهَادِ بِالْوَحْيِ، وَقَالُوا لَا يَجُوزُ الْخَطَأُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَاحْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَبِالْخَبَرِ حَيْثُ وَعَدَ الثَّوَابَ لِلْمُجْتَهِدِ عَلَى الْخَطَأِ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا بَلْ إِذَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُ مُجْتَهِدِينَ فِي حَادِثَةٍ كَانَ الْحَقُّ مَعَ وَاحِدٍ لَا بِعَيْنِهِ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُصِيبًا لَمْ يَكُنْ لِلتَّقْسِيمِ مَعْنًى.
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» [1] ، لَمْ يَرِدْ بِهِ أَنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى [الْخَطَأِ بَلْ يُؤْجَرُ عَلَى] [2] اجْتِهَادِهِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ لِأَنَّ اجْتِهَادَهُ عِبَادَةٌ، وَالْإِثْمُ فِي الْخَطَأِ عَنْهُ مَوْضُوعٌ [3] إِذَا لَمْ يَأْلُ جُهْدَهُ.
«1432» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا أَبُو الْيَمَانِ أنا شعيب [4] أنا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يقول: «كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا فَجَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا [5] إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكَ، وَقَالَتِ الْأُخْرَى إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ وَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فَقَالَتِ الصُّغْرَى لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ الله هو ابْنُهَا فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى» .
قَوْلُهُ تعالى: وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ، أَيْ وَسَخَّرْنَا الْجِبَالَ وَالطَّيْرَ يُسَبِّحْنَ مَعَ دَاوُدَ إِذَا سَبَّحَ، قال ابن عباس: كان [داود] [6] يفهم تسبيح الحجر والشجر. وقال وَهْبٌ: كَانَتِ الْجِبَالُ تُجَاوِبُهُ بِالتَّسْبِيحِ وَكَذَلِكَ الطَّيْرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يُسَبِّحْنَ أَيْ يُصَلِّينَ مَعَهُ إِذَا صَلَّى. وَقِيلَ: كَانَ دَاوُدُ إِذَا فَتَرَ يُسْمِعُهُ اللَّهُ تَسْبِيحَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ لِيَنْشَطَ فِي التَّسْبِيحِ وَيَشْتَاقَ إِلَيْهِ. وَكُنَّا فاعِلِينَ [يَعْنِي] [7] مَا ذَكَرَ مِنَ التَّفْهِيمِ وَإِيتَاءِ الْحُكْمِ وَالتَّسْخِيرِ.
__________
- وأخرجه مسلم 1716 وأبو داود 3574 وابن حبان 5061 وابن ماجه 2314 والدارقطني 4/ 210 و211 من طرق عن عبد العزيز به.
- وأخرجه البخاري 7352 ومسلم 1716 وأحمد 4/ 198 و204 والدارقطني 4/ 211 والبيهقي 10/ 118 و119 وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» 2/ 71 من طرق عن يزيد بن الهاد به.
1432- إسناده على شرط البخاري ومسلم.
- أبو اليمان هو الحكم بن نافع، شعيب هو ابن أبي حمزة، أبو الزِّنَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ الأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.
- وهو في «صحيح البخاري» 3427 و6769 عن أبي اليمان بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 1720 والنسائي 8/ 234 و235 و236 وأحمد 2/ 322 و340 وابن حبان 5066 والبيهقي 10/ 268 من طرق عن أبي الزناد به.
(1) هو الحديث المتقدم.
(2) سقط من المطبوع.
(3) في المخطوط «موضع» . [.....]
(4) زيد في المطبوع «عن الزهري» .
(5) تصحف في المطبوع «فقال صاحبتهما» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيادة عن المخطوط.(3/300)
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 80 الى 81]
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81)
وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ، المراد باللبوس هاهنا الدُّرُوعُ لِأَنَّهَا تُلْبَسُ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُلْبَسُ وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْأَسْلِحَةِ كُلِّهَا، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَلْبُوسِ كَالْجُلُوسِ وَالرُّكُوبِ، قَالَ قَتَادَةُ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ الدُّرُوعَ وسردها وحلقها داود، وكانت [الدروع] [1] مِنْ قَبْلُ صَفَائِحَ وَالدِّرْعُ يَجْمَعُ الْخِفَّةَ وَالْحَصَانَةَ، لِتُحْصِنَكُمْ، لِتُحْرِزَكُمْ وَتَمْنَعَكُمْ، مِنْ بَأْسِكُمْ، أي من حَرْبِ عَدُوِّكُمْ، قَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ وَقْعِ السِّلَاحِ فِيكُمْ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ: لِتُحْصِنَكُمْ بِالتَّاءِ، يَعْنِي الصَّنْعَةَ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالنُّونِ لِقَوْلِهِ: وَعَلَّمْناهُ وَقَرَأَ الآخرون بالياء وجعلوا الْفِعْلَ لِلَّبُوسِ، وَقِيلَ:
لِيُحَصِّنَكُمُ اللَّهُ، فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ، يَقُولُ لِدَاوُدَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ. وَقِيلَ: يَقُولُ لِأَهْلِ مَكَّةَ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ نِعَمِي بطاعة الرسول.
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً، أَيْ وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ وَهِيَ هَوَاءٌ مُتَحَرِّكٌ وَهُوَ جِسْمٌ لَطِيفٌ يَمْتَنِعُ بِلُطْفِهِ مِنَ الْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَيَظْهَرُ لِلْحِسِّ بِحَرَكَتِهِ، وَالرِّيحُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، عَاصِفَةٌ شَدِيدَةُ الْهُبُوبِ، فَإِنْ قِيلَ:
قَدْ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً [ص: 36] وَالرُّخَاءُ اللِّينُ؟ قِيلَ: كَانَتِ الرِّيحُ تَحْتَ أَمْرِهِ إِنْ أَرَادَ أَنْ تَشْتَدَّ اشْتَدَّتْ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ تَلِينَ لَانَتْ، تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها، يَعْنِي الشَّامَ، وَذَلِكَ أَنَّهَا كَانَتْ تَجْرِي لِسُلَيْمَانَ وَأَصْحَابِهِ حَيْثُ شَاءَ سُلَيْمَانُ، ثم يعود إِلَى مَنْزِلِهِ بِالشَّامِ، وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ، عَلَّمْنَاهُ، عالِمِينَ، بِصِحَّةِ التَّدْبِيرِ فيه أي علمناه أَنَّ مَا يُعْطَى سُلَيْمَانُ مِنْ تَسْخِيرِ الرِّيحِ وَغَيْرِهِ يَدْعُوهُ إِلَى الْخُضُوعِ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ [2] : كَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَجْلِسِهِ عَكَفَتْ عَلَيْهِ الطَّيْرُ وَقَامَ لَهُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ حَتَّى يَجْلِسَ عَلَى سَرِيرِهِ، وكان امرأ غَزَّاءً قَلَّ مَا يَقْعُدُ عَنِ الْغَزْوِ وَلَا يَسْمَعُ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بِمَلِكٍ [إِلَّا] [3] أَتَاهُ حتى يذله، فكان فيما يزعمون أنه إذا أراد الغزو وأمر بِمُعَسْكَرِهِ فَضَرَبَ بِخَشَبٍ ثُمَّ نُصِبَ لَهُ عَلَى الْخَشَبِ ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ وَآلَةَ الْحَرْبِ، فَإِذَا حَمَلَ مَعَهُ مَا يُرِيدُ [4] أَمْرَ الْعَاصِفَةَ مِنَ الرِّيحِ فَدَخَلَتْ تَحْتَ ذَلِكَ الْخَشَبِ فَاحْتَمَلَتْهُ حَتَّى إِذَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ أَمْرَ الرُّخَاءَ فمرت بِهِ شَهْرًا فِي رَوْحَتِهِ [5] وَشَهْرًا فِي غَدَوْتِهِ إِلَى حَيْثُ أَرَادَ، وَكَانَتْ تَمُرُّ بِعَسْكَرِهِ الرِّيحُ الرُّخَاءُ وَبِالْمَزْرَعَةِ فَمَا تُحَرِّكُهَا وَلَا تُثِيرُ تُرَابًا وَلَا تُؤْذِي طَائِرًا.
قَالَ وَهْبٌ: ذُكِرَ لِي أَنْ مَنْزِلًا بِنَاحِيَةِ دِجْلَةَ مَكْتُوبٌ فِيهِ كَتَبَهُ بَعْضُ صَحَابَةِ سُلَيْمَانَ إِمَّا مِنَ الْجِنِّ وَإِمَّا مِنَ الْإِنْسِ: نَحْنُ نزلناه وما بنيناه ومبنيا وَجَدْنَاهُ غَدَوْنَا مِنْ إِصْطَخْرَ فَقُلْنَاهُ وَنَحْنُ رَائِحُونَ مِنْهُ إِنْ شَاءَ الله فبائتون بالشام.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) هذا الأثر وما بعده من الإسرائيليات.
(3) سقط من المطبوع.
(4) في المطبوع «يريده» .
(5) في المخطوط «روحة» .(3/301)
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
قَالَ مُقَاتِلٌ: نَسَجَتِ الشَّيَاطِينُ لِسُلَيْمَانَ بِسَاطًا فَرْسَخًا فِي فَرْسَخٍ ذَهَبَا فِي إِبْرَيْسَمٍ وَكَانَ يُوضَعُ لَهُ مِنْبَرٌ مِنَ الذَّهَبِ فِي وَسَطِ الْبِسَاطِ فَيَقْعُدُ عَلَيْهِ وَحَوْلَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ كُرْسِيٍّ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، ويقعد الْأَنْبِيَاءُ عَلَى كَرَاسِيِّ الذَّهَبِ وَالْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاسِيِّ الْفِضَّةِ وَحَوْلَهُمُ النَّاسُ، وَحَوْلَ النَّاسِ الْجِنُّ وَالشَّيَاطِينُ، وَتُظِلُّهُ الطير بأجنحتها [حتى]]
لَا تَقَعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ، وَتَرْفَعُ رِيحُ الصِّبَا الْبِسَاطَ مَسِيرَةَ شَهْرٍ مِنَ الصَّبَاحِ إِلَى الرَّوَاحِ وَمِنَ الرَّوَاحِ إِلَى الصَّبَاحِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ يُوضَعُ لِسُلَيْمَانَ سِتُّمِائَةِ أَلْفِ كُرْسِيٍّ فَيَجْلِسُ الْإِنْسُ فِيمَا يَلِيهِ ثُمَّ يَلِيهِمُ الْجِنُّ ثُمَّ تُظِلُّهُمُ [2] الطَّيْرُ ثُمَّ تَحْمِلُهُمُ الرِّيحُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا شَغَلَتِ الْخَيْلُ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ غَضِبَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَعَقَرَ الْخَيْلَ فَأَبْدَلَهُ اللَّهُ مَكَانَهَا خَيْرًا مِنْهَا، وَأَسْرَعُ الرِّيحِ تَجْرِي بِأَمْرِهِ كَيْفَ شَاءَ، فَكَانَ يَغْدُو مِنْ إِيلِيَاءَ فَيُقِيلُ بإِصْطَخْرَ، ثُمَّ يَرُوحُ مِنْهَا فَيَكُونُ رَوَاحُهَا بِبَابِلَ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ [3] : كَانَ لَهُ مَرْكَبٌ مِنْ خَشَبٍ وَكَانَ فِيهِ أَلْفُ رُكْنٍ فِي كُلِّ رُكْنٍ أَلْفُ بَيْتٍ يَرْكَبُ مَعَهُ فِيهِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، تَحْتَ كُلِّ رُكْنٍ أَلْفُ شَيْطَانٍ يَرْفَعُونَ ذَلِكَ الْمَرْكَبَ، فإذا ارْتَفَعَ أَتَتِ الرِّيحُ الرُّخَاءُ فَسَارَتْ بِهِ وَبِهِمْ، يُقِيلُ عِنْدَ قَوْمٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ شَهْرٌ وَيُمْسِي عِنْدَ قوم بينه وبينهم شهر، ولا يَدْرِي الْقَوْمُ إِلَّا وَقَدْ أَظَلَّهُمْ مَعَهُ الْجُيُوشُ.
وَرُوِيَ أَنَّ سُلَيْمَانَ سار من أرض العراق غازيا فَقَالَ بِمَدِينَةِ مَرْوٍ، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِمَدِينَةِ بَلْخٍ، تَحْمِلُهُ وَجُنُودَهُ الرِّيحُ، وَتُظِلُّهُمُ الطَّيْرُ، ثُمَّ سَارَ مِنْ مَدِينَةِ بَلْخٍ مُتَخَلِّلًا بِلَادَ التُّرْكِ، ثم جاز بهم [4] إلى أرض الصِّينِ يَغْدُو عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ وَيُرَوِّحُ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ [عطف] [5] عَنْ مَطْلِعِ الشمس عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ حَتَّى أَتَى عَلَى أَرْضِ القُنْدُهَارَ، وَخَرَجَ مِنْهَا إِلَى أَرْضِ مُكْرَانَ وَكَرِمَانَ، ثُمَّ جَاوَزَهَا [حَتَّى أَتَى] [6] أَرْضَ فَارِسَ فَنَزَلَهَا أَيَّامًا وغدا منها [بكشكر] [7] ، فَقَالَ [8] بِكَسْكَرَ ثُمَّ رَاحَ [إِلَى الشَّامِ] [9] وَكَانَ مُسْتَقَرُّهُ بِمَدِينَةِ تَدْمُرَ، وَكَانَ أَمَرَ الشَّيَاطِينَ قَبْلَ شُخُوصِهِ مِنَ الشَّامِ إِلَى الْعِرَاقِ، فَبَنَوْهَا لَهُ بِالصُّفَّاحِ وَالْعَمَدِ وَالرُّخَامِ الْأَبْيَضِ وَالْأَصْفَرِ، وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ النَّابِغَةُ:
إِلَّا سُلَيْمَانَ إِذْ قَالَ الْمَلِيكُ لَهُ ... قُمْ فِي البَرِيَّةِ فَاحْدُدْهَا عن العقد
وَجَيِّشِ الْجِنَّ أَنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاحِ وَالْعَمَدِ
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 82 الى 83]
وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «تليهم» .
(3) تصحف في المخطوط «يزيد» .
(4) تصحف في المطبوع «جاء بهم» .
(5) زيادة عن المخطوط. [.....]
(6) في المطبوع «حوالي» .
(7) في المطبوع «إلى الشام» .
(8) من «القيلولة» .
(9) سقط من المطبوع.(3/302)
قوله تعالى: قوله تعالى: وَمِنَ الشَّياطِينِ، يعني وَسَخَّرْنَا لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ، يعني يَدْخُلُونَ تَحْتَ الْمَاءِ فَيُخْرِجُونَ لَهُ مِنْ قَعْرِ الْبَحْرِ الْجَوَاهِرَ، وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ، يعني دُونَ الْغَوْصِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ [سَبَأٍ: 13] الْآيَةَ. وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ، حتى لا يخرجون عن أَمْرِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ حَفِظْنَاهُمْ مِنْ أَنْ يُفْسِدُوا مَا عَمِلُوا.
وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ سُلَيْمَانَ كَانَ إِذَا بَعَثَ شَيْطَانًا مَعَ إِنْسَانٍ لِيَعْمَلَ لَهُ عَمَلًا، قَالَ لَهُ إِذَا فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ أَشْغِلْهُ بِعَمَلٍ آخَرَ لِئَلَّا يُفْسِدَ مَا عَمِلَ، وَكَانَ مِنْ عَادَةِ الشَّيَاطِينِ أَنَّهُمْ إِذَا فَرَغُوا مِنَ الْعَمَلِ وَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِعَمَلٍ آخَرَ خَرَّبُوا مَا عَمِلُوا وَأَفْسَدُوهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ، يعني دَعَا رَبَّهُ.
قَالَ وَهْبُّ بْنُ مُنَبِّهٍ: كَانَ أَيُّوبُ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] [1] رَجُلًا مِنَ الرُّومِ وَهُوَ أَيُّوبُ بن أموص بن تارخ [2] بْنِ رُومِ بْنِ عِيصِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ من ولد لُوطِ بْنِ هَارَانَ، وَكَانَ اللَّهُ قَدِ اصْطَفَاهُ وَنَبَّأَهُ وَبَسَطَ عَلَيْهِ الدُّنْيَا، وَكَانَتْ لَهُ البَثَنِيَّةُ مِنْ أَرْضِ الشَّامِ كُلُّهَا سَهْلُهَا وَجَبَلُهَا وَكَانَ لَهُ فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ مِنَ الْبَقَرِ وَالْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالْحُمُرِ مَا لَا يَكُونُ لِرَجُلٍ أَفْضَلَ مِنْهُ مِنَ الْعُدَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَكَانَ لَهُ خَمْسُمِائَةِ فَدَّانٍ يَتْبَعُهَا خَمْسُمِائَةِ عَبْدٍ لِكُلِّ عَبْدٍ امْرَأَةٌ وَوَلَدٌ وَمَالٌ، وَيَحْمِلُ آلة [3] كل فدان أتان ولكل [4] أتان من الولد اثنان وَثَلَاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَخَمْسَةٍ، وَفَوْقَ ذَلِكَ، وكان الله أَعْطَاهُ أَهْلًا وَوَلَدًا مِنْ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، وَكَانَ بَرًّا تَقِيًّا رَحِيمًا بِالْمَسَاكِينِ يُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ وَيَكْفُلُ الْأَرَامِلَ وَالْأَيْتَامَ وَيُكْرِمُ الضَّيْفَ وَيُبْلِغُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَكَانَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِ اللَّهِ مُؤَدِّيًا لِحَقِّ اللَّهِ، قَدِ امْتَنَعَ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ إِبْلِيسَ أَنْ يُصِيبَ مِنْهُ مَا يُصِيبُ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى مِنَ الْغِرَّةِ وَالْغَفْلَةِ وَالتَّشَاغُلِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَكَانَ مَعَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَدْ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليمن يقال: الْيَقِنُ [5] ، وَرَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ بَلْدَةٍ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا يَلْدَدُ وَالْآخَرُ صَافِرُ، وَكَانُوا كُهُولًا وَكَانَ إِبْلِيسُ لَا يُحْجَبُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ السَّمَوَاتِ، وَكَانَ يَقِفُ فِيهِنَّ حَيْثُ مَا أَرَادَ حَتَّى رَفَعَ اللَّهُ عِيسَى فَحُجِبَ عَنْ أَرْبَعِ سَمَوَاتٍ، فَلَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجِبَ مِنَ الثَّلَاثِ الْبَاقِيَةِ، فَسَمِعَ إِبْلِيسُ تَجَاوُبَ الْمَلَائِكَةِ بِالصَّلَاةِ عَلَى أَيُّوبَ وَذَلِكَ حِينَ ذَكَرَهُ اللَّهُ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَأَدْرَكَهُ الْبَغْيُ وَالْحَسَدُ فَصَعَدَ سَرِيعًا حَتَّى وَقَفَ مِنَ السَّمَاءِ مَوْقِفًا كَانَ يَقِفُهُ، فَقَالَ إِلَهِي نَظَرْتُ فِي أَمْرِ عَبْدِكَ أَيُّوبَ فَوَجَدْتُهُ عَبْدًا أَنْعَمْتَ عليه فشكرك وعافيته فحمدك، فلو ابْتَلَيْتَهُ بِنَزْعِ مَا أَعْطَيْتَهُ لَحَالَ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ شُكْرِكَ وَعِبَادَتِكَ، وَلَخَرَجَ مِنْ طَاعَتِكَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: انْطَلِقْ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى مَالِهِ فَانْقَضَّ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ حَتَّى وَقَعَ إِلَى الْأَرْضِ، ثُمَّ جَمَعَ عَفَارِيتَ الْجِنِّ وَمَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ، وَقَالَ لَهُمْ: مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ فَإِنِّي قَدْ سُلِّطْتُ عَلَى مَالِ أَيُّوبَ وَهِيَ الْمُصِيبَةُ الْفَادِحَةُ وَالْفِتْنَةُ الَّتِي لَا يَصْبِرُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ، فَقَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ أُعْطِيتُ مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ إِعْصَارًا مِنْ نَارٍ وَأَحْرَقْتُ كُلَّ شَيْءٍ آتي عليه، فقال له إبليس: فأت الإبل ورعاتها، فأتى الإبل حين وضعت رؤوسها وَثَبَتَتْ فِي مَرَاعِيهَا، فَلَمْ يَشْعُرِ النَّاسُ حَتَّى ثَارَ مِنْ تَحْتِ الأرض إعصار من
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «زارخ» .
(3) في المخطوط «له» .
(4) في المطبوع «وكل» .
