يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
ذَهَبٍ فَقَالَ لِي: «يَا عُدَيُّ اطْرَحْ هَذَا الْوَثَنَ مِنْ عُنُقِكَ» ، فَطَرَحْتُهُ ثُمَّ [1] انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَقْرَأُ: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، حَتَّى فَرَغَ منها، قلت: إِنَّا لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ، وَيَحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ؟» قال: فقلت: بَلَى، قَالَ: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ» .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ:
وَهَلْ بَدَّلَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ ... وَأَحْبَارُ سَوْءٍ وَرُهْبَانُهَا
وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، أي: اتّخذوه إلها [واحدا] [2] ، وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 32 الى 33]
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ، أَيْ: يُبْطِلُوا دِينَ اللَّهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: النُّورُ الْقُرْآنُ، أَيْ: يُرِيدُونَ أَنْ يَرُدُّوا الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ تَكْذِيبًا، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، أَيْ: يُعْلِيَ دِينَهُ وَيُظْهِرَ كَلِمَتَهُ وَيُتِمَّ الْحَقَّ الَّذِي بَعَثَ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ، يَعْنِي: الَّذِي يَأْبَى إِلَّا إِتْمَامَ دِينِهِ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْهُدى، قِيلَ: بِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: بِبَيَانِ الْفَرَائِضِ، وَدِينِ الْحَقِّ، وَهُوَ: الْإِسْلَامُ، لِيُظْهِرَهُ، لِيُعْلِيَهُ وَيَنَصُرَهُ، عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، على سائر الأديان كلها، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْهَاءُ عَائِدَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ: لِيُعَلِّمَهُ شَرَائِعَ الدِّينِ كُلَّهَا فَيُظْهِرَهُ عَلَيْهَا حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى دِينِ الْحَقِّ، وَظُهُورُهُ عَلَى الْأَدْيَانِ هُوَ أَنْ لَا يُدَانَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا بِهِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَالضَّحَّاكُ: وَذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لَا يَبْقَى أَهْلُ دِينٍ إِلَّا دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ.
«1059» وَرَوَيْنَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُزُولِ عِيسَى عليه السلام قال: «ويهلك
__________
عدي بن حاتم، ورووه بألفاظ متقاربة، قال الترمذي: غريب، وغطيف ليس بمعروف اه.
قلت: غطيف هو ابن أعين، ضعفه الدارقطني، ووثقه ابن حبان، وقال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» (2/ 362) : رووه من طرق عن عدي مرفوعا اه.
والحديث حسنه شيخنا الأرناؤط في تعليقه على «فتح المجيد» والألباني في «صحيح الترمذي» 2471 وبعد بحث لم أجد له طريقا آخر غير طريق غطيف هذا، وله شاهد موقوف.
وانظر «تفسير القرطبي» 3337 و «تفسير الشوكاني» 1095 و «أحكام القرآن» 1104 وهذه الثلاثة جميعا بتخريجي، ولله الحمد والمنة.
الخلاصة: هو حديث يشبه الحسن.
1059- تقدم في سورة آل عمران آية: 55.
(1) في المطبوع «فلما» .
(2) زيادة عن المخطوط.(2/340)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّهَا إِلَّا [ملة] [1] الْإِسْلَامَ» .
«1060» وَرَوَى الْمِقْدَادُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ إِمَّا بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ ذُلِّ ذَلِيلٍ» ، إِمَّا يُعِزُّهُمُ اللَّهُ فيجعلهم من أهله [2] [فيعزوا به] [3] ، أو يذلّهم فيذلون له [4] . قلت: فيكون الدين كله لله.
«1061» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حبيب ثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ [بْنُ] سليمان بن منصور ثنا أَبُو مُسْلِمِ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عبد الله الكجي [5] ثنا أبو عاصم النبيل ثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ عَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَذْهَبُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ حَتَّى تُعْبَدَ اللَّاتُ وَالْعُزَّى» ، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كُنْتُ أظن أن يكون ذلك بعد ما أنزل الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) ، ثُمَّ قَالَ: «يَكُونُ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ تَعَالَى رِيحًا طَيِّبَةً فَتَقْبِضُ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، ثُمَّ يَبْقَى مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ، فَيَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى دِينِ آبَائِهِمْ» .
قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: مَعْنَى الْآيَةِ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ بِالْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ. وَقِيلَ: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ الَّتِي حَوْلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَغْلِبَهُمْ [6] . قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: فَقَدْ أَظْهَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا بِأَنْ أَبَانَ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَهُ أَنَّهُ الْحُقُّ، وَمَا خَالَفَهُ مِنَ الْأَدْيَانِ بَاطِلٌ، وَقَالَ: وَأَظْهَرُهُ على الشرك دين [7] أهل الكتاب ودين الأميين فَقَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم الأميين حين دَانُوا بِالْإِسْلَامِ طَوْعًا وَكَرْهًا، وَقَتَلَ أَهْلَ الْكِتَابِ وَسَبَى، حَتَّى دَانَ بَعْضُهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَأَعْطَى بَعْضُهُمُ الْجِزْيَةَ صَاغِرِينَ وَجَرَى عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ، فَهَذَا ظُهُورُهُ [8] عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَاللَّهُ أعلم.
[سورة التوبة (9) : آية 34]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34)
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ، يعني: العلماء والقراء من
__________
1060- جيد. أخرجه أحمد (6/ 4) وابن حبان 6699 و6701 والطبراني (20/ 601) وابن مندة في «الإيمان» 1084 من طرق عن الوليد بن مسلم عن ابن جابر عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ المقداد به.
وإسناده قوي على شرط مسلم. وابن جابر هو عبد الرحمن بن يزيد وقد صرح الوليد بالحديث، فانتفت شبهة التدليس.
1061- إسناده صحيح على شرط مسلم.
أبو عاصم هو الضحاك بن مخلد، أبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف.
وأخرجه مسلم 2907 وأبو يعلى 4564 والبغوي في «شرح السنة» 4184 من طريق عبد الحميد بن جعفر به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «أهلها» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «فيدينون» .
(5) في المطبوع «البلخي» والمثبت عن المخطوط.
(6) في المطبوع «فيغلبها» والمثبت عن المخطوط. [.....]
(7) العبارة في المخطوط «أظهره بأن إجماع الشِّرْكِ دِينَانِ دِينُ أَهْلِ الْكِتَابِ» !.
(8) في المخطوط «فقد أظهره» .(2/341)
أَهْلِ الْكِتَابِ، لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ، يُرِيدُ لَيَأْخُذُونَ الرِّشَا فِي أَحْكَامِهِمْ وَيُحَرِّفُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَكْتُبُونَ بأيديهم كتابا يَقُولُونَ [هَذِهِ] مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَيَأْخُذُونَ بِهَا ثَمَنًا قَلِيلًا مِنْ سَفَلَتِهِمْ، وَهِيَ الْمَآكِلُ [1] الَّتِي يُصِيبُونَهَا مِنْهُمْ عَلَى تَغْيِيرِ نَعْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخَافُونَ لو صدقوه لَذَهَبَتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الْمَآكِلُ، وَيَصُدُّونَ، وَيَصْرِفُونَ النَّاسَ، عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، [عن] [2] دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ الله عنهما: كل ما تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا، وَكُلُّ مَالٍ لَا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَهُوَ كَنْزٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَدْفُونًا، وَمِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
«1062» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ [3] بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي سُوِيدُ بْنُ سعيد ثنا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ أَبَا صَالِحِ ذَكْوَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وجنبه وَظَهْرُهُ، كُلَّمَا بَرُدَتْ [4] أُعِيدَتْ لَهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألف سنة حتى يقضى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» ، قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: «وَلَا صَاحِبِ إِبِلٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا وَمِنْ حَقِّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ لَا يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلًا وَاحِدًا تَطَؤُهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضُّهُ بِأَفْوَاهِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألف سنة حتى يقضى بَيْنَ الْعِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» ، قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال: «وَلَا صَاحِبِ بَقَرٍ وَلَا غَنَمٍ لَا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلَّا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ لَا يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئًا لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلَا جَلْحَاءُ وَلَا عَضْبَاءُ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلَافِهَا، كُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ أُولَاهَا رُدَّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ ألف سنة، حتى يقضى بَيْنَ الْعِبَادِ فَيَرَى سَبِيلَهُ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ وَإِمَّا إِلَى النَّارِ» .
«1063» وَرَوَيْنَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوِّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ- يَعْنِي: شِدْقَيْهِ- ثُمَّ يَقُولُ:
أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ» ، ثُمَّ تَلَا: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ الْآيَةَ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَالٍ زَادَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلاف درهم فهو كنز
__________
1062- حديث صحيح، رجاله رجال مسلم، لكن سويد بن سعيد ضعفه غير واحد، وقد توبع هو ومن دونه.
وهو في «شرح السنة» 1556 بهذا الإسناد.
وفي «صحيح مسلم» 987 عن سويد بن سعيد به.
وأخرجه البيهقي (4/ 119 و137 و183) و (7/ 3) من طريق زيد بن أسلم به.
وأخرجه مسلم 987 ح 96 وأبو داود 1658 و1659 وعبد الرزاق 6858 وأحمد (2/ 262 و276 و383) وابن خزيمة 2252 وابن حبان 3253 والبيهقي (4/ 81) من طرق عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عن أبي صالح به.
وأخرجه النسائي (5/ 12، 13) من طريق أبي عمرو الغداني عن أبي هريرة به.
1063- تقدم في سورة آل عمران آية: 180.
(1) في المخطوط «المأكلة» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) تصحف في المخطوط إلى «الغفار» .
(4) في المطبوع «برردت» والتصويب عن المخطوط و «صحيح مسلم» .(2/342)
أَدَّيْتَ مِنْهُ الزَّكَاةَ أَوْ لَمْ تُؤَدِّ، وَمَا دُونَهَا نَفَقَةٌ. وَقِيلَ: مَا فَضُلَ عَنِ الْحَاجَةِ فَهُوَ كَنْزٌ.
«1064» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا وَكِيعٌ ثَنَا الْأَعْمَشُ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ:
انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: «هُمُ الْأَخْسَرُونَ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ» ، قَالَ: فَجِئْتُ حَتَّى جَلَسْتُ فَلَمْ أَتَقَارَّ [1] أَنْ قُمْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي مَنْ هُمْ؟
قَالَ: «هُمُ الْأَكْثَرُونَ أَمْوَالًا إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا [وَهَكَذَا] [2] مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ» .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ تَرَكَ بَيْضَاءَ أَوْ حَمْرَاءَ كُوِيَ بِهَا [3] يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
«1065» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: مَاتَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«كَيَّةٌ» ، ثُمَّ تُوُفِّيَ آخَرُ فَوُجِدَ فِي مِئْزَرِهِ دِينَارَانِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَيَّتَانِ» .
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ أن الآية [نزلت] [4] فِي مَنْعِ الزَّكَاةِ لَا فِي جَمْعِ الْمَالِ الْحَلَالِ.
«1066» قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ المال الصالح للرجل الصالح» .
__________
1064- إسناده صحيح على شرط مسلم.
وكيع هو ابن الجراح، الأعمش هو سليمان بن مهران.
وهو في «صحيح مُسْلِمٌ» 990 عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي شيبة بهذا الإسناد.
وأخرجه النسائي (5/ 29) وابن ماجه 1785 وابن خزيمة 2251 وأحمد (5/ 157، 158) والبيهقي (4/ 97) من طرق عن وكيع به.
1065- جيد. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 1078 وأحمد (5/ 252 و253 و258) والطبري 16680 والطبراني 7573 و7574 من حديث أبي أمامة، وفيه شهر بن حوشب، وحديثه حسن في الشواهد.
وقال الهيثمي في «المجمع» (10/ 239، 240) : رواه أحمد بأسانيد، ورجال بعضها رجال الصحيح غير شهر بن حوشب، وقد وثق اه.
قلت: فسره معمر في رواية عبد الرزاق حيث قال: كانوا يأكلون عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فما بالهم يرفعون شيئا اه.
وله شاهد حسن من حديث ابن مسعود أخرجه أبو يعلى 5037 والبزار 3652 وصححه ابن حبان 3263.
وإسناده حسن لأجل عاصم بن بهدلة.
وله شاهد آخر من حديث سلمة بن الأكوع أخرجه ابن حبان 3264 وصحح إسناده الشيخ شعيب في «الإحسان» .
وله شواهد أخرى تقويه انظر «المجمع» (10/ 239، 240) وقد فسر معمر بن راشد رحمه الله هذا الحديث وبيّن معناه، والله الموفق.
1066- جيد. أخرجه أحمد (4/ 197 و202) والبخاري في «الأدب المفرد» 299 والحاكم (2/ 2 و236) وابن حبان 3210 و3211 والقضاعي 1315 والبغوي في «شرح السنة» 2489 من طرق عن موسى بن عليّ عن أبيه أنه سمع عمرو بن العاص ... فذكره.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
(1) أي لم يمكنني القرار.
(2) زيادة عن المخطوط و «صحيح مسلم» .
(3) في المطبوع «به» . [.....]
(4) زيادة عن المخطوط.(2/343)
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
«1067» وَرَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا: مَا يستطيع أحد منّا يَدَعَ لِوَلَدِهِ شَيْئًا، فَذَكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَفْرِضِ الزَّكَاةَ إِلَّا لِيُطَيِّبَ بِهَا مَا بَقِيَ من أموالكم» .
وسئل عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللَّهُ طُهْرًا لِلْأَمْوَالِ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: مَا أُبَالِي لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذهبا أعلم عدده فأزكيه وَأَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قيل: لم قال: وَلا يُنْفِقُونَها، وَلَمْ يَقُلْ: وَلَا يُنْفِقُونَهُمَا، وَقَدْ ذَكَرَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ جَمِيعًا؟ قِيلَ: أَرَادَ الْكُنُوزَ وَأَعْيَانَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. وَقِيلَ: رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى الْفِضَّةِ لِأَنَّهَا أَعَمُّ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ [الْبَقَرَةِ: 45] ، رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى الصَّلَاةِ لأنها أعم كقوله تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الْجُمُعَةِ: 11] ، رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا أَعَمُّ، فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، أَيْ: أَنْذِرْهُمْ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 35 الى 36]
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ، أَيْ: تُدْخَلُ النَّارُ فَيُوقَدُ عليها، يعني الْكُنُوزِ، فَتُكْوى بِها، فَتُحْرَقُ بِهَا، جِباهُهُمْ، أَيْ: جِبَاهُ كَانِزِيهَا، وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِنَّهُ لَا يُوضَعُ دِينَارٌ عَلَى دِينَارٍ وَلَا دِرْهَمٌ عَلَى دِرْهَمٍ وَلَكِنْ يُوَسَّعُ جِلْدُهُ حَتَّى يُوضَعَ كُلُّ دِينَارٍ وَدِرْهَمٍ فِي موضع على حدته [1] . وَسُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: لِمَ خَصَّ الْجِبَاهَ وَالْجَنُوبَ وَالظُّهُورَ بِالْكَيِّ؟ قَالَ: لِأَنَّ الْغَنِيَّ صَاحِبَ الْكَنْزِ إذا رأى الفقير قبض جبهته، وذوى [2] ما بين عينيه وولاه [جنبيه فإذا رآه أتى إليه من جنبه ولاه] [3] ظهره وأعرض عنه بكشحه [4] ، [فهو قوله: فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ الآية] [5] . قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا مَا كَنَزْتُمْ، أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ، لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ، أَيْ: تَمْنَعُونَ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَمْوَالِكُمْ. وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هِيَ عَامَّةٌ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُسْلِمِينَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
__________
1067- حسن. أخرجه أبو داود 1664 والبيهقي (4/ 83) وابن كثير في «تفسيره» (3/ 390) من طريق غيلان بن جامع عن جعفر بن إياس عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ به.
وأخرجه أبو يعلى 2499 والحاكم (2/ 333) من طريق غيلان عن عثمان أبي اليقظان عن جعفر بن إياس عن مجاهد به.
وصححه الحاكم وقال الذهبي: عثمان لا أعرفه، والخبر عجيب اه.
قلت: للحديث شواهد وطرق، انظر تفصيل ذلك في «أحكام القرآن» 1112 بتخريجي، ولله الحمد والمنة.
(1) في المطبوع «حدة» .
(2) في المطبوع «روى» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المخطوط «بشحه» وفي المطبوع «كشحه» .
(5) زيادة عن المخطوط.(2/344)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ، أَيْ: عَدَدَ الشُّهُورِ، عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ، وَهِيَ الْمُحَرَّمُ وَصَفْرٌ وَرَبِيعٌ الأول وربيع الثاني وجمادى الأول، وجمادى الآخرة ورجب وشعبان، ورمضان وَشَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ. وَقَوْلُهُ: فِي كِتابِ اللَّهِ، أَيْ: في حكم [كتاب] [1] اللَّهِ. وَقِيلَ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ اثْنَا عَشْرَ وتسعة عشر وإحدى عشر بسكون العين، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِفَتْحِهَا، يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الشُّهُورُ الْهِلَالِيَّةُ وَهِيَ الشُّهُورُ الَّتِي يَعْتَدُّ بِهَا الْمُسْلِمُونَ فِي صِيَامِهِمْ وَحَجِّهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ وَسَائِرِ أُمُورِهِمْ، وَبِالشُّهُورِ الشَّمْسِيَّةِ تَكُونُ السَّنَةُ ثَلَاثَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَسِتِّينَ يَوْمًا وَرُبْعَ يَوْمٍ، وَالْهِلَالِيَّةُ تَنْقُصُ عن ثلاث مائة وَسِتِّينَ يَوْمًا بِنُقْصَانِ الْأَهِلَّةِ. وَالْغَالِبُ أنها تكون ثلاثمائة يوم وَأَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ يَوْمًا، مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، [أي] : من الشهور [الاثني عشر] [2] أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ وَهِيَ:
رَجَبٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَاحِدٌ فَرْدٌ وَثَلَاثَةٌ سَرْدٌ، ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، أَيِ: الْحِسَابُ الْمُسْتَقِيمُ، فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، قِيلَ: قَوْلُهُ: فِيهِنَّ يَنْصَرِفُ إِلَى جَمِيعِ شُهُورِ السَّنَةِ، أَيْ: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنفسكم بفعل المعصية وَتَرْكِ الطَّاعَةِ. وَقِيلَ: فِيهِنَّ، أَيْ: فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. قَالَ قَتَادَةُ:
الْعَمَلُ الصَّالِحُ أَعْظَمُ أَجْرًا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالظُّلْمُ فِيهِنَّ أَعْظَمُ مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهُنَّ، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمًا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ يُرِيدُ اسْتِحْلَالَ الْحَرَامِ وَالْغَارَةَ فِيهِنَّ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: لَا تَجْعَلُوا حَلَالَهَا حَرَامًا وَلَا حَرَامَهَا حَلَالًا كَفِعْلِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَهُوَ النَّسِيءُ، وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، جَمِيعًا عَامَّةً، كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ. فَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ كَبِيرًا ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، كَأَنَّهُ يَقُولُ فِيهِنَّ وفي غيرهم. وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَقَالُوا: إِنَّ [3] النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا هَوَازِنَ بِحُنَيْنٍ وَثَقِيفًا بِالطَّائِفِ وَحَاصَرَهُمْ فِي شَوَّالٍ وَبَعْضِ ذِي القعدة. وقال الآخرون: إِنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: حَلَفَ بِاللَّهِ عَطَاءُ بْنُ أبي رياح: ما يحل للناس أن يغزو فِي الْحَرَمِ وَلَا فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ إِلَّا أَنْ يُقَاتَلُوا فِيهَا، وما نسخت.
[سورة التوبة (9) : آية 37]
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)
قوله تعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ، قِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ كَالسَّعِيرِ وَالْحَرِيقِ، وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ كَالْجَرِيحِ وَالْقَتِيلِ، وَهُوَ مِنَ التَّأْخِيرِ. وَمِنْهُ النَّسِيئَةُ فِي الْبَيْعِ، يُقَالُ: أَنْسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِهِ [ونسأ فِي أَجَلِهِ] [4] أَيْ أَخَّرَ، وَهُوَ مَمْدُودٌ مَهْمُوزٌ عِنْدَ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ، وَقَرَأَ وَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ مِنْ طَرِيقِ الْبُخَارِيِّ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ مِنْ غير همز، فقد قيل: أصله الهمز [5] فَخُفِّفَ. وَقِيلَ: هُوَ مِنَ النِّسْيَانِ عَلَى مَعْنَى الْمَنْسِيِّ أَيِ الْمَتْرُوكِ. وَمَعْنَى النَّسِيءِ هُوَ تَأْخِيرُ تَحْرِيمِ شَهْرٍ إِلَى شَهْرٍ آخَرَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَعْتَقِدُ تَعْظِيمَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا تَمَسَّكَتْ بِهِ مِنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَتْ عَامَّةُ مَعَايِشِهِمْ مِنَ الصَّيْدِ وَالْغَارَةِ فَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمُ الْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ عَلَى التَّوَالِي، وَرُبَّمَا وَقَعَتْ لَهُمْ حَرْبٌ فِي بَعْضِ الْأَشْهُرِ الحرم فيكرهون تأخير حربهم فنسؤوا، أَيْ: أَخَّرُوا تَحْرِيمَ ذَلِكَ الشَّهْرِ إِلَى شَهْرٍ آخَرَ، وَكَانُوا يُؤَخِّرُونَ تحريم
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «لأنه» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «الهمزة» والمثبت عن المخطوط.(2/345)
الْمُحَرَّمِ إِلَى صَفَرَ فَيُحَرِّمُونَ صَفَرَ وَيَسْتَحِلُّونَ الْمُحَرَّمَ، فَإِذَا احْتَاجُوا إِلَى تَأْخِيرِ تَحْرِيمِ صَفَرَ أَخَّرُوهُ إِلَى ربيع وهكذا شَهْرًا بَعْدَ شَهْرٍ حَتَّى اسْتَدَارَ التَّحْرِيمُ عَلَى السَّنَةِ كُلِّهَا. فَقَامَ الْإِسْلَامُ وَقَدْ رَجَعَ الْمُحَرَّمُ إِلَى مَوْضِعِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ وَذَلِكَ بَعْدَ دَهْرٍ طَوِيلٍ، فَخَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم في حجّته، وبين ذلك كَمَا:
«1068» أَخْبَرْنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بن يوسف الفربري ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ ثنا محمد بن سلام ثنا عبد الوهّاب ثنا أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَيْرَيْنَ [عن ابن أبي بكرة] [1] . عَنْ أَبِي بَكْرَةَ:
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يوم خلق السموات وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقِعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» . وَقَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا» ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ ذُو الْحِجَّةِ؟» قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا» ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ الْبَلَدُ الْحَرَامُ» ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا» ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمُ النَّحْرِ» ؟ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ» ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وأحسبه قَالَ: «وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلَا فَلَا ترجعوا بعد ضُلَّالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أوعى له من بعض ما سَمِعَهُ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ» ؟
قَالُوا: وَكَانَ قَدِ اسْتَمَرَّ النَّسِيءُ بِهِمْ فَكَانُوا رُبَّمَا يَحُجُّونَ فِي بَعْضِ السِّنِينَ فِي شَهْرٍ، وَيَحُجُّونَ مَنْ قَابَلٍ فِي شَهْرٍ آخَرَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يَحُجُّونَ فِي كُلِّ شَهْرٍ عَامَيْنِ، فَحَجُّوا فِي شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ عَامَيْنِ ثُمَّ حَجُّوا فِي الْمُحَرَّمِ عَامَيْنِ، ثُمَّ حَجُّوا فِي صَفَرَ عامين، وكذلك في الشهور [الباقية] [2] ، فَوَافَقَتْ [حَجَّةُ] [3] أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ السنة الثامنة [4] مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، ثُمَّ حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، فَوَافَقَ حَجُّهُ [5] شَهْرَ الْحَجِّ الْمَشْرُوعِ وَهُوَ ذُو الْحِجَّةِ، فَوَقَفَ بِعَرَفَةَ اليوم التَّاسِعِ وَخَطْبَ الْيَوْمَ الْعَاشِرَ بِمِنًى، وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ أَشْهُرَ النَّسِيءِ قَدْ تَنَاسَخَتْ بِاسْتِدَارَةِ الزَّمَانِ، وَعَادَ الْأَمْرُ إِلَى مَا وَضَعَ اللَّهُ عَلَيْهِ الحساب [من] [6] الأشهر الحرم يَوْمَ خَلْقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَتَبَدَّلَ في
__________
1068- إسناده صحيح على شرط البخاري، فقد تفرد عن محمد بن سلام.
عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ، أيوب بن أبي تميمة، ابن أبي بكرة هو عبد الرحمن.
وهو في «شرح السنة» 1958 بهذا الإسناد.
وفي «صحيح البخاري» 5550 عن محمد بن سلام به.
وأخرجه ابن حبان 5974 من طريق عبد الوهّاب به.
وأخرجه البخاري 1741 و4406 و7078 ومسلم 1679 وأبو داود 1948 وابن ماجه 233 وأحمد (5/ 37 و39 و49) وابن حبان 3848 و5973 وابن خزيمة 2952 والبيهقي (5/ 140 و165، 166) من طرق عن ابن سيرين به.
(1) زيادة عن كتب الحديث. [.....]
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «الثانية» والمثبت عن المخطوط.
(5) في المطبوع «حجة» .
(6) في المطبوع «حساب الأشهر» والمثبت عن المخطوط.(2/346)
مُسْتَأْنَفِ الْأَيَّامِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَوَّلِ مَنْ نَسَأَ النَّسِيءَ.
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: أَوَّلُ مَنْ نَسَأَ النَّسِيءَ بَنُو مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ وَكَانُوا ثَلَاثَةً: أَبُو ثمامة [1] جنادة بْنُ عَوْفِ بْنِ أُمَيَّةَ الْكِنَانِيُّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ بَنِيَ كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ نُعَيْمُ بْنُ ثَعْلَبةَ، وكان يقوم أَمِيرًا عَلَى النَّاسِ بِالْمَوْسِمِ فَإِذَا هَمَّ النَّاسُ بِالصَّدَرِ قَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: لَا مَرَدَّ لِمَا قَضَيْتُ أَنَا الَّذِي لَا أُعَابُ وَلَا أُجَابُ، فَيَقُولُ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: لَبَّيْكَ، ثُمَّ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُنْسِأَهُمْ شَهْرًا يُغِيرُونَ فِيهِ، فَيَقُولُ فَإِنَّ صَفَرَ الْعَامَ حَرَامٌ فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ حَلُّوا الْأَوْتَارَ وَنَزَعُوا الْأَسِنَّةَ وَالْأَزِجَّةَ، وَإِنْ قَالَ حَلَالٌ عَقَدُوا الْأَوْتَارَ وَشَدُّوا الْأَزِجَّةَ وَأَغَارُوا. وَكَانَ من بعدهم [2] نُعَيْمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جَنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ، وَهُوَ الَّذِي أَدْرَكَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُوَ رجل من كِنَانَةَ يُقَالُ لَهُ الْقَلَمَّسُ.
قَالَ شاعرهم:
«وفينا ناسىء الشَّهْرِ الْقَلَمَّسُ» وَكَانُوا لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِلَّا فِي ذِي الْحِجَّةِ إِذَا اجْتَمَعَتِ الْعَرَبُ لِلْمَوْسِمِ.
وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ سَنَّ النَّسِيءَ عَمْرُو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ خِنْدِفٍ.
«1069» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ثنا جَرِيرٌ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ عَمْرَو بْنَ لُحَيِّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ خِنْدِفٍ أَبَا بَنِي كَعْبٍ، وَهُوَ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ» .
فَهَذَا الَّذِي ذَكَرَنَا هُوَ النَّسِيءُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَقَالَ: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ، يُرِيدُ زِيَادَةَ كُفْرٍ عَلَى كُفْرِهِمْ، يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: «يُضَلُّ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الضَّادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ [التوبة: 37] ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ عَلَى مَعْنَى يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا النَّاسَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الضَّادِ لِأَنَّهُمْ هُمُ الضَّالُّونَ لِقَوْلِهِ: يُحِلُّونَهُ، يَعْنِي: النَّسِيءَ، عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا، أَيْ:
لِيُوَافِقُوا، وَالْمُوَاطَأَةُ الْمُوَافَقَةُ، عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ لَمْ يُحِلُّوا شَهْرًا مِنَ الْحَرَامِ إِلَّا حَرَّمُوا مَكَانَهُ شَهْرًا مِنَ الْحَلَالِ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا شَهْرًا مِنَ الْحَلَالِ إِلَّا أَحَلُّوا مَكَانَهُ شَهْرًا من الحرام، لئلا يكون الحرم أكثر من
__________
1069- إسناده صحيح على شرط مسلم لأجل سهيل، وباقي الإسناد على شرطهما.
جرير هو ابن عبد الحميد، سهيل هو ابن ذكوان أبي صالح.
وهو في «صحيح مسلم» 2856 ح 50 عن زهير بن حرب بهذا الإسناد.
وأخرجه ابن أبي عاصم في «الأوائل» 83 والطبري 12820 من طريقين عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عن أبي صالح به.
وانظر ما تقدم في سورة المائدة رقم 846 و847.
(1) في المطبوع «أبو تمام» والمثبت عن المخطوط.
(2) في المطبوع «بعد» والمثبت عن المخطوط.(2/347)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ فيكون الموافقة في الْعَدَدِ، فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 40]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي الْحَثِّ عَلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الطَّائِفِ أُمِرَ بِالْجِهَادِ لِغَزْوَةِ الرُّومِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَانِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ وَشِدَّةٍ مِنَ الْحَرِّ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلَالُ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَاوِزَ هَائِلَةً وَعَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ ولم يورها بغيرها لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ عَدوِّهُمْ، فَشَقَّ عَلَيْهِمُ الْخُرُوجُ وَتَثَاقَلُوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى [1] : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ أَيْ: قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم: انْفِرُوا اخْرُجُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ [أي: تثاقلتم وتباطأتم إِلَى الْأَرْضِ] [2] ، أَيْ: لَزِمْتُمْ أَرْضَكُمْ وَمَسَاكِنَكُمْ، أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ، أَيْ: بِخَفْضِ الدُّنْيَا وَدِعَتِهَا مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ، ثُمَّ أَوعَدَهُمْ عَلَى تَرْكِ الْجِهَادِ. فَقَالَ تَعَالَى: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً، فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: هُوَ احْتِبَاسُ الْمَطَرِ [3] عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا.
«1070» وَسَأَلَ نَجْدَةُ بْنُ نُفَيْعٍ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْفَرَ حَيًّا مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَتَثَاقَلُوا عليه فأمسك [الله] [4] عَنْهُمُ الْمَطَرُ، فَكَانَ ذَلِكَ عَذَابَهُمْ.
وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ خَيْرًا مِنْكُمْ وَأُطَوَعَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمْ أَبْنَاءُ فَارِسَ. وَقِيلَ: هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً، بِتَرْكِكُمُ النَّفِيرَ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ، هَذَا إِعْلَامٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ الْمُتَكَفِّلُ بنصر رسوله
__________
1070- باطل، أخرجه الحاكم (2/ 118) والطبري 16736 والبيهقي (9/ 48) من رواية عبد المؤمن عن نجدة بن نفيع عن ابن عباس، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي! ومداره على نجدة، وهو مجهول، والمتن باطل، إذ لم يحصل ذلك، ثم إن العذاب الأليم ليس بحبس المطر، لأنهم يمكنهم الانتقال إلى موضع آخر، والمراد عذاب النار كما هو القول المتقدم.
(1) انظر «أسباب النزول» للواحدي 502 وقد ورد هذا الخبر عند الطبري 16735 عن مجاهد مرسلا بنحوه، وعند ابن سعد في الطبقات (2/ 126) عن حديث كعب بن مالك.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «القطر» .
(4) زيادة عن المخطوط.(2/348)
وَإِعْزَازِ دِينِهِ، أَعَانُوهُ أَوْ لَمْ يُعِينُوهُ وَأَنَّهُ قَدْ نَصَرَهُ عِنْدَ قِلَّةِ الْأَوْلِيَاءِ وَكَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ، فَكَيْفَ بِهِ الْيَوْمَ وَهُوَ فِي كَثْرَةٍ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ، إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا، مِنْ مَكَّةَ حِينَ مكروا به وأرادوا تبييته وَهَمُّوا بِقَتْلِهِ، ثانِيَ اثْنَيْنِ، أَيْ: هُوَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ، وَالِاثْنَانِ أَحَدُهُمَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْآخَرُ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِذْ هُما فِي الْغارِ، وَهُوَ نَقْبٌ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ بِمَكَّةَ، إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، قَالَ الشَّعْبِيُّ: عَاتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَهْلَ الْأَرْضِ جَمِيعًا فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
«1071» أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ أحمد التميمي أنبأنا [أَبُو] مُحَمَّدٍ [1] عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ أَنْبَأَنَا خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ ثنا عبد الله بن أحمد الدورقي ثنا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمٍ عَنْ كَثِيرٍ النَّوَّاءِ عَنْ جُمَيْعِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: أَتَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «أَنْتَ صَاحِبِي فِي الْغَارِ وَصَاحِبِي عَلَى الْحَوْضِ» .
قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: مَنْ قَالَ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ كَافِرٌ لِإِنْكَارِهِ نَصَّ الْقُرْآنِ. وَفِي سَائِرِ الصَّحَابَةِ إِذَا أَنْكَرَ يَكُونُ مبتدعا لا كَافِرًا. وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا، لَمْ يَكُنْ حُزْنُ أَبِي بَكْرٍ جُبْنًا مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ إِشْفَاقًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ: إِنْ أُقْتَلُ فَأَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَإِنْ قُتِلْتَ هَلَكَتِ الْأُمَّةُ.
«1072» وَرُوِيَ أَنَّهُ حِينَ انْطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَارِ، جَعَلَ يَمْشِي سَاعَةً بَيْنَ يَدَيْهِ وَسَاعَةً خَلْفَهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا لك يَا أَبَا بَكْرٍ» ؟ قَالَ: أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ، ثُمَّ أَذْكُرُ الرَّصْدَ فَأَمْشِي بَيْنَ يَدَيْك، فَلَّمَا انْتَهَيَا إِلَى الْغَارِ قَالَ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى أسْتَبْرِئَ الْغَارَ، فَدَخَلَ فَاسْتَبْرَأَهُ ثُمَّ قَالَ: انْزِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَزَلَ فَقَالَ عُمَرُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لتلك الليلة خير من عمر، ومن آلِ عُمَرَ.
«1073» أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ التميمي أَنَا [أَبُو] مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ الْمَعْرُوفُ بِابْنِ أَبِي النصر [2] ، أنا
__________
1071- إسناده ضعيف لضعف كثير النواء.
كثير هو ابن إسماعيل.
وهو في «شرح السنة» 3765.
وأخرجه الترمذي 3670 من وجه آخر عن كثير أبي إسماعيل به. وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب اه.
وأخرجه ابن عدي (3/ 256) من حديث ابن عباس، وأعله بسليمان بن حزم الضبي، وهو ضعيف، وهو في ضعيف الترمذي 756 وضعيف الجامع 1327. [.....]
1072- أخرجه البيهقي في «الدلائل» (2/ 276) عن محمد بن سيرين مرسلا. والمرسل من قسم الضعيف.
1073- حديث صحيح، أبو قلابة صدوق يخطىء، لكن توبع هو ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
أبو قلابة هو عبد الملك بن محمد، ثابت هو ابن أسلم.
وهو في «الأنوار» 56 بهذا الإسناد، وقرن مع «حبان» : «عفان بن مسلم» .
وأخرجه البخاري 4663 ومسلم 2381 وأبو يعلى 67 من طريق حبان بن هلال به.
وأخرجه الترمذي 3096 وابن أبي شيبة (12/ 7) وأحمد (1/ 4) وابن سعد (3/ 173، 174) وأبو يعلى 66 والطبري 16 وابن حبان 6278 وأبو بكر المروزي في «مسند أبي بكر» 72 والبيهقي في «الدلائل» (2/ 480) من طرق عن عفان بن
(1) في الأصل «محمد بن عبد الرحمن» وهو تصحيف.
(2) في المخطوط «المعروف بأبي نضر» وفي ط «ابن أبي النظر» .(2/349)
خيثمة بن سليمان ثَنَا أَبُو قِلَابَةَ الرَّقَاشِيُّ ثَنَا حبان بن هلال ثنا همام بن يحيى ثنا ثابت البناني ثنا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُمْ، قَالَ:
نَظَرْتُ إِلَى أَقْدَامِ الْمُشْرِكِينَ فَوْقَ رُؤُوسِنَا وَنَحْنُ فِي الْغَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنٍ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» .
«1074» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أحمد الْمُلَيْحِيُّ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عَقِيلٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ:
لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَفَيِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا، فَلِمَا ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجرا نحو أرض الحبشة، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة، فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، قال ابن الدغنة: فإن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يخرج، إنك تكسب المعدم وتصل الرحم وتحمل الكلّ وَتُقِرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، فرجع وارتحل معه ابن الدغنة فطاف ابن الدغنة عشية في أشراف قريش، فقال: إن أبا بكر لا يخرج مثله ولا يخرج، أتخرجون رجلا يكسب المعدم ويصل الرحم، ويحمل الكلّ ويقري الضيف ويعين على نوائب الحق، فلم تكذّب قريش بجوار ابن الدغنة، وقالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربّه في داره فليصلّ فيها وليقرأ ما شاء ولا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير داره ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجدا بفناء داره، وكان يصلّي فيه ويقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين وأبناؤهم يعجبون منه وينظرون إليه، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه رجلا بكاء لا يملك عينيه إذا قرأ القرآن، فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين، فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم، فقالوا: إنّا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربّه في داره، فقد جاوز ذلك فابتنى مسجدا بفناء داره فأعلن الصلاة والقراءة فيه، وإنا خشينا أن يفتن نساءنا وأبناءنا فانهه فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربّه في داره فعل، وإن أبى إلّا
__________
مسلم به.
وأخرجه البخاري 2653 و3922 وأبو بكر المروزي 71 والبيهقي (2/ 480، 481) من طرق عن همام بن يحيى به.
1074- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
الليث هو ابن سعد، عقيل هو ابن خالد، ابن شهاب هو محمد بن مسلم.
وهو في «شرح السنة» 3657 بهذا الإسناد.
وفي «صحيح البخاري» 3905 عن يحيى بن بكير به.
وأخرجه البيهقي في «الدلائل» (2/ 471، 475) من طريق الليث به.
والحديث ورد منجّما في مواضع فخبر دخول أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في جوار ابن الدغنة أخرجه البخاري 2297 عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ بِهَذَا الإسناد.
وخبر أسماء ذات النطاق أخرجه البخاري 5807 من طريق الزهري به.
وخبر سراقة بن مالك أخرجه البخاري 3906 وأحمد (4/ 175، 176) وعبد الرزاق 9743 وابن حبان 628 والبيهقي في «الدلائل» (2/ 485، 487) من طرق عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سراقة.(2/350)
أن يعلن بذلك فسله أن يردّ إليك ذمّتك، فإنا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان.
قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر فقال: قد علمت الذي عاقدت لك عليه فإما أن تقتصر على ذلك وإما أن ترجع إليّ ذمتي فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له، فقال أبو بكر: فإني أراد إليك جوارك وأرضى بجوار الله عزّ وجلّ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ بمكة.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم للمسلمين: «إني رأيت دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَّتَيْنِ وَهُمَا الْحَرَّتَانِ» ، فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ وَرَجَعَ عَامَّةُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِبَلَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَهَلْ تَرْجُو بذلك بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: «نَعَمْ» ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْحَبهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ، وَهُوَ الْخَبْطُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَبَيْنَمَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، قَالَ قَائِلٌ لِأَبِي بَكْرٍ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَقَنِّعًا فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا، فقال أبو بكر: فدى لَهُ أَبِي وَأُمِّي وَاللَّهِ مَا جَاءَ بِهِ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا أَمْرٌ، قَالَتْ: فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ فَدَخَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْرٍ: «أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا هُمْ أَهْلُكَ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنِّي قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ» ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةُ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَعَمْ» ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَخُذْ بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَيَّ هَاتَيْنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم: «بِالثَّمَنِ» ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَجَهَّزْنَاهُمَا أَحَثَّ الْجِهَازِ وَصَنَعْنَا لَهُمَا سُفْرَةً فِي جِرَابٍ فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا فَرَبَطَتْ بِهِ عَلَى فَمِ الْجِرَابِ، فَبِذَلِكَ سُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، قَالَتْ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ فَمَكَثَا فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ يَبِيتُ عِنْدَهُمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ لَقِنٌ، فَيُدْلِجُ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كبائت فلا يسمع أمرا يكتادان بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ [1] الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غنم فيريحها عليهما حين يذهب سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفُهُمَا حَتَّى يَنْعِقَ بِهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، وَاسْتَأْجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مِنْ بَنِي الدِّيلِ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عُدَيٍّ هَادِيًا خِرِّيتًا،- وَالْخِرِّيتُ: الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ- قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ العاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَهُوَ عَلَى دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، فَأَمِنَاهُ فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِرَاحِلَتَيْهِمَا صُبْحَ ثَلَاثٍ، وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ فَأَخَذَ بهم [2] طَرِيقِ السَّوَاحِلِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ وَهُوَ ابْنُ أَخِي سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ يَقُولُ: جَاءَنَا رُسُلُ كُفَّارِ قُرَيْشٍ يَجْعَلُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَنْ قَتَلَهُ أَوْ أَسَرَهُ فَبَيْنَمَا أَنَا جَالَسٌ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ قَوْمِي بَنِي مُدْلِجٍ [إذا] [3] أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى قَامَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ جُلُوسٌ، فَقَالَ: يَا سراقة إني قد
__________
(1) في المطبوع «يختط» والمثبت عن المخطوط.
(2) زيد في المطبوع «على» والتصويب عن المخطوط و «صحيح البخاري» .
(3) زيادة عن المخطوط و «صحيح البخاري» .(2/351)
رَأَيْتُ آنِفًا أَسْوِدَةً بِالسَّاحِلِ أَرَاهَا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، [قَالَ سُرَاقَةُ: فَعَرَفَتُ أَنَّهُمْ هُمْ] [1] ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِهِمْ وَلَكِنَّكَ رَأَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا انْطَلَقُوا بِأَعْيُنِنَا، ثُمَّ لَبِثْتُ فِي الْمَجْلِسِ سَاعَةً ثُمَّ قُمْتُ فدخلت فَأَمَرْتُ جَارِيَتِي أَنْ تَخْرُجَ بِفَرَسِي وَهِيَ مِنْ وَرَاءِ أَكَمَةٍ فَتَحْبِسَهَا عَلَيَّ وَأَخَذَتُ رُمْحِي فَخَرَجْتُ بِهِ من ظهر البيت، فحططت بِزُجِّهِ الْأَرْضَ وَخَفَّضْتُ عَالِيَهُ حَتَّى أَتَيْتُ فَرَسِي فَرَكِبْتُهَا فَدَفَعْتُهَا تُقَرِّبُ بِي حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُمْ فَعَثَرَتْ بِي فَرَسِي فَخَرَرْتُ عَنْهَا فَقُمْتُ، فَأَهْوَيْتُ يَدِي إِلَى كِنَانَتِي فَاسْتَخْرَجْتُ منها الأزلام فاستسقمت بِهَا أَضُرُّهُمْ أَمْ لَا، فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهَ، فَرَكِبْتُ فَرَسِي وَعَصَيْتُ الْأَزْلَامَ تَقْرُبُ بِي حَتَّى إِذَا سَمِعَتُ قِرَاءَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ لَا يلتفت وأبو بكر رضي الله عنه يكثر الالتفات ساخت [2] يَدَا فَرَسِي فِي الْأَرْضِ حَتَّى بَلَغَتَا الرُّكْبَتَيْنِ، فَخَرَرْتُ عَنْهَا ثُمَّ زَجَرْتُهَا فَنَهَضَتْ، فَلَمْ تَكَدْ تُخْرِجُ يَدَيْهَا فَلَمَّا اسْتَوَتْ قَائِمَةً إِذَا [لأثر يديها عثان] [3] سَاطِعٌ فِي السَّمَاءِ مِثْلُ الدُّخَّانِ فَاسْتَقْسَمْتُ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ الَّذِي أَكْرَهَ، فَنَادَيْتُهُمْ بِالْأَمَانِ فَوَقَفُوا فَرَكِبْتُ فَرَسِي حَتَّى جِئْتُهُمْ، وَوَقَعَ فِي نَفْسِي حِينَ لَقِيَتُ مَا لَقِيَتُ مِنَ الْحَبْسِ عَنْهُمْ أَنْ سَيَظْهَرُ أَمْرُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَلَتْ لَهُ: إِنَّ قَوْمَكَ قَدْ جَعَلُوا فِيكَ الدِّيَةَ وَأَخْبَرْتُهُمْ خَبَرَ مَا يُرِيدُ النَّاسُ بِهِمْ وَعَرَضْتُ عَلَيْهِمُ الزَّادَ وَالْمَتَاعَ، فَلَمَّ يَرْزُآنِي وَلَمْ يَسْأَلَانِي شَيْئًا إِلَّا أَنْ قال [4] : «أَخْفِ عَنَّا» ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَكْتُبَ لِي كِتَابَ أَمْنٍ فَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ فَكَتَبَ فِي رُقْعَةٍ مِنْ أَدَمٍ ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقِيَ الزُّبَيْرَ فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّامِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ ثيابا بَيَاضٍ، وَسَمِعَ الْمُسْلِمُونَ بِالْمَدِينَةِ بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ فَكَانُوا يَغْدُونَ كل غداة إلى الحرّة فينظرونه حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الظَّهِيرَةِ، فَانْقَلَبُوا يوما بعد ما أَطَالُوا انْتِظَارَهُمْ، فَلَمَّا أَوَوْا إِلَى بُيُوتِهِمْ أَوْفَى رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى أُطْمٍ مِنْ آطَامِهِمْ لِأَمْرٍ يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَبَصَرَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ مُبْيَضِّيْنَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ:
يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ، فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ، فَتَلَقُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ فَعَدِلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ وَجَلَسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامِتًا، فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم يحيّ أَبَا بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ، فَلَبِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَأَسَّسَ الْمَسْجِدَ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، وَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَسَارَ يَمْشِي مَعَهُ النَّاسُ حَتَّى بَرَكَتْ عِنْدَ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مِرْبَدًا لِلتَّمْرِ لِسُهَيْلٍ وَسَهْلٍ غُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ: «هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْمَنْزِلُ» ، ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالَا: بَلْ نَهِبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا وَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ اللَّبِنَ فِي بُنْيَانِهِ وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقُلُ اللَّبِنَ:
هَذَا الْحِمَالُ لَا حِمَالُ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ رَبَّنَا وأَطْهَرْ
وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ والمهاجرة» ، فتمثل بشعر رجل من المسلمين لم
__________
(1) زيادة عن المخطوط و «صحيح البخاري» .
(2) في المطبوع «فساخت» والمثبت عن «صحيح البخاري» .
(3) في المطبوع «تربد بها غبار» والمثبت عن المخطوط و «صحيح البخاري» .
(4) في المطبوع «قالا» والمثبت عن المخطوط و «صحيح البخاري» .(2/352)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
يُسَمَّ لِي، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَمْ يَبْلُغْنَا فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ تَامٍّ غَيْرَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ.
«1075» قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ الْغَارَ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى زَوْجًا من حمام حتى باضت [1] فِي أَسْفَلِ النَّقْبِ وَالْعَنْكَبُوتَ حَتَّى نَسَجَتْ بَيْتًا، وَفِي الْقِصَّةِ أَنْبَتَ يَمَامَةً عَلَى فَمِ الْغَارِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ أَعْمِ أَبْصَارَهُمْ عَنَّا» ، فَجُعِلَ الطُّلَّبُ يَضْرِبُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا حَوْلَ الْغَارِ يَقُولُونَ: لَوْ دَخَلَا هَذَا الْغَارَ لَتَكَسَّرَ بَيْضُ الْحَمَامِ وَتَفَسَّخَ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ، قِيلَ: عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ مِنْ قَبْلُ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ نَزَلُوا يَصْرِفُونَ وَجُوهَ الكفار وأبصارهم عن رؤيته [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] ، وَقِيلَ: أَلْقَوُا الرُّعْبَ فِي قُلُوبِ الْكُفَّارِ حَتَّى رَجَعُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: أَعَانَهُ بِالْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ أَخْبَرَ أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ كَيْدَ الْأَعْدَاءِ فِي الْغَارِ ثُمَّ أَظْهَرَ نَصْرَهُ بِالْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، وَكَلِمَتُهُمُ الشِّرْكُ وَهِيَ السُّفْلَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، إِلَى يوم القيامة. ثم قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: كَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَا قَدَّرُوا بينهم في أنفسهم من [2] الْكَيْدِ بِهِ لِيَقْتُلُوهُ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ وَعْدُ اللَّهِ أَنَّهُ نَاصِرُهُ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: وَكَلِمَةُ اللَّهِ، بِنَصْبِ التَّاءِ على [أنها معطوفة على المفعول الأول لجعل، وهو كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا، والتقدير: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وجعل كلمة الله هي العليا، فكلمة الله معطوفة على المفعول الأول والعليا معطوفة على المفعول الثاني. وقرأ الباقون:
وَكَلِمَةُ اللَّهِ، بالرفع على الاستئناف، كأنه تمّ الكلام عند قوله: وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى، ثم ابتدأ فقال: وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا، على الابتداء والخبر، فكلمة الله مبتدأ والعليا خبره] [3] ، وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
[سورة التوبة (9) : آية 41]
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
قَوْلُهُ تَعَالَى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا، قَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: شُبَّانًا وَشُيُوخًا. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَشَاطًا وَغَيْرَ نَشَاطٍ. وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: رُكْبَانَا وَمُشَاةً. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ:
خِفَافًا مِنَ الْمَالِ، أَيْ: فُقَرَاءَ، وَثِقَالًا أَيْ: أَغْنِيَاءَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الثَّقِيلُ الَّذِي لَهُ الضَّيْعَةُ، فَهُوَ ثَقِيلٌ يَكْرَهُ أن يضيع ضَيْعَتَهُ، وَالْخَفِيفُ الَّذِي لَا ضَيْعَةَ لَهُ. وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خِفَافًا أَهْلُ الْمَيْسَرَةِ مِنَ المال
__________
1075- ذكره المصنف عن الزهري مرسلا بدون إسناد.
وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» (2/ 272) : أخرجه البزار من طريق عوف بن عمرو عن أبي مصعب المكي: سمعت أنس بن مالك وغيره: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم ليلة الغار أمر الله تعالى صخرة فثبتت فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فسترته، وأمر العنكبوت فنسجت في وجهه فسترته، وأمر حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار ... » الحديث.
وانظر «طبقات ابن سعد» (1/ 177) و «دلائل النبوة» لأبي نعيم 229 و «أحكام القرآن» 1129 حيث فصلت القول في خبر الغار والحمامتين.
وخلاصة القول: ذكر الحمامتين باطل، وذكر نسج العنكبوت واه. [.....]
(1) في المطبوع «باضتا» .
(2) في المخطوط «ما قدّروا في أنفسهم من الكيد» .
(3) ما بيني المعقوفتين سقط من المخطوط.(2/353)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
وَثِقَالًا أَهْلُ الْعَسْرَةِ. وَقِيلَ: خِفَافًا مِنَ السِّلَاحِ، أَيْ: مُقِلِّينَ مِنْهُ، وَثِقَالًا أَيْ: مُسْتَكْثِرِينَ مِنْهُ. وَقَالَ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: مَشَاغِيلُ وَغَيْرُ مشاغيل. وقال مرّة الهمداني: أَصِحَّاءُ وَمَرْضَى. وَقَالَ يَمَانُ بْنُ رَبَابٍ عُزَّابًا وَمُتَأَهِّلِينَ. وَقِيلَ: خِفَافًا مِنْ حَاشِيَتِكُمْ وَأَتْبَاعِكُمْ، وَثِقَالًا مُسْتَكْثِرِينَ بِهِمْ. وَقِيلَ: خِفَافًا مُسْرِعِينَ خَارِجِينَ سَاعَةَ سَمَاعِ النَّفِيرِ، وَثِقَالًا بَعْدَ التَّرَوِّي فِيهِ وَالِاسْتِعْدَادِ لَهُ، وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، قَالَ الزُّهْرِيُّ: خَرَجَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ إِلَى الْغَزْوِ وَقَدْ ذَهَبَتْ إِحْدَى عَيْنَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: إنك عليل [1] صاحب ضرر [2] ، فَقَالَ: اسْتَنْفَرَ اللَّهُ الْخَفِيفَ وَالثَّقِيلَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنِّي الْحَرْبَ كَثَّرْتُ السَّوَادَ وَحَفِظْتُ الْمَتَاعَ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ:
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ [التوبة: 122] ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ اشْتَدَّ شَأْنُهَا عَلَى النَّاسِ فَنَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَنْزَلَ: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة: 91] الْآيَةَ، ثُمَّ نَزَلَ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ:
[سورة التوبة (9) : الآيات 42 الى 45]
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً، وَاسْمُ كَانَ مُضْمَرٌ، أَيْ: لَوْ كَانَ ما تدعوهم إِلَيْهِ عَرَضًا قَرِيبًا، أَيْ: غَنِيمَةً قَرِيبَةَ الْمُتَنَاوَلِ، وَسَفَراً قاصِداً، أَيْ قَرِيبًا هَيِّنًا، لَاتَّبَعُوكَ، لَخَرَجُوا مَعَكَ، وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ، أَيِ: الْمَسَافَةُ، وَالشُّقَّةُ السَّفَرُ الْبَعِيدُ لِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَى الْإِنْسَانِ. وَقِيلَ: الشُّقَّةُ الْغَايَةُ الَّتِي يَقْصِدُونَهَا، وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ، يَعْنِي: بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، فِي أَيْمَانِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُسْتَطِيعِينَ.
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ، قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: اثْنَانِ فَعَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِهِمَا: إِذْنُهُ لِلْمُنَافِقِينَ وَأَخْذُهُ الْفِدْيَةَ مِنْ أُسَارَى بَدْرٍ، فَعَاتَبَهُ اللَّهُ كَمَا تَسْمَعُونَ. قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: انْظُرُوا إِلَى هَذَا اللُّطْفِ بَدَأَ بِالْعَفْوِ قَبْلَ أَنْ يُعَيِّرَهُ بِالذَّنْبِ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَقَّرَهُ وَرَفَعَ مَحَلَّهُ بِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ بِالدُّعَاءِ لَهُ، كَمَا يَقُولُ الرَّجْلُ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ إِذَا كَانَ كَرِيمًا عِنْدَهُ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ مَا صَنَعْتَ فِي حَاجَتِي، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ أَلَا زُرْتَنِي. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: أَدَامَ اللَّهُ لَكَ الْعَفْوَ. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ، أَيْ: فِي التَّخَلُّفِ عَنْكَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، فِي أَعْذَارِهِمْ، وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ فِيهَا، أَيْ: تَعْلَمَ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ يَوْمَئِذٍ.
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، أَيْ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ فِي التخلّف، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ.
__________
(1) في المطبوع «على» والمثبت عن المخطوط.
(2) في المطبوع «ضر» والمثبت عن المخطوط.(2/354)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ، أي: شكّت [قلوبهم] [1] وَنَافَقَتْ، فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، يتحيّرون.
[سورة التوبة (9) : الآيات 46 الى 48]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48)
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ، إِلَى الْغَزْوِ، لَأَعَدُّوا لَهُ، أي: ليهيّؤوا لَهُ عُدَّةً، أُهْبَةً وَقُوَّةً مِنَ السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ، وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ، خُرُوجَهُمْ، فَثَبَّطَهُمْ، مَنَعَهُمْ وَحَبَسَهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ، وَقِيلَ اقْعُدُوا فِي بُيُوتِكُمْ، مَعَ الْقاعِدِينَ، يَعْنِي: مَعَ المرضى والزّمنى. وقيل: مع النِّسَاءِ [2] وَالصِّبْيَانِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَقِيلَ، أَيْ: قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اقْعُدُوا. وَقِيلَ: أَوْحَى إِلَى قُلُوبِهِمْ وَأُلْهِمُوا أَسْبَابَ الْخُذْلَانِ.
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِالْجِهَادِ لِغَزْوَةِ تَبُوكَ فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنْيَةِ الْوَدَاعِ وَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ عَلَى [ذِي] [3] جَدَّةَ أَسْفَلَ مِنْ ثَنْيَةِ الْوَدَاعِ، وَلَمْ يَكُنْ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ، فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم تخلّف عند عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِيمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرَّيْبِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [بِقَوْلِهِ] [4] : لَوْ خَرَجُوا، يعني المنافقون فِيكُمْ، أَيْ: مَعَكُمْ، مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا، أَيْ: فَسَادًا وَشَرًّا. وَمَعْنَى الْفَسَادِ: إِيقَاعُ الْجُبْنِ وَالْفَشَلِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَهْوِيلِ الْأَمْرِ، وَلَأَوْضَعُوا، أسرعوا [5] ، خِلالَكُمْ، في وَسَطَكُمْ بِإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَكُمْ بِالنَّمِيمَةِ وَنَقْلِ الْحَدِيثِ مِنَ الْبَعْضِ إِلَى الْبَعْضِ. وَقِيلَ: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ، أَيْ: أَسْرَعُوا فِيمَا يُخِلُّ بِكُمْ. يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ، أَيْ: يَطْلُبُونَ لَكُمْ مَا تُفْتَنُونَ بِهِ، يَقُولُونَ: لَقَدْ جُمِعَ لَكُمْ كَذَا وَكَذَا وَإِنَّكُمْ مَهْزُومُونَ وَسَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ عَدْوُكُمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يعني: العنت وَالشَّرَّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْفِتْنَةُ الشِّرْكُ، ويقال: بغيته الشرك والخير أبغيه بغيا إِذَا الْتَمَسْتُهُ لَهُ، يَعْنِي: بَغَيْتُ لَهُ. وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، قَالَ مجاهد: معناه وفيكم مخبرون [6] لَهُمْ يُؤَدُّونَ إِلَيْهِمْ مَا يَسْمَعُونَ مِنْكُمْ، وَهُمُ الْجَوَاسِيسُ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
مَعْنَاهُ وَفِيكُمْ مُطِيعُونَ لَهُمْ، أَيْ: يستمعون كَلَامَهُمْ وَيُطِيعُونَهُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ.
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ، أَيْ: طَلَبُوا صَدَّ أَصْحَابِكَ عَنِ الدِّينِ وَرَدَّهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَتَخْذِيلَ النَّاسِ عَنْكَ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ، كَفِعْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ انْصَرَفَ عَنْكَ بِأَصْحَابِهِ. وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ، وَأَجَالُوا [7] فِيكَ وَفِي إِبْطَالِ دِينِكَ الرَّأْيَ بِالتَّخْذِيلِ عَنْكَ، وَتَشْتِيتِ أَمْرِكَ، حَتَّى جاءَ الْحَقُّ، النَّصْرُ وَالظَّفَرُ، وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ، دِينُ اللَّهِ، وَهُمْ كارِهُونَ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 49 الى 52]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «النسوان» .
(3) زيادة عن المخطوط ومعنى «ذو جدّة» : الطريق الواضح المسلوك.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المخطوط «أشرعوا» .
(6) في المخطوط «عيون» وفي ط «محبون» .
(7) في المطبوع «جالوا» والمثبت عن المخطوط.(2/355)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي، نَزَلَتْ فِي جَدِّ بْنِ قَيْسٍ الْمُنَافِقِ.
«1076» وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم لما تجهز لغزو تبوك قال [له] [1] : «يَا أَبَا وَهْبٍ هَلْ لَكَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ» ؟ - يَعْنِي الرُّومَ- «تَتَّخِذُ مِنْهُمْ سِرَارِيَ وَوُصَفَاءَ» ، فَقَالَ جَدٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنِّي رَجُلٌ مُغْرَمٌ بِالنِّسَاءِ، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ بَنَاتَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ عَنْهُنَّ، ائْذَنْ لِي فِي الْقُعُودِ وَلَا تَفْتِنِي بِهِنَّ وَأُعِينُكَ بِمَالِي- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اعْتَلَّ جَدُّ بْنُ قَيْسٍ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ عِلَّةٌ إِلَّا النِّفَاقُ- فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
«أَذِنْتُ لَكَ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَمِنْهُمْ يَعْنِي مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي فِي التَّخَلُّفِ وَلا تَفْتِنِّي ببنات [بني] [2] الْأَصْفَرِ. قَالَ قَتَادَةُ: وَلَا تُؤْثِمْنِي. أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، أَيْ: فِي الشِّرْكِ وَالْإِثْمِ وَقَعُوا بِنِفَاقِهِمْ وخلافهم أمر الله ورسوله، وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ، منطبقة بِهِمْ [3] وَجَامِعَةٌ لَهُمْ فِيهَا.
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ، نُصْرَةٌ وَغَنِيمَةٌ، تَسُؤْهُمْ، تُحْزِنْهُمْ، يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ، قَتْلٌ وَهَزِيمَةٌ، يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا، حَذَرَنَا، أَيْ: أَخَذْنَا فِي الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ، مِنْ قَبْلُ، أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَذِهِ الْمُصِيبَةِ، وَيَتَوَلَّوْا، وَيُدْبِرُوا، وَهُمْ فَرِحُونَ، مَسْرُورُونَ بِمَا نَالَكَ مِنَ الْمُصِيبَةِ.
قُلْ لِهَمْ يَا مُحَمَّدُ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنا، أَيْ: عَلَيْنَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، هُوَ مَوْلانا، نَاصِرُنَا وَحَافِظُنَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا فِي الْمَوْتِ وَالْحَيَاةِ، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا، تَنْتَظِرُونَ بِنَا أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ، إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ، إِمَّا النَّصْرَ وَالْغَنِيمَةَ أَوِ الشَّهَادَةَ وَالْمَغْفِرَةَ.
«1077» وَرَوَيْنَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ لَا يُخْرِجُهُ مَنْ بَيْتِهِ إِلَّا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَتِهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. أَوْ يُرْجِعَهُ إِلَى مَسْكَنِهِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مَعَ مَا نال من أجر أو
__________
1076- أخرجه الطبراني في «الكبير» 2154 و12654 من حديث ابن عباس، وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 30) : وفيه يحيى الحماني، وهو ضعيف اه.
قلت: وبشر بن عمارة ضعيف، والضحاك لم يسمع من ابن عباس، وللحديث شواهد، انظر «الدر المنثور» (3/ 49) و «دلائل النبوة» للبيهقي (5/ 213 و214) .
1077- تقدم في سورة آل عمران آية: 171. [.....]
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «مطيفة عليهم» والمثبت عن المخطوط.(2/356)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
غنيمة» . وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ، إِحْدَى السَّوْأَتَيْنِ إِمَّا أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ، فَيُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَ الأمم الخالية، أَوْ بِأَيْدِينا، أو بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَظْهَرْتُمْ مَا فِي قُلُوبِكُمْ، فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ، قَالَ الْحَسَنُ: فَتَرَبَّصُوا مَوَاعِيدَ الشَّيْطَانِ إِنَّا مُتَرَبِّصُونَ مَوَاعِيدَ اللَّهِ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ وَاسْتِئْصَالِ مَنْ خالفه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 53 الى 55]
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، أَمْرٌ بِمَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ، أَيْ: إِنْ أَنْفَقْتُمْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، نَزَلَتْ فِي جَدِّ بْنِ قَيْسٍ حِينَ اسْتَأْذَنَ فِي الْقُعُودِ، قَالَ: أُعِينُكُمْ بِمَالِي، يَقُولُ: إِنْ أَنْفَقْتُمْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ، أَيْ: لِأَنَّكُمْ، كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ.
وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يُقْبَلَ، بِالْيَاءِ لِتُقَدِّمِ [1] الْفِعْلِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ:
بِالتَّاءِ لِأَنَّ الْفِعْلَ مُسْنَدٌ إِلَى جَمْعٍ مُؤَنَّثٍ وَهُوَ النَّفَقَاتُ، فَأَنَّثَ الْفِعْلَ لِيَعْلَمَ أَنَّ الْفَاعِلَ مُؤَنَّثٌ، نَفَقاتُهُمْ، صَدَقَاتُهُمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، أَيِ: الْمَانِعُ مِنْ قَبُولِ نَفَقَاتِهِمْ كُفْرُهُمْ، وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى، مُتَثَاقِلُونَ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجُونَ عَلَى أَدَائِهَا ثَوَابًا وَلَا يَخَافُونَ عَلَى تَرْكِهَا عِقَابًا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ ذكر [2] الْكَسَلَ فِي الصَّلَاةِ وَلَا صَلَاةَ لَهُمْ أَصْلًا؟ قِيلَ: الذَّمُّ وَاقِعٌ عَلَى الْكَفْرِ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى الْكَسَلِ، فَإِنَّ الْكُفْرَ مُكَسِّلٌ وَالْإِيمَانَ مُنَشِّطٌ، وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ، لِأَنَّهُمْ يُعِدُّونَهَا مَغْرَمًا وَمَنْعَهَا مَغْنَمًا.
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ، وَالْإِعْجَابُ هُوَ السُّرُورُ بِمَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، يَقُولُ: لَا تَسْتَحْسِنُ مَا أَنْعَمْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ مِنَ اللَّهِ فِي اسْتِدْرَاجٍ كَثَّرَ اللَّهُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، فَإِنْ قِيلَ أَيْ تَعْذِيبٌ فِي الْمَالِ وَالْوَلَدِ وَهُمْ يَتَنَعَّمُونَ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؟ قِيلَ: قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: التَّعْذِيبُ بِالْمَصَائِبِ الْوَاقِعَةِ فِي الْمَالِ وَالْوَلَدِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: يُعَذِّبُهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا بِأَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهَا، وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقِيلَ: يُعَذِّبُهُمْ بِالتَّعَبِ فِي جَمْعِهِ، وَالْوَجَلِ فِي حِفْظِهِ وَالْكُرْهِ فِي إِنْفَاقِهِ، وَالْحَسْرَةِ عَلَى تَخْلِيفِهِ عِنْدَ مَنْ لَا يَحْمَدُهُ، ثُمَّ يُقْدِمُ عَلَى مَلِكٍ [لَا] [3] يَعْذُرُهُ. وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ، أَيْ: تَخْرُجَ، وَهُمْ كافِرُونَ، أَيْ: يَمُوتُونَ على الكفر.
[سورة التوبة (9) : الآيات 56 الى 58]
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
__________
(1) في المخطوط «لتقديم» .
(2) في المطبوع «ذمّ» والمثبت عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.(2/357)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ، أَيْ: على دينكم [وشريعتكم وطريقتكم] [1] ، وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ، يخافوا أَنْ يُظْهِرُوا مَا هُمْ عَلَيْهِ.