(5) في المطبوع وحده «الثغر» .(3/303)
نَارٍ لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إلا احترق فأحرقتها ورعاتها، حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا، ثُمَّ جَاءَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِيسُ فِي صُورَةٍ قَبِيحَةٍ عَلَى قَعُودٍ إِلَى أَيُّوبَ فَوَجَدَهُ قَائِمًا يُصَلِّي، فَقَالَ: يَا أَيُّوبُ أَقْبَلَتْ نَارٌ حَتَّى غَشِيَتْ إِبِلَكَ فَأَحْرَقَتْهَا وَمَنْ فِيهَا غَيْرِي، فَقَالَ أَيُّوبُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي هو [أعطاني إياها] [1] وَهُوَ أَخَذَهَا، وَقَدِيمًا مَا وَطَّنْتُ نفسي ومالي عَلَى الْفَنَاءِ، فَقَالَ إِبْلِيسُ: فَإِنَّ رَبَّكَ أَرْسَلَ عَلَيْهَا نَارًا مِنَ السَّمَاءِ فَاحْتَرَقَتْ فَتَرَكَتِ النَّاسَ مَبْهُوتِينَ يَتَعَجَّبُونَ مِنْهَا، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا كَانَ أَيُّوبُ يَعْبُدُ شَيْئًا وَمَا كَانَ إِلَّا فِي غُرُورٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَوْ كَانَ إِلَهُ أَيُّوبَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا لَمَنَعَ وَلِيَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُوَ الَّذِي فعل ذلك لِيُشْمِتَ بِهِ عَدُوَّهُ وَيُفْجِعَ بِهِ [2] صديقه، فقال أَيُّوبُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ حِينَ أَعْطَانِي وَحِينَ نَزَعَ مِنِّي، عُرْيَانًا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِ أُمِّي وَعُرْيَانًا أَعُودُ فِي التُّرَابِ وَعُرْيَانًا أُحْشَرُ إِلَى اللَّهِ، لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفْرَحَ حين أعارك ولا أن تجزع حِينَ قَبَضَ عَارِيَتَهُ مِنْكَ، اللَّهُ أَوْلَى بِكَ وَبِمَا أَعْطَاكَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ خَيْرًا لَنَقَلَ [3] رُوحَكَ مَعَ تِلْكَ الْأَرْوَاحِ وَصِرْتَ شَهِيدًا وَلَكِنَّهُ عَلِمَ مِنْكَ شَرًّا فَأَخَّرَكَ، فَرَجَعَ إِبْلِيسُ إلى أصحابه خائبا خاسرا ذَلِيلًا فَقَالَ لَهُمْ: مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ فَإِنِّي لَمْ أَكْلُمْ قَلْبَهُ، قَالَ عِفْرِيتٌ: عِنْدِي مِنَ القوة ما [إذا] [4] شِئْتُ صِحْتُ صَيْحَةً لَا يَسْمَعُهَا ذُو رُوحٍ إِلَّا خَرَجَتْ مُهْجَةُ نَفْسِهِ، فَقَالَ إِبْلِيسُ فَأْتِ الْغَنَمَ وَرُعَاتَهَا، فَانْطَلَقَ حَتَّى تَوَسَّطَهَا ثُمَّ صَاحَ صَيْحَةً فَتَجَثَّمَتْ أَمْوَاتًا عَنْ آخِرِهَا وَمَاتَ رِعَاؤُهَا، ثُمَّ جَاءَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلًا بِقَهْرَمَانِ الرُّعَاةِ إِلَى أَيُّوبَ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فَرَدَّ عَلَيْهِ مَثَلَ الرَّدِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ رَجَعَ إبليس إلى أصحابه [خاسئا] [5] فَقَالَ مَاذَا عِنْدَكُمْ مِنَ الْقُوَّةِ فَإِنِّي لَمْ أَكْلُمْ قَلْبَ أَيُّوبَ، فَقَالَ عِفْرِيتٌ عِنْدِي مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِذَا شِئْتُ تَحَوَّلْتُ رِيحًا عَاصِفًا تَنْسِفُ كُلَّ شَيْءٍ تَأْتِي عَلَيْهِ، قَالَ فَأْتِ الْفَدَادِينَ وَالْحَرْثَ فَانْطَلَقَ وَلَمْ يَشْعُرُوا حَتَّى هَبَّتْ رِيحٌ عَاصِفٌ، فَنَسَفَتْ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ جَاءَ إِبْلِيسُ مُتَمَثِّلًا بِقَهْرَمَانِ الْحَرْثِ إِلَى أَيُّوبَ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ قوله الْأَوَّلِ فَرَدَّ عَلَيْهِ أَيُّوبُ، مَثَلَ رده الأول وكلما انتهى إليه بهلاك [6] مَالٍ مِنْ أَمْوَالِهِ حَمِدَ اللَّهَ وَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ، وَرَضِيَ مِنْهُ بالقضاء [والقدر] [7] ، وَوَطَّنَ نَفْسَهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ فَلَمَّا رَأَى إِبْلِيسُ أَنَّهُ قَدْ أَفْنَى مَالَهُ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ إِلَهِي إِنَّ أَيُّوبَ يَرَى منك أَنَّكَ مَا مَتَّعْتَهُ بِوَلَدِهِ فَأَنْتَ تعطيه المال فهل أنت مسلطي على ولده، فإنها المعصية [العظمى الَّتِي لَا تَقُومُ لَهَا] [8] قُلُوبُ الرِّجَالِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: انْطَلِقْ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى وَلَدِهِ، فَانْقَضَّ عدو الله إبليس حَتَّى جَاءَ بَنِي أَيُّوبَ وَهُمْ فِي قَصْرِهِمْ فَلَمْ يَزَلْ يُزَلْزِلُ بهم حتى تدعى مِنْ قَوَاعِدِهِ، ثُمَّ جَعَلَ يُنَاطِحُ جُدُرَهُ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ وَيَرْمِيهِمْ بِالْخَشَبِ وَالْجَنْدَلِ، حَتَّى إِذَا مَثَّلَ بِهِمْ كُلَّ مُثْلَةٍ رَفْعَ الْقَصْرَ فَقَلَبَهُ فصاروا منكسين، ثم انطلق إِلَى أَيُّوبَ مُتَمَثِّلًا بِالْمُعَلِّمِ الَّذِي كَانَ يُعَلِّمُهُمُ الْحِكْمَةَ [وَهُوَ جَرِيحٌ مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه
__________
(1) في المطبوع «أعطاها» .
(2) في المخطوط «عليه» .
(3) في المطبوع «النفل» والمخطوط «النقل» والمثبت عن الطبري.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط. [.....]
(6) في المطبوع «هلاك» .
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) العبارة في المطبوع «التي له تقوم» .(3/304)
فَأَخْبَرَهُ] [1] ، وَقَالَ لَوْ رَأَيْتَ بَنِيكَ كيف عذبوا وقلبوا وكانوا منكسين على رؤوسهم تَسِيلُ دِمَاؤُهُمْ وَدِمَاغُهُمْ، وَلَوْ رَأَيْتَ كَيْفَ شُقَّتْ بُطُونُهُمْ وَتَنَاثَرَتْ أَمْعَاؤُهُمْ لقطع قلبك [عليهم] [2] ، فَلَمْ يَزَلْ يَقُولُ هَذَا وَنَحْوَهُ حَتَّى رَقَّ أَيُّوبُ فَبَكَى وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَوَضَعَهَا عَلَى رأسه.
وقال يا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي فَاغْتَنَمَ إِبْلِيسُ ذَلِكَ فَصَعِدَ سَرِيعًا بِالَّذِي كَانَ مِنْ جَزَعِ أَيُّوبَ مَسْرُورًا بِهِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَيُّوبُ أن فاء وأبصر واستغفر، فصعد قُرَنَاؤُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِتَوْبَتِهِ فَسَبَقَتْ تَوْبَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ أَعْلَمُ، فَوَقَفَ إِبْلِيسُ ذَلِيلًا فَقَالَ: يَا إِلَهِي إِنَّمَا هُوِّنَ عَلَى أَيُّوبَ الْمَالُ وَالْوَلَدُ أَنَّهُ يَرَى مِنْكَ أَنَّكَ مَا مَتَّعْتَهُ بِنَفْسِهِ فَأَنْتَ تُعِيدُ لَهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ فَهَلْ أَنْتَ مُسَلِّطِي عَلَى جَسَدِهِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ انْطَلِقْ فَقَدْ سَلَّطْتُكَ عَلَى جَسَدِهِ، وَلَكِنْ لَيْسَ لك سلطان على لسانه وعلى قَلْبِهِ، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَعْلَمَ بِهِ لَمْ يُسَلِّطْهُ عَلَيْهِ إِلَّا رَحْمَةً لَهُ لِيُعَظِّمَ لَهُ الثواب ويجعله عبرة للصابرين [من بعده] [3] وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ فِي كُلِّ بَلَاءٍ نَزَلَ بِهِمْ، لِيَتَأَسَّوْا بِهِ فِي الصَّبْرِ وَرَجَاءً لِلثَّوَابِ، فَانْقَضَّ عَدُوُّ الله إبليس سَرِيعًا فَوَجَدَ أَيُّوبَ سَاجِدًا فَعَجَّلَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ فَأَتَاهُ من قبل وجهه فَنَفَخَ فِي مَنْخَرِهِ نَفْخَةً اشْتَعَلَ مِنْهَا جَمِيعُ جَسَدِهِ، فَخَرَجَ مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ تَآلِيلُ مِثْلُ أليات الغنم [4] ووقعت فيه حكة فحكها بِأَظْفَارِهِ حَتَّى سَقَطَتْ كُلُّهَا ثُمَّ حَكَّهَا بِالْمُسُوحِ الْخَشِنَةِ حَتَّى قَطَعَهَا، ثُمَّ حَكَّهَا بِالْفَخَّارِ وَالْحِجَارَةِ الْخَشِنَةِ، فَلَمْ يَزَلْ يَحُكُّهَا حَتَّى نَغِلَ لَحْمُهُ وَتَقْطَّعَ وَتَغَيَّرَ وَأَنْتَنَ، وَأَخْرَجَهُ أَهْلُ الْقَرْيَةِ فَجَعَلُوهُ عَلَى كُنَاسَةٍ [من كناساتهم] [5] وجعلوا له [فيها] [6] عَرِيشًا فَرَفَضَهُ خَلْقُ اللَّهِ كُلُّهُمْ غير امرأته وهي رحمة، ابنة [7] إفرائيم بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ كَانَتْ تختلف إليه بما يصلحه ويقويه ولزمته [8] ، فَلَمَّا رَأَى الثَّلَاثَةُ مِنْ أَصْحَابِهِ [الذين آمنوا به] [9] وَهُمْ يَقِنُ [10] وَيَلْدَدُ وَصَافِرُ مَا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِهِ اتَّهَمُوهُ وَرَفَضُوهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتْرُكُوا دِينَهُ، فَلَمَّا طَالَ بِهِ الْبَلَاءُ انْطَلَقُوا إِلَيْهِ فَبَكَّتُوهُ وَلَامُوهُ وَقَالُوا لَهُ تُبْ إِلَى اللَّهِ مِنَ الذَّنْبِ الذي عوقبت به، وكان ممن حضر مَعَهُمْ فَتًى حَدِيثُ السِّنِّ قَدْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَهُ فَقَالَ لَهُمْ إِنَّكُمْ تَكَلَّمْتُمْ أَيُّهَا الْكُهُولُ، وَكُنْتُمْ أَحَقَّ بِالْكَلَامِ مِنِّي لِأَسْنَانِكُمْ وَلَكِنْ قَدْ تَرَكْتُمْ مِنَ الْقَوْلِ أَحْسَنَ مِنَ الَّذِي قُلْتُمْ. وَمِنَ الرَّأْيِ أَصْوَبَ مِنَ الَّذِي رَأَيْتُمْ وَمِنَ الْأَمْرِ أَجْمَلَ مِنَ الَّذِي أَتَيْتُمْ، وَقَدْ كَانَ لِأَيُّوبَ عَلَيْكُمْ مِنَ الحق والذمام أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي وَصَفْتُمْ، فَهَلْ تَدْرُونَ أَيُّهَا الْكُهُولُ حَقَّ مَنِ انْتَقَصْتُمْ وَحُرْمَةَ مَنِ انْتَهَكْتُمْ وَمَنِ الرَّجُلُ الَّذِي عِبْتُمْ وَاتَّهَمْتُمْ؟ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَيُّوبَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ وَصَفْوَتُهُ مِنْ أهل الأرض في يَوْمِكُمْ هَذَا.
ثُمَّ لَمْ تَعْلَمُوا وَلَمْ يُطْلِعْكُمُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ سَخِطَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ مُنْذُ آتَاهُ الله ما آتاه إلى
__________
(1) سقط من المطبوع.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) هذا الخبر بطوله، وما قبله، وما بعده، من أساطير الإسرائيليين وترّهاتهم وافتراءاتهم، وكل ذلك باطل، وليعلم أن علماء العقيدة قد نصوا عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لا يمرضون أمراضا منفردة تحط من قدرهم، فهذه أخبار لو لم يذكرها المفسرون لكان أولى.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المطبوع «بنت» .
(8) في المطبوع «يصله وتلزمه» .
(9) زيادة عن المخطوط.
(10) في المطبوع «النفر» .(3/305)
يَوْمِكُمْ هَذَا وَلَا عَلَى أَنَّهُ نَزَعَ مِنْهُ شَيْئًا مِنَ الْكَرَامَةِ التي أكرمه [الله]]
بها، ولأن أَيُّوبَ قَالَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ فِي طُولِ مَا صَحِبْتُمُوهُ إلى يومكم هذا أفإن كَانَ الْبَلَاءُ هُوَ الَّذِي أَزْرَى بِهِ عِنْدَكُمْ وَوَضَعَهُ فِي أَنْفُسِكُمْ فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي الْمُؤْمِنِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءَ وَالصَّالِحِينَ، وَلَيْسَ بَلَاؤُهُ لِأُولَئِكَ بِدَلِيلٍ عَلَى سُخْطِهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا لِهَوَانِهِ لَهُمْ وَلَكِنَّهُ كَرَامَةٌ وَخِيَرَةٌ لَهُمْ، وَلَوْ كَانَ أَيُّوبُ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ بِهَذِهِ المَنْزِلَةِ إِلَّا أَنَّهُ أَخٌ أَحْبَبْتُمُوهُ عَلَى وَجْهِ الصُّحْبَةِ لَكَانَ لَا يجمل أَنْ يَعْذِلَ أَخَاهُ عِنْدَ الْبَلَاءِ. ولا أن يعيره بالمصيبة ولا أن يَعِيبَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ وَهُوَ مَكْرُوبٌ حَزِينٌ، وَلَكِنَّهُ يَرْحَمُهُ وَيَبْكِي مَعَهُ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُ وَيَحْزَنُ لِحُزْنِهِ، ويدل على مراشد أمره وليس بحكيم وَلَا رَشِيدٍ مَنْ جَهِلَ هَذَا، فَاللَّهَ اللَّهَ أَيُّهَا الْكُهُولُ وَقَدْ كَانَ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ، وَذِكْرِ الْمَوْتِ مَا يَقْطَعُ أَلْسِنَتَكُمْ وَيَكْسِرُ قُلُوبَكُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ لله عبادا أسكتتهم خشيته مِنْ غَيْرِ عِيٍّ وَلَا بُكْمٍ وَأَنَّهُمْ لَهُمُ الْفُصَحَاءُ الْبُلَغَاءُ النُّبَلَاءُ الْأَلِبَّاءُ الْعَالِمُونَ بِاللَّهِ.
وَلَكِنَّهُمْ إِذَا ذَكَرُوا عَظَمَةَ اللَّهِ انْقَطَعَتْ أَلْسِنَتُهُمْ وَاقْشَعَرَّتْ جُلُودُهُمْ وَانْكَسَرَتْ قُلُوبُهُمْ وَطَاشَتْ عُقُولُهُمْ إِعْظَامًا وَإِجْلَالًا لِلَّهِ عَزَّ وجلّ، فإذا استقاموا مِنْ ذَلِكَ اسْتَبَقُوا إِلَى اللَّهِ عزّ وجلّ بالأعمال الزكية يعدون أنفسهم مع الظالمين الخاطئين وأنهم لأبرار نزهاء بَرَءَاءُ وَمَعَ الْمُقَصِّرِينَ وَالْمُفَرِّطِينَ وَإنَّهُمْ لأكياس أقوياء، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَزْرَعُ الْحِكْمَةَ بِالرَّحْمَةِ فِي قَلْبِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، فَمَتَى نَبَتَتْ فِي الْقَلْبِ يُظْهِرُهَا اللَّهُ عَلَى اللِّسَانِ وَلَيْسَتْ تَكُونُ الْحِكْمَةُ مِنْ قِبَلِ السِّنِّ وَالشَّيْبَةِ وَلَا طُولِ التَّجْرِبَةِ وَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ الْعَبْدَ حَكِيمًا فِي الصِّبَا لَمْ تُسْقَطْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَ الْحُكَمَاءِ وَهُمْ يَرَوْنَ مِنَ الله عَلَيْهِ نُورَ الْكَرَامَةِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُمْ أَيُّوبُ وَأَقْبَلَ عَلَى رَبِّهِ مُسْتَغِيثًا بِهِ مُتَضَرِّعًا إِلَيْهِ، فَقَالَ رَبِّ لِأَيِّ شَيْءٍ خَلَقْتَنِي لَيْتَنِي إِذْ كَرِهْتَنِي لَمْ تَخْلُقْنِي يَا لَيْتَنِي قَدْ عَرَفْتُ الذَّنْبَ الَّذِي أَذْنَبْتُ، وَالْعَمَلَ الَّذِي عَمِلْتُ، فَصَرَفْتَ به وَجْهَكَ الْكَرِيمَ عَنِّي لَوْ كُنْتَ أَمَتَّنِي فَأَلْحَقْتَنِي بِآبَائِي الْكِرَامِ، فَالْمَوْتُ كَانَ أَجْمَلَ بِي أَلَمْ أَكُنْ لِلْغَرِيبِ دَارًا وَلِلْمِسْكِينِ قَرَارًا وَلِلْيَتِيمِ وَلِيًّا وَلِلْأَرْمَلَةِ قَيِّمًا، إِلَهِي أَنَا عَبْدُكَ إِنْ أَحْسَنْتُ فَالْمَنُّ لَكَ وإن أسأت فبيدك عقوبتي، وجعلتني للبلاء عَرَضًا وَلِلْفِتْنَةِ نَصْبًا وَقَدْ وَقَعَ عَلَيَّ بَلَاءٌ لَوْ سَلَّطْتَهُ عَلَى جبل لضعف عَنْ حَمْلِهِ، فَكَيْفَ يَحْمِلُهُ ضَعْفِي وَإِنَّ قَضَاءَكَ هُوَ الَّذِي أَذَلَّنِي وَإِنَّ سُلْطَانَكَ هُوَ الَّذِي أَسْقَمَنِي وَأَنْحَلَ جِسْمِي، وَلَوْ أَنَّ رَبِّي نَزَعَ الْهَيْبَةَ الَّتِي فِي صَدْرِي وَأَطْلَقَ لِسَانِي حَتَّى أَتَكَلَّمَ بِمَلْءِ فَمِي بِمَا كَانَ يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يُحَاجَّ عَنْ نَفْسِهِ لَرَجَوْتُ أَنْ يُعَافِيَنِي عِنْدَ ذَلِكَ مِمَّا بِي وَلَكِنَّهُ أَلْقَانِي وَتَعَالَى عَنِّي فَهُوَ يَرَانِي وَلَا أَرَاهُ وَيَسْمَعُنِي ولا أسمعه فلا نَظَرَ إِلَيَّ فَيَرْحَمُنِي وَلَا دَنَا مِنِّي وَلَا أَدْنَانِي فَأُدْلِي بِعُذْرِي وَأَتَكَلَّمُ بِبَرَاءَتِي وَأُخَاصِمُ عَنْ نَفْسِي، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ أَيُّوبُ وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ أَظَلَّهُ غَمَامٌ حَتَّى ظَنَّ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، ثُمَّ نُودِيَ يَا أَيُّوبُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: هَا أَنَا قَدْ دَنَوْتُ مِنْكَ وَلَمْ أَزَلْ منك قريبا ثم فَأَدْلِ بِعُذْرِكَ وَتَكَلَّمْ بِبَرَاءَتِكَ وَخَاصِمْ عن نفسك واشدد إزارك، وقم مقام جبار يخاصم جبار إِنِ اسْتَطَعْتَ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخَاصِمَنِي إِلَّا جَبَّارٌ مِثْلِي ولا شبه لي لَقَدْ مَنَّتْكَ نَفْسُكَ يَا أَيُّوبُ أمرا ما تبلغه بِمِثْلِ قُوَّتِكَ أَيْنَ أَنْتَ مِنِّي يَوْمَ خَلَقْتُ الْأَرْضَ فَوَضَعْتُهَا عَلَى أَسَاسِهَا هَلْ كُنْتَ مَعِي تَمُدُّ بِأَطْرَافِهَا وَهَلْ عَلِمْتَ بِأَيِّ مِقْدَارٍ قَدَّرْتُهَا أَمْ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ وَضَعْتُ أَكْنَافَهَا أَبِطَاعَتِكَ حَمَلَ الْمَاءُ الْأَرْضَ أَمْ بِحِكْمَتِكَ كَانَتِ الْأَرْضُ لِلْمَاءِ غِطَاءً أَيْنَ كُنْتَ مِنِّي يوم رفعت السماء سقفا [محفوظا] [2] في الهواء لا
__________
(1) زيادة عن المخطوط. [.....]
(2) زيادة عن المخطوط.(3/306)
تُعَلَّقُ بِسَبَبٍ مَنْ فَوْقَهَا وَلَا تقلها دعم [1] من تحتها هل تَبْلُغَ مِنْ حَكْمَتِكَ أَنْ تُجْرِيَ نُورَهَا أَوْ تُسِيِّرَ نُجُومَهَا أَوْ يَخْتَلِفَ بِأَمْرِكَ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا، أَيْنَ أنت مني يوم نبعث الأنهار وسكرت البحار أبسلطانك حبست أَمْوَاجَ الْبِحَارِ عَلَى حُدُودِهَا أَمْ بقدرتك فَتَحَتِ الْأَرْحَامَ حِينَ بَلَغَتْ مُدَّتَهَا أَيْنَ أَنْتَ مِنِّي يَوْمَ صَبَبْتُ الْمَاءَ عَلَى التُّرَابِ وَنَصَبْتُ شَوَامِخَ الْجِبَالِ هَلْ تَدْرِي عَلَى أَيِّ شيء أرسيتها أو بأي مِثْقَالٍ وَزَنْتُهَا أَمْ هَلْ لَكَ من ذراع تطيق حملها وهل تَدْرِي مِنْ أَيْنَ الْمَاءُ الَّذِي أَنْزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ أَمْ هَلْ تدري من أي شيء أنشئ السَّحَابَ أَمْ هَلْ تَدْرِي أَيْنَ خَزَائِنُ الثَّلْجِ، أَمْ أَيْنَ جِبَالُ الْبَرَدِ، أَمْ أَيْنَ خِزَانَةُ اللَّيْلِ بِالنَّهَارِ وَخِزَانَةُ النَّهَارِ بِاللَّيْلِ، وَأَيْنَ خزائن الرِّيحِ وَبِأَيِّ لُغَةٍ تَتَكَلَّمُ الْأَشْجَارُ وَمَنْ جَعَلَ الْعُقُولَ فِي أَجْوَافِ الرِّجَالِ، وَمَنْ شَقَّ الْأَسْمَاعَ وَالْأَبْصَارَ، وَمَنْ ذَلَّتِ الْمَلَائِكَةُ لِمُلْكِهِ وَقَهَرَ الْجَبَّارِينَ بِجَبَرُوتِهِ، وَقَسَّمَ الْأَرْزَاقَ بِحِكْمَتِهِ فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ ذَكَرَهَا لِأَيُّوبَ، فَقَالَ أَيُّوبُ: صَغُرَ شَأْنِي وَكُلَّ لِسَانِي وَعَقْلِي وَرَائِي وَضَعُفَتْ قُوَّتِي عَنْ هَذَا الأمر الذي تعرض عليّ يَا إِلَهِي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ كل الذي ذكرت صنيع يديك وتدبير حكمتك وأعم مِنْ ذَلِكَ وَأَعْجَبُ لَوْ شِئْتَ لَا يُعْجِزُكَ شَيْءٌ وَلَا يَخْفَى عليك خافية إذ لقتني البلايا، إِلَهِي فَتَكَلَّمْتُ وَلَمْ أَمْلِكْ لِسَانِي وكان البلاء هو الذي نطقني فَلَيْتَ الْأَرْضَ انْشَقَّتْ لِي فَذَهَبْتُ فِيهَا وَلَمْ أَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ يُسْخِطُ ربي، أو ليتني مُتُّ بِغَمِّي فِي أَشَدِّ بَلَائِي قَبْلَ ذَلِكَ، إِنَّمَا تَكَلَّمْتُ حِينَ تَكَلَّمْتُ لِتَعْذُرَنِي وَسَكَتُّ حِينَ سَكَتُّ لِتَرْحَمَنِي كَلِمَةٌ زَلَّتْ مِنِّي فَلَنْ أَعُودَ وَقَدْ وَضَعْتُ يَدِي عَلَى فَمِي وَعَضِضْتُ عَلَى لِسَانِي وَأَلْصَقْتُ بِالتُّرَابِ خَدِّي أَعُوذُ بِكَ الْيَوْمَ مِنْكَ وَأسْتَجِيرُكَ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ فَأَجِرْنِي وَأَسْتَغِيثُ بِكَ مِنْ عِقَابِكَ فَأَغِثْنِي وَأَسْتَعِينُ بِكَ عَلَى أَمْرِي فَأَعِنِّي وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْكَ فَاكْفِنِي، وَأَعْتَصِمُ بِكَ فَاعْصِمْنِي وَأَسْتَغْفِرُكَ فَاغْفِرْ لِي فَلَنْ أَعُودَ لِشَيْءٍ تَكْرَهُهُ مِنِّي، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّوبُ نَفَذَ فِيكَ عِلْمِي وَسَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، وَرَدَدْتُ عَلَيْكَ أَهْلَكَ وَمَالَكَ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ لتكون لمن خلفك آيَةً وَتَكُونَ عِبْرَةً لِأَهْلِ الْبَلَاءِ وعزا لِلصَّابِرِينَ، فَارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ فِيهِ شِفَاؤُكَ وَقَرِّبْ عَنْ أَصْحَابِكَ قُرْبَانًا فَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ قَدْ عَصَوْنِي فِيكَ، فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَانْفَجَرَتْ لَهُ عَيْنٌ فَدَخَلَ فِيهَا فَاغْتَسَلَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ مَا كَانَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فَأَقْبَلَتِ امرأته تلتمسه في مضجعه [على العادة] [2] فلم تجده [ووجدت مكانه رجلا أحسن ما كان من الرجال] [3] فَقَامَتْ كَالْوَالِهَةِ مُتَرَدِّدَةً ثُمَّ قَالَتْ: يَا عَبْدَ اللَّهِ هَلْ لَكَ عِلْمٌ بِالرَّجُلِ الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ هَاهُنَا، قَالَ لَهَا هَلْ تَعْرِفِينَهُ إِذَا رَأَيْتِيهِ قَالَتْ: نَعَمْ وَمَا لي لا أعرفه، ثم تبسم وَقَالَ أَنَا هُوَ فَعَرَفَتْهُ بِضَحِكِهِ فاعتنقته. قال ابن عباس فو الذي نَفْسُ عَبْدِ اللَّهِ بِيَدِهِ مَا فَارَقَتْهُ مِنْ عِنَاقِهِ حَتَّى مَرَّ بِهِمَا كُلُّ مَالٍ لَهُمَا وَوَلَدٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ نِدَائِهِ وَالسَّبَبِ الَّذِي قَالَ لِأَجْلِهِ إِنِّي مَسَّنِي الضر وفي مدة بلائه.