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً، حرزا أو حصنا أو معقلا. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَهْرَبًا، وَقِيلَ: قَوْمًا يأمنون فيهم.
أَوْ مَغاراتٍ، غيرنا فِي الْجِبَالِ جَمْعُ مَغَارَةٍ وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَغُورُ فِيهِ، أَيْ: يَسْتَتِرُ. وَقَالَ عَطَاءٌ:
سَرَادِيبَ. أَوْ مُدَّخَلًا، موضع دخول [يدخلون] [2] فيه، وهو من أدخل يدخل، وَأَصْلُهُ: مُدْتَخَلٌ مُفْتَعَلٌ، مِنْ أَدْخَلَ يُدْخِلُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَحْرَزًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: سِرْبًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَفَقًا فِي الْأَرْضِ كَنَفَقِ الْيَرْبُوعِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَجْهًا يَدْخُلُونَهُ عَلَى خِلَافِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، وقرأ يعقوب: مُدَّخَلًا، بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِ، وهو أيضا موضع الدخول، لَوَلَّوْا إِلَيْهِ، لَأَدْبَرُوا إِلَيْهِ هَرَبًا مِنْكُمْ، وَهُمْ يَجْمَحُونَ، يُسْرِعُونَ فِي إباء ونفور ولا يَرُدُّ وُجُوهَهُمْ شَيْءٌ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُمْ لَوْ يَجِدُونَ مَخْلَصًا مِنْكُمْ ومهربا لفارقوكم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ، الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيِّ وَاسْمُهُ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ أَصْلُ الْخَوَارِجِ.
«1078» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يقسم قسما إذ [3] أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَقَالَ: يَا رسول [الله] [4] اعْدِلْ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ فَمَنْ يَعْدِلُ إذا لم أعدل، فقد خَبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ» ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فِيهِ فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَقَالَ لَهُ: «دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وصيامه مع صيامهم، يقرؤون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ يَنْظُرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى نَضِيِّهِ وَهُوَ قِدْحُهُ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى قُذَذِهِ [5] فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، قَدْ سَبَقَ [6] الْفَرْثَ وَالدَّمَ آيَتُهُمْ [7] ، رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ يدي الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبِضْعَةِ تَدَرْدَرُ، يخرجون على
__________
1078- إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم.
أبو اليمان هو الحكم بن نافع، شعيب وهو ابن أبي حمزة، الزهري هو محمد بن مسلم.
وهو في «شرح السنة» 2546 بهذا الإسناد، وفي «صحيح البخاري» 3610 عن أبي اليمان به.
وأخرجه البخاري 6163 و6931 و6933 ومسلم 1064 وابن أبي شيبة (15/ 322 و329) وعبد الرزاق 18649 وابن حبان 6737 و6741 والبيهقي في «الدلائل» (6/ 427، 428) من طرق عن الزهري به، وبعضهم قرن مع أبي سلمة، الضحاك الهمداني.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «فيأ» والمثبت عن المخطوط و «صحيح البخاري» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) القذد: ريش السهم، واحدتها قذّة.
(6) في المطبوع «ثبق» والتصويب عن المخطوط و «صحيح البخاري» .
(7) في المطبوع «آنيتهم» والتصويب عن المخطوط و «صحيح البخاري» . [.....](2/358)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ» . قَالَ أبو سعيد: أشهد إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أبي طالب قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ، فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ فَوُجِدَ فَأُتِيَ بِهِ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي نَعَتَهُ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُقَالُ له أبو الجوظ [1] لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [2] : لَمْ تَقْسِمْ بِالسَّوِيَّةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ، أَيْ: يَعِيبُكَ فِي أَمْرِهَا وَتَفْرِيقِهَا وَيَطْعَنُ عَلَيْكَ فِيهَا.
يُقَالُ: لَمَزَهُ وَهَمَزَهُ، أَيْ: عَابَهُ، يَعْنِي: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا لَا يُعْطِي إِلَّا مَنْ أَحَبِّ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: يَلْمِزُكَ، وكذلك يَلْمِزُونَ في الحجرات وَلا تَلْمِزُوا [الحجرات: 11] ، كل ذلك بضم الميم [حيث كان] [3] فيهنّ، وقرأ الباقون بكسر الميم فيهنّ وهما لغتان «يلمز ويلمز» مثل يحسر ويحسر ويعكف ويعكف. وقال مجاهد: يلمزك أي يزورك يَعْنِي يَخْتَبِرُكَ. فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ، قِيلَ: إِنْ أُعْطُوا كَثِيرًا فَرِحُوا وَإِنْ أُعْطُوا قليلا سخطوا.
[سورة التوبة (9) : الآيات 59 الى 60]
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، أَيْ: قَنَعُوا بِمَا قَسَمَ لَهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ، كَافِينَا اللَّهُ، سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ، مَا نَحْتَاجُ إِلَيْهِ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ، فِي أَنْ يُوَسِّعَ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلِهِ، فَيُغْنِينَا عَنِ الصَّدَقَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ. وَجَوَابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَعْوَدَ عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ الْآيَةَ، بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هذه الآية أهل [أسهم] [4] الصَّدَقَاتِ وَجَعَلَهَا لِثَمَانِيَةِ [5] أَصْنَافٍ.
«1079» وَرُوِيَ عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُدَائِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْتُهُ، فَأَتَاهُ رجل قال: أَعْطِنِي مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ بِحُكْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ فِي الصَّدَقَاتِ حَتَّى حَكَمَ فِيهَا هُوَ فَجَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أَعْطَيْتُكَ حَقَّكَ» . قوله: لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ، فَأَحَدُ أَصْنَافِ الصَّدَقَةِ، الْفُقَرَاءُ، وَالثَّانِي: الْمَسَاكِينُ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صِفَةِ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ، فَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَعِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ: الْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَالْمِسْكِينُ الَّذِي يَسْأَلُ. وَقَالَ ابن عمر: ليس الفقير مَنْ جَمَعَ الدِّرْهَمَ إِلَى الدِّرْهَمِ وَالتَّمْرَةَ إِلَى التَّمْرَةِ، وَلَكِنْ مَنْ أَنْقَى نَفْسَهُ وَثِيَابَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ من التعفّف، فذلك الفقير. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفَقِيرُ الْمُحْتَاجُ الزَّمِنُ، وَالْمِسْكِينُ الصَّحِيحُ الْمُحْتَاجُ. وَرُوِيَ عَنْ
__________
1079- ضعيف. أخرجه أبو داود 1630 والدارقطني (2/ 137) من حديث زياد بن الحارث الصدائي، وفي إسناده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي تكلم فيه غير واحد، واتهمه ابن حبان.
(1) في المخطوط «أبو الجوّاص» .
(2) العبارة في المخطوط «قال للنبي وهو يقسم: لم....» .
(3) «شرح السنة» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «الثبانية» والتصويب عن المخطوط.(2/359)
عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: الْفُقَرَاءُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَسَاكِينُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْفَقِيرُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَلَا حِرْفَةَ تَقَعُ مِنْهُ مَوْقِعًا زَمِنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ زَمِنٍ، وَالْمِسْكِينُ مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ حِرْفَةٌ وَلَا يغنيه، سائلا كان أَوْ غَيْرَ سَائِلٍ، فَالْمِسْكِينُ عِنْدَهُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ [الْكَهْفِ:
79] ، أَثْبَتَ لَهُمْ مِلْكًا مَعَ اسْمِ الْمَسْكَنَةِ، وَعِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ الْفَقِيرُ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ. وَقَالَ القُتَيْبِيُّ:
الْفَقِيرُ الَّذِي لَهُ الْبُلْغَةُ مِنَ الْعَيْشِ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ. وَقِيلَ: الْفَقِيرُ مِنْ لَهُ الْمَسْكَنُ وَالْخَادِمُ، وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا مِلْكَ لَهُ. وَقَالُوا: كُلُّ مُحْتَاجٍ إِلَى شَيْءٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ [فاطر: 15] ، وَالْمِسْكِينُ الْمُحْتَاجُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ أَلَا تَرَى كَيْفَ حَضَّ عَلَى إِطْعَامِهِ، وَجَعَلَ طَعَامَ الْكَفَّارَةِ لَهُ وَلَا فَاقَةَ أَشَدُّ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى سَدِّ الْجَوْعَةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: الْفُقَرَاءُ هُمُ الْمُهَاجِرُونَ، وَالْمَسَاكِينُ من لم يهاجر [1] مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَفِي الْجُمْلَةِ الْفَقْرُ والمسكنة عبارة [2] عَنِ الْحَاجَةِ وَضَعْفِ الْحَالِ، فَالْفَقِيرُ الْمُحْتَاجُ الَّذِي كَسَرَتِ الْحَاجَةُ فِقَارَ ظَهْرِهِ، وَالْمِسْكِينُ الَّذِي ضَعُفَتْ نَفْسُهُ وَسَكَنَتْ عَنِ الْحَرَكَةِ فِي طَلَبِ الْقُوتِ.
«1080» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ ثَنَا أَبُو العباس الأصم ثنا الرَّبِيعُ أَنْبَأَنَا الشَّافِعِيُّ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامٍ يَعْنِي ابْنَ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُدَيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم فَسَأَلَاهُ عَنِ الصَّدَقَةِ، فَصَعَّدَ فِيهِمَا وَصَوَّبَ، فَقَالَ: «إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُوَّةٍ مُكْتَسِبٍ» .
وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْغَنِىِّ الَّذِي يُمْنَعُ أَخْذَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: حَدُّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ وَعِيَالَهُ سَنَةً، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: حَدُّهُ أَنْ يَمْلِكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. وَقَالَ قَوْمٌ:
مَنْ مَلَكَ خَمْسِينَ دِرْهَمًا لَا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ.
«1081» لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَلَهُ مَا يُغْنِيهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَسْأَلَتُهُ فِي وَجْهِهِ خُمُوشٌ أَوْ خُدُوشٌ أَوْ كُدُوحٌ» ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ: «خَمْسُونَ دِرْهَمًا أَوْ قِيمَتُهَا مِنَ الذَّهَبِ» .
وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، وَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى الرَّجُلُ مِنَ الزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ دِرْهَمًا. وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
«1082» لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ سَأَلَ وَلَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عِدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إِلْحَافًا» . قَوْلُهُ تَعَالَى:
__________
1080- حديث صحيح، الشافعي قد توبع هو ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
وهو في «شرح السنة» 1592 بهذا الإسناد.
وفي «مسند الشافعي» (1/ 242) عن ابن عيينة به.
وأخرجه أبو داود 1633 والنسائي 2597 والدارقطني (3/ 119) وعبد الرزاق 7154 وأحمد (4/ 224) و (5/ 362) من حديث عدي بن الخيار.
وله شاهد مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو بن العاص أخرجه أبو داود 1634 والترمذي 652 وعبد الرزاق 7155 والطيالسي 2271 والحاكم (1/ 407) والدارقطني (2/ 118) والبيهقي (7/ 113) وحسنه الترمذي.
1081- تقدم في سورة البقرة آية: 273.
1082- تقدم في سورة البقرة آية: 273.
(1) في المطبوع «يهاجروا» والمثبت عن المخطوط.
(2) في المطبوع «عبارتان» والمثبت عن المخطوط.(2/360)
وَالْعامِلِينَ عَلَيْها، وَهُمُ السُّعَاةُ الَّذِينَ يتولّون قبض [الأموال من] الصَّدَقَاتِ مِنْ أَهْلِهَا وَوَضْعَهَا فِي حَقِّهَا، فَيُعْطَوْنَ مَنْ مَالِ الصَّدَقَةِ فُقَرَاءً كَانُوا أَوْ أَغْنِيَاءً، فَيُعْطَوْنَ مثل أجر عَمَلِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ:
لَهُمُ الثُّمُنُ مِنَ الصَّدَقَةِ. وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَالصِّنْفُ الرَّابِعُ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلصَّدَقَةِ هُمُ الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَهُمْ قِسْمَانِ قِسْمٌ مُسْلِمُونَ وَقِسْمٌ كُفَّارٌ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَقِسْمَانِ قِسْمٌ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَنِيَّتُهُمْ ضَعِيفَةٌ فِيهِ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ تَأَلُّفًا كَمَا أَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ [1] وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ والعباس بن مرداس السلمي، وأسلموا وَنِيَّتُهُمْ قَوِيَّةٌ فِي الْإِسْلَامِ وَهُمْ شُرَفَاءُ فِي قَوْمِهِمْ مِثْلُ عُدَيِّ بْنِ حَاتِمٍ وَالزِّبْرِقَانِ بْنِ بَدْرٍ، فَكَانَ يُعْطِيهِمْ تَأَلُّفًا لِقَوْمِهِمْ وَتَرْغِيبًا لِأَمْثَالِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ، فَهَؤُلَاءِ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ خُمْسِ خُمْسِ الْغَنِيمَةِ، وَالْفَيْءِ سَهْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُعْطِيهِمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ مُؤَلَّفَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونَ قَوْمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بِإِزَاءِ قَوْمٍ كَفَّارٍ في موضع متناء [2] لَا تَبْلُغُهُمْ جُيُوشُ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِمُؤْنَةٍ كَثِيرَةٍ وَهُمْ لَا يُجَاهِدُونَ، إِمَّا لِضَعْفِ نِيَّتِهِمْ أَوْ لِضَعْفِ حَالِهِمْ، فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَهُمْ مِنْ سَهْمِ الْغُزَاةِ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ. وَقِيلَ: مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلَّفَةِ وَمِنْهُمْ قَوْمٌ بِإِزَاءِ جَمَاعَةٍ مِنْ مَانِعِي الزَّكَاةِ يَأْخُذُونَ مِنْهُمُ الزَّكَاةَ يَحْمِلُونَهَا إِلَى الْإِمَامِ فَيُعْطِيهِمُ الْإِمَامُ مِنْ سَهْمِ الْمُؤَلِّفَةِ مِنَ الصَّدَقَاتِ. وَقِيلَ: مِنْ سَهْمِ سَبِيلِ اللَّهِ. رُوِيَ أَنَّ عُدَيَّ بْنَ حَاتِمٍ جاء إلى أبي بَكْرٍ الصَّدِيقَ بِثَلَاثِمِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ مِنْ صَدَقَاتِ قَوْمِهِ فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ مِنْهَا ثَلَاثِينَ بَعِيرًا. وَأَمَّا الْكُفَّارُ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ فَهُوَ مَنْ يُخْشَى شَرُّهُ [3] مِنْهُمْ أَوْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ، فَيُرِيدُ الْإِمَامُ أَنَّ يُعْطِيَ هَذَا حَذَرًا مِنْ شَرِّهِ أَوْ يُعْطِيَ ذَلِكَ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْإِسْلَامِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِيهِمْ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ، كَمَا أَعْطَى صَفْوَانَ بن أمية لما كان يَرَى مِنْ مَيْلِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَأَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الإسلام فله الحمد وأغناه [عن] [4] أَنْ يُتَأَلَّفَ عَلَيْهِ رِجَالٌ، فَلَا يُعْطَى مُشْرِكٌ تَأَلُّفًا بِحَالٍ، وَقَدْ قَالَ بِهَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ الْمُؤَلَّفَةَ مُنْقَطِعَةٌ وَسَهْمَهُمْ ساقط. روي ذلك عن عمر [5] ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ، وَقَالَ قَوْمٌ: سَهْمُهُمْ ثَابِتٌ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يُعْطَونَ إِنِ احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي الرِّقابِ، وَالصِّنْفُ الْخَامِسُ هُمُ الرِّقَابُ وَهُمُ الْمُكَاتَبُونَ لَهُمْ سَهْمٌ مِنَ الصَّدَقَةِ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ:
يُشْتَرَى بسهم الرقاب عبيدا فَيُعْتَقُونَ. وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. قَوْلُهُ تعالى:
وَالْغارِمِينَ، والصنف السَّادِسُ: هُمْ الْغَارِمُونَ وَهُمْ قِسْمَانِ قسم أدانوا لأنفسهم في غير معصية [6] فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنَ الصَّدَقَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنَ الْمَالِ مَا يَفِي بِدُيُونِهِمْ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُمْ وَفَاءٌ فَلَا يُعْطَوْنَ، وَقِسْمٌ أَدَانُوا فِي الْمَعْرُوفِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فَإِنَّهُمْ يُعْطَوْنَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ مَا يَقْضُونَ بِهِ دُيُونَهُمْ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ.
«1083» أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرْخَسِيُّ أَنْبَأَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أنا أبو مصعب عن
__________
1083- صحيح، رجاله رجال البخاري ومسلم، لكنه مرسل.
وورد موصولا كما سيأتي، أبو مصعب هو أحمد بن أبي بكر.
(1) في المخطوط «عيينة بن حصن» .
(2) في المخطوط «منقطع» والمعنى واحد. [.....]
(3) في المطبوع «سرّه» والتصويب عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «عكرمة» .
(6) في المطبوع «معصيته» والمثبت عن المخطوط.(2/361)
مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِغَارِمٍ، أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى المسكين فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا» .
وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّصِلًا بِمَعْنَاهُ.
أَمَّا مَنْ كان دينه في معصية الله وفساد فلا يدفع شيء إِلَيْهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَرَادَ بِهَا الْغُزَاةَ فَلَهُمْ سَهْمٌ مِنَ الصَّدَقَةِ، يُعْطَوْنَ إِذَا أَرَادُوا الْخُرُوجَ إِلَى الْغَزْوِ، وَمَا يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى أَمْرِ الْغَزْوِ مِنَ النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالسِّلَاحِ وَالْحُمُولَةِ، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَلَا يُعْطَى شيء منه فِي الْحَجِّ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ قَوْمٌ: يَجُوزُ أَنْ يُصَرَفَ سَهْمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى الْحَجِّ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَابْنِ السَّبِيلِ، والصنف الثَّامِنُ: هُمْ أَبْنَاءُ السَّبِيلِ، فَكُلُّ مَنْ يُرِيدُ سَفَرًا مُبَاحًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يَقْطَعُ بِهِ الْمَسَافَةَ يُعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ بِقَدْرِ مَا يَقْطَعُ بِهِ تِلْكَ الْمَسَافَةَ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ فِي الْبَلَدِ الْمُنْتَقِلِ إِلَيْهِ مَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ابْنُ السَّبِيلِ هُوَ الضَّيْفُ. وَقَالَ فُقَهَاءُ الْعِرَاقِ: ابْنُ السَّبِيلِ الْحَاجُّ الْمُنْقَطِعُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: فَرِيضَةً، أَيْ: وَاجِبَةً مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْقَطْعِ، وَقِيلَ:
عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: فَرَضَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ فَرِيضَةً، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. واختلف أهل العلم والفقهاء فِي كَيْفِيَّةِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ، وَفِي جَوَازِ صَرْفِهَا إِلَى بَعْضِ الْأَصْنَافِ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يجوز صرف كُلُّهَا إِلَى بَعْضِهِمْ مَعَ وُجُودِ سَائِرِ الْأَصْنَافِ، وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، قَالَ: يَجِبُ أن يقسم زَكَاةُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ مَالِهِ عَلَى الْمَوْجُودِينَ مِنَ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ الَّذِينَ سُهْمَانُهُمْ ثَابِتَةٌ قِسْمَةً عَلَى السَّوَاءِ، لِأَنَّ سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ سَاقِطٌ وسهم العامل إذا قسمه بنفسه [ساقط أيضا] [1] ، ثُمَّ حِصَّةُ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ إِلَى أَقَلِّ مِنْ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ إِنْ وُجِدَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَكَثُرُ، فلو فاوت بين أولئك الثلاثة [2] يَجُوزُ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ بعض الأصناف إلا واحدا صُرِفَ حِصَّةُ ذَلِكَ الصِّنْفِ إِلَيْهِ مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَإِنِ انْتَهَتْ حَاجَتُهُ وَفَضُلَ شَيْءٌ رَدَّهُ إِلَى الْبَاقِينَ [3] .
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَوْ صَرَفَ الْكُلَّ إِلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ أَوْ إِلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَجُوزُ، وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ إِعْلَامًا مِنْهُ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تُخْرَجُ عَنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، لَا [4] إِيجَابًا لِقَسْمِهَا بَيْنَهُمْ جَمِيعًا. وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، قَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَضَعَهَا فِي صِنْفٍ واحد وتفريقها أولى.
__________
وهو في «شرح السنة» 1598 بهذا الإسناد.
وفي «الموطأ» (2/ 268) عن زيد بن أسلم به.
وأخرجه أبو داود 1635 من طريق مالك.
وأخرجه عبد الرزاق 7151 وأبو داود 1636 وابن ماجه 1841 وأحمد (3/ 31 و56) والحاكم (1/ 407) من طريق عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري مرفوعا.
وإسناده صحيح رجاله مشاهير رجال البخاري ومسلم. لكن خالف مالك معمرا فرواه مرسلا، ومع ذلك، الموصول صحيح إن شاء الله لأنه زيادة ثقة، ومعمر ثقة ثبت.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «الثلاثية» .
(3) في المخطوط «الباقي» .
(4) في المطبوع «إلا» والمثبت عن المخطوط.(2/362)
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: إِنْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا يَحْتَمِلُ الْإِجْزَاءَ قَسَّمَهُ عَلَى الأصناف، وإن كان [المال] [1] قَلِيلًا جَازَ وَضْعُهُ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَتَحَرَّى مَوْضِعَ الْحَاجَةِ مِنْهُمْ وَيُقَدِّمُ الْأَوْلَى فَالْأَوْلَى مِنْ أَهْلِ الْخُلَّةِ وَالْحَاجَةِ، فَإِنْ رَأَى الْخُلَّةَ فِي الْفُقَرَاءِ فِي عَامٍ أَكْثَرَ قَدَّمَهُمْ، وَإِنْ رَآهَا في عام [آخر] [فِي صِنْفٍ آخَرَ] [2] حَوَّلَهَا إِلَيْهِمْ، وَكُلُّ مَنْ دُفِعَ إِلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الصَّدَقَةِ لَا يَزِيدُ عَلَى قَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ، فَلَا يَزِيدُ الْفَقِيرُ عَلَى قَدْرِ غِنَاهُ، فَإِذَا حَصَلَ [3] أَدْنَى اسْمُ الْغِنَى لَا يُعْطَى بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَرِفًا لَكِنَّهُ لَا يَجِدُ آلَةَ حِرْفَتِهِ فَيُعْطَى قَدْرَ مَا يُحَصِّلُ بِهِ آلَةَ حرفته ولا يزاد على الْعَامِلُ عَلَى أَجْرِ عَمَلِهِ، وَالْمُكَاتَبُ عَلَى قَدْرِ مَا يُعْتَقُ بِهِ، والغارم على قدر دينه، والغازي عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِهِ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ وَالْمَقَامِ فِي مَغْزَاهُ وَمَا يَحْتَاجُ إليه من الفرس والسلاح، وابن السَّبِيلِ عَلَى قَدْرِ إِتْيَانِهِ مَقْصِدَهُ أَوْ مَآلَهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي نَقْلِ الصَّدَقَةِ عَنْ بَلَدِ الْمَالِ إِلَى مَوْضِعٍ [4] آخَرَ مَعَ وُجُودِ الْمُسْتَحِقِّينَ فِيهِ، فَكَرِهَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ.
«1084» لِمَا أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الجراحي ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أحمد الْمَحْبُوبِيُّ ثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ ثنا أبو كريب ثنا وكيع ثنا زكريا [بن] إسحاق المكي ثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الصَّيْفِيِّ عَنْ أَبِي مِعْبَدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فأعلمهم أنّ الله افترض [5] عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ والليلة، فإنهم أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افترض [6] عليهم صدقة [في أموالهم] [7] تؤخذ من أغنيائهم وتردّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ» .
فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَدَقَةَ أَغْنِيَاءِ كُلِّ قَوْمٍ تُرَدُّ عَلَى فُقَرَاءِ ذَلِكَ الْقَوْمِ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا نُقِلَ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ آخر وادّعى [مع الكراهية] [8] سقط الْفَرْضُ عَنْ ذِمَّتِهِ، إِلَّا مَا حُكِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العزيز رضي
__________
1084- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
أبو كريب هو محمد بن العلاء، وكيع هو ابن الجراح، أبو معبد اسمه نافذ.
وهو في «شرح السنة» 1551 بهذا الإسناد، وفي «سنن الترمذي» 625 عن أبي كريب به.
وأخرجه البخاري 1395 و1496 و2448 و4347 و7371 ومسلم 19 وأبو داود 1584 والنسائي (5/ 2) وابن ماجه 1783 وابن أبي شيبة (3/ 114) وأحمد (1/ 233) وابن مندة في «الإيمان» 116 و117 و113 والدارقطني (2/ 136) والطبراني 12408 من طرق عن زكريا بن إسحاق به.
وأخرجه البخاري 1458 ومسلم 19 ح 31 وابن مندة 214 وابن حبان 156 والطبراني في «الكبير» 12207 والبيهقي (4/ 101) من طريق أمية بن بسطام عن يزيد بن زريع عن روح بن القاسم عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ يحيى به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «حضر» .
(4) في المخطوط «بلد» . [.....]
(5) في المطبوع «قد فرض» والمثبت عن المخطوط و «سنن الترمذي» .
(6) في المطبوع «قد فرض» .
(7) زيادة عن المخطوط و «سنن الترمذي» .
(8) زيادة عن المخطوط.(2/363)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّ صَدَقَةً حُمِلَتْ مِنْ خُرَاسَانَ إِلَى الشَّامِ إلى مكانها من خراسان، [وقال: إن فقراء خراسان أولى بها] [1] .
[سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 62]
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ، نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُونَ [له] مَا لَا يَنْبَغِي، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَفْعَلُوا فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَبْلُغَهُ مَا تَقُولُونَ فَيَقَعُ بِنَا، فَقَالَ الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ مِنْهُمْ: بَلْ نَقُولُ مَا شِئْنَا ثُمَّ نَأْتِيهِ فَنُنْكِرُ مَا قُلْنَا وَنَحْلِفُ فَيُصَدِّقُنَا بِمَا نَقُولُ، فَإِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ، أَيْ: أُذُنٌ سَامِعَةٌ، يُقَالُ: فلان أذن سامعة وأُذُنَةٌ عَلَى وَزْن فُعُلَةٍ، إِذَا كَانَ يَسْمَعُ [كُلَّ] مَا قِيلَ لَهُ وَيَقْبَلُهُ. وَأَصْلُهُ مِنْ أَذِنَ يأذن أذنا إذا اسْتَمَعَ. وَقِيلَ: هُوَ أُذُنٌ أَيْ: ذو أذن وأذن سَامِعَةٍ.
«1085» وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ: نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُقَالُ لَهُ نَبْتَلُ بن الحارث، وكان رجلا أدلم [2] ثَائِرَ شَعْرِ الرَّأْسِ أَحْمَرَ الْعَيْنَيْنِ أسقع الْخَدَّيْنِ مُشَوَّهَ الْخِلْقَةِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ [3] أَنْ يَنْظُرَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى نَبْتَلَ بْنِ الْحَارِثِ» ، وَكَانَ يَنِمُّ حَدِيثَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، فَقِيلَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ، فَقَالَ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ فَمَنْ حَدَّثَهُ شَيْئًا صَدَقَهُ، فَنَقُولُ مَا شِئْنَا ثُمَّ نَأْتِيهِ وَنَحْلِفُ بِاللَّهِ فَيُصَدِّقُنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ، قرأ الْعَامَّةُ بِالْإِضَافَةِ، أَيْ: مُسْتَمِعُ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ لَكُمْ، لَا مُسْتَمِعَ شَرٍّ وفساد. وقرأ الأعشى والبُرْجُمِيُّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ: أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ مَرْفُوعَيْنِ مُنَوَّنَيْنِ، يَعْنِي أَنْ يَسْمَعَ مِنْكُمْ وَيُصَدِّقَكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ يُكَذِّبَكُمْ وَلَا يَقْبَلُ قَوْلَكُمْ، ثُمَّ كَذَّبَهُمْ فَقَالَ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، أَيْ: لَا بَلْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ: يُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَقْبَلُ مِنْهُمْ لَا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، يُقَالُ:
أَمِنْتُهُ وَأَمِنْتُ لَهُ بِمَعْنَى صَدَّقْتُهُ. وَرَحْمَةٌ، قَرَأَ حَمْزَةُ: وَرَحْمَةٍ بِالْخَفْضِ عَلَى مَعْنَى [أي هو] [4] أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ وَأُذُنُ رَحْمَةٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: وَرَحْمَةٌ بِالرَّفْعِ، أَيْ: هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ.
«1086» قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: اجْتَمَعَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِيهِمْ الْجُلَاسُ بْنُ سُوِيدٍ وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ فَوَقَعُوا فِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حُقًّا فَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، وَكَانَ عِنْدَهُمْ غُلَامٌ مِنَ الأنصار يقال
__________
1085- ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 508 بدون إسناد.
وأخرجه الطبري 16915 عن ابن إسحاق مرسلا دون اللفظ المرفوع.
والمرسل من قسم الضعيف.
1086- ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 509 عن السدي بدون إسناد.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في الأصل «أزنم» وفي ط: «أذلم» وفي «تفسير القرطبي» (8/ 192) : «آدم» والأدلم: الآدم، وشديد السواد.
(3) في المخطوط «أراد» .
(4) زيادة عن المخطوط.(2/364)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
لَهُ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ فَحَقَّرُوهُ وَقَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ، فَغَضِبَ الْغُلَامُ وَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حُقٌّ وَأَنْتُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلّم فأخبره [بما قاله المنافقون] [1] ، فَدَعَاهُمْ وَسَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَلَفُوا أَنَّ عَامِرًا كَذَّابٌ. وَحَلَفَ عَامِرٌ أَنَّهُمْ كَذَبَةٌ فَصَدَّقَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ عَامِرٌ يَدْعُو وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ صَدِّقِ الصَّادِقَ وَكَذِّبِ الْكَاذِبَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي رَهْطٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَوْهُ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 63 الى 64]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يُخَالِفُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [أي: يكون في حدة] [2] وجانب وَاحِدٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ، أَيِ: الْفَضِيحَةُ الْعَظِيمَةُ.
يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ، أَيْ: يَخْشَى الْمُنَافِقُونَ، أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ، أَيْ: تُنَزَّلُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ، أَيْ: بِمَا فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْحَسَدِ وَالْعَدَاوَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ، كَانُوا يَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيُسِرُّونَ وَيَخَافُونَ الْفَضِيحَةَ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ: هذه السورة [كانت] [3] تُسَمَّى الْفَاضِحَةَ وَالْمُبَعْثِرَةَ وَالْمُثِيرَةَ أَثَارَتْ مَخَازِيَهُمْ وَمَثَالِبَهُمْ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ ثُمَّ نَسَخَ ذِكْرَ الْأَسْمَاءِ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يُعَيِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِأَنَّ أَوْلَادَهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ، مُظْهِرٌ مَا تَحْذَرُونَ.
«1087» قَالَ ابْنُ كِيسَانَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَفُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعَقَبَةِ لَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِيَفْتِكُوا بِهِ إِذَا عَلَاهَا وَمَعَهُمْ رَجُلٌ مُسْلِمٌ يُخْفِيهِمْ شَأْنَهُ، وَتَنَكَّرُوا لَهُ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَدَّرُوا، وَأَمَرَهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَضْرِبُ وُجُوهَ رَوَاحِلِهِمْ، وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ يَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاحِلَتَهُ وَحُذَيْفَةُ يَسُوقُ بِهِ، فَقَالَ لِحُذَيْفَةَ: «اضْرِبْ وُجُوهَ رَوَاحِلَهُمْ» فَضَرَبَهَا حَتَّى نَحَّاهَا، فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِحُذَيْفَةَ: «مَنْ عَرَفْتَ مِنَ الْقَوْمِ» ؟ قَالَ: لَمْ أَعْرِفْ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنَّهُمْ فُلَانٌ وَفُلَانٌ» حَتَّى عَدَّهُمْ كُلَّهُمْ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَلَا تَبْعَثُ إِلَيْهِمْ فَتَقْتُلَهُمْ؟ فَقَالَ: «أكره
__________
1087- ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 516 عن الضحاك بدون إسناد، دون اللفظ المرفوع.
وأخرجه البيهقي في «الدلائل» (5/ 260، 261) من حديث حذيفة بنحوه.
وأخرجه أيضا البيهقي في «الدلائل» (5/ 256، 257) من طريق ابن لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأُسُودِ عَنْ عروة مرسلا بأتم منه دون قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بل يكفيناهم الله بالدبيلة» وهذا اللفظ يأتي في الحديث الآتي.
وأخرجه أحمد (5/ 453، 454) من حديث أبي الطفيل مع اختلاف فيه.
الخلاصة: هو حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) العبارة في المطبوع «أن يكونوا في جانب» والمثبت عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط. [.....](2/365)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
أَنْ تَقُولَ الْعَرَبُ لَمَّا ظَفِرَ محمد بِأَصْحَابِهِ [1] أَقْبَلَ يَقْتُلُهُمْ، بَلْ يَكْفِينَاهُمُ اللَّهُ بِالدُّبَيْلَةِ» .
«1088» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ [بْنُ مُحَمَّدٍ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ] ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بن الحجاج ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ قَالَ: قلنا لعمّار: أرأيتكم قِتَالَكُمْ أَرَأْيًا رَأَيْتُمُوهُ؟ فَإِنَّ الرَّأْيَ يخطىء وَيُصِيبُ أَوْ عَهْدًا عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَقَالَ:
إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ فِي أُمَّتِي- قَالَ شُعْبَةُ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: حَدَّثَنِي حُذَيْفَةُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ فِي أمتي- اثني عَشَرَ مُنَافِقًا لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يَجِدُونَ رِيحَهَا حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيهِمُ الدُّبَيْلَةُ سِرَاجٌ مِنَ النَّارِ يَظْهَرُ فِي أَكْتَافِهِمْ حَتَّى ينجم من صدورهم» .
[سورة التوبة (9) : الآيات 65 الى 67]
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ الْآيَةُ.
«1089» وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَا قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسِيرُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَبَيْنَ يَدَيْهِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ اثْنَانِ يَسْتَهْزِئَانِ بِالْقُرْآنِ وَالرَّسُولِ، وَالثَّالِثُ يَضْحَكُ. قِيلَ: كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَغْلِبُ الرُّومَ وَيَفْتَحُ مَدَائِنَهُمْ مَا أَبْعَدَهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقِيلَ: كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَزْعُمُ أَنَّهُ نَزَلَ فِي أَصْحَابِنَا الْمُقِيمِينَ بِالْمَدِينَةِ قُرْآنٌ، وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ وَكَلَامُهُ، فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: احْبِسُوا عَلَيَّ الرَّكْبَ، فَدَعَاهُمْ وَقَالَ لَهُمْ: قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، فَقَالُوا: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، أَيْ كُنَّا نَتَحَدَّثُ وَنَخُوضُ فِي الْكَلَامِ كَمَا يَفْعَلُ الرَّكْبُ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ بالحديث واللعب.
«1090» [كما] قال [ابن] [2] عُمَرُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَشْتَدُّ قُدَّامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والحجارة
__________
1088- إسناده صحيح على شرط مسلم.
شعبة هو ابن الحجاج، أبو نضرة هو المنذر بن مالك.
وهو في «صحيح مسلم» 2779 ح 10 عن محمد بن المثنى بهذا الإسناد.
وأخرجه مسلم 2779 وأحمد (4/ 319، 320) و (5/ 390) وأبو يعلى 1616 من طرق عن شعبة به.
وأخرجه أحمد (4/ 262، 263) من طريق همام عن قتادة به.
1089- ضعيف. أثر قتادة. أخرجه الطبري 16930 و16931 وهذا مرسل، فهو ضعيف.
وذكره الواحدي في «أسبابه» 511 عن قتادة بدون إسناد.
وأثر مقاتل والكلبي ليسا بشيء، فالكلبي متروك متهم ومقاتل إن كان ابن سليمان، فهو كذاب، وإن كان ابن حيان فقد روى مناكير.
1090- م أخرجه الطبري 16927 و16928 وإسناده لا بأس به لأجل هشام بن سعد، وليس في الحديث تسمية الرجل،
(1) في المطبوع «وأصحابه» والمثبت عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.(2/366)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
تَنْكُبُهُ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم يقول له: «أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ» ما يلتفت إليه ولا يزيده عليه. قوله: قُلْ، أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ للمنافقين، أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ، كِتَابِهِ، وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ.
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ أَظْهَرْتُمُ الكفر بعد ما أَظْهَرْتُمُ الْإِيمَانَ، إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ، أَيْ: نَتُبْ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْكُمْ، وَأَرَادَ بِالطَّائِفَةِ وَاحِدًا، نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ، بالاستهزاء، وقرأ عَاصِمٌ:
نَعْفُ بِالنُّونِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّ الْفَاءِ، نُعَذِّبْ بِالنُّونِ وَكَسْرِ الذَّالِ، طائِفَةٍ نُصِبَ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ:
يَعْفُ بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا وَفَتَحِ الْفَاءِ، تُعَذِّبَ بالتاء وفتح الذال، طائِفَةٍ رُفِعَ عَلَى غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: الَّذِي عفي عنه [إنما هو] [1] رجل واحد وهو مَخْشِيُّ بْنُ حُمَيِّرٍ الْأَشْجَعِيِّ، يُقَالُ هُوَ الَّذِي كَانَ يَضْحَكُ وَلَا يَخُوضُ، وَكَانَ يَمْشِي مُجَانِبًا لَهُمْ وَيُنْكِرُ بَعْضَ مَا يَسْمَعُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَابَ مِنْ نِفَاقِهِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي لَا أَزَالُ أَسَمَعُ آيَةً تُقْرَأُ أُعْنَى [2] بِهَا تَقْشَعِرُّ الْجُلُودُ مِنْهَا وَتَجِبُ مِنْهَا الْقُلُوبُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ وَفَاتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِكَ لَا يَقُولُ أَحَدٌ أَنَّا غُسِّلْتُ أَنَا كُفِّنْتُ أَنَا دُفِنْتُ، فَأُصِيبَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَمَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا عرف مصرعه غيره.
قَوْلُهُ تَعَالَى: الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، أَيْ: هُمْ عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. وَقِيلَ: أَمْرُهُمْ وَاحِدٌ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى النِّفَاقِ. يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ، بِالشَّرَكِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ، أَيْ: عَنِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ، أَيْ: يُمْسِكُونَهَا عَنِ الصَّدَقَةِ وَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَبْسُطُونَهَا بِخَيْرٍ، نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ، تركوا طاعة الله فتركهم مِنْ تَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ رَحْمَتِهِ فِي الْآخِرَةِ [3] وَتَرَكَهُمْ فِي عَذَابِهِ، إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 68 الى 69]
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ، كافيهم جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ، وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ، أبعدهم الله مِنْ رَحْمَتِهِ، وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ، دَائِمٌ.
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، أَيْ: فَعَلْتُمْ كَفِعْلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِالْعُدُولِ عَنْ [4] أَمْرِ اللَّهِ، فَلُعِنْتُمْ كَمَا لُعِنُوا كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً، بَطْشًا وَمَنَعَةً، وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ، فَتَمَتَّعُوا أَوِ انْتَفَعُوا بِخَلَاقِهِمْ بِنَصِيبِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا بِاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ وَرَضُوا بِهِ عِوَضًا عن الآخرة، فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ،
__________
وكونه ابن سلول باطل، فإن ابن سلول كان رأس المنافقين، وكان يمتنع بقومه.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «عني» والمثبت عن المخطوط.
(3) في المخطوط «العقبى» .
(4) في المطبوع «عن» .(2/367)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
أَيُّهَا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ، كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ، وَسَلَكْتُمْ سَبِيلَهُمْ، وَخُضْتُمْ فِي الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْذِيبِ رُسُلِهِ وَبِالِاسْتِهْزَاءِ بِالْمُؤْمِنِينَ، كَالَّذِي خاضُوا، أَيْ: كَمَا خَاضُوا. وَقِيلَ: كَالَّذِي يَعْنِي كَالَّذِينِ خَاضُوا، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي اسم ناقص، مثل (ما ومن) يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا [الْبَقَرَةِ: 17] ، ثُمَّ قَالَ: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [الْبَقْرَةِ: 17] ، أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، أَيْ: كَمَا حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَخَسِرُوا كَذَلِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُكُمْ وَخَسِرْتُمْ.
«1090» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبد العزيز ثنا أَبُو عُمَرَ الصَّنْعَانِيُّ مِنَ الْيَمَنِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حتى لو دخلوا حجر ضبّ تبعتموهم» [1] ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ» ؟ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «فَهَلِ النَّاسُ إِلَّا هُمْ» .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنْتُمْ أَشْبَهُ الْأُمَمِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ سَمْتًا وَهَدْيًا تَتَّبِعُونَ عَمَلَهُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ غَيْرَ أَنِّي لَا أَدْرِي أَتَعْبُدُونَ الْعِجْلَ أم لا.
[سورة التوبة (9) : الآيات 70 الى 72]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَأْتِهِمْ، يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ، نَبَأُ، خَبَرُ، الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، حِينَ عَصَوْا رُسُلَنَا وَخَالَفُوا أَمْرَنَا كَيْفَ عَذَّبْنَاهُمْ وَأَهْلَكْنَاهُمْ ثُمَّ ذَكَرَهُمْ، فَقَالَ: قَوْمِ نُوحٍ، أُهْلِكُوا بِالطُّوفَانِ، وَعادٍ، أُهْلِكُوا بِالرِّيحِ، وَثَمُودَ بِالرَّجْفَةِ، وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ، بِسَلْبِ النِّعْمَةِ وَهَلَاكِ نَمْرُودَ، وَأَصْحابِ مَدْيَنَ، يَعْنِي: قَوْمَ شُعَيْبٍ أُهْلِكُوا بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَالْمُؤْتَفِكاتِ، الْمُنْقَلِبَاتِ الَّتِي جَعَلْنَا عَالِيَهَا سافلها وهم قوم لوط وقراهم، أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَكَذَّبُوهُمْ وَعَصَوْهُمْ كَمَا فَعَلْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْكُفَّارِ فَاحْذَرُوا تَعْجِيلَ النِّقْمَةِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ، فِي الدِّينِ واجتماع [2] الكلمة والعون
__________
1090- إسناده صحيح على شرط البخاري.
أبو عمر هو حفص بن ميسرة.
وهو في «شرح السنة» 4091 بهذا الإسناد، وفي «صحيح البخاري» 7320 عن محمد بن عبد العزيز به.
وأخرجه البخاري 3456 ومسلم 2669 والطيالسي 2178 وأحمد (3/ 84 و89) وابن حبان 6703 وابن أبي عاصم في «السنة» 74 من طرق عن زيد بن أسلم به.
(1) في المطبوع «لاتبعتموهم» والمثبت عن «صحيح البخاري» والمخطوط.
(2) في المخطوط «اتفاق» .(2/368)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
وَالنُّصْرَةِ. يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالْخَيْرِ، وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، عَنِ الشِّرْكِ وَالْمَعْصِيَةِ وَمَا لَا يُعْرَفُ فِي الشَّرْعِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ، الْمَفْرُوضَةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً، مَنَازِلَ طَيِّبَةً، فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، أَيْ: بَسَاتِينُ خُلْدٍ وَإِقَامَةٍ، يُقَالُ: عَدَنَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
هِيَ بُطْنَانُ الْجَنَّةِ، أَيْ: وَسَطُهَا.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ قَصْرًا يُقَالُ لَهُ عَدَنٌ حَوْلَهُ الْبُرُوجُ وَالْمُرُوجُ لَهُ خَمْسَةُ آلَافِ بَابٍ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: قَصْرٌ مِنْ ذَهَبٍ لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صَدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ أَوْ حَكَمٌ عَدْلٌ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ: عَدَنٌ نَهْرٌ فِي الجنّة جناته عَلَى حَافَّتَيْهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: عَدَنٌ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْجَنَّةِ وفيها عين التنسيم وَالْجِنَانُ حَوْلَهَا مُحْدِقَةٌ بِهَا، وَهِيَ مُغَطَّاةٌ مِنْ حِينِ خَلَقَهَا اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يَنْزِلَهَا أَهْلُهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ، وَمَنْ شَاءَ الله، وفيها قصور الدر والياقوت وَالذَّهَبُ، فَتَهُبُّ رِيحٌ طَيِّبَةٌ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ فَتَدْخُلُ عَلَيْهِمْ كُثْبَانُ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ الْأَبْيَضِ، وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ
، أَيْ: رِضَا اللَّهِ عنهم أكبر من ذلك النعيم الذي هم فيه، ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
«1091» رَوَيْنَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ:
يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ:
أَفَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أَحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أبدا» .
[سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ: بالسيف والقتال [1] ، وَالْمُنْفِقِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ جِهَادِ الْمُنَافِقِينَ، فقال ابْنُ مَسْعُودٍ: بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَقَالَ: لَا تَلَقَ الْمُنَافِقِينَ إِلَّا بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِاللِّسَانِ وَتَرْكِ الرِّفْقِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِتَغْلِيظِ الْكَلَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ
__________
1091- صحيح. أخرجه البخاري 7518 ومسلم 2829 وابن حبان 7440 وابن مندة 820 وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 342) وفي «صفة الجنة» 282 والبيهقي في «البعث» 445 من طرق عن ابن وهب عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري.
وأخرجه البخاري 6549 ومسلم 2829 والترمذي 2555 وأحمد (3/ 88) وابن مندة 820 والبيهقي في «البعث» 445 من طريق ابن المبارك عن مالك بالإسناد المذكور. [.....]
(1) في المطبوع «القتل» والمثبت عن المخطوط.(2/369)
وَقَتَادَةُ: بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ فِي الْآخِرَةِ، جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، وقال عَطَاءٌ: نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا [الآية] .
«1092» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّ حُجْرَةٍ فَقَالَ: «إِنَّهُ سَيَأْتِيكُمْ إِنْسَانٌ فَيَنْظُرُ إِلَيْكُمْ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ، فَإِذَا جَاءَ فَلَا تُكَلِّمُوهُ» ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ طَلَعَ رَجُلٌ أَزْرَقُ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
«عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ» ؟ فَانْطَلَقَ الرجل وَجَاءَ بِأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا قَالُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ.
«1093» وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي الْجُلَاسِ بْنِ سُوِيدٍ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ ذَاتَ يَوْمٍ بِتَبُوكَ فَذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ وَسَمَّاهُمْ رِجْسًا وَعَابَهُمْ، فَقَالَ جُلَاسٌ: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا لِنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ فَسَمِعَهُ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ، فَقَالَ: أَجَلْ إِنَّ مُحَمَّدًا لَصَادِقٌ وَأَنْتُمْ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَتَاهُ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ الْجُلَاسُ، فَقَالَ الْجُلَاسُ: كَذَبَ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَمَرَهُمَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْلِفَا عِنْدَ الْمِنْبَرِ [بعد العصر] [1] ، فَقَامَ الْجُلَاسُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا قَالَهُ، وَلَقَدْ كَذَبَ عَلَيَّ عَامِرٌ، ثُمَّ قَامَ عَامِرٌ فَحَلَفَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ قَالَهُ وَمَا كَذَبْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَى نَبِيِّكَ تَصْدِيقَ الصَّادِقِ مِنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ: «آمِينَ» ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ [على النبي] [2] قبل أن يتفرّقوا بِهَذِهِ الْآيَةِ، حَتَّى بَلَغَ: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ، فَقَامَ الْجُلَاسُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْمَعُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ عَرَضَ عَلَيَّ التَّوْبَةَ، صَدَقَ عَامِرُ بْنُ قَيْسٍ فِيمَا قَالَهُ لَقَدْ قُلْتُهُ وَأَنَا أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إليه، فقبل رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم ذلك منه [ثم تاب] [3] وحسنت توبته.
وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ، أَيْ: أَظْهَرُوا الْكَفْرَ بَعْدَ إِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَقِيلَ: هِيَ سَبُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: كَلِمَةُ الْكُفْرِ قَوْلُ الْجُلَاسِ: لَئِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا لِنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ. وَقِيلَ: كَلِمَةُ الْكُفْرِ قَوْلُهُمْ: لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8] ، وَسَتَأْتِي [تِلْكَ] [4] الْقِصَّةُ فِي مَوْضِعِهَا في سورة المنافقين [إن شاء الله] [5] ، وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا، قَالَ مُجَاهِدٌ: هَمَّ الْمُنَافِقُونَ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ الَّذِي سَمِعَ قَوْلَهُمْ: لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ، لِكَيْ لَا يُفْشِيَهُ. وَقِيلَ: هُمُ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَقَفُوا عَلَى الْعَقَبَةِ فِي طَرِيقِ تَبُوكَ لِيَفْتِكُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأمَرَهُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مَنْ يَضْرِبُ وُجُوهَ رَوَاحِلَهُمْ، فَأَرْسَلَ حُذَيْفَةَ لِذَلِكَ [6] . وقال السدي: قالوا
__________
1092- أخرجه الطبري 16988 من حديث ابن عباس، وإسناده على شرط الصحيح، لكن سماك تغير حفظه بأخرة.
1093- الكلبي هو محمد بن السائب متروك متهم، لكن روي هذا الخبر من وجوه.
أخرجه الطبري 26982 و16983 من طريقين عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أبيه ومراسيل عروة جياد، والإسناد إليه صحيح، فهو مرسل جيد.
وكرره الطبري 16984 عن ابن إسحاق مختصرا، وهو معضل.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) انظر ما تقدم برقم: 1087 و1088.(2/370)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
إِذَا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ عَقَدْنَا عَلَى رَأْسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبِيٍّ تَاجًا، فَلَمْ يَصِلُوا إِلَيْهِ. وَما نَقَمُوا، وَمَا كَرِهُوا وَمَا أَنْكَرُوا مِنْهُمْ، إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ مولى الجلاس قتل فأمر [لَهُ] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَتِهِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاسْتَغْنَى. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانُوا قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [1] فِي ضَنْكٍ مِنَ الْعَيْشِ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَغْنَوْا بِالْغَنَائِمِ. فَإِنْ يَتُوبُوا مِنْ نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا، يُعْرِضُوا عَنِ الْإِيمَانِ، يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا، بِالْخِزْيِ، وَالْآخِرَةِ، أَيْ: وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ، وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.
[سورة التوبة (9) : آية 75]
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ الْآيَةُ.
«1094» أَخْبَرَنَا أبو سعيد الشريحي ثنا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَا أَبُو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ الْأَصْفَهَانِيُّ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إبراهيم السمرقندي ثنا مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنِي أَبُو الأزهر أحمد [2] بن الأزهر ثنا مروان بْنُ مُحَمَّدٍ [حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ] [3] بْنُ شعيب ثنا مُعَانُ بْنُ رِفَاعَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ:
جَاءَ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ الْأَنْصَارِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَيْحَكَ يَا ثَعْلَبَةُ قَلِيلٌ تُؤَدِّي شُكْرَهُ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ لَا تُطِيقُهُ» ، ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنِي مَالًا، فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا لَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَرَدْتُ أَنْ تَسِيرَ الْجِبَالُ مَعِي ذَهَبًا وَفِضَّةً لَسَارَتْ» ، ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أن يرزقني مالا فو الذي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالًا لَأُعْطِيَنَ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالًا» ، قَالَ: فَاتَّخَذَ غَنَمًا فَنَمَتْ كَمَا يَنْمُو الدُّودُ، فَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْمَدِينَةُ فَتَنَحَّى عَنْهَا، فَنَزَلَ وَادِيًا مِنْ أَوْدِيَتِهَا وَهِيَ تَنْمُو كَالدُّودِ، فَكَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَيُصَلِّي فِي غَنَمِهِ سَائِرَ الصَّلَوَاتِ، ثُمَّ كَثُرَتْ وَنَمَتْ حَتَّى تَبَاعَدَ بِهَا عَنِ الْمَدِينَةِ فَصَارَ لَا يَشْهَدُ إِلَّا الْجُمُعَةَ، ثُمَّ كَثُرَتْ فَنَمَتْ فَتَبَاعَدَ أَيْضًا حَتَّى كَانَ لَا يَشْهَدُ جُمْعَةً وَلَا جماعة.
__________
1094- باطل موضوع. إسناده ساقط والمتن مصنوع.
معان بن رفاعة غير قوي، لكن لا يحتمل مثل هذا الباطل. والحمل فيه على علي بن يزيد الألهاني، فإنه متروك الحديث، وشيخه القاسم بن عبد الرحمن، ضعفه غير واحد. وقال الإمام أحمد: روى عَلِيِّ بْنِ يَزِيدَ عَنِ الْقَاسِمِ أعاجيب، ولا أراها إلا من قبل القاسم.
وأخرجه الطبراني 7873 وفي «الطوال» 20 والطبري 17002 والبيهقي في «الدلائل» (5/ 290، 292) والواحدي في «أسباب النزول» 517 من طريق معان بن رفاعة به.
وأعله الهيثمي في «المجمع» (7/ 31، 32) بعلي بن يزيد وأنه متروك.
وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» (2/ 292) : إسناده ضعيف جدا.
وقال ابن حزم في «جوامع السيرة» ص 98: هذا باطل.
وانظر مزيد الكلام عليه في «تفسير الشوكاني» 1124 و1125 و «أحكام القرآن» 1169 وبكل حال الإسناد ضعيف جدا، والمتن باطل مركب مصنوع، فإن التوبة لم تحجب عن أحد سوى إبليس. وما سواه فتقبل توبته ما لم يغرغر.
(1) زيد في المخطوط «أهل المدينة» .
(2) في المخطوط «محمد» .
(3) زيادة عن المخطوط.(2/371)
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
فَكَانَ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ خَرَجَ يَتَلَقَّى النَّاسَ يَسْأَلُهُمْ عَنِ الْأَخْبَارِ، فَذَكَرَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: «مَا فَعَلَ ثَعْلَبَةُ» ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اتَّخَذَ ثَعْلَبَةُ غَنَمًا [مَا] [1] يَسَعُهَا وَادٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ، يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ، يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الصَّدَقَاتِ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَرَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ وَكَتَبَ لَهُمَا أَسْنَانَ الصَّدَقَةِ، كَيْفَ يَأْخُذَانِ، وَقَالَ لَهُمَا: «مُرَّا على ثعلبة بن حاطب، ورجلا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَخُذَا صَدَقَاتِهِمَا» ، فخرجا إلى ثعلبة حتى أتياه فَسَأَلَاهُ الصَّدَقَةَ وَأَقْرَآهُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ ما هذا إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ، انْطَلِقَا حَتَّى تفرغا الصدقة ثُمَّ عُودَا إِلَيَّ فَانْطَلَقَا وَسَمِعَ بِهِمَا السُّلَمِيُّ [فَنَظَرَ إِلَى] [2] خِيَارِ أَسْنَانِ إِبِلِهِ فَعَزَلَهَا لِلصَّدَقَةِ ثُمَّ استقبلهما بها فلما رأياها قَالُوا: مَا هَذِهِ عَلَيْكَ؟ قَالَ: خُذَاهُ فَإِنَّ نَفْسِي بِذَلِكَ طَيِّبَةٌ، فَمَرَّا عَلَى النَّاسِ فَأَخَذَا الصَّدَقَاتِ، ثُمَّ رَجَعَا إِلَى ثَعْلَبَةَ، فَقَالَ: أَرُوْنِي كِتَابَكُمَا فَقَرَأَهُ، ثُمَّ قَالَ: [مَا هَذِهِ إِلَّا جِزْيَةٌ] مَا هذا إِلَّا أُخْتُ الْجِزْيَةِ، اذْهَبَا حَتَّى أَرَى رَأْيِي، قَالَ: فَأَقْبَلَا فَلَمَّا رَآهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَاهُ قَالَ: «يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ يَا وَيْحَ ثَعْلَبَةَ، ثُمَّ دَعَا لِلسُّلَمِيِّ [3] بِخَيْرٍ» . فَأَخْبَرَاهُ بِالَّذِي صَنَعَ ثَعْلَبَةُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ
الْآيَةَ، إِلَى قَوْلِهِ: وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة: 77] ، وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَقَارِبِ ثَعْلَبَةَ فَسَمِعَ ذَلِكَ فَخَرَجَ حَتَّى أَتَاهُ فَقَالَ: وَيَحُكَ يَا ثَعْلَبَةُ لِقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكَ كَذَا وَكَذَا، فَخَرَجَ ثَعْلَبَةُ حَتَّى أَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ الصَّدَقَةَ، فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ مِنْكَ صَدَقَتَكَ» ، فَجَعَلَ يَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَذَا عَمَلُكَ وَقَدْ أَمَرْتُكَ فَلَمْ تُطِعْنِي» ، فَلَمَّا أَبَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبِضَ صَدَقَتَهُ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ. وَقُبِضَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: اقْبَلْ صَدَقَتِي، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لِمَ يَقْبَلْهَا مِنْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم فأنا لا أَقْبَلُهَا فَقُبِضَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَقْبَلْهَا. فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ أَتَاهُ: فَقَالَ: اقْبَلْ صَدَقَتِي، فَقَالَ: لَمْ يَقْبَلْهَا مِنْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم ولا أبو بكر فأنا لا أَقْبَلُهَا مِنْكَ، فَلَمْ يَقْبَلْهَا. فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ أَتَاهُ فَلَمْ يَقْبَلْهَا منها، وَهَلَكَ ثَعْلَبَةُ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: أَتَى ثَعْلَبَةُ مَجْلِسًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَشْهَدَهُمْ لَئِنْ آتَانِيَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ آتَيْتُ مِنْهُ كُلَّ ذِي حَقِّ حَقِّهِ وَتَصَدَّقَتُ منه فوصلت الرَّحِمَ وَأَحْسَنْتُ إِلَى الْقَرَابَةِ، فَمَاتَ ابن عم له فورث منه مَالًا فَلَمْ يَفِ بِمَا قَالَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ [4] .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي ثَعْلَبَةَ بْنِ حَاطِبٍ وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ وَهُمَا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ خَرَجَا عَلَى مَلَأٍ قُعُودٍ وَقَالَا: وَاللَّهِ لَئِنْ رَزَقَنَا اللَّهُ مَالًا لَنَصَّدَّقَنَّ، فَلَمَّا رَزَقَهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَخِلَا بِهِ، فَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَمِنْهُمْ، يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ، مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلِنُؤَدِّيَن حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ، وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ، نَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الصَّلَاحِ فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ وَالنَّفَقَةِ في الخير.
[سورة التوبة (9) : الآيات 76 الى 79]
فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79)
__________
(1) زيادة عن المخطوط. [.....]
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «للمسلمين» والمثبت عن المخطوط.
(4) أخرجه الطبري 17001 عن ابن عباس به وإسناده ضعيف جدا، فيه عطية بن سعد العوفي ضعيف، ليس بشيء، وعنه مجاهيل.(2/372)
فَأَعْقَبَهُمْ، فَأَخَلَفَهُمْ، نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ، أَيْ: صَيَّرَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمُ [1] النِّفَاقَ، يُقَالُ: أَعْقَبَ فَلَانَا نَدَامَةً إِذَا صَيَّرَ عَاقِبَةَ أَمْرِهِ ذَلِكَ. وَقِيلَ: عَاقَبَهُمْ بِنِفَاقِ قُلُوبِهِمْ. يُقَالُ: عَاقَبْتُهُ وَأَعْقَبْتُهُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ. إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ، يُرِيدُ حَرَمَهُمُ التَّوْبَةَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ.
«1095» أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بن الفضل الخرقي ثنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الله الطيسفوني ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ ثنا أحمد بن عليّ الكشميهني ثنا علي بن حجر ثنا إسماعيل بن جعفر ثنا أَبُو سُهَيْلٍ نَافِعُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِق ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا ائتُمِنَ خَانَ» .
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ، يَعْنِي: مَا أَضْمَرُوا فِي قُلُوبِهِمْ وَمَا تَنَاجَوْا بِهِ بَيْنَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ.
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ الْآيَةُ.
«1096» قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: حَثَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّدَقَةِ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ بأربعة آلاف
__________
1095- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
مالك هو ابن أبي عامر الأصبحي.
وهو في «شرح السنة» 35 بهذا الإسناد.
وأخرجه البخاري 33 و2749 و2682 و6095 ومسلم 59 والترمذي 2631 والنسائي (8/ 117) وأحمد (2/ 357) وأبو عوانة (1/ 20 و21) وابن مندة في «الإيمان» 527 والبيهقي في «السنن» (6/ 288) من طرق عن إسماعيل بن جعفر به.
وأخرجه مسلم 59 ح 109 والترمذي 2631 وأبو عوانة (1/ 21) وابن مندة 528 و529 من طرق عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ به.
وأخرجه مسلم 59 ح 110 وأحمد (3/ 397 و536) وأبو عوانة (1/ 21) وابن مندة 530 وابن حبان 257 والبيهقي (6/ 288) والبغوي في «شرح السنة» 36 من طرق عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ داود بن أبي هند عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أبي هريرة.
1096- ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 519 بقوله قال قتادة وغيره.... فذكره.
وقد أخرجه الطبري 17024 عن قتادة نحوه مختصرا.
وورد هذا الخبر بألفاظ مختلفة من وجوه متعددة فقد جاء عن ابن عباس مختصرا، أخرجه الطبري 17018 وفيه انقطاع بين علي بن أبي طلحة وابن عباس وكرره 17019 مطوّلا عن عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وعطية ضعيف، ومن دونه مجاهيل.
وورد عن مجاهد مرسلا أخرجه برقم 17020 وكرره 17021 و17022 وورد عن عمر بن أبي سلمة 17025 مرسلا.
وورد عن الربيع بن أنس مرسلا عند الطبري أيضا برقم 17026 وأخرجه أيضا 17027 عن ابن إسحاق، وهذا معضل.
وأخرجه 17032 عن يحيى بن كثير اليمامي مرسلا.
وورد عن أبي سلمة عن أبي هريرة عند البزار 2216 «كشف الأستار» ورجاله ثقات لكن رواه مرسلا أيضا بدون ذكر أبي هريرة فهذه رويات كثيرة مختلفة الألفاظ والمعنى واحد، وهو التصدق من قبل ابن عوف وغيره، واللمز من قبل المنافقين.
وورد من حديث أبي مسعود الأنصاري عند البخاري 1415 و1416 و2272 و4668 و4669 ومسلم 1018 والنسائي في «الكبرى» 11223 وفي «التفسير» 243 وابن ماجه 4155 والواحدي في «الأسباب» 518 كلهم عن أبي مسعود.
(1) في المخطوط «أمورهم» .(2/373)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
دِرْهَمٍ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي ثَمَانِيَةُ آلَافٍ جِئْتُكَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ فَاجْعَلْهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمْسَكْتُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ لِعِيَالِي، فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ» ، فَبَارَكَ اللَّهُ في مال عبد الرحمن [1] حَتَّى إِنَّهُ خَلَّفَ امْرَأَتَيْنِ يَوْم مَاتَ فَبَلَغَ ثُمُنُ مَالِهِ لَهُمَا مِائَةً وَسِتِّينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ [2] . وَتَصَدَّقَ يَوْمَئِذٍ عَاصِمُ بْنُ عُدَيٍّ الْعَجْلَانِيُّ بِمِائَةِ [3] وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ. وَجَاءَ أبو عقيل الأنصاري واسمه الحبحاب بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ، وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِتُّ لَيْلَتِي أَجُرُّ بِالْجَرِيرِ الْمَاءَ حَتَّى نِلْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ فَأَمْسَكْتُ أَحَدَهُمَا لِأَهْلِي وأتيتك بالآخر، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْثُرَهُ فِي الصدقة، فلمزهم المنافقون، وقالوا: مَا أَعْطَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعَاصِمٌ إلا رياء وإن كان اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَغَنِيَّانِ عَنْ صَاعِ أَبِي عَقِيلٍ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يذكر فيمن أعطى الصَّدَقَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ.
أَيْ: يَعِيبُونَ، الْمُطَّوِّعِينَ [الْمُتَبَرِّعِينَ] [4] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ، يَعْنِي:
عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَعَاصِمًا. وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ، أَيْ: طَاقَتُهُمْ، يَعْنِي: أَبَا عقيل [والجهد] [5] وَالْجُهْدُ: الطَّاقَةُ، بِالضَّمِّ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَأَهْلِ الْحِجَازِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ بِالْفَتْحِ. وقال الْقُتَيْبِيُّ: الْجُهْدُ بِالضَّمِّ الطَّاقَةُ وَبِالْفَتْحِ المشقّة. فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ، يستهزئون بهم، سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ، أَيْ: جَازَاهُمُ اللَّهُ عَلَى السُّخْرِيَةِ، وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 80 الى 82]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، لفظ أمر معناه الخبر، تَقْدِيرُهُ: اسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، وذكر السبعين في العدد للمبالغة في اليأس عن طمع المغفرة.
«1097» وقال الضَّحَّاكُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ رخّص لي فسأزيدنّ عَلَى السَّبْعِينَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقين: 6] . ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ.
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَالْمُخَلَّفُ الْمَتْرُوكُ بِمَقْعَدِهِمْ، أَيْ: بِقُعُودِهِمْ، خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَيْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مُخَالَفَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَارَ وَأَقَامُوا،
__________
الأنصاري قال: لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء فنزلت الَّذِينَ يَلْمِزُونَ ... ، لفظ البخاري في رواية 4668.
1097- غريب بهذا اللفظ. قال الحافظ في «تخريج الكشاف» (2/ 294) : لم أجده بهذا السياق وأصله في المتفق عليه عن ابن عمر اه.
وانظر الحديث الآتي برقم: 1101.
(1) في المطبوع «ماله» والمثبت عن المخطوط و «أسباب النزول» للواحدي.
(2) في المخطوط «ألف وسبعين ألف درهم» .
(3) في المخطوط «بثمانية» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.(2/374)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ، وَكَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ، قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ، يَعْلَمُونَ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا، فِي الدُّنْيَا، وَلْيَبْكُوا كَثِيراً، فِي الْآخِرَةِ. تَقْدِيرُهُ: فليضحكوا قليلا وسيبكون كَثِيرًا، جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
«1098» أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَنْبَأَنَا السَّيِّدُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ العلوي قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ محمد بن الحسن الشرقي ثنا عبد الله بن هاشم ثنا يحيى بن سعيد ثنا شُعْبَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ [عَنْ أَنَسٍ] [1] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» .
«1099» أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي توبة ثَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أحمد الحارثي ثنا أبو الحسن [عن] محمد بن يعقوب الكسائي ثنا عبد الله بن محمود ثنا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ زيد التغلبي ثنا يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:
سَمِعَتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ ابْكُوا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا [2] فَتَبَاكَوْا فَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَبْكُونَ فِي النَّارِ حَتَّى تَسِيلَ دُمُوعُهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ كَأَنَّهَا جداول حتى [3] تَنْقَطِعُ الدُّمُوعُ فَتَسِيلُ الدِّمَاءُ فَتَقَرَّحُ الْعُيُونُ [4] ، فَلَوْ أَنَّ سُفُنًا أُجْرِيَتْ [5] فيها لجرت» .