فروى ابْنُ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ «أَنَّ أَيُّوبَ لَبِثَ فِي بَلَائِهِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً» [4] . وَقَالَ وَهْبٌ: لَبِثَ أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ ثَلَاثَ سنين ولم يَزِدْ يَوْمًا. وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَ أَيُّوبُ فِي بَلَائِهِ سَبْعَ سِنِينَ وَسَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَكَثَ أَيُّوبُ مَطْرُوحًا عَلَى كُنَاسَةٍ فِي مَزْبَلَةٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ سَبْعَ سِنِينَ وَأَشْهُرًا تَخْتَلِفُ فِيهِ الدَّوَابُّ لَا يَقْرَبُهُ أَحَدٌ غَيْرَ امرأته رَحْمَةَ صَبَرَتْ مَعَهُ بِصِدْقٍ وَتَأْتِيهِ بِطَعَامٍ وَتَحْمَدُ اللَّهَ مَعَهُ إِذَا حمد، وأيوب مع ذَلِكَ لَا يَفْتُرُ عَنْ ذِكْرِ الله والصبر على ما ابتلاه به، فَصَرَخَ إِبْلِيسُ صَرْخَةً جَمَعَ بِهَا جنوده من
__________
(1) في المطبوع «وعم» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) يأتي في سورة «ص» .(3/307)
أَقْطَارِ الْأَرْضِ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ قالوا ما حزبك [1] قال أعياني هذا العبد أيوب الَّذِي لَمْ أَدَعْ لَهُ مَالًا ولا ولدا فلم يزدد إِلَّا صَبْرًا، ثُمَّ سُلِّطْتُ عَلَى جَسَدِهِ فَتَرَكْتُهُ قُرْحَةً مُلْقَاةً عَلَى كناسة [من مزابل بني إسرائيل] [2] لا يقربه إلا امرأته [فلم يكن عنده جزع] . فَاسْتَعَنْتُ بِكُمْ لِتُعِينُونِي عَلَيْهِ، فَقَالُوا لَهُ أَيْنَ مَكْرُكَ الَّذِي أَهْلَكْتَ بِهِ مَنْ مَضَى، قَالَ بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَيُّوبَ فَأَشِيرُوا عَلَيَّ قَالُوا نُشِيرُ عَلَيْكَ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ آدَمَ حِينَ أَخْرَجْتَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، قَالَ مِنْ قِبَلِ امرأته قالوا فشأنك في أيوب مِنْ قِبَلِ امْرَأَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْصِيَهَا وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْرَبُهُ غَيْرُهَا، قَالَ أَصَبْتُمْ: فَانْطَلَقَ حتى أتى امرأته وهي تتصدق فَتَمَثَّلَ لَهَا فِي صُورَةِ رَجُلٍ فقال لها: أَيْنَ بَعْلُكِ يَا أَمَةَ اللَّهِ قَالَتْ هُوَ ذَاكَ يَحُكُّ قُرُوحَهُ وَتَتَرَدَّدُ الدَّوَابُّ فِي جَسَدِهِ، فَلَمَّا سمع مقالتها طَمِعَ أَنْ تَكُونَ كَلِمَةَ جَزَعٍ فَوَسْوَسَ إِلَيْهَا وَذَكَّرَهَا مَا كَانَتْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ وَالْمَالِ وَذَكَّرَهَا جَمَالَ أَيُّوبَ وَشَبَابَهُ وَمَا هُوَ فيه [الآن] [3] مِنَ الضُّرِّ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا ينقطع عنه أَبَدًا، قَالَ الْحَسَنُ فَصَرَخَتْ فَلَمَّا صرخت علم أنها قَدْ جَزِعَتْ فَأَتَاهَا بِسَخْلَةٍ وَقَالَ لِيَذْبَحْ هَذِهِ لِي أَيُّوبُ وَيَبْرَأْ فَجَاءَتْ تَصْرُخُ يَا أَيُّوبُ حَتَّى مَتَى يُعَذِّبُكَ رَبُّكَ، أَيْنَ الْمَالُ أَيْنَ الْوَلَدُ أَيْنَ الصَّدِيقُ أَيْنَ لونك الحسن أين جسمك الصحيح، اذبح هذه السخلة [على اسم عبد من عباد الله أتانيها وأنت تبرأ مما فيك من البلاء] [4] واسترح، فقال أَيُّوبُ: أَتَاكِ عَدُوُّ اللَّهِ فَنَفَخَ فِيكِ وَيْلَكِ أَرَأَيْتِ مَا تَبْكِينَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَالصِّحَّةِ مَنْ أَعْطَانِيهِ، قَالَتِ اللَّهُ، قَالَ فَكَمْ مُتِّعْنَا بِهِ قَالَتْ ثَمَانِينَ سنة، قال فمنذكم ابْتَلَانَا قَالَتْ مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ وَأَشْهُرٍ، قَالَ وَيْلَكِ مَا أَنْصَفْتِ أَلَا صَبَرْتِ فِي الْبَلَاءِ ثَمَانِينَ سنة، قال فمنذكم ابْتَلَانَا قَالَتْ مُنْذُ سَبْعِ سِنِينَ وَأَشْهُرٍ، قَالَ وَيْلَكِ مَا أَنْصَفْتِ أَلَا صَبَرْتِ فِي الْبَلَاءِ ثَمَانِينَ سَنَةً كَمَا كُنَّا فِي الرَّخَاءِ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَاللَّهِ لَئِنْ شَفَانِي اللَّهُ لِأَجْلِدَنَّكِ مِائَةَ جَلْدَةٍ أَمَرْتِينِي أَنْ أَذْبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ طَعَامُكِ وشرابك الذي تأتيني به علي حرام وحرام عليّ أن أذوق [منه] [5] شَيْئًا مِمَّا تَأْتِينِي بِهِ بَعْدَ إِذْ قَلْتِ لِي هَذَا، فَاغْرُبِي عَنِّي، فَلَا أَرَاكِ فَطَرَدَهَا فَذَهَبَتْ فَلَمَّا نَظَرَ أَيُّوبُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ وَلَا صَدِيقٌ خرّ ساجدا لله وَقَالَ رَبِّ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَقِيلَ لَهُ ارْفَعْ رَأْسَكَ فَقَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ عين [ماء] [6] فَاغْتَسَلَ مِنْهَا فَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مِنْ دَائِهِ شَيْءٌ ظَاهِرٌ إِلَّا سَقَطَ وَعَادَ إِلَيْهِ شَبَابُهُ وَجَمَالُهُ أحسن ما كان، ثم ركض برجله ركضة أخرى فَنَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى فَشَرِبَ مِنْهَا فَلَمْ يَبْقَ فِي جَوْفِهِ دَاءٌ إِلَّا خَرَجَ فَقَامَ صَحِيحًا وَكُسِيَ حُلَّةً قَالَ فَجَعَلَ يَلْتَفِتُ فَلَا يَرَى شَيْئًا مِمَّا كَانَ لَهُ مَنْ أَهْلٍ وَمَالٍ إِلَّا وَقَدْ ضاعفه الله [له] [7] حتى ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي اغتسل منه تطاير منه عَلَى صَدْرِهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ يَضُمُّهُ بِيَدِهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أُغْنِكَ؟ قَالَ: بَلَى وَلَكِنَّهَا بَرَكَتُكَ فَمَنْ يَشْبَعُ مِنْهَا، قَالَ فَخَرَجَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى مَكَانٍ مُشْرِفٍ، ثُمَّ إِنَّ امْرَأَتَهُ قَالَتْ أَرَأَيْتُكَ إِنْ كان أيوب طَرَدَنِي إِلَى مَنْ أَكِلَهُ أَدَعَهُ يَمُوتُ جُوعًا وَيَضِيعُ فَتَأْكُلُهُ السِّبَاعُ لأرجعنّ إليه فرجعت فَلَا كُنَاسَةَ تَرَى وَلَا تِلْكَ الْحَالَةَ الَّتِي كَانَتْ وَإِذَا الْأُمُورُ قَدْ تَغَيَّرَتْ فَجَعَلَتْ تَطُوفُ حَيْثُ كَانَتِ الْكُنَاسَةُ وَتَبْكِي وَذَلِكَ بِعَيْنِ أَيُّوبَ وَهَابَتْ صَاحِبَ الْحُلَّةِ أَنْ تَأْتِيَهُ فَتَسْأَلَهُ عَنْهُ، فَدَعَاهَا أَيُّوبُ فَقَالَ مَا تُرِيدِينَ يَا أَمَةَ اللَّهِ فَبَكَتْ وَقَالَتْ أَرَدْتُ ذَلِكَ الْمُبْتَلَى الَّذِي كَانَ مَنْبُوذًا عَلَى الكناسة ولا أَدْرِي أَضَاعَ أَمْ مَا فَعَلَ [به] [8] فقال أيوب ما كان [هو] [9] منك فبكت،
__________
(1) في المخطوط «أحزنك» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) زيادة عن المخطوط.
(9) زيادة عن المخطوط. [.....](3/308)
وَقَالَتْ بَعْلِي: قَالَ فَهَلْ تَعْرِفِينَهُ إِذَا رَأَيْتِيهِ فَقَالَتْ وَهَلْ يَخْفَى على أحد [بعله إذا] [1] رَآهُ ثُمَّ جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وهي تهابه ثم فقالت: أَمَا أَنَّهُ أَشْبَهُ خَلْقِ اللَّهِ بِكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا قَالَ فإني أنا أيوب الذي أمرتيني أَنْ أَذْبَحَ لِإِبْلِيسَ وَإِنِّي أَطَعْتُ اللَّهَ وَعَصَيْتُ الشَّيْطَانَ وَدَعَوْتُ اللَّهَ فَرَدَّ عَلَيَّ مَا تَرَيْنَ. وَقَالَ وهب بن منبه: لَبِثَ أَيُّوبُ فِي الْبَلَاءِ ثَلَاثَ سِنِينَ فَلَمَّا غَلَبَ أَيُّوبُ إِبْلِيسَ وَلَمْ يَسْتَطِعْ مِنْهُ شَيْئًا اعْتَرَضَ امْرَأَتَهُ فِي هَيْئَةٍ لَيْسَتْ كَهَيْئَةِ بَنِي آدَمَ فِي الْعِظَمِ وَالْجِسْمِ وَالْجَمَالِ عَلَى مَرْكَبٍ لَيْسَ مِنْ مَرَاكِبِ النَّاسِ لَهُ عِظَمٌ وَبَهَاءٌ وَكَمَالٌ، فَقَالَ لَهَا أَنْتِ صَاحِبَةُ أَيُّوبَ هَذَا الرَّجُلُ الْمُبْتَلَى، قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَهَلْ تَعْرِفِينِي قَالَتْ لَا قَالَ أَنَا إِلَهُ الْأَرْضِ وَأَنَا الَّذِي صَنَعْتُ بِصَاحِبِكِ مَا صنعت لأنه عبد الله إِلَهَ السَّمَاءِ وَتَرَكَنِي فَأَغْضَبَنِي وَلَوْ سَجَدَ لِي سَجْدَةً وَاحِدَةً رَدَدْتُ عَلَيْهِ وَعَلَيْكِ كُلَّ مَا كَانَ لَكُمَا مِنْ مَالٍ وَوَلَدٍ، فَإِنَّهُ عِنْدِي ثُمَّ أَرَاهَا إِيَّاهُمْ بِبَطْنِ الْوَادِي الَّذِي لَقِيَهَا [2] فِيهِ، قَالَ وَهْبٌ: وَقَدْ سَمِعْتُ أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ لَهَا لَوْ أَنَّ صَاحِبَكِ أَكَلَ طَعَامًا وَلَمْ يُسَمِّ اللَّهَ عَلَيْهِ لَعُوفِيَ مِمَّا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَفِي بَعْضِ الْكُتُبِ: إِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ لَهَا اسْجُدِي لِي سَجْدَةً حَتَّى أَرُدَّ عليك المال والولد وَأُعَافِيَ زَوْجَكِ، فَرَجَعَتْ إِلَى أَيُّوبَ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا قَالَ لَهَا وَمَا أَرَاهَا قَالَ لَقَدْ أَتَاكِ عَدُوُّ الله إبليس لِيَفْتِنَكِ عَنْ دِينِكِ، ثُمَّ أَقْسَمَ لو إِنْ عَافَاهُ اللَّهُ لَيَضْرِبَنَّهَا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ مِنْ طَمَعِ إِبْلِيسَ فِي سُجُودِ حُرْمَتِي لَهُ، وَدُعَائِهِ إِيَّاهَا وَإِيَّايَ إِلَى الْكُفْرِ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَحِمَ رَحْمَةَ امْرَأَةَ أَيُّوبَ بِصَبْرِهَا مَعَهُ عَلَى الْبَلَاءِ، وَخَفَّفَ عَلَيْهَا وَأَرَادَ أَنْ يَبِرَّ يَمِينُ أَيُّوبَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا يَشْتَمِلُ عَلَى مِائَةِ عُودٍ صِغَارٍ فَيَضْرِبُهَا بِهِ ضَرْبَةً واحدة كما قال الله تَعَالَى: وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص: 44] .
وَرُوِيَ أَنَّ إِبْلِيسَ اتَّخَذَ تَابُوتًا وَجَعَلَ فِيهِ أَدْوِيَةً وَقَعَدَ عَلَى طَرِيقِ امْرَأَتِهِ يُدَاوِي النَّاسَ فَمَرَّتْ بِهِ امْرَأَةُ أَيُّوبَ فَقَالَتْ: يَا شَيْخُ إِنَّ لِي مَرِيضًا أَفَتُدَاوِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ لَا أُرِيدُ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَقُولَ إِذَا شَفَيْتُهُ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِأَيُّوبَ فَقَالَ هُوَ إِبْلِيسُ قَدْ خَدَعَكِ، ثم حلف إِنْ شَفَاهُ اللَّهُ أَنْ يَضْرِبَهَا مِائَةَ جَلْدَةٍ.
وَقَالَ وَهْبٌ وَغَيْرُهُ: كَانَتِ امْرَأَةُ أَيُّوبَ تَعْمَلُ لِلنَّاسِ وَتَجِيئُهُ بِقُوتِهِ فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ البلاء وسئمها الناس ولم يستعملها أحد التمست يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ مَا تُطْعِمُهُ فَمَا وَجَدَتْ شَيْئًا فَجَزَّتْ [3] قَرْنًا مِنْ رَأْسِهَا، فَبَاعَتْهُ بِرَغِيفٍ فَأَتَتْهُ بِهِ فَقَالَ لَهَا أَيْنَ قَرْنُكِ فَأَخْبَرَتْهُ فَحِينَئِذٍ قَالَ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ، وَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حين قصدت الدودة إِلَى قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فَخَشِيَ أَنْ يَفْتُرَ عَنِ الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ.
وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: لَمْ يَدْعُ اللَّهَ بِالْكَشْفِ عَنْهُ حَتَّى ظَهَرَتْ لَهُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا قدم عليه صديقان [له] [4] حِينَ بَلَغَهُمَا خَبَرُهُ فَجَاءَا إِلَيْهِ ولم يبق إلّا عيناه رأيا أَمْرًا عَظِيمًا فَقَالَا: لَوْ كَانَ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ مَا أَصَابَكَ هَذَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ امْرَأَتَهُ طَلَبَتْ طَعَامًا فَلَمْ تَجِدْ مَا تُطْعِمُهُ فَبَاعَتْ ذُؤَابَتَهَا وَحَمَلَتْ إِلَيْهِ طَعَامًا.
وَالثَّالِثُ: قَوْلُ إِبْلِيسَ إِنِّي أُدَاوِيهِ عَلَى أَنْ يَقُولَ أَنْتَ شفيتني. وقيل: إن إبليس [لعنه الله] [5] وَسْوَسَ إِلَيْهِ أَنَّ امْرَأَتَكَ زَنَتْ. فَقَطَعَتْ ذُؤَابَتَهَا فَحِينَئِذٍ عِيلَ صَبْرُهُ، فدعاه [وقال مسني الضر] [6] وحلف ليضربنّها
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «لقيا» .
(3) في المطبوع «فحزت» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.(3/309)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
مِائَةَ جَلْدَةٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَسَّنِيَ الضُّرُّ مِنْ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ. حَتَّى روي أنه قيل له بعد ما عُوفِيَ مَا كَانَ أَشَدَّ عَلَيْكَ فِي بَلَائِكَ قَالَ شَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ. وقيل: قال كذلك حِينَ وَقَعَتْ دُودَةٌ مِنْ فَخْذِهِ فَرَدَّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا.
وَقَالَ كُلِي: فَقَدْ جَعَلَنِي اللَّهُ طَعَامَكِ فَعَضَّتْهُ عَضَّةً زَادَ أَلَمُهَا عَلَى جَمِيعِ ما قاساه مِنْ عَضِّ الدِّيدَانِ [1] . فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ سَمَّاهُ صَابِرًا وَقَدْ أَظْهَرَ الشَّكْوَى وَالْجَزَعَ، بِقَوْلِهِ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ، وأَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ [ص: 41] ، قِيلَ [هذا] [2] ليس هذا بشكاية إِنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْتَجَبْنا لَهُ، عَلَى أَنَّ الْجَزَعَ إِنَّمَا هُوَ فِي الشَّكْوَى إِلَى الْخَلْقِ فَأَمَّا الشَّكْوَى إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَكُونُ جزعا ولا ترك صبرا كما قال يعقوب: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
[يُوسُفَ: 86] . قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: وَكَذَلِكَ [كل] [3] من أظهر الشكوى إلى الخلق وَهُوَ رَاضٍ بِقَضَاءِ اللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ جَزَعًا.
«1433» كَمَا رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ دَخْلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ فَقَالَ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: «أَجِدُنِي مَغْمُومًا وَأَجِدُنِي مَكْرُوبًا» .
«1434» وَقَالَ لعائشة حين قالت وا رأساه: «قال بل أنا وا رأساه» .
[سورة الأنبياء (21) : آية 84]
فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)
قوله: فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ له ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ فَنَبَعَتْ عين ماء بارد، فَأَمَرَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ مِنْهَا فَفَعَلَ فَذَهَبَ كُلُّ دَاءٍ كَانَ بِظَاهِرِهِ، ثُمَّ مَشَى أَرْبَعِينَ خُطْوَةً فَأَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ [4] بِرِجْلِهِ الْأَرْضَ مَرَّةً أُخْرَى فَفَعَلَ فَنَبَعَتْ عَيْنُ مَاءٍ بَارِدٍ فَأَمَرَهُ فَشَرِبَ مِنْهَا فَذَهَبَ كُلُّ دَاءٍ كَانَ بِبَاطِنِهِ فَصَارَ كَأَصَحِّ مَا يَكُونُ مِنَ الرِّجَالِ وَأَجْمَلِهِمْ. وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: رَدَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ بِأَعْيَانِهِمْ أَحْيَاهُمُ اللَّهُ [لَهُ] [5] وَأَعْطَاهُ [6] مِثْلَهُمْ معهم، وهو ظاهر القرآن وقال الْحَسَنُ: آتَاهُ اللَّهُ الْمِثْلَ مِنْ
__________
1433- ضعيف. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» 2/ 198- 199 والبيهقي في «الدلائل» 7/ 267- 268 من طريقين عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أبيه وفي إسناده ابن سعد من لم يسمّ.
- وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 7/ 210- 211 من طريق الحسن بن علي عن محمد بن علي مرسلا.
- وأخرجه الطبراني في «الكبير» 2890 من طريق علي بن الحسين عن أبيه.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 9/ 34 وقال: وفيه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحُ، وهو ذاهب الحديث.
1434- صحيح. أخرجه البخاري 5666 والبيهقي «الدلائل» 7/ 168 من حديث عائشة.
- وأخرجه ابن ماجه 1465 وأحمد 6/ 228 وعبد الرزاق 9754 وابن حبان 6586 والبيهقي 3/ 396 وفي «الدلائل» 7/ 168 من وجه آخر من حديث عائشة أيضا.
وقال البوصيري في «الزوائد» : إسناد رجاله ثقات.
(1) وهذا أيضا من أساطير الإسرائيليين وترهاتهم وافتراءاتهم.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «يركض» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «وأعطاهم» . [.....](3/310)
نَسْلِ مَالِهِ الَّذِي رَدَّهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَأَهْلَهُ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا روي عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَدَّ على الْمَرْأَةِ شَبَابَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ سِتَّةً وَعِشْرِينَ ذَكَرًا. قَالَ وَهْبٌ: كَانَ لَهُ سَبْعُ بَنَاتٍ وَثَلَاثَةُ بَنِينَ، قال ابن يسار:
كان له سبعة بَنِينَ وَسَبْعُ بَنَاتٍ.
«1435» وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ: «أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَحَابَتَيْنِ فَأَفْرَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ الذَّهَبَ وَأَفْرَغَتِ الْأُخْرَى عَلَى أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ حَتَّى فَاضَ» .
143»
وَرُوِيَ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعْثَ إِلَيْهِ ملكا وقال له إِنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ بِصَبْرِكَ فَاخْرُجْ إِلَى [1] أَنْدَرِكَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ جَرَادًا مِنْ ذَهَبٍ فَطَارَتْ وَاحِدَةٌ فَاتَّبَعَهَا وَرَدَّهَا إِلَى أَنْدَرِهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ:
أَمَا يَكْفِيكَ مَا فِي أَنْدَرِكَ؟ فَقَالَ: هَذِهِ بَرَكَةٌ مِنْ بَرَكَاتِ رَبِّي وَلَا أَشْبَعُ مِنْ بَرَكَتِهِ» .
«1437» أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنِ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: أَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بينما أيوب يغتسل عريانا [إذ] [2] خَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أكن أغنيتك [3] عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى يَا رب [4] وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي [5] عَنْ بركتك» .
__________
1435- الراجح وقفه. أخرجه الحاكم 2/ 581 و582 وأبو يعلى 2357 والبزار 2357 وابن حبان 2898 وأبو نعيم في «الحلية» 3/ 374- 375 من طرق عن سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ نافع بن يزيد عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عن أنس بن مالك مطوّلا.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وذكره ابن كثير في «البداية والنهاية» 1/ 208 وقال: وهذا غريب رفعه جدا، والأشبه أن يكون موقوفا.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 8/ 208 وقال: ورجال البزار رجال الصحيح.
- وقال أبو نعيم: غريب من حديث الزهري، لم يروه عنه إلّا عقيل، ورواته متفق على عدالتهم، تفرد به نافع.
1436- ذكره السيوطي في «الدر» 4/ 594 وقال: أخرجه ابن مردويه وابن عساكر من طريق جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عباس. والصحيح في هذا الباب، هو الآتي.
وهذا إسناده ضعيف جدا، جويبر- وهو ابن سعيد متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس.
1437- إسناده صحيح. أحمد بن يوسف ثقة روى له مسلم، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، عبد الرزاق بن همام، معمر بن راشد.
- وهو في «شرح السنة» 2020 بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 279 و3391 و1493 وأحمد 2/ 314 وابن حبان 6229 من طرق عن عبد الرزاق به.
- وأخرجه النسائي 1/ 200 و201 وأحمد 2/ 243 و304 و490 و511 والطيالسي 2455 وابن حبان 6230 من طرق عن أبي هريرة.
(1) في المطبوع «على» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «أغنيك» .
(4) في المخطوط «وعزتك» .
(5) في المطبوع «لي» .(3/311)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
وَقَالَ قَوْمٌ: أَتَى اللَّهُ أَيُّوبَ فِي الدُّنْيَا مِثْلَ أَهْلِهِ الَّذِينَ هَلَكُوا، فَأَمَّا الَّذِينَ هَلَكُوا فَإِنَّهُمْ لَمْ يُرَدُّوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ عِكْرِمَةُ: قِيلَ لِأَيُّوبَ إِنَّ أَهْلَكَ لَكَ فِي الْآخِرَةِ فَإِنْ شِئْتَ عَجَّلْنَاهُمْ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ شِئْتَ كَانُوا لَكَ فِي الْآخِرَةِ، وَآتَيْنَاكَ مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَقَالَ يَكُونُونَ لِي فِي الْآخِرَةِ، وَأُوتَى مِثْلَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَعَلَى هذا يكون معنى: وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ فِي الْآخِرَةِ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَأَرَادَ بِالْأَهْلِ الْأَوْلَادَ، رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا، أَيْ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا، وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ، أي عظة وعبرة لهم.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 87]
وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
قوله: وَإِسْماعِيلَ، يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ، وَإِدْرِيسَ، وَهُوَ أَخْنُوخُ، وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ، عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، واختلفوا في ذا الكفل.
فقال عَطَاءٌ: إِنَّ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أُرِيدُ قَبْضَ رُوحِكَ فَاعْرِضْ مُلْكَكَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَمَنْ تَكَفَّلَ لك أن يصلي بالليل ولا يَفْتُرُ وَيَصُومَ بِالنَّهَارِ وَلَا يُفْطِرُ، وَيَقْضِيَ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا يَغْضَبُ، فَادْفَعْ مُلْكَكَ إِلَيْهِ فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَقَامَ شَابٌّ: فَقَالَ: أَنَا أَتَكَفَّلُ لَكَ بِهَذَا فَتَكَفَّلَ، وَوَفَّى بِهِ فَشَكَرَ اللَّهَ لَهُ وَنَبَّأَهُ فَسُمِّيَ ذا الكفل.
قال مُجَاهِدٌ: لَمَّا كَبُرَ الْيَسَعُ قَالَ لو أني استخلفت رَجُلًا عَلَى النَّاسِ يَعْمَلُ عَلَيْهِمْ في حياتي حتى أنظر [إليه] [1] كَيْفَ يَعْمَلُ، قَالَ: فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: مَنْ يَتَقَبَّلُ مِنِّي بِثَلَاثٍ أَسْتَخْلِفُهُ: يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ، وَيَقْضِيَ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا يَغْضَبُ، فَقَامَ رَجُلٌ تَزْدَرِيهِ الْعَيْنُ، فَقَالَ: أَنَا فَرَدَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَقَالَ مِثْلَهَا الْيَوْمَ الْآخَرَ فَسَكَتَ النَّاسُ، وَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ: أَنَا فردّه ذلك اليوم، فَاسْتَخْلَفَهُ فَأَتَاهُ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ ضَعِيفٍ حِينَ أَخَذَ مَضْجَعَهُ لِلْقَائِلَةِ، وَكَانَ لَا يَنَامُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَّا تِلْكَ النَّوْمَةِ فَدَقَّ الْبَابَ، فَقَالَ:
مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَظْلُومٌ، فَقَامَ فَفَتَحَ الباب فقال الشيخ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ قَوْمِي خُصُومَةً وإنهم ظلموني وفعلوا فعلوا وجعل يَطُولُ حَتَّى حَضَرَ الرَّوَاحُ، وَذَهَبَتِ القائلة، فقال له إذا رحت فائتني حتى آخُذُ حَقَّكَ فَانْطَلَقَ وَرَاحَ فَكَانَ فِي مَجْلِسِهِ يَنْظُرُ هَلْ يَرَى الشَّيْخَ فَلَمْ يَرَهُ، فَقَامَ يَبْتَغِيهِ فلما كان من الْغَدُ جَلَسَ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ وَيَنْتَظِرُهُ فَلَا يَرَاهُ، فَلِمَا رَجَعَ إِلَى الْقَائِلَةِ فَأَخَذَ مَضْجَعَهُ أَتَاهُ فَدَقَّ الْبَابَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: الشَّيْخُ الْمَظْلُومُ فَفَتَحَ [لَهُ الْبَابَ] [2] فَقَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إذا قعدت فائتني؟ قال: إِنَّهُمْ أَخْبَثُ قَوْمٍ إِذَا عَرَفُوا أَنَّكَ قَاعِدٌ قَالُوا نَحْنُ نُعْطِيكَ حَقَّكَ وَإِذَا قُمْتُ جَحَدُونِي، قَالَ فَانْطَلِقْ فَإِذَا رُحْتُ فَائْتِنِي، فَفَاتَتْهُ القائلة فراح فَجَعَلَ يَنْظُرُ فَلَا يَرَاهُ فَشَقَّ عَلَيْهِ النُّعَاسُ، فَقَالَ لِبَعْضِ أَهْلِهِ لا تدعن أحدا يقرب من هَذَا الْبَابَ حَتَّى أَنَامَ فَإِنَّهُ قَدْ شَقَّ عَلَيَّ النَّوْمُ، فَلَمَّا كان تلك الساعة جاء [إليه] [3] فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الرَّجُلُ فَلَمَّا أَعْيَاهُ نَظَرَ فَرَأَى كُوَّةً فِي الْبَيْتِ فَتَسَوَّرَ مِنْهَا فَإِذَا هُوَ فِي الْبَيْتِ يَدُقُّ الْبَابَ مِنْ دَاخِلٍ، فَاسْتَيْقَظَ فَقَالَ: يَا فُلَانُ ألم آمرك
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.(3/312)
[أن لا تدخل علي أحدا] [1] فَقَالَ: أَمَّا مِنْ قِبَلِي فَلَمْ تُؤْتَ فَانْظُرْ مِنْ أَيْنَ أُتِيتَ، فَقَامَ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ مغلق كما هو أَغْلَقَهُ، وَإِذَا الرَّجُلُ مَعَهُ فِي الْبَيْتِ فَقَالَ أَتَنَامُ وَالْخُصُومُ بِبَابِكَ، فَعَرَفَهُ فَقَالَ: أَعْدُوُّ اللَّهِ؟
قَالَ: نَعَمْ أَعْيَيْتَنِي فَفَعَلْتُ مَا تَرَى لأغضبك فعصمك الله مني، فَسُمِّيَ ذَا الْكِفْلِ لِأَنَّهُ تَكَفَّلَ بِأَمْرٍ [2] فَوَفَّى بِهِ.
وَقِيلَ: إِنَّ إِبْلِيسَ جَاءَهُ وَقَالَ إِنَّ لِي غَرِيمًا يَمْطُلُنِي فَأُحِبُّ أَنْ تَقُومَ مَعِي وَتَسْتَوْفِي حَقِّي مِنْهُ، فَانْطَلَقَ مَعَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ فِي السُّوقِ خَلَّاهُ وَذَهَبَ. وَرُوِيَ: أَنَّهُ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ. وَقَالَ: إِنَّ صَاحِبِي هَرَبَ، وَقِيلَ: إِنَّ ذَا الْكِفْلِ رَجُلٌ كَفَلَ أَنْ يُصَلِّيَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِائَةَ رَكْعَةٍ إِلَى أَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ فَوَفَّى بِهِ، وَاخْتَلَفُوا في أنه [هل] [3] كَانَ نَبِيًّا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ نَبِيًّا. وَقِيلَ: هُوَ إِلْيَاسُ. وَقِيلَ: [هو] [4] زَكَرِيَّا. وَقَالَ أَبُو مُوسَى: لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا وَلَكِنْ كَانَ عَبْدًا صالحا.
وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا، يَعْنِي مَا أنعم الله [5] عليهم في الدنيا مِنَ النُّبُوَّةِ وَصَيَّرَهُمْ إِلَيْهِ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الثَّوَابِ، إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ.
وَذَا النُّونِ، أي واذكر صَاحِبَ الْحُوتِ وَهُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى، إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً، اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَقَالَ الضَّحَّاكُ: مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ وَغَيْرِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ يُونُسُ وَقَوْمُهُ يَسْكُنُونَ فِلَسْطِينَ فَغَزَاهُمْ مَلِكٌ فَسَبَى مِنْهُمْ تِسْعَةَ أَسْبَاطٍ ونصفا وبقي سبطان وَنِصْفٌ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى شَعْيَاءَ النَّبِيِّ أَنْ سِرْ إِلَى حِزْقِيلَ الْمَلِكِ، وَقُلْ لَهُ حَتَّى يُوَجِّهَ نبيا قويا فإني ألقي هيبة [6] فِي قُلُوبِ أُولَئِكَ حَتَّى يُرْسِلُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ فَمَنْ تَرَى، وَكَانَ فِي مَمْلَكَتِهِ خَمْسَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ يونس فإنه قوي أمين فدعا الملك بيونس فَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ، فَقَالَ لَهُ يُونُسُ هَلْ أَمَرَكَ اللَّهُ بِإِخْرَاجِي؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَهَلْ سَمَّانِي لك؟ قال: لا، فههنا غَيْرِي أَنْبِيَاءٌ أَقْوِيَاءُ، فَأَلَحُّوا عَلَيْهِ فَخَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ مُغَاضِبًا لِلنَّبِيِّ وَلِلْمَلِكِ، وَلِقَوْمِهِ فَأَتَى بَحْرَ الرُّومِ فَرَكِبَهُ.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَجَمَاعَةٌ: ذَهَبَ عَنْ قَوْمِهِ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ إِذْ كشف عن قومه العذاب بعد ما أَوْعَدَهُمْ وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ قَوْمٍ قَدْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْخُلْفَ فِيمَا أَوْعَدَهُمْ وَاسْتَحْيَا مِنْهُمْ وَلَمْ يَعْلَمِ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ [رُفِعَ] [7] العذاب [عنهم] [8] وَكَانَ غَضَبُهُ أَنَفَةً مِنْ ظُهُورِ خُلْفِ وَعْدِهِ، وَأَنَّهُ يُسَمَّى كَذَّابًا لَا كَرَاهِيَةً لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ قَوْمِهِ أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِبَ فَخَشِيَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لَمَّا لَمْ يَأْتِهِمُ العذاب للميعاد [الذي وعدهم فيه] [9] فغضب، والمغاضبة هاهنا مِنَ [10] الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي تَكُونُ مِنَ وَاحِدٍ، كَالْمُسَافَرَةِ وَالْمُعَاقَبَةِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ مغاضبا أي غضبان.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «أمرا» .
(3) زيادة عن المخطوط. [.....]
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «به» .
(6) في المطبوع «معه» .
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) زيادة عن المخطوط.
(9) زيادة عن المخطوط.
(10) في المخطوط «هي» .(3/313)
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّمَا غَضِبَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْمَسِيرِ إِلَى قَوْمِهِ لِيُنْذِرَهُمْ بَأْسَهُ وَيَدْعُوَهُمْ إِلَيْهِ فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُنْظِرَهُ لِيَتَأَهَّبَ لِلشُّخُوصِ إِلَيْهِمْ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّ الْأَمْرَ أَسْرَعُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى سَأَلَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ نَعْلًا يلبسها فلم ينظره. وَكَانَ فِي خُلُقِهِ ضِيقٌ فَذَهَبَ مُغَاضِبًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَتَى جِبْرِيلُ يُونُسَ فَقَالَ: انْطَلِقْ إلى أهل نينوى فأنذرهم، فقال أَلْتَمِسُ دَابَّةً قَالَ الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ فَغَضِبَ فَانْطَلَقَ إِلَى السَّفِينَةِ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّ يُونُسَ بْنَ مَتَّى كَانَ عَبْدًا صَالِحًا وَكَانَ فِي خُلُقِهِ ضَيقٌ، فَلَمَّا حُمِّلَ عَلَيْهِ أَثْقَالُ النُّبُوَّةِ تَفَسَّخَ تَحْتَهَا تَفَسُّخَ الرَّبُعِ تحت الحمل الثقيل فقذفها بين يديه، وَخَرَجَ هَارِبًا مِنْهَا، فَلِذَلِكَ أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَقَالَ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَافِ: 35] [وَقَالَ] [1] : وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القَلَمِ: 48] . قوله: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، أي لن نقضي عليه بِالْعُقُوبَةِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُقَالُ: قَدَّرَ اللَّهُ الشَّيْءَ تَقْدِيرًا وَقَدَرَ يَقْدِرُ قَدْرًا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ [الوَاقِعَةِ: 60] فِي قراءة من خففها دَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ فَظَنَّ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عليه الحبس، كقوله تَعَالَى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرَّعْدِ: 26] ، أَيْ يُضَيِّقُ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ اسْتِفْهَامٌ معناه فظن أَنَّهُ يُعْجِزُ رَبَّهُ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَ يَعْقُوبُ يُقْدَرَ بِضَمِّ الياء على المجهول خفيف. وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ يُونُسَ لَمَّا أَصَابَ الذَّنْبَ انْطَلَقَ مغاضبا لربه واستنزله الشَّيْطَانُ حَتَّى ظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ، وَكَانَ لَهُ سَلَفٌ وَعِبَادَةٌ فَأَبَى اللَّهُ أَنْ يَدَعَهُ لِلشَّيْطَانِ، فَقَذَفَهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فَمَكَثَ فِيهِ أَرْبَعِينَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: سَبْعَةَ أَيَّامٍ.
وَقِيلَ: ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْحُوتَ ذَهَبَ بِهِ مَسِيرَةَ سِتَّةِ آلَافِ سَنَةٍ. وَقِيلَ: بَلَغَ بِهِ تُخُومَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ فَتَابَ إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَرَاجَعَ نَفْسَهُ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، حِينَ عَصَيْتُكَ وَمَا صَنَعْتُ مِنْ شَيْءٍ فَلَنْ أَعْبُدَ غَيْرَكَ فَأَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ بِرَحْمَتِهِ، وَالتَّأْوِيلَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ أَوْلَى بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ ذَهَبَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ أَوْ لِلْمَلَكِ، فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، يعني ظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَظُلْمَةِ الْبَحْرِ وَظُلْمَةِ بطن الحوت.
«1438» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «أَوْحَى اللَّهُ إِلَى الْحُوتِ أَنْ خُذْهُ وَلَا تَخْدِشْ لَهُ لَحْمًا وَلَا تَكْسِرْ لَهُ عَظْمًا فَأَخَذَهُ ثُمَّ هَوَى بِهِ إِلَى مَسْكَنِهِ فِي الْبَحْرِ، فَلَمَّا انْتَهَى بِهِ إِلَى أَسْفَلِ الْبَحْرِ سَمِعَ يُونُسُ حِسًّا فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: مَا هَذَا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ هَذَا تَسْبِيحُ دَوَابِّ الْبَحْرِ، قَالَ: فَسَبَّحَ وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ فَسَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ تَسْبِيحَهُ، فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا نَسْمَعُ صَوْتًا ضَعِيفًا بِأَرْضٍ غَرِيبَةٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ: «صَوْتًا مَعْرُوفًا مِنْ مَكَانٍ مَجْهُولٍ، فَقَالَ: ذَاكَ عَبْدِي يُونُسُ عَصَانِي فَحَبَسْتُهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، فَقَالُوا الْعَبْدَ الصَّالِحَ الَّذِي كَانَ يَصْعَدُ إِلَيْكَ مِنْهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عَمَلٌ صَالِحٌ؟ قَالَ: نَعَمْ فَشَفَعُوا لَهُ، عِنْدَ ذَلِكَ فَأَمَرَ الْحُوتَ فَقَذَفَهُ إِلَى السَّاحِلِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) [الصافات: 145] .
__________
1438- ضعيف. أخرجه الطبري 24778 من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف، فيه راو لم يسم، والأشبه فيه الوقف، والله أعلم.
(1) زيادة من المخطوط.(3/314)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 88 الى 92]
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
فذلك قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَاسْتَجَبْنا لَهُ، أي: أَجَبْنَاهُ، وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ، مِنْ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ، وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ، مِنْ كُلِّ كَرْبٍ إِذَا دَعَوْنَا وَاسْتَغَاثُوا بِنَا قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ:
(نُجِّي) بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَتَسْكِينِ الْيَاءِ لِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ، وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهَا لَحْنٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لم تسكن الياء ورفع «المؤمنين» ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَوَّبَهَا، وَذَكَرَ الْفَرَّاءُ أَنَّ لَهَا وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ إضمار المصدر، أي نجا النجاة الْمُؤْمِنِينَ [وَنَصَبَ الْمُؤْمِنِينَ] [1] كَقَوْلِكَ ضَرَبَ الضَّرْبَ زَيْدًا، ثُمَّ تَقُولُ ضَرَبَ زَيْدًا بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ الْمَصْدَرِ، وَسَكَّنَ الْيَاءَ فِي (نُجِّي) كَمَا يُسَكِّنُونَ فِي بَقِيَ وَنَحْوِهَا.
قَالَ القُتَيْبِيُّ: مَنْ قَرَأَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَالتَّشْدِيدِ فَإِنَّمَا أَرَادَ نُنْجِي مِنَ التَّنْجِيَةِ إِلَّا أَنَّهُ أَدْغَمَ وَحَذَفَ نُونًا طَلَبًا لِلْخِفَّةِ وَلَمْ يَرْضَهُ النَّحْوِيُّونَ لِبُعْدِ مَخْرَجِ النُّونِ مِنَ الْجِيمِ، وَالْإِدْغَامُ يَكُونُ عِنْدَ قُرْبِ المخرج، وقرأ الْعَامَّةِ (نُنْجِي) بِنُونَيْنِ مِنَ الْإِنْجَاءِ، وَإِنَّمَا كُتِبَتْ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ النُّونَ الثَّانِيَةَ كَانَتْ سَاكِنَةً وَالسَّاكِنُ غَيْرُ ظَاهِرٍ عَلَى اللِّسَانِ فَحُذِفَتْ كَمَا فَعَلُوا فِي إِلَّا حَذَفُوا النُّونَ مِنْ إِنْ لِخَفَائِهَا، وَاخْتَلَفُوا في أن رسالة يونس بن متّى مَتَى كَانْتْ؟ فَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ اللَّهُ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الله عزّ وجلّ ذكر فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ، فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهُ: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: 147] ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَبْلُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
(140) [الصَّافَّاتِ: 139- 140] .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ، أي دَعَا رَبَّهُ، رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً، وَحِيدًا لَا وَلَدَ لِي وَارْزُقْنِي وَارِثًا، وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ، أثنى عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مَنْ بَقِيَ حَيًّا.
فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى، وَلَدًا وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ، أَيْ جَعَلْنَاهَا وَلُودًا بَعْدَ مَا كَانَتْ عَقِيمًا، قَالَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَتْ سَيِّئَةَ الخلق فأصلحها الله لَهُ بِأَنْ رَزْقَهَا حُسْنَ الْخُلُقِ.