[سورة التوبة (9) : الآيات 83 الى 84]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84)
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ، أَيْ: رَدَّكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ، يَعْنِي:
مِنَ الْمُخَلَّفِينَ، وَإِنَّمَا قَالَ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ لِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ من تخلّف من غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ مُنَافِقًا، فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ، مَعَكَ فِي غَزْوَةٍ أُخْرَى، فَقُلْ لَهُمْ: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً فِي سَفَرٍ، وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا
__________
1098- إسناده صحيح على شرط مسلم حيث تفرد عن عبد الله بن هاشم، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
وهو في «شرح السنة» 4066 بهذا الإسناد.
وأخرجه البخاري 4621 و6486 ومسلم 2359 ح 134 والطيالسي 2071 وأحمد (3/ 210 و268) والدارمي (2/ 304) وابن حبان 5792 والقضاعي 1430 و1431 من طرق عن شعبة به وقرن ابن حبان مع «موسى بن أنس» : «قتادة» .
وأخرجه ابن ماجه 4191 وأحمد (3/ 193 و251 و268) والدارمي (2/ 304) من طرق عَنْ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةُ عَنْ أنس به. [.....]
1099- إسناده ضعيف لضعف يزيد الرقاشي، وعمران بن زيد قال ابن معين وأبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتج به.
وهو في «شرح السنة» 4314 بهذا الإسناد، وفي «زهد ابن المبارك برواية نعيم بن حماد» 295 عن عمران بن زيد التغلبي به.
وأخرجه أبو يعلى 4134 من طريق ابن المبارك.
وذكره الهيثمي في «المجمع» (10/ 391) وقال: رواه أبو يعلى وأضعف من فيه يزيد الرقاشي، وقد وثق على ضعفه اه.
وفي الباب من حديث سعد بن أبي وقاص عند ابن ماجه 4196.
وإسناده ضعيف لضعف أبي رافع، واسمه إسماعيل بن رافع.
(1) زيادة عن المخطوط وكتب التخريج.
(2) زيد في المطبوع «أن تبكوا» .
(3) في المطبوع «ثم» والمثبت عن المخطوط و «شرح السنة» .
(4) في المخطوط «الجفون» .
(5) في «شرح السنة» «أرضيت» .(2/375)
إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ [1] ، فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ، أَيْ: مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَقِيلَ: مَعَ الزَّمْنَى وَالْمَرْضَى. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا بِغَيْرِ عُذْرٍ. وَقِيلَ: مَعَ الْخَالِفِينَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ صَاحِبٌ خَالِفٌ إِذَا كَانَ مُخَالِفًا. وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً الآية [التوبة: 84] .
«1100» قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: بَعَثَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَرِيضٌ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «أهلكك حبّ يهود» ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ لِتُؤَنِّبَنِي، إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ لِتَسْتَغْفِرَ لِي وَسَأَلَهُ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِي قَمِيصِهِ وَيُصَلِّيَ عليه.
«1101» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] الْمُلَيْحِيُّ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثنا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله [عن] [2] ابن عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ قَالَ:
لَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ دُعِيَ لَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَلِمَا قَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَثَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي عَلَى ابْنِ أبيّ ابن سلول وقد قام يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا؟ أُعَدِّدُ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «أَخِّرْ عَنِّي يَا عُمَرُ» ، فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ قَالَ: «إِنِّي خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ لَوْ أَعْلَمُ أَنِّي إن زدت على السبعين غفر لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا» ، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ انْصَرَفَ فَلَمْ يَمْكُثْ [3] إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتِ الْآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةَ: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ [التوبة: 84] ، إِلَى قَوْلِهِ: وَهُمْ فاسِقُونَ. قَالَ: فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
«1102» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يوسف ثنا
__________
1100- لم أره بهذا السياق. قال الحافظ في «تخريج الكشاف» (2/ 297) : لم أجده هكذا ... وأما قصة عبد الله ففي الجنائز من «المستدرك» من طريق ابن إسحاق حدثني الزهري عن عروة عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيِّ ليعوده فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فلما عرف فيه الموت قال له: أما والله إن كنت لأنهاك عن حب يهود. فقال: قد أبغضتهم أسعد بن زرارة فما نفعه. فلما مات أتاه ابنه فقال: قد مات فأعطني قميصك أكفنه فيه فنزع عليه الصلاة والسلام قميصه فأعطاه إياه» .
1101- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
الليث هو ابن سعد، عقيل هو ابن خالد، ابن شهاب هو محمد بن مسلم.
وهو في «الأنوار» 223 بهذا الإسناد، وفي «صحيح البخاري» 1366 عن يحيى بن بكير به.
وأخرجه البخاري 4671 والترمذي 3097 والنسائي في «التفسير» 245 وأحمد (1/ 16) والبيهقي (8/ 199) والواحدي في «أسباب النزول» 521 من طرق عن ابن شهاب الزهري به.
1102- إسناده صحيح على شرط البخاري.
علي هو المديني، سفيان هو ابن عيينة.
وهو في «صحيح البخاري» 1350 عن علي بن عبد الله بهذا الإسناد.
وأخرجه البخاري 1350 و3008 و5795 ومسلم 2773 والنسائي (4/ 37 و38) و (4/ 84) وفي «الكبرى» 2028 والحميدي 1247 وأحمد (3/ 381) وأبو يعلى 1828 من طرق عن سفيان به.
وأخرجه مسلم بإثر 2773 والنسائي (4/ 84) من طريق عمرو بن دينار به.
(1) في المطبوع وحده «غزاة أخرى» والمثبت عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط ومصادر التخريج.
(3) في المطبوع «يلبس» والمثبت عن المخطوط و «صحيح البخاري» .(2/376)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا عَلِيُّ بن عبد الله ثنا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبَدِ اللَّهِ قَالَ: أَتَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بعد ما أدخل حُفْرَتِهِ فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ فَوَضَعَهُ على ركبتيه ونفث مِنْ رِيقِهِ وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا. قال سفيان: وقال أبو هريرة: وَكَانَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَانِ، فَقَالَ [له] [1] ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلْبِسْ أَبِي قَمِيصَكَ الَّذِي يَلِي جِلْدَكَ.
«1103» وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ أتي بالأسارى وأتي بِالْعَبَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ [فنظر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له قميصا] [2] فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [إِيَّاهُ] [3] ، فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ الَّذِي أَلْبَسَهُ عبد الله- وقال ابْنُ عُيَيْنَةَ- كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يُكَافِئَهُ.
«1104» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلِّمَ فِيمَا فَعَلَ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا يُغْنِي عَنْهُ قَمِيصِي وَصَلَاتِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَاللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ بِهِ أَلْفٌ مِنْ قومه» .
وروي أنه أسلم أَلْفٌ مِنْ قَوْمِهِ لَمَّا رَأَوْهُ يَتَبَرَّكُ بِقَمِيصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم [4] .
[سورة التوبة (9) : آية 85]
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)
قَوْلُهُ: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ، وَلَا تَقِفْ عَلَيْهِ، و [قيل] : لا تَتَوَلَّ دَفْنَهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ: قَامَ فَلَانٌ بِأَمْرِ فُلَانٍ إِذَا كَفَاهُ أَمْرَهُ. إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ، فَمَا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَهَا عَلَى مُنَافِقٍ وَلَا قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتَّى قُبِضَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) .
[سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 90]
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)
__________
وأخرجه أحمد (3/ 371) من طريق أبي الزبير عن جابر.
1103- صحيح. أخرجه البخاري 3008 والنسائي في «الكبرى» 2029 من حديث جابر. [.....]
1104- غريب هكذا. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» (2/ 299) : لم أره هكذا وأصله أخرجه الطبري ... اه.
قلت: هو عند الطبري 17073 عن قتادة في أثناء حديث وفيه: «وَقَالَ قَتَادَةُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم كلّم في ذلك فقال:
وما يغني عنه قميصي من الله. أو من ربي. وإني لأرجو أَنْ يُسْلِمَ بِهِ أَلْفٌ مِنْ قومه» وهذا مرسل ورواه بصيغة التمريض فهو ضعيف.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن «صحيح البخاري» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) قال الحافظ في «تخريج الكشاف» (2/ 299) : لم أره هكذا إلا في مرسل قتادة الذي قبله.(2/377)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ، ذَوُو الْغِنَى وَالسَّعَةِ منهم في القعود والتخلّف، وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ، فِي رِحَالِهِمْ.
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ، يَعْنِي: النِّسَاءَ. وَقِيلَ: مَعَ أَدْنِيَاءِ النَّاسِ وَسَفَلَتِهِمْ. يُقَالُ: فَلَانٌ خَالِفَةُ قَوْمِهِ إِذَا كَانَ دُونَهُمْ، وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ.
لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ، يَعْنِي:
الْحَسَنَاتِ، وَقِيلَ: الْجَوَارِي الْحِسَانُ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) [الرحمن: 7] ، جَمْعُ خَيْرَةٍ، وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْخَيْرَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ إِلَّا اللَّهُ كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السَّجْدَةِ: 17] . وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ الْآيَةُ، قَرَأَ يَعْقُوبُ وَمُجَاهِدٌ: الْمُعَذِّرُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَهُمُ الْمُبَالِغُونَ [1] فِي الْعُذْرِ، يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: لَقَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ، أَيْ: بَالَغَ فِي الْعُذْرِ مَنْ قَدَّمَ النِّذَارَةَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: الْمُعَذِّرُونَ بِالتَّشْدِيدِ، أَيِ: الْمُقَصِّرُونَ، يُقَالُ: عَذَّرَ أَيْ: قَصَّرَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
الْمُعَذِّرُونَ الْمُعْتَذِرُونَ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ وَنُقِلَتْ حَرَكَةُ التَّاءِ إِلَى الْعَيْنِ.
«1105» وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْمُعَذِّرُونَ هُمْ رَهْطُ عامر بن الطفيل جاؤوا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِفَاعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنْ نَحْنُ غزونا معك تغير أعراب طيء عَلَى حَلَائِلِنَا وَأَوْلَادِنَا وَمَوَاشِينَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ أَنْبَأَنِي اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيُغْنِي اللَّهُ عَنْكُمْ» .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا بِعُذْرٍ بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ. قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: كِلَا الْفَرِيقَيْنِ كَانَ مُسِيئًا قَوْمٌ تَكَلَّفُوا عُذْرًا بِالْبَاطِلِ وَهُمُ الذين عناهم تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ، وَقَوْمٌ تَخْلَّفُوا عَنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ عُذْرٍ فَقَعَدُوا جُرْأَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهُمْ الْمُنَافِقُونَ فَأَوْعَدَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ، ثم ذكر أهل العذر.
[سورة التوبة (9) : الآيات 91 الى 93]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)
فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الزَّمْنَى وَالْمَشَايِخَ وَالْعَجَزَةَ. وَقِيلَ:
هُمُ الصِّبْيَانُ، وَقِيلَ: النِّسْوَانُ، وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ، يَعْنِي: الْفُقَرَاءَ حَرَجٌ، مَأْثَمٌ. وَقِيلَ: ضِيقٌ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ، إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، فِي مَغِيبِهِمْ وَأَخْلَصُوا الإيمان والعمل لله وتابعوا [2] الرَّسُولَ. مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ، أَيْ: مِنْ طَرِيقٍ بِالْعُقُوبَةِ،
__________
1105- ذكره المصنف تعليقا، وهو مرسل، ومراسيل الضحاك واهية، فهو ساقط، ليس بشيء.
(1) في المخطوط «البالغون» .
(2) في المطبوع «وبايعوا» .(2/378)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي عَائِذِ [1] بْنِ عَمْرٍو وَأَصْحَابِهِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي عبد الله بن أَمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ، مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا سَبِيلَ عَلَى الْأَوَّلِينَ وَلَا عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَتَوْكَ وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ سُمُّوا الْبَكَّائِينَ: معقل بن يسار وصخر بن خَنْسَاءَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَعْبٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَعُلْبَةُ [2] بْنُ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَسَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزْنِيُّ، أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَدَبَنَا إِلَى الْخُرُوجِ مَعَكَ فَاحْمِلْنَا [3] . وَاخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ:
لِتَحْمِلَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَأَلُوهُ أَنْ يَحْمِلَهُمْ عَلَى الدَّوَابِّ. وَقِيلَ: سَأَلُوهُ أَنْ يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة، ليغزوا معه فأجابهم النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ تعالى: قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا، وَهُمْ يَبْكُونَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) .
إِنَّمَا السَّبِيلُ، بِالْعُقُوبَةِ، عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ، فِي التَّخَلُّفِ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ، مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 94 الى 98]
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ، يُرْوَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ نَفَرًا، فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاؤوا يَعْتَذِرُونَ بِالْبَاطِلِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ، لَنْ نُصَدِّقَكُمْ، قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ، فِيمَا سَلَفَ، وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ، فِي الْمُسْتَأْنَفِ أَتَتُوبُونَ مِنْ نِفَاقِكُمْ أَمْ تُقِيمُونَ عَلَيْهِ؟ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ، إِذَا انْصَرَفْتُمْ إِلَيْهِمْ مِنْ غَزْوِكُمْ، لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ، لِتَصْفَحُوا عَنْهُمْ وَلَا تُؤَنِّبُوهُمْ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، فَدَعَوْهُمْ، وَمَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ، إِنَّهُمْ رِجْسٌ نَجِسٌ، أَيْ: إِنَّ عَمَلَهُمْ قَبِيحٌ، وَمَأْواهُمْ فِي الْآخِرَةِ، جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
__________
(1) في المطبوع عن «زيد بن عمر» والمثبت عن المخطوط و «تفسير الطبري» .
(2) في المخطوط «علية» وفي المطبوع «عبلة» والمثبت عن «دلائل النبوة» للبيهقي (5/ 218) و «أسباب النزول» للواحدي 522.
(3) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 522 بدون عزو لأحد.
وورد بنحوه عن محمد بن كعب مرسلا، أخرجه الطبري 17103، وله شواهد مراسيل.(2/379)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
«1106» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي جَدِّ بْنِ قَيْسٍ وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ وَأَصْحَابِهِمَا، وَكَانُوا ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ: «لَا تُجَالِسُوهُمْ وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ» .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ حَلَفَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ بَعْدَهَا، وَطَلَبَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْضَى عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ:
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) .
الْأَعْرابُ، أَيْ: أَهْلُ الْبَدْوِ، أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً، مِنْ أَهْلِ الْحَضَرِ، وَأَجْدَرُ، أي:
أَخْلَقُ [1] وَأَحْرَى، أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ، وَذَلِكَ لِبُعْدِهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةِ السُّنَنِ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا فِي قُلُوبِ خَلْقِهِ، حَكِيمٌ، فِيمَا فَرَضَ مِنْ فَرَائِضِهِ.
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً، قال عطاء: لا يرجون على إعطائه ثوابا ولا يخافون على إمساكه عقابا وإنما ينفقون [2] خوفا ورياء. وَالْمَغْرَمُ: الْتِزَامُ مَا لَا يُلْزَمُ. وَيَتَرَبَّصُ، وَيَنْتَظِرُ، بِكُمُ الدَّوائِرَ، يَعْنِي: صُرُوفَ الزَّمَانِ الَّتِي تَأْتِي مَرَّةً بِالْخَيْرِ وَمَرَّةً بِالشَّرِّ. وَقَالَ يَمَانُ بن رباب: يَعْنِي يَنْقَلِبُ [3] الزَّمَانُ عَلَيْكُمْ فَيَمُوتُ الرَّسُولُ وَيَظْهَرُ الْمُشْرِكُونَ، عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ، عَلَيْهِمْ يَدُورُ الْبَلَاءُ وَالْحَزَنُ وَلَا يَرَوْنَ فِي مُحَمَّدٍ وَدِينِهِ إلّا ما يكرهون وما يَسُوءُهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: دائِرَةُ السَّوْءِ هَاهُنَا وَفِي سورة الفتح بضم السين، ومعناه: الضُّرُّ وَالْبَلَاءُ وَالْمَكْرُوهُ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ السِّينِ عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقِيلَ:
بالفتح الرداءة [4] وَالْفَسَادُ، وَبِالضَّمِّ الضُّرُّ وَالْمَكْرُوهُ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، نَزَلَتْ فِي أَعْرَابِ أَسَدٍ وغَطَفَانَ وَتَمِيمٍ. ثُمَّ اسْتَثْنَى فقال:
[سورة التوبة (9) : الآيات 99 الى 100]
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وقال مُجَاهِدٌ: هُمْ بَنُو مُقَرِّنٍ مِنْ مُزَيْنَةَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَسْلَمُ وَغِفَارٌ وجهينة.
«1107» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ عبد الله الطَّاهِرِيُّ أَنْبَأْنَا جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّازُ أَنَا
__________
1106- ذكره الشوكاني في «فتح القدير» (2/ 451) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن السدي، وهذا معضل، فهو ضعيف جدا، وقد صح نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم المسلمين عن كلام كعب بن مالك وصاحبيه حتى قبل الله توبتهم.
1107- صحيح، إسحاق ثقة، وقد توبع ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
عبد الرزاق هو ابن همام، معمر بن راشد، أيوب بن أبي تميمة، ابن سيرين هو محمد.
وهو في «شرح السنة» 3748 بهذا الإسناد، وفي «مصنف عبد الرزاق» 19877 عن معمر بهذا الإسناد.
وأخرجه البخاري 3523 ومسلم 2521 و192 وأحمد 2/ 420 و422 من طرق عن أيوب به.
(1) في المخطوط «أحق» . [.....]
(2) في المطبوع «ينفق» والمثبت عن المخطوط.
(3) في المخطوط «يتغلب» .
(4) في المطبوع «الردة» والمثبت عن المخطوط.(2/380)
أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا العَذَافِرِيُّ أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدّبري أنبأنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسَلَمُ وَغِفَارٌ وَشَيْءٌ مِنْ جُهَيْنَةَ ومُزَيْنَةَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ تَمِيمٍ وَأَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ وَهَوَازِنَ وغَطَفَانَ» . وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ، الْقُرُبَاتُ جَمْعُ الْقُرْبَةِ، أَيْ:
يَطْلُبُ الْقُرْبَةَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَصَلَواتِ الرَّسُولِ، أَيْ: دُعَاءَهُ وَاسْتِغْفَارَهُ، قَالَ عَطَاءٌ: يَرْغَبُونَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ. قَرَأَ نَافِعٌ بِرِوَايَةِ وَرْشٍ «قُرُبَةٌ» بِضَمِّ الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا.
سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ، فِي جَنَّتِهِ، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [الآية] ، قرأ يعقوب وَالْأَنْصارِ [1] رفع، عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: وَالسَّابِقُونَ، وَاخْتَلَفُوا في السابقين، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَقَتَادَةُ وَابْنُ سَيْرَيْنَ وَجَمَاعَةٌ: هُمُ الَّذِينَ صَلَّوا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ. وَقَالَ عَطَاءُ بن أبي رياح: هُمْ أهْلُ بَدْرٍ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُمُ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَوَّلِ مَنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ امْرَأَتِهِ خَدِيجَةَ، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ وَصَلَّى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قول جابر، وقال مُجَاهِدٌ وَابْنُ إِسْحَاقَ: أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ:
أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بَعْدَ خَدِيجَةَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَانَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيُّ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ [2] فَيَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنَ النِّسَاءِ خَدِيجَةُ، وَمِنَ الصِّبْيَانِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمِنْ العبيد [بلال، ومن الموالي] [3] زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ.
قَالَ ابْنُ إسحاق: لما أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ وَدَعَا إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَكَانَ رَجُلًا مُحَبَّبًا سَهْلًا وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ وَأَعْلَمَهَا بِمَا كَانَ فِيهَا، وَكَانَ تَاجِرًا ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ، وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرٍ وَاحِدٍ مِنَ الْأَمْرِ، لِعِلْمِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ، فَجَعَلَ يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثَقَ بِهِ مَنْ قَوْمِهِ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ فِيمَا بَلَغَنِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍّ وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَجَاءَ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ [4] [اسْتَجَابُوا لَهُ ف] [5] أسلموا وصلّوا، فكان هؤلاء الثمانية نفر الَّذِينَ سَبَقُوا إِلَى الْإِسْلَامِ، ثُمَّ تتابع الناس في الدخول إلى الإسلام. وأمّا السَّابِقُونَ مِنَ الْأَنْصَارِ فَهُمُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَكَانُوا ستة [نفر] [6] فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى وَسَبْعِينَ فِي [العقبة] [7] الثَّانِيَةِ، وَالَّذِينَ آمَنُوا حِينَ قَدِمَ عليهم أبو زرارة مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ، فأسلم معه
__________
وأخرجه مسلم 2521 ح 190 وأحمد (2/ 468) من طريق شعبة عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ به.
وأخرجه أحمد (2/ 450) وابن حبان 7291 من طريق مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سلمة عن أبي هريرة به.
وأخرجه مسلم 2521 ح 191 والترمذي 3950 من طريق الأعرج عن أبي هريرة به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «الأخبار» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المخطوط «حتى» .
(5) زيادة عن «ط» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيادة عن المخطوط.(2/381)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
خُلُقٌ كَثِيرٌ وَجَمَاعَةٌ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ، الَّذِينَ هَاجَرُوا قَوْمَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ وَفَارَقُوا أَوْطَانَهُمْ. وَالْأَنْصارِ، أَيْ: وَمِنَ الْأَنْصَارِ، وَهُمُ الَّذِينَ نَصَرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَعْدَائِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَآوَوْا أَصْحَابَهُ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، قيل: بَقِيَّةُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ سِوَى السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ.
وَقِيلَ: هُمُ الَّذِينَ سَلَكُوا سَبِيلَهُمْ فِي الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ أَوِ النُّصْرَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: هُمُ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ بِالتَّرَحُّمِ وَالدُّعَاءِ.
وَقَالَ أَبُو صَخْرٍ حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ [1] : أَتَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ كَعَّبٍ الْقُرَظِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: مَا قَوْلُكَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: جَمِيعُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ مُحْسِنُهُمْ وَمُسِيئُهُمْ، فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَقُولُ هَذَا؟ فَقَالَ: اقْرَأْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ، إِلَى أَنْ قَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَقَالَ: وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ، شَرَطَ فِي التَّابِعَيْنِ شَرِيطَةً وَهِيَ أَنْ يَتْبَعُوهُمْ فِي أَفْعَالِهِمُ الْحَسَنَةِ دُونَ السَّيِّئَةِ. قَالَ أَبُو صَخْرٍ: فَكَأَنِّي لَمْ أَقْرَأْ هَذِهِ الآية قط.
«1108» وروينا [2] أن النبيّ قال: «لا تسبّوا أصحابي فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مَدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» . ثُمَّ جَمَعَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الثَّوَابِ فَقَالَ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ [3] : (مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِ [4] أَهْلِ مكة [5] ، [وقرأ الآخرون بحذف من] [6] ، خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
[سورة التوبة (9) : آية 101]
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ، وَهُمْ مِنْ مُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ وَأَشْجَعَ وَأَسْلَمَ وَغِفَارٍ كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، يَقُولُ: مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، أَيْ: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ قَوْمٌ مُنَافِقُونَ، مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ، أَيْ: مُرِّنُوا عَلَى النِّفَاقِ، يُقَالُ: تَمَرَّدَ فَلَانٌ عَلَى رَبِّهِ، أَيْ: عتا [وتمرّد على معصيته إذا مُرِّنَ وَثَبَتَ عَلَيْهَا وَاعْتَادَهَا وَمِنْهُ التمرد والمارد، وقال ابْنُ إِسْحَاقَ] [7] : لَجُّوا فِيهِ وَأَبَوْا غَيْرَهُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَقَامُوا عليه [واعتادوه] [8] وَلَمْ يَتُوبُوا، لَا تَعْلَمُهُمْ، أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ، نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ.
اخْتَلَفُوا فِي هَذَيْنَ الْعَذَابَيْنِ:
«1109» قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالسُّدِّيُّ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «اخْرُجْ يَا فلان فإنّك منافق،
__________
1108- تقدم في سورة آل عمران آية: 110.
1109- ضعيف، أخرجه الطبري 17137 والطبراني في «الأوسط» 796 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف
(1) في المطبوع «زيادة» والمثبت عن المخطوط و «الجرح والتعديل» . [.....]
(2) في المطبوع «وروي» .
(3) في المخطوط «أهل مكة» .
(4) في المخطوط «مصاحفهم» .
(5) لفظ «أهل مكة» سقط من المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) سقط من المطبوع واستدرك من المخطوط.
(8) زيادة عن المخطوط.(2/382)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
[اخرج يا فلان، اخْرُجْ يَا فُلَانُ] [1] » ، أَخْرَجَ نَاسًا مِنَ الْمَسْجِدِ وَفَضَحَهُمْ، فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ الْأَوَّلُ. وَالثَّانِي:
عَذَابُ الْقَبْرِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَوَّلُ الْقَتْلُ وَالسَّبْيُ، والثاني: عذاب القبر. عنه رِوَايَةٌ أُخْرَى: عُذِّبُوا بِالْجُوعِ مَرَّتَيْنِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الدُّبَيْلَةُ فِي الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْقَبْرِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأُولَى الْمَصَائِبُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ فِي الدُّنْيَا، وَالْأُخْرَى عَذَابُ الْآخِرَةِ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْأُولَى إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ، وَالْأُخْرَى عَذَابُ الْقَبْرِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ مَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْظِ الْإِسْلَامِ وَدُخُولِهِمْ فِيهِ مِنْ غَيْرِ حِسْبَةٍ عذاب القبر.
وقيل: أحدهما ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ عِنْدَ قبض أرواحهم، والآخر عَذَابُ الْقَبْرِ. وَقِيلَ:
الْأُولَى إِحْرَاقُ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَالْأُخْرَى إِحْرَاقِهِمْ بِنَارِ جَهَنَّمَ. ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ، أَيْ: [إِلَى] عَذَابِ جَهَنَّمَ يخلدون فيه.
[سورة التوبة (9) : آية 102]
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخَرُونَ، أَيْ: وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَوْ مِنَ الْأَعْرَابِ آخَرُونَ، وَلَا يَرْجِعُ هَذَا إِلَى الْمُنَافِقِينَ، اعْتَرَفُوا، أَقَرُّوا، بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً، وَهُوَ إِقْرَارُهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَتَوْبَتُهُمْ، وَآخَرَ سَيِّئاً، أي: بعمل آخر سيّىء، وَضْعُ الْوَاوِ مَوْضِعَ الْبَاءِ، كَمَا يُقَالُ: خَلَطْتُ الْمَاءَ وَاللَّبَنَ، أَيْ: باللبن.
والعمل السيّء هُوَ تَخَلُّفُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ نَدَامَتُهُمْ وَرَبْطُهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِالسَّوَارِي.
وَقِيلَ: غَزَوَاتُهُمْ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
«1110» نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ تَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، ثُمَّ نَدِمُوا عَلَى ذَلِكَ، وَقَالُوا: نَكُونُ [2] فِي الظِّلَالِ مَعَ النِّسَاءِ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ فِي الْجِهَادِ وَاللَّأْوَاءِ، فَلَمَّا قَرُبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ قَالُوا: وَاللَّهِ لَنُوثِقَنَّ أَنْفُسَنَا بِالسَّوَارِي فَلَا نُطْلِقُهَا حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الذي يطلقنا، وَيَعْذُرُنَا فَأَوْثَقُوا أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ فَلَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِهِمْ فَرَآهُمْ، فَقَالَ: «مَنْ هَؤُلَاءِ» ؟
فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْكَ فَعَاهَدُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لَا يُطْلِقُوا أَنْفُسَهُمْ حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ [الذي] [3] تُطْلِقُهُمْ وَتَرْضَى عَنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَنَا أُقْسِمُ بِاللَّهِ لَا أُطْلِقُهُمْ وَلَا أَعْذُرُهُمْ حَتَّى أُومَرَ بِإِطْلَاقِهِمْ، لأنهم رَغِبُوا عَنِّي وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ» ، فَأَنْزِلُ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْلَقَهُمْ وعذرهم،
[سورة التوبة (9) : آية 103]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
فَلَمَّا أُطْلِقُوا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ أَمْوَالُنَا الَّتِي خَلَّفَتْنَا عَنْكَ فَتَصَدَّقْ بِهَا وَطَهِّرْنَا وَاسْتَغْفِرْ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ شَيْئًا» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة:
103] الآية.
__________
حسين بن عمرو العنقزي، وقد ضعفه الهيثمي في «المجمع» (7/ 34) به. وفيه السدي فيه ضعف.
1110- أخرجه الطبري 17151 والبيهقي في «الدلائل» (5/ 271، 272) من رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عن ابن عباس، وفيه إرسال بين ابن أبي طلحة وابن عباس.
وكرره الطبري 17152 عن عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وعطية. هو ابن سعد. ضعيف الحديث، وعنه مجاهيل.
وورد من مرسل الضحاك أخرجه الطبري 17158 ومن مرسل سعيد بن أبي عروبة برقم 17154 لكن باختصار، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله أعلم.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «يكونون» والمثبت عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.(2/383)
واختلفوا في عدد هَؤُلَاءِ التَّائِبِينَ:
فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: كَانُوا عَشَرَةً مِنْهُمْ أَبُو لُبَابَةَ.
وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنْهُ: أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَةً أَحَدُهُمْ أَبُو لُبَابَةَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: كَانُوا ثَمَانِيَةً.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: كَانُوا سَبْعَةً. وَقَالُوا جَمِيعًا: أَحَدُهُمْ أَبُو لُبَابَةَ. وَقَالَ قَوْمٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ خَاصَّةً. وَاخْتَلَفُوا فِي ذَنْبِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي لُبَابَةَ حِينَ قَالَ لِقُرَيْظَةَ: إِنْ نَزَلْتُمْ عَلَى حُكْمِهِ فَهُوَ الذَّبْحُ وَأَشَارَ [بيده] [1] إِلَى حَلْقِهِ [2] .
«1111» وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: نَزَلَتْ فِي تَخَلُّفِهِ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ فَرَبْطَ نَفْسَهُ بِسَارِيَةٍ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحِلُّ نَفْسِي وَلَا أَذُوقُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا حَتَّى أَمُوتَ أَوْ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَيَّ، فَمَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لَا يَذُوقُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا حَتَّى خَرَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، فَقِيلَ لَهُ: قَدْ تِيْبَ عَلَيْكَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَحِلُّ نَفْسِي حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي يَحِلُّنِي، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَّهُ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ أَبُو لُبَابَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْتُ فِيهَا الذَّنْبَ، وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، قَالَ: يَجْزِيكَ يَا أَبَا لُبَابَةَ الثُّلْثُ. قَالُوا جَمِيعًا: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُلْثَ أَمْوَالِهِمْ، وَتَرَكَ الثُّلْثَيْنِ.
لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ، وَلَمْ يَقِلْ: خُذْ أَمْوَالَهُمْ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هَؤُلَاءِ سِوَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خلّفوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ، بِهَا مِنْ ذُنُوبِهِمْ، وَتُزَكِّيهِمْ بِها، أَيْ: تَرْفَعُهُمْ مِنْ مَنَازِلِ الْمُنَافِقِينَ إِلَى مَنَازِلِ الْمُخْلِصِينَ. وَقِيلَ: تُنَمِّي أَمْوَالَهُمْ، وَصَلِّ عَلَيْهِمْ، أَيِ: ادْعُ لَهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ.
وَقِيلَ: هُوَ قَوْلُ السَّاعِي لِلْمُصَّدِّقِ إِذَا أَخَذَ الصَّدَقَةَ مِنْهُ: آجَرَكَ اللَّهُ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَبَارَكَ لَكَ فِيمَا أَبْقَيْتَ.
وَالصَّلَاةُ فِي اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ. إِنَّ صَلاتَكَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: صَلاتَكَ عَلَى التَّوْحِيدِ وَنَصْبِ التَّاءِ هَاهُنَا، وَفِي سُورَةِ هُودٍ: أَصَلاتُكَ [هود: 87] ، وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: (عَلَى صَلَاتِهِمْ) [2] ، كُلُّهُنَّ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَافَقَهُمَا حَفْصٌ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ هُودٍ [87] ، وَقَرَأَ الآخرون بالجمع فيهنّ وكسر التاء هاهنا وفي سورة المؤمنين [2] ، ولا خلاف في التي في الأنعام: وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ [الأنعام: 92] ، والتي في المعارج: هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ [المعارج: 23] ، إنهما جميعا على التوحيد. سَكَنٌ لَهُمْ، أَيْ: إِنَّ دُعَاءَكَ رَحْمَةٌ لَهُمْ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: طُمَأْنِينَةٌ لَهُمْ وَسُكُونٌ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَبِلَ مِنْهُمْ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: تَثْبِيتٌ لِقُلُوبِهِمْ. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ الدُّعَاءِ عَلَى الإمام عند أخذ الصدقة، فقال بَعْضُهُمْ: يَجِبُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يُسْتَحَبُّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ فِي صَدَقَةِ الْفَرْضِ وَيَسْتَحِبُّ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ. وَقِيلَ: يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ وَيُسْتَحَبُّ للفقير أن يدعو للمعطي.
__________
1111- أخرجه الطبري 17164 والبيهقي في «الدلائل» (5/ 270، 271) عن الزهري مرسلا فهو ضعيف، وورد بغير هذا السياق.
(1) زيادة عن المخطوط. [.....]
(2) أخرجه الطبري 17160 عن مجاهد مرسلا وانظر «دلائل النبوة» للبيهقي (5/ 270) .(2/384)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
«1112» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثنا آدم بن أبي إياس ثنا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَاهُ قوم [1] بِصَدَقَةٍ قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِمْ» ، فَأَتَاهُ أَبِي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» .
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانِ: لَيْسَ هَذَا فِي صَدَقَةِ الْفَرْضِ إِنَّمَا هُوَ لصدقة كَفَّارَةِ الْيَمِينِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هِيَ صَدَقَةُ الْفَرْضِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ تَوْبَةُ هَؤُلَاءِ قَالَ الَّذِينَ لَمَّ يَتُوبُوا مِنَ الْمُتَخَلِّفِينَ: هَؤُلَاءِ كَانُوا مَعَنَا بالأمس لا يكالمون [2] ولا يجالسون، فما لهم؟ وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم لما رجع إلى المدينة نهى المؤمنين عن مكالمة المنافقين ومجالستهم؟ [فقال الله تعالى] :
[سورة التوبة (9) : الآيات 104 الى 106]
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ، أَيْ: يَقْبَلُهَا، وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
«1113» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْأَصَمُّ أَنْبَأَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنْبَأَنَا الشَّافِعِيُّ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ ابْنِ عَجْلَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أبي هريرة قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [3] يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ عَبْدٍ يتصدّق بصدقة من كسب
__________
1112- إسناده صحيح على شرط البخاري لتفرده عن آدم.
شعبة هو ابن الحجاج.
وهو في «شرح السنة» 1560 بهذا الإسناد.
وفي «صحيح البخاري» 4166 عن آدم به.
وأخرجه البخاري 1497 و6332 و6359 ومسلم 1078 وأبو داود 1590 والنسائي (5/ 31) وعبد الرزاق 6957 والطيالسي 819 وأحمد (4/ 353 و355 و381 و388) وابن حبان 917 وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 96) والبيهقي (2/ 152) و (4/ 157) من طرق عن شعبة به.
1113- حديث صحيح، الشافعي قد توبع هو ومن دونه، ومن فوقه رجال مسلم. ابن عجلان هو محمد.
وهو في «شرح السنة» 1625 بهذا الإسناد.
وفي «مسند الشافعي» (1/ 220) عن ابن عيينة به.
وأخرجه (2/ 431) وابن حبان 3319 عن ابن عجلان به.
وأخرجه مسلم 1014 والترمذي 661 والنسائي (5/ 57) وابن ماجه 1842 وأحمد (2/ 538) وابن حبان 3316 والبغوي في «شرح السنة» 1626 من طريق الليث عن سعيد المقبري عن ابن يسار به.
وأخرجه البخاري 1410 من طريق ابن دِينَارٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أبي هريرة به.
(1) في المطبوع «قومه» والمثبت عن المخطوط و «صحيح البخاري» .
(2) في المخطوط «يكلمون» .
(3) في المخطوط «رسول الله» .(2/385)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا طِيبًا وَلَا يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ إِلَّا طِيبٌ، إِلَّا كَأَنَّمَا يَضَعُهَا في يد الرحمن فَيُرَبِّيهَا لَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، حَتَّى إِنَّ اللُّقْمَةَ لِتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنَّهَا لِمِثْلُ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ» ، ثُمَّ قَرَأَ: أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) ، قَالَ مُجَاهِدٌ: هذا وعيد لهم. قيل: [في] [1] رؤية الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [2] بِإِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ، وَرُؤْيَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِإِيقَاعِ الْمَحَبَّةِ فِي قُلُوبِهِمْ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ، وَالْبِغْضَةِ لِأَهْلِ الْفَسَادِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ: مُرْجَوْنَ بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَالْآخَرُونَ بِالْهَمْزِ، وَالْإِرْجَاءُ: التَّأْخِيرُ، مُرْجَوْنَ:
مُؤَخَّرُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ: لِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ، وَهُمُ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ تَأْتِي قِصَّتُهُمْ مِنْ بَعْدُ: كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَمَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، لَمْ يُبَالِغُوا فِي التَّوْبَةِ وَالِاعْتِذَارِ كَمَا فَعَلَ أبو لبابة وأصحابه، فَوَقَفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسِينَ لَيْلَةً وَنَهَى النَّاسَ عَنْ مُكَالَمَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ، حَتَّى شَقَّهُمُ الْقَلَقُ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ فَجَعَلَ أُنَاسٌ يَقُولُونَ: هَلَكُوا، وَآخَرُونَ يَقُولُونَ: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ، فَصَارُوا مُرْجَئِيْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ، [إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، أي: لا يدرون إما يعذبهم، أو يَرْحَمُهُمْ] [3] حَتَّى نَزَلَتْ تَوْبَتُهُمْ بَعْدَ خمسين ليلة.
[سورة التوبة (9) : آية 107]
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ الَّذِينَ بَلَا وَاوٍ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ، وَقَرَأَ الآخرون بِالْوَاوِ. مَسْجِداً ضِراراً.
«1114» نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بنو مَسْجِدًا يُضَارُّونَ بِهِ مَسْجِدَ قُبَاءٍ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ وخذام بْنُ خَالِدٍ، وَمِنْ دَارِهِ أُخْرِجُ هَذَا الْمَسْجِدُ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ، وحارثة بن عمرو، وَابْنَاهُ مُجَمِّعٌ وَزَيْدٌ، وَمُعَتِّبُ بْنُ قُشَيْرٍ، وَعَبَّادُ بْنُ حَنِيفٍ أَخُو سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ، وَأَبُو حُبَيْبَةَ بْنُ الْأَزْعَرِ، وَنَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ، ويجاد بْنُ عُثْمَانَ، وَرَجُلٌ يُقَالُ لَهُ بحذج [4] ، بَنَوْا هَذَا الْمَسْجِدَ ضِرَارًا، يَعْنِي مُضَارَّةً لِلْمُؤْمِنِينَ، وَكُفْراً، بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا جَمِيعًا يُصَلُّونَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ فَبَنَوْا مَسْجِدَ الضِّرَارِ لِيُصَلِّيَ فِيهِ بَعْضُهُمْ فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى الِاخْتِلَافِ وافتراق الكلمة، وكان
__________
1114- قال الحافظ في «تخريج الكشاف» (2/ 309) : لم أجده بهذا السياق إلا في الثعلبي بلا إسناد اه.
وبنحو سياق المصنف أخرجه الطبري 17200 من طريق ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ.
وأخرج الطبري 17201 والبيهقي في «الدلائل» (5/ 262، 263) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عن ابن عباس بعضه، وهو منقطع بين ابن عباس وابن أبي طلحة.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) العبارة في المطبوع «مُرْجَئِيْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ لَا يَدْرُونَ أَيُعَذِّبُهُمْ أَمْ يَرْحَمُهُمْ حَتَّى نَزَلَتْ ... » .
(4) في المخطوط «بخرج» وفي تفسير الطبري «بحرج» .(2/386)
يصلّي بهم مجمع بن حارثة، فِلْمًا فَرَغُوا مِنْ بِنَائِهِ أَتَوْا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَتَجَهَّزُ إِلَى تَبُوكَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلَّةِ وَالْحَاجَةِ، وَاللَّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللَّيْلَةِ الشَّاتِيَةِ، إنا نُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنَا وَتُصَلِّيَ بِنَا فِيهِ وَتَدْعُوَ لَنَا بِالْبَرَكَةِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَلَوْ قَدِمْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَتَيْنَاكُمْ فَصَلَّيْنَا لَكُمْ فِيهِ» .
وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، أَيِ: انْتِظَارًا وَإِعْدَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. يُقَالُ:
أرصدت له إذا عددت لَهُ. وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ وَكَانَ أَبُو عَامِرٍ هَذَا رَجُلًا مِنْهُمْ- وَهُوَ أَبُو حَنْظَلَةَ غِسِّيلُ الْمَلَائِكَةِ [1]- وَكَانَ قَدْ تَرَهَّبَ فِي الجاهلية تنصّر وَلَبِسَ الْمُسُوحَ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ قَالَ لَهُ أَبُو عَامِرٍ:
مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ؟ قَالَ: جِئْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ دِينِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ أَبُو عَامِرٍ: فَإِنَّا عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّكَ لَسْتَ عَلَيْهَا» ، قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكَ أَدْخَلْتَ فِي الْحَنِيفِيَّةِ مَا لَيْسَ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فَعَلْتُ وَلَكِنِّي جِئْتُ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً» ، فَقَالَ أَبُو عَامِرٍ: أَمَاتَ اللَّهُ الْكَاذِبَ مِنَّا طَرِيدًا وَحِيدًا غَرِيبًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«آمِينَ» ، وَسَمَّاهُ أَبَا عَامِرٍ الْفَاسِقَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ أَبُو عَامِرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا أَجِدُ قَوْمًا يُقَاتِلُونَك إِلَّا قَاتَلْتُكَ مَعَهُمْ، فَلَمْ يَزَلْ يُقَاتِلُهُ إِلَى يَوْمِ حُنَيْنٍ، فَلَمَّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ يَئِسَ وَخَرَجَ هَارِبًا إِلَى الشَّامِ فَأَرْسَلَ إِلَى الْمُنَافِقِينَ أَنِ اسْتَعَدُّوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ سِلَاحٍ، وَابْنُوا لِي مَسْجِدًا فَإِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرُّومِ فَآتٍ بِجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ، فأخرج محمدا وأصحابه من المدينة، فَبَنَوْا مَسْجِدَ الضِّرَارِ إِلَى جَنْبِ مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الْفَاسِقُ لِيُصَلِّيَ فِيهِ إِذَا رَجَعَ مِنَ الشَّامِ. قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلُ، يَرْجِعُ إِلَى أَبِي عَامِرٍ يَعْنِي حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، أَيْ: مِنْ قَبْلِ بِنَاءِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا، مَا أَرَدْنَا بِبِنَائِهِ، إِلَّا الْحُسْنى، إِلَّا الْفِعْلَةَ الْحُسْنَى وَهُوَ الرِّفْقُ بِالْمُسْلِمِينَ وَالتَّوْسِعَةُ عَلَى أهل الضعف والعجز عن السير إِلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ، في قولهم [2] وحلفهم.
«1115» وروي أنه لَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَبُوكَ وَنَزَلَ بِذِي أَوَانٍ مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَدِينَةِ أَتَوْهُ فَسَأَلُوهُ إِتْيَانَ مَسْجِدِهِمْ فَدَعَا بِقَمِيصِهِ لِيَلْبَسَهُ وَيَأْتِيَهُمْ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرَ مَسْجِدِ الضِّرَارِ وَمَا هَمُّوا بِهِ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَكَ بْنَ الدُّخْشُمِ وَمَعْنَ بْنَ عُدَيٍّ وَعَامِرَ بْنَ السَّكَنِ وَوَحْشِيًّا قَاتِلَ حَمْزَةَ، وَقَالَ لَهُمْ: «انْطَلِقُوا إِلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظَّالِمِ أَهْلُهُ، فَاهْدِمُوهُ وَاحْرُقُوهُ» ، فَخَرَجُوا سَرِيعًا حَتَّى أَتَوْا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ وَهُمْ رَهْطُ مَالِكِ بْنِ الدُّخْشُمِ، فَقَالَ مَالِكٌ: أَنْظِرُونِي حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي فَدَخْلَ أَهْلَهُ فأخذ سعافا [3] من النخل وأشعل فِيهِ نَارًا، ثُمَّ خَرَجُوا يَشْتَدُّونَ حَتَّى دَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَفِيهِ أَهْلُهُ فحرَّقُوهُ وَهَدَمُوهُ وَتَفَرَّقَ عَنْهُ أَهْلُهُ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُتَّخَذَ ذَلِكَ كُنَاسَةً تُلْقَى فِيهِ الْجِيَفُ وَالنَّتْنُ وَالْقُمَامَةُ. وَمَاتَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ بِالشَّامِ وَحِيدًا فَرِيدًا غَرِيبًا.
وَرُوِيَ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الَّذِينَ بَنَوْا مَسْجِدَ قُبَاءٍ أَتَوْا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِي خِلَافَتِهِ لِيَأْذَنَ لِمُجَمَّعَ بْنَ حَارِثَةَ فَيَؤُمَّهُمْ فِي مسجدهم، فقال: لا ولا نعمت عَيْنٍ أَلَيْسَ بِإِمَامِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ؟ فقال له
__________
1115- أخرجه الطبري 17200 من طريق ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ وَعَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وغيرهم، وهذه مراسيل لكن بإسناد واحد. ولأصله شواهد، وهو بهذا اللفظ ضعيف.
(1) أي: أب لحنظلة الغسيل، فحنظلة هو الملقب بغسيل الملائكة.
(2) في المخطوط «قبلهم» . [.....]
(3) في المخطوط «سعفا» .(2/387)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
مُجَمَّعٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تعجل عليّ فو الله لقد صلّيت فيه وأنا [1] لَا أَعْلَمُ مَا أَضْمَرُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ عَلِمْتُ مَا صَلَّيْتُ مَعَهُمْ فِيهِ، كُنْتُ غُلَامًا قَارِئًا لِلْقُرْآنِ، وَكَانُوا شُيُوخًا لَا يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ فَصَلَّيْتُ وَلَا أَحْسَبُ [2] إِلَّا أَنَّهُمْ يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ أَعْلَمْ مَا فِي أَنْفُسِهِمْ فَعَذَرَهُ عُمَرُ وَصَدَّقَهُ وَأَمَرَهُ بِالصَّلَاةِ فِي مسجد قباء.
قال عَطَاءٌ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَى عُمَرَ الْأَمْصَارَ أمَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَبْنُوا الْمَسَاجِدَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَبْنُوا فِي مَدِينَتِهِمْ مَسْجِدَيْنِ يُضَارُّ أحدهما صاحبه.
[سورة التوبة (9) : آية 108]
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَا تُصَلِّ فِيهِ» ، مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ الضِّرَارِ. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى، اللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَقِيلَ: لَامُ الْقَسَمِ، تَقْدِيرُهُ: وَاللَّهِ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ، أَيْ: بُنِيَ أَصْلُهُ عَلَى التَّقْوَى، مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ، أَيْ: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ بُنِيَ وَوُضِعَ أَسَاسُهُ، أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، مُصَلِّيًا وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: هُوَ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ مَسْجِدُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا:
«1116» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ثنا محمد بن حاتم ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدٍ الْخَرَّاطِ قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ [بن] [3] عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ: مَرَّ بِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قال: قلت لَهُ: كَيْفَ سَمِعْتَ أَبَاكَ يَذْكُرُ فِي الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ فَقَالَ: قَالَ أَبِي: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْمَسْجِدَيْنِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى؟ قَالَ: فَأَخَذَ كَفًّا مِنَ حصباء فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ، ثُمَّ قَالَ: «هُوَ مَسْجِدُكُمْ هَذَا مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ» ، قَالَ: فَقُلْتُ أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ هَكَذَا يَذْكُرُهُ.
«1117» وَأَخْبَرَنَا أَبُو الحسن الشيرازي [4] أَنْبَأَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو
__________
1116- إسناده صحيح على شرط مسلم.
حميد هو ابن صخر.
وهو في «صحيح مسلم» 1398 عن محمد بن حاتم بهذا الإسناد.
وأخرجه الطبري 17220 من طريق يحيى بن سعيد به.
وأخرجه ابن أبي شيبة (2/ 372) ومن طريقه الحاكم (2/ 334) من طريق أسامة بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن أبي سعيد الخدري به.
وأخرجه الترمذي 3099 والنسائي (2/ 36) وأحمد (3/ 8) وابن حبان 1606 والطبري 17234 من طرق عن الليث بن سعد عن عمران بن أبي أنس عن ابن أبي سعيد الخدري به.
1117- إسناده صحيح، ورجاله رجال البخاري ومسلم.
وهو في «شرح السنة» 453 بهذا الإسناد، وفي «الموطأ» (1/ 197) عن خبيب به.
وأخرجه أحمد (2/ 465، 466 و533) من طريق مالك به.
وأخرجه البخاري 7335 وأحمد (2/ 236) من طريق مالك عن خبيب عن حفص عن أبي هريرة مرفوعا دون ذكر أبي.
(1) في المطبوع «إني» والمثبت عن المخطوط.
(2) في المطبوع «أحب» والمثبت عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط ومصادر التخريج.
(4) في المخطوط «السرخسي» .(2/388)
مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ [أو عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ] [1] :
أَنَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» .
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ مَسْجِدُ قُبَاءٍ وَهُوَ رِوَايَةُ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ.
«1118» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثِنًّا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دينار عن ابن عمر قَالَ:
كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ مَاشِيًا وَرَاكِبًا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ، وَزَادَ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ [2] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْجُنَابَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ. وَقَالَ عَطَاءٌ:
كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ وَلَا يَنَامُونَ بِاللَّيْلِ عَلَى الْجَنَابَةِ.
«1119» أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ القَاشَانِيُّ [3] أَنْبَأَنَا أَبُو عُمَرَ [4] الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرِ بن
__________
سعيد الخدري.
وأخرجه البخاري 1888 و6588 ومسلم 1391 وعبد الرزاق 5243 وأحمد (2/ 376 و438 و401) وابن حبان 3750 وأبو نعيم في «أخبار أصبهان» (2/ 376) والبيهقي (5/ 246) من طرق عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عن خبيب به.
وأخرجه الترمذي 3916 وأحمد (2/ 297 و412) وأبو نعيم (1/ 228) من طرق عن أبي هريرة به.
1118- إسناده صحيح على شرط البخاري.
وهو في «شرح السنة» 458 بهذا الإسناد، وفي «صحيح البخاري» 1193 عن موسى بن إسماعيل به.
وأخرجه مسلم 1399 ح 518 والنسائي (2/ 37) وأحمد (2/ 58 و65) وابن حبان 1618 من طريق مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دينار به.
وأخرجه البخاري 1191 و1194 ومسلم 1399 ح 516 و517 وأبو داود 2040 والطيالسي 1840 وابن أبي شيبة (2/ 373) وأحمد (2/ 57 و101 و155) وابن حبان 2628 والبيهقي (5/ 248) من طرق عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ به.
1119- إسناده ضعيف، يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بن أبي ميمونة، وكلاهما مجهول، ولا يصح مرفوعا بهذا اللفظ، وإنما هو موقوف. والله أعلم.
وهو في «سنن أبي داود» 44 عن محمد بن العلاء بهذا الإسناد.
وأخرجه الترمذي 3100 وابن ماجه 357 من طريق يونس بن الحارث به.
ويونس ضعيف، وقد استغربه الترمذي، وللحديث شواهد منها:
حديث ابن عباس عند الحاكم (1/ 187) والطبراني 11065 ولفظه «لما نزلت هذه الآية بعث رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى عويم بن ساعدة، فقال: ما هذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به، فقالوا: يا نبي الله ما خرج منا رجل ولا امرأة إلا غسل دبره.
فقال النبي صلى الله عليه وسلّم ففي هذا ... » . وصححه الحاكم، وسكت الذهبي وقال الهيثمي في «المجمع» 11057: فيه ابن إسحاق، وهو مدلس، وبقية رجاله وثقوا اه.
وورد من حديث أبي أيوب وجابر وأنس عند ابن ماجه 355 والدارقطني (1/ 62) والحاكم (1/ 155، 156) وابن الجارود 40 والبيهقي (1/ 105) .
(1) ما بين المعقوفتين زيادة عن «شرح السنة» و «الموطأ» .
(2) هذه الرواية عند البخاري برقم 1194.
(3) في المخطوط «القاساني» .
(4) في المخطوط «أبو عمرو» . [.....](2/389)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَمْرٍو [1] الْلُّؤْلُؤِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بن الأشعث السِّجِسْتَانِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ يُونُسَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَهْلِ قُبَاءٍ» : فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، قَالَ: «كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَاءِ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةُ» ، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ، أَيِ: الْمُتَطَهِّرِينَ.
[سورة التوبة (9) : آية 109]
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ، قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ «أُسِّسَ» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ السِّينِ، بُنْيانَهُ برفع النون فيها جَمِيعًا عَلَى غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ. وقرأ الآخرون: أسس بفتح الْهَمْزَةِ وَالسِّينِ بُنْيَانَهُ بِنَصْبِ النُّونِ عَلَى تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ. عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ، أَيْ: عَلَى طَلَبِ التَّقْوَى وَرِضَا اللَّهِ تَعَالَى خَيْرٌ، أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا، أي: عَلَى شَفِيرِ، جُرُفٍ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو [2] وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ «جُرْفٍ» سَاكِنَةُ الرَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ، وَهِيَ الْبِئْرُ الَّتِي لَمَّ تُطْوَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الْهُوَّةُ وَمَا يَجْرُفُهُ السيل من الأودية فيتجرّف [3] بِالْمَاءِ فَيَبْقَى وَاهِيًا، هَارٍ، أَيْ: هَائِرٌ وَهُوَ السَّاقِطُ يُقَالُ هَارَ يَهُورُ فَهُوَ هَائِرٌ، ثُمَّ يُقْلَبُ فَيُقَالُ: هَارٍ مِثْلُ شَاكٍ وَشَائِكٍ وَعَاقٍ وَعَائِقٍ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ هار بها إِذَا انْهَدَمَ، وَمَعْنَاهُ السَّاقِطُ الَّذِي يَتَدَاعَى بَعْضُهُ فِي إِثْرِ بَعْضٍ كَمَا يَنْهَارُ الرَّمْلُ وَالشَّيْءُ الرَّخْوُ. فَانْهارَ بِهِ، أَيْ:
سَقَطَ بِالْبَانِي [4] فِي نارِ جَهَنَّمَ، يُرِيدُ بِنَاءَ هَذَا الْمَسْجِدِ الضِّرَارِ كَالْبِنَاءِ عَلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ فَيَهُورُ بِأَهْلِهَا فِيهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ صَيَّرَهُمُ النِّفَاقُ إِلَى النَّارِ. وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ مَا تَنَاهَى أَنْ وَقَعَ فِي النَّارِ، وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ حُفِرَتْ بُقْعَةٌ فيه، فرؤي الدُّخَانُ يَخْرُجُ مِنْهَا. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: رَأَيْتُ الدُّخَانَ يخرج من مسجد الضرار.
[سورة التوبة (9) : الآيات 110 الى 111]
لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً، أَيْ: شَكًّا وَنِفَاقًا، فِي قُلُوبِهِمْ، يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ كانوا في بنائه مُحْسِنِينَ كَمَا حُبِّبَ الْعِجْلُ إِلَى قَوْمِ مُوسَى، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ لِأَنَّهُمْ نَدِمُوا عَلَى بِنَائِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا يَزَالُ هدم بنيانهم ريبة أي [5] حزازة وغيظا في قلوبهم.
__________
قال الحاكم: حديث كبير صحيح في الطهارة اه وسكت الذهبي، وقال الدارقطني: عتبة بن أبي حكيم غير قوي اه.
وحسنه الزيلعي في «نصب الرآية» (1/ 219) والظاهر أنه حسنه لشواهد فإنه يتقوى بها والله أعلم.
وانظر «فتح القدير» للشوكاني 1150 و1151 و1152 و «أحكام القرآن» 1214 وقد فصلت القول فيه في هذا الحديث فلفظ البغوي الصحيح موقوف غير مرفوع.
(1) في المخطوط «عمر» .
(2) في المخطوط «ابن عامر» .
(3) في المخطوط «فيحفر» .
(4) في المخطوط «بالباقي» .
(5) في المطبوع «و» والمثبت عن المخطوط.(2/390)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ، أَيْ: تتصدّع قلوبهم فيموتوا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وحفص وحمزة تَقَطَّعَ بِفَتْحِ التَّاءِ، أَيْ: تَتَقَطَّعُ، فحذفت إحدى التاءين تخفيفا، وقرأ الآخرون: تقطع بضم التاء من التقطيع، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ وَحَدَّهُ «إِلَى أَنْ» بتخفيف اللام على الغاية، وقرأ الباقون إلا أن بتشديد اللام على الاستثناء، ويدلّ على قراءة يعقوب تَفْسِيرُ الضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ: لَا يَزَالُونَ في شك منه وندامة إلى أن يموتوا فحينئذ يستيقنوا، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ.
«1120» قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: لَمَّا بَايَعَتِ الْأَنْصَارُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ بِمَكَّةَ وَهْم سَبْعُونَ نَفْسًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْتَرِطْ لِرَبِّكَ وَلِنَفْسِكَ مَا شِئْتَ، فَقَالَ: «أَشْتَرِطُ لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَشْتَرِطُ لِنَفْسِي أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ» ، قَالُوا: فَإِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ فَمَا لَنَا؟ قَالَ: «الْجَنَّةُ» ، قَالُوا: رَبِحَ الْبَيْعُ لَا نُقِيلُ وَلَا نَسْتَقِيلُ، فَنَزَلَتْ: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.
وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ «بِالْجَنَّةِ» ، يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ، قَرَأَ حَمْزَةُ والكسائي:
«فيقتلون» بضم الياء وفتح التاء «ويقتلون» بفتح الياء وضمّ التاء على تقديم فعل المفعول على فعل الفاعل، يعني: يقتل بعضهم ويقتل الباقون، وقرأ الباقون فيقتلون بفتح الياء وضم التاء ويقتلون بضم الياء وفتح التاء على تقديم فعل الفاعل على ما فعل المفعول. والوجه أنهم يقتلون الكفار أولا ثم يستشهدون، هذا الوجه أظهر والقراءة به أكثر. وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا، أَيْ: ثَوَابُ الْجَنَّةِ لَهُمْ وَعْدٌ وحقٌ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، يَعْنِي: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَعَدَهُمْ هَذَا الْوَعْدَ وَبَيَّنَهُ فِي هَذِهِ الْكُتُبِ، وفيه دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَهْلَ الْمِلَلِ كُلِّهُمْ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ عَلَى ثَوَابِ الْجَنَّةِ، ثُمَّ هَنَّأَهُمْ فَقَالَ: وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا، فَافْرَحُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، قَالَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَايَعَكَ وَجَعَلَ الصَّفْقَتَيْنِ لَكَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ثَامَنَهُمُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ فَأَغْلَى لَهُمْ، وقال الحسن: اسعوا إِلَى بَيْعَةٍ رَبِيحَةٍ بَايَعَ اللَّهُ بِهَا كُلَّ مُؤْمِنٍ. وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ الدُّنْيَا فَاشْتَرِ الْجَنَّةَ بِبَعْضِهَا، ثُمَّ وَصَفَهُمْ فقال:
[سورة التوبة (9) : الآيات 112 الى 113]
التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113)
التَّائِبُونَ، قَالَ الْفَرَّاءُ: اسْتُؤْنِفَتْ بِالرَّفْعِ لِتَمَامِ الْآيَةِ وَانْقِطَاعِ الْكَلَامِ. وَقَالَ الزجاج: التائبون رفع
__________
1120- ضعيف. أخرجه الطبري 17284 عن محمد بن كعب وغيره مرسلا ومع إرساله فإن في إسناده نجيح بن عبد الرحمن أبو معشر واه، وهو مرسل، والوهن في نزول الآية، لأن البيعة كانت في أول الإسلام.
وفي الباب من حديث عبادة بن الصامت «أن النبي اشترط في بيعة العقبة على من بايعه من الأنصار: أن يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وأنه رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة والسمع والطاعة، ولا ينازعوا في الأمر أهله ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وأهليهم، قالوا: نعم، قال قائل من الأنصار: نعم، هذا لك يا رسول الله! فما لنا؟ قال: الجنة» .
أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (3/ 457) ، وفيه عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ، وهو ضعيف الحديث. وليس فيه ذكر نزول الآية.(2/391)
بالابتداء وَخَبَرُهُ مُضْمَرٌ الْمَعْنَى التَّائِبُونَ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ لَهُمُ الْجَنَّةُ أَيْضًا، [أَيْ: مَنْ لَمْ يُجَاهِدْ غَيْرَ مُعَانِدٍ وَلَا قَاصِدٍ لِتَرْكِ الْجِهَادِ، لِأَنَّ بَعْضَ الْمُسْلِمِينَ يَجْزِي عَنْ بَعْضٍ فِي الْجِهَادِ، فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ صِفَتُهُ فَلَهُ الْجَنَّةُ أَيْضًا] [1] ، وَهَذَا أَحْسَنُ فَكَأَنَّهُ وَعَدَ الْجَنَّةَ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [النِّسَاءِ: 95] ، فَمَنْ جعله تابعا للأول فلهم الوعد بالجنّة أيضا، وإن كان الوعد بالجنة [خالصا] [2] للمجاهدين الموصوفين بهذه الصفات. قوله: التَّائِبُونَ، أَيِ: الَّذِينَ تَابُوا مِنَ الشرك وبرؤوا مِنَ النِّفَاقِ، الْعابِدُونَ الْمُطِيعُونَ الَّذِينَ أَخْلَصُوا الْعِبَادَةَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْحامِدُونَ، الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ.
«1121» وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَوَّلُ مَنْ يُدْعَى إِلَى الْجَنَّةِ يوم القيامة الذي يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ» .
السَّائِحُونَ، قَالَ ابْن مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُمْ الصَّائِمُونَ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّمَا سُمِّيَ الصَّائِمُ سَائِحًا لِتَرْكِهِ اللَّذَّاتِ كُلِّهَا مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ والمنكح [3] . وَقَالَ عَطَاءٌ:
السَّائِحُونَ الْغُزَاةُ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
«1122» رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ] [4] ائْذَنْ لِي فِي السِّيَاحَةِ، فَقَالَ: «إِنَّ سِيَاحَةَ أُمَّتَيِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: السَّائِحُونَ هُمْ طَلَبَةُ الْعِلْمِ. الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ، يَعْنِي الْمُصَلِّينَ، الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، بِالْإِيمَانِ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ، عَنِ الشِّرْكِ. وَقِيلَ: الْمَعْرُوفُ السَّنَةُ وَالْمُنْكَرُ الْبِدْعَةُ.
وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ، الْقَائِمُونَ بِأَوَامِرِ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَهْلُ الْوَفَاءِ بِبَيْعَةِ اللَّهِ. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.
مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ، اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
«1123» فَقَالَ قَوْمٌ: سَبَبُ نُزُولِهَا مَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النعيمي أنا
__________
1121- ضعيف. أخرجه الطبراني في «الكبير» 12345 والطبراني في «الصغير» 288 و «الأوسط» 3057 وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 69) وفي «صفة الجنة» 82 من طريق قيس بن الربيع عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابن عباس به.
وهذا إسناد ضعيف فيه قيس بن الربيع، صدق تغير لما كبر، وحبيب بن أبي ثابت ثقة فقيه لكنه مدلس، وقد عنعنه.
وأخرجه الحاكم (1/ 502) وابن أبي الدنيا في «الصبر» (1/ 50) والبزار 3114 من طريق المسعودي عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ بالإسناد المذكور.
وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وليس كما قالا فالمسعودي لم يرو له مسلم، وقال ابن حبان: كان المسعودي صدوقا، إلا أنه اختلط في آخر عمره، فاستحق الترك اه.
وأخرجه الطبراني في «الصغير» بإثر 288 والمصنف في «شرح السنة» 1263 من طريق نصر بن حماد الورّاق عن شُعْبَةُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ... فذكره مرفوعا.
وفي إسناد نصر بن حماد، كذبه ابن معين وقال النسائي: ليس بثقة وقال البخاري: يتكلمون فيه، راجع «الميزان» (4/ 250، 251) .
وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» 206 عن سعيد بن جبير من قوله، وهو أصح من المرفوع.
1122- تقدم في سورة المائدة آية: 87.
1123- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
(1) ما بين المعقوفتين سقط من المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «النكاح» والمثبت عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط. [.....](2/392)
مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَنْبَأَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الوفاة جاءه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَقَالَ: «أَيْ عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ المغيرة: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ ويعودان بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) ، وأنزل [الله] [1] في أبي طالب [فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم] [2] : إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] .
«1124» وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أنبأنا محمد بن عيسى ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حاتم بن ميمون ثنا يحيى بن سعيد ثنا يَزِيدُ بْنُ كَيْسَانَ حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ الْأَشْجَعِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم لعمّه أبي طالب: «قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدْ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، فَقَالَ: لَوْلَا أَنْ تُعَيِّرُنِي قُرَيْشٌ فَيَقُولُونَ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ الْجَزَعُ لَأَقْرَرْتُ بِهَا عَيْنَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص: 56] .
«1125» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ [حَدَّثَنِي] يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه:
__________
أبو اليمان هو الحكم بن نافع، شعيب هو ابن أبي حمزة، الزهري هو محمد بن مسلم.
وهو في «شرح السنة» 1267 بهذا الإسناد، وفي «صحيح البخاري» 4772 عن أبي اليمان به.
وأخرجه البخاري 1360 و4675 و3884 و6681 ومسلم 24 ح 40 والنسائي (4/ 90) وأحمد (5/ 433) والطبري 17339 وابن حبان 982 والواحدي 530 و661 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 171 و195 وفي «دلائل النبوة» (2/ 342 و343) من طرق عن الزهري به.
1124- إسناده صحيح على شرط مسلم.
أبو حازم هو سلمة بن دينار.
وهو في «صحيح مسلم» 25 ح 42 عن محمد بن حاتم بهذا الإسناد.
وأخرجه مسلم 25 ح 41 والترمذي 3188 وأحمد (2/ 434 و441) والطبري (20/ 92) وابن مندة 38 وابن حبان 6270 والبيهقي في «الدلائل» (2/ 344 و345) والواحدي 662 من طرق عن يزيد بن كيسان به.
1125- إسناده صحيح على شرط البخاري.