إِنَّهُمْ، يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ سَمَّاهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً، طَمَعًا، وَرَهَباً، خوفا، رغبا في [2] رَحْمَةِ اللَّهِ، وَرَهبًا مِنْ عَذَابِ الله [عز وجل] [3] ، وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ، أَيْ مُتَوَاضِعِينَ، قَالَ قَتَادَةُ: ذُلِّلَا لِأَمْرِ اللَّهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْخُشُوعُ هُوَ الْخَوْفُ اللَّازِمُ فِي الْقَلْبِ.
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها، حفظته [4] مِنَ الْحَرَامِ وَأَرَادَ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «من» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «حفظت» .(3/315)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
، أي أمرنا جبريل حَتَّى نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، وَأَحْدَثْنَا بِذَلِكَ النَّفْخَ الْمَسِيحَ فِي بَطْنِهَا، وَأَضَافَ الرُّوحَ إِلَيْهِ تَشْرِيفًا لِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ، أَيْ دَلَالَةٍ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِنَا عَلَى خَلْقِ وَلَدٍ مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَلَمْ يَقُلْ آيَتَيْنِ وَهُمَا آيَتَانِ [1] لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ، وَجَعَلْنَا شَأْنَهُمَا وَأَمْرَهُمَا آيَةً وَلِأَنَّ الْآيَةَ كَانَتْ فِيهِمَا وَاحِدَةً، وَهِيَ أَنَّهَا أَتَتْ بِهِ مِنْ غير فحل.
قوله: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ، أَيْ مِلَّتُكُمْ وَدِينُكُمْ. أُمَّةً واحِدَةً، أَيْ دِينًا وَاحِدًا وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَأُبْطِلُ مَا سِوَى الْإِسْلَامِ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَأَصْلُ الْأُمَّةِ الْجَمَاعَةُ الَّتِي هِيَ عَلَى مَقْصِدٍ وَاحِدٍ فَجُعِلَتِ الشَّرِيعَةُ أُمَّةً وَاحِدَةً لِاجْتِمَاعِ أَهْلِهَا عَلَى مَقْصِدٍ وَاحِدٍ وَنَصَبَ أُمَّةً عَلَى الْقَطْعِ. وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 93 الى 97]
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ، أَيِ اخْتَلَفُوا فِي الدِّينِ فَصَارُوا فِرَقًا وَأَحْزَابًا، قَالَ الْكَلْبِيُّ: فَرَّقُوا دِينَهُمْ بَيْنَهُمْ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَبَرَّأُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالتَّقَطُّعُ هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّقْطِيعِ، كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ، فَنَجْزِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ.
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ، [أي] [2] لا يجحد ولا يبطل عمله [3] بَلْ يُشْكَرُ وَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ، لِعَمَلِهِ حَافِظُونَ، وَقِيلَ: مَعْنَى الشُّكْرِ مِنَ اللَّهِ الْمُجَازَاةُ، ومعنى الكفران ترك المجازاة.
وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ [أَيْ أَهْلِ قَرْيَةٍ] [4] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ: «وَحِرْمٌ» بِكَسْرِ الْحَاءِ بِلَا ألف، وقرأ الباقون بالألف (وحرام) وهما لغتان مثل حله وَحَلَالٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَى الْآيَةِ وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَيْ أَهْلِ قَرْيَةٍ، أَهْلَكْناها، أَنْ يَرْجِعُوا بَعْدَ الْهَلَاكِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ لَا صِلَةً، وَقَالَ آخَرُونَ:
الْحَرَامُ بِمَعْنَى الْوَاجِبِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ لا ثابتة معناه واجب عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهُمْ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ، إِلَى الدُّنْيَا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ وَحَرَامٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهُمْ أَيْ حَكَمْنَا بِهَلَاكِهِمْ أن يتقبل أَعْمَالُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَيْ لَا يَتُوبُونَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ أَيْ يُتَقَبَّلُ عَمَلُهُ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَةَ عَقِيبَهُ وَبَيَّنَ أَنَّ الْكَافِرَ لَا يُتَقَبَّلُ عَمَلُهُ.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ: «فُتِّحَتْ» بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، يُرِيدُ فُتِحَ السدّ عن يأجوج [ومأجوج] [5] ،
__________
(1) في المخطوط «اثنان» . [.....]
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيد في المطبوع «سعيه» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.(3/316)
وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ، أَيْ نَشَزٍ وَتَلٍّ، وَالْحَدَبُ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ، يَنْسِلُونَ، يُسْرِعُونَ النُّزُولَ مَنَ الْآكَامِ والتلان كَنَسَلَانِ الذِّئْبِ، وَهُوَ سُرْعَةُ مَشْيِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْكِنَايَةِ، فَقَالَ قوم: عنى بها يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ بِدَلِيلِ مَا:
143»
رُوِّينَا عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ [وَهُمْ] [1] مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ» .
وَقَالَ قَوْمٌ: أَرَادَ جميع الخلائق [2] يَعْنِي أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ مُجَاهِدٍ وَهَمْ مِنْ كُلِّ جَدَثٍ بِالْجِيمِ وَالثَّاءِ كَمَا قَالَ: فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ [يس: 51] .
«1440» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَارِسِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ أَنَا مُسْلِمُ بن الحجاج أَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حرب أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ فُرَاتٍ الْقَزَّازِ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ الْغِفَارِيِّ، قَالَ اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الساعة، فَقَالَ: مَا تَذْكُرُونَ؟ قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ. قَالَ: «إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ، فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَثَلَاثَةَ خسوف: خسف بالمشرق [3] وخسف بالمغرب وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ تَطْرُدُ الناس إلى محشرهم» .
قوله تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ، يعني [يوم] [4] الْقِيَامَةَ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ: الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ وَاقْتَرَبَ مُقْحَمَةٌ فَمَعْنَاهُ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ [الصَّافَّاتِ: 103] أَيْ نَادَيْنَاهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا اقْتَنَى فَلْوًا بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَمْ يَرْكَبْهُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجُوزُ طَرْحُ الْوَاوِ، وَجَعَلُوا جَوَابَ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ فِي قَوْلِهِ يَا وَيْلَنَا، فَيَكُونُ مَجَازُ الْآيَةِ: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا.
قول: فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَفِي [5] قَوْلِهِ: (هِيَ) ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّهَا كِنَايَةٌ عَنِ
__________
1439- تقدم في تفسير سورة الكهف عند آية 98.
1440- إسناده صحيح، رجاله رجال البخاري ومسلم سوى صحابيه، فقد تفرد عنه مسلم.
- فرات هو ابن أبي عبد الرحمن القزاز، أبو الطفيل هو عامر بن واثلة.
- وهو في «شرح السنة» 4145 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح مسلم» 2901 ح 39 عن زهير بن حرب بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 4901 وأبو داود 4311 والترمذي 2183 والنسائي في «الكبرى» 11380 و11482 وابن ماجه 4041 والطيالسي 1067 وأحمد 4/ 6 و7 والحميدي 827 وابن أبي شيبة 15/ 163 وابن حبان 6791 والطبراني 3029- 3033 من طرق عن فرات القزاز به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «الخلق» .
(3) في المطبوع تقدم وتأخير «بالمغرب- بالمشرق» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «وهي» .(3/317)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
الْأَبْصَارِ. ثُمَّ أَظْهَرَ الْأَبْصَارَ بَيَانًا مَعْنَاهُ فَإِذَا الْأَبْصَارُ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا. وَالثَّانِي أَنَّ هِيَ تَكُونُ عِمَادًا [1] كَقَوْلِهِ: فَإِنَّها لَا تَعْمَى الْأَبْصارُ [الحَجِّ: 46] ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ تَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: هِيَ، عَلَى مَعْنَى فَإِذَا هِيَ بَارِزَةٌ يَعْنِي مِنْ قُرْبِهَا كَأَنَّهَا حَاضِرَةٌ، ثُمَّ ابْتَدَأَ: شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا، عَلَى تَقْدِيمِ الْخَبَرِ على الابتداء، مجازه أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا شَاخِصَةٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: شَخَصَتْ أَبْصَارُ الْكُفَّارِ فَلَا تَكَادُ تَطْرُفُ مِنْ شِدَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهَوْلِهِ، يَقُولُونَ: يَا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا، الْيَوْمِ، بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ، بِوَضْعِنَا الْعِبَادَةَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 100]
إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)
إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، يَعْنِي الْأَصْنَامَ، حَصَبُ جَهَنَّمَ، يعني وَقُودُهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: حَطَبُهَا، وَالْحَصَبُ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ الْحَطَبُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْحَطَبُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي يَرْمُونَ بِهِمْ فِي النَّارِ كَمَا يُرْمَى بِالْحَصْبَاءِ [2] وَأَصْلُ الْحَصَبِ الرَّمْيُ [3] ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً [الْقَمَرِ: 34] أَيْ رِيحًا ترميهم بالحجارة، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: (حَطَبُ جَهَنَّمَ) ، أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ، أَيْ فِيهَا دَاخِلُونَ.
لَوْ كانَ هؤُلاءِ، يَعْنِي الْأَصْنَامَ، آلِهَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، مَا وَرَدُوها، أَيْ مَا دَخَلَ عَابِدُوهَا النَّارَ، وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ، يعني العابدين [4] وَالْمَعْبُودِينَ.
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لَا يَسْمَعُونَ (100) ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا بَقِيَ فِي النَّارِ مَنْ يَخْلُدُ فِيهَا جُعِلُوا فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ، ثُمَّ جُعِلَتْ تِلْكَ التَّوَابِيتُ في توابيت أخر، ثُمَّ تِلْكَ التَّوَابِيتُ فِي تَوَابِيتَ أُخَرَ، عَلَيْهَا مَسَامِيرُ مِنْ نَارٍ، فَلَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا وَلَا يَرَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ فِي النَّارِ أَحَدًا يُعَذَّبُ غَيْرَهُ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فقال:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 101 الى 107]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: (إنّ) هاهنا بمعنى «إلّا» معناه: إِلَّا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى، يَعْنِي السَّعَادَةَ وَالْعِدَّةَ الْجَمِيلَةَ بِالْجَنَّةِ، أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ، قِيلَ: الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: عَنِيَ بِذَلِكَ كُلَّ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهُوَ لِلَّهِ طَائِعٌ وَلِعِبَادَةِ من يعبده كاره.
__________
(1) في المطبوع «عمدا» .
(2) في المطبوع «بالحصب» .
(3) في المطبوع «المرمي» . [.....]
(4) في المطبوع «العابد» .(3/318)
«1441» وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخْلَ الْمَسْجِدَ وَصَنَادِيدَ قُرَيْشٍ فِي الْحَطِيمِ وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا فَعَرَضَ لَهُ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، فَكَلَّمَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَفْحَمَهُ ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاءِ: 98] ، الآيات الثلاث [1] ثُمَّ قَامَ فَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزِّبْعَرَى السَّهْمِيُّ فَأَخْبَرَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بِمَا قَالَ لَهُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَخَصَمْتُهُ، فَدَعَوْا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ الزِّبْعَرَى: أأنت قَلْتَ: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَلَيْسَتِ الْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا وَالنَّصَارَى تَعْبُدُ الْمَسِيحَ، وَبَنُو مليح تعبد الْمَلَائِكَةَ؟
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ هُمْ يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى، يَعْنِي عُزَيْرًا وَالْمَسِيحَ وَالْمَلَائِكَةَ، أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ، وَأَنْزَلَ فِي ابْنِ الزِّبْعَرَى: مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزُّخْرُفِ: 58] .
وَزَعَمَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ الْأَصْنَامُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَوْ أَرَادَ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّاسَ لَقَالَ وَمَنْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها، يَعْنِي صَوْتَهَا وَحَرَكَةَ تَلَهُّبِهَا [2] إِذَا نَزَلُوا مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَالْحِسُّ وَالْحَسِيسُ الصَّوْتُ الْخَفِيُّ، وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ، مُقِيمُونَ كَمَا قَالَ: وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزَّخْرُفِ: 71] .
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النَّمُلِ: 87] . قَالَ الْحَسَنُ: حِينَ يُؤْمَرُ بِالْعَبْدِ إِلَى النَّارِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حِينَ يُذْبَحُ الْمَوْتُ وَيُنَادَى [يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فلا موت، و] [3] يا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ أَنْ تُطْبِقَ عَلَيْهِمْ جَهَنَّمُ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْهَا مَنْ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ. وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ، أَيْ تَسْتَقْبِلُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يُهَنِّئُونَهُمْ، وَيَقُولُونَ:
هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ، قَرَأَ أَبُو جعفر: تطوى السماء بالتاء وضمها وفتح الواو، «والسماء» ، رَفْعٌ عَلَى الْمَجْهُولِ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بالنون وفتحها وكسر الواو، والسماء نَصْبٌ، كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ لِلْكُتُبِ عَلَى الْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ لِلْكِتَابِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَاخْتَلَفُوا فِي السِّجِلِّ، فَقَالَ السُّدِّيُّ: السِّجِلُّ مَلَكٌ يَكْتُبُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، وَاللَّامُ زَائِدَةٌ، أي:
كطي السجل الكتب كَقَوْلِهِ: رَدِفَ لَكُمْ [النَمْلِ: 72] ، اللَّامُ فِيهِ زَائِدَةٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ومجاهد
__________
1441- قال الحافظ في «تخريج الكاشف» 3/ 126: هكذا ذكره الثعلبي ثم البغوي بغير إسناد.
- وأخرجه الطبري 24836 عن ابن إسحاق بنحوه، وهذا معضل فالخبر ضعيف لا حجة فيه.
- وورد بنحوه من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني 12/ 153 والواحدي في «أسباب النزول» 616 وفي إسناده عاصم بن بهدلة، وهو صدوق يخطىء.
(1) في المطبوع «الثلاثة» .
(2) في المخطوط «لهبها» .
(3) زيد في المطبوع.(3/319)
وَالْأَكْثَرُونَ السِّجِلُّ الصَّحِيفَةُ لِلْكُتُبِ أَيْ لأجل ما كتب معناه [هو] [1] كَطَيِّ الصَّحِيفَةِ عَلَى مَكْتُوبِهَا، وَالسِّجِلُّ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُسَاجَلَةِ وَهِيَ المكاتبة، والطي الدَّرْجُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّشْرِ، كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، أَيْ كَمَا بَدَأْنَاهُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا كَذَلِكَ نُعِيدُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام: 94] .
«1442» وَرُوِّينَا [2] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا» ، ثُمَّ قَرَأَ:
كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ، يَعْنِي الْإِعَادَةَ والبعث.
وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: الزَّبُورُ جَمِيعُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَالذِّكْرُ أُمُّ الْكِتَابِ الَّذِي عِنْدَهُ، وَالْمَعْنَى مِنْ بَعْدِ مَا كَتَبَ ذِكْرَهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: الزَّبُورُ التَّوْرَاةُ وَالذِّكْرُ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنْ بَعْدِ التَّوْرَاةِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: الزَّبُورُ كِتَابُ دَاوُدَ، وَالذِّكْرُ التَّوْرَاةُ. وَقِيلَ: الزَّبُورُ زَبُورُ دَاوُدَ وَالذِّكْرُ الْقُرْآنُ، وَبَعْدُ بِمَعْنَى قَبْلَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الْكَهْفِ: 79] : أَيْ أَمَامَهُمْ، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) [النَّازِعَاتِ: 30] أي: قَبْلَهُ، أَنَّ الْأَرْضَ، يَعْنِي أَرْضَ الْجَنَّةِ، يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ [الزُّمَرِ: 74] وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ أَنَّ أَرَاضِي الْكُفَّارِ يَفْتَحُهَا الْمُسْلِمُونَ وَهَذَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ بِإِظْهَارِ الدِّينِ وَإِعْزَازِ الْمُسْلِمِينَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْأَرْضِ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ.
إِنَّ فِي هَذَا، أَيْ فِي هَذَا الْقُرْآنِ، لَبَلاغاً، وُصُولًا إِلَى الْبُغْيَةِ أَيْ مَنِ اتَّبَعَ الْقُرْآنَ، وَعَمِلَ بِهِ وَصَلَ إِلَى مَا يَرْجُوهُ مِنَ الثَّوَابِ. وَقِيلَ: بَلَاغًا أَيْ كِفَايَةً. يُقَالُ فِي هَذَا الشيء بلاغ وبلغة أَيْ كِفَايَةٌ، وَالْقُرْآنُ زَادُ الْجَنَّةِ كَبَلَاغِ الْمُسَافِرِ، لِقَوْمٍ عابِدِينَ، أَيِ مؤمنين الذين يعبدون اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ] [3] .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَالِمِينَ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وصوم [4] شهر رَمَضَانَ.
وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً فَهُوَ رَحْمَةٌ لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ مَنْ آمَنَ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ فَمَنْ آمَنَ فَهُوَ رَحْمَةٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ فَهُوَ رَحْمَةٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ وَرَفْعِ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ وَالِاسْتِئْصَالِ عَنْهُمْ.
«1443» وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا أنا رحمة مهداة» .
__________
1442- تقدم في تفسير سورة الكهف عند آية: 48.
1443- أخرجه البزار 2369 والطبراني في «الصغير» 264 والبيهقي في «الدلائل» 1/ 157- 158 من حديث أبي هريرة.
وإسناده حسن، رجاله ثقات رجال الشيخين لكن في مالك بن سعير مقال.
- وأخرجه ابن سعد في «الطبقات» 1/ 151 عن معيد بن خالد.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «وروى» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيد «صوم» في المطبوع.(3/320)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 108 الى 112]
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ (112)
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) ، أَيْ أَسْلِمُوا.
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ، أَيْ أَعْلَمْتُكُمْ بِالْحَرْبِ وَأَنْ لَا صُلْحَ بَيْنَنَا، عَلى سَواءٍ، يعني إنذارا بينا نستوي في علمه لا أستبدّ بِهِ [1] دُونَكُمْ لِتَتَأَهَّبُوا لِمَا يُرَادُ بكم، يعني آذَنْتُكُمْ عَلَى وَجْهٍ نَسْتَوِي نَحْنُ وَأَنْتُمْ [2] فِي الْعِلْمِ بِهِ، وَقِيلَ لتستووا [3] في الإيمان به، وَإِنْ أَدْرِي، يعني وَمَا أَعْلَمُ. أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ، يَعْنِي الْقِيَامَةَ.
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) .
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ، يعني لَعَلَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ عَنْكُمْ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، فِتْنَةٌ، اخْتِبَارٌ، «لَكُمْ» ، لِيَرَى كَيْفَ صَنِيعُكُمْ وَهُوَ أعلم، وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ، يعني تَتَمَتَّعُونَ إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِكُمْ.
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: (قَالَ رَبِّ احْكُمْ) ، وقرأ الآخرون: (قل رب احكم) يعني أفضل بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ كَذَّبَنِي بِالْحَقِّ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ احْكُمْ بِالْحَقِّ [وَاللَّهُ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ] [4] ؟
قِيلَ: الْحَقُّ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْعَذَابِ كَأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ الْعَذَابَ لِقَوْمِهِ فَعُذِّبُوا يَوْمَ بَدْرٍ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف: 89] .
قال أَهْلُ الْمَعَانِي: مَعْنَاهُ رَبِّ احْكُمْ بِحُكْمِكَ الْحَقِّ فَحُذِفَ الْحُكْمُ وَأُقِيمَ الْحَقُّ مَقَامَهُ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَحْكُمْ بالحق طلب منه أَوْ لَمْ يَطْلُبْ، وَمَعْنَى الطَّلَبِ ظُهُورُ الرَّغْبَةِ مِنَ الطَّالِبِ فِي حكمه من الْحَقِّ، وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ، مِنَ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ.
-
__________
- وأيضا أخرجه ابن سعد 1/ 151 من طريق الأعمش عن أبي صالح مرسلا.
- وأخرجه مسلم 2599 والبخاري في «الأدب المفرد» 321 وأبو يعلى 6174 من وجه آخر عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ «إني لم أبعث لعّانا، إنما بعثت رحمة» .
(1) في المطبوع «لا ستبدأنا به» وفي- ط «لا استيذانا به» والمثبت عن المخطوط- ب-.
(2) زيد في المخطوط «فيه» . [.....]
(3) في المخطوط «لنستوي» .
(4) زيادة عن المخطوط.(3/321)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
تفسير سُورَةُ الْحَجِّ
مَكِّيَّةٌ [غَيْرَ آيَاتٍ من قوله] [1] هذانِ خَصْمانِ [2] [إِلَى قَوْلِهِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ] [3]
[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ، أَيْ: احْذَرُوا عِقَابَهُ بِطَاعَتِهِ، إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، وَالزَّلْزَلَةُ وَالزِّلْزَالُ شِدَّةُ الْحَرَكَةِ عَلَى الْحَالَةِ الْهَائِلَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ فَقَالَ عَلْقَمَةُ وَالشَّعْبِيُّ: هِيَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: قِيَامُ السَّاعَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: هَذِهِ الزَّلْزَلَةُ تَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: زَلْزَلَةُ السَّاعَةِ قِيَامُهَا فَتَكُونُ مَعَهَا.
يَوْمَ تَرَوْنَها
، يَعْنِي السَّاعَةَ، وَقِيلَ: الزَّلْزَلَةُ، تَذْهَلُ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تُشْغَلُ، وَقِيلَ: تَنْسَى، يقال: ذهلت عن كذا إذا تركته واشتغلت بغيره عنه. كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
، أَيْ: كُلُّ امْرَأَةٍ مَعَهَا وَلَدٌ تُرْضِعُهُ، يُقَالُ: امْرَأَةٌ مُرْضِعٌ بِلَا هَاءٍ إِذَا أُرِيدَ بِهِ الصِّفَةُ مِثْلَ حَائِضٍ وَحَامِلٍ، فَإِذَا أَرَادُوا الْفِعْلَ أَدْخَلُوا الْهَاءَ. وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
، أَيْ: تُسْقِطُ وَلَدَهَا مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، قَالَ الْحَسَنُ:
تَذْهَلُ الْمُرْضِعَةُ عَنْ وَلَدِهَا بِغَيْرِ فِطَامٍ وَتَضَعُ الْحَامِلُ مَا في بطنها لغير تَمَامٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الزَّلْزَلَةَ تَكُونُ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ بَعْدَ الْبَعْثِ لَا يَكُونُ حَمْلٌ. وَمَنْ قَالَ: تَكُونُ فِي الْقِيَامَةِ قَالَ هَذَا عَلَى وَجْهِ تَعْظِيمِ الْأَمْرِ لَا عَلَى حَقِيقَتِهِ كقولهم أصابنا أمر يشيب منه الوليد يريد به شِدَّتَهُ. وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى
، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (سَكْرَى وَمَا هُمْ بِسَكْرَى) بِلَا أَلِفٍ وَهُمَا لُغَتَانِ فِي جَمْعِ السَّكْرَانِ مِثْلُ كَسْلَى وَكُسَالَى، قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى مِنَ الْخَوْفِ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى مِنَ الشَّرَابِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَتَرَى النَّاسَ كَأَنَّهُمْ سُكَارَى، وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.
__________
(1) في المطبوع وحده «إلّا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ الآيتين أو إلا» .
(2) في المطبوع «الست آيات فمدنيات» .
(3) زيد في المطبوع وحده «وهي أربع أو خمس أو ست أو سبع أو ثمان وسبعون آية» ؟! وهذا من صنع النساخ بلا ريب وإنما هي (78) آية.(3/322)
«1444» أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ [مُحَمَّدِ بْنِ] [1] مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَفْصٍ التَّاجِرُ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ بُكَيْرٍ الْكُوفِيُّ أَنَا وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا آدَمُ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ [2] ، قَالَ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ [كُلُّهُ] [3] فِي يَدَيْكَ، يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلِفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ، قَالَ: فَحِينَئِذٍ يَشِيبُ الْمَوْلُودُ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ» ، قَالَ فَيَقُولُونَ: وَأَيُّنَا ذلك الْوَاحِدُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمِنْكُمْ واحد» [قال] [4] فَقَالَ النَّاسُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَاللَّهِ [إِنِّي] [5] لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ قَالَ فَكَبَّرَ النَّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ فِي النَّاسِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ أَوْ [6] كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ» .
«1445» وَرُوِيَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا في غزوة [تبوك وقيل في] [7] بَنِي الْمُصْطَلَقِ لَيْلًا فَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَثُّوا الْمَطِيَّ حَتَّى كَانُوا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَهَا عَلَيْهِمْ فَلَمْ يُرَ أَكْثَرَ بَاكِيًا مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فَلِمَا أَصْبَحُوا لَمْ يَحُطُّوا السروج عن الدواب
__________
1444- صحيح. إبراهيم الكوفي قد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- وكيع هو ابن الجراح، الأعمش هو سليمان بن مهران، أبو صالح اسمه ذكوان.
- وهو في «شرح السنة» 4220 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 222 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 471 من طريقين عن وكيع بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 3348 و4741 و6531 وأحمد 3/ 32 و33 والطبري 2497 و24908 من طرق عن الأعمش به.
- وفي الباب من حديث أنس أخرجه أبو يعلى 3122 والحاكم 1/ 29 و4/ 566- 567 وابن حبان 7354 وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
وذكره الهيثمي في «المجمع» 10/ 394 وقال: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح، غير محمد بن مهدي، وهو ثقة.
1445- لم أقف على إسناده.
وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 3/ 141: هكذا ذكر الثعلبي والبغوي. قالا: روي عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَغَيْرِهِمَا أَنَّ هَاتَيْنِ الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق.... اهـ.
فالخبر واه جدا بهذا اللفظ.
- وحديث عمران بن حصين جاء مسندا لكن بلفظ آخر عند الترمذي 3168 و3169 وأحمد 4/ 432 والحاكم 4/ 567 والطبري 24903 وليس فيه ذكر عكاشة بن محصن.
وخبر عكاشة في الصحيحين بغير هذا السياق.
- وحديث أبي سعيد الخدري هو المتقدم قبل هذا الحديث.
- وانظر «تفسير القرطبي» 4367 و4369 و «تفسير الشوكاني» 1659 و1660 و «الكشاف» 703 بتخريجي.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيد في المطبوع «من ولدك» .
(3) زيد في المطبوع.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في «شرح السنة» «و» .
(7) زيادة عن المخطوط. [.....](3/323)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
وَلَمْ يَضْرِبُوا الْخِيَامَ وَلَمْ يَطْبُخُوا قدورا، وَالنَّاسُ مَا بَيْنَ بَاكٍ أَوْ جَالِسٍ حَزِينٍ مُتَفَكِّرٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أتدرون أي يوم ذاك؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذاك يوم يقول الله لِآدَمَ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ من ولدك، قال فَيَقُولُ آدَمُ مِنْ كُلٍّ كَمْ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: مِنْ كُلِّ أَلِفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إلى النار وواحد إلى الْجَنَّةِ، قَالَ: فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبَكَوْا وَقَالُوا: فَمَنْ يَنْجُو إِذًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَبْشِرُوا وَسَدِّدُوا وَقَارَبُوا فَإِنَّ مَعَكُمْ خَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا فِي قَوْمٍ إِلَّا كَثَّرَتَاهُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرُوا وَحَمِدُوا اللَّهَ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَيْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ صَفًّا ثَمَانُونَ مِنْهَا أُمَّتِي، وَمَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْكُفَّارِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جَنْبِ الْبَعِيرِ أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ، بَلْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَبْيَضِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ، ثُمَّ قَالَ: وَيَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَقَالَ عُمَرُ:
سَبْعُونَ أَلْفًا؟ قَالَ: نَعَمْ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ لِي أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنت منهم، [أو قال: اللهم اجعله مِنْهُمْ] [1] ، فَقَامَ رَجُلٌ [مِنَ الْأَنْصَارِ] [2] [فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ] [3] فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: سبقك بها عكاشة» .
[سورة الحج (22) : الآيات 3 الى 5]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ كَثِيرَ الْجَدَلِ وَكَانَ يَقُولُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَالْقُرْآنُ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَكَانَ يُنْكِرُ الْبَعْثَ وَإِحْيَاءَ مَنْ صَارَ تُرَابًا. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَتَّبِعُ أَيْ: ويتبع فِي جِدَالِهِ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ، وَالْمَرِيدُ المتمرد الغالي العاتي والمستمر في الشر.
كُتِبَ عَلَيْهِ، أي: قُضِيَ عَلَى الشَّيْطَانِ، أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ اتَّبَعَهُ فَأَنَّهُ، يَعْنِي الشَّيْطَانَ:
يُضِلُّهُ، أَيْ: يَضِلُّ مَنْ تَوَلَّاهُ، وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ، ثُمَّ ألزم الحجة مُنْكِرِي الْبَعْثِ فَقَالَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ، يعني: فِي شَكٍّ، مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ، يَعْنِي: أَبَاكُمْ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَصْلُ النَّسْلِ، مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ يَعْنِي: ذُرِّيَّتَهُ وَالنُّطْفَةُ هِيَ الْمَنِيُّ وَأَصْلُهَا الْمَاءُ الْقَلِيلُ وَجَمْعُهَا نِطَافٌ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، وَهِيَ الدَّمُ الْغَلِيظُ الْمُتَجَمِّدُ الطري، وَجَمْعُهَا عِلَقٌ وَذَلِكَ أَنَّ النُّطْفَةَ تَصِيرُ دَمًا غَلِيظًا ثُمَّ تَصِيرُ لَحْمًا، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، وَهِيَ لَحْمَةٌ قَلِيلَةٌ قَدْرُ مَا يُمْضَغُ، مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مُخَلَّقَةٍ أَيْ تَامَّةِ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ غَيْرِ تَامَّةٍ أَيْ نَاقِصَةِ الْخَلْقِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مُصَوَّرَةٍ وَغَيْرِ مُصَوَّرَةٍ يَعْنِي السَّقْطَ. وَقِيلَ: الْمُخَلَّقَةُ الْوَلَدُ الَّذِي تَأْتِي بِهِ الْمَرْأَةُ لِوَقْتِهِ، وَغَيْرُ الْمُخَلَّقَةِ السَّقْطُ.
__________
(1) زيد في المطبوع.
(2) في المطبوع «منهم» .
(3) سقط من المطبوع.(3/324)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
وروي عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّ النُّطْفَةَ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ وَقَالَ: أَيْ رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ قَالَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ قَذَفَهَا الرَّحِمُ دَمًا وَلَمْ تَكُنْ نَسَمَةً، وَإِنْ قَالَ مُخَلَّقَةٌ قَالَ الْمَلَكُ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِيٌ أم سعيد؟ ما العمل ما الأجل مَا الرِّزْقُ وَبِأَيِّ أَرْضٍ يَمُوتُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ فَإِنَّكَ تَجِدُ فِيهَا كُلَّ ذَلِكَ فَيَذْهَبُ فَيَجِدُهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَيَنْسَخُهَا فَلَا يَزَالُ مَعَهُ حتى يأتي على آخر الصفة [1] . لِنُبَيِّنَ لَكُمْ، كَمَالَ [2] قُدْرَتِنَا وَحِكْمَتَنَا فِي تَصْرِيفِ أَطْوَارِ خَلْقِكُمْ وَلِتَسْتَدِلُّوا بِقُدْرَتِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى الْإِعَادَةِ. وَقِيلَ: لِنُبَيِّنَ لكم ما تأتون وما تذرون وَمَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي الْعِبَادَةِ، وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ، فَلَا تَمُجُّهُ وَلَا تُسْقِطُهُ، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، إلى وَقْتِ خُرُوجِهَا مِنَ الرَّحِمِ تَامَّةَ الْخَلْقِ وَالْمُدَّةِ. ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ طِفْلًا أَيْ: صِغَارًا وَلَمْ يَقُلْ أَطْفَالًا لِأَنَّ الْعَرَبَ تَذْكُرُ الْجَمْعَ بِاسْمِ الْوَاحِدِ. وَقِيلَ: تَشْبِيهًا بِالْمَصْدَرِ مِثْلَ عَدْلٍ وَزُورٍ. ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ يَعْنِي: الْكَمَالَ وَالْقُوَّةَ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى، مِنْ قَبْلِ بُلُوغِ الْكِبَرِ، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ، أَيِ: الْهَرَمِ وَالْخَرَفِ، لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً، أَيْ: يَبْلُغَ مِنَ السِّنِّ مَا يَتَغَيَّرُ عَقْلُهُ فَلَا يَعْقِلُ شَيْئًا، ثُمَّ ذَكَرَ دَلِيلًا آخَرَ عَلَى الْبَعْثِ فَقَالَ: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً، أَيْ: يَابِسَةً لَا نَبَاتَ فِيهَا، فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ، الْمَطَرَ، اهْتَزَّتْ، تَحَرَّكَتْ بِالنَّبَاتِ وَذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ تَرْتَفِعُ بِالنَّبَاتِ فَذَلِكَ تَحَرُّكُهَا، وَرَبَتْ، أَيِ: ارتفعت وزادت، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: (وَرَبَأَتْ) بِالْهَمْزَةِ، وَكَذَلِكَ فِي حم السَّجْدَةِ أَيِ: ارتفعت وعلت، قال المبرد: أراد اهتزوا بإنباتها فَحَذَفَ الْمُضَافَ، وَالِاهْتِزَازُ فِي النَّبَاتِ أَظْهَرُ، يُقَالُ: اهْتَزَّ النَّبَاتُ أَيْ: طَالَ وَإِنَّمَا أُنِّثَ لِذِكْرِ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَعْنَاهُ: ربت واهتزت، وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، أَيْ: صِنْفٍ حَسَنٍ يُبْهَجُ بِهِ مَنْ رَآهُ أَيْ: يُسَرُّ، فَهَذَا دليل آخر على البعث.
[سورة الحج (22) : الآيات 6 الى 10]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، أَيْ: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الحق، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) .
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، يَعْنِي: النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ، وَلا هُدىً، بَيَانٍ وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ.
ثانِيَ عِطْفِهِ [أَيْ] [3] : مُتَبَخْتِرًا لِتَكَبُّرِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: لَاوِيَ عُنُقِهِ. قَالَ عَطِيَّةُ وَابْنُ زَيْدٍ:
مُعْرِضًا عَمَّا يُدْعَى إِلَيْهِ تَكَبُّرًا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: يُعْرِضُ عَنِ الْحَقِّ تَكَبُّرًا. وَالْعِطْفُ: الْجَانِبُ، وَعِطْفَا الرَّجُلِ: جَانِبَاهُ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَعْطِفُهُ الْإِنْسَانُ أَيْ يَلْوِيهِ وَيُمِيلُهُ عِنْدَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الشَّيْءِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً [لُقْمَانُ: 7] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
__________
(1) في المطبوع «صفته» .
(2) في المطبوع «كما» .
(3) زيادة عن المخطوط.(3/325)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ [المُنَافِقُونَ: 5] . لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، عَنْ دِينِ اللَّهِ، لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، عذاب وهوان هو الْقَتْلُ بِبَدْرٍ، فَقُتِلَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا.
وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ.
وَيُقَالُ لَهُ: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) ، فَيُعَذِّبُهُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ وَهُوَ جَلَّ ذِكْرُهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ تَصَرَّفَ في عبيده [1] فَحُكْمُهُ عَدْلٌ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ.
[سورة الحج (22) : الآيات 11 الى 13]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْأَعْرَابِ كَانُوا يَقْدَمُونَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرِينَ مِنْ بَادِيَتِهِمْ فَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَصَحَّ بِهَا جِسْمُهُ وَنُتِجَتْ فَرَسُهُ مُهْرًا حَسَنًا وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا [2] وَكَثُرَ مَالُهُ قَالَ هَذَا دِينٌ حَسَنٌ وَقَدْ أَصَبْتُ فِيهِ خَيْرًا وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَرَضٌ وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ جَارِيَةً وَأُجْهِضَتْ فرسه وَقَلَّ مَالُهُ قَالَ: مَا أَصَبْتُ مُنْذُ دَخَلْتُ فِي هَذَا الدِّينِ إِلَّا شَرًّا فَيَنْقَلِبُ عَنْ دِينِهِ، وَذَلِكَ الْفِتْنَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ، أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا عَلَى شَكٍّ وَأَصْلُهُ مِنْ حَرْفِ الشَّيْءِ وَهُوَ طَرَفُهُ نَحْوُ حرف الجبل والحائط الذي [القائم] [3] عَلَيْهِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، فَقِيلَ لِلشَّاكِّ فِي الدِّينِ: إِنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ لِأَنَّهُ عَلَى طَرَفٍ وَجَانِبٍ مِنَ الدِّينِ لَمْ يَدْخُلْ فيه على الثبات والتمكن كَالْقَائِمِ عَلَى حَرْفِ الْجَبَلِ مُضْطَرِبٌ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ يَعْرِضُ أَنْ يَقَعَ فِي أَحَدِ جَانِبَيِ الطَّرَفِ لِضَعْفِ قِيَامِهِ، وَلَوْ عَبَدُوا اللَّهَ فِي الشُّكْرِ عَلَى السَّرَّاءِ وَالصَّبْرِ عَلَى الضَّرَّاءِ لَمْ يَكُونُوا عَلَى حَرْفٍ، قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْمُنَافِقُ يَعْبُدُهُ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ. فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ، صِحَّةٌ فِي جِسْمِهِ وَسِعَةٌ فِي مَعِيشَتِهِ، اطْمَأَنَّ بِهِ، أَيْ: رضي [4] وَسَكَنَ إِلَيْهِ، وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ، بَلَاءٌ فِي جَسَدِهِ وَضِيقٌ فِي مَعِيشَتِهِ، انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ، ارْتَدَّ وَرَجَعَ عَلَى عَقِبِهِ إِلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ، خَسِرَ الدُّنْيا، يَعْنِي هَذَا الشَّاكُّ خَسِرَ الدُّنْيَا بِفَوَاتِ مَا كَانَ يؤمله، وَالْآخِرَةَ، بِذَهَابِ الدِّينِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ. قَرَأَ يَعْقُوبُ «خَاسِرَ» بِالْأَلْفِ (وَالْآخِرَةِ) جَرٌّ. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ
[أي] [5] : الظاهر.
يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ، إِنْ عَصَاهُ وَلَمْ يَعْبُدْهُ، وَما لَا يَنْفَعُهُ، إِنْ أَطَاعَهُ وَعَبَدَهُ، ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ [يعني البعيد] [6] عن الحق والرشد.
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ مُشْكِلَاتِ الْقُرْآنِ وَفِيهَا أَسْئِلَةٌ أَوَّلُهَا [7] قَالُوا قَدْ قال الله في الآية السابقة يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ وَقَالَ هَاهُنَا: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فَكَيْفَ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا؟ قِيلَ: قَوْلُهُ في الآية الأولى يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ أَيْ: لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ عبادته، وهو قوله: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ أَيْ: ضَرُّ عِبَادَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: قد قال لمن ضره
__________
(1) في المطبوع «عبده» .
(2) في المطبوع «ذكرا» .
(3) في المطبوع «كالقائم» وكذا في- ط-.
(4) زيد في المطبوع «به» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيد في المطبوع «ثانيها» .(3/326)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ وَلَا نَفْعَ فِي عِبَادَةِ الصَّنَمِ أَصْلًا؟ قِيلَ: هَذَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لِمَا لَا يَكُونُ أَصْلًا بعيد، كقوله: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ [ق: 3] أَيْ: لَا رَجْعَ أَصْلًا فَلَمَّا كَانَ نَفْعُ الصَّنَمِ بَعِيدًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا نَفْعَ فِيهِ أَصْلًا قيل ضربه أقرب من نفعه لِأَنَّهُ كَائِنٌ، السُّؤَالُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ مَا وَجْهُ هَذِهِ اللَّامِ؟ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ صِلَةٌ مَجَازُهَا «يَدْعُو مَنْ ضُرُّهُ أَقْرَبُ» ، وهكذا قرأها ابن مسعود [أَيْ إِلَى الَّذِي ضَرُّهُ أَقْرَبُ مَنْ نَفْعِهِ] [1] . وَقِيلَ: يَدْعُو بِمَعْنَى يَقُولُ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ أَيْ يَقُولُ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ هُوَ إِلَهٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ يَدْعُو، فَحَذَفَ يَدْعُو الْأَخِيرَةَ اجْتِزَاءً بِالْأُولَى وَلَوْ قَلْتَ يَضْرِبُ لَمَنْ خَيْرُهُ أَكْثَرُ مِنْ شَرِّهِ يَضْرِبُ، ثم يحذف الأخيرة جَازَ. وَقِيلَ: عَلَى التَّوْكِيدِ [2] مَعْنَاهُ يَدْعُو وَاللَّهِ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ من نفعه. وقيل: يَدْعُوا مِنْ صِلَةُ قَوْلِهِ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَقُولُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فَيَكُونُ مِنْ فِي مَحَلِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ، لَبِئْسَ الْمَوْلى: أَيِ: النَّاصِرُ. وَقِيلَ: الْمَعْبُودُ. وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ، أَيِ: الصَّاحِبُ وَالْمُخَالِطُ يَعْنِي الوثن، والعرب تسمي الزوج عشير [3] لأجل المخالطة.
[سورة الحج (22) : الآيات 14 الى 17]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) .
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ، يَعْنِي نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ، أي:
بِحَبْلٍ إِلَى السَّماءِ أَرَادَ بِالسَّمَاءِ سَقْفَ الْبَيْتِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ أَيْ: لِيَشْدُدْ حَبْلًا فِي سَقْفِ بَيْتِهِ فَلْيَخْتَنِقْ بِهِ حَتَّى يَمُوتَ، ثُمَّ لْيَقْطَعْ الْحَبْلَ بَعْدَ الِاخْتِنَاقِ. وَقِيلَ: ثُمَّ لْيَقْطَعْ أَيْ لِيَمُدَّ الْحَبْلَ حَتَّى يَنْقَطِعَ فَيَمُوتُ مُخْتَنِقًا، فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ، صنعه وَحِيلَتُهُ، مَا يَغِيظُ (مَا) بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ أَيْ: هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ وَحِيلَتُهُ غَيْظَهُ مَعْنَاهُ فَلْيَخْتَنِقْ غَيْظًا حَتَّى يَمُوتَ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى سبيل الحتم أَنْ يَفْعَلَهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ وَالنَّظَرُ بَعْدَ الِاخْتِنَاقِ وَالْمَوْتِ، وَلَكِنَّهُ كَمَا يُقَالُ لِلْحَاسِدِ إِنْ لَمْ تَرْضَ هَذَا فَاخْتَنِقْ وَمُتْ غَيْظًا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُرَادُ [مِنَ السَّمَاءِ] [4] السَّمَاءُ الْمَعْرُوفَةُ وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَيَكِيدَ فِي أَمْرِهِ لِيَقْطَعَهُ عَنْهُ فَلْيَقْطَعْهُ مِنْ أَصْلِهِ فَإِنَّ أَصْلَهُ مِنَ السَّمَاءِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيَ الَّذِي يأتي من السماء فَلْيَنْظُرْ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى إِذْهَابِ غَيْظِهِ بِهَذَا الْفِعْلِ.
وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَسَدٍ وَغَطَفَانَ دَعَاهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ حلف فقالوا لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُسْلِمَ لِأَنَّا نَخَافُ أَنْ لَا يُنْصَرَ مُحَمَّدٌ وَلَا يَظْهَرَ أَمْرُهُ فَيَنْقَطِعُ الْحِلْفُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْيَهُودِ، فَلَا يَمِيرُونَنَا ولا يأووننا فنزلت هذه الآية [5] .
__________
(1) زيادة عن المخطوط. [.....]
(2) في المطبوع «التوحيد» .
(3) في المطبوع «العشير» .
(4) في المخطوط «منه» .
(5) لم أقف على إسناده، وسياق المصنف له بصيغة التمريض توهين له.(3/327)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: النَّصْرُ بِمَعْنَى الرِّزْقِ وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى (مَنْ) وَمَعْنَاهُ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ نزلت في من أساء الظن بالله وخاف ألا يرزقه، فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ أَيْ إِلَى سَمَاءِ الْبَيْتِ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ فِعْلُهُ ذَلِكَ مَا يَغِيظُ، وَهُوَ خِيفَةُ أَنْ لَا يُرْزَقَ وَقَدْ يَأْتِي النَّصْرُ بِمَعْنَى الرِّزْقِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَنْ يَنْصُرْنِي نَصَرَهُ اللَّهُ أَيْ مَنْ يُعْطِنِي أَعْطَاهُ اللَّهُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَرْضٌ مَنْصُورَةٌ أَيْ مَمْطُورَةٌ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ «ثُمَّ لِيَقْطَعْ» «ثُمَّ لِيَقْضُوا» بِكَسْرِ اللَّامِ، وَالْبَاقُونَ بِجَزْمِهَا لِأَنَّ الْكُلَّ لَامُ الْأَمْرِ، زَادَ ابن عامر (وليوفوا وليطوفوا) بِكَسْرِ اللَّامِ فِيهِمَا، وَمَنْ كَسَرَ فِي ثُمَّ لِيَقْطَعْ وَفِي ثُمَّ لِيَقْضُوا فَرَّقَ بِأَنَّ ثُمَّ مَفْصُولٌ مِنَ الْكَلَامِ وَالْوَاوُ كَأَنَّهَا مِنْ نَفْسِ الْكَلِمَةِ كَالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فلينظر.