الليث هو ابن سعد.
وهو في «شرح السنة» 4298 بهذا الإسناد، وفي «صحيح البخاري» 3885 عن عبد الله بن يوسف به.
وأخرجه البخاري 6564 ومسلم 210 وأحمد (3/ 9 و50 و55) وابن حبان 6271 وابن مندة في «الإيمان» 968 والبيهقي في «الدلائل» (2/ 347) من طرق عن يزيد بن عبد الهاد به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن «صحيح البخاري» .(2/393)
أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ أبو طالب، فَقَالَ: «لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ» .
«1126» وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَبِرَيْدَةُ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَتَى قَبْرَ أُمِّهِ آمِنَةَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ حَتَّى حَمِيَتِ الشَّمْسُ رَجَاءَ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فَيَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَنَزَلَتْ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ الْآيَةَ.
«1127» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ ثَنَا عبد الغافر بن محمد ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: زَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْرَ أُمِّهِ فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ فَقَالَ: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تذكّر الموت» .
«1128» قَالَ قَتَادَةُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَأَسْتَغْفِرَنَّ لِأَبِي كَمَا اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ» ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) .
«1129» قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَبَرًا عَنْ إبراهيم عليه السلام قوله [1] لِأَبِيهِ: سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم: 47] ، سَمِعْتُ رَجُلًا يَسْتَغْفِرُ لِوَالِدَيْهِ وَهُمَا مُشْرِكَانِ، فَقُلْتُ لَهُ: تَسْتَغْفِرُ لَهُمَا وهما مشركان؟ فقال: أو لم يَسْتَغْفِرْ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ؟ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ، إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: 4] .
__________
1126- لم أره من حديث أبي هريرة وبريدة، وإنما أخرجه الطبري 17343 عن عطية قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ ...
فذكره.
ثم أخرجه الطبري برقم 17343 حديث سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ بنحوه.
وانظر الحديث الآتي.
1127- إسناده صحيح على شرط مسلم.
أبو حازم هو سلمة بن دينار.
وهو في «شرح السنة» 1548 بهذا الإسناد، وفي «صحيح مُسْلِمٌ» 976 عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي شيبة به.
وأخرجه أبو داود 3234 والنسائي (4/ 90) وابن ماجه 1572 وابن أبي شيبة (3/ 343) والبيهقي (4/ 76) من طرق عن محمد بن عبيد به.
وورد مطوّلا من حديث ابن مسعود عند الحاكم (2/ 336) وابن حبان 981 والواحدي 532، وصححه الحاكم وتعقبه الذهبي بقوله: أيوب ضعفه ابن معين.
1128- ضعيف. أخرجه الطبري 17347 عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، وهو بهذا اللفظ ضعيف.
1129- أخرجه الترمذي 3101 والنسائي (4/ 91) وأحمد (1/ 99 و130 و131) وأبو يعلى 335 و619 والطبري 17348 من طرق عن سفيان بن سعيد عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الخليل عن علي به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن اه.
قلت: أبو الخليل اسمه عبد الله بن خليل مقبول، فالإسناد لين، لكن توبع على معنى هذا الحديث، انظر «أحكام القرآن» 1225 و1226 بتخريجي.
(1) في المطبوع «قال» والمثبت عن المخطوط.(2/394)
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
[سورة التوبة (9) : آية 114]
وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ، قَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَاءُ في إياه عائدة على [1] إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْوَعْدُ كَانَ مِنْ أَبِيهِ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ وَعَدَهُ أَنْ يُسْلِمَ، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي، يَعْنِي إِذَا أَسْلَمْتَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْأَبِ وَذَلِكَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَعْدَ أَبَاهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ رَجَاءَ إِسْلَامِهِ. وَهُوَ قوله: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مريم: 47] ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ: وَعَدَهَا أَبَاهُ، بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أن الوعد [كان] [2] مِنْ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ الِاسْتِغْفَارُ فِي حَالِ شِرْكِ الْأَبِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ [الممتحنة: 4] ، إِلَى أَنْ قَالَ: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الْمُمْتَحَنَةُ: 4] ، فَصَرَّحَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ لَيْسَ بِقُدْوَةٍ فِي هَذَا الِاسْتِغْفَارِ، وَإِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لَهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ لِمَكَانِ الْوَعْدِ رَجَاءَ أَنْ يُسْلِمَ. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ، لِمَوْتِهِ عَلَى الْكُفْرِ، تَبَرَّأَ مِنْهُ، وَقِيلَ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ، أَيْ: يَتَبَرَّأُ مِنْهُ، وَذَلِكَ مَا:
«1130» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا محمد بن إسماعيل ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي أَخِي عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ لَا تَعْصِنِي؟! فَيَقُولُ لَهُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لَا أَعْصِيكَ، فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لَا تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي [الْأَبْعَدِ] [3] فَيَقُولُ الله عزّ وجلّ: إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ، ثم يقال لإبراهيم: مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟ فَيَنْظُرُ فَإِذَا هو بذيخ [4] متلطخ فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ» ، وفي رواية: فيتبرّأ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ، واختلفوا فِي مَعْنَى الْأَوَّاهِ.
«1131» جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ الْأَوَّاهَ الْخَاشِعُ الْمُتَضَرِّعُ» .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الْأَوَّاهُ الدَّعَّاءُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ الْمُؤْمِنُ التَّوَّابُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: الْأَوَّاهُ الرَّحِيمُ بِعِبَادِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَوَّاهُ الْمُوقِنُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْمُسْتَيْقِنُ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ.
وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: هُوَ الَّذِي يُكْثِرُ التَّأَوُّهَ، وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: أوه [5] من النار،
__________
1130- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
عبد الحميد هو ابن عبد الله الأويسي، ابن أبي ذئب محمد بن عبد الرحمن.
وهو في «شرح السنة» 4205 بهذا الإسناد، وفي «صحيح البخاري» 3350 عن إسماعيل بن عبد الله به.
وأخرجه البخاري 4768 و4769 من طريقين عن ابن أبي ذئب به مختصرا.
1131- ضعيف جدا. أخرجه الطبري 17431 عن عبد الله بن شداد مرسلا، وفي إسناده شهر بن حوشب متكلم فيه، ومثله عبد الحميد بن بهرام. والمتن منكر، وحسبه أن يكون من كلام ابن شداد.
وانظر «فتح القدير» للشوكاني برقم: 1166.
(1) في المطبوع «إلى» .
(2) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3) زيادة عن المخطوط و «صحيح البخاري» .
(4) الذيخ: هو الضبع الذكر.
(5) في المخطوط «آه» .(2/395)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
قبل أن لا ينفع أوه. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَتَأَوَّهُ مِنَ الذُّنُوبِ. وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ: الْأَوَّاهُ الْكَثِيرُ الذِّكْرِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: الأوّاه المسيح. وَرُوِيَ عَنْهُ: الْأَوَّاهُ: الْمُعَلِّمُ لِلْخَيْرِ. وَقَالَ النَّخَعِيُّ: هُوَ الْفَقِيهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الرَّاجِعُ عَنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُ اللَّهُ. وَقَالَ أَيْضًا: هُوَ الْخَائِفُ مِنَ النَّارِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
هُوَ الْمُتَأَوِّهُ شَفَقًا وَفَرَقًا الْمُتَضَرِّعُ يَقِينًا. يُرِيدُ أَنْ يكون تضرّعه على يقين الإجابة ولزوم الطاعة. قَالَ الزَّجَّاجُ:
قَدِ انْتَظَمَ فِي قَوْلِ أَبِي عُبَيْدَةَ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِي الْأَوَّاهِ. وَأَصْلُهُ مِنَ التَّأَوُّهِ وَهُوَ أَنْ يُسْمَعَ لِلصَّدْرِ صَوْتٌ مِنْ تَنَفُّسِ الصُّعَدَاءِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ أَوَّهَ وَتَأَوَّهَ، وَالْحَلِيمُ الصَّفُوحُ عَمَّنْ سَبَّهُ أَوْ نَالَهُ بِالْمَكْرُوهِ، كَمَا قَالَ لِأَبِيهِ عِنْدَ وَعِيدِهِ، وَقَوْلُهُ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي [مَرْيَمُ: 46- 47] ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قال: الحليم السيّد.
[سورة التوبة (9) : آية 115]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ [الْآيَةَ] ، مَعْنَاهُ: ما كان الله ليحكم عليكم بالضلالة بترك الأوامر وباستغفاركم للمشركين، حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ، يُرِيدُ حَتَّى يَتَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالنَّهْيِ، فإذا بيّن وَلَمْ تَأْخُذُوا بِهِ فَعِنْدَ [1] ذَلِكَ تستحقّون الضلال. وقال مُجَاهِدٌ: بَيَانُ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي تَرْكِ الِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ خَاصَّةً وَبَيَانُهُ لَهُمْ فِي مَعْصِيَتِهِ وَطَاعَتِهِ عَامَّةً، فافعلوا وذروا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ قَوْمًا حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَأْتُونَ وَمَا يَذْرُوَن.
«1132» وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هَذَا فِي الْمَنْسُوخِ وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمًا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمُوا وَلَمْ تَكُنِ الْخَمْرُ حَرَامًا وَلَا الْقِبْلَةُ مَصْرُوفَةً إِلَى الْكَعْبَةِ، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَصُرِفَتِ الْقِبْلَةُ، وَلَا عِلْمَ لَهُمْ بِذَلِكَ، ثُمَّ قَدِمُوا بَعْدَ ذَلِكَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدُوا الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ وَالْقِبْلَةَ قَدْ صُرِفَتْ، فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ كُنْتَ عَلَى دِينٍ وَنَحْنُ عَلَى غَيْرِهِ فَنَحْنُ ضُلَّالٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ.
يَعْنِي: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُبْطِلَ عَمَلَ قَوْمٍ قَدْ عَلِمُوا بالمنسوخ حتى يبيّن لَهُمُ النَّاسِخُ. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، ثم عظّم [الله] [2] نفسه، فقال:
[سورة التوبة (9) : الآيات 116 الى 117]
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، يَحْكُمُ بِمَا يَشَاءُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ الْآيَةَ، تابَ اللَّهُ، أَيْ: تَجَاوَزَ وَصَفَحَ. وَمَعْنَى
__________
1132- لا أصل له. الكلبي متروك متهم ومقاتل إن كان ابن سليمان، فهو كذاب، وإن كان ابن حيان، فقد روى مناكير، وهذه الآيات من أواخر ما نزل، وأما قصة شرب الخمر ونحوه فكان في أول الإسلام.
(1) في المخطوط «بعد» .
(2) زيادة عن المخطوط.(2/396)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
تَوْبَتِهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِذْنِهِ لِلْمُنَافِقِينَ بِالتَّخَلُّفِ عَنْهُ. وَقِيلَ: افْتَتَحَ الْكَلَامَ بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ سَبَبَ تَوْبَتِهِمْ، فَذَكَرَهُ مَعَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَالُ: 41] ، وَنَحْوِهِ. وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ، أَيْ: فِي وَقْتِ الْعُسْرَةِ، وَلَمْ يُرِدْ سَاعَةً بِعَيْنِهَا، وَكَانَتْ غَزْوَةُ تَبُوكَ تُسَمَّى غَزْوَةَ الْعُسْرَةِ، وَالْجَيْشُ يُسَمَّى جَيْشَ الْعُسْرَةِ، وَالْعُسْرَةُ الشدّة، وكانت عليهم عُسْرَةٍ فِي الظَّهْرِ وَالزَّادِ وَالْمَاءِ.
قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْعَشَرَةُ مِنْهُمْ يَخْرُجُونَ عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ يَعْتَقِبُونَهُ يَرْكَبُ الرَّجُلُ سَاعَةً ثُمَّ يَنْزِلُ فَيَرْكَبُ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ، وَكَانَ زَادُهُمُ التَّمْرَ الْمُسَوَّسَ وَالشَّعِيرَ الْمُتَغَيِّرَ، وَكَانَ النَّفَرُ مِنْهُمْ يَخْرُجُونَ مَا مَعَهُمْ إِلَّا التَّمَرَاتِ بَيْنَهُمْ فَإِذَا بَلَغَ الجوع من أحدهم [مبلغه] [1] أخذ التمرة فلاكها [في فمه] [2] حَتَّى يَجِدَ طَعْمَهَا ثُمَّ يُعْطِيَهَا لصاحبه فَيَمُصَّهَا، ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى آخِرِهِمْ، وَلَا يَبْقَى مِنَ التَّمْرَةِ إِلَّا النَّوَاةُ، فَمَضَوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم على صدقهم ويقينهم [ففازوا بالجنّة ونعيمها] [3] .
«1133» وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا أَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس [4] الماء فلا يرجع حتى يظن أَنَّ رَقَبَتَهُ سَتَنْقَطِعُ، وَحَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فادع الله، قَالَ: «أَتُحِبُّ ذَلِكَ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يَرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتِ [5] السَّمَاءُ فَأَظَلَّتْ ثُمَّ سَكَبَتْ، فملؤوا ما معهم من القرب، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَجِدْهَا جاوزت الْعَسْكَرَ.
مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ: يَزِيغُ، بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ: كادَ، وَلَمْ يَقُلْ:
كَادَتْ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ. وَالزَّيْغُ: الْمَيْلُ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ مَا كادت تَمِيلُ، قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ، أَيْ:
قُلُوبُ بَعْضِهِمْ، وَلَمْ يُرِدَ الْمَيْلَ عَنِ الدِّينِ بَلْ أَرَادَ الْمَيْلَ إِلَى التَّخَلُّفِ وَالِانْصِرَافِ لِلشِّدَّةِ الَّتِي عَلَيْهِمْ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: هَمَّ نَاسٌ [هموا] [6] بِالتَّخَلُّفِ ثُمَّ لَحِقُوهُ. ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَعَادَ ذِكْرَ التَّوْبَةِ وَقَدْ قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ؟ قِيلَ: ذَكَرَ التَّوْبَةَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ قَبْلَ ذِكْرِ الذَّنْبِ، وَهُوَ مَحْضُ الْفَضْلِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَلَمَّا ذَكَرَ الذَّنْبَ أَعَادَ ذِكْرَ التَّوْبَةِ، وَالْمُرَادُ منه قبولها. إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَمْ يُعَذِّبْهُ أبدا.
[سورة التوبة (9) : آية 118]
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا، أَيْ: خُلِّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَقِيلَ: خُلِّفُوا أَيْ:
أُرْجِئَ أَمْرُهُمْ، عَنْ تَوْبَةِ أَبِي لُبَابَةَ وَأَصْحَابِهِ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ هُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ الشَّاعِرُ وَمَرَارَةُ بن الربيع
__________
1133- أخرجه ابن خزيمة (1/ 52) والحاكم (1/ 159) وابن حبان 1383 والبزار 1841 «كشف» من حديث ابن عمر، وصححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي، والصواب أنه على شرط مسلم وحده، حرملة بن يحيى تفرد عنه مسلم.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «فيلتمس» والمثبت عن المخطوط.
(5) في المطبوع «أفلت» وفي المخطوط «قلت» والمثبت عن «تفسير الطبري» .
(6) زيادة عن المخطوط.(2/397)
وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ كُلُّهُمْ مِنَ الْأَنْصَارِ.
113»
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عَقِيلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ:
سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، قَالَ كَعْبٌ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ غَزَاهَا قَطُّ إِلَّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم يريدون عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا، وَكَانَ مِنْ خَبَرِي أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ [أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ، وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ] [1] حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ.
وَلَمْ يَكُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ غَزْوَةً إِلَّا وَرَّى بِغَيْرِهَا حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ واستقبل سفرا بعيدا ومفاوز وعدوا كثيرا، فجلا لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرٌ، وَلَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ، يُرِيدُ الدِّيوَانَ، قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلَّا ظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ، وَغَزَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثمار والظلال [فأنا إليها أصعر] [2] .
فَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ ولم أقض شيئا فأقول فِي نَفْسِي أَنَا قَادِرٌ عَلَيْهِ [إِذَا أَرَدْتُ] [3] ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَمَادَى بِي الْأَمْرُ حَتَّى اشْتَدَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ، فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلّم غاديا وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا. فَقُلْتُ أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لِأَتَجَهَّزَ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شيئا، فلم يزل [ذلك يتمادى] [4] بي حتى أسرعوا أو تفارط الْغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ، فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَطُفْتُ فِيهِمْ أَحْزَنَنِي أَنِّي لَا أَرَى [لِي أُسْوَةً] [5] إِلَّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النِّفَاقِ أَوْ رَجُلًا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ.
وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: «مَا فَعَلَ كَعْبٌ بن
__________
1134- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
الليث هو ابن سعد، عقيل هو ابن خالد، ابن شهاب هو محمد بن مسلم.
وهو في «صحيح البخاري» 4418 عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ بِهَذَا الإسناد.
وأخرجه مسلم 2769 والترمذي 3102 وعبد الرزاق 9744 وابن أبي شيبة (14/ 540، 445) وأحمد (5/ 387) وابن حبان 3370 والطبري 17461 والبيهقي في «الدلائل» (5/ 273 و279) من طرق عن الزهري به.
وأخرج بعضا منه أبو داود 3320 وابن ماجه 1393 والطبراني في «الكبير» (19/ 90) من طريق عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزهري به. [.....]
(1) سقط من المطبوع واستدرك من «صحيح البخاري» والمخطوط.
(2) ما بين المعقوفتين سقط من المخطوط وليس في «صحيح البخاري» .
(3) ما بين المعقوفتين سقط من المخطوط.
(4) ما بين المعقوفتين سقط من المخطوط.
(5) ما بين المعقوفتين سقط من المخطوط.(2/398)
مالك» ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ: يا رسول الله حبسه براده وَنَظَرُهُ فِي عِطْفَيْهِ، فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا [عَلَيْهِ] [1] إِلَّا خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم، [بينا هو على ذلك رأى رجلا مبيضا يزول به السراب، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: «كن أبا خيثمة» ، فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري وهو الذي تصدّق بصاع التمر حين لمزه المنافقون] [2] ، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمَّا بلغني أنه توجه قافلا من تبوك حضرني همّي وطفقت أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سُخْطِهِ غَدًا وَاسْتَعَنْتُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي.
فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلُ وَعَرَفْتُ أَنِّي لَنْ أَخْرُجَ مِنْهُ أَبَدًا بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَادِمًا وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا، فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَانِيَتَهُمْ وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ، فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: «تَعَالَ» ، فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لِي:
«مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ» ؟ فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سُخْطِهِ بِعُذْرٍ وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلًا وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لِيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلِيَّ وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ [ثقلا] [3] ، إِنِّي لِأَرْجُوَ فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لَا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَقْوَى قَطُّ وَلَا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ» ، فَقُمْتُ وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَاتَّبَعُونِي، فَقَالُوا لِي: وَاللَّهِ مَا علمناك كنت أذنبت قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ فِي أَنْ لَا تَكَونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ، قَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم [لك] [4] ، فو الله ما زالوا يؤنّبوني حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ وَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ، فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعُمْرِيُّ وَهِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بدرا فيهما أسوة حسنة فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي.
قَالَ: وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا أَيُّهَا الثَّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وَتَغَيَّرُوا لنا حتى تنكرت لي فِي نَفْسِي الْأَرْضُ، فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الَّتِي أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ فِي الْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا، ثُمَّ أُصَلِّي قريبا منه وأسرقه النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلَاتِي أَقْبَلَ إِلَيَّ وَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي، حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ النَّاسِ مَشَيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فو الله مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ أُنْشِدُكَ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُنِي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَنَشَدْتُهُ فَسَكَتَ، فعدت له [فَنَشَدْتُهُ] [5] فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تسوَّرْتُ الجدار.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) ما بين المعقوفتين ليس في المخطوط ولا في «صحيح البخاري» .
(3) ليست في المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط و «صحيح البخاري» .
(5) زيادة عن المخطوط و «صحيح البخاري» .(2/399)
قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَطَفِقَ النَّاسُ يشيرون له إليّ حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نواسك، فقلت لما قرأتها [1] : وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلَاءِ، فَتَيَمَّمْتُ بها التنور فسجرته [بها] [2] .
حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينِي فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ فَقَالَ: لَا بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا، وَأَرْسَلَ إلى صاحبي مثل ذَلِكَ، فَقُلْتُ لِامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ وَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ، قَالَ كَعْبٌ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدِمَهُ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبْكِ» ، قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا، قَالَ كَعْبٌ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي امْرَأَتِكَ كَمَا أُذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنْ تَخْدِمَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ.
فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ حَتَّى كَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كلامنا، فلما صليت صلاة الْفَجْرَ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةٍ وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ التي ذكر الله فينا قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ، يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كعب بن مالك أبشر، [قال] : فَخَرَرْتُ لِلَّهِ سَاجِدًا وَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَضَ رجل إلى فرس وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ لَهُ ثوبّي فكسوته إيّاهما [ببشراه والله مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا] [3] يَوْمَئِذٍ، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنِّئُونَنِي بالتوبة ويقولون لي: لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ.
قَالَ كَعْبٌ: حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يهرول حتى صافحني وهنأني [بتوبة الله عليّ] [4] ، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ وَلَا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ، قَالَ كَعْبٌ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ» ! قَالَ: قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَكَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ» ، قُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سهمي الذي بخيبر، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا نَجَّانِي اللَّهُ بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَلَّا أُحَدِّثَ إِلَّا صدقا ما بقيت، فو الله مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلَاهُ اللَّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ مما أبلاني، وو الله مَا تَعَمَّدْتُ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِي هَذَا كَذِبًا، وَإِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ
__________
(1) في المطبوع «قرأته» والمثبت عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط و «صحيح البخاري» .
(3) زيادة عن المخطوط و «صحيح البخاري» .
(4) زيادة عن المخطوط. [.....](2/400)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
فِيمَا بَقِيتُ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ، إِلَى قَوْلِهِ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119] .
«1135» وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ كَعْبٍ، قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلَامِي وَكَلَامِ صَاحِبَيَّ فَلَبِثْتُ كَذَلِكَ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ الْأَمْرُ وَمَا مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ وَلَا يُصَلِّيَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ يَمُوتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكُونَ مِنَ الناس بتلك المنزلة [التي أنا بها] [1] ، فَلَا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَا يصلّي عليّ [أحد] [2] ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَوْبَتَنَا عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَقِيَ الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ وَكَانَتْ أُمُّ سَلَمَةَ مُحْسِنَةً فِي شَأْنِي مُعِينَةً فِي أَمْرِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ تِيْبَ عَلَى كَعْبٍ» ، قَالَتْ: أَفَلَا أُرْسِلُ إِلَيْهِ فَأُبَشِّرُهُ؟ قَالَ: «إذًا يُحَطِّمُكُمُ النَّاسُ فَيَمْنَعُونَكُمُ النَّوْمَ سَائِرَ اللَّيْلَةِ» ، حَتَّى إِذَا صَلَّى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْفَجْرِ آذَنَ بِتَوْبَةِ الله علينا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ، اتَّسَعَتْ، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ، غَمًّا وَهَمًّا، وَظَنُّوا، أَيْ: تَيَقَّنُوا، أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ، لَا مَفْزَعَ مِنَ اللَّهِ، إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا، أَيْ: لِيَسْتَقِيمُوا عَلَى التَّوْبَةِ فَإِنَّ تَوْبَتَهُمْ قَدْ سَبَقَتْ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 119 الى 120]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ، قَالَ نَافِعٌ: مَعَ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: مَعَ الْمُهَاجِرِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ إِلَى قَوْلِهِ: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الْحَشْرِ: 8] . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: مَعَ الَّذِينَ صَدَقَتْ نِيَّاتُهُمْ وَاسْتَقَامَتْ قُلُوبُهُمْ وَأَعْمَالُهُمْ وَخَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ بِإِخْلَاصِ نِيَّةٍ. وَقِيلَ: مَعَ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي الِاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ وَلَمْ يَعْتَذِرُوا بِالْأَعْذَارِ الْكَاذِبَةِ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقْرَأُ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِنَّ الْكَذِبَ لَا يَصْلُحُ فِي جِدٍّ وَلَا هَزْلٍ، وَلَا أَنْ يَعِدَ أَحَدُكُمْ صَبِيِّهُ شَيْئًا ثُمَّ لَا يُنْجِزُ لَهُ، اقرؤوا إن شئتم هَذِهِ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ، ظَاهِرُهُ خَبَرٌ وَمَعْنَاهُ نَهْيٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ [الْأَحْزَابِ: 53] . وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ، سُكَّانُ الْبَوَادِي مُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَأَشْجَعُ وَأَسْلَمُ وَغِفَارٌ، أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، إِذَا غَزَا، وَلا يَرْغَبُوا، أَيْ: وَلَا أَنْ يَرْغَبُوا، بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ، فِي مصاحبته ومعاونته والجهاد معه. وقال الحسن: لا يرغبوا بأنفسهم عن أن يصيبهم من
__________
1135- ذكر بعض هذه الرواية عبد الرزاق في «المصنف» 9744 وابن حبان في «صحيحه» 3370 وإسناده قوي.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.(2/401)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
الشَّدَائِدِ فَيَخْتَارُوا الْخَفْضَ وَالدَّعَةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشَقَّةِ السَّفَرِ وَمُقَاسَاةِ التَّعَبِ. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ، فِي سَفَرِهِمْ، ظَمَأٌ، عَطَشٌ، وَلا نَصَبٌ، تَعَبٌ، وَلا مَخْمَصَةٌ، مَجَاعَةٌ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً، أَرْضًا، يَغِيظُ الْكُفَّارَ، وَطْؤُهُمْ إياها [1] ، وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا، أَيْ: لَا يُصِيبُونَ مِنْ عَدُوِّهِمْ قَتْلًا أَوْ أَسْرًا أَوْ غَنِيمَةً أَوْ هَزِيمَةً، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
«1136» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [2] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ قَالَ: أَدْرَكَنِي أَبُو عَبْسٍ وَأَنَا ذَاهِبٌ إِلَى الْجُمُعَةِ، فَقَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حرّمه [3] اللَّهُ عَلَى النَّارِ» .
وَاخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: هَذِهِ خَاصَّةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَزَا بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ إِلَّا بِعُذْرٍ، فَأَمَّا غَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ فَيَجُوزُ لِمَنْ شَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ ضَرُورَةٌ. وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ وَابْنَ المبارك وابن جابر وسعيد بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّهَا لأَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَآخِرِهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هَذَا حِينَ كَانَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ قَلِيلًا فَلَمَّا كَثُرُوا نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَبَاحَ التَّخَلُّفَ لِمَنْ يَشَاءُ [مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ] [4] ، فَقَالَ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً.
[سورة التوبة (9) : آية 121]
وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (121)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً، أَيْ: فِي سَبِيلِ اللَّهِ، صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً، وَلَوْ عِلَاقَةَ سَوْطٍ، وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً، لَا يُجَاوِزُونَ وَادِيًا فِي مَسِيرِهِمْ مُقْبِلِينَ أَوْ مُدْبِرِينَ، إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ، يَعْنِي: آثَارَهُمْ وَخُطَاهُمْ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ.
«1137» روي عن خزيم بْنِ فَاتِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَنْفَقَ نَفَقَةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ كُتِبَ لَهُ سَبْعُمِائَةِ ضِعْفٍ» .
__________
1136- إسناده صحيح على شرط البخاري.
وهو في «شرح السنة» 2612 بهذا الإسناد، وفي «صحيح البخاري» 907 عن علي بن عبد الله به.
وأخرجه الترمذي 1632 والنسائي (6/ 14) وأحمد (3/ 479) وابن حبان 4605 من طرق عن الوليد بن مسلم به.
وأخرجه البخاري 2811 والبيهقي (9/ 162) من طريق محمد بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ حمزة عن يزيد بن أبي مريم به.
وورد من حديث جابر عند الطيالسي 1772 وأحمد (3/ 367) وأبو يعلى 2075 وابن حبان 4604 والبيهقي (9/ 162) .
1137- جيد. أخرجه الترمذي 1625 والنسائي في «الكبرى» 4395 و11027 وأحمد (4/ 345) والطبراني 4155 والحاكم (2/ 87) وابن حبان 4647 من طريق زائدة عن الرّكين بن الربيع عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَمِيلَةَ عَنْ يسير بن عميلة عن خريم بن فاتك مرفوعا. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: هذا حديث حسن اه. قلت: إسناده حسن صحيح،
(1) في المطبوع «إياه» والمثبت عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «حرمهما» والمثبت عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.(2/402)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
«1138» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ أَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ:
جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ: هَذِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ» .
«1139» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ سَعِيدٍ حدثني زيد بن خالد:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سبيل الله في أهله بخير فقد غزا» .
[سورة التوبة (9) : آية 122]
وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عُيُوبَ الْمُنَافِقِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ السَّرَايَا فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَنْفِرُونَ جَمِيعًا إِلَى الْغَزْوِ وَيَتْرُكُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَهَذَا نَفِيٌ بمعنى النهي.
قوله تعالى: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ، أَيْ: فَهَلَّا خَرَجَ إِلَى الْغَزْوِ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةِ جَمَاعَةٌ وَيَبْقَى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ، لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، يعني: فرقة الْقَاعِدِينَ يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ وَالْفَرَائِضَ وَالْأَحْكَامَ، فَإِذَا رَجَعَتِ السَّرَايَا أَخْبَرُوهُمْ بما أنزل [الله] بعدهم [على نبيّه من القرآن] [1]
__________
رجاله رجال مسلم غير يسير بن عميلة، وهو ثقة.
وأخرجه أحمد (4/ 322 و345 و346) والطبراني 4151 و4152 و4153 و4154 والحاكم (2/ 87) من طرق عن خريم مرفوعا.
1138- إسناده صحيح على شرط مسلم، حيث تفرد عن أبي عمرو الشيباني، وباقي الإسناد على شرطهما.
جرير هو ابن عبد الحميد، الأعمش هو سليمان بن مهران، أبو عمرو هو سعيد بن إياس.
وهو في «شرح السنة» 4619 بهذا الإسناد وفي «صحيح مسلم» 1892 عن إسحاق بن إبراهيم به.
وأخرجه الحاكم (2/ 90) وابن حبان 4649 من طريق جرير به.
1139- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
أبو معمر هو عبد الله بن عمرو، عبد الوارث هو ابن سعيد، حسين هو المعلم اسم أبيه ذكوان.
وهو في «شرح السنة» 2618 بهذا الإسناد وفي «صحيح البخاري» 2843 عن أبي معمر به.
وأخرجه مسلم 1895 وأبو داود 2509 والترمذي 1628 والنسائي (6/ 46) والطيالسي 956 وأحمد (4/ 115 و116 و117) و (5/ 193) وابن الجارود 1037 وابن حبان 4631 و4632 والطبراني 5225 و5226 و5227 و5228 و5234 والبيهقي (9/ 28 و47 و172) من طرق عن بسر بن سعيد به.
(1) زيادة عن المخطوط.(2/403)
فَتَمْكُثُ السَّرَايَا يَتَعَلَّمُونَ مَا نَزَلَ بعدهم وتبث سَرَايَا أُخَرُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ، وَلِيُعْلِمُوهُمْ بِالْقُرْآنِ وَيُخَوِّفُوهُمْ بِهِ، إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ، أن يجهلوا فلا يَعْمَلُونَ بِخِلَافِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هَذَا التَّفَقُّهُ وَالْإِنْذَارُ رَاجِعٌ إِلَى الْفِرْقَةِ النَّافِرَةِ، وَمَعْنَاهُ: هَلَّا نَفَرَ فِرْقَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا، أَيْ:
لِيَتَبَصَّرُوا بِمَا يُرِيهِمُ اللَّهُ مِنَ الظُّهُورِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَنُصْرَةِ الدِّينِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ مِنَ الجهاد فيخبروهم بنصر الله ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ أَنْ يُعَادُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَنْزِلُ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِأَصْحَابِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَهَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ أَحْيَاءً مِنْ بني أسد وخزيمة أَصَابَتْهُمْ سَنَةٌ شَدِيدَةٌ فَأَقْبَلُوا بِالذَّرَارِيِّ حَتَّى نَزَلُوا الْمَدِينَةَ فَأَفْسَدُوا طُرُقَهَا بِالْعَذِرَاتِ وَأَغْلَوْا أَسْعَارَهَا، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ، أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا كَافَّةً وَلَكِنْ مِنْ كُلِّ قَبِيلَةٍ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ خَرَجُوا فِي الْبَوَادِي ابْتِغَاءَ الْخَيْرِ مِنْ أَهْلِهَا فَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَعْرُوفًا وَدَعَوْا مَنْ وَجَدُوا مِنَ النَّاسِ إِلَى الْهُدَى، فَقَالَ النَّاسُ لَهُمْ: مَا نَرَاكُمْ إِلَّا وَقَدْ تَرَكْتُمْ صَاحِبَكُمْ وَجِئْتُمُونَا، فَوَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ ذَلِكَ حَرَجًا، وَأَقْبَلُوا كُلُّهُمْ مِنَ الْبَادِيَةِ حَتَّى دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
أَيْ: هَلَّا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدين وليستمعوا ما أنزل [الله] [1] بَعْدَهُمْ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ، يَعْنِي: النَّاسَ كُلَّهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ بَأْسَ اللَّهِ وَنِقْمَتَهُ، وَقَعَدَتْ طَائِفَةٌ يَبْتَغُونَ الْخَيْرَ.
«1140» أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ الطَيْسَفُونِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِهِينِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» .
«1141» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ ثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ
__________
1140- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم، وللحديث شواهد وطرق.
وهو في «شرح السنة» 132 بهذا الإسناد.
وأخرجه الترمذي 2645 من طريق علي بن حجر به.
وأخرجه أحمد (1/ 306) (2786) والدارمي (1/ 297) من طريقين عن إسماعيل بن جعفر به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وورد من حديث معاوية بن أبي سفيان أخرجه البخاري 71 و3116 و7312 ومسلم 1037 ح 98 وابن ماجه 221 ومالك (2/ 900 و901) وأحمد (4/ 73 و74 و92 و93 و95 و96 و97 و98 و99 و104) والدارمي (1/ 73 و74) وابن حبان 89 والطحاوي في «المشكل» 1683 والطبراني 729 و782 و787 و815 و911 و929 والقضاعي 346 و954 وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (1/ 18 و19) . [.....]
1141- صحيح، الشافعي ثقة إمام ومن دونه ثقات، وقد توبعوا، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم سفيان هو ابن عيينة، أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان، الأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.
وهو في «شرح السنة» 133 بهذا الإسناد، وفي «مسند الشافعي» (1/ 16) عن سفيان به.
(1) زيادة عن المخطوط.(2/404)
أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ أَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَخِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا» .
وَالْفِقْهُ: هُوَ مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الدِّينِ وَهُوَ يَنْقَسِمُ إِلَى فَرْضِ عَيْنٍ وَفَرْضِ كِفَايَةٍ، فَفَرْضُ الْعَيْنِ مِثْلُ عِلْمِ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ فَعَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مَعْرِفَتُهُ.
«1142» قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مسلم ومسلمة» .
وَكَذَلِكَ كَلُّ عِبَادَةٍ أَوْجَبَهَا الشَّرْعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ معرفتها ومعرفة عِلْمِهَا مِثْلُ عِلْمِ الزَّكَاةِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، وَعِلْمِ الْحَجِّ إِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا فَرْضُ الكفاية هو أَنْ يَتَعَلَّمَ حَتَّى يَبْلُغَ دَرَجَةَ [1] الِاجْتِهَادِ وَرُتْبَةَ الْفُتْيَا، فَإِذَا قَعَدَ أَهْلُ بَلَدٍ عَنْ تَعَلُّمِهِ عَصَوْا جَمِيعًا وَإِذَا قَامَ مِنْ كُلِّ بلد واحد بتعلّمه سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْآخَرِينَ، وَعَلَيْهِمْ تَقْلِيدُهُ فِيمَا يَقَعُ لَهُمْ مِنَ الحوادث.
«1143» روى أبو أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَضْلُ الْعَالَمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أدناكم» .
__________
وأخرجه البخاري 3495، 3496 و3587، 3588 من طريق أبي الزناد بهذا الإسناد مختصرا.
أخرجه البخاري 3493 و3494 ومسلم 2526 وص 2011 من طريق أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعا.
وأخرجه مسلم 2526 وأحمد (2/ 524، 525) وابن حبان 5757 من طريق يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هريرة به.
1142- حسن دون لفظ «مسلمة» . أخرجه ابن ماجه 224 وابن عدي (6/ 71) وأبو يعلى 2837 وابن الجوزي في «الواهيات» 60 و61 و74 من طرق عن أنس مرفوعا، وإسناده ضعيف بكل طرقه.
وأخرجه ابن عدي (5/ 242) وابن الجوزي في «الواهيات» 50 من حديث علي.
وأخرجه ابن الجوزي 53 و54 من حديث ابن عمر، و58 من حديث ابن عباس و57 من حديث ابن مسعود، و59 من حديث جابر، ثم ختم كلامه بقوله: هذه الأحاديث كلها لا تثبت ثم تكلم على أسانيده واحدا واحدا، وأعلها بالضعف، ثم ختم كلامه بقوله: قال الإمام أحمد: لا يثبت عندنا في هذا الباب شيء.
وجاء في «المقاصد الحسنة» 660 ما ملخصه: روي عن نحو عشرين تابعيا عن أنس به، وفي كل منها مقال، ولذا قال ابن عبد البر: طرقه كلها معلولة لا حجة في شيء منها من جهة الإسناد، وقال البزار: روي عن أنس بأسانيد واهية. وقال البيهقي: متنه مشهور وإسناده ضعيف، وروي من طرق كلها ضعيفة. وكذا قال أحمد قبله، ومثله إسحاق بن راهويه وقال أبو علي الحافظ: لم يصح فيه إسناد. لكن العراقي قال في «تخريجه الكبير للإحياء» : قد صحح بعض الأئمة طرقه.
وقال المزي: إن طرقه تبلغ به رتبة الحسن اه باختصار.
وقد حسنه شعيب الأرناؤط وعبد القادر الأرناؤط في تعليقهما على كتاب «مختصر منهاج القاصدين» عند بحث: طلب العلم فريضة، وانظر «مختصر منهاج القاصدين» ص 19 بتخريجي والله تعالى أعلم.
تنبيه: اشتهر على الألسنة زيادة «ومسلمة» وهذه الزيادة لم ترد في شيء من طرقه وإنما هي في مضمون الحديث.
فائدة: وأما حديث «اطلبوا العلم، ولو بالصين» فهو ضعيف جدا بل أورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (1/ 251) فأصاب. والله الموفق. وانظر «منهاج القاصدين» رقم 10.
1143- أخرجه الترمذي 2685 من طريق الوليد بن جميل حدثنا القاسم أبو عبد الرحمن عن أبي أمامة مرفوعا.
قال الترمذي: هذا حديث غريب اه.
وأخرجه الدارمي (1/ 88) عن الوليد بن جميل الكتاني حدثنا مكحول، فذكره مرسلا. مع اختلاف يسير فيه.
(1) في المخطوط «رتبة» .(2/405)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
«1144» وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَقِيهٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ» .
قَالَ الشَّافِعِيُّ: طَلَبُ الْعِلْمِ أَفْضَلُ من صلاة النافلة.
[سورة التوبة (9) : الآيات 123 الى 125]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ الْآيَةُ، أُمِرُوا بِقِتَالِ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ إِلَيْهِمْ فِي الدَّارِ وَالنَّسَبِ، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مِثْلُ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَخَيْبَرَ وَنَحْوِهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِمُ الرُّومَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا سُكَّانَ الشَّامِ وَكَانَ الشَّامُ أَقْرَبَ إِلَى [1] الْمَدِينَةِ مِنَ [2] الْعِرَاقِ، وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً، شِدَّةً وَحَمِيَّةً. قَالَ الْحَسَنُ: صَبْرًا عَلَى جِهَادِهِمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، بالعون والنصرة.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، يَقِينًا. كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَقُولُونَ هَذَا اسْتِهْزَاءً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً يَقِينًا وَتَصْدِيقًا، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
__________
قلت: إسناده غير قوي فحديث الترمذي فيه القاسم أبو عبد الرحمن صدوق يرسل كثيرا كما في «التقريب» والوليد بن جميل صدوق يخطىء، وحديث الدارمي مرسل.
لكن للحديث شواهد منها حديث أبي الدرداأ أخرجه أبو داود 3641 والترمذي 2682 وابن ماجه 223 والدارمي (1/ 98) وأحمد (5/ 196) وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» ص 39، 40 والطحاوي في «المشكل» 982 وابن حبان 88 والبغوي في «شرح السنة» 129 وصدره: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا، سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إلى الجنة ... »
وفيه: «.... وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سائر الكواكب ... » .
1144- ضعيف جدا. أخرجه ابن الجوزي في «العلل» 192 من حديث ابن عباس، وقال: هذا حديث لا يصح عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم والمتهم برفعه روح بن جناح اه.
وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه الدارقطني (3/ 79) والطبراني في «الأوسط» 6162 والآجري في «أخلاق العلماء» ص 23 والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 25، 26) والقضاعي 206 من طريق يزيد بن عياض عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سَلِيمٍ عَنْ سليمان بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ به وصدره: «ما عبد الله بشيء أفضل من فقه ... » .
وفيه يزيد بن عياض كذبه مالك وغيره، فهذا الشاهد ليس بشيء.
وأخرجه الخطيب في «تاريخه» (2/ 402) وابن الجوزي في «العلل» 194 من طريق خلف بن يحيى عن إبراهيم بن محمد عن صفوان بالإسناد المذكور.
قال ابن الجوزي: لا يصح عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، وفيه خلف بن يحيى. قال أبو حاتم: لا يشتغل بحديثه، وإبراهيم بن محمد متروك.
وأخرجه الخطيب في «الفقيه والمتفقه» (1/ 25) وابن الجوزي في «العلل» 195 من طريق ابن عدي عن محمد بن سعيد بن مهران عن شيبان عن أبي الربيع السمان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة به.
ونقل ابن الجوزي عن ابن عدي قوله: لا أعلم رواه عن أبي الزناد غير أبي الربيع. قال هشيم: كان أبو الربيع يكذب، وقال يحيى: ليس بثقة، وقال الدارقطني: متروك، وقال ابن حبان: يروي عن الأئمة الموضوعات اه.
(1) في المخطوط «من» .
(2) في المخطوط «إلى» .(2/406)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
، يَفْرَحُونَ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، شَكٌّ وَنِفَاقٌ، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ، أَيْ: [كُفْرًا إِلَى] [1] كُفْرِهِمْ فَعِنْدَ نُزُولِ كُلِّ سُورَةٍ يُنْكِرُونَهَا يَزْدَادُ كُفْرُهُمْ بِهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْآيَةُ إشارة إلى أن الْإِيمَانِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَكَانَ عُمَرُ يَأْخُذُ بِيَدِ الرَّجُلِ وَالرَّجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ فَيَقُولُ: تَعَالَوْا حَتَّى نَزْدَادَ إِيمَانًا.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنَّ الْإِيمَانَ يَبْدُو لَمْظَةً [2] بَيْضَاءَ فِي الْقَلْبِ، فَكُلَّمَا ازْدَادَ الْإِيمَانُ عِظَمًا ازْدَادَ ذَلِكَ الْبَيَاضُ حَتَّى يَبْيَضَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ، وَإِنَّ النِّفَاقَ يَبْدُو لَمْظَةً [3] سَوْدَاءَ فِي الْقَلْبِ فَكُلَّمَا ازْدَادَ النِّفَاقُ ازْدَادَ السَّوَادُ حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ كُلُّهُ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبٍ مُؤْمِنٍ لَوَجَدْتُمُوهُ أَبْيَضَ، وَلَوْ شَقَقْتُمْ عَنْ قَلْبٍ مُنَافِقٍ لَوَجَدْتُمُوهُ أسود. وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ.
[سورة التوبة (9) : الآيات 126 الى 129]
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
قَوْلُهُ: أَوَلا يَرَوْنَ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ: «تَرَوْنَ» بِالتَّاءِ عَلَى خِطَابِ النبيّ والمؤمنين، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ خَبَرٌ عَنِ الْمُنَافِقِينَ الْمَذْكُورِينَ. أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ يُبْتَلُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ، بِالْأَمْرَاضِ وَالشَّدَائِدِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْقَحْطِ وَالشِّدَّةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِالْغَزْوِ وَالْجِهَادِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ:
يُفْضَحُونَ بِإِظْهَارِ نِفَاقِهِمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يُنَافِقُونَ ثُمَّ يُؤْمِنُونَ ثُمَّ يُنَافِقُونَ. وقال يمان [بن رباب] [4] :
يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي السَّنَةِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ، مِنْ نَقْضِ الْعَهْدِ وَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّهِ مِنَ النِّفَاقِ، وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ، أي: ولا يَتَّعِظُونَ بِمَا يَرَوْنَ مِنْ تَصْدِيقِ وَعْدِ اللَّهِ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ، فِيهَا عَيْبُ الْمُنَافِقِينَ وَتَوْبِيخُهُمْ، نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ، يُرِيدُونَ الْهَرَبَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِشَارَةً، هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ، أَيْ: أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنْ قُمْتُمْ فَإِنْ لَمْ يَرَهُمْ أَحَدٌ خَرَجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ أَحَدًا يَرَاهُمْ أَقَامُوا وَثَبَتُوا، ثُمَّ انْصَرَفُوا، عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا.
وَقِيلَ: انْصَرَفُوا عَنْ مَوَاضِعِهِمُ الَّتِي يَسْمَعُونَ فِيهَا، صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، عَنِ الْإِيمَانِ. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الزَّجَّاجُ: أَضَلَّهُمُ اللَّهُ مُجَازَاةً عَلَى فِعْلِهِمْ ذَلِكَ، بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ، عَنِ اللَّهِ دِينَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَا تَقُولُوا إِذَا صَلَّيْتُمُ: انْصَرَفْنَا مِنَ الصَّلَاةِ فَإِنَّ قَوْمًا انْصَرَفُوا فَصَرَفَ [5] اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَلَكِنْ قُولُوا قَدْ قَضَيْنَا الصَّلَاةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ، تَعْرِفُونَ نَسَبَهُ وَحَسَبَهُ، قال السدي: من
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «لمعة» والمثبت عن المخطوط وفي «غريب الحديث» : اللّمظة مثل النكتة أو نحوها من البياض. وفي «القاموس» النكتة السوداء في القلب.
(3) في المطبوع «لمعة» .
(4) زيادة عن المخطوط. [.....]
(5) في المطبوع «صرف» .(2/407)
الْعَرَبِ مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ مِنَ الْعَرَبِ قبيلة إِلَّا وَقَدْ وَلَدَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَهُ فِيهِمْ نَسَبٌ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ: لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ مِنْ ولادة الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ زَمَانِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
«1145» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشريحي أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ [1] الثَّعْلَبِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ محمد أَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ حَدَّثَنِي الْمَدَنِيُّ [2] يَعْنِي أَبَا مَعْشَرٍ عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا وَلَدَنِي مِنْ سِفَاحِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ شَيْءٌ، مَا وَلَدَنِي إِلَّا نِكَاحٌ كَنِكَاحِ الْإِسْلَامِ» .
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّهْرِيُّ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ «مَنْ أَنْفَسِكُمْ» بِفَتْحِ الْفَاءِ، أَيْ: مِنْ أَشْرَفِكُمْ وَأَفْضَلِكُمْ.
عَزِيزٌ عَلَيْهِ، شَدِيدٌ عَلَيْهِ، مَا عَنِتُّمْ، قِيلَ: مَا صِلَةٌ، أَيْ: عَنَتُكُمْ، وَهُوَ دُخُولُ الْمَشَقَّةِ وَالْمَضَرَّةِ عَلَيْكُمْ. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: مَا أَعْنَتَكُمْ وَضَرَّكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا ضَلَلْتُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: مَا أَتْمَمْتُمْ. حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، أَيْ: عَلَى إِيمَانِكُمْ وَصَلَاحِكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أَيْ عَلَى ضَالِّكُمْ أَنْ يَهْدِيَهُ الله، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ، قيل: رؤوف بِالْمُطِيعِينَ رَحِيمٌ بِالْمُذْنِبِينَ، فَإِنْ تَوَلَّوْا، إِنْ أَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ وَنَاصَبُوكَ، فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ.
رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ هَاتَانِ الْآيَتَانِ: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ إِلَى آخَرِ السُّورَةِ، وَقَالَ: هُمَا أَحْدَثُ الْآيَاتِ بِاللَّهِ عَهْدًا.
__________
الخلاصة: هو حديث ضعيف جدا، والصحيح موقوف، ومعناه صحيح.
1145- إسناده ضعيف، لضعف أبي معشر وأبي الحويرث. لكن للحديث شواهد بمعناه، وستأتي.
أبو معشر هو نجيح بن عبد الرحمن السندي، أبو الحويرث هو عبد الرحمن بن معاوية.
وأخرجه الطبراني في «الكبير» 10812 عن علي بن عبد العزيز بهذا الإسناد.
وأخرجه البيهقي (7/ 190) من طريق محمد بن أبي نعيم الواسطي به.
وورد من وجه آخر من حديث ابن عباس بمعناه ولفظه «خرجت من لدن آدم من نكاح غير سفاح» .
أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (1/ 51) وفي إسناده الواقدي وأبو بكر بن أبي سبرة وكلاهما متروك. فهذا الطريق ليس بشيء.
وله شاهد من حديث علي أخرجه الطبراني في «الأوسط» 4725 والرامهرمزي في «المحدث الفاضل» 562 والجرجاني السهمي في «تاريخ جرجان» ص 318، 319 وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/ 267) .
وقال الهيثمي في «المجمع» (8/ 214) (13820) : وفيه مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ بن علي صحح له الحاكم في «المستدرك» وقد تكلم فيه، وبقية رجاله ثقات اه.
وله شاهد آخر من حديث عائشة أخرجه ابن سعد (1/ 51) .
له شاهد من مرسل جعفر بن محمد أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 1147 و1148 والطبري 17518 و17519.
(1) في المطبوع «أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ أنا الثعلبي» .
(2) في المخطوط «المزني» .(2/408)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
سُورَةِ يُونُسَ
سُورَةُ يُونُسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [94- 96] ، إلى آخرها.
[سورة يونس (10) : آيَةً 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1)
الر والمر [الرعد: 1] ، قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَحَفْصٌ بفتح الراء وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْإِمَالَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: الر أَنَا اللَّهُ أرى، والمر أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرَى. وَقَالَ سعيد بن جبير الر وحم (1) ون حُرُوفُ اسْمِ الرَّحْمَنِ، وَقَدْ سَبَقَ الكلام في حرف التَّهَجِّي. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ، أي: هذا وَأَرَادَ بِالْكِتَابِ الْحَكِيمِ الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهَا الْآيَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ [1] ، وَلِذَلِكَ قَالَ: تِلْكَ، وَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ مُؤَنَّثٍ وَالْحَكِيمُ الْمُحْكَمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مُفْعَلٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ [هُودٍ: 1] ، وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْحَاكِمِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ [الْبَقْرَةِ: 213] ، وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْمَحْكُومِ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ. قَالَ الْحَسَنُ: حُكِمَ فِيهِ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَبِالنَّهْيِ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ وَالْبَغْيِ، وَحُكِمَ فِيهِ بِالْجَنَّةِ لِمَنْ أطاعه وبالنار لمن عصاه.
[سورة يونس (10) : الآيات 2 الى 4]
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً، الْعَجَبُ [2] حَالَةٌ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ مِنْ رُؤْيَةِ شَيْءٍ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ. وَسَبَبُ نُزُولِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: اللَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا. فَقَالَ تَعَالَى: أَكانَ لِلنَّاسِ، يَعْنِي: أَهْلَ مكة، والألف فِيهِ لِلتَّوْبِيخِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ، يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ، أَيْ: أَعْلِمْهُمْ مَعَ التَّخْوِيفِ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَجْرًا حَسَنًا بِمَا قَدَّمُوا مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: ثَوَابُ صِدْقٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: عَمَلٌ صَالِحٌ أَسْلَفُوهُ يَقْدِمُونَ عَلَيْهِ. وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أبي طلحة
__________
(1) في المخطوط «من قبلك» .
(2) في المخطوط «التعجب» .(2/409)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ السَّعَادَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ شَفَاعَةُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَقَامُ صِدْقٍ لا زوال وَلَا بُؤْسَ فِيهِ. وَقِيلَ: مَنْزِلَةٌ رَفِيعَةٌ. وَأُضِيفَ الْقَدَمُ إِلَى الصِّدْقِ وَهُوَ نَعْتُهُ، كَقَوْلِهِمْ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ، وَحَبُّ الْحَصِيدِ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: كُلُّ سَابِقٍ فِي خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ قَدَمٌ يُقَالُ لِفُلَانٍ قَدَمٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَهُ عِنْدِي قَدَمُ صِدْقٍ وَقَدَمُ سُوءٍ، وَهُوَ يُؤَنَّثُ فَيُقَالُ: قَدَمٌ صَالِحَةٌ. قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ مُبِينٌ، قَرَأَ نَافِعٌ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالشَّامِ: «لَسِحْرٌ» بِغَيْرِ أَلْفٍ يَعْنُونَ الْقُرْآنَ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ: «لَسَاحِرٌ» بِالْأَلْفِ، يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، يَقْضِيهِ وَحْدَهُ، مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ، مَعْنَاهُ أَنَّ الشُّفَعَاءَ لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَهَذَا رَدٌّ عَلَى النَّضِرِ بْنِ الْحَارِثِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِذَا كان يوم القيامة تشفع عني [1] اللَّاتُ وَالْعُزَّى. قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ، يَعْنِي: الَّذِي فَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ رَبُّكُمْ لَا رَبَّ لكم سواه، فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، تَتَّعِظُونَ.
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا، صِدْقًا لَا خِلْفَ فِيهِ. نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ: وَعَدَكُمْ وَعْدًا حقا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، أَيْ: يُحْيِيهِمُ ابْتِدَاءً ثُمَّ يُمِيتُهُمْ ثُمَّ يُحْيِيهِمْ، قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: إِنَّهُ بِكَسْرِ الْأَلْفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ «أَنَّهُ» بِالْفَتْحِ عَلَى مَعْنَى بِأَنَّهُ أو لأنه، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ، بِالْعَدْلِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ، مَاءٌ حَارٌّ انْتَهَى حَرُّهُ [2] ، وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.
[سورة يونس (10) : الآيات 5 الى 7]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً، بِالنَّهَارِ، وَالْقَمَرَ نُوراً، بِاللَّيْلِ. وَقِيلَ: جَعَلَ الشَّمْسَ ذَاتَ ضِيَاءٍ، وَالْقَمَرَ ذَا نُورٍ، وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ، أَيْ: قَدَّرَ لَهُ يَعْنِي هَيَّأَ لَهُ مَنَازِلَ لَا يُجَاوِزُهَا وَلَا يَقْصُرُ دُونَهَا، وَلَمْ يَقُلْ: قَدَّرَهُمَا. قِيلَ: تَقْدِيرُ الْمَنَازِلِ يَنْصَرِفُ إِلَيْهِمَا غَيْرَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا، كَمَا قَالَ: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التَّوْبَةِ: 62] . وَقِيلَ: هُوَ يَنْصَرِفُ إلى القمر خاصة لأن بالقمر يعرف انْقِضَاءُ الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ لَا بِالشَّمْسِ، وَمَنَازِلُ الْقَمَرِ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلًا وأسماؤها: الشرطين والبطين والثريا وَالدُّبْرَانُ، وَالْهَقْعَةُ وَالْهَنْعَةُ وَالذِّرَاعُ وَالنِّسْرُ [3] ، والطرف [4] وَالْجَبْهَةُ وَالزُّبْرَةُ وَالصِّرْفَةُ وَالْعُوَاءُ، وَالسِّمَاكُ وَالْغَفْرُ وَالزِّبَانِيُّ [5] وَالْإِكْلِيلُ وَالْقَلْبُ، وَالشَّوْلَةُ والنعائم وَالْبَلْدَةُ وَسَعْدُ الذَّابِحِ وَسَعْدُ بَلْعٍ، وَسَعْدُ السُّعُودِ وَسَعْدُ الْأَخْبِيَةِ، وَفَرْعُ]
الدَّلْوِ الْمُقَدَّمِ وَفَرْعُ [7] الدَّلْوِ الْمُؤَخَّرِ، وَبَطْنُ الْحُوتِ، وَهَذِهِ الْمَنَازِلُ مَقْسُومَةٌ على
__________
(1) في المطبوع «تشفعني» .
(2) العبارة في المخطوط «ماء حارّ حرّ شديد» .
(3) في المخطوط «النثرة» .
(4) في المطبوع «الطوف» .
(5) في المخطوط «الزيانان» .
(6) في المطبوع «فرغ» والمثبت عن المخطوط.
(7) في المطبوع «فرغ» . [.....](2/410)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
الْبُرُوجِ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا: الْحَمَلُ وَالثَّوْرُ وَالْجَوْزَاءُ، وَالسَّرَطَانُ [1] وَالْأَسَدُ وَالسُّنْبُلَةُ، وَالْمِيزَانُ وَالْعَقْرَبُ وَالْقَوْسُ، وَالْجَدْيُ والدلو والحوت، فلكل بُرْجٍ مَنْزِلَانِ وَثُلْثُ مَنْزِلٍ، فَيَنْزِلُ الْقَمَرُ كُلَّ لَيْلَة مَنْزِلًا مِنْهَا، وَيَسْتَتِرُ لَيْلَتَيْنِ إِنْ كَانَ الشَّهْرُ ثلاثين، وإن كان [الشهر] [2] تِسْعًا وَعِشْرِينَ فَلَيْلَةٌ وَاحِدَةٌ، فَيَكُونُ [انقضاء الشهر بنزول] [3] تِلْكَ الْمَنَازِلُ وَيَكُونُ مَقَامُ الشَّمْسِ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ ثَلَاثَةَ عَشَرَ يوما وثلث يوم، فيكون انقضاء السنة من انْقِضَائِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ، أَيْ: قَدْرَ الْمَنَازِلِ. لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ دُخُولَهَا وَانْقِضَاءَهَا، وَالْحِسابَ، يَعْنِي: حِسَابَ الشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ. مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ، رَدَّهُ إلى الخلق والتقدير ولولا رَدَّهُ إِلَى الْأَعْيَانِ الْمَذْكُورَةِ لَقَالَ تِلْكَ، إِلَّا بِالْحَقِّ، أَيْ: لَمْ يَخْلُقْهُ بَاطِلًا بَلْ إِظْهَارًا لِصُنْعِهِ وَدَلَالَةً عَلَى قُدْرَتِهِ. يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وأبو عمرو و [أبو جعفر] [4] وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ: يُفَصِّلُ بِالْيَاءِ، لِقَوْلِهِ: مَا خَلَقَ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: «نُفَصِّلُ» بِالنُّونِ عَلَى التَّعْظِيمِ.
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) ، يُؤْمِنُونَ.
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا، أَيْ: لَا يَخَافُونَ عِقَابَنَا وَلَا يَرْجُونَ ثَوَابَنَا، وَالرَّجَاءُ يَكُونُ بِمَعْنَى [5] الْخَوْفِ وَالطَّمَعِ، وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا، فَاخْتَارُوهَا وَعَمِلُوا لها [6] ، وَاطْمَأَنُّوا بِها، وسكنوا إِلَيْهَا.
وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ، أي: عن أدلّتنا لَا يَعْتَبِرُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: عَنْ آيَاتِنَا [أي] [7] عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم والقرآن غافلون معرضون.
[سورة يونس (10) : الآيات 8 الى 11]
أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10) وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) ، مِنَ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ، فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ:
يُرْشِدُهُمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ إلى جنات، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ، وقال مُجَاهِدٌ: يَهْدِيهِمْ عَلَى الصِّرَاطِ إِلَى الْجَنَّةِ يَجْعَلُ لَهُمْ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ. وَقِيلَ: يَهْدِيهِمْ مَعْنَاهُ يُثِيبُهُمْ وَيَجْزِيهِمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بِإِيمَانِهِمْ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ لِدِينِهِ، أَيْ: بِتَصْدِيقِهِمْ هَدَاهُمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ، أَيْ: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا [مَرْيَمَ: 24] ، لَمْ يُرِدْ بِهِ أَنَّهُ تَحْتَهَا وَهِيَ قَاعِدَةٌ عَلَيْهِ، بَلْ أَرَادَ بَيْنَ يَدَيْهَا. وَقِيلَ: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أَيْ: بِأَمْرِهِمْ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
دَعْواهُمْ، أَيْ: قَوْلُهُمْ وَكَلَامُهُمْ. وَقِيلَ: دُعَاؤُهُمْ. فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ، وَهِيَ كَلِمَةُ تَنْزِيهٍ، تُنَزِّهُ اللَّهَ مِنْ كل سوء.
__________
(1) في المخطوط «الصرطان» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المخطوط «مع» .
(6) في المطبوع «وعملوها» والمثبت عن المخطوط.
(7) زيادة عن المخطوط.(2/411)
وَرَوَيْنَا: «أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يُلْهَمُونَ الْحَمْدَ وَالتَّسْبِيحَ، كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ» .
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: هَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَامَةٌ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالْخَدَمِ فِي الطَّعَامِ فَإِذَا أَرَادُوا الطَّعَامَ قَالُوا:
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ فَأَتَوْهُمْ فِي الْوَقْتِ بِمَا يَشْتَهُونَ عَلَى الْمَوَائِدِ، كُلُّ مَائِدَةٍ مِيلٌ فِي مِيلٍ، عَلَى كُلِّ مَائِدَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ صَحْفَةٍ، وَفِي كُلِّ صَحْفَةٍ لَوْنٌ مِنَ الطَّعَامِ لَا يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَإِذَا فَرَغُوا مِنَ الطَّعَامِ حَمِدُوا اللَّهَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ، أي:
يحيّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ. وَقِيلَ: تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ بِالسَّلَامِ. وَقِيلَ: تَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ بِالسَّلَامِ. وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، يُرِيدُ يَفْتَتِحُونَ كَلَامَهُمْ بِالتَّسْبِيحِ وَيَخْتِمُونَهُ بِالتَّحْمِيدِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي قَوْلِ الرَّجُلِ عِنْدَ الْغَضَبِ لِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ: لَعَنَكُمُ الله ولا بارك الله فِيكُمْ. قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ دُعَاءُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ بِمَا يَكْرَهُ أَنْ يُسْتَجَابَ. مَعْنَاهُ: لو يعجل الله للناس إِجَابَةَ دُعَائِهِمْ فِي الشَّرِّ وَالْمَكْرُوهِ [1] اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ، أَيْ: كَمَا يُحِبُّونَ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ، لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ:
لَقُضِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالضَّادِ، أَجَلُهُمْ نُصِبَ، أي: لأهلك من دعى عَلَيْهِ وَأَمَاتَهُ [2] . وَقَالَ الْآخَرُونَ: لَقُضِيَ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الضَّادِ أَجَلُهُمْ رُفِعَ، أَيْ: لَفَرَغَ مِنْ هَلَاكِهِمْ وَمَاتُوا جَمِيعًا.
وَقِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ حِينَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ علينا حجارة من السماء، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا، لَا يَخَافُونَ الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ، فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
«1146» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَشْرَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرمادي حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ:
قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي اتَّخَذْتُ عِنْدَكَ عهدا لن تخلفه [3] إنما أنا بشر [4] ، فَأَيُّ الْمُؤْمِنِينَ آذَيْتُهُ أَوْ شَتَمْتُهُ أَوْ جَلَدْتُهُ أَوْ لَعَنْتُهُ فَاجْعَلْهَا لَهُ صَلَاةً وَزَكَاةً وَقُرْبَةً تُقَرِّبُهُ بها يوم القيامة» .
__________
1146- صحيح، إسناده صحيح أحمد بن منصور ثقة، وقد توبع هو ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
عبد الرزاق هو ابن همام، معمر هو ابن راشد.
وهو في «شرح السنة» 1232 بهذا الإسناد.
وأخرجه أحمد (2/ 316، 317) وابن حبان 6516 من طريق عبد الرزاق به.
وورد من وجه آخر عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيب عن أبي هريرة مرفوعا بمعناه أخرجه البخاري 6361 ومسلم 2601 وابن حبان 6516.
وأخرجه مسلم 6361 وأحمد (2/ 449 و493 و496) من طرق عن أبي هريرة بنحوه.
(1) في المطبوع «الكروه» والمثبت عن المخطوط.
(2) في المخطوط «فلأماته» .
(3) في المطبوع «تخلفينه» والمثبت عن المخطوط و «شرح السنة» .
(4) زيد في المطبوع «فَيَصْدُرُ مِنِّي مَا يَصْدُرُ مِنَ البشر» .(2/412)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
[سورة يونس (10) : الآيات 12 الى 14]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ، الْجَهْدُ وَالشِّدَّةُ، دَعانا لِجَنْبِهِ، أَيْ: عَلَى جَنْبِهِ مُضْطَجِعًا، أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، يُرِيدُ فِي جَمِيعِ حَالَاتِهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَعْدُو إِحْدَى هَذِهِ الْحَالَاتِ. فَلَمَّا كَشَفْنا، رفعنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ، أَيِ: اسْتَمَرَّ عَلَى طَرِيقَتِهِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ الضُّرُّ وَنَسِيَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْجَهْدِ وَالْبَلَاءِ، كَأَنَّهُ لَمْ يَدْعُنَا [إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ، أَيْ] [1] : لَمْ يَطْلُبْ مِنَّا كَشْفَ ضُرٍّ مَسَّهُ [2] ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ، الْمُجَاوِزِينَ الْحَدَّ فِي الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، مَا كانُوا يَعْمَلُونَ، مِنَ الْعِصْيَانِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْبَلَاءِ وَتَرَكِ الشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كما زيّن لكم أعمالكم كذلك زَيَّنَ لِلْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ كَانُوا مَنْ قَبِلَكُمْ أَعْمَالَهُمْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا أَشْرَكُوا، وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ، أَيْ: كَمَا أَهْلَكْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ، نَجْزِي، نُعَاقِبُ وَنُهْلِكُ، الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ، الْكَافِرِينَ بِتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُخَوِّفُ كَفَّارَ مَكَّةَ بِعَذَابِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ الْمُكَذِّبَةِ.
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ، أَيْ: خُلَفَاءَ، فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ الْقُرُونِ الَّتِي أَهْلَكْنَاهُمْ، لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ.
«1147» وَرَوَيْنَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» .
[سورة يونس (10) : الآيات 15 الى 17]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ، قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
هَمْ خَمْسَةُ نَفَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قيس العامري والعاص بن وائل [3] بن هشام. قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا، [هم السابقون
__________
1147- صحيح. أخرجه مسلم 2742 وأحمد (3/ 35 و64) من رواية أبي مسلمة عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سعيد الخدري به وصدره: «إن الدنيا حلوة خضرة ... » .