وَكَذلِكَ أي ومثل ذَلِكَ يَعْنِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، أَنْزَلْناهُ، يَعْنِي: الْقُرْآنَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا، يَعْنِي: عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ، إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ، يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
[سورة الحج (22) : آية 18]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)
أَلَمْ تَرَ، أَلَمْ تَعْلَمْ، وَقِيلَ: أَلَمْ تَرَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ، قَالَ مُجَاهِدٌ: سُجُودُهَا تَحَوُّلُ ظِلَالِهَا. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: مَا فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ وَلَا شَمْسٌ وَلَا قَمَرٌ إِلَّا يَقَعُ سَاجِدًا حِينَ يَغِيبُ ثُمَّ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ، فَيَأْخُذَ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَطْلَعِهِ. وَقِيلَ: سُجُودُهَا بِمَعْنَى الطَّاعَةِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ جَمَادٍ إِلَّا وهو مطيع لله خاشع لله مُسَبِّحٌ لَهُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فُصِّلَتْ: 11] ، وَقَالَ فِي وَصْفِ الْحِجَارَةِ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الْبَقَرَةُ: 74] ، وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الْإِسْرَاءُ: 44] ، وَهَذَا مَذْهَبٌ حَسَنٌ مُوَافِقٌ [لِقَوْلِ أَهْلِ] [1] السُّنَّةِ. قَوْلُهُ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، أَيْ: مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا تُسَبِّحُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ. وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ، وَهُمُ الْكُفَّارُ لِكُفْرِهِمْ وَتَرْكِهِمُ السُّجُودَ وَهُمْ مَعَ كُفْرِهِمْ تَسْجُدُ ظِلَالُهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ، وَاوُ الِاسْتِئْنَافِ. وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ أَيْ: يُهِنْهُ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ أَيْ: مَنْ يُذِلُّهُ اللَّهُ فَلَا يُكْرِمُهُ أَحَدٌ، إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ، أَيْ: يُكْرِمُ وَيُهِينُ فَالسَّعَادَةُ والشقاوة بإرادته ومشيئته.
[سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 24]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)
__________
(1) في المطبوع «لأهل» .(3/328)
قوله تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ أَيْ: جَادَلُوا فِي دِينِهِ وَأَمْرِهِ وَالْخَصْمُ اسْمٌ شَبِيهٌ بِالْمَصْدَرِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: اخْتَصَمُوا بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَقَوْلِهِ: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) [ص: 21] ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَيْنَ الْخَصْمَيْنِ.
«1446» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا محمد بن إسماعيل أنا يعقوب بن إبراهيم أنا هشيم أنا أَبُو هَاشِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ يُقْسِمُ قَسَمًا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَرَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ وَعُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدَ بْنَ عتبة.
«1447» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أنا حجاج بن منهال ثنا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أبي قال أنا أَبُو مِجْلَزٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ قَيْسٌ: وَفِيهِمْ نَزَلَتْ: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ وَعُبَيْدَةُ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ.
«1448» قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ خَرَجَ- يَعْنِي يَوْمَ بَدْرٍ- عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَابْنِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَدَعَا إِلَى الْمُبَارَزَةِ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فِتْيَةٌ من الأنصار ثلاثة عوف وَمُعَوِّذٌ ابْنَا الْحَارِثِ وَأُمُّهُمَا عَفْرَاءُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَالُوا: من أنتم؟ فقالوا: رَهْطٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: حِينَ انْتَسَبُوا: أَكْفَاءٌ كِرَامٌ، ثُمَّ نَادَى مُنَادِيهِمْ: يَا مُحَمَّدُ أَخْرِجْ إِلَيْنَا أَكْفَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ وَيَا حَمْزَةُ بْنَ عَبْدِ الْمَطْلَبِ وَيَا عَلِيُّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا دَنَوْا قَالُوا مَنْ أَنْتُمْ؟ فذكروا فقالوا: نَعمْ أَكْفَاءٌ كِرَامٌ فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ وَكَانَ أَسَنَّ الْقَوْمِ عُتْبَةَ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، فَأَمَّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ أَنْ قَتْلَ شَيْبَةَ، وَعَلِيٌّ الوليد بن عتبة، وَاخْتَلَفَ عُبَيْدَةُ وَعُتْبَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَانِ كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ، فَكَرَّ حَمْزَةُ وعلي بأسيافهما على عتبة
__________
1446- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- هشيم هو ابن بشير، أبو هاشم هو يحيى بن دينار، أبو مجلز، هو لا حق بن حميد.
- وهو في «شرح السنة» 2701 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 3969 عن يعقوب بن إبراهيم به.
- وأخرجه البخاري 3966 و3968 ومسلم 3033 والنسائي في «التفسير» 361 وابن ماجه 2835 والطبري 24979 والواحدي في «أسباب النزول» 619 من طرق عن أبي هاشم به.
1447- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- سليمان والد المعتمر هو ابن طرخان، أبو مجلز هو لا حق بن حميد.
- وهو في «صحيح البخاري» 4744 عن حجاج بن منهال بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 3965 والطبري 24978 والبيهقي في «الدلائل» 3/ 73 من طريقين عن أبي مجلز به.
وانظر الحديث المتقدم.
1448- أخرجه البيهقي في «الدلائل» 3/ 72 عن ابن إسحاق عمن روى عنه قصة بدر ... فذكره.
- ولأصله شاهد موصول عن علي دون بعض ألفاظه.
- أخرجه أبو داود 2665 وأحمد 1/ 117 والبيهقي في «الدلائل» 3/ 63- 64 و71 من طريق أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مضرّب عن علي، ورواية البيهقي وأحمد مطولة، وليس في الحديث ذكر كلام عبيدة والشعر، وفيه اختلاف يسير عن مرسل ابن إسحاق، ورجال الإسناد ثقات كلهم.(3/329)
فَذَفَّفَا عَلَيْهِ وَاحْتَمَلَا عُبَيْدَةَ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَقَدْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ وَمُخُّهَا يسيل، فلم أَتَوْا بِعُبَيْدَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: أَلَسْتُ شَهِيدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «بَلَى» ، فَقَالَ [1] عُبَيْدَةُ: لَوْ كَانَ أَبُو طَالِبٍ حَيًّا لَعَلِمَ أَنَّا أَحَقُّ بِمَا قَالَ مِنْهُ حَيْثُ يَقُولُ:
وَنُسْلِمُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حوله ... ونذهب عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ أَهْلُ الكتاب: نحن أولى بالله منكم وَأَقْدَمُ مِنْكُمْ كِتَابًا، وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِاللَّهِ آمَنَّا بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَبِيِّكُمْ وَبِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ نَبِيَّنَا وَكِتَابَنَا وَكَفَرْتُمْ بِهِ حَسَدًا، فَهَذِهِ خُصُومَتُهُمْ فِي رَبِّهِمْ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْكَلْبِيُّ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ كُلُّهُمْ مِنْ أَيِّ مِلَّةٍ كَانُوا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَعَلَ الْأَدْيَانَ سِتَّةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا [الحج: 17] الْآيَةَ فَجَعَلَ خَمْسَةً لِلنَّارِ وَوَاحِدًا لِلْجَنَّةِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِمْ فَالْمُؤْمِنُونَ خَصْمٌ وَسَائِرُ الْخَمْسَةِ خَصْمٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمَا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ اخْتَصَمَتَا كَمَا:
«1449» أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ أَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزيادي أنا أبو بكر الْقَطَّانُ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وغزاتهم؟ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا فَأَمَّا النار فلا تمتلىء حَتَّى يَضَعَ اللَّهُ فِيهَا رِجْلَهُ فَتَقُولُ قَطْ قَطْ، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ وَيَزْوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وجلّ ينشىء لَهَا خَلْقًا» ثُمَّ بَيَّنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا لِلْخَصْمَيْنِ فَقَالَ: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ثِيَابٌ مِنْ نُحَاسٍ مُذَابٍ وَلَيْسَ مِنَ الْآنِيَةِ شَيْءٌ إِذَا حَمِيَ أَشَدَّ حَرًّا مِنْهُ وَسُمِّيَ بِاسْمِ الثِّيَابِ لِأَنَّهَا تُحِيطُ بِهِمْ كَإِحَاطَةِ الثِّيَابِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْبَسُ أهل النار مقطعات مِنْ نَارٍ [2] ، يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ والحميم: هُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ الَّذِي انْتَهَتْ حرارته.
يُصْهَرُ بِهِ أَيْ: يُذَابُ بِالْحَمِيمِ، ما فِي بُطُونِهِمْ [من الأمعاء] [3] يقال: صهرت الألية والشحم
__________
1449- إسناده صحيح، أحمد بن يوسف روى له مسلم، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- وهو في «شرح السنة» 4318 بهذا الإسناد.
- وهو في «مصنف عبد الرزاق» 20893 عن معمر به.
- وأخرجه البخاري 4850 ومسلم 2846 ح 36 وأحمد 2/ 314 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 94 وابن حبان 7447 والبيهقي في «الإعتقاد» ص 158 من طرق عن عبد الرزاق به.
(1) زيد في المخطوط «أبو» .
(2) في المطبوع «النار» .
(3) زيادة عن المخطوط.(3/330)
بِالنَّارِ إِذَا أَذَبْتَهُمَا [1] أَصْهَرُهَا صَهْرًا مَعْنَاهُ يُذَابُ بِالْحَمِيمِ الَّذِي يُصَبُّ من فوق رؤوسهم حَتَّى يَسْقُطَ مَا فِي بُطُونِهِمْ مِنَ الشُّحُومِ وَالْأَحْشَاءِ، وَالْجُلُودُ أَيْ: يشوي حرها جلودهم [وما في بطونهم] [2] فَتَتَسَاقَطُ.
«1450» أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ [مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ أَنَا إِبْرَاهِيمُ] [3] بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أبي السمح عن ابن حجيرة وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْحَمِيمَ ليصب على رؤوسهم فَيَنْفُذُ الْجُمْجُمَةَ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ فَيَسْلُتَ مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَمْرُقَ مِنْ قَدَمَيْهِ وَهُوَ الصَّهْرُ ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) ، سِيَاطٌ مِنْ حَدِيدٍ وَاحِدَتُهَا [4] مِقْمَعَةٌ، قَالَ اللَّيْثُ: الْمِقْمَعَةُ شِبْهُ الجزر مِنَ الْحَدِيدِ، مِنْ قَوْلِهِمْ: قَمَعْتُ رَأْسَهُ إِذَا ضَرَبْتَهُ ضَرْبًا عَنِيفًا.
«1451» وَفِي الْخَبَرِ: «لَوْ وُضِعَ مِقْمَعٌ مِنْ حَدِيدٍ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الثَّقَلَانِ مَا أَقَلُّوهُ مِنَ الْأَرْضِ» .
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ، يعني: كُلَّمَا حَاوَلُوا الْخُرُوجَ مِنَ النَّارِ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ الذي يأخذ بأنفسهم أُعِيدُوا فِيها، يعني: رُدُّوا إِلَيْهَا بِالْمَقَامِعِ. وَفِي التَّفْسِيرِ: إِنَّ جَهَنَّمَ لَتَجِيشُ بِهِمْ فَتُلْقِيهِمْ إِلَى أَعْلَاهَا فَيُرِيدُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا فتضربهم الزبانية بمقامع الْحَدِيدِ فَيَهْوُونَ فِيهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا.
وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ، أَيْ: تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ، أَيِ: الْمُحْرِقِ مِثْلُ الْأَلِيمِ وَالْوَجِيعِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هَؤُلَاءِ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ. وَقَالَ فِي الْآخَرِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ:
__________
1450- إسناده لين، رجاله ثقات سوى أبي السمح، وقد اختلف في روايته عن غير أبي الهيثم، فبعضهم حسن حديثه، وبعضهم ضعفه مطلقا عن أبي الهيثم وغيره، وقد رواه هنا عن غير أبي الهيثم، أبو السمح درّاج بن سمعان، عبد الرحمن هو ابن حجيرة.
- وهو في «شرح السنة» 4302 بهذا الإسناد.
- وهو في «الزهد ابن المبارك» 313 «زيادات نعيم بن حماد» عن سعيد بن يزيد به.
- وأخرجه الترمذي 2582 وأحمد 2/ 374 والحاكم 2/ 387 والطبري 24993 و24994 وأبو نعيم في «الحلية» 8/ 182- 183 من طرق عن ابن المبارك به.
وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
- وله شاهد من حديث أبي أمامة، أخرجه نعيم في «زيادات الزهد» 314 والترمذي 2583 وإسناده ضعيف، فيه عبيد الله بن بسر، وهو مجهول، لكن يصلح حديثه شاهدا، فهو حسن.
1451- ضعيف. أخرجه أحمد 3/ 29 وأبو يعلى 1388 والبيهقي في «البعث» 590 ومن طريق ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري مرفوعا وهذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة، وكذا ضعف درّاج عن أبي الهيثم.
- وأخرجه الحاكم 4/ 600 من طريق ابن وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عن أبي سعيد الخدري به، وصححه وسكت عليه الذهبي! لكن قال الذهبي في مواضع عديدة: دراج ذو مناكير.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 10/ 388 وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى، وفيه ضعفاء، وقد وثقوا!!.
- وانظر «الكشاف» 705 و «فتح القدير» 1666 بتخريجي. [.....]
(1) في المخطوط «أذبتها» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) ما بين الحاصرتين في المطبوع «بن محمد» .
(4) في المخطوط «واحدها» .(3/331)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ، جَمْعُ سِوَارٍ، وَلُؤْلُؤاً، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ (وَلُؤْلُؤًا) هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ الْمَلَائِكَةِ [فاطر: 33] بِالنَّصْبِ وَافَقَ يَعْقُوبُ هَاهُنَا عَلَى مَعْنَى وَيُحَلَّوْنَ لُؤْلُؤًا وَلِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ فِي الْمَصَاحِفِ بِالْأَلِفِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: (مِنْ ذهب) وترك الْهَمْزَةَ الْأُولَى فِي كُلِّ الْقُرْآنِ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو بَكْرٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ إِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِيهِ فقال أبو عمرو: أثبتوها فيها كما أثبتوا في: قالوا وكالوا [1] ، وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: أَثْبَتُوهَا لِلْهَمْزَةِ لِأَنَّ الْهَمْزَةَ حَرْفٌ مِنَ الْحُرُوفِ وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أي: أنهم يَلْبَسُونَ فِي الْجَنَّةِ ثِيَابَ الْإِبْرَيْسَمِ وَهُوَ الَّذِي حَرُمَ لَبْسُهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى الرِّجَالِ.
«1452» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ أَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ دَاوُدَ السَّرَّاجِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يُلْبِسْهُ اللَّهُ إِيَّاهُ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ دَخْلَ الْجَنَّةَ لَبِسَهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَلَمْ يَلْبَسْهُ هو» .
قوله تعالى: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَيِ الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صدقنا وعده. وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ، إِلَى دِينِ اللَّهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ وَالْحَمِيدُ هُوَ اللَّهُ الْمَحْمُودُ فِي أَفْعَالِهِ [وأقواله] [2] .
[سورة الحج (22) : الآيات 25 الى 28]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28)
__________
1452- صدره صحيح. إسناده ضعيف، رجاله ثقات مشاهير غير داود السراج، فإنه مجهول لم يرو عنه غير قتادة، وثقه ابن حبان على قاعدته، وجهّله علي المديني، والقول قول المديني.
- وهو في «شرح السنة» 2995 بهذا الإسناد.
- وهو في «مسند علي بن الجعد» 1010 عن شعبة بهذا الإسناد.
- وأخرجه النسائي في «الكبرى» 9609 و9610 من طريقين عن شعبة به.
- وأخرجه أحمد 3/ 23 والطيالسي 2207 والحاكم 4/ 191 وابن حبان 5437 والطحاوي في «المشكل» 4845 من طرق عن قتادة به.
وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي! مع أنه ذكر داود السراج في «الميزان» وقال: لم يرو عنه غير قتادة. أي هو مجهول.
- وصدر الحديث عند البخاري 5832 ومسلم 2073 وابن ماجه 3588 وأحمد 3/ 101 وأبو يعلى 3930 وابن حبان 5429 من حديث أنس.
(1) في المطبوع وط «وكانوا» .
(2) زيادة عن المخطوط.(3/332)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، عَطَفَ الْمُسْتَقْبَلَ عَلَى [1] الْمَاضِي لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ لَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمَاضِي كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وقيل: مَعْنَاهُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَّرُوا فِيمَا تَقَدَّمَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فِي الْحَالِ، أَيْ: وَهُمْ يَصُدُّونَ. وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ، أَيْ:
وَيَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ، قِبْلَةً لِصَلَاتِهِمْ وَمَنْسَكًا وَمُتَعَبَّدًا كَمَا قَالَ: وُضِعَ لِلنَّاسِ [آلِ عِمْرَانَ: 96] . سَواءً، قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبُ: (سَوَاءً) نَصْبًا بِإِيقَاعِ الْجَعْلِ عَلَيْهِ [لِأَنَّ الْجَعْلَ] [2] يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُسْتَوِيًا فِيهِ، الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَمَا بَعْدَهُ خَبَرٌ، وَتَمَامُ [3] الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ لِلنَّاسِ وَأَرَادَ بِالْعَاكِفِ الْمُقِيمَ فِيهِ، وَبِالْبَادِي الطَّارِئَ الْمُنْتَابَ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَقَالَ قَوْمٌ (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ والباد) يعني فِي تَعْظِيمِ حُرْمَتِهِ وَقَضَاءِ النُّسُكِ فِيهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ، وَقَالُوا: الْمُرَادُ مِنْهُ نَفْسُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَعْنَى التَّسْوِيَةِ هُوَ التَّسْوِيَةُ فِي تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ فِي فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَقَالَ آخَرُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الْحَرَمِ، وَمَعْنَى التَّسْوِيَةِ أَنَّ الْمُقِيمَ وَالْبَادِيَ سَوَاءٌ فِي النزول به ليس أحدهما بأحق بالمَنْزِلِ يَكُونُ فِيهِ مِنَ الْآخَرِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُزْعِجُ فِيهِ أحد إِذَا كَانَ قَدْ سَبَقَ إِلَى مَنْزِلٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ، قَالُوا: هُمَا سَوَاءٌ فِي الْبُيُوتِ وَالْمَنَازِلِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَابِطٍ: كَانَ الْحُجَّاجُ إِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بِأَحَقَّ بِمَنْزِلِهِ مِنْهُمْ.
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَنْهَى النَّاسَ أَنْ يُغْلِقُوا أَبْوَابَهُمْ فِي الْمَوْسِمِ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دُورِ مَكَّةَ وَإِجَارَتُهَا، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْأَقْرَبُ إِلَى الصَّوَابِ يَجُوزُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الحَجِّ: 40] .
«1453» وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فهو آمن» .
فنسب [الديار إليهم نسبة] [4] مِلْكٍ، وَاشْتَرَى عُمْرُ دَارًا لِلسِّجْنِ بِمَكَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا وَهَذَا قَوْلُ طاووس وعمر بْنِ دِينَارٍ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ أَيْ:
فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ وَهُوَ الْمَيْلُ إِلَى الظُّلْمِ، والباء فِي قَوْلِهِ: بِإِلْحادٍ زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ:
تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المُؤْمِنُونَ: 20] ، وَمَعْنَاهُ مَنْ يُرِدْ فِيهِ إِلْحَادًا بِظُلْمٍ، قَالَ الْأَعْشَى: ضَمِنَتْ بِرِزْقِ عِيَالِنَا أَرْمَاحُنَا، أَيْ: رِزْقَ عِيَالِنَا. وَأَنْكَرَ الْمُبْرَدُ أَنْ تَكُونَ الْبَاءُ زَائِدَةً وَقَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ مَنْ تَكُنْ إِرَادَتُهُ فيه أن [5] يُلْحِدَ بِظُلْمٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْإِلْحَادِ فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ الشِّرْكُ وَعِبَادَةُ غَيْرِ اللَّهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ حَتَّى شَتْمِ الْخَادِمِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ دُخُولُ الْحَرَمِ غَيْرَ مُحْرِمٍ أَوِ ارْتِكَابُ شَيْءٍ مِنْ محظورات الإحرام [6] مِنْ قَتْلِ صَيْدٍ أَوْ قَطْعِ شَجَرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ تَقْتُلَ فِيهِ مَنْ لَا
__________
1453- سيأتي في تفسير سورة البلد إن شاء الله وفي سورة النصر أيضا، وهو صحيح.
(1) في المطبوع «عن» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «وتم» .
(4) في المطبوع «الدار إليه نسب» .
(5) في المطبوع «بأن» .
(6) في المطبوع «الحرم» . [.....](3/333)
يقتلك أو تظلم مَنْ لَا يَظْلِمُكَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الضَّحَّاكِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ. وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أبي ثابت: هو احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تعالى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ، قَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ بِخَطِيئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ بِقَتْلِ رَجُلٍ بِمَكَّةَ وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ أَوْ بِبَلَدٍ آخَرَ أَذَاقَهُ الله من العذاب الأليم. قال السُّدِّيُّ: إِلَّا أَنْ يَتُوبَ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ [و] [1] أَنَّهُ كَانَ لَهُ فُسْطَاطَانِ أَحَدُهُمَا فِي الْحِلِّ وَالْآخَرُ فِي الْحَرَمِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاتِبَ أَهْلَهُ عاتبهم في الحل [2] ، فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ مِنَ الْإِلْحَادِ فِيهِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ كَلَّا وَاللَّهِ وبلى والله.
قوله تَعَالَى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ، أي: وطّأنا، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: جَعَلْنَا. وَقِيلَ:
بَيَّنَّا. قَالَ الزَّجَّاجُ: جَعَلْنَا مَكَانَ الْبَيْتِ مبوأ إبراهيم [3] . وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: هَيَّأْنَا. وإنما ذكر مَكَانَ الْبَيْتِ لِأَنَّ الْكَعْبَةَ رُفِعَتْ إلى السماء في زمن الطُّوفَانِ ثُمَّ لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ لَمْ يَدْرِ أَيْنَ يَبْنِي فَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا خَجُوجًا فَكَنَسَتْ لَهُ مَا حَوْلَ الْبَيْتِ عَلَى الْأَسَاسِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بَعَثَ اللَّهُ سَحَابَةً بِقَدْرِ الْبَيْتِ فَقَامَتْ بِحِيَالِ الْبَيْتِ وَفِيهَا رَأْسٌ يَتَكَلَّمُ يَا إِبْرَاهِيمُ ابْنِ عَلَى قَدْرِي فَبَنَى عَلَيْهِ [4] . قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً أَيْ: عَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَقُلْنَا لَهُ لَا تُشْرِكْ بِي شيئا، وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ، أي: الذين يطوفون بالبيت [من دنس الذنوب] [5] ، وَالْقائِمِينَ أَيِ: الْمُقِيمِينَ، وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، أَيِ: الْمُصَلِّينَ.
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ أي: أعلم ونادي فِي النَّاسِ، بِالْحَجِّ، فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَمَا يَبْلُغُ صَوْتِي؟ فَقَالَ:
عَلَيْكَ الأذان وعلينا الْبَلَاغُ، فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْمَقَامِ فارتفع [به] [6] الْمَقَامُ حَتَّى صَارَ كَأَطْوَلِ الْجِبَالِ فَأَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ وَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا وَشَرْقًا وَغَرْبًا وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلَا إن ربكم قد بنى لكم بَيْتًا وَكَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ إِلَى الْبَيْتِ فَأَجِيبُوا رَبَّكُمْ فَأَجَابَهُ كُلُّ مَنْ كَانَ يَحُجُّ [7] مِنْ أَصْلَابِ الْآبَاءِ وَأَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَوَّلُ مَنْ أَجَابَهُ أَهْلُ الْيَمَنِ فَهَمْ أَكْثَرُ النَّاسِ حَجًّا.
وَرُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ صَعِدَ أَبَا قُبَيْسٍ وَنَادَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنِيَ بِالنَّاسِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَهْلَ الْقِبْلَةِ وَزَعَمَ الْحَسَنُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهَذَا التَّأْذِينِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ.
«1454» وَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فرض عليكم الحج فحجوا» .
__________
1454- صحيح. أخرجه مسلم 1337 والنسائي 5/ 110- 111 والدارقطني 2/ 281 وابن حبان 3704 والبيهقي 4/ 326 من حديث أبي هريرة مطوّلا.
(1) سقط من النسخ.
(2) في المطبوع «الآخر» .
(3) في المطبوع «مبدأ لإبراهيم» .
(4) في المخطوط «عليها» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المخطوط «حج» .(3/334)
قوله تعالى: يَأْتُوكَ رِجالًا، أي: مُشَاةً عَلَى أَرْجُلِهِمْ جَمْعُ رَاجِلٍ، مِثْلُ قَائِمٍ وَقِيَامٍ وَصَائِمٍ وَصِيَامٍ، وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ، أَيْ: رُكْبَانًا عَلَى كُلِّ ضَامِرٍ، وَالضَّامِرُ: الْبَعِيرُ الْمَهْزُولُ. يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ أَيْ: مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ بَعِيدٍ، وَإِنَّمَا جَمَعَ يَأْتِينَ لِمَكَانِ كل وارد النوق.
لِيَشْهَدُوا، ليحضروا، مَنافِعَ لَهُمْ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ومحمد بن علي الباقر: العفو والمغفرة. وقال سعيد بن جبير: التجارة، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ الْأَسْوَاقُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: التِّجَارَةُ وَمَا يَرْضَى اللَّهُ بِهِ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ، يَعْنِي عَشْرَ ذِي الْحِجَّةِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. قِيلَ لَهَا: مَعْلُومَاتٍ لِلْحِرْصِ عَلَى عِلْمِهَا بِحِسَابِهَا مِنْ أَجْلِ وَقْتِ الْحَجِّ فِي آخِرِهَا. وَيُرْوَى عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهَا يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ، وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا يَوْمُ عَرَفَةَ وَالنَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ. عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ، يَعْنِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا تَكُونُ مِنَ النَّعَمِ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ. وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ أَنَّ الْأَيَّامَ الْمَعْلُومَاتِ يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ [لِأَنَّ الذِّكْرَ عَلَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ يَدُلُّ عَلَى التَّسْمِيَةِ عَلَى نَحْرِهَا] [1] ، وَنَحْرُ الْهَدَايَا يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ. فَكُلُوا مِنْها أَمْرُ إِبَاحَةٍ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يَأْكُلُونَ مِنْ لُحُومِ هَدَايَاهُمْ شَيْئًا وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْهَدْيَ إِذَا كَانَ تَطَوُّعًا يَجُوزُ لِلْمُهْدِي أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ أُضْحِيَّةُ التَّطَوُّعِ لِمَا:
«1455» أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ أنا أحمد بن علي الكشمهيني أَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي قِصَّةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: وَقَدِمَ عَلِيٌّ بِبَدَنٍ مِنَ الْيَمَنِ وَسَاقَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فَنَحَرَ مِنْهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ثلاث وَسِتِّينَ بَدَنَةً بِيَدِهِ وَنَحَرَ عَلِيٌّ مَا بَقِيَ، ثُمَّ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ تُؤْخَذَ بِضْعَةٌ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ فَتُجْعَلَ فِي قِدْرٍ فَأَكَلَا مِنْ لَحْمِهَا وَحَسِيَا مِنْ مَرَقِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ بِالشَّرْعِ هَلْ يَجُوزُ لِلْمُهْدِي أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا مِثْلَ دَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَالدَّمِ الْوَاجِبِ بِإِفْسَادِ الْحَجِّ وَفَوَاتِهِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ شَيْئًا وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَكَذَلِكَ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّذْرِ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يَأْكُلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالنَّذْرِ، وَيَأْكُلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ التَّمَتُّعِ وَمِنْ كُلِّ هَدْيٍ وَجَبَ عَلَيْهِ إِلَّا مِنْ فِدْيَةِ الْأَذَى وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَالْمَنْذُورِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ يَأْكُلُ مِنْ دَمِ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَلَا أكل مِنْ وَاجِبٍ سِوَاهُمَا. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ، يَعْنِي: الزَّمِنَ الْفَقِيرَ الَّذِي لَا شَيْءَ له والبائس الَّذِي اشْتَدَّ بُؤْسُهُ، وَالْبُؤْسُ شِدَّةُ الفقر.
__________
1455- إسناده صحيح على شرط مسلم.
- وهو في «شرح السنة» 1911 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 1218 وأبو داود 1905 وابن ماجه 374 والدارمي 2/ 44- 49 وأبو يعلى 2027 والبيهقي 5/ 7- 9 من طرق عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر به.
(1) ما بين الحاصرتين في «الوسيط» 3/ 268 « ... واختاره الزجاج» قال: لأن الذكر هاهنا يدل على التسمية على ما ينحر لقوله: عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ.(3/335)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
[سورة الحج (22) : الآيات 29 الى 30]
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ، التَّفَثُ الْوَسَخُ والقذارة من طول الشعر والأظفار وَالشَّعَثِ، تَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ تَسْتَقْذِرُهُ: ما أتفثك أي أوسخك. والحاج أشعث أغبر أي: لَمْ يَحْلِقْ شَعْرَهُ وَلَمْ يُقَلِّمْ ظُفْرَهُ فَقَضَاءُ التَّفَثِ إِزَالَةُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ، أَيْ: لِيُزِيلُوا أَدْرَانَهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْخُرُوجُ عَنِ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَنَتْفِ الْإِبِطِ وَالِاسْتِحْدَادِ وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ: قَضَاءُ التَّفَثِ مَنَاسِكُ الْحَجِّ كُلُّهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ مَنَاسِكُ الحج وقص [1] الشَّارِبِ وَنَتْفُ الْإِبِطِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَقَلْمُ الْأَظْفَارِ. وَقِيلَ:
التَّفَثُ هَاهُنَا رَمْيُ الْجِمَارِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا نَعْرِفُ التَّفَثَ وَمَعْنَاهُ إِلَّا مِنَ الْقُرْآنِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ نَذْرَ الْحَجِّ وَالْهَدْيِ وَمَا يُنْذِرُ الْإِنْسَانُ مِنْ شَيْءٍ يَكُونُ فِي الْحَجِّ أَيْ: لِيُتِمُّوهَا بِقَضَائِهَا. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْوَفَاءُ بِمَا نَذَرَ عَلَى ظَاهِرِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْخُرُوجَ عَمَّا وجب عليه نذرا ولم يَنْذِرْ.
وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلِّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَفَّى بِنَذْرِهِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ «وَلِيُوَفُّوا» بِنَصْبِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، أَرَادَ بِهِ الطَّوَافَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ، وَالطَّوَافُ ثَلَاثَةُ، طَوَافُ الْقُدُومِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا يَرْمُلُ ثَلَاثًا مِنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَيْهِ وَيَمْشِي أَرْبَعًا، وَهَذَا الطَّوَافُ سُنَّةٌ لَا شَيْءَ على من تركه.
«1456» أخبرنا عد الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا أَحْمَدُ هو ابن عيسى أنا ابن وهب أنا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيِّ [أَنَّهُ] [2] سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: قَدْ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّهُ أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تكن عُمْرَةً ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ فَكَانَ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطواف بالبيت ثم لم تكن عُمْرَةً ثُمَّ عُمْرُ مَثَلَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ فَرَأَيْتُهُ أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ.
«1457» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ أَحْمَدَ الْخَلَّالِ أَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ كَانَ إِذَا طَافَ فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يقدم سعي [3] ثلاثة أطواف ومشي أَرْبَعًا ثُمَّ يُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يطوف بين
__________
1456- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- أحمد بن عيسى هو ابن حسان المصري، ابن وهب هو عبد الله.
- وهو في «شرح السنة» 1891 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 1641 عن أحمد بن عيسى بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 1614 ومسلم 1235 وابن خزيمة 2699 وابن حبان 3808 والبيهقي 5/ 77 من طرق عن عبد الله بن وهب به.
1457- صحيح، إسناده صحيح، الربيع ثقة، والشافعي ثقة، وكلاهما توبع ومن فوق الشافعي رجال الشيخين.
- الربيع هو ابن سليمان المرادي، الشافعي محمد بن إدريس. نافع هو أبو عبد الله.
- وهو في «شرح السنة» 1892 بهذا الإسناد.
(1) في المطبوع «وأخذ» .
(2) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3) في المطبوع «يسعى» .(3/336)
الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا» .
وَالطَّوَافُ الثَّانِي هُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الرَّمْيِ وَالْحَلْقِ، وَهُوَ وَاجِبٌ لَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ مِنَ الْإِحْرَامِ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ.
«1458» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا عمر بن حفص ثنا أبي أَنَا الْأَعْمَشُ أَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ الْأُسُودِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: حَاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ فَقَالَتْ: مَا أَرَانِي إِلَّا حَابِسَتُكُمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَقْرَى حَلْقَى» أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قِيلَ: نَعَمْ، قَالَ: فَانْفِرِي» .
فَثَبْتَ بِهَذَا أَنَّ [1] [مَنْ] [2] لَمْ يَطُفْ يَوْمَ النَّحْرِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ، وَالطَّوَافُ الثَّالِثُ هُوَ طَوَافُ الْوَدَاعِ لَا رُخْصَةَ فِيهِ لِمَنْ أَرَادَ مُفَارَقَةَ مَكَّةَ إِلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ أَنْ يُفَارِقَهَا حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا فَمَنْ تَرَكَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ إِلَّا الْمَرْأَةَ الْحَائِضَ يَجُوزُ لَهَا تَرْكُ طَوَافِ الْوَدَاعِ.
«1459» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ أَحْمَدَ الْخَلَّالِ أَنَا أَبُو العباس الأصم أنا
__________
- وهو في «مسند الشافعي» 1/ 347 عن أنس بن عياض به.
- وأخرجه البخاري 1616 من طريق أنس بن ضمرة به.
- وأخرجه مسلم 1261 من طريق حاتم بن إسماعيل عن موسى بن عقبة به.
- وأخرجه البخاري 1617 من طريق أنس عن عبيد الله عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ به.
1458- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- حفص والد عمر هو ابن غياث، الأعمش سليمان بن مهران، إبراهيم بن يزيد النخعي، الأسود بن يزيد.
- وهو في «شرح السنة» 1968 بهذا الإسناد.
- وهو في «صحيح البخاري» 1771 عن عمر بن حفص به.
- وأخرجه البخاري 1762 و6157 ومسلم 1211 ح 387 وابن ماجه 3073 وأحمد 6/ 122 و175 و213 و224 و253 والدارمي 2/ 568 والطحاوي في «المعاني» 2/ 233- 234 والبيهقي 5/ 162- 363 من طرق عن إبراهيم النخعي به.
- وأخرجه البخاري 328 ومسلم 1211 ح 385 والنسائي 1/ 194 ومالك 1/ 412 والطحاوي 2/ 234 والبيهقي 5/ 163 من طرق عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بكر بن حزم عن عمرة عن عائشة بنحوه.
- وأخرجه مسلم 1211 و384 وأحمد 6/ 99 و192 و207 وابن حبان 900 من طرق عن القاسم بن محمد عن عائشة به بنحوه.
- وأخرجه البخاري 1757 ومسلم 1211 والترمذي 943 والشافعي 1/ 367 وأحمد 6/ 39 وابن حبان 3902 والطحاوي 2/ 234 من طرق عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة بنحوه.
1459- إسناده صحيح. الربيع والشافعي كلاهما ثقة، وقد توبع الشافعي فمن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- سفيان هو ابن عيينة، سليمان هو ابن أبي مسلم، قيل: اسم أبيه عبيد الله.
- وهو في «شرح السنة» 1966 بهذا الإسناد.
- وهو في «مسند الشافعي» 1/ 364 عن سفيان به.
- وأخرجه الحميدي 502 من طريق سفيان به.
- وأخرجه البخاري 1755 والنسائي في «الكبرى» 4199 والشافعي 1/ 364 والطحاوي 2/ 233 والبيهقي 5/ 161 من طريق سفيان عن ابن طاووس عن طاووس به.
(1) في المطبوع «إن» .
(2) زيادة عن المخطوط.(3/337)
الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ عَنْ طَاوُسٍ [عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ] [1] قَالَ: «أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ إِلَّا أَنَّهُ رُخِّصَ لِلْمَرْأَةِ الْحَائِضِ» .
وَالرَّمَلُ مُخْتَصٌّ بِطَوَافِ الْقُدُومِ وَلَا رَمَلَ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَالْوَدَاعِ. قَوْلُهُ: بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ اختلفوا في معنى العتيق، فقال ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: سُمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ أَنْ يَصِلُوا إِلَى تَخْرِيبِهِ، فَلَمْ يَظْهَرْ عليه جبار قط، وقال سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: سُمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّهُ لَمْ يُمْلَكْ قَطُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: سُمِّيَ بِهِ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ وَهُوَ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، يُقَالُ دِينَارٌ عَتِيقٌ أيْ قَدِيمٌ، وَقِيلَ: سَمِّيَ عَتِيقًا لِأَنَّ اللَّهَ أَعْتَقَهُ مِنَ الْغَرَقِ فَإِنَّهُ رُفِعَ أَيَّامَ الطُّوفَانِ.
ذلِكَ أي: الأمر [2] يَعْنِي مَا ذُكِرَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ، أَيْ مَعَاصِي اللَّهِ وَمَا نَهَى [الله] [3] عَنْهُ وَتَعْظِيمُهَا تَرْكُ مُلَابَسَتِهَا. قَالَ اللَّيْثُ: حُرُمَاتُ اللَّهِ مَا لَا يَحِلُّ انْتِهَاكُهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْحُرْمَةُ مَا وَجَبَ الْقِيَامُ بِهِ وَحَرُمَ التَّفْرِيطُ فِيهِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْحُرُمَاتِ هَاهُنَا الْمَنَاسِكُ بدليل [4] مَا يَتَّصِلُ بِهَا. مِنَ الْآيَاتِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْحُرُمَاتُ هَاهُنَا الْبَيْتُ الْحَرَامُ، وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَالْإِحْرَامُ. فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ، أَيْ: تَعْظِيمُ الْحُرُمَاتِ، خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ الله في الآخرة، وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ، أَنْ: تَأْكُلُوهَا إِذَا ذَبَحْتُمُوهَا وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ، تَحْرِيمُهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المَائِدَةِ: 3] ، الْآيَةَ، فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ أَيْ: عِبَادَتَهَا، يَقُولُ كُونُوا عَلَى جَانِبٍ مِنْهَا فَإِنَّهَا رِجْسٌ، أَيْ: سَبَبُ الرِّجْسِ، وَهُوَ الْعَذَابُ وَالرِّجْسُ: بِمَعْنَى الرِّجْزِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ هاهنا للجنس أَيْ: اجْتَنِبُوا الْأَوْثَانَ الَّتِي هِيَ رِجْسٌ، وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ، يَعْنِي: الْكَذِبَ وَالْبُهْتَانَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: شَهَادَةُ الزُّورِ.
«1460» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ خَطِيبًا فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عدلت شهادة الزور الإشراك بِاللَّهِ» ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.
__________
- وأخرجه البخاري 329 و1760 والدارمي 2/ 72 وابن حبان 3898 من طريق عن وهيب عن ابن طَاوُوسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عباس بنحوه.
1460- أخرجه أحمد 4/ 178 و231 و322 والترمذي 2299 والطبري 2537 من طريق فاتك بن فضالة عن أيمن بن خريم مرفوعا.
وإسناده ضعيف، فاتك هذا مجهول الحال كما في «التقريب» وأيمن مختلف في صحبته.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب، ولا نعرف لأيمن سماعا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
- وأخرجه أبو داود 3599 والترمذي 2300 وابن ماجه 2372 وأحمد 4/ 321 والطبري 25136 من طريق سفيان بن زياد عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ النعمان الأسدي عن خريم بن فاتك مرفوعا.
قال الترمذي: هذا عندي أصح، وخريم بن فاتك له صحبة اهـ.
قلت: إسناده ضعيف له علتان: زياد العصفري عن حبيب بن النعمان قال الحافظ في ترجمته كلّ: مقبول.
وقال الذهبي في: زياد لا يدرى من هو عن مثله.
ثم ذكر هذا الحديث.
- وورد عن ابن مسعود موقوفا أخرجه الطبراني 8569 وهو أصح من المرفوع، والله أعلم.
انظر «فتح القدير» للشوكاني 1676 و «أحكام القرآن» 1507 و «الكشاف» 707 وجميعا بتخريجي، ولله الحمد والمنة.
(1) سقط من المطبوع.
(2) زيد في المطبوع «ذلك» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المخطوط «بدلالة» .(3/338)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تملكه وما ملك.
[سورة الحج (22) : الآيات 31 الى 34]
حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
حُنَفاءَ لِلَّهِ، مُخْلِصِينَ لَهُ، غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ، قَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا فِي الشِّرْكِ يَحُجُّونَ وَيُحْرِمُونَ الْبَنَاتِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ حُنَفَاءَ، فَنَزَلَتْ: حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ أَيْ: حُجَّاجًا لِلَّهِ مُسْلِمِينَ مُوَحِّدِينَ يَعْنِي: مَنْ أَشْرَكَ لَا يَكُونُ حَنِيفًا. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ، أَيْ: سَقَطَ، مِنَ السَّماءِ، إِلَى الْأَرْضِ، فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ، أَيْ: تَسْتَلِبُهُ الطَّيْرُ وَتَذْهَبُ بِهِ، وَالْخَطْفُ وَالِاخْتِطَافُ تَنَاوُلُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ، وقر أَهْلُ الْمَدِينَةِ (فَتَخَطَّفُهُ) بِفَتْحِ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ، أَيْ: يَتَخَطَّفُهُ، أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ، أَيْ:
تَمِيلُ وَتَذْهَبُ بِهِ، فِي مَكانٍ سَحِيقٍ، أي بعيد معناه أن بعد من أشرك بالحق كَبُعْدِ مَنْ سَقَطَ مِنَ السَّمَاءِ فَذَهَبَتْ بِهِ الطَّيْرُ، أَوْ هَوَتْ بِهِ الرِّيحُ، فَلَا يَصِلُ [إِلَيْهِ] [1] بِحَالٍ. وَقِيلَ: شَبَّهَ حَالَ الْمُشْرِكِ بِحَالِ الْهَاوِي مِنَ السَّمَاءِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ حِيلَةً حَتَّى يَقَعَ بِحَيْثُ تُسْقِطُهُ الرِّيحُ، فَهُوَ هَالِكٌ لَا مَحَالَةَ إِمَّا بِاسْتِلَابِ الطَّيْرِ لَحْمَهُ وَإِمَّا بِسُقُوطِهِ إِلَى الْمَكَانِ السَّحِيقِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: شَبَّهَ أَعْمَالَ الْكَفَّارِ بِهَذِهِ الْحَالِ فِي أَنَّهَا تَذْهَبُ وَتَبْطُلُ فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا.
ذلِكَ، يَعْنِي الَّذِي ذَكَرْتُ مِنَ اجْتِنَابِ الرِّجْسِ وَقَوْلِ الزُّورِ، وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَعَائِرُ اللَّهِ الْبُدْنُ وَالْهَدْيُ وَأَصْلُهَا مِنَ الْإِشْعَارِ وَهُوَ إِعْلَامُهَا لِيُعْرَفَ [2] أَنَّهَا هَدْيٌ وَتَعْظِيمُهَا اسْتِسْمَانُهَا وَاسْتِحْسَانُهَا، وَقِيلَ: شَعَائِرُ اللَّهِ أَعْلَامُ دِينِهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ، أَيْ:
فَإِنَّ تَعْظِيمَهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ.
لَكُمْ فِيها أَيْ: فِي الْبُدْنِ قَبْلَ تَسْمِيَتِهَا لِلْهَدْيِ، مَنافِعُ، فِي دَرِّهَا وَنَسْلِهَا وَأَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَرُكُوبِ ظُهُورِهَا، إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَهُوَ أَنْ يُسَمِّيَهَا وَيُوجِبَهَا هَدْيًا فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَنَافِعِهَا، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وقتادة وَالضَّحَّاكِ، وَرَوَاهُ مُقْسِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَكُمْ فِي الْهَدَايَا مَنَافِعُ بَعْدَ إِيجَابِهَا وَتَسْمِيَتِهَا هَدْيًا بِأَنْ تَرْكَبُوهَا وَتَشْرَبُوا أَلْبَانَهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى، يَعْنِي إِلَى أَنْ تَنْحَرُوهَا وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رُكُوبِ الْهَدْيِ، فَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ لَهُ رُكُوبُهَا وَالْحَمْلُ عَلَيْهَا غَيْرَ مُضِرٍّ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وأحمد وإسحاق، لِمَا:
«1461» أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أنا أَبُو عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أبو مصعب
__________
1461- إسناده على شرط البخاري ومسلم.
- أَبُو مُصْعَبٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بكر المدني، مالك بن أنس، أبو الزِّنَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، الأعرج، عبد الرحمن بن هرمز.
- وهو في «شرح السنة» 1947 بهذا الإسناد.
- وهو في «الموطأ» 1/ 377 عن أبي الزناد به.
(1) زيادة عن المخطوط. [.....]
(2) في المطبوع «ليعلم» .(3/339)