وأخرجه الترمذي 2192 وابن ماجه 2873 و4000 و4007 وأحمد (3/ 19 و70) وأبو يعلى 1101 من رواية حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عن أبي سعيد الخدري مطوّلا.
(1) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع. [.....]
(2) في المخطوط «كشف ضرّه» .
(3) في المطبوع «عامر» بدل «وائل» .(2/413)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
ذِكْرُهُمْ] [1] قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ نُؤْمِنَ بِكَ ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا، لَيْسَ فِيهِ تَرْكُ عِبَادَةِ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، وَلَيْسَ فِيهِ عَيْبُهَا، وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْهَا اللَّهُ فَقُلْ أَنْتَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِكَ، أَوْ بَدِّلْهُ، فَاجْعَلْ مَكَانَ آيَةِ عَذَابٍ آيَةَ رَحْمَةٍ، أَوْ مكان حراما حلالا أو مكان حلالا حَرَامًا، قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي، مِنْ قِبَلِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ، [أَيْ: مَا أَتْبَعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ] [2] فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْهُ، إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ، يَعْنِي: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَنْزَلَ الْقُرْآنَ عَلَيَّ، وَلا أَدْراكُمْ بِهِ، أي: ولا أعلمكم الله. وقرأ الْبَزِّيُّ عَنْ ابْنِ كَثِيرٍ: «وَلَأَدْرَاكُمْ بِهِ» ، بِالْقَصْرِ بِهِ عَلَى الْإِيجَابِ [3] ، يُرِيدُ وَلَا عَلَّمَكُمْ بِهِ مِنْ غير قرائتي عَلَيْكُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «وَلَا أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ» ، مِنَ الْإِنْذَارِ. فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً، حِينًا وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، مِنْ قَبْلِهِ، مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَلَمْ آتِكُمْ بِشَيْءٍ، أَفَلا تَعْقِلُونَ، أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ قِبَلِي، وَلَبِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ قَبْلَ الْوَحْيِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَأَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْوَحْيِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، ثُمَّ هَاجَرَ فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَرَوَى أَنَسٌ: أَنَّهُ أَقَامَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْوَحْيِ عَشْرَ سِنِينَ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً، وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ وأظهر.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، فَزَعَمَ أَنَّ لَهُ شَرِيكًا أَوْ وَلَدًا أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ، بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ، إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ، لَا يَنْجُو المشركون.
[سورة يونس (10) : الآيات 18 الى 21]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ، إِنْ عَصَوْهُ وَتَرَكُوا عبادته، وَلا يَنْفَعُهُمْ، إن عبدوهم [4] ، يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ، أَتُخَبِّرُونَ اللَّهَ، بِما لَا يَعْلَمُ، اللَّهُ صِحَّتَهُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَتُخَبِّرُونَ الله أن له شريكا وعنده شَفِيعًا بِغَيْرِ إِذْنِهِ وَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ شَرِيكًا، فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تُشْرِكُونَ بِالتَّاءِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ النَّحْلِ [1- 3] مَوْضِعَيْنِ، وَفِي سُورَةِ الرُّومِ [33] ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ كُلَّهَا بِالْيَاءِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً، أَيْ: عَلَى الْإِسْلَامِ [فاختلفوا] [5] . وقد ذكرنا الاختلاف فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. فَاخْتَلَفُوا، وَتَفَرَّقُوا إلى مؤمن كافر، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ، بِأَنْ جَعَلَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ إِمْهَالُ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَأَنَّهُ لَا يُهْلِكُهُمْ بِالْعَذَابِ فِي
__________
(1) زيد في المطبوع وط.
(2) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع وط.
(3) في المطبوع «الإنجاب» والمثبت عن المطبوع وط.
(4) في المطبوع «عبدوه» والمثبت عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.(2/414)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
الدُّنْيَا، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، بِنُزُولِ الْعَذَابِ وَتَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لِلْمُكَذِّبِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ فَصْلًا بَيْنَهُمْ، فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، وَقَالَ الْحَسَنُ: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ مَضَتْ فِي حُكْمِهِ، أنه يَقْضِي بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ بالثواب والعقاب دون [يوم] [1] الْقِيَامَةِ، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا فَأَدْخَلَ الْمُؤْمِنَ الْجَنَّةَ وَالْكَافِرَ النَّارَ، وَلَكِنَّهُ سَبَقَ مِنَ اللَّهِ الْأَجَلُ فَجَعَلَ مَوْعِدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَيَقُولُونَ، يعني: أهل مكّة، لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، أَيْ: عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، عَلَى مَا نَقْتَرِحُهُ، فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ، يَعْنِي: قُلْ إِنَّمَا سَأَلْتُمُونِي الْغَيْبَ وَإِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ، لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ لِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ. وَقِيلَ: الْغَيْبُ نُزُولُ [2] الْآيَةِ لَا يَعْلَمُ مَتَى يَنْزِلُ أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَانْتَظِرُوا نُزُولَهَا، إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ، وَقِيلَ: فَانْتَظِرُوا قَضَاءَ اللَّهِ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ بِإِظْهَارِ الْمُحِقِّ عَلَى الْمُبْطِلِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ، يَعْنِي: الْكُفَّارَ، رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ، أَيْ: رَاحَةً وَرَخَاءً مِنْ بَعْدِ شِدَّةٍ وَبَلَاءٍ. وَقِيلَ: الْقَطْرُ بَعْدَ الْقَحْطِ، مَسَّتْهُمْ، أَيْ: أَصَابَتْهُمْ، إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا، قَالَ مُجَاهِدٌ: تَكْذِيبٌ وَاسْتِهْزَاءٌ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَا يَقُولُونَ هَذَا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ إِنَّمَا يَقُولُونَ سُقِينَا بِنَوْءِ كَذَا، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) [الْوَاقِعَةِ: 82] . قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً، [أي:] أَعْجَلُ عُقُوبَةً وَأَشَدُّ أَخْذًا وَأَقْدَرُ عَلَى الْجَزَاءِ، يُرِيدُ عَذَابُهُ فِي إِهْلَاكِكُمْ أَسْرَعُ إِلَيْكُمْ مِمَّا يَأْتِي منكم في رفع [3] الْحَقِّ، إِنَّ رُسُلَنا، حَفَظَتَنَا، يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ، وقرأ [روح عن] [4] يعقوب: يمكرون بالياء.
[سورة يونس (10) : الآيات 22 الى 23]
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
قَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ، يُجْرِيكُمْ وَيَحْمِلُكُمْ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: «يُنْشِرُكُمْ» بِالنُّونِ وَالشِّينِ مِنَ النَّشْرِ وَهُوَ الْبَسْطُ [5] وَالْبَثُّ، فِي الْبَرِّ، عَلَى ظُهُورِ الدَّوَابِّ، وَفي وَالْبَحْرِ، عَلَى الْفُلْكِ، حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ، أَيْ: فِي السُّفُنِ، تَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا وَجَرَيْنَ بِهِمْ، يَعْنِي: جَرَتِ السُّفُنُ بِالنَّاسِ، رَجَعَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْخَبَرِ [6] ، بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ لَيِّنَةٍ، وَفَرِحُوا بِها، أَيْ: بِالرِّيحِ، جاءَتْها رِيحٌ، أَيْ: جَاءَتِ الْفُلْكَ رِيحٌ، عاصِفٌ، شَدِيدَةُ الْهُبُوبِ، وَلَمْ يَقُلْ رِيحٌ عَاصِفَةٌ [7] ، لِاخْتِصَاصِ الريح بالعصوف. وقيل: الريح يذكّر ويؤنث. وَجاءَهُمُ، يَعْنِي: رُكْبَانَ السَّفِينَةِ، الْمَوْجُ، وَهُوَ حَرَكَةُ الْمَاءِ وَاخْتِلَاطُهُ، مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا، أَيْقَنُوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ، دَنَوْا مِنَ الْهَلَكَةِ، أَيْ: أَحَاطَ [8] بِهِمُ الْهَلَاكُ [9] ، دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، أَيْ: أَخْلَصُوا فِي الدُّعَاءِ لِلَّهِ وَلَمْ
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «بنزول» .
(3) في المطبوع «دفع» والمثبت عن المخطوط.
(4) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع.
(5) في المطبوع «البسيط» والمثبت عن المخطوط وط.
(6) في المطبوع «الغيبة» والمثبت عن المخطوط وط.
(7) في المخطوط «شديد ولم يقل عاصفات» . [.....]
(8) في المخطوط «أحاطت» .
(9) في المخطوط «الهلكات» .(2/415)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
يَدْعُوا أَحَدًا سِوَى اللَّهِ، وَقَالُوا: لَئِنْ أَنْجانا، يَا رَبَّنَا، مِنْ هذِهِ، الرِّيحِ الْعَاصِفِ، لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، لَكَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ، يَظْلِمُونَ وَيَتَجَاوَزُونَ إِلَى غَيْرِ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْأَرْضِ، بِغَيْرِ الْحَقِّ، [بالفساد] [1] أي: بالقتال، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ، لِأَنَّ وَبَالَهُ رَاجِعٌ عَلَيْهَا، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا، أَيْ: هَذَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، خَبَرُ ابْتِدَاءٍ [2] مُضْمَرٍ كَقَوْلِهِ:
لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ [الأحقاف: 35] ، هَذَا بَلَاغٌ. وَقِيلَ: هُوَ كَلَامٌ مُتَّصِلٌ، وَالْبَغْيُ ابْتِدَاءٌ وَمَتَاعٌ خَبَرُهُ، وَمَعْنَاهُ: إِنَّمَا بَغْيُكُمْ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَا يَصْلُحُ زَادًا لِمَعَادٍ لِأَنَّكُمْ تَسْتَوْجِبُونَ بِهِ غَضَبَ اللَّهِ.
وَقَرَأَ حَفْصٌ مَتَاعَ بِالنَّصْبِ، أَيْ: تَتَمَتَّعُونَ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
[سورة يونس (10) : الآيات 24 الى 25]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا، فِي فَنَائِهَا وَزَوَالِهَا، كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ، أَيْ: بِالْمَطَرِ، نَباتُ الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَبَتَ بِالْمَاءِ مِنْ كُلِّ لَوْنٍ، مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ، مِنَ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ، وَالْأَنْعامُ، مِنَ الْحَشِيشِ، حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها، حُسْنَهَا وَبَهْجَتَهَا وَظَهَرَ الزَّهْرُ أَخْضَرَ [وَأَحْمَرَ وَأَصْفَرَ وَأَبْيَضَ] [3] ، وَازَّيَّنَتْ، أَيْ: تَزَيَّنَتْ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: تَزَيَّنَتْ.
وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها، عَلَى جِذَاذِهَا، وَقِطَافِهَا وَحَصَادِهَا، رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى الْأَرْضِ. وَالْمُرَادُ:
النَّبَاتُ إِذْ كَانَ مَفْهُومًا، وَقِيلَ: رَدَّهَا إِلَى الْغَلَّةِ. وَقِيلَ: إِلَى الزِّينَةِ. أَتاها أَمْرُنا، قَضَاؤُنَا بِإِهْلَاكِهَا، لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً، أَيْ: مَحْصُودَةً مَقْطُوعَةً، كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ، كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بِالْأَمْسِ، وَأَصْلُهُ مِنْ غَنِيَ بِالْمَكَانِ إِذَا أَقَامَ بِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُتَشَبِّثَ بِالدُّنْيَا يَأْتِيهِ أَمْرُ اللَّهِ وَعَذَابُهُ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ، كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ، قَالَ قَتَادَةُ: السَّلَامُ هُوَ اللَّهُ وَدَارُهُ الْجَنَّةُ. وَقِيلَ: السَّلَامُ بِمَعْنَى السَّلَامَةِ، سُمِّيَتِ الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَهَا سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسَّلَامِ التَّحِيَّةُ سُمِّيَتِ الْجَنَّةُ دَارَ السَّلَامِ، لِأَنَّ أَهْلَهَا يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ وَالْمَلَائِكَةُ تُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرَّعْدِ: 23- 24] .
«1148» وَرَوَيْنَا عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَتْ مَلَائِكَةٌ إِلَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو نائم فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلًا فاضربوا له مثلا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يقظان، فقالوا: مثله كمثل
__________
1148- تقدم في سورة آل عمران آية: 32.
(1) زيادة عن ط والمخطوط.
(2) في المخطوط «المبتدأ» .
(3) زيادة عن المخطوط.(2/416)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ وَأَكَلَ مِنَ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلِ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنَ الْمَأْدُبَةِ [1] ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ بَيْنَ النَّاسِ.
وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الْإِسْلَامُ عَمَّ بِالدَّعْوَةِ لِإِظْهَارِ الْحُجَّةِ، وَخَصَّ بِالْهِدَايَةِ اسْتِغْنَاءً عَنِ الخلق.
[سورة يونس (10) : الآيات 26 الى 28]
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28)
قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ، أَيْ: لِلَّذِينِ أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي الدُّنْيَا الْحُسْنَى، وَهِيَ الْجَنَّةُ وَزِيَادَةٌ وَهِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الله الكريم، وهذا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحُذَيْفَةُ وَأَبُو مُوسَى وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ وَمُقَاتِلٍ وَالضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ.
«1149» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ [مُحَمَّدِ بْنِ] [2] الْعَبَّاسِ الْحُمَيْدِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ [عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بن يعقوب الأصم إِمْلَاءً حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ] [3] إِسْحَاقَ الصَّنْعَانِيُّ حَدَّثَنَا الْأُسُودُ بْنُ عَامِرٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ يَعْنِي الْبُنَانِيَّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ، قَالَ: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ نَادَى مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ إِنَّ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَوْعِدًا يُرِيدُ أَنْ يُنْجِزَكُمُوهُ، قَالُوا: مَا هَذَا الموعد؟ أَلَمْ يُثَقِّلْ مَوَازِينَنَا وَيُبَيِّضْ وُجُوهَنَا وَيُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ ويُجِرْنَا مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: فَيُرْفَعُ الْحِجَابُ فَيَنْظُرُونَ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِ» .
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْحُسْنَى هِيَ: أَنَّ الْحَسَنَةَ بِمِثْلِهَا وَالزِّيَادَةَ هِيَ التضعيف عشرة أمثالها إلى
__________
1149- صحيح. إسناده صحيح الأسود فمن فوقه رجال البخاري ومسلم سوى حماد بن سلمة فإنه من رجال مسلم.
ثابت هو ابن أسلم.
وهو في «شرح السنة» 4289 بهذا الإسناد.
وأخرجه مسلم 181 والترمذي 2552 و3105 وابن ماجه 187 وأحمد (4/ 332 و333) والطيالسي 1315 وأبو عوانة (1/ 156) وابن أبي عاصم في «السنة» 472 والآجري في «التصديق بالنظر» 34 و35 و36 وابن حبان 7441 وابن مندة 782 و784 و875 و786 واللالكائي «أصول الاعتقاد» 778 و833 والبيهقي في «البعث والنشور» 446 وفي «الإعتقاد» ص 124 من طرق عن حماد بن سلمة به.
(1) في المخطوط «المائدة» .
(2) زيادة عن المخطوط و «شرح السنة» .
(3) ما بين المعقوفتين سقط من المخطوط.(2/417)
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحُسْنَى: حَسَنَةٌ مِثْلُ حَسَنَةٍ، وَالزِّيَادَةُ الْمَغْفِرَةُ وَالرِّضْوَانُ. وَلا يَرْهَقُ، لَا يَغْشَى وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ، غُبَارٌ، جَمْعُ قَتْرَةٍ. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: سَوَادُ الْوَجْهِ [1] ، وَلا ذِلَّةٌ، هَوَانٌ قَالَ قَتَادَةُ: كَآبَةٌ. قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: هَذَا بُعْدُ نَظَرِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها، أَيْ: لَهُمْ مَثْلُهَا، كَمَا قَالَ: وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الْأَنْعَامِ: 160] . وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ، ومِنَ صلة، أي: ما لهم مِنَ اللَّهِ عَاصِمٌ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ، أُلْبِسَتْ، وُجُوهُهُمْ قِطَعاً، جَمْعُ قِطْعَةٍ، مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً، نصبه [2] عَلَى الْحَالِ دُونَ النَّعْتِ، وَلِذَلِكَ لَمَّ يَقُلْ: مُظْلِمَةٌ، تَقْدِيرُهُ: قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ فِي حَالِ ظُلْمَتِهِ أَوْ قِطْعًا مِنَ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: قِطَعاً سَاكِنَةَ الطَّاءِ، أَيْ بَعْضًا كَقَوْلِهِ: بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ [هُودٍ: 81] . أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ، أَيِ: الْزَمُوا مَكَانَكُمْ، أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ، يَعْنِي: الْأَوْثَانَ، مَعْنَاهُ: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينِ أَشْرَكُوا الْزَمُوا أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ مَكَانَكُمْ وَلَا تَبْرَحُوا.
فَزَيَّلْنا مَيَّزْنَا وَفَرَّقْنَا بَيْنَهُمْ، أَيْ: بَيْنَ الْمُشْرِكِينَ وَشُرَكَائِهِمْ وَقَطَعْنَا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ التَّوَاصُلِ فِي الدُّنْيَا وَذَلِكَ حِينَ يَتَبَرَّأُ كُلُّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِمَّنْ عَبَدَهُ، وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ، يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، مَا كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ، بِطِلْبَتِنَا فَيَقُولُونَ: بَلَى كُنَّا نَعْبُدُكُمْ، فَتَقُولُ الْأَصْنَامُ:
[سورة يونس (10) : الآيات 29 الى 32]
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) ، أَيْ: مَا كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ إِيَّانَا إِلَّا غَافِلِينَ، مَا كُنَّا نَسْمَعُ وَلَا نُبْصِرُ وَلَا نَعْقِلُ.
قال الله تعالى: هُنالِكَ تَبْلُوا، أَيْ تُخْتَبَرُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَعْلَمُ وَتَقِفُ عَلَيْهِ [3] . وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: «تَتْلُو» بِتَاءَيْنِ أَيْ تَقْرَأُ، كُلُّ نَفْسٍ، صَحِيفَتَهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَتْبَعُ كُلُّ نَفْسٍ، مَا أَسْلَفَتْ، مَا قَدَّمَتْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تُعَايِنُ، وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ، إِلَى حُكْمِهِ فَيَتَفَرَّدُ فِيهِمْ بِالْحُكْمِ، مَوْلاهُمُ الْحَقِّ، الَّذِي يتولّى ويملك أمرهم [4] ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ: وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ؟
قِيلَ: الْمَوْلَى هُنَاكَ بِمَعْنَى [5] النَّاصِرِ، وَهَاهُنَا بِمَعْنَى الْمَالِكِ، وَضَلَّ عَنْهُمْ، زَالَ عَنْهُمْ وَبَطَلَ، مَا كانُوا يَفْتَرُونَ، فِي الدُّنْيَا مِنَ التَّكْذِيبِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أَيْ: مِنَ السَّمَاءِ بِالْمَطَرِ وَمِنَ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ، أَيْ: مِنْ إِعْطَائِكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ، وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ النُّطْفَةِ وَالنُّطْفَةَ مِنَ الْحَيِّ، وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، أي: [من] يقضي الأمر،
__________
(1) في المخطوط «الوجوه» .
(2) في المطبوع «ننصبه» .
(3) في المخطوط «يقف عليها» .
(4) العبارة في المخطوط «الذي يتولى أمرهم ويملكه» . [.....]
(5) في المطبوع «هو» .(2/418)
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ، هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، أَفَلَا تَخَافُونَ عِقَابَهُ فِي شِرْكِكُمْ.
وَقِيلَ: أَفَلَا تَتَّقُونَ الشِّرْكَ مَعَ هَذَا الْإِقْرَارِ.
فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ، الَّذِي يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ هُوَ ربكم، الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ، أَيْ: فَأَيْنَ تُصْرَفُونَ عَنْ عبادته وأنتم مقرّون به.
[سورة يونس (10) : الآيات 33 الى 35]
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
كَذلِكَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: هَكَذَا، حَقَّتْ، وَجَبَتْ، كَلِمَةُ رَبِّكَ، حُكْمُهُ السَّابِقُ، عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا، كَفَرُوا، أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: كَلِمَاتُ رَبِّكَ بالجمع هاهنا موضعين وفي [حم] [1] الْمُؤْمِنِ [6] ، وَالْآخَرُونَ عَلَى التَّوْحِيدِ.
قَوْلُهُ: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ، أَوْثَانِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ينشىء الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ أَصْلٍ وَلَا مِثَالٍ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ مِنْ [بَعْدِ] [2] الْمَوْتِ كَهَيْئَتِهِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ وَإِلَّا فَ قُلْ أَنْتَ، اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، أَيْ: تُصْرَفُونَ عَنْ قَصْدِ [3] السَّبِيلِ.
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي، [أي] [4] : يُرْشِدُ، إِلَى الْحَقِّ، فَإِذَا قَالُوا لَا، وَلَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ، أَيْ: إِلَى الْحَقِّ، أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ سَاكِنَةَ الْهَاءِ، خَفِيفَةَ الدَّالِّ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ ثُمَّ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَقَالُونُ بِسُكُونِ الهاء، وأبو عمرو يروم الْهَاءِ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالسُّكُونِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ [5] ، وَأَبُو بَكْرٍ بِكَسْرِهِمَا، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهِمَا، ومعناه: يهدي فِي جَمِيعِهَا. فَمَنْ خَفَّفَ [6] الدَّالَ قَالَ: يُقَالُ هَدَيْتُهُ فَهُدِي، أَيِ: اهْتَدَى، وَمَنْ شَدَّدَ الدَّالَ أَدْغَمَ التَّاءَ فِي الدَّالِ، ثُمَّ أَبُو عَمْرٍو يَرُومُ عَلَى مَذْهَبِهِ فِي إِيثَارِ [7] التَّخْفِيفِ، وَمَنْ سَكَّنَ الْهَاءَ تَرَكَهَا عَلَى حَالَتِهَا كَمَا فَعَلَ فِي (تَعْدُّوا) وَ (يَخْصِّمُونَ) ، وَمَنْ فَتَحَ الْهَاءَ نَقَلَ فَتْحَةَ التَّاءِ [8] الْمُدْغَمَةِ [9] إِلَى الْهَاءِ، وَمَنْ كَسَرَ الْهَاءَ فَلِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَقَالَ: الْجَزْمُ يُحَرَّكُ إِلَى الْكَسْرِ، وَمِنْ كَسَرَ الْيَاءَ مَعَ الْهَاءِ أَتْبَعَ الْكَسْرَةَ إلى الْكَسْرَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يُهْدى، مَعْنَى الْآيَةِ: اللَّهُ الَّذِي يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ بِالِاتِّبَاعِ أَمِ الصَّنَمُ الَّذِي لَا يَهْتَدِي إِلَّا أَنْ يُهْدَى. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ: إِلَّا أَنْ يُهْدى، وَالصَّنَمُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَهْتَدِيَ وَلَا أَنْ يُهْدَى؟ قِيلَ: مَعْنَى الْهِدَايَةِ فِي حَقِّ الْأَصْنَامِ الِانْتِقَالُ، أَيْ: أَنَّهَا لَا تَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ إِلَّا أَنْ تحمل وتنقل، بيّن بِهِ عَجْزُ الْأَصْنَامِ. وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ: أَنَّ ذِكْرَ الْهِدَايَةِ عَلَى وجه المجاز [يحرك إلى الكسر] [10] ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا اتَّخَذُوا الْأَصْنَامَ آلِهَةً وَأَنْزَلُوهَا مَنْزِلَةَ مَنْ يسمع ويعقل عبّر عنها
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «قصف» والمثبت عن المخطوط وط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «التاء» والمثبت عن ط والمخطوط.
(6) في المطبوع «خالف» والمثبت عن المخطوط وط.
(7) في المخطوط «إثبات» .
(8) في المطبوع «الهاء» والمثبت عن ط والمخطوط.
(9) التاء المدغمة في أصل الكلمة «يهتدي» .
(10) زيادة عن المخطوط.(2/419)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
بِمَا يُعَبَّرُ عَمَّنْ يَعْلَمُ وَيَعْقِلُ، وَوُصِفَتْ بِصِفَةِ مَنْ يَعْقِلُ، فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، كَيْفَ تَقْضُونَ حِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ لِلَّهِ شَرِيكًا.
[سورة يونس (10) : الآيات 36 الى 40]
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا، مِنْهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْأَصْنَامَ آلِهَةٌ وَإِنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ظَنًّا مِنْهُمْ، لَمْ يَرِدْ بِهِ كِتَابٌ وَلَا رَسُولٌ، وَأَرَادَ بِالْأَكْثَرِ جَمِيعَ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ، إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً، أَيْ: لَا يَدْفَعُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ: [لَا] [1] يَقُومُ مَقَامَ الْعِلْمِ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: مَعْنَاهُ وَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آلِ عِمْرَانَ: 161] ، وَقِيلَ: أَنْ بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ لِيُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ. قَوْلُهُ: وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، أَيْ: بَيْنَ يَدَيِ الْقُرْآنِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. وَقِيلَ: تَصْدِيقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيِ الْقُرْآنِ مِنَ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ، وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ، تَبْيِينَ مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْفَرَائِضِ وَالْأَحْكَامِ، لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ.
أَمْ يَقُولُونَ، وقال أَبُو عُبَيْدَةَ: أَمْ بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ: وَيَقُولُونَ: افْتَراهُ، اخْتَلَقَ مُحَمَّدٌ الْقُرْآنَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ، شِبْهِ الْقُرْآنِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ، مِمَّنْ تَعْبُدُونَ، مِنْ دُونِ اللَّهِ لِيُعِينُوكُمْ عَلَى ذَلِكَ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، أَنَّ مُحَمَّدًا افْتَرَاهُ، ثُمَّ قَالَ:
بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، يَعْنِي: الْقُرْآنَ، كَذَّبُوا بِهِ وَلَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ، أَيْ: عَاقِبَةُ مَا وَعَدَ اللَّهُ في القرآن، أنه يؤول إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ، يُرِيدُ أنهم لم يعلموا ما يؤول إِلَيْهِ عَاقِبَةُ أَمْرِهِمْ. كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، أَيْ: كَمَا كَذَّبَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ بِالْقُرْآنِ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ، آخِرُ أَمْرِ الْمُشْرِكِينَ بِالْهَلَاكِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، أَيْ: مِنْ قَوْمِكَ مَنْ يُؤْمِنُ [2] بِالْقُرْآنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ، لِعِلْمِ اللَّهِ السَّابِقِ فِيهِمْ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ، الَّذِينَ لا يؤمنون.
[سورة يونس (10) : الآيات 41 الى 45]
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45)
__________
(1) زيادة عن المطبوع.
(2) في المخطوط «سيؤمن» .(2/420)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ، يَا مُحَمَّدُ، فَقُلْ لِي عَمَلِي، وَجَزَاؤُهُ، وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ، وَجَزَاؤُهُ، أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ، هَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ [الْقَصَصِ: 55] ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) [الْكَافِرُونَ: 6] . قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْجِهَادِ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ التَّوْفِيقَ لِلْإِيمَانِ بِهِ لَا بغيره.
فَقَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ، بِأَسْمَاعِهِمُ الظَّاهِرَةِ فَلَا يَنْفَعُهُمْ، أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ، يريد صمم الْقَلْبِ، وَلَوْ كانُوا لَا يَعْقِلُونَ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ، بِأَبْصَارِهِمُ الظَّاهِرَةِ، أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ، يُرِيدُ عمي القلوب [1] ، وَلَوْ كانُوا لَا يُبْصِرُونَ، وَهَذَا تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِنَّكَ لَا تَقْدِرُ أَنْ تُسْمِعَ مَنْ سَلَبْتُهُ السَّمْعَ، وَلَا أَنْ تَهْدِيَ مَنْ سَلَبْتُهُ الْبَصَرَ، وَلَا أَنْ تُوَفِّقَ لِلْإِيمَانِ مَنْ حَكَمْتُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُؤْمِنُ.
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً، لِأَنَّهُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ متفضّل وعادل، وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ، بِالْكَفْرِ والمعصية. [قرأ حمزة والكسائي: «ولكن الناس» بتخفيف نون وَلكِنَّ ورفع النَّاسَ، وقرأ الباقون وَلكِنَّ النَّاسَ، بتشديد نون وَلكِنَّ ونصب النَّاسَ] [2] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ، قَرَأَ حَفْصٌ بِالْيَاءِ وَالْآخَرُونَ بِالنُّونِ، كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ، قَالَ الضَّحَّاكُ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا قَدْرَ سَاعَةٍ مِنَ النَّهَارِ، يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ، يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حين يبعثوا من قبورهم [3] كَمَعْرِفَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ تَنْقَطِعُ الْمَعْرِفَةُ إِذَا عَايَنُوا أَهْوَالَ الْقِيَامَةِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَعْرِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ بِجَنْبِهِ [4] وَلَا يُكَلِّمُهُ هَيْبَةً وَخَشْيَةً. قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْخُسْرَانِ: خُسْرَانُ النَّفْسِ، وَلَا شَيْءَ أعظم منه.
[سورة يونس (10) : الآيات 46 الى 50]
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ، يا محمد فِي حَيَاتِكَ [5] مِنَ الْعَذَابِ، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ، قَبْلَ تَعْذِيبِهِمْ، فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا يَفْعَلُونَ، فَيَجْزِيهِمْ بِهِ، ثُمَّ بِمَعْنَى الْوَاوِ، تَقْدِيرُهُ: وَاللَّهُ شهيد. وقال مُجَاهِدٌ: فَكَانَ الْبَعْضُ الَّذِي أَرَاهُ [لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] [6] قَتْلَهُمْ بِبَدْرٍ، وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ بَعْدَ مَوْتِهِمْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ، خلت، رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ، وَكَذَّبُوهُ، قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، أَيْ: عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا وَأُهْلِكُوا بِالْعَذَابِ، يَعْنِي: قبل مجيء الرسل [7] ، لا ثواب ولا عقاب.
__________
(1) في المطبوع «القلب» والمثبت عن المخطوط. [.....]
(2) ما بين المعقوفتين سقط من ط ومن المخطوط.
(3) في المطبوع «بعثوا من القبور» والمثبت عن المخطوط.
(4) في المخطوط «يحبه» .
(5) زيد في المخطوط «وبعض الذي نعدهم» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المطبوع «الرسول» .(2/421)
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قُضِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ، لَا يُعَذَّبُونَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ وَلَا يُؤَاخَذُونَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا يُزَادُ عَلَى سَيِّئَاتِهِمْ.
وَيَقُولُونَ، أي: الْمُشْرِكُونَ، مَتى هذَا الْوَعْدُ، الَّذِي تَعِدُنَا يَا مُحَمَّدُ مِنَ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: قِيَامُ السَّاعَةِ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ وَأَتْبَاعُكَ.
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي، لَا أَقْدِرُ لَهَا عَلَى شَيْءٍ، ضَرًّا وَلا نَفْعاً، أَيْ: دَفْعَ ضُرٍّ وَلَا جَلْبَ نَفْعٍ، إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ، أَنْ أَمْلِكَهُ، لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ، مُدَّةٌ مَضْرُوبَةٌ، إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ، وَقْتُ فَنَاءِ أَعْمَارِهِمْ، فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ، أَيْ: لَا يَتَأَخَّرُونَ وَلَا يَتَقَدَّمُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً، لَيْلًا، أَوْ نَهاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ، أَيْ:
مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنَ اللَّهِ الْمُشْرِكُونَ. وَقِيلَ: مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنَ الْعَذَابِ الْمُجْرِمُونَ، وَقَدْ وَقَعُوا فِيهِ. وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ الْعَذَابَ، فَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَالِ: 32] ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: مَاذَا يَسْتَعْجِلُ، يعني: [أي شيء] [1] يَعْلَمُ الْمُجْرِمُونَ مَاذَا يَسْتَعْجِلُونَ وَيَطْلُبُونَ، كَالرَّجُلِ يَقُولُ لِغَيْرِهِ وَقَدْ فَعَلَ قَبِيحًا مَاذَا جَنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ.
[سورة يونس (10) : الآيات 51 الى 56]
أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)
هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
أَثُمَّ إِذا مَا وَقَعَ، قِيلَ: مَعْنَاهُ أَهُنَالِكَ، وَحِينَئِذٍ، وَلَيْسَ بِحَرْفِ عَطْفٍ، إِذا مَا وَقَعَ نَزَلَ الْعَذَابُ، آمَنْتُمْ بِهِ، أَيْ بِاللَّهِ فِي وَقْتِ الْيَأْسِ. وَقِيلَ: آمَنْتُمْ بِهِ أَيْ صَدَّقْتُمْ بِالْعَذَابِ وَقْتَ نُزُولِهِ، آلْآنَ، فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ: يُقَالُ لَكُمْ: آلْآنَ تُؤْمِنُونَ حِينَ وَقَعَ الْعَذَابُ؟ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ، تَكْذِيبًا وَاسْتِهْزَاءً، [قرأ ورش عن نافع «الآن» بحذف الهمزة التي بعد اللام السكنة وإلقاء حركتها على اللام، وبمدّ الهمزة الأولى على وزن عالان، وكذلك الحرف الآخر، وروى زمعة بن صالح الان على مثل علان بغير مدّ ولا همزة بعد اللام، وقرأ الباقون آلْآنَ بهمزة ممدودة في الأول وإثبات همزة بعد اللام، وكذلك قالون وإسماعيل عن نافع] [2] .
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا، أَشْرَكُوا، ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ، فِي الدُّنْيَا.
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ، أَيْ: يَسْتَخْبِرُونَكَ يَا مُحَمَّدُ، أَحَقٌّ هُوَ، أَيْ: مَا تَعِدُنَا مِنَ الْعَذَابِ وَقِيَامِ السَّاعَةِ، قُلْ إِي وَرَبِّي، أَيْ: نَعَمْ وَرَبِّي، إِنَّهُ لَحَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ، أَيْ: بِفَائِتِينَ مِنَ الْعَذَابِ، لِأَنَّ مَنْ عَجَزَ عَنْ شَيْءٍ فَقَدْ فَاتَهُ.
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ، أَيْ: أَشْرَكَتْ، مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالِافْتِدَاءُ
__________
(1) زيادة عن المخطوط وفي ط «أيش» بدل «أي شيء» .
(2) ما بين المعقوفتين سقط من ط ومن المخطوط.(2/422)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
هَاهُنَا بَذْلُ مَا يَنْجُو بِهِ مِنَ الْعَذَابِ. وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَاهُ أَظْهَرُوا النَّدَامَةَ لِأَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ تَصَبُّرٍ وَتَصَنُّعٍ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَخْفَوْا أَيْ أَخْفَى الرُّؤَسَاءُ النَّدَامَةَ مِنَ الضُّعَفَاءِ خَوْفًا مِنْ مَلَامَتِهِمْ وَتَعْيِيرِهِمْ، لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، فَرَغَ مِنْ عَذَابِهِمْ، وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ.
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) .
هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) .
[سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 60]
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ، تَذْكِرَةٌ، مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ، أَيْ:
دواء لما في الصدور من داء الجهل، وقيل: لِما فِي الصُّدُورِ، أَيْ: شِفَاءٌ لِعَمَى الْقُلُوبِ، [وَالصَّدْرُ مَوْضِعُ الْقَلْبِ وَهُوَ أَعَزُّ مَوْضِعٍ فِي الْإِنْسَانِ لِجِوَارِ الْقَلْبِ] [1] ، وَهُدىً، مِنَ الضَّلَالَةِ، وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالرَّحْمَةُ هِيَ النِّعْمَةُ عَلَى الْمُحْتَاجِ، فَإِنَّهُ لَوْ أَهْدَى ملك إلى ملك شيئا [فإنه] [2] لَا يُقَالُ قَدْ رَحِمَهُ، وَإِنْ كان ذلك نعمة فإنه لَمْ يَضَعْهَا فِي مُحْتَاجٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: فَضْلُ اللَّهِ: الْإِيمَانُ، وَرَحْمَتُهُ: الْقُرْآنُ.
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: فَضْلُ اللَّهِ الْقُرْآنُ وَرَحْمَتُهُ أَنْ جَعَلَنَا مِنْ أَهْلِهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَضْلُ اللَّهِ:
الْإِسْلَامُ، وَرَحْمَتُهُ: تَزْيِينُهُ فِي الْقَلْبِ. وَقَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: فَضْلُ اللَّهِ: الْإِسْلَامُ، وَرَحْمَتُهُ: السُّنَنُ.
وَقِيلَ: فَضْلُ اللَّهِ: الْإِيمَانُ، وَرَحْمَتُهُ: الْجَنَّةُ. فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا، أَيْ: لِيَفْرَحَ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ جَعَلَهُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِهِ، هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، أَيْ: [خير] [3] مِمَّا يَجْمَعُهُ الْكُفَّارُ مِنَ الْأَمْوَالِ. وَقِيلَ: كِلَاهُمَا خَبَرٌ عَنِ الْكُفَّارِ. [وقيل: عن المؤمنين] [4] وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ: فَلْيَفْرَحُوا بِالْيَاءِ و (تَجْمَعُونَ) بِالتَّاءِ، وقرأ يعقوب كلاهما بالتاء، [ووجه هذه القراءة أن المراد: فبذلك فليفرح المؤمنون فهو خير مما يجمعونه من الأموال] [5] ، مُخْتَلِفٌ عَنْهُ خِطَابًا لِلْمُؤْمِنِينَ.
قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِكَفَّارِ مَكَّةَ، أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ، عَبَّرَ عَنِ الْخَلْقِ بِالْإِنْزَالِ لِأَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ خير، فما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ رِزْقٍ مِنْ زَرْعٍ وَضَرْعٍ، فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا، هُوَ مَا حَرَّمُوا مِنَ الْحَرْثِ وَمِنَ الْأَنْعَامِ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ والوصيلة والحامي. قَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [الْأَنْعَامِ: 136] . قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ، فِي هَذَا التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ، أَمْ، بَلْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ، وَهُوَ قَوْلُهُمْ: وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف: 28] .
وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أَيَحْسَبُونَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُهُمْ بِهِ وَلَا يُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ، إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ.
__________
(1) ما بين المعقوفتين سقط من المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع.
(5) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع.(2/423)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
[سورة يونس (10) : الآيات 61 الى 63]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَما تَكُونُ، يَا مُحَمَّدُ، فِي شَأْنٍ، عَمَلٍ من الأعمال، وجمعه شؤون، وَما تَتْلُوا مِنْهُ، مِنَ اللَّهِ، مِنْ قُرْآنٍ، نَازِلٍ، وَقِيلَ: مِنْهُ أَيْ مِنَ الشَّأْنِ مِنْ قُرْآنٍ، نَزَلَ فِيهِ ثُمَّ خَاطَبَهُ وَأُمَّتَهُ فَقَالَ: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ، أي: تدخلون وتخوضون فيه، والهاء عَائِدَةٌ إِلَى الْعَمَلِ، وَالْإِفَاضَةُ: الدُّخُولُ فِي الْعَمَلِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: تَنْدَفِعُونَ فِيهِ. وَقِيلَ: تُكْثِرُونَ [فِيهِ] [1] ، وَالْإِفَاضَةُ: الدَّفْعُ بِكَثْرَةٍ، وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ، يَغِيبُ عَنْ رَبِّكَ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ يَعْزُبُ بِكَسْرِ الزَّايِ، وكلك في سورة سبأ [3] ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ. مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ، أَيْ:
مِثْقَالِ ذرة، ومِنْ صلة وَالذَّرَّةُ هِيَ النَّمْلَةُ الْحَمْرَاءُ الصَّغِيرَةُ. فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ، أَيْ: مِنَ الذَّرَّةِ، وَلا أَكْبَرَ، قَرَأَ حمزة [والكسائي] [2] وَيَعْقُوبُ بِرَفْعِ الرَّاءِ فِيهِمَا عَطْفًا عَلَى مَوْضِع الْمِثْقَالِ قَبْلَ دُخُولِ مِنْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِنَصْبِهِمَا، إِرَادَةً [3] للكسر عطفا على الذرة في الكسرة، إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ، وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ، فَقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهُ.
«1150» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الله بن بشران أنا
__________
1150- حسن. إسناده ضعيف. لم يسمعه شهر بن حوشب من أبي مالك كما سيأتي، فإن بينهما عبد الرحمن بن غنم. لكن للحديث شواهد وطرق.
وهو في «شرح السنة» 3358 بهذا الإسناد، وفي «مصنف عبد الرزاق» 20324 عن معمر به.
وأخرجه البيهقي في «الشعب» 9001 من طريق أبي الحسين بن بشران به.
وأخرجه أحمد (5/ 341) من طريق عبد الرزاق لكنه زاد «عبد الرحمن بن غنم» بين شهر وأبي مالك.
وأخرجه الطبراني في «الكبير» 3433 من طريق عبد الرزاق به.
وأخرجه أبو يعلى 6842 من طريق عوف عن أبي المنهال عن شهر بن حوشب قال: كان منا رجل. معشر الأشعريين. قد صحب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وشهد معه مشاهده الحسنة الجميلة. مالك أو ابن مالك شك عوف ... فذكره.
قال الهيثمي في «المجمع» (10/ 277) (17998) : رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير شهر بن حوشب، وقد وثقه غير واحد اه.
قلت: الصواب أن شهرا سمعه من عبد الرحمن بن غنم، وشهر مدلس، وهو كثير الإرسال.
وأخرجه ابن المبارك في «الزهد» 714 وأحمد (5/ 343) (22399) من طريق عبد الحميد بن بهرام الفزاري عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ عَنْ أبي مالك الأشعري وإسناده غير قوي ابن بهرام وشهر متكلم فيهما.
وللحديث شواهد منها: [.....]
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «أراد» والمثبت عن المخطوط.(2/424)
إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنِ [ابْنِ] أَبِي حُسَيْنٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأشعري قَالَ:
كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شهداء يغبطهم النبيّون والشهداء بقربهم وَمَقْعَدِهِمْ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، قَالَ: وَفِي نَاحِيَةِ الْقَوْمِ [1] أَعْرَابِيٌّ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَرَمَى بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
حَدِّثْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنْهُمْ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: فَرَأَيْتُ فِي وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبِشْرَ، فَقَالَ: «هُمْ عِبَادٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ من بلدان شتّى لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ يَتَوَاصَلُونَ بِهَا وَلَا دُنْيَا يَتَبَاذَلُونَ بِهَا يَتَحَابُّونَ بِرَوْحِ اللَّهِ يَجْعَلُ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ نُورًا وَيَجْعَلُ لَهُمْ مَنَابِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ قُدَّامَ الرَّحْمَنِ، يَفْزَعُ النَّاسُ وَلَا يَفْزَعُونَ، وَيَخَافُ النَّاسُ وَلَا يَخَافُونَ» .
وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَهْرُ بن حوشب قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم [2] :
«1151» [وفي بعض الأخبار المرفوعة أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] [3] سُئِلَ: مَنْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ؟ قال: «الذين إذا رؤوا ذُكِرَ اللَّهُ» .
«1152» وَيُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْ عِبَادِي الَّذِينَ يُذْكَرُونَ بِذِكْرِي وأُذْكَرُ بذكرهم» .
__________
حديث عمر أخرجه أبو داود 3527 والطبري 17729 والبيهقي في «الشعب» 8998 وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 5) وإسناده منقطع. قال البيهقي: والمحفوظ عن أبي زرعة عن عمر بن الخطاب، وأبو زرعة عن عمر مرسل. اه.
وحديث ابن عمر أخرجه الحاكم (4/ 170، 171) وصححه ووافقه الذهبي.
وحديث أبي هريرة أخرجه الطبري 17728 وأبو يعلى 6110 والبيهقي في «الشعب» 8997 وصححه ابن حبان برقم 573 وقال البيهقي: كذا قال عن أبي هريرة وهو وهم والمحفوظ عن أبي زرعة عن عمر، وأبو زرعة عن عمر مرسل اه.
الخلاصة: هو حديث حسن بمجموع طرقه وشواهده.
1151- ضعيف. أخرجه النسائي في «الكبرى» 11235 وابن المبارك في «الزهد» 218 والطبراني 12325 من طريق جعفر بن أبي الْمُغِيرَةِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عن ابن عباس مرفوعا، وإسناده ضعيف لضعف جعفر بن المغيرة في روايته عن سعيد بن جبير، وقد خالفه غير واحد فرووه مرسلا وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 36) : رواه الطبراني عن شيخه الفضل بن أبي روح، ولم أعرفه وبقية رجاله ثقات اه.
وأخرجه ابن المبارك 217 والطبري 17719 و17723 و17726 ومن طرق عن سعيد بن جبير مرسلا، وهو أصح، وورد عن ابن عباس موقوفا.
أخرجه الطبري 7718، وورد عن ابن مسعود قوله، أخرجه برقم 17724، وهو أصح من المرفوع.
الخلاصة: المرفوع ضعيف، والصحيح موقوف.
1152- ضعيف. هو بعض حديث أخرجه أحمد (3/ 430) من حديث عمرو بن الجموح وصدره: «لا يحقّ العبد صريح الإيمان» وهذا السياق له شواهد، وأما سياق المصنف، فهو ضعيف.
وقال الهيثمي في «المجمع» (1/ 89) : رواه أحمد وفيه رشدين بن سعد، وهو منقطع ضعيف اه.
وأخرجه الطبراني في «الكبير» كما في «المجمع» (1/ 89) (304) من حديث عمرو بن الحمق وقال الهيثمي: وفيه رشدين، وهو ضعيف.
(1) في المخطوط «المسجد» والمثبت عن ط و «شرح السنة» .
(2) انظر ما تقدم.
(3) زيادة عن المخطوط.(2/425)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
[سورة يونس (10) : الآيات 64 الى 65]
لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
ُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
، اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْبُشْرَى.
«1153» رُوِيَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ تعالى: هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
، قَالَ: «هِيَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ» .
«1154» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتِ» ، قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ» . وَقِيلَ: الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا هِيَ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ وَفِي الْآخِرَةِ [الْجَنَّةُ] [1] .
«1155» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ أنا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ وَيُحِبُّهُ النَّاسُ؟
قَالَ: «تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ» .
وَأَخْرَجَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، وَقَالَ [2] : وَيَحْمَدُهُ الناس عليه.
__________
1153- حسن غريب. أخرجه الترمذي 2275 وابن ماجه 3898 والطبري 17733 و17734 و17735 و17736 و17740 و17745 و17746 والحاكم (2/ 340) من طرق عدة كلهم من حديث عبادة بن الصامت، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن، وانظر مزيد الكلام عليه في «أحكام ابن العربي» 1245 بتخريجي.
1154- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
أبو اليمان هو الحكم بن نافع، شعيب هو ابن أبي حمزة، الزهري هو محمد بن مسلم.
وهو في «شرح السنة» 3165 بهذا الإسناد، وفي «صحيح البخاري» 6990 عن أبي اليمان به.
وورد من وجه آخر عن زفر بن صعصعة بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أبي هريرة بمعناه.
أخرجه مالك (2/ 956) ومن طريقه أخرجه أبو داود 5017 وأحمد (2/ 325) والحاكم (4/ 390، 391) وابن حبان 6048.
وفي الباب من حديث ابن عباس أخرجه مسلم 479 وأبو داود 876 والنسائي (2/ 188 و190) والشافعي (1/ 82) وعبد الرزاق 2839 وابن أبي شيبة (1/ 248 و249) وأحمد (1/ 219) والحميدي 489 وأبو عوانة (2/ 170) وابن الجارود 203 وابن حبان 1896 و6045 والبيهقي (2/ 87 و88) .
1155- إسناده صحيح على شرط البخاري.
أبو عمران هو عبد الملك بن حبيب.
وهو في «شرح السنة» 4034 بهذا الإسناد.
وأخرجه مسلم 2642 وابن ماجه 4225 وأحمد (5/ 157 و168) وابن حبان 366 من طرق عن شعبة به.
وأخرجه مسلم 2642 وأحمد (5/ 156) وابن حبان 367 من طريق حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِي عمران الجوني به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) هذه الرواية عند مسلم 2642 وانظر الحديث المتقدم. [.....](2/426)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَقَتَادَةُ: هِيَ نُزُولُ الملائكة بالبشارة من [عند] [1] اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمَوْتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فُصِّلَتْ: 30] ، وقال عطاء [بن السائب] [2] عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْبُشْرَى فِي الدُّنْيَا [يُرِيدُ]]
عِنْدَ الْمَوْتِ تَأْتِيهِمُ الْمَلَائِكَةُ بِالْبِشَارَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ عِنْدَ خروج نفس المؤمن من يُعْرَجُ بِهَا إِلَى اللَّهِ وَيُبَشَّرُ بِرِضْوَانِ اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ ما بشّر الله المؤمنين [به] [4] فِي كِتَابِهِ مِنْ جَنَّتِهِ وَكِرِيمِ ثَوَابِهِ، كَقَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الْبَقْرَةِ: 25] ، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [البقرة: 223] ، وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فُصِّلَتْ: 30] . وَقِيلَ: بَشَّرَهُمْ [5] فِي الدُّنْيَا بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، وَيُبَشِّرُهُمْ [6] فِي الْقُبُورِ [7] وفي كتب أعمالهم بالجنّة. تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
، لَا تَغْيِيرَ [8] لقوله ولا خلف لوعده. لِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ، يعني: قول المشركين، [قرأ نافع: وَلا يَحْزُنْكَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ، وقرأ الآخرون يَحْزُنْكَ بفتح الياء وضم الزاي، وهما لغتان، يقال: حزنه الشيء يحزنه وأحزنه] [9] ، تَمَّ الْكَلَامُ هَاهُنَا ثُمَّ ابْتَدَأَ، فَقَالَ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ، يَعْنِي: الْغَلَبَةَ وَالْقُدْرَةَ لِلَّهِ جَمِيعاً، هُوَ نَاصِرُكَ وَنَاصِرُ دِينِكَ وَالْمُنْتَقِمُ مِنْهُمْ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا، يَعْنِي: أَنَّ اللَّهَ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [الْمُنَافِقُونَ: 8] ، وَعِزَّةُ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ فَهِيَ كُلُّهَا لله، هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
[سورة يونس (10) : الآيات 66 الى 70]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ، هو إمّا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ؟ وَقِيلَ: وَمَا يَتَّبِعُونَ حَقِيقَةً لِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فَيَشْفَعُونَ لَنَا وَلَيْسَ عَلَى مَا يَظُنُّونَ، إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ، يَظُنُّونَ أَنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى الله، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، يَكْذِبُونَ.
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً، مُضِيئًا يُبْصَرُ فِيهِ، كَقَوْلِهِمْ: لَيْلٌ نَائِمٌ وَعِيشَةٌ رَاضِيَةٌ. قَالَ قُطْرُبٌ: تَقُولُ الْعَرَبُ: أَظْلَمَ اللَّيْلُ وَأَضَاءَ النَّهَارُ وَأَبْصَرَ، أَيْ: صَارَ ذَا ظُلْمَةٍ وَضِيَاءٍ وَبَصَرٍ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، سَمْعَ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلّا عالم قادر.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المخطوط «بشراهم» .
(6) في المخطوط «بشراهم» .
(7) في المخطوط «القبر» .
(8) في المطبوع «تغيّر» والمثبت عن المخطوط.
(9) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع.(2/427)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
قالُوا، يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ، اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً، وَهُوَ قَوْلُهُمُ الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ، عَنْ خَلْقِهِ، لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، عَبِيدًا وَمُلْكًا، إِنْ عِنْدَكُمْ، [أي] [1] :
مَا عِنْدَكُمْ، مِنْ سُلْطانٍ، حُجَّةٍ وبرهان، ومِنْ صلة [تقديره: ما عندكم سُلْطَانٍ] [2] ، بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) ، لَا يَنْجُونَ، وَقِيلَ: لَا يَبْقَوْنَ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنْ: مَتاعٌ، قَلِيلٌ يَتَمَتَّعُونَ بِهِ وَبَلَاغٌ يَنْتَفِعُونَ بِهِ إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ، ومَتاعٌ رُفِعَ بِإِضْمَارٍ، أَيْ:
هُوَ مَتَاعٌ، فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.
[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 73]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ، أَيِ: اقْرَأْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ خَبَرَ نُوحٍ، إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ، وَهُمْ وَلَدُ قَابِيلَ، يَا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ، عَظُمَ وَثَقُلَ عَلَيْكُمْ، مَقامِي طول [عمري] [3] ومكثي فِيكُمْ وَتَذْكِيرِي، وَوَعْظِي إِيَّاكُمْ بِآياتِ اللَّهِ، بِحُجَجِهِ وَبَيِّنَاتِهِ [4] فَعَزَمْتُمْ عَلَى قَتْلِي وَطَرْدِي فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ، أَيْ: أَحْكِمُوا أَمْرَكُمْ واعْزِمُوا عَلَيْهِ، وَشُرَكاءَكُمْ، أَيْ: وَادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ أَيْ آلِهَتَكُمْ فَاسْتَعِينُوا بِهَا لتجتمع معكم [على ما أردتموه مني] [5] . قال الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ مَعَ شُرَكَائِكُمْ، فَلَمَّا تَرَكَ (مَعَ) انْتَصَبَ. وقرأ يعقوب: شركاؤكم رَفْعٌ، أَيْ: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ أَنْتُمْ وشركاؤكم. [وقرأ رويس عن يعقوب فَأَجْمِعُوا بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، والوجه من جمع يجمع، والمراد: فاجمعوا ذوي أمركم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، والمعنى: اجمعوا رؤساءكم] [6] ، ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً، أَيْ: خَفِيًّا مُبْهَمًا، مِنْ قَوْلِهِمْ: غَمَّ الْهِلَالُ عَلَى النَّاسِ، أي: أشكل عليهم وخفي، ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ، أَيِ: أَمْضُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَافْرَغُوا مِنْهُ، يُقَالُ: قَضَى فُلَانٌ إِذَا مَاتَ وَقَضَى دَيْنَهُ إِذَا فَرَغَ مِنْهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ تَوَجَّهُوا إِلَيَّ بِالْقَتْلِ وَالْمَكْرُوهِ. وَقِيلَ: فَاقْضُوا مَا أَنْتُمْ قَاضُونَ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِ السَّحَرَةِ لِفِرْعَوْنَ: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ [طَهَ: 72] ، أَيِ: اعْمَلْ مَا أَنْتَ عَامِلٌ، وَلا تُنْظِرُونِ، وَلَا تُؤَخِّرُونَ وَهَذَا عَلَى طَرِيقِ التَّعْجِيزِ، أَخْبَرَ الله عن نوح [صلاة الله وسلامه عليه] [7] أَنَّهُ كَانَ وَاثِقًا بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ كَيْدِ قَوْمِهِ، عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُمْ وَآلِهَتَهُمْ لَيْسَ إِلَيْهِمْ نَفْعٌ وَلَا ضُرٌّ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ.
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ، أَعْرَضْتُمْ عَنْ قَوْلِي وَقَبُولِ نُصْحِي، فَما سَأَلْتُكُمْ، عَلَى تَبْلِيغِ الرسالة والدعوة، مِنْ أَجْرٍ، من جُعْلٍ وَعِوَضٍ، إِنْ أَجْرِيَ، مَا أَجْرِي وَثَوَابِي، إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع.
(3) زيد في المطبوع.
(4) في المخطوط «بيانه» .
(5) زيادة عن المخطوط. [.....]
(6) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع.
(7) زيادة عن المخطوط.(2/428)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
، أَيْ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: مِنَ المستسلمين لأمر الله.
فَكَذَّبُوهُ، يَعْنِي نُوحًا فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ، أَيْ: جَعَلَنَا الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفَلَكِ سُكَّانَ الْأَرْضِ خُلَفَاءَ عَنِ الْهَالِكِينَ. وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ، أَيْ: آخِرُ أَمْرِ الَّذِينَ أَنْذَرَتْهُمُ الرسل فلم يؤمنوا.
[سورة يونس (10) : الآيات 74 الى 80]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78)
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا، أَيْ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ رُسُلًا. إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، بِالدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَاتِ، فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ، أَيْ: بِمَا كَذَّبَ بِهِ قَوْمُ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ، كَذلِكَ نَطْبَعُ، أَيْ: نَخْتِمُ، عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ.
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ، يَعْنِي: أَشْرَافَ قَوْمِهِ، بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ.
فَلَمَّا جاءَهُمُ، يَعْنِي: جَاءَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ.
قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا، تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ سِحْرٌ، أَسِحْرٌ هَذَا، فَحَذَفَ السِّحْرَ الْأَوَّلَ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ.
قالُوا، يَعْنِي: فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ لِمُوسَى، أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا، لِتَصْرِفَنَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِتَلْوِيَنَا، عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ، الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ، فِي الْأَرْضِ، أَرْضِ مِصْرَ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ:
وَيَكُونَ بِالْيَاءِ، وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ، بِمُصَدِّقِينَ [1] .
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) .
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) .
[سورة يونس (10) : الآيات 81 الى 83]
فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ، قَرَأَ أَبُو عمرو وأبو جعفر: «السحر» ، [بقطع الألف] [2] بالمدّ على الاستفهام، [وما في هذه القراءة للاستفهام وليست بموصولة، وهي مبتدأة وجِئْتُمْ بِهِ
__________
(1) في المخطوط «مصدقين» .
(2) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع.(2/429)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
خبرها، والمعنى: أيّ شيء جئتم به؟ وقوله: «السحر» بدل عنها] [1] ، وقرأ الباقون ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ، بوصل الألف من غير مدّ، [وما في هذه القراءة موصولة بمعنى الذي وجِئْتُمْ بِهِ، صلتها وهي مع الصلة في موضع الرفع بالابتداء، وقوله: السِّحْرُ خبره أي الذي جئتم به السحر] [2] ، وتقوي هذه القراءة قِرَاءَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ «مَا جِئْتُمْ بِهِ سِحْرٌ» ، بِغَيْرِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ. إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ.
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ، بِآيَاتِهِ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.
فَما آمَنَ لِمُوسى، لَمْ يُصَدِّقْ مُوسَى مَعَ مَا آتَاهُمْ بِهِ مِنَ الْآيَاتِ، إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ، اخْتَلَفُوا فِي الْهَاءِ الَّتِي فِي قَوْمِهِ، قِيلَ: هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مُوسَى، وَأَرَادَ بِهِمْ مُؤْمِنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا بِمِصْرَ وَخَرَجُوا مَعَهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا أَوْلَادَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ هَلَكَ الْآبَاءُ وَبَقِيَ الْأَبْنَاءُ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى فِرْعَوْنَ. وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: هُمْ نَاسٌ يَسِيرٌ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ آمَنُوا مِنْهُمُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمُؤْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ وَخَازِنُ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَةُ خازنه وماشطة ابنته. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُمْ كَانُوا سَبْعِينَ أَلْفَ [3] بَيْتٍ مِنَ الْقِبْطِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَأُمَّهَاتُهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَتْبَعُ أُمَّهُ وَأَخْوَالَهُ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ نَجَوْا مِنْ قَتْلِ فِرْعَوْنَ، وَذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ لِمَا أَمَرَ بِقَتْلِ أَبْنَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا وَلَدَتِ ابْنًا وَهَبَتْهُ لِقِبْطِيَّةٍ خوفا [عليه] [4] من القتل، فنشؤوا عِنْدَ الْقِبْطِ، وَأَسْلَمُوا فِي الْيَوْمِ الذي غلبت السحرة [فيه] [5] . قَالَ الْفَرَّاءُ: سُمُّوا ذُرِّيَّةً لِأَنَّ آبَاءَهُمْ كَانُوا مِنَ الْقِبْطِ وَأُمَّهَاتِهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَمَا يُقَالُ لِأَوْلَادِ أَهْلِ فَارِسَ الَّذِينَ سَقَطُوا إِلَى الْيَمَنِ الْأَبْنَاءُ، لِأَنَّ أُمَّهَاتِهِمْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ آبَائِهِمْ، عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ، قِيلَ: أَرَادَ بِفِرْعَوْنَ آلَ فِرْعَوْنَ، أَيْ: عَلَى خَوْفٍ مِنْ آلِ فرعون وملئهم كما قال: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يُوسُفَ: 82] ، أَيْ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ. وقيل: إنما قال: وَمَلَائِهِمْ، وَفِرْعَوْنُ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمَلِكَ إِذَا ذُكِرَ يُفْهَمُ مِنْهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، كَمَا يُقَالُ قَدِمَ الْخَلِيفَةُ يُرَادُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ. وَقِيلَ: أَرَادَ مَلَأَ الذُّرِّيَّةِ، فَإِنَّ مَلَأَهُمْ كَانُوا مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ. أَنْ يَفْتِنَهُمْ، أَيْ: يَصْرِفَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ يَفْتِنُوهُمْ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ فِرْعَوْنَ وَكَانَ قَوْمُهُ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ، وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ، لَمُتَكَبِّرٍ، فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ، الْمُجَاوَزِينَ الْحَدَّ لِأَنَّهُ كَانَ عَبْدًا فَادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ.
[سورة يونس (10) : الآيات 84 الى 88]
وَقالَ مُوسى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88)
وَقالَ مُوسى لِمُؤْمِنِي قَوْمِهِ: يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ.
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع.
(2) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع.
(3) في المخطوط «سبعون أهل» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.(2/430)
فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا، اعْتَمَدْنَا، ثُمَّ دَعَوْا فَقَالُوا: رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، أَيْ: لَا تُظْهِرْهُمْ عَلَيْنَا وَلَا تُهْلِكْنَا بِأَيْدِيهِمْ، فَيَظُنُّوا أَنَّا لَمْ نَكُنْ عَلَى الْحَقِّ فَيَزْدَادُوا طُغْيَانًا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُعَذِّبْنَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَقُولُ قَوْمُ فِرْعَوْنَ: لَوْ كَانُوا عَلَى الْحَقِّ لَمَا عُذِّبُوا وَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ خَيْرٌ مِنَّا فيُفْتَتَنُوا.
وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ هارون، أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً، يُقَالُ: تَبَوَّأَ [1] فَلَانٌ لِنَفْسِهِ بَيْتًا وَمَضْجَعًا إِذَا اتّخذه، وتبوّأته [2] أَنَا إِذَا اتَّخَذْتُهُ لَهُ، وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً
، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَا يُصَلُّونَ إِلَّا فِي كَنَائِسِهِمْ وبِيَعِهِمْ، وَكَانَتْ ظَاهِرَةً، فَلَمَّا أُرْسِلَ مُوسَى أَمَرَ فِرْعَوْنُ بِتَخْرِيبِهَا وَمَنَعَهَمْ مِنَ الصَّلَاةِ [فيها] [3] فأمروا أن يتّخذوا مساجدهم [4] فِي بُيُوتِهِمْ وَيُصَلُّوا فِيهَا خَوْفًا من فرعون، وهذا قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَعِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: خَافَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنْ فِرْعَوْنَ أَنْ يُصَلُّوا فِي الْكَنَائِسِ الْجَامِعَةِ، فَأُمِرُوا [أن يَجْعَلُوا] [5] فِي بُيُوتِهِمْ مَسَاجِدَ مُسْتَقْبِلَةً الكعبة، يصلّون فيها سرّا [وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً] [6] ، معناه: واجعلوا وجوه بُيُوتَكُمْ إِلَى الْقِبْلَةِ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتِ الْكَعْبَةُ قِبْلَةَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، يَا مُحَمَّدُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً، مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا، وَأَمْوالًا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ، اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ اللَّامِ، قِيلَ: هِيَ لَامُ كَيْ، مَعْنَاهُ: آتَيْتُهُمْ كَيْ تَفْتِنَهُمْ فَيَضِلُّوا وَيُضِلُّوا عن سبيلك كَقَوْلِهِ: لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [الْجِنِّ: 16] ، وَقِيلَ: هِيَ لَامُ العاقبة يعني: فيضلوا ويكون [7] عَاقِبَةُ أَمْرِهِمُ الضَّلَالَ كَقَوْلِهِ: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [الْقَصَصِ: 8] . قَوْلُهُ: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَهْلِكْهَا، والطمس: المحو [8] ، [وقال أكثر المفسّرين: امْسَخْهَا وَغَيِّرْهَا عَنْ هَيْئَتِهَا] [9] . وَقَالَ قَتَادَةُ: صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ وَحُرُوثُهُمْ وَزُرُوعُهُمْ وجواهرهم كلها حِجَارَةً. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: جَعَلَ سُكَّرَهُمْ [10] حِجَارَةً، وَكَانَ الرَّجُلُ مَعَ أَهْلِهِ فِي فِرَاشِهِ فَصَارَا حَجَرَيْنِ وَالْمَرْأَةُ قَائِمَةٌ تَخْبِزُ فَصَارَتْ حجرا، [وكان الرجل كذلك] [11] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بَلَغَنَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ صَارَتْ حِجَارَةً مَنْقُوشَةً كَهَيْئَتِهَا صِحَاحًا وَأَنْصَافًا وَأَثْلَاثًا. وَدَعَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِخَرِيطَةٍ فِيهَا أَشْيَاءُ مِنْ بَقَايَا آلِ فِرْعَوْنَ فَأَخْرَجَ مِنْهَا الْبَيْضَةَ مَشْقُوقَةً1]
وَالْجَوْزَةَ مَشْقُوقَةً وَإِنَّهَا لِحَجَرٌ. قَالَ السُّدِّيُّ: مَسَخَ اللَّهُ أَمْوَالَهُمْ حِجَارَةً وَالنَّخِيلَ وَالثِّمَارَ وَالدَّقِيقَ وَالْأَطْعِمَةَ، فَكَانَتْ إِحْدَى الْآيَاتِ التِّسْعِ. وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ، أَيْ: أَقْسِهَا [13] وَاطْبَعْ عَلَيْهَا حَتَّى لَا تَلِينَ وَلَا تَنْشَرِحَ لِلْإِيمَانِ، فَلا يُؤْمِنُوا، قِيلَ: هُوَ نَصْبٌ بِجَوَابِ الدُّعَاءِ بِالْفَاءِ. وَقِيلَ: هُوَ عَطْفٌ على قوله:
__________
(1) في المطبوع «بوّأ» والمثبت عن المخطوط.
(2) في المطبوع «بوّأته» والمثبت عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «مساجد» والمثبت عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط. [.....]
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المطبوع «ليضلوا فيكون» والمثبت عن المخطوط وط.
(8) في ط «المحق» .
(9) زيادة عن المخطوط.
(10) في المطبوع «صورهم» والمثبت عن المخطوط و «تفسير الطبري» .
(11) زيادة عن المخطوط.
(12) في المطبوع «منقوشة» والمثبت عن المخطوط.
(13) في المطبوع «اقسمها» والمثبت عن المخطوط وط.(2/431)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
لِيُضِلُّوا، أَيْ: لِيُضِلُّوا فَلَا يُؤْمِنُوا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ دُعَاءٌ مَحَلُّهُ جَزْمٌ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ فَلَا يُؤْمِنُوا، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ، وَهُوَ الْغَرَقُ. قَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ أمتهم على الكفر.
[سورة يونس (10) : الآيات 89 الى 90]
قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
قالَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما، إِنَّمَا نُسِبَ إِلَيْهِمَا، وَالدُّعَاءُ كَانَ مِنْ مُوسَى لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى كَانَ يَدْعُو وَهَارُونُ يُؤَمِّنُ، وَالتَّأْمِينُ دُعَاءٌ [1] . وَفِي بَعْضِ الْقِصَصِ: كَانَ بَيْنَ دُعَاءِ مُوسَى وَإِجَابَتِهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً. فَاسْتَقِيما، عَلَى الرِّسَالَةِ وَالدَّعْوَةِ وَامْضِيَا لِأَمْرِي إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ، وَلا تَتَّبِعانِّ، نَهْيٌ بِالنُّونِ الثَّقِيلَةِ، وَمَحَلُّهُ جَزْمٌ، يُقَالُ فِي الْوَاحِدِ: لَا تَتَّبِعَنَّ بِفَتْحِ النُّونِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ وَبِكَسْرِ النُّونِ فِي التَّثْنِيَةِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ [2] بتخفيف النون. [وقد اختلفت الروايات عنه فيه، فبعضهم روى عنه تَتَّبِعانِّ بتخفيف التاء الثانية وفتح الباء وتشديد النون. وبعضهم روى عنه تَتَّبِعانِّ بتشديد التاء الثانية وكسر الباء وتخفيف النون، وبعضهم روى عنه كقراء الجماعة. والوجه في تخفيف النون] [3] إن نُونَ التَّأْكِيدِ تُثَقَّلُ وَتُخَفَّفُ. سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، يَعْنِي: وَلَا تسلكا سبيل الَّذِينَ يَجْهَلُونَ حَقِيقَةَ وَعْدِي، فَإِنَّ وَعْدِي لَا خُلْفَ فِيهِ، وَوَعِيدِي نَازِلٌ بِفِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ.
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ، عَبَرْنَا بِهِمْ فَأَتْبَعَهُمْ لِحِقَهُمْ وَأَدْرَكَهُمْ، فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، يُقَالُ:
أَتْبَعَهُ وَتَبِعَهُ إِذَا أَدْرَكَهُ وَلَحِقَهُ، واتّبعه بِالتَّشْدِيدِ إِذَا سَارَ خَلْفَهُ وَاقْتَدَى بِهِ. وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدٌ. بَغْياً وَعَدْواً، أَيْ: ظُلْمًا وَاعْتِدَاءً. وَقِيلَ: بَغْيًا فِي الْقَوْلِ وَعَدْوًا فِي الْفِعْلِ. وَكَانَ الْبَحْرُ قَدِ انْفَلَقَ لِمُوسَى وَقَوْمِهِ، فَلَمَّا وَصَلَ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ إِلَى الْبَحْرِ هَابُوا دُخُولَهُ فَتَقَدَّمَهُمْ جِبْرِيلُ عَلَى فَرَسٍ وَدِيقٍ وَخَاضَ الْبَحْرَ، فَاقْتَحَمَتِ الْخُيُولُ خَلْفَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ آخِرُهُمْ وَهَمَّ أَوَّلُهُمْ أن يخرج [من البحر] [4] انْطَبَقَ عَلَيْهِمُ الْمَاءُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ، أَيْ: غَمَرَهُ الْمَاءُ وَقَرُبَ هَلَاكُهُ، قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «إِنَّهُ» بِكَسْرِ الْأَلْفِ، أَيْ: آمَنْتُ وَقُلْتُ إِنَّهُ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ عَلَى وُقُوعِ آمَنْتُ عَلَيْهَا.
[وإضمار حرف الجر، أي: آمنت بأنّه، فحذف الباء، وأوصل الفعل بنفسه، فهو في موضع النصب] [5] ، لَا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَدَسَّ جبريل فِي فِيهِ مِنْ حَمْأَةِ الْبَحْرِ. وقال:
[سورة يونس (10) : الآيات 91 الى 93]
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) .
__________
(1) زيد في المخطوط «على الرسالة والدعوة» .
(2) في المخطوط «ابن عباس» .
(3) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع.(2/432)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
«1156» رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَمَّا أَغْرَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسرائيل [وأنا من المسلمين] [1] ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا مُحَمَّدُ فَلَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا آخُذُ مِنْ حَالِ [2] الْبَحْرِ فَأَدُسُّهُ فِي فِيْهِ مَخَافَةَ أَنْ تُدْرِكَهُ الرَّحْمَةُ» .
فَلَمَّا أَخْبَرَ مُوسَى قَوْمَهُ بِهَلَاكِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ: مَا مَاتَ فِرْعَوْنُ فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَأَلْقَى فِرْعَوْنَ عَلَى السَّاحِلِ أَحْمَرَ قَصِيرًا كَأَنَّهُ ثَوْرٌ، فَرَآهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ فَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ لا يقبل الماء ميتا أبدا [بل طرحه خارجه] [3] ، فذلك قوله:
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ، أَيْ: نُلْقِيكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ:
نُنَجِّيكَ بِالتَّخْفِيفِ، بِبَدَنِكَ، بِجَسَدِكَ لَا رُوحَ فِيهِ. وَقِيلَ: بِبَدَنِكَ: بِدِرْعِكَ، وَكَانَ لَهُ دِرْعٌ مَشْهُورٌ مُرَصَّعٌ بِالْجَوَاهِرِ، فَرَأَوْهُ في درعه فصدّقوا موسى، لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً، عِبْرَةً وَعِظَةً، وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ.
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ أَنْزَلْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ، مُبَوَّأَ صِدْقٍ، مَنْزِلَ صِدْقٍ، يَعْنِي: مِصْرَ. وَقِيلَ: الْأُرْدُنُ وَفِلَسْطِينُ وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ مِيرَاثًا لِإِبْرَاهِيمَ وَذُرِّيَّتِهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ مِصْرُ وَالشَّامُ، وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، الْحَلَالَاتِ، فَمَا اخْتَلَفُوا، يَعْنِي الْيَهُودَ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَصْدِيقِهِ وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ، يَعْنِي: الْقُرْآنَ وَالْبَيَانَ بِأَنَّهُ رَسُولٌ الله صِدْقٌ وَدِينُهُ حَقٌّ. وَقِيلَ: حَتَّى جَاءَهُمْ مَعْلُومُهُمْ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَهُ قَبْلَ خُرُوجِهِ، فَالْعِلْمُ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ كَمَا يُقَالُ لِلْمَخْلُوقِ: خَلْقٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لقمان: 11] ، [أي:
مخلوقه] [4] ، وَيُقَالُ: هَذَا الدِّرْهَمُ ضَرْبُ الْأَمِيرِ، أَيْ: مَضْرُوبُهُ. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، من الدين.
[سورة يونس (10) : الآيات 94 الى 98]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)
__________
1156- أخرجه الترمذي 3108 والنسائي في «التفسير» 258 والطيالسي 2618 وأحمد (1/ 240 و340) والطبري 17858 و17862 والحاكم (1/ 57) و (2/ 340) و (4/ 249) وابن حبان 6215 من طريق شعبة عن عطاء بن السائب وعن عدي بن ثابت عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابن عباس.
صححه الحاكم وقال: على شرطهما، إلا أن أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن عباس، ووافقه الذهبي.
وقال الترمذي: حسن صحيح غريب.
وصححه الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» (2/ 368) وأطال الكلام في هذا الشأن، ورد فيه على الزمخشري.
وورد من وجه آخر أخرجه الترمذي 3107 وأحمد (1/ 245 و309) والطبراني 12932 والطيالسي 2693 والطبري 17875.
وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه الطبري 17874 وابن عدي (2/ 788) وفيه كثير بن زاذان، وهو مجهول.
وانظر مزيد الكلام عليه في «تخريج الكشاف» (2/ 368) .
هو بعض حديث مرفوع، وتقدم. [.....]
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «هما» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.(2/433)
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ، يَعْنِي: القرآن فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ، فيخبرونك أنك مَكْتُوبٌ عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ. قِيلَ: هَذَا خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرَهُ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فَإِنَّهُمْ يُخَاطِبُونَ الرَّجُلَ وَيُرِيدُونَ بِهِ غَيْرَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ [الْأَحْزَابِ: 1] ، خَاطَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [1] وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [النساء:
94] ، وَلَمْ يَقُلْ بِمَا تَعْمَلُ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاقِ: 1] ، وَقِيلَ: كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ وَشَاكٍّ فَهَذَا الْخِطَابُ مَعَ أَهْلِ الشَّكِّ مَعْنَاهُ: إِنْ كُنْتَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ فِي شَكٍّ، مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْهُدَى عَلَى لِسَانِ رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم] ، فاسئل الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: يَعْنِي مَنْ آمَنُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وأصحابه، فسيشهدون عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُخْبِرُونَكَ بِنُبُوَّتِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: عَلِمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ رَسُولَهُ غَيْرُ شَاكٍّ، لَكِنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ يَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لِعَبْدِهِ: إِنْ كُنْتَ عَبْدِي فَأَطِعْنِي، وَيَقُولُ لِوَلَدِهِ: افْعَلْ كَذَا وَكَذَا إِنْ كُنْتَ ابْنِي، وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ. لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ، مِنَ الشَّاكِّينَ.
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) ، وَهَذَا كُلُّهُ خِطَابٌ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم والمراد منه غيره.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ، وجبت عليهم، كَلِمَتُ رَبِّكَ، قِيلَ: لَعْنَتُهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
سخطه. وَقِيلَ: الْكَلِمَةُ هِيَ قَوْلُهُ: «هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي» ! لَا يُؤْمِنُونَ.
وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، دَلَالَةٍ، حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ، قَالَ الْأَخْفَشُ: أَنَّثَ [2] فِعْلَ كَلُّ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى الْمُؤَنَّثِ وَهِيَ قَوْلُهُ: آيَةٍ، وَلَفْظُ كُلُّ لِلْمُذَكَّرِ والمؤنث سواء.
قوله تعالى: فَلَوْلا كانَتْ، [أَيْ] [3] : فَهَلَّا كَانَتْ، قَرْيَةٌ، ومعناها [4] : فَلَمْ تَكُنْ قَرْيَةٌ لِأَنَّ فِي الِاسْتِفْهَامِ ضَرْبًا مِنَ الْجَحْدِ، أَيْ: أَهْلُ قَرْيَةٍ، آمَنَتْ، عِنْدَ مُعَايَنَةِ العذاب، فَنَفَعَها إِيمانُها، في حال اليأس، إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ، فإنهم نَفَعَهُمْ إِيمَانُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، قَوْمَ نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ، تَقْدِيرُهُ: وَلَكِنَّ قَوْمَ يُونُسَ، لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ، وَهُوَ وَقْتُ انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ هَلْ رَأَوُا الْعَذَابَ عِيَانًا أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: رَأَوْا دَلِيلَ الْعَذَابِ؟ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوُا الْعَذَابَ عَيَانًا [بِدَلِيلِ] قَوْلِهِ: كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ، وَالْكَشْفُ يَكُونُ بَعْدَ الْوُقُوعِ أَوْ إِذَا قَرُبَ.
وَقِصَّةُ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَوَهْبٌ وَغَيْرُهُمْ: أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ كَانُوا بِنِينَوَى [5] مِنْ أَرْضِ الْمَوْصِلِ فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يُونُسَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَدَعَاهُمْ فَأَبَوْا، فَقِيلَ له: أخبرهم
__________
(1) في المطبوع «للنبي» والمثبت عن المخطوط وط.
(2) في المطبوع «أنت» والمثبت عن المخطوط وط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «معناه» والمثبت عن المخطوط.
(5) في المخطوط «يبنون في» والمثبت عن ط و «الدر المنثور» (3/ 572) .(2/434)
أَنَّ الْعَذَابَ مُصَبِّحُهُمْ إِلَى ثَلَاثٍ، فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ، فَقَالُوا: إِنَّا لَمْ نُجَرِّبْ عَلَيْهِ كَذِبَا فَانْظُرُوا فَإِنْ بَاتَ فِيكُمْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنْ لَمْ يَبِتْ فَاعْلَمُوا أن العذاب مصبحكم [لا محالة] [1] ، فَلَمَّا كَانَ فِي جَوْفِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ خَرَجَ يُونُسُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهُمْ فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَغَشَّاهُمُ الْعَذَابُ فكان فوق رؤوسهم قَدْرَ مِيلٍ.
وَقَالَ وَهْبٌ: غَامَتِ السَّمَاءُ غَيْمًا أَسْوَدَ هَائِلًا يُدَخِّنُ دخانا شديدا فهبط حتى غشي مَدِينَتِهِمْ وَاسْوَدَّتْ سُطُوحُهُمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ أَيْقَنُوا بِالْهَلَاكِ، فَطَلَبُوا يُونُسَ بينهم [2] فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ التَّوْبَةَ فَخَرَجُوا إِلَى الصَّعِيدِ بِأَنْفُسِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ، وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ وَأَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَالتَّوْبَةَ، وَأَخْلَصُوا النِّيَّةَ وَفَرَّقُوا بَيْنَ كُلِّ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ فَحَنَّ بعضها إلى بعض، وعلت الأصوات [3] وَاخْتَلَطَتْ أَصْوَاتُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ، وَعَجُّوا وَتَضَرَّعُوا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَالُوا: آمَنَّا بِمَا جَاءَ بِهِ يُونُسُ، فَرَحِمَهُمْ رَبُّهُمْ فَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُمْ وَكَشَفَ عنهم العذاب بعد ما أظلّهم، وَذَلِكَ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَكَانَ يُونُسُ قَدْ خَرَجَ فَأَقَامَ يَنْتَظِرُ الْعَذَابَ وَهَلَاكَ قَوْمِهِ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا [وكان الكذب أفحش شيء عندهم] [4] ، وكان من كذّب ولم يكن لَهُ بَيِّنَةٌ قُتِلَ، فَقَالَ يُونُسُ: كَيْفَ أَرْجِعُ إِلَى قَوْمِي وَقَدْ كَذَبْتُهُمْ؟ فَانْطَلَقَ عَاتِبًا عَلَى رَبِّهِ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ فَأَتَى الْبَحْرَ فَإِذَا قَوْمٌ يَرْكَبُونَ سَفِينَةً فَعَرَفُوهُ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ أَجْرٍ، فَلَمَّا دَخَلَهَا وَتَوَسَّطَتْ بهم ولججت، وقفت السَّفِينَةُ لَا تَرْجِعُ وَلَا تَتَقَدَّمُ، قَالَ أَهْلُ السَّفِينَةِ: إِنَّ لِسَفِينَتِنَا لَشَأْنًا، قَالَ يُونُسُ: قَدْ عَرَفْتُ شَأْنَهَا رَكِبَهَا رَجُلٌ ذُو خَطِيئَةٍ عَظِيمَةٍ، قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: أَنَا اقْذِفُونِي فِي الْبَحْرِ، قَالُوا: مَا كُنَّا لِنَطْرَحَكَ مِنْ بَيْنِنَا حتى نعذر في شأنك، فاستهموا فَاقْتَرَعُوا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأُدْحِضَ [5] سَهْمُهُ، وَالْحُوتُ عِنْدَ رِجْلِ السَّفِينَةِ فَاغِرًا فَاهُ يَنْتَظِرُ أَمْرَ رَبِّهِ فِيهِ، فَقَالَ يُونُسُ: إِنَّكُمْ وَاللَّهِ لَتَهْلَكُنَّ جميعا أو لتطرحنني فيه، فَقَذَفُوهُ فِيهِ وَانْطَلَقُوا وَأَخَذَهُ الْحُوتُ.
وَرُوِيَ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَى حُوتٍ عَظِيمٍ حَتَّى قَصَدَ السَّفِينَةَ، فَلَمَّا رَآهُ أَهْلُ السَّفِينَةِ مِثْلَ الْجَبَلِ الْعَظِيمِ وَقَدْ فَغَرَ فَاهُ يَنْظُرُ إِلَى مَنْ فِي السَّفِينَةِ كَأَنَّهُ يَطْلُبُ شَيْئًا خَافُوا مِنْهُ، وَلَمَّا رَآهُ يُونُسُ زَجَّ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ خَرَجَ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ فَأَتَى بَحْرَ الرُّومِ فَإِذَا سَفِينَةٌ مَشْحُونَةٌ [6] ، فَرَكِبَهَا فَلَمَّا لَجَجَتِ السَّفِينَةُ، تَكَفَّأَتْ [7] حَتَّى كَادُوا أَنْ يَغْرَقُوا، فَقَالَ الْمَلَّاحُونَ: هَاهُنَا رَجُلٌ عَاصٍ أو عبد آبق [من سيده] وهكذا رَسْمُ السَّفِينَةِ إِذَا كَانَ فِيهَا آبِقٌ لَا تَجْرِي، وَمِنْ رَسْمِنَا أَنْ نَقْتَرِعَ فِي مِثْلِ هَذَا فَمَنْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْقُرْعَةُ أَلْقَيْنَاهُ فِي الْبَحْرِ، وَلَأَنْ يَغْرَقَ وَاحِدٌ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَغْرَقَ السَّفِينَةُ بِمَا فِيهَا، فَاقْتَرَعُوا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ فِي كُلِّهَا عَلَى يُونُسَ. فَقَالَ يُونُسُ: أَنَا الرَّجُلُ الْعَاصِي وَالْعَبْدُ الْآبِقُ، فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ فَابْتَلَعَهُ حُوتٌ، ثُمَّ جَاءَ حُوتٌ آخَرُ أَكْبَرُ مِنْهُ وَابْتَلَعَ هَذَا الْحُوتَ، وَأَوْحَى اللَّهُ إلى الحوت [أن] [8] لَا تُؤْذِي مِنْهُ شَعْرَةً فَإِنِّي جَعَلْتُ بَطْنَكَ سِجْنَهُ وَلَمْ أَجْعَلْهُ طَعَامًا لَكَ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: نُودِيَ [الْحُوتُ] [9] إِنَّا لَمْ نَجْعَلْ يونس لك قوتا، وإنما جَعَلَنَا بَطْنَكَ لَهُ حِرْزًا وَمَسْجِدًا.
وَرُوِيَ: أَنَّهُ قَامَ قَبْلَ الْقُرْعَةِ فَقَالَ: أَنَا الْعَبْدُ الْعَاصِي وَالْآبِقُ، قَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا يونس بن
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «نبيهم» والمثبت عن المخطوط.
(3) في المخطوط «أصواتهم» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «فأحض» والمثبت عن المخطوط وط. [.....]
(6) في المخطوط «مسحوبة» .
(7) في المخطوط «تشكلت» .
(8) زيادة عن المخطوط.
(9) زيادة عن المخطوط.(2/435)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
مَتَّى، فَعَرَفُوهُ فَقَالُوا: لَا نُلْقِيكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَكِنْ نُسَاهِمُ [فلعل السهم يخرج على غيرك فاقترعوا] [1] ، فَخَرَجَتِ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ فَأَلْقَى نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ابْتَلَعَهُ الْحُوتُ فَأَهْوَى بِهِ إِلَى قَرَارِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَكَانَ فِي بَطْنِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَسَمِعَ تَسْبِيحَ الْحَصَى، فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَأَجَابَ اللَّهُ لَهُ فَأَمَرَ الْحُوتَ فَنَبَذَهُ عَلَى سَاحِلِ البحر وهو كالفرخ المتمعط [2] ، فَأَنْبَتَ اللَّهُ عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، وَهُوَ الدُّبَّاءُ، فَجَعَلَ يَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا وَوَكَّلَ بِهِ وَعْلَةً يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا فَيَبِسَتِ الشَّجَرَةُ، فَبَكَى عَلَيْهَا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ تَبْكِي عَلَى شَجَرَةٍ يَبِسَتْ وَلَا تَبْكِي عَلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ أردت أَنْ أُهْلِكَهُمْ، فَخَرَجَ يُونُسُ فَإِذَا هُوَ بِغُلَامٍ يَرْعَى، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ يَا غُلَامُ؟ قَالَ: مِنْ قوم يونس، فقال [له] [3] : إِذَا رَجَعْتَ إِلَيْهِمْ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي لَقِيتُ يُونُسَ، فَقَالَ الْغُلَامُ: قَدْ تَعْلَمُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَكُنْ لي بينة [كذّبوني و] [4] قُتِلْتُ، قَالَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: تَشْهَدُ لَكَ هَذِهِ الْبُقْعَةُ وَهَذِهِ الشجرة، فقال له الغلام: فمرهما، فَقَالَ يُونُسُ: إِذَا جَاءَكُمَا هَذَا الْغُلَامُ فَاشْهَدَا لَهُ، قَالَتَا: نَعَمْ، فَرَجَعَ الْغُلَامُ، فَقَالَ لِلْمَلِكِ: إِنِّي لَقِيتُ يُونُسَ فَأَمَرَ الْمَلِكُ بِقَتْلِهِ، فَقَالَ: إِنَّ لِي بَيِّنَةً فَأَرْسِلُوا مَعِي فَأَتَى الْبُقْعَةَ وَالشَّجَرَةَ، فَقَالَ: أنشدكما هَلْ أَشْهَدَكُمَا يُونُسُ؟ قَالَتَا:
نَعَمْ، فَرَجَعَ الْقَوْمُ مَذْعُورِينَ، وَقَالُوا لِلْمَلِكِ: شَهِدَ لَهُ الشَّجَرَةُ وَالْأَرْضُ، فَأَخَذَ الْمَلِكُ بِيَدِ الْغُلَامِ وَأَجْلَسَهُ فِي مَجْلِسِهِ، وَقَالَ: أَنْتَ أَحَقُّ بِهَذَا الْمَكَانِ مِنِّي، فَأَقَامَ لَهُمْ أَمْرَهُمْ ذلك الغلام أربعين سنة.
[سورة يونس (10) : الآيات 99 الى 101]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ، يَا مُحَمَّدُ، لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ، فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إلّا من سبق له السَّعَادَةُ، وَلَا يَضِلُّ إِلَّا مَنْ سبق له من الله الشَّقَاوَةُ.
وَما كانَ لِنَفْسٍ، وَمَا ينبغي لنفس. وقيل: وما كَانَتْ نَفْسٌ، أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِأَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: بِمَشِيئَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: بِعِلْمِ اللَّهِ. وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ، قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ:
وَنَجْعَلُ بِالنُّونِ، وَالْبَاقُونَ بِالْيَاءِ، أَيْ: وَيَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ، أَيِ: الْعَذَابَ وَهُوَ الرِّجْزُ، عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ، عَنِ اللَّهِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ.
قُلِ انْظُرُوا، أَيْ: قُلْ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ الْآيَاتِ [5] انْظُرُوا، مَاذَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَائِلِ والعبر ففي السموات الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَغَيْرُهَا، وَفِي الْأَرْضِ الْجِبَالُ وَالْبِحَارُ وَالْأَنْهَارُ وَالْأَشْجَارُ وَغَيْرُهَا، وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ، الرُّسُلُ، عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ، وَهَذَا فِي قَوْمٍ عَلِمَ اللَّهُ أنهم لا يؤمنون.
[سورة يونس (10) : الآيات 102 الى 106]
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «الممعط» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المخطوط «الإيمان» .(2/436)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ، يَعْنِي: مُشْرِكِي مَكَّةَ، إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا، مَضَوْا، مِنْ قَبْلِهِمْ، مِنْ مُكَذِّبِي الْأُمَمِ، قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي وَقَائِعَ اللَّهِ فِي قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّى الْعَذَابَ أَيَّامًا والنعم أَيَّامًا كَقَوْلِهِ: وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إِبْرَاهِيمَ: 5] ، وَكُلُّ مَا مَضَى عَلَيْكَ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ فَهُوَ أَيَّامٌ، قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا، قَرَأَ يَعْقُوبُ نُنَجِّي خَفِيفٌ مُخْتَلِفٌ عَنْهُ، وَالَّذِينَ آمَنُوا، مَعَهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ مَعْنَاهُ: نَجَّيْنَا مُسْتَقْبَلٌ بِمَعْنَى الْمَاضِي، كَذلِكَ، كَمَا نَجَّيْنَاهُمْ، حَقًّا وَاجِبًا، عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ، قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ نُنَجِّي بِالتَّخْفِيفِ والآخرون بالتشديد، ونجا وَأَنْجَى بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي، الَّذِي أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ وَهُمْ كَانُوا [1] يَعْتَقِدُونَ بُطْلَانَ مَا جَاءَ بِهِ؟ قِيلَ: كَانَ فِيهِمْ شَاكُّونَ فَهُمُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ، أَوْ أَنَّهُمْ لَمَّا رَأَوُا الْآيَاتِ اضْطَرَبُوا وَشَكُّوا فِي أَمْرِهِمْ وَأَمْرِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، مِنَ الْأَوْثَانِ، وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ، يُمِيتُكُمْ وَيَقْبِضُ أَرْوَاحَكُمْ، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
قَوْلُهُ: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَمَلُكَ. وَقِيلَ: اسْتَقِمْ عَلَى الدِّينِ حَنِيفًا.
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَلا تَدْعُ، وَلَا تَعْبُدْ، مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ، إِنْ أَطَعْتَهُ، وَلا يَضُرُّكَ، إِنْ عَصَيْتَهُ، فَإِنْ فَعَلْتَ، فَعَبَدْتَ غَيْرَ اللَّهِ، فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ، الضَّارِّينَ لأنفسهم الواضعين العبادة في غير موضعها.
[سورة يونس (10) : الآيات 107 الى 109]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ، أَيْ: يُصِبْكَ بِشِدَّةٍ وَبَلَاءٍ، فَلا كاشِفَ لَهُ، فَلَا دَافِعَ لَهُ، إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ، رَخَاءٍ وَنِعْمَةٍ وَسِعَةٍ، فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ، فَلَا مَانِعَ لِرِزْقِهِ [2] ، يُصِيبُ بِهِ، بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الضُّرِّ وَالْخَيْرِ، مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ، يَعْنِي: الْقُرْآنَ وَالْإِسْلَامَ، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي
__________
(1) في المخطوط «كافرون» .
(2) العبارة في المخطوط «لا دافع له أي لا دافع لرزقه» .(2/437)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، أَيْ: عَلَى نَفْسِهِ وَوَبَالُهُ عَلَيْهِ، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ، بِكَفِيلٍ أَحْفَظُ أَعْمَالَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ.
وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، بِنَصْرِكَ وَقَهْرِ عَدُوِّكَ وَإِظْهَارِ دِينِهِ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ، فَحَكَمَ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَبِالْجِزْيَةِ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ يُعْطُونَهَا عَنْ يَدٍ وهم صاغرون. [والله أعلم بالصواب وإليه المآب] [1] .
سُورَةُ هُودٍ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ [114] ، وَهِيَ مائة وثلاث وعشرون آية.
[سورة هود (11) : آيَةً 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
الر كِتابٌ، أَيْ: هَذَا كِتَابٌ، أُحْكِمَتْ آياتُهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُنْسَخْ بِكِتَابٍ كَمَا نُسِخَتِ الْكُتُبُ وَالشَّرَائِعُ بِهِ، ثُمَّ فُصِّلَتْ، بُيِّنَتْ بِالْأَحْكَامِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَحُكِمَتْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، ثُمَّ فُصِّلَتْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. قَالَ قَتَادَةُ: أُحْكِمَتْ أَحْكَمَهَا اللَّهُ فَلَيْسَ فِيهَا اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَاقُضٌ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فُصِّلَتْ أَيْ: فُسِّرَتْ. وَقِيلَ: فُصِّلَتْ أَيْ: أُنْزِلَتْ شَيْئًا فَشَيْئًا، مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.
[سورة هود (11) : الآيات 2 الى 5]
أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، أَيْ: وَفِي ذَلِكَ الْكِتَابِ أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَيَكُونُ مَحَلُّ (أَنْ) رَفْعًا. وَقِيلَ:
مَحَلُّهُ خَفْضٌ تَقْدِيرُهُ: بِأَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ، أَيْ: مِنَ اللَّهِ نَذِيرٌ، لِلْعَاصِينَ، وَبَشِيرٌ، لِلْمُطِيعِينَ.
وَأَنِ، عَطْفٌ عَلَى الْأَوَّلِ، اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، أَيِ: ارْجِعُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ. قَالَ الْفَرَّاءُ:
ثُمَّ هُنَا بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ: وَتُوبُوا إِلَيْهِ، لِأَنَّ الِاسْتِغْفَارَ هُوَ التَّوْبَةُ وَالتَّوْبَةُ هِيَ الِاسْتِغْفَارُ. وقيل: وأن استغفروا [ربكم في الماضي ثُمَّ تُوبُوا] [2] إِلَيْهِ فِي الْمُسْتَأْنَفِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً، يُعَيِّشْكُمْ عَيْشًا حسنا في حفظ [3] وَدَعَةٍ وَأَمْنٍ وَسَعَةٍ. قَالَ بَعْضُهُمْ: العيش الحسن هو الرضى بالميسور والصبر على المقدور.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط والعبارة في ط «أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ مِنَ الْمَعَاصِي ... » .
(3) في المطبوع «خفض» . [.....](2/438)
إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، إِلَى حِينِ الْمَوْتِ، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، أَيْ: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي عَمَلٍ صَالِحٍ فِي الدُّنْيَا أَجْرَهُ وَثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ أَبُو العالية: من كثرت طاعاته فِي الدُّنْيَا زَادَتْ دَرَجَاتُهُ فِي الْآخِرَةِ فِي الْجَنَّةِ، لِأَنَّ الدَّرَجَاتِ تَكُونُ بِالْأَعْمَالِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ زَادَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ دَخَلَ النَّارَ، وَمَنِ اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ كَانَ مِنْ [أهل] [1] الْأَعْرَافِ، ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَعْدُ. وقيل: وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، يَعْنِي: مَنْ عَمِلَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفَّقَهُ اللَّهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ عَلَى طَاعَتِهِ. وَإِنْ تَوَلَّوْا، أَعْرَضُوا، فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ وَكَانَ رَجُلًا حُلْوَ الْكَلَامِ حُلْوَ الْمَنْظَرِ، يَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم على ما يُحِبُّ وَيَنْطَوِي بِقَلْبِهِ عَلَى مَا يكره [2] .
وقوله: يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ، أَيْ: يُخْفُونَ مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الشَّحْنَاءِ وَالْعَدَاوَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ: نزلت هذه الآية فِي بَعْضِ الْمُنَافِقِينَ كَانَ إِذَا مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم ثنى صدره وحتى ظهره وَطَأْطَأَ رَأْسَهُ وَغَطَّى وَجْهَهُ كَيْ لَا يَرَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [3] .
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَحْنُونَ صُدُورَهُمْ كَيْ لَا يَسْمَعُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا ذِكْرَهُ. وَقِيلَ: كَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْكَفَّارِ [4] يَدْخُلُ بَيْتَهُ وَيُرْخِي سِتْرَهُ وَيَحْنِي ظَهْرَهُ وَيَتَغَشَّى بِثَوْبِهِ. وَيَقُولُ: هَلْ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قَلْبِي.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَثْنُونَ أَيْ: يُعَرِضُونَ بِقُلُوبِهِمْ، مِنْ قَوْلِهِمْ: ثَنَيْتُ عِنَانِي. وَقِيلَ: يَعْطِفُونَ، وَمِنْهُ ثَنِيُّ الثَّوْبِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَثْنَوْنِي عَلَى وزن «يحلولي» جعل الفعل للصدور وَمَعْنَاهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الثَّنْيِ.
لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، أَيْ: مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِيَسْتَخْفُوا مِنَ اللَّهِ إِنِ اسْتَطَاعُوا، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ، يُغَطُّونَ رُؤُوسَهُمْ بِثِيَابِهِمْ، يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ [5] : مَعْنَى الْآيَةِ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا: إِنَّ الَّذِينَ أَضْمَرُوا عَدَاوَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْفَى عَلَيْنَا حَالُهُمْ.
«1157» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَبَّاحٍ ثنا حَجَّاجٌ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقْرَأُ: «أَلَا إنّهم يثنوني صدورهم» ، فقال: سألته عنها فقال: كان
__________
1157- إسناده صحيح على شرط البخاري.
ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز.
وهو في «صحيح البخاري» 4681 عن الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَبَّاحٍ بهذا الإسناد.
وأخرجه البخاري 4682 والطبري 17966 من طريق حجاج به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) انظر «أسباب النزول» للواحدي 537.
(3) أخرجه الطبري 17952 و17953 و17954 عن عبد الله بن شداد.
وهذا مرسل فهو ضعيف.
(4) في المخطوط «المنافقين» .
(5) في المخطوط «الزهري» .(2/439)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
أُنَاسٌ يَسْتَحْيُونَ أَنْ يَتَخَلَّوْا فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، وَأَنْ يُجَامِعُوا نِسَاءَهُمْ فَيُفْضُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَنَزَلَ ذَلِكَ فيهم.
[سورة هود (11) : الآيات 6 الى 7]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: لَيْسَ دابة [في الأرض] ، مِنْ صِلَةٌ، وَالدَّابَّةُ: كُلُّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها، [أَيْ: هو المتكفّل برزقها] [1] ، أَيْ: هُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِذَلِكَ فَضْلًا وَهُوَ إِلَى مَشِيئَتِهِ إِنْ شَاءَ رَزَقَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْزُقْ. وَقِيلَ: عَلَى بِمَعْنَى مِنْ، أَيْ: من الله رزقها. قال مُجَاهِدٌ: مَا جَاءَهَا مِنْ رِزْقٍ فَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرُبَّمَا لَمْ يَرْزُقْهَا حَتَّى تَمُوتَ جُوعًا. وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها، [قَالَ ابْنُ مِقْسَمٍ: وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مُسْتَقَرَّهَا] [2] الْمَكَانُ الَّذِي تَأْوِي إِلَيْهِ وَتَسْتَقِرُّ فِيهِ لَيْلًا وَنَهَارًا، وَمُسْتَوْدَعَهَا: الْمَوْضِعُ الَّذِي تُدْفَنُ فِيهِ إِذَا مَاتَتْ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: [الْمُسْتَقَرُّ أَرْحَامُ الْأُمَّهَاتِ وَالْمُسْتَوْدَعُ الْمَكَانُ الَّذِي تَمُوتُ فِيهِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ] [3] : الْمُسْتَقَرُّ أَرْحَامُ الْأُمَّهَاتِ وَالْمُسْتَوْدَعُ أَصْلَابُ الْآبَاءِ. وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَلِيُّ بْنُ [أَبِي] [4] طَلْحَةَ وَعِكْرِمَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: الْمُسْتَقَرُّ الْجَنَّةُ أَوِ النَّارُ وَالْمُسْتَوْدَعُ الْقَبْرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ: حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الْفُرْقَانِ: 76] . كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ، أَيْ: كُلٌّ مُثْبَتٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ قبل أن خلقها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ، قَبْلَ أن يخلق السموات وَالْأَرْضَ وَكَانَ ذَلِكَ الْمَاءُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ.
قَالَ كَعْبٌ: خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَاقُوتَةً خَضْرَاءَ ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهَا بِالْهَيْبَةِ فَصَارَتْ مَاءً يَرْتَعِدُ ثُمَّ خَلَقَ الرِّيحَ، فَجَعَلَ الْمَاءَ عَلَى مَتْنِهَا ثُمَّ وَضَعَ الْعَرْشَ عَلَى الْمَاءِ. قَالَ ضَمْرَةُ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَخَلَقَ الْقَلَمَ فَكَتَبَ بِهِ مَا هُوَ خَالِقٌ وَمَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْكِتَابَ سَبَّحَ اللَّهَ وَمَجَّدَهُ أَلْفَ عَامٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ. لِيَبْلُوَكُمْ، لِيَخْتَبِرَكُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ، أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، عمل بِطَاعَةِ اللَّهِ وَأَوْرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَئِنْ قُلْتَ، يَا محمد، إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، يَعْنُونَ: الْقُرْآنَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: سَاحِرٌ، يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سورة هود (11) : الآيات 8 الى 12]
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيد في المطبوع.
(3) زيد في المطبوع.
(4) زيادة عن المخطوط.(2/440)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ، إِلَى أَجَلٍ مَحْدُودٍ، وَأَصْلُ الْأُمَّةِ الْجَمَاعَةُ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: إِلَى انْقِرَاضِ أُمَّةٍ وَمَجِيءِ أُمَّةٍ أُخْرَى، لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ، أَيُّ: أَيُّ شَيْءٍ يَحْبِسُهُ؟ يَقُولُونَهُ اسْتِعْجَالًا لِلْعَذَابِ وَاسْتِهْزَاءً، يَعْنُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ، يَعْنِي الْعَذَابَ، لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ، لَا يَكُونُ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ، وَحاقَ بِهِمْ، نَزَلَ بِهِمْ، ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ، أَيْ: وَبَالُ اسْتِهْزَائِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً، نِعْمَةً وَسَعَةً، ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ، أي: سلبناها منه، إِنَّهُ لَيَؤُسٌ، قُنُوطٌ فِي الشِّدَّةِ، كَفُورٌ [فِي] [1] النِّعْمَةِ.
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ، بَعْدَ بَلَاءٍ أَصَابَهُ، لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، زَالَتِ الشَّدَائِدُ عَنِّي، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ، أَشِرٌ بَطِرٌ، وَالْفَرَحُ لَذَّةٌ فِي الْقَلْبِ بِنَيْلِ الْمُشْتَهَى وَالْفَخْرُ هُوَ التَّطَاوُلُ عَلَى النَّاسِ بِتَعْدِيدِ الْمَنَاقِبِ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ.
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا، قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ: لَكِنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، فإنهم وإن نَالَتْهُمْ شِدَّةٌ صَبَرُوا وَإِنْ نَالُوا نِعْمَةً شَكَرُوا، أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ، لِذُنُوبِهِمْ، وَأَجْرٌ كَبِيرٌ، وَهُوَ الْجَنَّةُ.
فَلَعَلَّكَ، يَا مُحَمَّدُ، تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ، فُلَا تُبَلِّغُهُ إِيَّاهُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ لَمَّا قَالُوا: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا [يُونُسَ: 15] ، لَيْسَ فِيهِ سَبُّ آلِهَتِنَا هَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدَعَ آلِهَتُهُمْ ظَاهِرًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحى إِلَيْكَ، يَعْنِي: سَبَّ الْآلِهَةِ، وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ، أَيْ:
فَلَعَلَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا، أَيْ: لِأَنْ يَقُولُوا، لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ يُنْفِقُهُ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ، يُصَدِّقُهُ، قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ [أَبِي] [2] أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ، لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، حافظ.
[سورة هود (11) : الآيات 13 الى 15]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ (15)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، بَلْ يَقُولُونَ اخْتَلَقَهُ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ فِي سُورَةِ يُونُسَ: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس: 38] ، وَقَدْ عَجَزُوا عَنْهُ فَكَيْفَ قَالَ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ، فَهُوَ كَرَجُلٍ يَقُولُ لِآخَرَ: أَعْطِنِي دِرْهَمًا فَيَعْجَزُ، [فيقول: أَعْطِنِي دِرْهَمًا فَيَعْجَزُ] [3] ، فَيَقُولُ:
أَعْطِنِي عشرة دراهم؟ الجواب: قد قيل نزلت سورة هود أَوَّلًا. وَأَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ هَذَا، وَقَالَ: بَلْ نَزَلَتْ سُورَةُ يُونُسَ أَوَّلًا، وَقَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ يونس: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس: 38] ، أَيْ: مِثْلِهُ فِي الْخَبَرِ عَنِ الْغَيْبِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَعَجَزُوا فَقَالَ لَهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ: إن عجزتم على الإتيان بسورة
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع.(2/441)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
مِثْلِهُ فِي الْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مِنْ غَيْرِ خَبَرٍ وَلَا وَعْدٍ وَلَا وَعِيدٍ، وَإِنَّمَا هِيَ مُجَرَّدُ الْبَلَاغَةِ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَاسْتَعِينُوا بِمَنِ اسْتَطَعْتُمْ، مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا، يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ. وَقِيلَ: لَفْظُهُ جَمْعٌ وَالْمُرَادُ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ.
فَاعْلَمُوا، قِيلَ: هَذَا خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: مَعَ الْمُشْرِكِينَ، أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ، يَعْنِي: الْقُرْآنَ.
وَقِيلَ: أَنْزَلَهُ وَفِيهِ عِلْمُهُ، وَأَنْ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ، أَيْ: فَاعْلَمُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، لَفْظُهُ اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ أَمْرٌ، أَيْ: أَسْلِمُوا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا، أَيْ: مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَزِينَتَها، نَزَلَتْ فِي كُلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا يُرِيدُ بِهِ غَيْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها، أَيْ: نُوفِّ [1] لَهُمْ أُجُورَ أَعْمَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِسَعَةِ الرِّزْقِ وَدَفْعِ الْمَكَارِهِ وَمَا أَشْبَهَهَا. وَهُمْ فِيها لَا يُبْخَسُونَ، أَيْ: فِي الدُّنْيَا لا ينقص حظّهم.
[سورة هود (11) : الآيات 16 الى 17]
أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيها، أَيْ: فِي الدُّنْيَا، وَبَطَلَ، [و] ما حقّ، مَا كانُوا يَعْمَلُونَ، اخْتَلَفُوا فِي المعنى بهذه الآية، فقال مُجَاهِدٌ: [هُمْ] [2] أَهْلُ الرِّيَاءِ.
«1158» وَرُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكَ الْأَصْغَرَ» ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الشِّرْكُ الأصغر؟ قال: «الرياء» .
وقيل: هَذَا فِي الْكُفَّارِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُرِيدُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ وَإِرَادَتُهُ الْآخِرَةَ غَالِبَةٌ، فَيُجَازَى بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ.
«1159» وَرُوِّينَا عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَظْلِمُ الْمُؤْمِنَ حَسَنَةً، يُثَابُ عَلَيْهَا الرِّزْقَ فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطَعِّمُ بِحَسَنَاتِهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْرًا» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ [بَيَانٍ] [3] ، مِنْ رَبِّهِ، قِيلَ: فِي الْآيَةِ حَذَفٌ وَمَعْنَاهُ: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا أَوْ مَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ هُوَ فِي الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِي هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ، أي: ومعه [4] من يشهد له بِصِدْقِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الشَّاهِدِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَلْقَمَةُ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ وَأَكْثَرُ أَهْلِ
__________
1158- تقدم مسندا في سورة البقرة آية: 264. [.....]
1159- تقدم مسندا في سورة النساء آية: 39.
(1) في المخطوط «نوفر» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيد في المطبوع وط.
(4) في المطبوع «يتبعه» .(2/442)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
التَّفْسِيرِ: إِنَّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ لِسَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُوَ مَلَكٌ يَحْفَظُهُ وَيُسَدِّدُهُ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هُوَ الْقُرْآنُ وَنَظْمُهُ وَإِعْجَازُهُ. وَقِيلَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ عَلِيٌّ: مَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَّا وَقَدْ نَزَلَتْ فِيهِ آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَأَنْتَ أَيُّ شَيْءٍ نَزَلَ فِيكَ؟ قَالَ: وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ. وَقِيلَ: شَاهِدٌ مِنْهُ: هُوَ الْإِنْجِيلُ.
وَمِنْ قَبْلِهِ، أَيْ: وَمِنْ قَبْلِ مَجِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ. كِتابُ مُوسى، أَيْ:
كَانَ كِتَابُ مُوسَى، إِماماً وَرَحْمَةً، لِمَنِ اتَّبَعَهَا، يَعْنِي التَّوْرَاةَ وَهِيَ مُصَدِّقَةٌ لِلْقُرْآنِ شَاهِدَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ، يَعْنِي أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: أَرَادَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ، أَيْ: بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: بِالْقُرْآنِ، مِنَ الْأَحْزابِ، مِنَ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَلِ كُلِّهَا، فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ.
«1160» أَخْبَرَنَا حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ أَنَا أَبُو طَاهِرٍ الزِّيَادِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ ثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ، أَيْ: فِي شَكٍّ مِنْهُ، إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ.
[سورة هود (11) : الآيات 18 الى 20]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، فَزَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا أَوْ شَرِيكًا، أَيْ: لَا أحد أظلم منه [أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ يَعْنِي الْقُرْآنَ] [1] ، أُولئِكَ، يَعْنِي: الْكَاذِبِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ، يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ، فَيَسْأَلُهُمْ عَنْ أَعْمَالِهِمْ، وَيَقُولُ الْأَشْهادُ، يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ كَانُوا يَحْفَظُونَ أَعْمَالَهُمْ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
الْخَلَائِقُ كُلُّهُمْ.
«1161» وَرُوِّينَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنّ الله يدني المؤمن [يوم
__________
1160- إسناده على شرط مسلم.
عبد الرزاق ابن همام، معمر هو ابن راشد.
وهو في «شرح السنة» 55 بهذا الإسناد، وفي «صحيفة همام» 91 عن أبي هريرة به.
وأخرجه مسلم 153 وأحمد (2/ 350) وأبو عوانة (1/ 104) من حديث أبي هريرة.
1161- تقدم في سورة البقرة: آية 284.
(1) سقط من المطبوع وط.(2/443)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
القيامة] [1] فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ: [أَيْ عَبْدِي] [2] أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قَالَ: [فَإِنِّي] [3] سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ» .
وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ [فَيُنَادِي بِهِمْ على رؤوس الْخَلَائِقِ] [4] هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، يَمْنَعُونَ عَنْ دِينِ اللَّهِ، وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ.
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ، قال ابن عباس: سابقين. [وقال قَتَادَةُ: هَارِبِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَائِتِينَ.
فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ، يَعْنِي: أَنْصَارًا وَأَعْوَانًا يَحْفَظُونَهُمْ مِنْ عَذَابِنَا، يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ، أَيْ: يزاد [لهم] [5] في عذابهم. قيل: تضعيف [6] الْعَذَابُ عَلَيْهِمْ لِإِضْلَالِهِمُ الْغَيْرَ وَاقْتِدَاءِ الأتباع بهم. [قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ ويعقوب: «يضعّف» مشددة العين بغير ألف. وقرأ الباقون:
يُضاعَفُ بالألف مخفّفة العين] [7] . مَا كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ، الهدى. قَالَ قَتَادَةُ:
صُمٌّ عَنْ سَمَاعِ الْحَقِّ فَلَا يَسْمَعُونَهُ، وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ الْهُدَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ حَالَ بَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَبَيْنَ طَاعَتِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا قَالَ: مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَهُوَ طَاعَتُهُ، وَفِي الْآخِرَةِ قَالَ: فلا يستطيعون، خاشعة أبصارهم.
[سورة هود (11) : الآيات 21 الى 26]
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
، غَبَنُوا أَنْفُسِهِمْ، وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ
، يَزْعُمُونَ مِنْ شَفَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَصْنَامِ.
لَا جَرَمَ، أَيْ: حَقًّا. وَقِيلَ: بَلَى. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَا مَحَالَةَ، أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ، يَعْنِي: مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ فِي الْخَسَارِ.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَافُوا. قَالَ قتادة: أنابوا. قال مجاهد:
اطمأنّوا. وقيل: خشعوا. إِلى رَبِّهِمْ، أَيْ: لِرَبِّهِمْ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ، الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا، قَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ يَقُلْ [8] يَسْتَوُونَ، لِأَنَّ الْأَعْمَى وَالْأَصَمَّ فِي حَيِّزٍ كَأَنَّهُمَا وَاحِدٌ لِأَنَّهُمَا مِنْ وَصْفِ الْكَافِرِ، وَالْبَصِيرَ وَالسَّمِيعَ فِي حَيِّزٍ كَأَنَّهُمَا وَاحِدٌ لِأَنَّهُمَا مِنْ وَصْفِ الْمُؤْمِنِ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ، أَيْ: تَتَّعِظُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وأبو عمرو
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) ما بين المعقوفتين في المخطوط «فيقول الأشهاد» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «يضاعف» . [.....]
(7) سقط من المخطوط وط.
(8) زيد في المطبوع «هل» .(2/444)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
[وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ] [1] : أَنِّي بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، أَيْ: بِأَنِّي، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، أَيْ: فَقَالَ إِنِّي، لِأَنَّ فِي الْإِرْسَالِ مَعْنَى الْقَوْلِ: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ.
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) ، أَيْ: مُؤْلِمٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بُعِثَ نُوحٌ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَبِثَ يَدْعُو قَوْمَهُ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَعَاشَ بعد الطوفان ستين سنة، فكان عُمْرُهُ أَلْفًا وَخَمْسِينَ سَنَةً. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بُعِثَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةِ سَنَةً. وَقِيلَ: بُعِثَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: بُعِثَ وَهُوَ ابْنُ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَمَكَثَ يَدْعُو قَوْمَهُ تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ سَنَةً فَكَانَ عُمْرُهُ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [الْعَنْكَبُوتِ: 40] ، أَيْ: فَلَبِثَ فيهم داعيا.
[سورة هود (11) : الآيات 27 الى 30]
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30)
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ، وَالْمَلَأُ هُمُ الْأَشْرَافُ وَالرُّؤَسَاءُ، وَما نَراكَ، يَا نُوحُ، إِلَّا بَشَراً، آدَمِيًّا، مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا، سَفَلَتُنَا، وَالرَّذْلُ: الدُّونُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَالْجَمْعُ: أَرْذُلٌ، ثُمَّ يُجْمَعُ عَلَى أَرَاذِلَ، مِثْلَ كَلْبٍ وَأَكْلُبٍ وَأَكَالِبَ، وَقَالَ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ:
وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [الشعراء: 111] ، يَعْنِي: السَّفَلَةَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْحَاكَةُ وَالْأَسَاكِفَةُ، بادِيَ الرَّأْيِ، قَرَأَ أَبُو عمرو بادِيَ بِالْهَمْزِ أَيْ: أَوَّلَ الرَّأْيِ يُرِيدُونَ [2] أَنَّهُمُ اتَّبَعُوكَ فِي أَوَّلِ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ وَتَفَكُّرٍ، وَلَوْ تَفَكَّرُوا لَمْ يَتَّبِعُوكَ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِغَيْرِ هَمْزٍ، أَيْ ظَاهِرَ الرَّأْيِ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَدَا الشَّيْءُ إِذَا ظَهَرَ مَعْنَاهُ اتَّبَعُوكَ ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَدَبَّرُوا وَيَتَفَكَّرُوا بَاطِنًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: رَأْيَ الْعَيْنِ، وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ.
قالَ نُوحٌ: يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ، بَيَانٍ، مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً، أَيْ: هُدًى وَمَعْرِفَةً، مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ، أَيْ: خَفِيَتْ وَالْتَبَسَتْ عَلَيْكُمْ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ:
فَعُمِّيَتْ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، أَيْ: شُبِّهَتْ وَلُبِّسَتْ عَلَيْكُمْ، أَنُلْزِمُكُمُوها، أَيْ: أَنُلْزِمُكُمُ الْبَيِّنَةَ [وَالرَّحْمَةَ] [3] ، وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ، لَا تُرِيدُونَهَا. قَالَ قَتَادَةُ: لَوْ قَدَرَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ والسّلام أن يلزموا قومهم لألزموا، وَلَكِنْ لَمْ يَقْدِرُوا.
قَوْلُهُ: وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا، أَيْ: عَلَى الْوَحْيِ وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، إِنْ أَجرِيَ، مَا ثَوَابِي، إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا، هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْهُ طَرْدَ
__________
(1) زيد في المطبوع وط.
(2) في المخطوط «يريد» .
(3) زيد في المطبوع وط.(2/445)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
المؤمنين، إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ، أَيْ: صَائِرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ فِي الْمَعَادِ فَيَجْزِي مَنْ طَرَدَهُمْ، وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ.
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ، مَنْ يَمْنَعُنِي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، تَتَّعِظُونَ.
[سورة هود (11) : الآيات 31 الى 36]
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ، فَآتِي مِنْهَا مَا تَطْلُبُونَ، وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ، فَأُخْبِرُكُمْ بِمَا تُرِيدُونَ.
وَقِيلَ: إِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا لنوح إن الذين اتّبعوك [إنما آمنوا بك] فِي ظَاهِرِ مَا تَرَى مِنْهُمْ، قال نوح [عليه الصلاة والسلام] [1] مجيبا لَهُمْ: لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ غُيُوبِ اللَّهِ الَّتِي يَعْلَمُ منها ما يضمره النَّاسُ، وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ فَأَعْلَمَ ما يسرونه فِي نُفُوسِهِمْ، فَسَبِيلِي قَبُولُ مَا ظَهَرَ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ، هَذَا جَوَابُ قَوْلِهِمْ: مَا نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا. وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ، أي: [تحتقروه وتستصغروه في أَعْيُنُكُمْ] [2] ، يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُمْ أَرَاذِلُنَا، لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً، أَيْ:
تَوْفِيقًا وَإِيمَانًا وَأَجْرًا، اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ، مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنِّي، إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ، لَوْ قُلْتُ هَذَا.
قالُوا يَا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا، خَاصَمْتَنَا، فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا، مِنَ الْعَذَابِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ، يَعْنِي: بِالْعَذَابِ، وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ، بِفَائِتِينَ.
وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، أَيْ: نَصِيحَتِي، إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، يُضِلَّكُمْ، هُوَ رَبُّكُمْ، لَهُ الْحُكْمُ وَالْأَمْرُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنه: يَعْنِي نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي، أَيْ: إِثْمِي وَوَبَالُ جرمي [على نفسي] [3] . والإجرام: كسب الذنب. وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ، لَا أُؤَاخِذُ بِذُنُوبِكُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ.
رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ قَوْمَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا يَضْرِبُونَ نُوحًا حَتَّى يَسْقُطَ فَيُلْقُونَهُ [4]
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) العبارة في المطبوع «تحتقرهم وتستصغرهم أعينكم» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «فَيُلْقُونَهُ» .(2/446)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
فِي لَبَدٍ وَيُلْقُونَهُ فِي قَعْرِ بَيْتٍ يَظُنُّونَ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ فيخرج [عليهم] [1] فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الله عزّ وجلّ.
وروي أَنَّ شَيْخًا مِنْهُمْ جَاءَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصَا وَمَعَهُ ابْنُهُ فَقَالَ: يَا بُنَيَّ لَا يَغُرَّنَّكَ هَذَا الشَّيْخُ الْمَجْنُونُ، فَقَالَ لَهُ: يَا أبت أمكني من العصى فأخذ العصى مِنْ أَبِيهِ فَضَرَبَ نُوحًا حَتَّى شَجَّهُ شَجَّةً مُنْكَرَةً، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ، فَلا تَبْتَئِسْ، فَلَا تَحْزَنْ، بِما كانُوا يَفْعَلُونَ، فَإِنِّي مُهْلِكُهُمْ [وَمُنْقِذُكَ مِنْهُمْ] [2] ، فَحِينَئِذٍ دَعَا نُوحٌ عَلَيْهِمْ: وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) [نُوحٍ: 26] .
وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أنهم كان يَبْطِشُونَ بِهِ فَيَخْنُقُونَهُ حَتَّى يُغْشَى عَلَيْهِ، فَإِذَا أَفَاقَ قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، حَتَّى إِذَا تَمَادَوْا فِي الْمَعْصِيَةِ وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ مِنْهُمُ الْبَلَاءُ، وَانْتَظَرَ الْجِيلَ بَعْدَ الْجِيلِ [3] فَلَا يَأْتِي قَرْنٌ إِلَّا كَانَ أَخْبَثَ مِنَ الَّذِي قَبِلَهُ حَتَّى إِنْ كَانَ الْآخَرُ مِنْهُمْ لَيَقُولُ: قَدْ كَانَ هَذَا مَعَ آبَائِنَا وَأَجْدَادِنَا هَكَذَا مَجْنُونًا لَا يَقْبَلُونَ مِنْهُ شَيْئًا، فَشَكَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ:
رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نوح: 5] ، إِلَى أَنْ قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] ، فأوحى الله تعالى إليه:
[سورة هود (11) : الآيات 37 الى 38]
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِمَرْأًى مِنَّا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بعلمنا. وقيل: بحفظنا.
وَوَحْيِنا، أي: بِأَمْرِنَا، وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ، [أي] : ولا تُخَاطِبْنِي فِي إِمْهَالِ الْكَفَّارِ، فَإِنِّي حكمت [في غيبي] [4] بِإِغْرَاقِهِمْ. وَقِيلَ: لَا تُخَاطِبْنِي فِي ابْنِكَ كَنْعَانَ وَامْرَأَتِكَ وَاعِلَةَ فَإِنَّهُمَا هَالِكَانِ مَعَ الْقَوْمِ. وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ يَأْمُرُكَ أَنْ تَصْنَعَ الْفُلْكَ، فقال: كَيْفَ أَصْنَعُ وَلَسْتُ بِنَجَّارٍ؟ فَقَالَ: إِنْ رَبَّكَ يَقُولُ اصْنَعْ فَإِنَّكَ بِعَيْنِي، فَأَخَذَ الْقُدُومَ وَجَعَلَ يَصْنَعُ ولا يخطىء. وَقِيلَ: أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ يصنعها مثل جؤجؤ الطائر.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ، فَلَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَصْنَعَ الْفُلْكَ أَقْبَلَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى عَمَلِ الْفُلْكِ وَلَهَا عَنْ قَوْمِهِ، وَجَعَلَ يَقْطَعُ الْخَشَبَ وَيَضْرِبُ الْحَدِيدَ وَيُهَيِّئُ عِدَّةَ الْفُلْكِ مِنَ الْقَارِ وَغَيْرِهِ، وَجَعَلَ قَوْمُهُ يَمُرُّونَ بِهِ وَهُوَ فِي عَمَلِهِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُ، وَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ قَدْ صِرْتَ نَجَّارًا بَعْدَ النُّبُوَّةِ؟
وَأَعْقَمَ اللَّهُ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ فَلَا يُولَدُ لَهُمْ وَلَدٌ. وَزَعَمَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ يَصْنَعَ الْفُلْكَ مِنْ خَشَبِ السَّاجِ، وَأَنْ يَصْنَعَهُ مِنْ أَزْوَرَ وَأَنْ يَطْلِيَهُ بِالْقَارِ مِنْ دَاخِلِهِ وَخَارِجِهِ، وَأَنْ يَجْعَلَ طُولَهُ ثَمَانِينَ ذِرَاعًا وَعَرْضَهُ خَمْسِينَ ذِرَاعًا، وَطُولَهُ فِي السَّمَاءِ ثَلَاثِينَ ذِرَاعًا، وَالذِّرَاعُ إِلَى الْمَنْكِبِ، وَأَنْ يَجْعَلَهُ ثَلَاثَةَ أَطْبَاقٍ سُفْلَى وَوُسْطَى وَعُلْيَا وَيَجْعَلَ فِيهِ كُوًى، ففعله نوح كما أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اتَّخَذَ نُوحٌ السَّفِينَةَ فِي سَنَتَيْنِ وَكَانَ طُولَ السَّفِينَةِ ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسون
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) العبارة في المطبوع «ولا منقذ منهم» .
(3) في المخطوط «البخل» .
(4) زيادة عن المخطوطتين.(2/447)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
ذِرَاعًا وَطُولَهَا فِي السَّمَاءِ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا، وَكَانَتْ مِنْ خَشَبِ السَّاجِ وجعل لها ثلاثة بطون، فجعل [1] فِي الْبَطْنِ الْأَسْفَلِ الْوُحُوشَ وَالسِّبَاعَ والهوام، و [جعل] [2] في الْبَطْنِ الْأَوْسَطِ الدَّوَابَّ وَالْأَنْعَامَ، وَرَكِبَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْبَطْنِ الْأَعْلَى مَعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ من الزاد. قال قَتَادَةُ: كَانَ بَابُهَا فِي عَرْضِهَا.
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ: كَانَ طُولُهَا ألفا ومائتي ذراع وعرضها ست مائة ذراع. والمعروف هو الْأَوَّلُ أَنَّ طُولَهَا ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ. وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: مَكَثَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةَ سَنَةٍ يَغْرِسُ الْأَشْجَارَ وَيَقْطَعُهَا، وَمِائَةَ سَنَةٍ يَعْمَلُ الْفُلْكَ. وَقِيلَ: غَرَسَ الشَّجَرَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَجَفَّفَهُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّ نُوحًا عَمِلَ السَّفِينَةَ فِي ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ، الطَّبَقَةُ السُّفْلَى لِلدَّوَابِّ وَالْوُحُوشِ، وَالطَّبَقَةُ الْوُسْطَى فِيهَا الْإِنْسُ، وَالطَّبَقَةُ الْعُلْيَا فِيهَا الطَّيْرُ، فَلَمَّا كَثُرَتْ أرواث الدواب شكا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فأوحى اللَّهُ إِلَى نُوحٍ أَنِ اغْمِزْ ذَنَبَ الْفِيلِ فَغَمَزَهُ فَوَقَعَ مِنْهُ خِنْزِيرٌ وَخِنْزِيرَةٌ، فَأَقْبَلَا عَلَى الرَّوَثِ فأكلاه، فَلَمَّا وَقَعَ الْفَأْرُ بِجَوْفِ [3] السَّفِينَةِ فجعل يقرضها ويقرض حبالها، أوحى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنِ اضْرِبْ بَيْنَ عَيْنَيِ الْأَسَدِ فَضَرَبَ فَخَرَجَ مِنْ مَنْخَرِهِ سِنَّوْرٌ وَسِنَّوْرَةٌ، فَأَقْبَلَا على الفار فأكلاه [4] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ قَدْ صَارَ نَجَّارًا. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: يَا نُوحُ مَاذَا تَصْنَعُ؟ فَيَقُولُ: أَصْنَعُ بَيْتًا يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ، فَيَضْحَكُونَ مِنْهُ، قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ، إِذَا عَايَنْتُمْ عَذَابَ اللَّهِ، كَما تَسْخَرُونَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَجُوزُ السُّخْرِيَةُ مِنَ النَّبِيِّ؟ قِيلَ: هَذَا عَلَى ازْدِوَاجِ الْكَلَامِ، يَعْنِي: إِنْ تَسْتَجْهِلُونِي فَإِنِّي أَسْتَجْهِلُكُمْ إِذَا نَزَلَ الْعَذَابُ بِكُمْ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَسَتَرَوْنَ عاقبة سخريتكم.
[سورة هود (11) : الآيات 39 الى 40]
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ، يُهِينُهُ، وَيَحِلُّ عَلَيْهِ، يَجِبُ عَلَيْهِ، عَذابٌ مُقِيمٌ، دَائِمٌ.
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا، عَذَابُنَا، وَفارَ التَّنُّورُ، اخْتَلَفُوا فِي التَّنُّورِ، قَالَ عِكْرِمَةُ وَالزُّهْرِيُّ: هُوَ وَجْهُ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قِيلَ لِنُوحٍ: إِذَا رَأَيْتَ الْمَاءَ فَارَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَارْكَبِ السَّفِينَةَ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: فَارَ التَّنُّورُ أَيْ: طَلَعَ الْفَجْرُ وَنُورُ الصُّبْحِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ التَّنُّورُ الَّذِي يُخْبَزُ فِيهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَرِوَايَةُ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ الْحَسَنُ: كَانَ تَنُّورًا مِنْ حِجَارَةٍ، كَانَتْ حَوَّاءُ تَخْبِزُ فِيهِ فَصَارَ إِلَى نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقِيلَ لِنُوحٍ: إِذَا رَأَيْتَ الْمَاءَ يَفُورُ مِنَ التَّنُّورِ فَارْكَبْ السفينة أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَوْضِعِهِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ: كَانَ فِي نَاحِيَةِ الْكُوفَةِ. وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَحْلِفُ: مَا فَارَ التَّنُّورُ إِلَّا مِنْ ناحية
__________
(1) في المطبوع «فحمل» . [.....]
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «يخرب» وعند الطبري «يجزر» .
(4) هذا الأثر وأمثاله من الإسرائيليات.(2/448)
الْكُوفَةِ [1] . وَقَالَ: اتَّخَذَ نُوحٌ السَّفِينَةَ فِي جَوْفِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ. وَكَانَ التَّنُّورُ عَلَى يَمِينِ الدَّاخِلِ مِمَّا يلي باب [بني] [2] كِنْدَةَ، وَكَانَ فَوَرَانُ الْمَاءِ مِنْهُ عَلَمًا لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ ذَلِكَ تَنُّورُ آدَمَ وَكَانَ بِالشَّامِ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ عَيْنُ وَرْدَةٍ.
وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ بِالْهِنْدِ. وَالْفَوَرَانُ: الْغَلَيَانُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنَا احْمِلْ فِيها، أَيْ:
فِي السَّفِينَةِ، مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، الزَّوْجَانِ: كُلُّ اثْنَيْنِ لَا يَسْتَغْنِي أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، يُقَالُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَوْجٌ، يُقَالُ: زَوْجُ خُفٍّ وَزَوْجُ نَعْلٍ، وَالْمُرَادُ بِالزَّوْجَيْنِ هَاهُنَا: الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. قَرَأَ حَفْصٌ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [27] : مِنْ كُلٍّ بِالتَّنْوِينِ، أَيْ: مِنْ كُلِّ صِنْفٍ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، ذَكَرَهُ تَأْكِيدًا. وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَحْمِلُ من زوجين اثنين، [ولا أعرف الذكر من الأنثى] [3] ؟ فحشر الله إليه الوحوش والسباع والهوام والطير، فجعل يضرب بيديه فِي كُلِّ جِنْسٍ فَيَقَعُ الذَّكَرُ فِي يَدِهِ الْيُمْنَى وَالْأُنْثَى فِي يده اليسرى، فيحمله فِي السَّفِينَةِ، وَأَهْلَكَ، أَيْ: وَاحْمِلْ أَهْلَكَ، أَيْ: وَلَدَكَ وَعِيَالَكَ، إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ، بِالْهَلَاكِ يَعْنِي امْرَأَتَهُ وَاعِلَةَ وَابْنَهُ كَنْعَانَ، وَمَنْ آمَنَ، يَعْنِي: وَاحْمِلْ مَنْ آمن بك، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهِمْ، قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: لَمْ يَكُنْ فِي السَّفِينَةِ إِلَّا ثَمَانِيَةُ، نُوحٌ وَامْرَأَتُهُ وَثَلَاثَةُ بَنِينَ لَهُ [سام وحام يافث، وَنِسَاؤُهُمْ. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: كَانُوا سَبْعَةً نُوحٌ وَثَلَاثَةُ بَنِينَ لَهُ] [4] وَثَلَاثُ كنائن.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانُوا عَشَرَةً سِوَى نِسَائِهِمْ، نُوحٌ وَبَنُوهُ سَامٌ وَحَامٌ ويافثُ وَسِتَّةُ أُنَاسٍ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَأَزْوَاجُهُمْ جَمِيعًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ نفرا نوحا وامرأته وبنيه الثلاثة ونسائهم، فَجَمِيعُهُمْ ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ نِصْفُهُمْ رِجَالٌ وَنِصْفُهُمْ نِسَاءٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ [فِي] [5] سَفِينَةِ نُوحٍ ثَمَانُونَ رَجُلًا أَحَدُهُمْ جُرْهُمُ [6] . قَالَ مُقَاتِلٌ: حَمَلَ نُوحٌ مَعَهُ جَسَدَ آدَمَ فَجَعَلَهُ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَقَصَدَ نُوحًا جَمِيعُ الدَّوَابِّ وَالطُّيُورِ لِيَحْمِلَهَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَوَّلُ مَا حَمَلَ نُوحٌ الدُّرَّةَ وَآخَرُ مَا حَمَلَ الْحِمَارُ، فَلَمَّا دَخَلَ الْحِمَارُ وَدَخَلَ صَدْرُهُ تَعَلَّقَ إِبْلِيسُ بِذَنَبِهِ، فَلَمْ يَسْتَقِلَّ رِجْلَاهُ فَجَعَلَ نُوحٌ يَقُولُ: وَيْحَكَ ادْخُلْ فَنَهَضَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، حَتَّى قَالَ نُوحٌ: وَيَحَكَ ادْخُلْ وَإِنَّ كان الشَّيْطَانَ مَعَكَ كَلِمَةٌ زَلَّتْ عَلَى لِسَانِهِ، فَلَمَّا قَالَهَا نُوحٌ خَلَّى الشَّيْطَانُ سَبِيلَهُ فَدَخَلَ وَدَخَلَ الشَّيْطَانُ معه، فَقَالَ لَهُ نُوحٌ: مَا أَدْخَلَكَ عَلَيَّ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ: أَلَمْ تَقُلِ ادْخُلْ وَإِنْ كَانَ الشَّيْطَانُ مَعَكَ، قَالَ: اخْرُجْ عَنِّي يا عدوّ الله، فقال: ما لك بُدٌّ مِنْ أَنْ تَحْمِلَنِي مَعَكَ، فَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ فِي ظَهْرِ الْفُلْكِ [7] .
وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ أَتَيَا نُوحًا فَقَالَتَا: احْمِلْنَا، فَقَالَ: إِنَّكُمَا سَبَبُ الضُّرِّ وَالْبَلَاءِ، فَلَا أَحْمِلُكُمَا، فَقَالَتَا لَهُ: احْمِلْنَا وَنَحْنُ نَضْمَنُ لَكَ أَنْ لَا نَضُرَّ أَحَدًا ذَكَرَكَ فَمَنْ قرأ حين خاف مضرّتهما
__________
(1) لا أصل له عن الشعبي، فإنه إمام علّامة لا يحلف بالله تعالى على خبر متلقى من الإسرائيليات، والصواب في ذلك أن يقال: الله أعلم.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيد في المطبوع وط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المخطوط «جدهم» .
(7) هذه الآثار مصدرها كتب الأقدمين.(2/449)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ مَا ضَرَّتَاهُ.
قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَحْمِلْ نُوحٌ فِي السَّفِينَةِ إِلَّا مَا يَلِدُ وَيَبِيضُ، فَأَمَّا مَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الطِّينِ مِنْ حَشَرَاتِ الأرض كالبق والبعوض والذباب فلم يحمل منها شيئا.
[سورة هود (11) : الآيات 41 الى 43]
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
وَقالَ ارْكَبُوا فِيها، أي: قال لهم نوح اركبوا فِي السَّفِينَةِ، بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: مَجْراها بفتح الميم وَمُرْساها بِضَمِّهَا، وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَيْصِنٍ «مَجْرِيهَا وَمَرْسَاهَا» بِفَتْحِ الْمِيمَيْنِ مِنْ جَرَتْ وَرَسَتْ، أَيْ: بِسْمِ اللَّهِ جَرْيُهَا وَرُسُوُّهَا، وَهُمَا مَصْدَرَانِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: مَجْراها وَمُرْساها بِضَمِّ الْمِيمَيْنِ مِنْ أُجْرِيَتْ وَأُرْسِيَتْ، أَيْ: بِسْمِ اللَّهِ إِجْرَاؤُهَا وَإِرْسَاؤُهَا وَهُمَا أَيْضًا مَصْدَرَانِ كَقَوْلِهِ: أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً [المؤمنون: 29] ، أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ [الإسراء: 80] ، والمراد منه الْإِنْزَالُ وَالْإِدْخَالُ وَالْإِخْرَاجُ. إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، قَالَ الضَّحَّاكُ: كَانَ نُوحٌ إِذَا أَرَادَ أَنْ تَجْرِيَ السفينة قال: بسم الله، جرت. وإذا أراد أن يرسو قال: بسم الله رست.
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ، وَالْمَوْجُ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْمَاءِ إِذَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ الرِّيحُ، شَبَّهَهُ بِالْجِبَالِ فِي عِظَمِهِ وَارْتِفَاعِهِ عَلَى الْمَاءِ. وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ، كَنْعَانَ، وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: سَامٌ وَكَانَ كَافِرًا، وَكانَ فِي مَعْزِلٍ، عنه لم يركب السَّفِينَةِ، يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا، قرأ نافع وابن عامر وحمزة والبزي عن ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عاصم ويعقوب: ارْكَبْ، بِإِظْهَارِ الْبَاءِ وَالْآخَرُونَ يُدْغِمُونَهَا فِي الْمِيمِ، وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ، فَتَهْلَكَ.
قالَ لَهُ ابْنُهُ: سَآوِي، سَأَصِيرُ وَأَلْتَجِئُ، إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ، يَمْنَعُنِي مِنَ الْغَرَقِ، قالَ لَهُ نُوحٌ: لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، أي: مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ، قِيلَ:
مِنَ فِي مَحَلِّ رفع، أَيْ: لَا مَانِعَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَّا اللَّهُ الرَّاحِمُ. وَقِيلَ: مِنَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَعْنَاهُ: لَا مَعْصُومَ إِلَّا مَنْ رَحِمَهُ اللَّهُ كَقَوْلِهِ: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الْحَاقَّةِ: 21] ، أَيْ: مَرْضِيَّةٍ، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ، فَصَارَ، مِنَ الْمُغْرَقِينَ.
ويروى: أن الماء علا على رؤوس الْجِبَالِ قَدْرَ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، وَقِيلَ: خمسة عشر ذراعا. ويروى: أَنَّهُ لَمَّا كَثُرَ الْمَاءُ فِي السِّكَكِ خَشِيَتْ أَمٌ لِصَبِيٍّ [1] عَلَيْهِ وَكَانَتْ تُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا فَخَرَجَتْ إِلَى الْجَبَلِ حَتَّى بَلَغَتْ ثُلُثَهُ، فَلَمَّا بَلَغَهَا الْمَاءُ ارْتَفَعَتْ حَتَّى بلغت ثلثيه، فلما بلغها الماء ذَهَبَتْ حَتَّى اسْتَوَتْ عَلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا بَلَغَ الْمَاءُ رَقَبَتَهَا رَفَعَتِ الصَّبِيَّ بِيَدَيْهَا حَتَّى ذَهَبَ بِهَا الْمَاءُ، فَلَوْ رَحِمَ اللَّهُ مِنْهُمْ أحدا لرحم أم الصبيّ.
[سورة هود (11) : الآيات 44 الى 46]
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46)
__________
(1) في المطبوع «الصبي» وفي المخطوط «صبي» والمثبت عن ط.(2/450)
وَقِيلَ، بعد ما تَنَاهَى أَمْرُ الطُّوفَانِ: يَا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ، اشربي، ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي، أَمْسِكِي، وَغِيضَ الْماءُ، نَقَصَ وَنَضَبَ، يُقَالُ: غَاضَ الْمَاءُ يَغِيضُ غَيْضًا إِذَا نَقَصَ، وَغَاضَهُ اللَّهُ [أَيْ أَنْقَصَهُ] [1] ، وَقُضِيَ الْأَمْرُ، فُرِغَ مِنَ الْأَمْرِ وَهُوَ هَلَاكُ الْقَوْمِ وَاسْتَوَتْ، يَعْنِي: السفينة استقرّت عَلَى الْجُودِيِّ، وهو جبل [بأرض] [2] الجزيرة بِقُرْبِ الْمَوْصِلِ، وَقِيلَ بُعْداً، هَلَاكًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
وَرُوِيَ أَنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعَثَ الْغُرَابَ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِ الْأَرْضِ فَوَقَعَ عَلَى جِيفَةٍ فَلَمْ يَرْجِعْ فَبَعَثَ الْحَمَامَةَ فَجَاءَتْ بِوَرَقِ زَيْتُونٍ فِي مِنْقَارِهَا وَلَطَّخَتْ رِجْلَيْهَا بِالطِّينِ، فَعَلِمَ نُوحٌ أَنَّ الْمَاءَ قَدْ نَضَبَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ دَعَا عَلَى الْغُرَابِ بِالْخَوْفِ فَلِذَلِكَ لَا يَأْلَفُ الْبُيُوتَ، وَطَوَّقَ الْحَمَامَةَ الْخُضْرَةَ الَّتِي فِي عُنُقِهَا وَدَعَا لها بالأمان، فمن ثم تألف البيوت [3] .
وروي: أن نوحا رَكِبَ السَّفِينَةَ لِعَشْرٍ مَضَتْ مِنْ رجب وجرت بهم السفينة [لعشر مضت من محرم] [4] سِتَّةَ أَشْهُرٍ، وَمَرَّتْ بِالْبَيْتِ فَطَافَتْ بِهِ سَبْعًا وَقَدْ رَفَعَهُ اللَّهُ مِنَ الْغَرَقِ وَبَقِيَ مَوْضِعُهُ، وَهَبَطُوا يوم عاشوراء فصام نوح [ذلك اليوم] [5] وَأَمَرَ جَمِيعَ مَنْ مَعَهُ بِالصَّوْمِ شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ [6] .
وَقِيلَ: مَا نَجَا مِنَ الْكُفَّارِ مِنَ الْغَرَقِ غَيْرَ عُوجِ بْنِ عُنُقٍ كَانَ الْمَاءُ إِلَى حُجْزَتِهُ، وَكَانَ سَبَبُ نَجَاتِهِ أَنَّ نُوحًا احْتَاجَ إلى خشب الساج لِلسَّفِينَةِ فَلَمْ يُمْكِنْهُ نَقْلُهُ فَحَمَلَهُ عُوجٌ إِلَيْهِ مِنَ الشَّامِ، فَنَجَّاهُ الله تعالى من الغرق.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَقَدْ وَعَدْتَنِي أَنْ تُنْجِيَنِي وَأَهْلِي؟ وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، لَا خُلْفَ فِيهِ، وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ، حَكَمْتَ عَلَى قَوْمٍ بِالنَّجَاةِ وَعَلَى قَوْمٍ بِالْهَلَاكِ.
قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، قَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ:
عَمَلٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ، غَيْرُ بِنَصْبِ الرَّاءِ عَلَى الْفِعْلِ، أَيْ: عَمِلَ الشِّرْكَ وَالتَّكْذِيبَ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بفتح الميم ورفع اللام تنوينه، غَيْرُ بِرَفْعِ الرَّاءِ مَعْنَاهُ: أَنَّ سُؤَالَكَ إِيَّايَ أَنْ أُنْجِيَهُ عَمَلٌ غير صالح، فَلا تَسْئَلْنِ، يَا نُوحُ، مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ والشام فَلا تَسْئَلْنِي بِفَتْحِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ النُّونِ، وَيَكْسِرُونَ النُّونَ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ فَإِنَّهُ يَفْتَحُهَا. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِجَزْمِ اللَّامِ وَكَسْرِ النُّونِ خَفِيفَةً، وَيُثْبِتُ أَبُو جعفر وأبو عمرو وورش الياء في الوصل دون الوقف، وأثبتها يعقوب في الحالين، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الِابْنِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: كَانَ وَلَدَ حدث مِنْ غَيْرِ نُوحٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ نُوحٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ: مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ: فَخانَتاهُما [التَّحْرِيمِ:
10] ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: كَانَ ابْنَ امْرَأَتِهِ وَكَانَ يَعْلَمُهُ نُوحٌ وَلِذَلِكَ قَالَ: مِنْ أَهْلِي، وَلَمْ يَقُلْ مِنِّي.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَكْثَرُونَ: إِنَّهُ كَانَ ابْنَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ صُلْبِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ. وَقَوْلُهُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، أي: من أهل الدين. وقوله:
__________
(1) زيد في المطبوع وط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) هذا وأمثاله من الإسرائيليات، لا حجة في شيء من ذلك. [.....]
(4) زيادة عن المخطوط، والمراد مدة جريانها كانت حتى العاشر من المحرم، وعبارة الطبري «فانتهى ذلك إلى المحرم» ذكرها عقب لفظ «ستة أشهر» وهو أقرب لرفع اللبس.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) هو متلقى عن كتب الأقدمين.(2/451)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
فَخانَتاهُما [التحريم: 10] ، أي: في الدين والعمل لَا فِي الْفِرَاشِ. وَقَوْلُهُ: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ، يعني: تَدْعُوَ بِهَلَاكِ الْكُفَّارِ ثُمَّ تَسْأَلَ نجاة كافر.
[سورة هود (11) : الآيات 47 الى 50]
قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50)
قالَ نُوحٌ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ انْزِلْ مِنَ السَّفِينَةِ، بِسَلامٍ مِنَّا، أَيْ: بِأَمْنٍ وَسَلَامَةٍ مِنَّا، وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ، الْبَرَكَةُ هِيَ ثُبُوتُ الْخَيْرِ وَمِنْهُ بُرُوكُ [1] الْبَعِيرِ. وَقِيلَ: الْبَرَكَةُ هَاهُنَا هِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذُرِّيَّتَهُ، هُمُ الْبَاقِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ، أَيْ: عَلَى ذُرِّيَّةِ أُمَمٍ مِمَّنْ كَانَ مَعَكَ فِي السفينة، يعني: وعلى قرون تجيء بَعْدِكَ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ مَعَكَ في السفينة، يعني: مِنْ وَلَدِكَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: دَخَلَ فيه كل مؤمن إلى يوم القيامة، وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ، هَذَا ابْتِدَاءٌ، أَيْ: أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ، وَهُمُ الْكَافِرُونَ وَأَهْلُ الشَّقَاوَةِ.
تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ، من أَخْبَارِ الْغَيْبِ، نُوحِيها إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا، مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْقُرْآنِ، فَاصْبِرْ عَلَى الْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّهِ وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَمَا تَلْقَى مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ كَمَا صَبَرَ نُوحٌ، إِنَّ الْعاقِبَةَ آخِرَ الأمر بالسعادة والنصرة لِلْمُتَّقِينَ، [لأهل التقوى] [2] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلى عادٍ، أَيْ: وَأَرْسَلْنَا إِلَى عَادٍ، أَخاهُمْ هُوداً، فِي النَّسَبِ لَا فِي الدِّينِ، قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ، وَحِّدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ، مَا أَنْتُمْ فِي إِشْرَاكِكُمْ إلّا كاذبون.
[سورة هود (11) : الآيات 51 الى 56]
يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً، أَيْ: عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، أَجْراً، جُعْلًا، إِنْ أَجْرِيَ، مَا ثَوَابِيَ، إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي، خَلَقَنِي، أَفَلا تَعْقِلُونَ.
وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، أَيْ: آمِنُوا بِهِ، وَالِاسْتِغْفَارُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْإِيمَانِ، ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، من
__________
(1) في المخطوط «بورك» .
(2) ليس في المخطوط.(2/452)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
عبادة غيره من سَالِفِ ذُنُوبِكُمْ، يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، أي: يرسل المطر مُتَتَابِعًا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ، أَيْ: شِدَّةً مَعَ شِدَّتِكُمْ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَبَسَ عَنْهُمُ الْقَطْرَ ثَلَاثَ سِنِينَ وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ فَلَمْ يَلِدْنَ، فَقَالَ لَهُمْ هُودٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ: إن آمنتم [بالله وحده وصدقتموني] [1] أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْمَطَرَ فَتَزْدَادُونَ مَالًا وَيُعِيدُ أَرْحَامَ الْأُمَّهَاتِ إِلَى مَا كَانَتْ، فَيَلِدْنَ فَتَزْدَادُونَ قُوَّةً بِالْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. وَقِيلَ: تَزْدَادُونَ قُوَّةً في الدين إلى قوة في الْبَدَنِ. وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ، أَيْ: لَا تُدْبِرُوا مُشْرِكِينَ.
قالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ، أَيْ: بِبُرْهَانٍ وَحُجَّةٍ وَاضِحَةٍ عَلَى مَا تَقُولُ، وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، أَيْ: بِقَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ، بِمُصَدِّقِينَ.
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ، يَعْنِي: لَسْتَ تَتَعَاطَى مَا نَتَعَاطَاهُ مِنْ مُخَالَفَتِنَا وَسَبِّ آلِهَتِنَا إِلَّا أَنَّ بَعْضَ آلِهَتِنَا اعْتَرَاكَ، أَيْ: أَصَابَكَ بِسُوءٍ بِخَبَلٍ وَجُنُونٍ، وَذَلِكَ أَنَّكَ سَبَبْتَ آلِهَتَنَا فَانْتَقَمُوا مِنْكَ بِالتَّخْبِيلِ لَا نَحْمِلُ أَمْرَكَ إِلَّا عَلَى هَذَا، قالَ لَهُمْ هُودٌ: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ، عَلَى نَفْسِي، وَاشْهَدُوا يَا قَوْمِ أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.
مِنْ دُونِهِ، يَعْنِي: الأوثان، فَكِيدُونِي جَمِيعاً، فاحتلوا في مكري [2] وَضُرِّي أَنْتُمْ وَأَوْثَانُكُمْ، ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ، [لَا تُؤَخِّرُونَ وَلَا تُمْهِلُونَ] [3] .
إِنِّي تَوَكَّلْتُ أَيِ: اعْتَمَدْتُ، عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها، قَالَ الضَّحَّاكُ: يُحْيِيهَا وَيُمِيتُهَا [4] . قَالَ الْفَرَّاءُ: مَالِكُهَا وَالْقَادِرُ عَلَيْهَا. [وَقَالَ بعض العلماء: آخذ بناصيتها لا تتوجّه إلّا حيث يلهمها] [5] . وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: يَقْهَرُهَا، لِأَنَّ مَنْ أَخَذْتَ بِنَاصِيَتِهِ فَقَدْ قَهَرْتَهُ. وَقِيلَ: إِنَّمَا خَصَّ النَّاصِيَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَعْمِلُ ذَلِكَ إِذَا وَصَفَتْ إِنْسَانًا بِالذِّلَّةِ، فَتَقُولُ: نَاصِيَةُ فُلَانٍ بِيَدِ فُلَانٍ، وَكَانُوا إِذَا أَسَرُوا إِنْسَانًا وَأَرَادُوا إِطْلَاقَهُ وَالْمَنَّ عَلَيْهِ جَزُّوا نَاصِيَتَهُ لِيَعْتَدُّوا [6] بِذَلِكَ فَخْرًا عَلَيْهِ، فَخَاطَبَهُمُ اللَّهُ بِمَا يَعْرِفُونَ. إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، يَعْنِي: إِنَّ ربِّيَ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ لَا يَظْلِمُهُمْ وَلَا يَعْمَلُ إِلَّا بِالْإِحْسَانِ وَالْعَدْلِ، فَيُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِعِصْيَانِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَنَّ دِينَ رَبِّي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَقِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ: إِنَّ رَبِّي يُحِثُّكُمْ وَيَحْمِلُكُمْ على صراط مستقيم.
[سورة هود (11) : الآيات 57 الى 59]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
فَإِنْ تَوَلَّوْا، أَيْ: تَتَوَلَّوْا، يَعْنِي: تُعْرِضُوا عَمَّا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ، فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ، أَيْ: إِنْ أَعْرَضْتُمْ يُهْلِكْكُمُ اللَّهُ عَزَّ وجلّ ويستبدل قَوْمًا غَيْرَكُمْ أَطْوَعَ مِنْكُمْ يُوَحِّدُونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ، وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً، بِتَوَلِّيكُمْ وَإِعْرَاضِكُمْ إِنَّمَا تَضُرُّونَ أَنْفُسَكُمْ. وَقِيلَ: لَا تُنْقِصُونَهُ شَيْئًا إِذَا أَهْلَكَكُمْ لِأَنَّ وُجُودَكُمْ وَعَدَمَكُمْ عِنْدَهُ سَوَاءٌ، إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ، أي: لكل شيء
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «مكركم» .
(3) زيد في المطبوع وط.
(4) في المطبوع «محييها ومميتها» .
(5) زيد في المطبوع وحده.
(6) في المخطوطتين «يعتقدوا» .(2/453)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
حَافِظٌ، يَحْفَظُنِي مِنْ أَنْ تَنَالُونِي بِسُوءٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا، عَذَابُنَا، نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، وَكَانُوا أَرْبَعَةَ آلَافٍ.
بِرَحْمَةٍ، بِنِعْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ، وَهُوَ الرِّيحُ الَّتِي أَهْلَكَ بِهَا عَادًا، وَقِيلَ: الْعَذَابُ الْغَلِيظُ: عَذَابُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيْ: كَمَا نَجَّيْنَاهُمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ كَذَلِكَ نَجَّيْنَاهُمْ فِي الْآخِرَةِ.
وَتِلْكَ عادٌ، رَدَّهُ إِلَى الْقَبِيلَةِ، جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ، يعني: هودا وحده، وذكره بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّ مَنْ كَذَّبَ رسولا واحدا كَانَ كَمَنْ كَذَّبَ جَمِيعَ الرُّسُلِ، وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، أي: اتّبع السَّفَلَةُ وَالسُّقَّاطُ أَهْلَ التَّكَبُّرِ وَالْعِنَادِ. وَالْجَبَّارُ: الْمُتَكَبِّرُ، وَالْعَنِيدُ: الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْحَقَّ، يُقَالُ:
عَنَدَ الرَّجُلُ يَعْنِدُ عُنُودًا إِذَا أَبَى أَنْ يقبل الشيء وإن عرفه. وقال أَبُو عُبَيْدَةَ: الْعَنِيدُ وَالْعَانِدُ وَالْعَنُودُ والمعاند المعارض لك بالخلاف.
[سورة هود (11) : الآيات 60 الى 63]
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً، أَيْ: أُرْدِفُوا لَعْنَةً تَلْحَقُهُمْ وَتَنْصَرِفُ مَعَهُمْ، وَاللَّعْنَةُ: هِيَ الْإِبْعَادُ وَالطَّرْدُ عَنِ الرَّحْمَةِ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ، أَيْ: وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْضًا لُعِنُوا كَمَا لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ، أَيْ: بِرَبِّهِمْ، يُقَالُ: كَفَرْتُهُ وَكَفَرْتُ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: شَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ وَنَصَحْتُهُ وَنَصَحْتُ لَهُ. أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ، قِيلَ: بُعْدًا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: هلاكا. والبعد له مَعْنَيَانِ، أَحَدُهُمَا ضِدُّ الْقُرْبِ، يُقَالُ: بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْدًا، وَالْآخَرُ: بِمَعْنَى الْهَلَاكِ، يُقَالُ: مِنْهُ بَعِدَ يَبْعَدُ بعدا وبعدا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً، أي: وأرسلنا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا فِي النَّسَبِ لَا فِي الدِّينِ، قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَحِّدُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ، ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ، مِنَ الْأَرْضِ، وَذَلِكَ أنهم مِنْ آدَمَ وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ الْأَرْضِ، وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها، أَيْ: جَعَلَكُمْ عمّارها وسكّانها. قال الضَّحَّاكُ: أَطَالَ عُمْرَكُمْ فِيهَا حَتَّى كان الواحد منهم يعيش [من] ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ إِلَى أَلْفِ سَنَةٍ، وَكَذَلِكَ قَوْمُ عَادٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْمَرَكُمْ مِنَ الْعُمْرَى، أَيْ: جَعَلَهَا لَكُمْ مَا عِشْتُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
أَسْكَنَكُمْ فِيهَا. فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، مُجِيبٌ لِدُعَائِهِمْ.
قالُوا، يَعْنِي ثَمُودَ: يَا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا، الْقَوْلُ، أَيْ: كُنَّا نَرْجُو أَنْ تَكُونَ سَيِّدًا فِينَا. وَقِيلَ: كُنَّا نَرْجُو أَنْ تَعُودَ إِلَى دِينِنَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجُونَ رُجُوعَهُ إِلَى دِينِ عَشِيرَتِهِ، فَلَمَّا أَظْهَرَ دُعَاءَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَرَكَ الْأَصْنَامَ زَعَمُوا أَنَّ رَجَاءَهُمُ انْقَطَعَ عَنْهُ، فَقَالُوا: أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا، مِنَ الْآلِهَةِ، وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، مُوْقِعٌ لِلرِّيبَةِ وَالتُّهْمَةِ، يُقَالُ: أَرَبْتُهُ إِرَابَةً إِذَا فَعَلْتَ بِهِ فِعْلًا يُوجِبُ له الربية.
قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً، نُبُوَّةً وَحِكْمَةً، فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ، أَيْ: مَنْ يَمْنَعُنِي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ، قال ابن عباس: ما(2/454)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
تزيدونني غَيْرُ بِصَارَةٍ فِي خَسَارَتِكُمْ. قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: لَمْ يَكُنْ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي خَسَارَةٍ حَتَّى قَالَ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى مَا تَزِيدُونَنِي بما تقولون من الفحش إِلَّا نِسْبَتِي إِيَّاكُمْ إِلَى الْخَسَارَةِ، وَالتَّفْسِيقُ وَالتَّفْجِيرُ فِي اللُّغَةِ هُوَ: النِّسْبَةُ إِلَى الْفِسْقِ وَالْفُجُورِ، وَكَذَلِكَ التَّخْسِيرُ هُوَ: النِّسْبَةُ إِلَى الْخُسْرَانِ.
[سورة هود (11) : الآيات 64 الى 67]
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67)
وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً، نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ وَالْقَطَعِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْمَهُ [1] طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يُخْرِجَ نَاقَةً عُشَرَاءَ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، وَأَشَارُوا إِلَى صَخْرَةٍ فَدَعَا صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَخَرَجَتْ مِنْهَا نَاقَةٌ وَوَلَدَتْ فِي الحال ولدا مثلها، وقد بيّناه في سورة الأعراف، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ، مِنَ الْعُشْبِ وَالنَّبَاتِ فَلَيْسَتْ عَلَيْكُمْ مُؤْنَتُهَا، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ، وَلَا تُصِيبُوهَا بِعُقْرٍ، فَيَأْخُذَكُمْ، إِنْ قَتَلْتُمُوهَا، عَذابٌ قَرِيبٌ.
فَعَقَرُوها فَقالَ لهم صَالِحٌ: تَمَتَّعُوا، عِيشُوا، فِي دارِكُمْ، أَيْ: فِي دِيَارِكُمْ، ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ تُهْلَكُونَ، ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ، أَيْ: غَيْرُ كَذِبٍ. رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: يَأْتِيكُمُ الْعَذَابُ بعد ثلاثة أيام فتصبحون الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَوُجُوهُكُمْ مُصْفَرَّةٌ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّانِي مُحْمَرَّةٌ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مُسْوَدَّةٌ، فَكَانَ كَمَا قَالَ، فأتاهم العذاب اليوم الرابع.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، بِنِعْمَةٍ مِنَّا، وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، أَيْ: مِنْ عَذَابِهِ وَهَوَانِهِ [2] ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ والكسائي: خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، وعَذابِ يَوْمِئِذٍ [المعارج: 11] ، بِفَتْحِ الْمِيمِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ.
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، كَفَرُوا، الصَّيْحَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صاح [3] صَيْحَةً وَاحِدَةً فَهَلَكُوا جَمِيعًا. وَقِيلَ: أَتَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فِيهَا صَوْتُ كُلِّ صَاعِقَةٍ وَصَوَّتَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ، فَتَقَطَّعَتْ قُلُوبُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ. وَإِنَّمَا قَالَ: وَأَخَذَ والصيحة مُؤَنَّثَةٌ، لِأَنَّ الصَّيْحَةَ بِمَعْنَى الصِّيَاحِ. فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ، صَرْعَى هلكى.
[سورة هود (11) : الآيات 68 الى 71]
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71)
__________
(1) في المطبوع «قوما» .
(2) تصحف في المطبوع «هو أنه» .
(3) زيد في المطبوع وط «عليهم» . [.....](2/455)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها، يُقِيمُوا ويكونوا، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ: (ثَمُودَ) غَيْرَ مُنَوَّنٍ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ [38] وَالْعَنْكَبُوتِ [38] والنجم [51] ، ووافق أَبُو بَكْرٍ فِي النَّجْمِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّنْوِينِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: لِثَمُودَ بِخَفْضِ الدَّالِ وَالتَّنْوِينِ، وَالْبَاقُونَ بِنَصْبِ الدَّالِ، فَمَنْ جَرَّهُ فَلِأَنَّهُ اسْمٌ مُذَكَّرٌ، وَمَنْ لَمْ يَجُرَّهُ جَعَلَهُ اسْمًا لِلْقَبِيلَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى، أَرَادَ بالرسل الملائكة عليهم السلام. وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِهِمْ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: كَانُوا ثَلَاثَةً جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: كَانُوا تِسْعَةً. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ مَلِكًا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: كَانَ جِبْرِيلُ وَمَعَهُ سَبْعَةٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانُوا أَحَدَ عَشَرَ مَلَكًا عَلَى صُورَةِ الْغِلْمَانِ الْوِضَاءِ الوجوه [1] ، بِالْبُشْرى بِالْبُشْرَى بِالْبِشَارَةِ بِإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وَقِيلَ: بِإِهْلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ. قالُوا سَلاماً، أَيْ: سَلَّمُوا سَلَامًا، قالَ إِبْرَاهِيمُ:
سَلامٌ أي: عليكم السلام، وَقِيلَ: هُوَ رَفْعٌ عَلَى الْحِكَايَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُولُوا حِطَّةٌ [الْبَقَرَةِ: 58] . وقرأ حمزة والكسائي سَلامٌ هنا وَفِي سُورَةِ الذَّارِيَاتِ [25] بِكَسْرِ السِّينِ بِلَا أَلْفٍ. قِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى السَّلَامِ.
كَمَا يُقَالُ: حِلٌّ وَحَلَالٌ وَحِرْمٌ وَحَرَامٌ. وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الصُّلْحِ، أَيْ: نَحْنُ سِلْمٌ أَيْ صُلْحٌ لَكُمْ غَيْرُ حَرْبٍ. فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، والحنيذ المحنوذ وهو الْمَشْوِيُّ عَلَى الْحِجَارَةِ فِي خَدٍّ مِنَ الْأَرْضِ، وَكَانَ سَمِينًا يَسِيلُ دَسَمًا، كَمَا قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذَّارِيَاتِ: 26] ، قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ عَامَّةُ مَالِ إبراهيم [عليه الصّلاة والسّلام] [2] الْبَقَرُ.
فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ، أَيْ: إِلَى الْعِجْلِ، نَكِرَهُمْ، أَنْكَرَهُمْ، وَأَوْجَسَ، أَضْمَرَ، مِنْهُمْ خِيفَةً، خَوْفًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَقَعَ في قلبه، وأصل الوجس [3] : الدُّخُولُ، كَانَ الْخَوْفُ دَخَلَ قَلْبَهُ.
قال قَتَادَةُ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ فَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ طَعَامِهِمْ ظَنُّوا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِخَيْرٍ وَإِنَّمَا جَاءَ بَشَرٍّ. قالُوا لَا تَخَفْ، يَا إِبْرَاهِيمُ، إِنَّا مَلَائِكَةُ اللَّهِ أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ.
وَامْرَأَتُهُ، سَارَةُ بِنْتُ هاران بن ناحور [4] وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّ إِبْرَاهِيمَ، قائِمَةٌ مِنْ وَرَاءِ السَّتْرِ تَسْمَعُ كَلَامَهُمْ. وَقِيلَ: كَانَتْ قَائِمَةً تَخْدِمُ الرُّسُلَ وَإِبْرَاهِيمُ جَالِسٌ مَعَهُمْ. فَضَحِكَتْ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ:
ضَحِكَتْ، أَيْ: حَاضَتْ فِي الْوَقْتِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: ضَحِكَتِ الْأَرْنَبُ، أَيْ: حَاضَتْ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أن المراد منه الضحك [المعلوم] [5] الْمَعْرُوفُ. وَاخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ ضَحِكِهَا، فقيل: ضَحِكَتْ لِزَوَالِ الْخَوْفِ عَنْهَا وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ حِينَ قالُوا لَا تَخَفْ.
قال السُّدِّيُّ: لَمَّا قَرَّبَ إِبْرَاهِيمُ الطَّعَامَ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَأْكُلُوا خَافَ إِبْرَاهِيمُ [منهم] [6] وَظَنَّهُمْ لُصُوصًا فَقَالَ لَهُمْ: أَلَا تَأْكُلُونَ؟ قَالُوا: إِنَّا لَا نَأْكُلُ طعاما إلّا بثمن، قال إِبْرَاهِيمُ: فَإِنَّ لَهُ ثَمَنًا، قَالُوا: وَمَا ثَمَنُهُ؟ قَالَ:
تَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَى أَوَّلِهِ وَتَحْمَدُونَهُ عَلَى آخِرِهِ، فَنَظَرَ جِبْرِيلُ إِلَى مِيكَائِيلَ عليهم الصلاة والسلام، وَقَالَ:
حُقَّ لِهَذَا أَنْ يَتَّخِذَهُ رَبُّهُ خَلِيلًا، فَلَمَّا رَأَى إِبْرَاهِيمُ وَسَارَّةُ أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ ضَحِكَتْ سَارَّةُ، وَقَالَتْ:
يَا عَجَبًا لِأَضْيَافِنَا إِنَّا نَخْدِمُهُمْ بِأَنْفُسِنَا تَكْرِمَةً لهم وهم لا يأكلون [من] [7] طعامنا.
__________
(1) في المطبوع وط «وجوههم» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «الوجوس» .
(4) في المطبوع «أحور» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيادة عن المخطوط.(2/456)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
وَقَالَ قَتَادَةُ: ضَحِكَتْ مِنْ غَفْلَةِ قَوْمِ لُوطٍ وَقُرْبِ الْعَذَابِ مِنْهُمْ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: ضَحِكَتْ مِنْ خَوْفِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي بَيْتِهِ، وَهُوَ فِيمَا بَيْنَ خَدَمِهِ وحشمه. وقيل: ضَحِكَتْ سُرُورًا بِالْبِشَارَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبٌ: ضَحِكَتْ تَعَجُّبًا مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدٌ عَلَى كِبَرِ سِنِّهَا وَسِنِّ زَوْجِهَا. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْآيَةُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، تَقْدِيرُهُ: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يعقوب، فضحكت، وقالت: يا ويلتي أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ؟ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ إِسْحَاقَ، يَعْقُوبَ، أراد به ولد الْوَلَدِ، فَبُشِّرَتْ أَنَّهَا تَعِيشُ حَتَّى تَرَى وَلَدَ وَلَدِهَا قَرَأَ ابْنُ عامر وحمزة وحفص ويعقوب بِنَصْبِ الْبَاءِ، أَيْ: مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ. وَقِيلَ: بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أي:
وهبنا له يَعْقُوبَ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ [عَلَى خبر حَذْفِ حَرْفِ الصِّفَةِ] [1] . وَقِيلَ: وَمِنْ بَعْدِ إِسْحَاقَ يَحْدُثُ يَعْقُوبُ، فَلَمَّا بشرت بالولد ضحكت وصكت وَجْهَهَا، أَيْ: ضَرَبَتْ وَجْهَهَا تَعَجُّبًا.
[سورة هود (11) : الآيات 72 الى 73]
قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
قالَتْ يَا وَيْلَتى، نِدَاءُ نُدْبَةٍ وَهِيَ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْإِنْسَانُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ، أَيْ: يَا عَجَبًا، وَالْأَصْلُ يَا وَيْلَتَاهُ. أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ، وَكَانَتِ ابْنَةَ تِسْعِينَ سَنَةً فِي قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تِسْعًا وَتِسْعِينَ سَنَةً. وَهذا بَعْلِي، أي: زَوْجِي، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ قَيِّمُ أَمْرِهَا، شَيْخاً، نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَكَانَ سِنُّ إِبْرَاهِيمَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِائَةُ سَنَةٍ، وَكَانَ بَيْنَ الْبِشَارَةِ وَالْوِلَادَةِ سَنَةٌ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ.
قالُوا، يعني الملائكة [لسارّة] [2] ، أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، مَعْنَاهُ: لَا تَعْجَبِي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أراد شيئا كان. رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ، أَيْ: بَيْتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قيل: هذا مَعْنَى الدُّعَاءِ [مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ: على] [3] مَعْنَى الْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ. وَالْبَرَكَاتُ جمع بركة، وَهِيَ ثُبُوتُ الْخَيْرِ. وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَزْوَاجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ. إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ
، فَالْحَمِيدُ: الْمَحْمُودُ [فِي أَفْعَالِهِ] [4] ، وَالْمَجِيدُ: الْكَرِيمُ، وأصل المجد الرفعة.
[سورة هود (11) : الآيات 74 الى 77]
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ، الْخَوْفُ، وَجاءَتْهُ الْبُشْرى، بِإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ، فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ: أَخَذَ وَظَلَّ يُجَادِلُنَا. قِيلَ: مَعْنَاهُ يُكَلِّمُنَا لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يُجَادِلُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا يَسْأَلُهُ وَيَطْلُبُ إِلَيْهِ. وَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: مَعْنَاهُ يُجَادِلُ رُسُلَنَا، وَكَانَتْ مُجَادَلَتُهُ أَنَّهُ قَالَ لِلْمَلَائِكَةِ أَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ فِي مَدَائِنِ لُوطٍ خَمْسُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَتُهْلِكُونَهُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: أَوْ أربعون؟ قالوا: لا، قال:
__________
(1) في المطبوع العبارة «على حذف حرف الصفة» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيد في المطبوع وط.(2/457)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
أَوْ ثَلَاثُونَ؟ قَالُوا: لَا، حَتَّى بَلَغَ خَمْسَةً، قَالُوا: لَا، قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ فِيهَا رَجُلٌ وَاحِدٌ مُسْلِمٌ أَتُهْلِكُونَهَا؟
قَالُوا: لَا، قال لهم إبراهيم عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ فِيهَا لُوطًا، قَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا، لننجيه وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الغابرين، [فذلك قوله إخبارا عن إبراهيم عليه السلام: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ] [1] .
إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَكَانَ فِي قُرَى قَوْمِ لُوطٍ أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفٍ، فَقَالَتِ الرُّسُلُ عِنْدَ ذَلِكَ لِإِبْرَاهِيمَ.
يَا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، الْمَقَالِ وَدَعْ عَنْكَ الْجِدَالَ، إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، عَذَابُ رَبِّكَ وَحُكْمُ رَبِّكَ، وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ، نَازِلٌ بِهِمْ، عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ، أَيْ: غَيْرُ مَصْرُوفٍ عَنْهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا، يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةَ، لُوطاً، عَلَى صُورَةِ غِلْمَانٍ مرد حسان الوجوه، سِيءَ بِهِمْ، أَيْ: حَزِنَ لُوطٌ بِمَجِيئِهِمْ [يقال] [2] سوءته فَسِيءَ، كَمَا يُقَالُ: سَرَرْتُهُ فَسُرَّ.
وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً، أَيْ: قَلْبًا. يُقَالُ: ضَاقَ ذَرْعُ فُلَانٍ بِكَذَا إِذَا وَقَعَ فِي مَكْرُوهٍ لَا يُطِيقُ الْخُرُوجَ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا نَظَرَ إِلَى حُسْنِ وُجُوهِهِمْ وَطَيِبِ رَوَائِحِهِمْ أَشْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَقْصِدُوهُمْ بِالْفَاحِشَةِ، وَعَلِمَ أَنَّهُ سَيَحْتَاجُ إِلَى الْمُدَافَعَةِ عَنْهُمْ. وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ، أي: شديد لأنه [3] عُصِبَ بِهِ الشَّرُّ وَالْبَلَاءُ، أَيْ: شُدَّ.
قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: خَرَجَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ عِنْدِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام نحو قرية قوم لُوطٍ فَأَتَوْا لُوطًا نِصْفَ النَّهَارِ وَهُوَ فِي أَرْضٍ لَهُ يَعْمَلُ فِيهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَحْتَطِبُ. وقد قال الله تعالى للملائكة: لَا تُهْلِكُوهُمْ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ لُوطٌ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، فَاسْتَضَافُوهُ فَانْطَلَقَ بهم [إلى منزله] [4] ، فَلَمَّا مَشَى سَاعَةً قَالَ لَهُمْ: مَا بَلَغَكُمْ أَمْرُ أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ؟ قَالُوا: وَمَا أَمْرُهُمْ؟ قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهَا لِشَرُّ قَرْيَةٍ فِي الْأَرْضِ عَمَلًا يَقُولُ ذَلِكَ أربع مرات [وكل مرة يقول جبريل للملائكة اكتبا] [5] ، فَدَخَلُوا مَعَهُ مَنْزِلَهُ.
وَرُوِيَ: أَنَّهُ حَمَلَ الْحَطَبَ وَتَبِعَتْهُ الْمَلَائِكَةُ فَمَرَّ على جماعة من قومه فتغامزوا [6] فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَقَالَ لُوطٌ:
إِنَّ قومي أشر [7] خَلْقِ اللَّهِ، ثُمَّ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ، فَغَمَزُوا، فَقَالَ مِثْلَهُ، ثُمَّ مَرَّ بِقَوْمٍ [آخَرِينَ] [8] فَقَالَ مِثْلَهُ، ثُمَّ مَرَّ بِقَوْمٍ آخَرِينَ، فَقَالَ مَثَلَهُ، فَكَانَ كُلَّمَا قَالَ لُوطٌ هَذَا الْقَوْلَ قَالَ جِبْرِيلُ لِلْمَلَائِكَةِ: اشْهَدُوا، حَتَّى أَتَى مَنْزِلَهُ.
وروي: أن الملائكة جاؤوا إِلَى بَيْتِ لُوطٍ فَوَجَدُوهُ فِي دَارِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ أَحَدٌ إِلَّا أَهْلَ بَيْتِ لُوطٍ، فَخَرَجَتِ امْرَأَتُهُ فَأَخْبَرَتْ قَوْمَهَا، وَقَالَتْ: إِنَّ فِي بَيْتِ لُوطٍ رِجَالًا مَا رأيت مثل وجوههم قط.
[سورة هود (11) : الآيات 78 الى 80]
وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: يُسْرِعُونَ إِلَيْهِ. وقال مجاهد: يهرولون، وقال
__________
(1) زيد في المطبوع وط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع وط «كأنه» . [.....]
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «فغمزوا» .
(7) في المطبوع «شر» .
(8) زيادة عن المخطوط.(2/458)
الْحَسَنُ: مَشْيٌ بَيْنَ مِشْيَتَيْنِ. قَالَ شِمْرُ بْنُ عَطِيَّةَ: بَيْنَ الْهَرْوَلَةِ والجمز. وَمِنْ قَبْلِهِ، أَيْ: مِنْ قَبْلِ مَجِيئِهِمْ إِلَى لُوطٍ، كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ، كَانُوا يَأْتُونَ الرِّجَالَ فِي أَدْبَارِهِمْ. قالَ لَهُمْ لُوطٌ حِينَ قَصَدُوا أَضْيَافَهُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ غِلْمَانٌ: يَا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، يَعْنِي: بِالتَّزْوِيجِ، وَفِي أَضْيَافِهِ بِبَنَاتِهِ وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، تَزْوِيجُ الْمُسْلِمَةِ مِنَ الْكَافِرِ جَائِزًا كَمَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم ابنتيه مِنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ وَأَبِي العاصِ بْنِ الرَّبِيعِ قَبْلَ الْوَحْيِ [1] ، وَكَانَا كَافِرَيْنِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: عَرَضَ بَنَاتَهُ عَلَيْهِمْ بِشَرْطِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بن جبير: قوله: بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، أراد [به] [2] نِسَاءَهُمْ وَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ أَبُو أُمَّتِهِ. وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: «النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ، وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ» . وَقِيلَ: ذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الدَّفْعِ لا على [سبيل] [3] التحقيق، فلم يرضوا هذا القول. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَيْ: خَافُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَيْ: لَا تسوؤني وَلَا تَفْضَحُونِي فِي أَضْيَافِي. أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ، صَالِحٌ سَدِيدٌ. قَالَ عِكْرِمَةُ: رَجُلٌ يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: رَجُلٌ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ.
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ، يَا لُوطُ، مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ، أَيْ: لَسْنَ أَزْوَاجًا لَنَا فَنَسْتَحِقُّهُنَّ [4] بِالنِّكَاحِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا لَنَا فِيهِنَّ مِنْ حَاجَةٍ وَشَهْوَةٍ. وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ، مِنْ إِتْيَانِ الرِّجَالِ.
قالَ لَهُمْ لُوطٌ عِنْدَ ذَلِكَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً، أَرَادَ قُوَّةَ الْبَدَنِ أَوِ الْقُوَّةَ بِالْأَتْبَاعِ، أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ، أَيْ: أَنْضَمُّ إِلَى عَشِيرَةٍ مَانِعَةٍ. وَجَوَابُ لَوْ مُضْمَرٌ، أَيْ: لَقَاتَلْنَاكُمْ وَحُلْنَا [5] بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ بَعْدَهُ نَبِيًّا إِلَّا فِي مَنَعَةٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ.
«1162» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بن يوسف ثنا
__________
(1) قال الحافظ في «تخريج الكشاف» (2/ 413، 414) : أما قصة تزويج أبي العاص بن الربيع بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم، كذا عتبة بن أبي لهب فذكرها ابن إسحاق في المغازي والطبراني من طريقه قال: كان أبو العاص بن الربيع من رجال مكة مالا وأمانة وكانت خديجة خالته، فسألت خديجة رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم أن يزوجه زينب وكان لا يخالفها، وذلك قبل أن ينزل عليه، فلما أكرم اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بالنبوة آمنت خديجة وبناته وثبت أبو العاص على شركه. قال: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم قد زوج عتبة بن أبي لهب بنته رقية، فلما دعا قريشا إلى أمرين قال بعض لبعض: قد فرغتم محمدا من همه ببناته فردوهن عليه فمشوا إلى أبي العاص فأبى عليهم، ثم مشوا إلى عتبة بن أبي لهب ففارق رقية، وزوجوه بنت سعيد بن العاص، فتزوجها بعده عثمان بن عفان. فذكر قصة أبي العاص وأسره ببدر.
وروى البيهقي في «الدلائل» من طريق قَتَادَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم زوج ابنته أم كلثوم في الجاهلية عتبة بن أبي لهب، ورقية أخاه، فلما جاء الإسلام أمر أبو لهب ولديه فطلقا البنتين» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المخطوط «فنستحقهم» .
(5) تصحف في المطبوع «وحملنا» .
1162- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
أبو اليمان هو الحكم بن نافع، أبو الزناد هو عبد الله بن ذكوان، الأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.
وهو في «صحيح البخاري» 3375 عن أبي اليمان بهذا الإسناد.
وأخرجه البخاري 3387 6992 والترمذي 3116 وأحمد (2/ 322) والطحاوي في «المشكل» 330 وابن حبان 6206 من طرق عن أبي هريرة به في أثناء حديث.
وأخرجه البخاري 3772 و4537 و4694 ومسلم 151 وابن ماجه 4026 وأحمد (2/ 326) والطبري 5973 و5974 و19399 و19400 وابن حبان 6208 وابن مندة في «الإيمان» 369 والطحاوي في «المشكل» 327 من طرق عن(2/459)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنْبَأَنَا أَبُو اليمان أنبأ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ أَنْبَأَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ [عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ] [1] :
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَغْفِرُ اللَّهُ لِلُوطٍ إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ» .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَغْلَقَ لُوطٌ بَابَهُ وَالْمَلَائِكَةُ مَعَهُ فِي الدَّارِ، وَهُوَ يُنَاظِرُهُمْ وَيُنَاشِدُهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ، وَهُمْ يُعَالِجُونَ تَسَوُّرَ الْجِدَارِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَلَائِكَةُ مَا يَلْقَى لوط بسببهم.
[سورة هود (11) : الآيات 81 الى 82]
قالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
قالُوا يَا لُوطُ، إِنَّ رُكْنَكَ لَشَدِيدٌ، إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، فَافْتَحِ الْبَابَ وَدَعْنَا وَإِيَّاهُمْ، فَفَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلُوا فَاسْتَأْذَنَ جِبْرِيلُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي عُقُوبَتِهِمْ، فَأَذِنَ لَهُ، فَقَامَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا فَنَشْرَ جَنَاحَهُ وَعَلَيْهِ وِشَاحٌ مِنْ دُرٍّ مَنْظُومٍ، وَهُوَ بَرَّاقُ الثَّنَايَا أَجْلَى الْجَبِينِ وَرَأَسُهُ حُبُكٌ مِثْلُ الْمَرْجَانِ كَأَنَّهُ الثَّلْجُ بَيَاضًا وَقَدَمَاهُ إِلَى الْخُضْرَةِ، فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ وُجُوهَهُمْ فَطَمَسَ أعينهم وأعمى أبصارهم، فَصَارُوا لَا يَعْرِفُونَ الطَّرِيقَ وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى بُيُوتِهِمْ فَانْصَرَفُوا وَهُمْ يقولون: النجاة النجاة، فَإِنَّ فِي بَيْتِ لُوطٍ أَسْحَرَ قَوْمٍ فِي الْأَرْضِ سَحَرُونَا، وَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يَا لُوطُ كَمَا أَنْتَ حَتَّى تُصْبِحَ فَسَتَرَى مَا تَلْقَى منّا غدا، يوعدونه.
[فقالت الملائكة: لا تخف إنّا أرسلنا لإهلاكهم] [2] ، فَقَالَ لُوطٌ لِلْمَلَائِكَةِ: مَتَى مَوْعِدُ إهلاكهم؟ فقالوا:
الصبح، قال: أُرِيدُ أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ فَلَوْ أَهْلَكْتُمُوهُمُ الْآنَ، فَقَالُوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ، ثُمَّ قَالُوا:
فَأَسْرِ، يَا لُوطُ، بِأَهْلِكَ، قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ: «فاسر وأن اسْرِ» بِوَصْلِ الْأَلِفِ حَيْثُ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ سَرَى يَسْرِي، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِقَطْعِ الْأَلْفِ مِنْ أَسْرَى يُسْرِي. وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْمَسِيرُ بِاللَّيْلِ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِطَائِفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِبَقِيَّةٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بَعْدَ مُضِيِّ أَوَّلِهِ. وَقِيلَ:
إِنَّهُ السَّحَرُ الْأَوَّلُ. وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو «امْرَأَتُكَ» ، بِرَفْعِ التَّاءِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ مِنَ الِالْتِفَاتِ، أَيْ: لَا يَلْتَفِتُ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتُكَ فَإِنَّهَا تَلْتَفِتُ فَتَهْلِكُ وَكَانَ لُوطٌ قَدْ أَخْرَجَهَا معه، ونهى من معه مِمَّنْ أَسْرَى بِهِمْ أَنْ يَلْتَفِتَ سِوَى زَوْجَتِهِ فَإِنَّهَا لَمَّا سَمِعَتْ هَدَّةَ الْعَذَابِ الْتَفَتَتْ، وَقَالَتْ: يَا قَوْمَاهُ فَأَدْرَكَهَا حَجَرٌ فَقَتَلَهَا. وَقَرَأَ الآخرون بنصب التاء على استثناء مِنَ الْإِسْرَاءِ، أَيْ: فَأَسَرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ فَلَا تَسْرِ بِهَا وَخَلِّفْهَا مَعَ قَوْمِهَا، فَإِنَّ هَوَاهَا إِلَيْهِمْ، وَتَصْدِيقُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا امْرَأَتَكَ وَلَا يَلْتَفِتُ مِنْكُمْ أَحَدٌ) : إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصابَهُمْ، مِنَ الْعَذَابِ، إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أَيْ: مَوْعِدُ هَلَاكِهِمْ وَقْتُ الصُّبْحِ، فَقَالَ لُوطٌ: أُرِيدُ أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ.
قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا، عَذَابُنَا، جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها، وَذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَدْخَلَ جَنَاحَهُ تَحْتَ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ الْمُؤْتَفِكَاتِ وَهِيَ خَمْسُ مَدَائِنَ، وَفِيهَا أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ. وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ آلَافِ أَلْفٍ،
__________
يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عن أبي هريرة به في أثناء حديث وصدره:
«نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ ... » .
(1) سقط من المطبوع.
(2) زيد في المطبوع. [.....](2/460)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
فَرَفَعَ الْمَدَائِنَ كُلَّهَا حَتَّى سَمِعَ أَهْلُ السَّمَاءِ صِيَاحَ الدِّيَكَةِ، وَنُبَاحَ الْكِلَابِ. فَلَمْ يُكْفَأْ لَهُمْ إِنَاءٌ وَلَمْ يَنْتَبِهْ نَائِمٌ، ثُمَّ قَلَبَهَا فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا. وَأَمْطَرْنا عَلَيْها، أَيْ عَلَى شُذَّاذِهَا وَمُسَافِرِيهَا. وَقِيلَ: بعد ما قَلَبَهَا أَمْطَرَ عَلَيْهَا، حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: (سنك وكل) [1] فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: السِّجِّيلُ الطِّينُ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) [الذَّارِيَاتُ: 33] . قَالَ مُجَاهِدٌ: أَوَّلُهَا حَجَرٌ وَآخِرُهَا طِينٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ أَصْلُ الْحِجَارَةِ طِينًا فَشُدِّدَتْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْآجُرَّ. وَقِيلَ: السِّجِّيلُ اسْمُ السَّمَاءِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: هُوَ جِبَالٌ فِي السَّمَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النُّورِ: 43] . قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْضُودٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: متتابع يتبع بعضه [2] بَعْضًا مَفْعُولٌ مِنَ النَّضْدِ، وَهُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ بَعْضِهُ فَوْقَ بَعْضٍ.
[سورة هود (11) : الآيات 83 الى 85]
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
مُسَوَّمَةً، مِنْ نَعْتِ الْحِجَارَةِ وَهِيَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، وَمَعْنَاهَا مُعَلَّمَةٌ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَلَيْهَا سِيَمَا لَا تُشَاكِلُ حِجَارَةَ الْأَرْضِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: عَلَيْهَا خُطُوطٌ حُمْرٌ عَلَى هَيْئَةِ الْجَزْعِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: كَانَتْ مَخْتُومَةً عَلَيْهَا أَمْثَالُ الْخَوَاتِيمِ. وَقِيلَ: مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ مَنْ رُمِيَ بِهِ. عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ، يَعْنِي: تِلْكَ الْحِجَارَةَ، مِنَ الظَّالِمِينَ، أَيْ: مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ، بِبَعِيدٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: يَعْنِي ظَالِمِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَاللَّهِ مَا أَجَارَ اللَّهُ مِنْهَا ظَالِمًا بَعْدُ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: مَا مِنْ ظَالِمٍ إِلَّا وَهُوَ بِعُرْضِ حَجَرٍ يُسْقَطُ عَلَيْهِ من ساعة إلى ساعة. روي: أَنَّ الْحَجَرَ اتَّبَعَ شُذَّاذَهُمْ وَمُسَافِرِيهِمْ، أَيْنَ كَانُوا فِي الْبِلَادِ، وَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْهُمُ الْحَرَمَ فَكَانَ الْحَجَرُ مُعَلَّقًا فِي السَّمَاءِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى خَرَجَ فَأَصَابَهُ فَأَهْلَكَهُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِلى مَدْيَنَ، أَيْ: وَأَرْسَلَنَا إِلَى وَلَدِ مَدَيْنَ، أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ، أَيْ: لَا تَبْخَسُوا، وَهُمْ كَانُوا يُطَفِّفُونَ مَعَ شِرْكِهِمْ، إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُوسِرِينَ فِي نِعْمَةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي خصب وسعة، يحذّرهم [3] زَوَالَ النِّعْمَةِ، وَغَلَاءَ السِّعْرِ وَحُلُولَ النقمة، إن لم يتوبوا. وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ، يُحِيطُ بِكُمْ فَيُهْلِكُكُمْ.
وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ، أَتِمُّوهُمَا، بِالْقِسْطِ، بِالْعَدْلِ. وَقِيلَ: بِتَقْوِيمِ لِسَانِ الْمِيزَانِ، وَلا تَبْخَسُوا، لَا تَنْقُصُوا، النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.
[سورة هود (11) : الآيات 86 الى 89]
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
__________
(1) في المطبوع «سنك كل» وفي المخطوط «سبك ولك» والمثبت عن الطبري 18442 و18445 و18446 أي: سنك:
حجر، كل: طين.
(2) في المطبوع «بعضها» .
(3) في المطبوع «فحذرهم» .(2/461)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما: مَا أَبْقَى اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْحَلَالِ بَعْدَ إِيفَاءِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ خَيْرٌ مِمَّا تَأْخُذُونَهُ بِالتَّطْفِيفِ. وَقَالَ مجاهد: بَقِيَّتُ اللَّهِ، أَيْ: طَاعَةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، أن مَا عِنْدَكُمْ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَعَطَائِهِ. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ، بِوَكِيلٍ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ بِقِتَالِهِمْ.
قالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آباؤُنا، مِنَ الْأَوْثَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثِيرَ الصَّلَاةِ، لِذَلِكَ قَالُوا هَذَا. وَقَالَ الْأَعْمَشُ: يَعْنِي أَقِرَاءَتُكَ. أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا، أو أن نترك أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ مِنَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ. وَقِيلَ: كان شعيب عليه السلام قد نَهَاهُمْ عَنْ قَطْعِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، زعم أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ مِنْ قَطْعِهَا. إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَرَادُوا السَّفِيهَ الْغَاوِيَ، وَالْعَرَبُ تَصِفُ الشَّيْءَ بِضِدِّهِ فَتَقُولُ: لِلَّدِيغِ سَلِيمٌ وَلِلْفَلَاةِ مَفَازَةٌ. وقيل: قالوه عَلَى وَجْهِ الِاسْتِهْزَاءِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ بِزَعْمِكَ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى الصِّحَّةِ أَيْ إِنَّكَ يَا شُعَيْبُ فِيْنَا حَلِيمٌ رَشِيدٌ لَا يَجْمُلُ [1] بِكَ شَقُّ عَصَا قَوْمِكَ ومخالفة دينهم، وهذا كَمَا قَالَ قَوْمُ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا [هُودٍ: 82] .
قالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ، بَصِيرَةٍ وَبَيَانٍ، مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً، حَلَالًا.
وقيل: كثيرا. كَانَ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثِيرَ الْمَالِ. وَقِيلَ: الرِّزْقُ الْحَسَنُ: الْعِلْمُ وَالْمَعْرِفَةُ. وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى مَا أَنْهاكُمْ عَنْهُ، أَيْ: مَا أُرِيدُ أَنْ أَنْهَاكُمْ عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَرْتَكِبُهُ. إِنْ أُرِيدُ، مَا أُرِيدُ فِيمَا آمُرُكُمْ بِهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْهُ، إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ، والتوفيق [خلق قدرة الطاعة في العبد] [2] وتسهيل سَبِيلِ الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، اعْتَمَدْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ، أَرْجِعُ فِيمَا يَنْزِلُ بِي مِنَ النَّوَائِبِ. وَقِيلَ: فِي الْمَعَادِ.
وَيا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ، لَا يَحْمِلَنَّكُمْ، شِقاقِي، خِلَافِي أَنْ يُصِيبَكُمْ، أَيْ: عَلَى فِعْلِ ما أنهاكم عنه [فيصيبكم] [3] ، مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ، مِنَ الْغَرَقِ، أَوْ قَوْمَ هُودٍ، مِنَ الرِّيحِ، أَوْ قَوْمَ صالِحٍ، مِنَ الصَّيْحَةِ، وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا حَدِيثِي عَهْدٍ بِهَلَاكِ قَوْمِ لُوطٍ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَمَا دَارُ قَوْمِ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كانوا جيران قوم لوط.
[سورة هود (11) : الآيات 90 الى 93]
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
__________
(1) في المطبوع «يحمل» وفي المخطوط «يمكن» والمثبت عن ط.
(2) زيادة عن المخطوطتين.
(3) زيادة عن المخطوط.(2/462)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) ، والودود له معنيان، أحدهما: أَنَّهُ مُحِبٌّ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ: هُوَ بمعنى المودود أي المحبوب للمؤمنين. وَجَاءَ فِي الْخَبَرِ: إِنَّ شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ خَطِيبَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
قالُوا يَا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ، [أي:] [1] مَا نَفْهَمُ، كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ ضَرِيرَ الْبَصَرِ [2] ، فَأَرَادُوا ضعف البصر، وَلَوْلا رَهْطُكَ، عَشِيرَتُكَ وَكَانَ فِي مَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ، لَرَجَمْناكَ، لَقَتَلْنَاكَ. وَالرَّجْمُ: أَقْبَحُ الْقَتْلِ. وَما أَنْتَ عَلَيْنا، عندنا، بِعَزِيزٍ.
قالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ، أمكان [3] رَهْطِي أَهْيَبُ عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ، [أَيْ:] [4] إِنْ تَرَكْتُمْ قَتْلِي لِمَكَانِ رَهْطِي فَالْأَوْلَى أَنْ تَحْفَظُونِي فِي اللَّهِ. وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا
، أَيْ: نَبَذْتُمْ أَمْرَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَتَرَكْتُمُوهُ، إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ.
وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ، أَيْ: عَلَى تُؤَدَتِكُمْ وَتَمَكُّنِكُمْ. يُقَالُ: فُلَانٌ يَعْمَلُ عَلَى مَكَانَتِهِ إِذَا عَمِلَ عَلَى تُؤَدَةٍ وَتَمَكُّنٍ. إِنِّي عامِلٌ، على تمكّني، ف سَوْفَ تَعْلَمُونَ، أَيَّنَا الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ وَالْمُخْطِئُ فِي فِعْلِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يُذِلُّهُ، وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ، قِيلَ: مَنْ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، أَيْ: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ الْكَاذِبَ. وَقِيلَ: مَحَلُّهُ رَفْعٌ، تَقْدِيرُهُ: وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ يَعْلَمُ كَذِبَهُ وَيَذُوقُ وَبَالَ أَمْرِهِ. وَارْتَقِبُوا، وَانْتَظِرُوا الْعَذَابَ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ، منتظر.
[سورة هود (11) : الآيات 94 الى 101]
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ، قِيلَ: أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً فَخَرَجَتْ أَرْوَاحُهُمْ. وَقِيلَ: أَتَتْهُمْ صَيْحَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فَأَهْلَكَتْهُمْ. فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ، مَيِّتِينَ.
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا، [أَيْ: كَأَنْ لَمْ يُقِيمُوا] [5] وَلَمْ يَكُونُوا، فِيها أَلا بُعْداً، هَلَاكًا، لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) لم يثبت أنه عليه السلام كان أعمى، وإنما هو من أخبار الإسرائيليين ومرادهم بالضعف ضعف القوة هذا هو ظاهر الآية، فلا يعدل عنه بخبر إسرائيلي.
(3) في المخطوط «إن كان» .
(4) ليس في المخطوط.
(5) زيد في المطبوع وط.(2/463)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
، هَلَكَتْ ثَمُودُ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) ، حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ.
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) ، بِسَدِيدٍ.
يَقْدُمُ قَوْمَهُ، يَتَقَدَّمُهُمْ، يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ، فَأَدْخَلَهُمْ، النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ، أَيْ: بئس المدخول والمدخول فِيهِ.
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ، [أَيْ: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا] [1] لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ، أَيِ: الْعَوْنُ الْمُعَانُ. وَقِيلَ: الْعَطَاءُ الْمُعْطَى، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَرَادَفَتْ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَتَانِ، لَعْنَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَعْنَةٌ فِي الْآخِرَةِ.
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ، عَامِرٌ، وَحَصِيدٌ، خَرَابٌ. وَقِيلَ: مِنْهَا قَائِمٌ بَقِيَتِ الْحِيطَانُ وَسَقَطَتِ السُّقُوفُ. وَحَصِيدٌ، أَيِ: انْمَحَى أَثَرُهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَائِمٌ يُرَى لَهُ أَثَرٌ وَحَصِيدٌ لَا يُرَى لَهُ أَثَرٌ، وَحَصِيدٌ بِمَعْنَى مَحْصُودٍ.
وَما ظَلَمْناهُمْ، بِالْعَذَابِ والإهلاك [2] ، وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، بِالْكَفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، عَذَابُ رَبِّكَ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ، أَيْ: غَيْرَ تَخْسِيرٍ، وَقِيلَ: تدمير.
[سورة هود (11) : الآيات 102 الى 106]
وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
وَكَذلِكَ، وَهَكَذَا، أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.
«1163» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل ثنا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَنْبَأَنَا أَبُو معاوية أنبأنا بريد بْنُ أَبِي بُرْدَةَ [عَنْ أَبِي بُرْدَةَ] [3] عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» ، قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ الْآيَةَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً، لَعِبْرَةً، لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ،
__________
1163- إسناده صحيح على شرط البخاري.
أبو معاوية هو محمد بن خازم، بريد هو ابن عبد الله بن أبي بردة.
وهو في «صحيح البخاري» 4686 عن صدقة بن الفضل بهذا الإسناد.
وأخرجه مسلم 2583 والترمذي 3110 وابن ماجه 4018 والطبري 18559 والبيهقي (6/ 94) والبغوي في «شرح السنة» 4057 من طريق عن أبي معاوية به.
وأخرجه الترمذي بإثر 3110 وابن حبان 5175 من طريق أبي أسامة عن بريد به.
(1) زيد في المطبوع وط.
(2) في المطبوع «والهلاك» . [.....]
(3) سقط من المطبوع وط.(2/464)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ، أَيْ: يَشْهَدُهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَما نُؤَخِّرُهُ، أَيْ: وَمَا نُؤَخِّرُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَلَا نُقِيمُ عَلَيْكُمُ الْقِيَامَةَ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: وَمَا يُؤَخِّرُهُ بِالْيَاءِ، إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ، [أي:] [1] معلوم عند الله [تعالى] [2] .
يَوْمَ يَأْتِ، قرىء بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ وَحَذْفِهَا، لَا تَكَلَّمُ، أَيْ: لَا تَتَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، أَيْ: فَمِنْهُمْ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ الشَّقَاوَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ السَّعَادَةُ.
«1164» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ أَنْبَأَنَا جَدِّي أَبُو سَهْلٍ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عبد الرحمن البزاز أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا العَذَافِرِيُّ أَنْبَأَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبَّادٍ الدَّبَرِيُّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنَا [مَعْمَرٌ عَنِ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ] [3] عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
خَرَجْنَا عَلَى جِنَازَةٍ فَبَيْنَا نَحْنُ بِالْبَقِيعِ إِذْ خَرَجَ [عَلَيْنَا] رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِيَدِهِ مِخْصَرَةٌ فَجَاءَ فَجَلَسَ ثُمَّ نَكَتَ بِهَا الْأَرْضَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وقد كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، إِلَّا وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً» . قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ: أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَنَدَعُ الْعَمَلَ؟ قَالَ: «لَا، وَلَكِنِ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، أَمَّا أَهْلُ الشقاوة فسييسّرون لعمل أهل الشقاوة، وأما أهل السعادة فسييسّرون لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ» ، قَالَ: ثُمَّ تَلَا: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) [الليل: 5- 10] .
قَوْلُهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الزَّفِيرُ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ، وَالشَّهِيقُ الصَّوْتُ الضَّعِيفُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: الزَّفِيرُ أَوَّلُ نَهِيقِ الْحِمَارِ، وَالشَّهِيقُ آخِرُهُ إِذَا رَدَّدَهُ فِي جَوْفِهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: الزَّفِيرُ فِي الحلق والشهيق في الصدر.
[سورة هود (11) : الآيات 107 الى 108]
خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ مَا شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
خالِدِينَ فِيها، لَابِثِينَ مُقِيمِينَ فِيهَا، مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، قَالَ الضَّحَّاكُ: مَا دَامَتْ سَمَوَاتُ الْجَنَّةِ والنار وأرضها، وكل ما علاك فأظلّك فَهُوَ سَمَاءٌ، وَكُلُّ مَا اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهِ قَدَمُكَ فَهُوَ أَرْضٌ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: هَذَا عِبَارَةٌ عَنِ التأييد عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، يَقُولُونَ: لَا آتيك ما دامت السموات وَالْأَرْضُ، وَلَا يَكُونُ كَذَا مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، يَعْنُونَ أَبَدًا. قوله: إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ، اخْتَلَفُوا في
__________
1164- صحيح، إسحاق صدوق، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
عبد الرزاق هو ابن همام، معمر هو ابن راشد، منصور هو ابن المعتمر، أبو عبد الرحمن السلمي هو عبد الملك بن حبيب.
وهو في «شرح السنة» 71 بهذا الإسناد، وفي «مصنف عبد الرزاق» 20074 عن معمر به.
وأخرجه البخاري 1362 و4948 و6217 و7552 ومسلم 2647 وأبو داود 2694 والترمذي 3344 وأحمد (1/ 129) والآجري في «الشريعة» ص 171 من طرق عن منصور بن المعتمر به.
وأخرجه البخاري 4945 و4949 و6217 ومسلم 2647 والترمذي 2136 وابن ماجه 78 وأحمد (1/ 82 و312 و133) والآجري ص 172 وابن حبان 334 من طرق عن الأعمش عن سعد بن عبيدة به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) سقط من المخطوط.(2/465)
هَذَيْنِ الِاسْتِثْنَاءَيْنِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الِاسْتِثْنَاءُ فِي أَهْلِ الشَّقَاءِ يَرْجِعُ إِلَى قوم من الموحّدين [1] يُدْخِلُهُمُ اللَّهُ النَّارَ بِذُنُوبٍ اقْتَرَفُوهَا، ثُمَّ يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ، لِأَنَّ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ سُعَدَاءَ ثم اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْقِيَاءِ، وَهَذَا كَمَا:
«1165» أَخْبَرْنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ [الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ] [2] بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بن إسماعيل ثنا حفص بن عمر ثنا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ:
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا، عُقُوبَةً ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ [3] اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ، فَيُقَالُ لَهُمُ الْجَهَنَّمِيُّونَ» .
«1166» وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ قال: أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنَا مُسَدَّدٌ أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ ذَكْوَانَ أَنْبَأَنَا أَبُو رَجَاءٍ حَدَّثَنِي عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [قَالَ] [4] : «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَيُسَمَّوْنَ الْجَهَنَّمِيِّينَ» .
وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيَرْجِعُ إِلَى مُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي النَّارِ قبل دخول الجنّة. وقيل: إلى مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ تَعْمِيرِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَاحْتِبَاسِهِمْ فِي الْبَرْزَخِ مَا بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْبَعْثِ، قَبْلَ مَصِيرِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ، يَعْنِي: هُمْ خَالِدُونَ في الجنّة أو النار إلى [5] هذا المقدار. وقيل: معنى إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ [أي] سِوَى مَا شَاءَ رَبُّكَ، مَعْنَاهُ: خالدين فيها ما دامت السموات والأرض سِوَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ مُدَّةِ بَقَاءِ السموات وَالْأَرْضِ، وَذَلِكَ هُوَ الْخُلُودُ فِيهَا، وكما تَقُولُ: لِفُلَانٍ عَلِيَّ أَلْفٌ إِلَّا الْأَلْفَيْنِ [6] ، أَيْ: سِوَى الْأَلْفَيْنِ اللَّتَيْنِ تَقَدَّمَتَا. وَقِيلَ: إِلَّا بِمَعْنَى الْوَاوِ، أَيْ: وَقَدْ شَاءَ رَبُّكَ خُلُودَ هؤلاء
__________
1165- إسناده صحيح على شرط البخاري.
هشام هو ابن عبد الله، قتادة هو ابن دعامة.
وهو في «شرح السنة» 4246 بهذا الإسناد، وفي «صحيح البخاري» 7450 عن حفص بن عمر به.
وأخرجه أحمد (3/ 133 و147 و208) من طريق هشام به.
وأخرجه البخاري 6559 و7450 وأحمد (3/ 34 و269) وأبو يعلى 2886 من طريق همام عن قتادة به.
وأخرجه عبد الرزاق 20859 من طريق معمر عن ثابت وقتادة به، ومن هذه الطريق أحمد (3/ 163) .
وفي الباب من حديث عمران بن حصين وهو الآتي ومن حديث ابن مسعود أبي يعلى 4979 وأحمد (1/ 454) وابن خزيمة في «التوحيد» ص 320 وابن حبان 7428 والبيهقي في «البعث» 435.
1166- إسناده صحيح على شرط البخاري.
مسدّد هو ابن مسرهد، يحيى هو ابن سعيد القطان، أبو رجاء هو عمران بن ملحان.
وهو في «شرح السنة» 4247 بهذا الإسناد.
وفي «صحيح البخاري» 6566 عن مسدد به.
وأخرجه أبو داود 4740 عن مسدد به.
وأخرجه ابن ماجه 4315 من طريق يحيى بن سعيد به.
(1) في المطبوع «المؤمنين» .
(2) سقط من المطبوع.
(3) في المطبوع «يدخلها» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «لا» .
(6) في المخطوط «ألفين» .(2/466)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
فِي النَّارِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ كَقَوْلِهِ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْبَقَرَةِ: 150] ، أَيْ:
وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَأَخْرَجَهُمْ منها ولكنه لا يشاء لأنه حكم لهم بالخلود.
وقال الفراء: هذا استثناء [1] اسْتَثْنَاهُ اللَّهُ وَلَا يَفْعَلُهُ كَقَوْلِكَ: وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّكَ إِلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ وَعَزِيمَتُكَ أَنْ تَضْرِبَهُ. إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ.
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ سُعِدُوا، بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، أَيْ:
رُزِقُوا السَّعَادَةَ، وَسُعِدَ وَأُسْعِدَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ السِّينِ قِيَاسًا عَلَى شَقُوا [هود: 106] .
فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها مَا دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شاءَ رَبُّكَ، قَالَ الضَّحَّاكُ: إِلَّا مَا مَكَثُوا فِي النَّارِ حَتَّى أُدْخِلُوا الْجَنَّةَ. قَالَ قَتَادَةُ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِثُنْيَاهُ. عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ، أي: غير منقطع [2] . قَالَ ابْنُ زَيْدٍ:
أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا بِالَّذِي يَشَاءُ لِأَهْلِ النَّارِ.
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى جَهَنَّمَ زَمَانٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، وَذَلِكَ بعد ما يَلْبَثُونَ فِيهَا أَحْقَابًا. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَهُ. وَمَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ إِنْ ثَبَتَ: أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَأَمَّا مواضع الكفار فممتلئة أبدا.
[سورة هود (11) : الآيات 109 الى 111]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ، فِي شَكٍّ، مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ، أَنَّهُمْ ضُلَّالٌ، مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ، فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ: كَمَا كَانَ يَعْبُدُ، آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ، حَظَّهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ. غَيْرَ مَنْقُوصٍ.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، التَّوْرَاةَ، فَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَمِنْ مُصَدِّقٍ بِهِ وَمُكَذِّبٍ كَمَا فَعَلَ قَوْمُكَ بِالْقُرْآنِ، يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ، فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ، أَيْ: لَعُذِّبُوا فِي الْحَالِ وَفُرِغَ مِنْ عَذَابِهِمْ وَإِهْلَاكِهِمْ، وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ، مُوقِعٍ فِي الرِّيبَةِ وَالتُّهْمَةِ.
وَإِنَّ كُلًّا، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّ كُلًّا، سَاكِنَةَ النُّونِ عَلَى تَخْفِيفِ إِنَّ الثَّقِيلَةِ، وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا، لَمَّا شَدَّدَهَا هُنَا وَفِي يس وَالطَّارِقِ، ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ. ووافق أبو جعفر هاهنا، وفي الطارق والزخرف، بِالتَّشْدِيدِ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، فَمَنْ شَدَّدَ [قَالَ: الْأَصْلُ فِيهِ وَإِنَّ كُلًّا لَمِنْ مَا، فَوُصِّلَتْ مِنَ الْجَارَّةُ بِمَا، فَانْقَلَبَتِ النُّونُ مِيمًا لِلْإِدْغَامِ، فَاجْتَمَعَتْ ثَلَاثُ مِيمَاتٍ فَحُذِفَتْ إِحْدَاهُنَّ، فَبَقِيَتْ لَمَّا بِالتَّشْدِيدِ، وما هاهنا بِمَعْنَى مَنْ، هُوَ اسْمٌ لِجَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ [النِّسَاءِ: 3] ، أَيْ: مَنْ طَابَ لَكُمْ، وَالْمَعْنَى: وَإِنَّ كُلًّا لَمِنْ جَمَاعَةٍ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ.
وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ قَالَ: مَا صِلَةٌ زِيدَتْ بَيْنَ اللَّامَيْنِ لِيُفْصَلَ بَيْنَهُمَا كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِهِمَا، وَالْمَعْنَى: وَإِنَّ
__________
(1) في المخطوط «الاستثناء» . [.....]
(2) في المطبوع «المقطوع» .(2/467)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
كُلًّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ. وَقِيلَ مَا بِمَعْنَى مِنْ، تَقْدِيرُهُ: لَمِنْ لَيُوَفِّيَنَّهُمْ] [1] ، وَاللَّامُ فِي لَمَّا لَامُ التَّأْكِيدِ، [الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى خَبَرِ إِنَّ] [2] ، وَفِي لَيُوَفِّيَنَّهُمْ لَامُ الْقَسَمِ، [وَالْقَسَمُ مُضْمَرٌ] [3] تَقْدِيرُهُ: وَاللَّهِ، لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ، أَيْ: جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ.
[سورة هود (11) : الآيات 112 الى 114]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ، أَيِ: اسْتَقِمْ عَلَى دِينِ رَبِّكَ وَالْعَمَلِ بِهِ وَالدُّعَاءِ إِلَيْهِ كَمَا أُمِرْتَ، وَمَنْ تابَ مَعَكَ، أَيْ: وَمَنْ آمَنَ مَعَكَ فَلْيَسْتَقِيمُوا، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
الِاسْتِقَامَةُ أَنْ تَسْتَقِيمَ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، ولا تروغ روغان الثعالب [4] .
«1167» أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ القاضي أنا أَبُو الطِّيبِ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بن سليمان أنا والدي إملاء ثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إسحاق ثنا محمد بن العلاء أبو كريب ثنا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ:
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ» .
وَلا تَطْغَوْا، لَا تُجَاوِزُوا أَمْرِي وَلَا تَعْصُونِي. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَلَا تَغْلُوا فَتَزِيدُوا عَلَى مَا أَمَرْتُ وَنَهَيْتُ. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْءٌ.
«1168» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةٌ هِيَ أَشَدُّ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: «شيبتني هود وأخواتها» .
__________
1167- صحيح. أبو بكر هو ابن خزيمة، ثقة إمام، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
أبو أسامة هو حماد بن أسامة، عروة هو ابن الزبير.
وهو في «شرح السنة» 16 بهذا الإسناد.
وأخرجه مسلم 38 وأحمد (3/ 413) وابن حبان 342 من طرق عن هشام بن عروة به.
وأخرجه الترمذي 2410 وابن ماجه 3972 والطيالسي 1231 وأحمد (3/ 413) والطبراني 6396 و6397 من طرق عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عبد الرحمن بن ماعز عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ به.
وبعض الرواة يقول عبد الرحمن بن ماعز بدل محمد بن عبد الرحمن.
وأخرجه أحمد (3/ 413) و (4/ 384 و385) والطبراني 6398 من طريقين عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عبد الله بن سفيان الثقفي عن أبيه.
1168- لم أره بهذا السياق والمرفوع منه يأتي تخريجه برقم: 1174.
(1) ما بين الحاصرتين كذا في المطبوع وط، وهو في المخطوط [وإن كلا لم ما- فحذفت إحدى الميمين ومعناه إلا ليوفيهم ربك أعمالهم، وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ قَالَ: مَا- صلة أي: وإن كلّا لما لَيُوَفِّيَنَّهُمْ، وَقِيلَ- مَا- بِمَعْنَى- مِنْ- تقديره: لمن ليوفينهم، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ أَيْ: مَنْ طاب] .
(2) زيد في المطبوع.
(3) زيد في المطبوع.
(4) في المطبوع «الثعلب» .(2/468)
«1169» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [1] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسماعيل ثنا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ ثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ مَعْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ولن يشادّ هذا الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدَّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: وَلَا تَمِيلُوا.
وَالرُّكُونُ: هُوَ الْمَحَبَّةُ وَالْمَيْلُ بِالْقَلْبِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا تَرْضَوْا بِأَعْمَالِهِمْ. قَالَ السُّدِّيُّ: لَا تُدَاهِنُوا الظَّلَمَةَ. وعن عكرمة: لا تطيعوهم [فيما يقولوه ويعملوه] [2] ، وَقِيلَ: لَا تَسْكُنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ، فَتُصِيبَكُمُ، النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ، أَيْ: أَعْوَانٍ يَمْنَعُونَكُمْ مِنْ عذابه، ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ، أي: الغداوة والعشي. قال مجاهد: النَّهَارِ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالظَّهْرِ وَالْعَصْرِ. وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، صَلَاةُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. [وَقَالَ مُقَاتِلٌ: صَلَاةُ الْفَجْرِ وَالظَّهْرِ طَرَفٌ، وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ طَرَفٌ، وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ يَعْنِي صَلَاةَ الْعِشَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: طَرَفَا النَّهَارِ الصُّبْحُ وَالْعَصْرُ، وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ] [3] . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: طَرَفَا النَّهَارِ الْغَدَاةُ وَالْعَشِيُّ، يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ وَالْمَغْرِبِ. قَوْلُهُ: وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ: سَاعَاتُهُ وَاحِدَتُهَا زُلْفَةٌ وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: زُلَفاً بِضَمِّ اللَّامِ. إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، يَعْنِي: إِنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ يُذْهِبْنَ الخطيئات.
«1170» وروي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي الْيَسَرِ، قَالَ: أَتَتْنِي امْرَأَةٌ تَبْتَاعُ تَمْرًا فقلت: إِنَّ فِي الْبَيْتِ تَمْرًا أَطْيَبُ منه، فدخلت معي في الْبَيْتَ، فَأَهْوَيْتُ إِلَيْهَا فَقَبَّلْتُهَا، فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ، فَأَتَيْتُ عُمَرَ رضي الله عنه، فَقَالَ: اسْتُرْ عَلَى نَفْسِكَ وَتُبْ، فَلَمْ أَصْبِرْ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: أَخَلَفْتَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فِي أَهْلِهِ بِمِثْلِ هَذَا، حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ من أهل النار؟ فأطرق
__________
1169- إسناده صحيح على شرط البخاري.
وهو في «شرح السنة» 930 بهذا الإسناد، وفي «صحيح البخاري» 39 عن عبد السلام بن مطهر به.
وأخرجه النسائي (8/ 121 و122) وابن حبان 351 والبيهقي (3/ 18) من طرق عن عمر بن علي به.
1170- أخرجه الترمذي 3115 والنسائي في «الكبرى» 11248 والطبري 18697 و18698 من حديث أبي اليسر بن عمرو الأنصاري، وليس في رواية الترمذي والنسائي ذكر عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ الترمذي: وهذا حديث حسن صحيح.
وفي الباب من حديث معاذ بن جبل أخرجه الترمذي 3113 والدارقطني (1/ 134) والحاكم (1/ 135) والبيهقي (1/ 125) وصححه الدارقطني وسكت عليه الحاكم، وكذا الذهبي، مع أن إسناده منقطع.
فقد قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بمتصل عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى لم يسمع من معاذ، وروى شعبة هذا الحديث عن ابن أبي ليلى مرسلا اه.
وانظر الحديث الآتي، فإنه يشهد لأصله، والله أعلم.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيد في المطبوع.(2/469)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم [رأسه] [1] حَتَّى أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ الْآيَةَ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلِهَذَا خَاصَّةً أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً؟ قَالَ: «بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً» [2] .
«1171» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَنْبَأَنَا قُتَيْبَةُ بن سعيد ثنا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِنَ امْرَأَةٍ قُبْلَةً فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، فقال الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِي هَذَا؟ قَالَ: «لِجَمِيعِ أُمَّتِي كُلِّهِمْ» .
«1172» وَأَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ حدثني أبو الطاهر وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ أَبِي صَخْرٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ إِسْحَاقَ مَوْلَى زَائِدَةَ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ» .
«1173» وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا [أَبُو] مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَخْلَدِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ محمد بن
__________
1171- إسناده على شرط البخاري ومسلم.
سليمان التيمي هو ابن بلال، أبو عثمان هو عبد الرحمن بن مل.
وهو في «شرح السنة» 347 بهذا الإسناد، وفي «صحيح البخاري» 526 عن قتيبة به.
وأخرجه البخاري 4687 ومسلم 2763 والنسائي في «الكبرى» 11247 وابن خزيمة 312 والبيهقي (8/ 241) من طرق عن يزيد بن زريع به.
وأخرجه مسلم 2763 ح 41 والترمذي 3114 والنسائي في «الكبرى» 11247 وابن ماجه 1398 و4254 وابن حبان 1729 والطبري 18689 من طرق عن سليمان التيمي به.
1172- إسناده صحيح على شرط مسلم.
أبو الطاهر هو أحمد بن عمرو، ابن وهب هو عبد الله، أبو صخر هو حميد بن زياد، إسحاق هو ابن عبد الله.
وهو في «صحيح مسلم» 233 ح 16 عن هارون وأبي الطاهر بهذا الإسناد.
وأخرجه أحمد (2/ 400) والبيهقي (10/ 187) من طريق ابن وهب بهذا الإسناد.
وأخرجه مسلم 233 والترمذي 214 وأحمد (2/ 484) وأبو عوانة (2/ 20) وابن خزيمة 314 و1814 وابن حبان 1733 والبيهقي (2/ 467) و (10/ 187) والمصنف في «شرح السنة» 346 من طرق عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ به إلا أنه لم يذكر «ورمضان إلى رمضان» .
أخرجه ابن ماجه 1086 من طريق العلاء ولم يذكر «الصلوات الخمس» .
وأخرجه الطيالسي 2470 وأحمد (2/ 414) من طريق الحسن عن أبي هريرة به. [.....]
1173- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم. قتيبة هو ابن سعيد.
الليث هو ابن سعد، ابن الهاد هو يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أسامة.
وهو في «شرح السنة» 343 بهذا الإسناد.
وأخرجه مسلم 667 والترمذي 2868 وأحمد (2/ 379) والدارمي (1/ 268) وأبو عوانة (2/ 20) والبيهقي (1/ 361) .
(1) زيادة عن المخطوطتين.
(2) وقع في هذا الحديث زيادات في مواضع متفرقة منه في المطبوع والمثبت عن المخطوطتين وط.(2/470)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
إِسْحَاقَ [السَّرَّاجُ] [1] أَنْبَأَنَا قُتَيْبَةُ أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ وَبَكْرُ بْنُ مُضَرَ عَنِ ابْنَ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ [مَرَّاتٍ] [2] هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شيء؟» قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: «فذلك مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا» .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ذلِكَ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرْنَا. وَقِيلَ: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ، ذِكْرى عِظَةٌ لِلذَّاكِرِينَ، أَيْ: لِمَنْ ذكره.
[سورة هود (11) : آية 115]
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
وَاصْبِرْ يَا مُحَمَّدُ عَلَى مَا تَلْقَى مِنَ الْأَذَى. وقيل: على الصلاة [3] ، نظيره: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه: 132] . فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، في أعمالهم. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: يعني المصلّين.
[سورة هود (11) : الآيات 116 الى 119]
فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَلَوْلا، فَهَلَّا، كانَ مِنَ الْقُرُونِ، الَّتِي أهلكناهم، مِنْ قَبْلِكُمْ، الآية للتوبيخ، أُولُوا بَقِيَّةٍ، أي: أولوا تمييز. وقيل: أولوا طاعة. وقيل: أولوا خَيْرٍ. يُقَالُ: فُلَانٌ ذُو بَقِيَّةٍ إِذَا كَانَ فِيهِ خَيْرٌ. مَعْنَاهُ: فَهَلَّا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ مَنْ فِيهِ خَيْرٌ يَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ؟ وَقِيلَ:
معناه أولوا بَقِيَّةٍ مِنْ خَيْرٍ. يُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى بَقِيَّةٍ مِنَ الْخَيْرِ إِذَا كَانَ عَلَى خَصْلَةٍ مَحْمُودَةٍ. يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: يَقُومُونَ بِالنَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ، وَمَعْنَاهُ جحدا، أي: لم يكن فيهم أولوا بَقِيَّةٍ. إِلَّا قَلِيلًا، هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مَعْنَاهُ: لَكِنَّ قَلِيلًا، مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا، نُعِّمُوا، فِيهِ، وَالْمُتْرَفُ: الْمُنَعَّمُ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: خُوِّلُوا. وقال الفراء: عوّدوا [4] ، أَيْ: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا عُوِّدُوا مِنَ النَّعِيمِ وَاللَّذَّاتِ وَإِيثَارِ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ. وَكانُوا مُجْرِمِينَ، كَافِرِينَ.
وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ، أَيْ: لَا يُهْلِكُهُمْ بشركهم، وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ، فيما
__________
من طرق عن الليث عن ابن الهاد.
وأخرجه البخاري 528 من طريق ابن أبي حازم والدراوردي عن ابن الهاد به.
(1) زيادة عن المخطوط و «شرح السنة» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «الصلوات» .
(4) زيد في المطبوع وط عقب «عُوِّدُوا» [مِنَ النَّعِيمِ وَاللَّذَّاتِ وَإِيثَارِ الدنيا] والظاهر أنه مقحم، وهو مكرر ما بعده.(2/471)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
بَيْنَهُمْ يَتَعَاطَوْنَ الْإِنْصَافَ وَلَا يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَإِنَّمَا يُهْلِكُهُمْ إِذَا تَظَالَمُوا. وَقِيلَ: لَا يُهْلِكُهُمْ بِظُلْمٍ مِنْهُ وَهُمْ مُصْلِحُونَ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَلَكِنْ يُهْلِكُهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَرُكُوبِهِمُ السَّيِّئَاتِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ، كُلَّهُمْ، أُمَّةً واحِدَةً، عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ، وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ، عَلَى أَدْيَانٍ شَتَّى مِنْ بَيْنِ يَهُودِيٍّ وَنَصْرَانِيٍّ وَمَجُوسِيٍّ ومشرك [ومسلم] [1] .
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، مَعْنَاهُ: لَكِنَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ فَهَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ، فَهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ، وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ، قَالَ الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: وَلِلِاخْتِلَافِ خَلْقَهُمْ. وَقَالَ أَشْهَبُ: سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ:
خَلَقَهُمْ لِيَكُونَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ. وَقَالَ أَبُو عبيد [2] : الَّذِي أَخْتَارُهُ قَوْلُ مَنْ قَالَ: خَلَقَ فَرِيقًا لِرَحْمَتِهِ وَفَرِيقًا لِعَذَابِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: وَلِلرَّحْمَةِ خَلَقَهُمْ، يَعْنِي الَّذِينَ رَحِمَهُمْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: خَلَقَ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لِلرَّحْمَةِ، وَأَهْلَ الِاخْتِلَافِ لِلِاخْتِلَافِ. ومحصول الْآيَةِ أَنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ مُخْتَلِفُونَ وَأَهْلَ الْحَقِّ مُتَّفِقُونَ، فَخَلَقَ اللَّهُ أَهْلَ الْحَقِّ لِلِاتِّفَاقِ وَأَهْلَ الْبَاطِلِ لِلِاخْتِلَافِ. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ، وَتَمَّ حُكْمُ رَبِّكَ، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.
[سورة هود (11) : الآيات 120 الى 123]
وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ، مَعْنَاهُ: وَكُلُّ الَّذِي تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ، أَيْ: مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَأَخْبَارِ أُمَمِهِمْ نَقُصُّهَا عَلَيْكَ، ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، لِنَزِيدَكَ يَقِينًا وَنُقَوِّيَ قَلْبَكَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَمِعَهَا كَانَ فِي ذَلِكَ تَقْوِيَةٌ لِقَلْبِهِ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ. وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ، قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ:
فِي هَذِهِ الدُّنْيَا. وَقَالَ غَيْرُهُمَا: فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وهو قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ، خَصَّ هَذِهِ السُّورَةَ تَشْرِيفًا، وَإِنْ كَانَ قَدْ جَاءَهُ الْحَقُّ فِي جَمِيعِ السُّوَرِ. وَمَوْعِظَةٌ، أَيْ: وَجَاءَتْكَ مَوْعِظَةٌ، وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ، أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ، إِنَّا عامِلُونَ.
وَانْتَظِرُوا، مَا يَحِلُّ بِنَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، إِنَّا مُنْتَظِرُونَ، مَا يَحِلُّ بِكُمْ مِنْ نِقْمَةِ اللَّهِ.
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ: [عِلْمُ] [3] مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ فِيهِمَا، وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فِي الْمَعَادِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ: يُرْجَعُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ، أَيْ: يُرَدُّ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ، أَيْ: يَعُودُ الْأَمْرُ كُلُّهُ إِلَيْهِ حَتَّى لَا يَكُونَ لِلْخَلْقِ أَمْرٌ. فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَثِقْ بِهِ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، قرأ أهل المدينة و [أهل] [4] الشام وحفص ويعقوب: تَعْمَلُونَ بالتاء هاهنا وَفِي آخِرِ سُورَةِ النَّمْلِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ فِيهِمَا. قَالَ كَعْبٌ: خَاتِمَةُ التَّوْرَاةِ خَاتِمَةُ سُورَةِ هُودٍ.
«1174» أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الخزاعي
__________
1174- جيد. إسناده حسن، محمد بن العلاء فمن فوقه رجال البخاري ومسلم سوى معاوية بن هشام فإنه من رجال مسلم وحده، وفيه ضعف لكن للحديث شواهد وطرق.
(1) زيادة عن المخطوطتين.
(2) في المطبوع وط «عبيدة» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.(2/472)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
أَنْبَأَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ ثنا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ ثنا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ شَيْبَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما:
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم: «شيبني هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» .
«1175» : وَيُرْوَى: «شَيَّبَتْنِي هود وأخواتها» [1] .
سورة يوسف
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ مِائَةٌ وَإِحْدَى عَشْرَةَ آية
[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3)
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) ، أَيِ: الْبَيِّنُ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ وَحُدُودُهُ وَأَحْكَامُهُ. قَالَ قَتَادَةُ: مُبِينٌ وَاللَّهِ بَرَكَتُهُ وَهُدَاهُ وَرُشْدُهُ، فَهَذَا مِنْ بَانَ أَيْ: ظَهَرَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مُبَيِّنٌ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ وَالْحَلَّالَ مِنَ الْحَرَامِ، فَهَذَا مِنْ أَبَانَ بِمَعْنَى أَظْهَرَ.
إِنَّا أَنْزَلْناهُ، يَعْنِي الْكِتَابَ، قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، أَيْ: أَنْزَلْنَاهُ بِلُغَتِكُمْ لِكَيْ تَعْلَمُوا مَعَانِيَهُ وَتَفْهَمُوا مَا فِيهِ.
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ، أَيْ: نَقْرَأُ، أَحْسَنَ الْقَصَصِ، وَالْقَاصُّ هُوَ الَّذِي يَتْبَعُ الْآثَارَ وَيَأْتِي بِالْخَبَرِ عَلَى
__________
شيبان هو ابن عبد الرحمن، أبو إسحاق هو عمرو بن عبد الله السّبيعي.
وهو في «شرح السنة» 4070 بهذا الإسناد، وفي «سنن الترمذي» 3297 عن أبي كريب به.
وأخرجه الحاكم (2/ 344 و476) والبزار (1/ 170) «البحر الزخار» من طريق عكرمة به، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وأخرجه أبو يعلى 107 من طريق عكرمة عن أبي بكر بدون ذكر ابن عباس.
وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 37) : ورواه أبو يعلى إلا أن عكرمة لم يدرك أبا بكر.
وللحديث شواهد كثيرة انظرها في «فتح القدير» للشوكاني 1219 و1220 و1221 و1222 و1224 و1225 و1226 بتخريجي.
الخلاصة: هو حديث حسن صحيح بمجموع طرقه وشواهده. [.....]
1175- انظر ما قبله. وهو حديث حسن صحيح بمجموع طرقه وشواهده.
(1) زيد في المطبوع «من المفصل» .(2/473)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
وَجْهِهِ، مَعْنَاهُ: نُبَيِّنُ لَكَ أَخْبَارَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ وَالْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ أَحْسَنَ الْبَيَانِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ قِصَّةُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَاصَّةً، سَمَّاهَا أَحْسَنَ الْقَصَصِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ وَالنُّكَتِ وَالْفَوَائِدِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا، مِنْ سِيَرِ الْمُلُوكِ وَالْمَمَالِيكِ وَالْعُلَمَاءِ وَمَكْرِ النِّسَاءِ وَالصَّبْرِ عَلَى أَذَى الْأَعْدَاءِ، وَحُسْنِ التَّجَاوُزِ عَنْهُمْ بَعْدَ الِالْتِقَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَوَائِدِ. قَالَ خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ: سُورَةُ يُوسُفَ وَسُورَةُ مريم عليهم السلام يَتَفَكَّهُ بِهِمَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: لَا يسمع سورة يوسف عليه السلام محزون إلا استراح لها [1] . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، مَا الْمَصْدَرُ، أَيْ: بِإِيحَائِنَا إِلَيْكَ، هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ، [أي] [2] : وَقَدْ كُنْتَ، مِنْ قَبْلِهِ، أَيْ: من قَبْلَ وَحْيِنَا، لَمِنَ الْغافِلِينَ، لَمِنَ السَّاهِينَ عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ لَا تَعْلَمُهَا.
«1176» قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَاهُ عَلَيْهِمْ زَمَانًا فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ حَدَّثْتَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزُّمَرِ: 23] ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ قَصَصْتَ عَلَيْنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ ذَكَّرْتَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16] .
[سورة يوسف (12) : الآيات 4 الى 5]
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ، أي: اذكر إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ، وَيُوسُفُ اسم أعجمي [3] ، ولذلك لا يجري عليه الصرف. وَقِيلَ: هُوَ عَرَبِيٌّ، سُئِلَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَقْطَعُ عَنْ يُوسُفَ، فَقَالَ: الْأَسَفُ فِي اللُّغَةِ الْحُزْنُ، وَالْأَسِيفُ الْعَبْدُ، وَاجْتَمَعَا [4] فِي يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسُمِّيَ بِهِ [5] .
«1177» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ ثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عن أبيه
__________
1176- جيد. أخرجه الحاكم (2/ 345) وأبو يعلى 740 والطبري وابن حبان 6209 والبزار 3218 والواحدي 544 من طريق عمرو بن محمد عن خلاد الصفار عن عمرو بن قيس الملائي عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ به.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن صحيح.
1177- إسناده صحيح، رجاله رجال البخاري.
عبد الصمد هو ابن عبد الوارث.
وهو في «شرح السنة» 3441 بهذا الإسناد، وفي «صحيح البخاري» 4688 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ به.
وأخرجه البخاري 3390 وأحمد (2/ 96) والخطيب (3/ 426) من حديث ابن عمر.
وأخرجه الترمذي 3116 وأحمد (2/ 332 و416) وابن حبان 5776 من طريق مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سلمة عن أبي هريرة مرفوعا.
وأخرج البخاري 3353 و3374 و3383 و3490 و4689 ومسلم 2378 وأحمد (2/ 431) من طريق عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ. قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ الله....» .
(1) في المطبوع «إليها» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع وط «عبري» .
(4) في المطبوع «واجتمع» .
(5) هذا القول باطل، فإن أباه سماه يوسف عند ولادته، وقبل أن يعرض له شيء.(2/474)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ» .
يَا أَبَتِ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ يَا أَبَتِ بِفَتْحِ التَّاءِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآنِ عَلَى تَقْدِيرِ: يَا أبتاه، [والوجه أن أصله يا أبتا بالألف وهي بدل عن ياء الإضافة، فحذفت الألف كما تحذف التاء فبقيت الفتحة تدلّ على الألف كما تبقى الكسرة تدلّ على الياء عند حذف الياء، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ يَا أَبَتِ بِكَسْرِ التاء في كل القرآن والوجه أن أصله: يا أبتي، فحذفت الياء تخفيفا واكتفاء بالكسرة لأن باب النداء حذف يدلّ على ذلك قوله: يا عِبادِ فَاتَّقُونِ [الزمر: 16] [1] ، وقرأ لآخرون: يَا أَبَتِ بِكَسْرِ التَّاءِ لِأَنَّ أَصْلَهُ: يَا أَبَتْ [2] وَالْجَزْمُ يُحَرَّكُ إِلَى الْكَسْرِ. إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً، أَيْ: نَجْمًا مِنْ نُجُومِ السَّمَاءِ وَنَصْبُ الْكَوَاكِبِ عَلَى التَّفْسِيرِ [3] ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ، ولم يقل رأيتها ساجدات [4] ، وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ وَالْيَاءُ وَالنُّونُ مِنْ كِنَايَاتِ مَنْ يَعْقِلُ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْهَا بِفِعْلِ مَنْ [يَعْقِلُ] [5] عَبَّرَ عَنْهَا بِكِنَايَةِ مَنْ يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النَّمْلِ: 18] ، وَكَانَ النُّجُومُ فِي التَّأْوِيلِ أَخَوَاتِهِ، وَكَانُوا أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا يُسْتَضَاءُ بِهِمْ كَمَا يُسْتَضَاءُ بِالنُّجُومِ وَالشَّمْسُ أَبُوهُ وَالْقَمَرُ أمه. قال قَتَادَةُ وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْقَمَرُ خَالَتُهُ لِأَنَّ أُمَّهُ رَاحِيلَ كَانَتْ قَدْ مَاتَتْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْقَمَرُ أَبُوهُ وَالشَّمْسُ أُمُّهُ لِأَنَّ الشَّمْسَ مُؤَنَّثَةٌ وَالْقَمَرَ مُذَكَّرٌ، وَكَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً حِينَ رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا. وَقِيلَ: رَآهَا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَلَمَّا قَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ.
قالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَحْيٌ فعلم يعقوب أن أخوته إِذَا سَمِعُوهَا حَسَدُوهُ فَأَمَرَهُ بِالْكِتْمَانِ، فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً، فَيَحْتَالُوا فِي إهلاكك [6] لأنهم لا يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهَا فَيَحْسُدُونَكَ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لَكَ صِلَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الْأَعْرَافِ:
154] . وَقِيلَ: هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِمْ نَصَحْتُكَ وَنَصَحْتُ لَكَ وَشَكَرْتُكَ وَشَكَرْتُ لَكَ. إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ، أَيْ: يُزَيِّنُّ لَهُمُ الشَّيْطَانُ وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى الْكَيْدِ لِعَدَاوَتِهِ الْقَدِيمَةِ.
«1178» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ أَنْبَأَنَا أبو القاسم البغوي ثنا
__________
1178- إسناده صحيح على شرط البخاري لتفرده عن علي بن الجعد، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
شعبة هو ابن الحجاج، أبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف.
وهو في «شرح السنة» 3168 بهذا الإسناد وفي «الجعديات» 1624 عن علي بن الجعد به.
وأخرجه البخاري 7044 ومسلم 2261 ح 4 وأحمد (5/ 303) والنسائي في «اليوم والليلة» 894 و898 وابن السني في «اليوم والليلة» 774 والدارمي (2/ 124) وابن حبان 6058 والبيهقي في «الآداب» 987 من طرق عن شعبة به.
وأخرجه البخاري 6986 و6995 و7005 ومسلم 2261 ح 1 والنسائي في «اليوم والليلة» 899 وأحمد (5/ 30) والحميدي 418 و419 و420 من طرق عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرحمن به.
(1) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع وحده.
(2) في المخطوط «يا أبة» والمثبت عن المطبوع وط.
(3) أي تمييز. فإن التمييز مفسر للذوات.
(4) في المخطوط «ساجده» . [.....]
(5) سقط من المطبوع.
(6) في المخطوط «هلاكك» .(2/475)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ قَالَ: كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا تَهُمُّنِي، حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا فَتُمَرِضُنِي، حَتَّى سَمِعْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ الله تعالى، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ [فلا يحدّث به وليتفل عن يساره وليتعوّذ بالله من الشيطان الرجيم ومن شرّ ما رأى فإنها لن تضره] [1] » .
«1179» وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ وَكِيعِ بْنِ عَدَسٍ عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعِينَ أَوْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا من النبوّة، وهي عَلَى رِجْلِ طَائِرٍ فَإِذَا حَدَّثَ بِهَا وَقَعَتْ» ، وَأَحْسَبُهُ قَالَ: «لَا تُحَدِّثْ بِهَا إِلَّا حَبِيبًا أَوْ لبيبا» [2] .
[سورة يوسف (12) : الآيات 6 الى 7]
وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ، يصطفيك [3] يقول يعقوب ليوسف عليهما السلام، أَيْ:
كَمَا رَفَعَ مَنْزِلَتَكَ بِهَذِهِ الرُّؤْيَا، فَكَذَلِكَ يَصْطَفِيكَ رَبُّكَ، وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، يُرِيدُ تَعْبِيرَ الرؤيا سمّي تأويلا لأنه يؤول أَمْرُهُ إِلَى مَا رَأَى فِي منامه، والتأويل ما يؤول إليه عَاقِبَةِ الْأَمْرِ، وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، يعني: النبوّة [4] ، وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ، أَيْ: عَلَى أَوْلَادِهِ فَإِنَّ أَوْلَادَهُ كُلَّهُمْ كَانُوا أَنْبِيَاءَ، كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ، فَجَعَلَهُمَا نَبِيَّيْنَ، إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ إِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ الْخَلَّةُ. وَقِيلَ: إِنْجَاؤُهُ مِنَ النَّارِ [5] ، [وَعَلَى إِسْحَاقَ إِنْجَاؤُهُ مِنَ الذَّبْحِ] [6] . وَقِيلَ:
بِإِخْرَاجِ يَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ مِنْ صُلْبِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ بَيْنَ رُؤْيَا يُوسُفَ هَذِهِ وَبَيْنَ تحقيقها بمصر [واجتماع] [7] أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتِهِ إِلَيْهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كَانَ بَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ سَنَةً. فَلَمَّا بَلَغَتْ هَذِهِ الرؤيا إخوة يوسف [عليه السلام] [8] حسدوه،
__________
1179- جيد. رجاله ثقات سوى وكيع بن عدس، فإنه مقبول، وقد توبع على هذا الحديث بنحوه، وفي الباب أحاديث.
وهو في «شرح السنة» 3174 بهذا الإسناد، وفي «الجعديات» 1772 عن علي بن الجعد به.
وأخرجه البخاري في «التاريخ الكبير» (8/ 178) والترمذي 2278 و2279 وأحمد (4/ 12 و13) والحاكم (4/ 390) وابن حبان 6049 والطيالسي 1088 والطبراني (19/ 461 و462) من طرق عن شعبة به.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح اه.
وأخرجه ابن ماجه 3914 وابن أبي شيبة (11/ 50) وأحمد (4/ 10) وابن حبان 6050 والطبراني في «الكبير» (19/ 461 و464) والبغوي في «شرح السنة» 3175 من طرق عن هشيم عن يعلى بن عطاء به.
الخلاصة: للحديث شواهد ترقى إلى درجة الحسن الصحيح.
(1) ما بين الحاصرتين في المطبوع «فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا وَمِنْ شَرِ الشَّيْطَانِ وَلْيَتْفُلْ ثَلَاثًا وَلَا يحدث بها أحدا فإنها لن تضره» والمثبت عن المخطوطتين وط و «شرح السنة» .
(2) زيد في المطبوع في هذا المتن كلمات متفرقة، والمثبت عن المخطوط وط و «شرح السنة» .
(3) في المطبوع «بقول» .
(4) في المطبوع «بالنوة» .
(5) في المطبوع «الذبح» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) زيادة عن المخطوط.(2/476)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
وقالوا: ما رضي أن تسجد لَهُ إِخْوَتُهُ حَتَّى يَسْجُدَ لَهُ أبواه فبغوه وحسدوه.
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ، أَيْ: فِي خَبَرِهِ وَخَبَرِ إِخْوَتِهِ، وَأَسْمَاؤُهُمْ رُوبِيلُ، وقيل روبين بالنون وَهُوَ أَكْبَرُهُمْ، وشَمْعُونُ وَلَاوِي وَيَهُوذَا وَزبَالُونُ. وَقِيلَ: زَبْلُونُ وَآشِرُ وَأُمُّهُمْ لِيَا بِنْتُ لَيَانَ [1] وَهِيَ ابْنَةُ خال يعقوب عليه السلام، ولد لَهُ مِنْ سُرِّيَّتَيْنِ لَهُ اسْمُ إِحْدَاهُمَا زَلْفَةُ وَالْأُخْرَى يلهمة أَرْبَعَةُ أَوْلَادٍ، دَانٍ وَنَفْتَالِي، وَقِيلَ: نَفْتُولِي وَجَادُ وَأَشِيرُ، ثُمَّ تُوُفِّيَتْ لِيَا فَتَزَوَّجَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُخْتَهَا رَاحِيلَ فَوَلَدَتْ لَهُ يُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ، فَكَانَ بَنُو يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. آياتٌ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (آيَةٌ) عَلَى التَّوْحِيدِ أَيْ عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ. وَقِيلَ: عَجَبٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: آياتٌ عَلَى الْجَمْعِ.
لِلسَّائِلِينَ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: سَأَلُوهُ عَنْ سَبَبِ انْتِقَالِ وَلَدِ يَعْقُوبَ مِنْ كَنْعَانَ إِلَى مِصْرَ. فَذَكَرَ لَهُمْ قِصَّةَ يوسف جميعها، فَوَجَدُوهَا مُوَافِقَةً لِمَا فِي التَّوْرَاةِ فتعجّبوا منه [2] ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: آياتٌ لِلسَّائِلِينَ. [أَيْ: دَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ] [3] وَلِمَنْ لَمْ يَسْأَلْ كَقَوْلِهِ: سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فُصِّلَتْ: 10] ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عِبْرَةٌ لِلْمُعْتَبِرِينَ، فَإِنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى حَسَدِ إِخْوَةِ يُوسُفَ وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ فِي الْحَسَدِ وَتَشْتَمِلُ عَلَى رُؤْيَاهُ، وَمَا حَقَّقَ اللَّهُ مِنْهَا، وَتَشْتَمِلُ عَلَى صَبْرِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ قضاء الشهوة وعلى الرقّ وعلى اللبث في السِّجْنِ، وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ مِنَ الْمُلْكِ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى حُزْنِ يعقوب وصبره على فراق يوسف وَمَا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْمُرَادِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ من الآيات.
[سورة يوسف (12) : الآيات 8 الى 9]
إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9)
إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ، اللَّامُ فِيهِ جَوَابُ الْقَسَمِ تَقْدِيرُهُ: وَاللَّهِ لَيُوسُفُ، وَأَخُوهُ، بِنْيَامِينُ، أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا، كان يوسف [عليه السلام] [4] وَأَخُوهُ بِنْيَامِينُ مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ، وَكَانَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ شَدِيدَ الْحُبِّ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ إخوته يرون منه مِنَ الْمَيْلِ إِلَيْهِ مَا لَا يَرَوْنَهُ مَعَ أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا هَذِهِ المقالة، وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، أي: جَمَاعَةٌ وَكَانُوا عَشَرَةً. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعُصْبَةُ هِيَ الْعَشَرَةُ فَمَا زَادَ. وَقِيلَ:
الْعُصْبَةُ مَا بَيْنَ الْوَاحِدِ إِلَى الْعَشَرَةِ. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ إِلَى الْعَشَرَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ما بين العشرة إلى الخمس عشرة. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ. وَقِيلَ: جَمَاعَةٌ يَتَعَصَّبُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا كَالنَّفَرِ وَالرَّهْطِ. إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، أَيْ خَطَإٍ بَيِّنٍ [فِي] [5] إِيثَارِهِ يُوسُفَ وَأَخَاهُ علينا، وليس المراد منه [6] الضَّلَالِ عَنِ الدِّينِ، وَلَوْ أَرَادُوهُ لَكَفَرُوا بِهِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخَطَأُ فِي تَدْبِيرِ أَمْرِ الدُّنْيَا يَقُولُونَ نَحْنُ أَنْفَعُ [لَهُ] [7] فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَإِصْلَاحِ أَمْرِ مَعَاشِهِ ورعي مواشيه من يوسف، فَنَحْنُ أَوْلَى بِالْمَحَبَّةِ مِنْهُ، فَهُوَ مُخْطِئٌ فِي صَرْفِ مَحَبَّتِهِ إِلَيْهِ.
اقْتُلُوا يُوسُفَ، اختلفوا في قاتل [8] هَذَا الْقَوْلِ، فَقَالَ وَهْبٌ: قَالَهُ شَمْعُونُ. وَقَالَ كَعْبٌ: قَالَهُ دَانُ. [وقال مقاتل: روبيل «مبين اقتلوا» بضم التنوين، قرأها ابن كثير ونافع والكسائي، وقرأ الباقون
__________
(1) في المطبوع «لابان» .
(2) في المطبوع «منها» .
(3) زيد في المطبوع. [.....]
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) ما بين الحاصرتين في المطبوع «أمر» .
(6) في المطبوع «من هذا الضلال» بدل «منه» .
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) في المخطوط «تأويل» .(2/477)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)
مُبِينٍ اقْتُلُوا بكسر التنوين] [1] . أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً، أَيْ: إِلَى أرض تبعد عَنْ أَبِيهِ. وَقِيلَ: فِي أَرْضٍ تَأْكُلُهُ السِّبَاعُ، يَخْلُ لَكُمْ، يَخْلُصْ لَكُمْ وَيَصْفُ لَكُمْ، وَجْهُ أَبِيكُمْ، عَنْ شَغْلِهِ بِيُوسُفَ، وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ بَعْدِ قَتْلِ يُوسُفَ، قَوْماً صالِحِينَ، تَائِبِينَ، أَيْ: تُوبُوا بعد ما فعلتم [معه] [2] هذا يعف الله عنكم [جرمكم] [3] . وقال مقاتل: صالحين: يَصْلُحْ أَمْرُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أبيكم.
[سورة يوسف (12) : الآيات 10 الى 11]
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يَا أَبانا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11)
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ، هو يَهُوذَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: رُوبِيلُ، وَكَانَ ابْنَ خَالَةِ يُوسُفَ، وَكَانَ أَكْبَرَهُمْ سِنًّا وَأَحْسَنَهُمْ رَأْيًا [فِيهِ] . وَالْأَوَّلُ أصح، نَهَاهُمْ عَنْ قَتْلِهِ وَقَالَ: الْقَتْلُ كبيرة عظيمة. وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ، قرأ أبو علي جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ (غَيَابَاتِ الْجُبِّ) [عَلَى] الجمع، وقرأ الباقون (غيابت) الْجُبِّ عَلَى الْوَاحِدِ، أَيْ: فِي أَسْفَلِ الْجُبِّ وَظُلْمَتِهِ وَالْغَيَابَةُ كُلُّ مَوْضِعٍ سَتَرَ عَنْكَ الشَّيْءَ وَغَيَّبَهُ وَالْجُبُّ الْبِئْرُ غَيْرُ الْمَطْوِيَّةِ لِأَنَّهُ جُبَّ، أَيْ: قُطِعَ وَلَمْ يُطْوَ يَلْتَقِطْهُ، يَأْخُذْهُ، وَالِالْتِقَاطُ أَخْذُ الشَّيْءِ من حيث لا يحتسبه الإنسان، بَعْضُ السَّيَّارَةِ، أَيْ: بَعْضُ الْمُسَافِرِينَ فَيَذْهَبُ بِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ أُخْرَى [من نواحي الأرض] [4] فَتَسْتَرِيحُوا مِنْهُ، إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ، أَيْ: إِنْ عَزَمْتُمْ عَلَى فِعْلِكُمْ وَهُمْ كَانُوا يَوْمَئِذٍ بَالِغِينَ وَلَمْ يَكُونُوا أَنْبِيَاءَ بَعْدُ.
وَقِيلَ: لَمْ يَكُونُوا بَالِغِينَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ قَالُوا: وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ، قالُوا يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا [يوسف: 97] ، وَالصَّغِيرُ لَا ذَنْبَ لَهُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اشْتَمَلَ فِعْلُهُمْ على جرائم من قطيعة الرَّحِمِ وَعُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَقِلَّةِ الرَّأْفَةِ بِالصَّغِيرِ الَّذِي لَا ذَنْبَ لَهُ، وَالْغَدْرِ بِالْأَمَانَةِ وَتَرْكِ الْعَهْدِ وَالْكَذِبِ مَعَ أَبِيهِمْ، وَعَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ ذلك كله حتى لا ييأس أَحَدٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّهُمْ عَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ وَعَصَمَهُمُ اللَّهُ رَحْمَةً بهم، ولو فعلوا لهلكوا أجمعون، وَكُلُّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ نبأهم [5] اللَّهُ تَعَالَى.
وَسُئِلَ أَبُو عَمْرِو بن العلاء: كيف قالوا نَلْعَبُ وَهُمْ أَنْبِيَاءُ؟ قَالَ: كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَبَّأَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَمَّا أَجْمَعُوا عَلَى التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وبين والده بضروب من الحيل. قالُوا لِيَعْقُوبَ، يَا أَبانا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: تَأْمَنَّا بِلَا شمّة، [وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ نَافِعٍ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: تَأْمَنَّا بِإِشْمَامِ الضَّمَّةِ فِي النُّونِ الْأُولَى الْمُدْغَمَةِ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الضَّمَّةِ مِنْ غَيْرِ إِمْحَاضٍ لِيُعْلَمَ أَنَّ أَصْلَهُ لَا تَأْمَنُنَا بِنُونَيْنِ عَلَى تَفْعَلُنَا، فَأُدْغِمَتِ النُّونُ الأولى في الثانية] [6] ، بدؤوا بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ إِرْسَالِهِ مَعَهُمْ كَأَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّكَ لَا تُرْسِلُهُ مَعَنَا أَتَخَافُنَا عَلَيْهِ؟ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِأَبِيهِمْ: أَرْسِلْهُ مَعَنا، فَقَالَ أَبُوهُمْ: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا به، فيحنئذ قَالُوا: يَا أَبانا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ، النصح هاهنا الْقِيَامُ بِالْمَصْلَحَةِ. وَقِيلَ: الْبِرُّ وَالْعَطْفُ، [معناه: و] [7] إِنَّا عَاطِفُونَ عَلَيْهِ قَائِمُونَ بِمَصْلَحَتِهِ نحفظه حتى نردّه إليك.
__________
(1) سقط من المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «أنبأهم» .
(6) ما بين الحاصرتين زيد في المطبوع وط.
(7) زيادة عن المخطوط.(2/478)
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
[سورة يوسف (12) : الآيات 12 الى 15]
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً، إِلَى الصَّحْرَاءِ، يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ بِالنُّونِ فِيهِمَا وَجَزْمِ الْعَيْنِ في نرتع، وقرأ يعقوب: يَرْتَعْ بالنون، وَيَلْعَبْ بالياء، وَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِالْيَاءِ فِيهِمَا وجزم العين في يَرْتَعْ يعني يوسف، وقرأ الآخرون نرتع النون وَيَلْعَبْ بِالْيَاءِ، وَالرَّتْعُ هُوَ الِاتِّسَاعُ فِي الْمَلَاذِ. يُقَالُ: رَتَعَ فُلَانٌ فِي مَالِهِ إِذَا أَنْفَقَهُ فِي شهواته. [يريد ينعم ويأكل ويلهو ويبسط] [1] .
وَقَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ: يَرْتَعْ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهُوَ يَفْتَعِلُ مِنَ الرَّعْيِ، ثُمَّ ابْنُ كَثِيرٍ قَرَأَ بِالنُّونِ فِيهِمَا أَيْ:
نَتَحَارَسُ وَيَحْفَظُ بَعْضُنَا بَعْضًا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ بِالْيَاءِ إِخْبَارًا عَنْ يُوسُفَ، أَيْ: يَرْعَى الْمَاشِيَةَ كَمَا نَرْعَى نَحْنُ. وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
قالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ، أي: ذهابكم به، والحزن هاهنا: أَلَمُ الْقَلْبِ بِفِرَاقِ الْمَحْبُوبِ، وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ يَعْقُوبَ كَانَ رأى في المنام كأن [2] ذِئْبًا شَدَّ عَلَى يُوسُفَ، فَكَانَ يَخَافُ مِنْ ذَلِكَ، فَمِنْ ثَمَّ قال: [أخاف أن يأكله الذئب. قرأ ابن كثير وإسماعيل وقالون عن نافع وعاصم وابن عامر: الذِّئْبُ بالهمزة، وكذلك أبو عمرو إذا لم يدرج، وحمزة إذا لم يقف، وقرأ الكسائي وورش عن نافع، وأبو عمرو وفي الدرج، وحمزة في الوقف، الذِّئْبُ بترك الهمزة في الهمز، أنه هو الأصل لأنه من قولهم: تذابت الريح إذا جاءت من كل وجه، ويجمع الذئب أذؤبا وذئابا بالهمز، والوجه في ترك الهمز أن الهمزة خففت فقلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها] [3] .
قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ، عَشَرَةٌ، إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ، عَجَزَةٌ ضُعَفَاءُ.
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا، أَيْ: عَزَمُوا، أَنْ يَجْعَلُوهُ يلقوه، فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ، هَذِهِ الْوَاوُ زَائِدَةٌ تَقْدِيرُهُ: أَوْحَيْنَا إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ [الصَّافَّاتِ: 103- 104] ، أَيْ: نَادَيْنَاهُ، لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، أي: أَوْحَيْنَا إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَتُصَدَّقَنَّ رُؤْيَاكَ وَلَتُخْبِرَنَّ إِخْوَتَكَ بِصَنِيعِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِوَحْيِ اللَّهِ وَإِعْلَامِهِ إِيَّاهُ ذَلِكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَوْمَ تُخْبِرُهُمْ أَنَّكَ يُوسُفُ، وَذَلِكَ حِينَ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ [لَهُ] [4] مُنْكِرُونَ، وَذَكَرَ وَهْبٌ وَغَيْرُهُ أَنَّهُمْ أَخَذُوا يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِغَايَةِ الْإِكْرَامِ وَجَعَلُوا يَحْمِلُونَهُ، فَلَمَّا بَرَزُوا إِلَى الْبَرِّيَّةِ أَلْقَوْهُ [وطرحوه] [5] وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمُ اسْتَغَاثَ بِالْآخَرِ فَضَرَبَهُ الْآخَرُ، فَجَعَلَ لَا يَرَى مِنْهُمْ رَحِيمًا فَضَرَبُوهُ حَتَّى كَادُوا يَقْتُلُونَهُ وَهُوَ يَصِيحُ يَا أَبَتَاهُ لَوْ تَعْلَمُ مَا يَصْنَعُ بِابْنِكَ بَنُو الْإِمَاءِ، فَلَمَّا كَادُوا أَنْ يَقْتُلُوهُ قَالَ لَهُمْ يَهُوذَا: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتُمُونِي مَوْثِقًا أَنْ لَا تَقْتُلُوهُ، فَانْطَلَقُوا به إلى
__________
(1) ما بين المعقوفتين في المطبوع وط «يُرِيدُ وَنَتَنَعَّمُ وَنَأْكُلُ وَنَشْرَبُ وَنَلْهُو وننشط» ولو كان كعبارة المطبوع لكان الصواب في «يريد يريدون» والله أعلم.
(2) في المطبوع «أن» . [.....]
(3) زيد في المطبوع وط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.(2/479)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
الْجُبِّ لِيَطْرَحُوهُ فِيهِ، وَكَانَ ابْنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: ثماني عشرة سنة، فجاؤوا بِهِ إِلَى بِئْرٍ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ وَاسِعَةِ الْأَسْفَلِ ضَيِّقَةِ الرَّأْسِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى ثَلَاثَةِ فَرَاسِخَ مِنْ مَنْزِلِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قال كَعْبٌ: بَيْنَ مَدْيَنَ وَمِصْرَ. وَقَالَ وَهْبٌ: بِأَرْضِ الْأُرْدُنِّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ بِئْرُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَجَعَلُوا يُدْلُونَهُ فِي الْبِئْرِ فَيَتَعَلَّقُ بِشَفِيرِ الْبِئْرِ فَرَبَطُوا يَدَيْهِ وَنَزَعُوا قَمِيصَهُ فَقَالَ: يَا إِخْوَتَاهْ رُدُّوا عَلَيَّ الْقَمِيصَ أَتَوَارَى بِهِ فِي الْجُبِّ، فَقَالُوا: ادْعُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ تُوَارِيكَ، قَالَ: إِنِّي لَمْ أَرَ شَيْئًا، فَأَلْقَوْهُ فِيهَا. وَقِيلَ: جَعَلُوهُ فِي دَلْوٍ وَأَرْسَلُوهُ فِيهَا حَتَّى إِذَا بَلَغَ نِصْفَهَا أَلْقَوْهُ إِرَادَةَ أَنْ يَمُوتَ فَكَانَ فِي الْبِئْرِ مَاءٌ فَسَقَطَ فِيهِ، ثُمَّ أَوَى إِلَى صَخْرَةٍ فِيهَا فَقَامَ عَلَيْهَا. وقيل: إِنَّهُمْ لَمَّا أَلْقَوْهُ فِيهَا جَعَلَ يَبْكِي فَنَادَوْهُ فَظَنَّ أَنَّ رَحْمَةً أَدْرَكَتْهُمْ، فَأَجَابَهُمْ فَأَرَادُوا أَنْ يَرْضِخُوهُ بصخرة ليقتلوه، فَمَنَعَهُمْ يَهُوذَا وَكَانَ يَهُوذَا يَأْتِيهِ بِالطَّعَامِ، وَبَقِيَ فِيهَا ثَلَاثَ لَيَالٍ، وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا. والأكثرون عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ بِهَذَا وَبَعَثَ إِلَيْهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُؤْنِسُهُ وَيُبَشِّرُهُ بِالْخُرُوجِ، وَيُخْبِرُهُ أَنَّهُ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا فَعَلُوهُ وَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ثُمَّ إِنَّهُمْ ذَبَحُوا سَخْلَةً وَجَعَلُوا دَمَهَا عَلَى قَمِيصِ يُوسُفَ عليه السلام.
[سورة يوسف (12) : الآيات 16 الى 19]
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يَا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يَا بُشْرى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19)
وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) ، قَالَ أَهْلُ المعاني: جاؤوا فِي ظُلْمَةِ الْعِشَاءِ لِيَكُونُوا أَجْرَأَ عَلَى الِاعْتِذَارِ بِالْكَذِبِ. وَرُوِيَ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَمِعَ صِيَاحَهُمْ وَعَوِيلَهُمْ فَخَرَجَ، وَقَالَ: مَا لَكُمْ يَا بَنِيَّ هَلْ أَصَابَكُمْ فِي غَنَمِكُمْ شَيْءٌ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَمَا أَصَابَكُمْ وَأَيْنَ يُوسُفُ؟؟
قالُوا يَا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ، أَيْ: نَتَرَامَى وَنَنْتَضِلُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَشْتَدُّ عَلَى أَقْدَامِنَا.
وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا، أَيْ: عِنْدَ ثِيَابِنَا وَأَقْمِشَتِنَا. فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا، بِمُصَدِّقٍ لَنَا، وَلَوْ كُنَّا، وَإِنْ كُنَّا، صادِقِينَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالُوا لِيَعْقُوبَ أَنْتَ لَا تُصَدِّقُ الصَّادِقَ؟
قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّكَ تَتَّهِمُنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ لأنك خفتنا عليه فِي الِابْتِدَاءِ وَاتَّهَمْتَنَا فِي حَقِّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تُصَدِّقُنَا لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ [لَنَا] [1] عَلَى صِدْقِنَا وَإِنْ كُنَّا صَادِقِينَ عِنْدَ اللَّهِ.
وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ، أَيْ: بِدَمٍ [هُوَ] [2] كَذِبٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ دَمَ يُوسُفَ. وَقِيلَ: بِدَمٍ مَكْذُوبٍ فِيهِ، فَوَضَعَ الْمَصْدَرَ مَوْضِعَ الِاسْمِ. وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّهُمْ لَطَّخُوا الْقَمِيصَ بِالدَّمِ وَلَمْ يَشُقُّوهُ، فَقَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: كَيْفَ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَلَمْ يَشُقَّ قَمِيصَهُ فَاتَّهَمَهُمْ، قالَ بَلْ سَوَّلَتْ، زَيَّنَتْ، لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ، مَعْنَاهُ: فَأَمْرِي صَبْرٌ جَمِيلٌ أَوْ فِعْلِي صَبْرٌ جَمِيلٌ. وَقِيلَ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أَخْتَارُهُ. وَالصَّبْرُ الْجَمِيلُ الَّذِي لَا شَكْوَى فِيهِ وَلَا جَزَعَ. وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ، أَيْ: أَسْتَعِينُ بِاللَّهِ عَلَى الصَّبْرِ، عَلَى مَا تَكْذِبُونَ. وَفِي الْقِصَّةِ: أنّهم جاؤوا بِذِئْبٍ وَقَالُوا هَذَا الَّذِي أَكَلَهُ، فَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ: يَا ذِئْبُ أَنْتَ أَكَلْتَ وَلَدِي وَثَمَرَةَ فُؤَادِي، فَأَنْطَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: تَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ وَجْهَ ابْنِكَ قط. قال: كيف وقعت
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.(2/480)
بِأَرْضِ كَنْعَانَ؟ قَالَ: جِئْتُ لِصِلَةِ قَرَابَةٍ فَصَادَنِي هَؤُلَاءِ، فَمَكَثَ يُوسُفُ فِي الْبِئْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [1] .
وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يَا بُشْرى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ، وَهُمُ الْقَوْمُ الْمُسَافِرُونَ سُمُّوا سَيَّارَةً لِأَنَّهُمْ يَسِيرُونَ فِي الْأَرْضِ كَانَتْ رُفْقَةً مِنْ مدين تريد مصر، فأخطأوا الطَّرِيقَ فَنَزَلُوا قَرِيبًا مِنَ الْجُبِّ، وَكَانَ الْجُبُّ فِي قَفْرٍ بَعِيدٍ مِنَ الْعُمْرَانِ لِلرُّعَاةِ وَالْمَارَّةِ، وَكَانَ ماؤه ملحا فَعَذُبَ حِينَ أُلْقِيَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ، فَلَمَّا نَزَلُوا أَرْسَلُوا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَدْيَنَ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ ذُعْرٍ، لِطَلَبِ الْمَاءِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ، وَالْوَارِدُ الَّذِي يَتَقَدَّمُ الرُّفْقَةَ إِلَى الْمَاءِ فَيُهَيِّئُ الْأَرْشِيَةَ وَالدِّلَاءَ، فَأَدْلى دَلْوَهُ، أَيْ: أَرْسَلَهَا فِي الْبِئْرِ، يُقَالُ: أَدْلَيْتُ الدَّلْوَ إِذَا أَرْسَلْتُهَا فِي الْبِئْرِ، وَدَلَوْتُهَا إِذَا أَخْرَجْتَهَا، فَتَعَلَّقَ يُوسُفُ بِالْحَبْلِ فَلَمَّا خَرَجَ إِذَا هُوَ بِغُلَامٍ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ.
«1180» قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيَ يُوسُفُ شَطْرَ الْحُسْنِ» .
وَيُقَالُ: إِنَّهُ وَرِثَ ذَلِكَ الْجَمَالَ مِنْ جَدَّتِهِ سَارَةَ، وَكَانَتْ قَدْ أُعْطِيَتْ سُدُسَ الْحُسْنِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ذَهَبَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ بِثُلُثَيِ الْحَسَنِ فَلَمَّا رَآهُ مَالِكُ بْنُ ذُعْرٍ، قالَ يَا بُشْرى، قَرَأَ الْأَكْثَرُونَ هَكَذَا بالألف وفتح الياء، [والوجه أن بشراي مضافة إلى ياء المتكلّم وهو منادى مضاف فموضعه نصب، وقرأ أهل الكوفة: يبشر بغير ياء الإضافة على فعل، وأمال الراء حمزة والكسائي وفتحها عاصم والوجه في إفرادها عن ياء المتكلّم هو أن بشرى نكرة هاهنا فنادها كما تنادي النكرات نحو قولك: يا راجلا ويا راكبا إذا جعلت النداء شائعا فيكون موضعه نصبا مع التنوين إلّا أن فعلى لا سبيل إليها للتنوين، ويجوز أن تكون بشرى منادى تعرف بالقصد نحو يا رجل] [2] ، يُرِيدُ نَادَى الْمُسْتَقِي رَجُلًا مِنْ أصحابه اسمه بشراي فتكون بشرى في موضع رفع. وقيل: بَشَّرَ الْمُسْتَقِي أَصْحَابَهُ يَقُولُ: أَبْشِرُوا، هَذَا غُلامٌ، وَرَوَى ابْنُ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ جُدْرَانَ الْبِئْرِ كَانَتْ تَبْكِي عَلَى يُوسُفَ حِينَ أُخْرِجَ مِنْهَا. وَأَسَرُّوهُ، أَخْفَوْهُ، بِضاعَةً، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَسَرَّهُ مَالِكُ بْنُ ذُعْرٍ وَأَصْحَابُهُ مِنَ التُّجَّارِ الَّذِينَ معهم وقالوا هو بضاعة استبضعناها [3] بَعْضُ أَهْلِ الْمَاءِ [4] إِلَى مِصْرَ خِيفَةَ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُمْ فِيهِ الْمُشَارَكَةَ. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ أَسَرُّوا شَأْنَ يُوسُفَ وَقَالُوا هو عبد لنا أبق منّا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ، فَأَتَى يَهُوذَا يُوسُفَ بالطعام [على عادته] [5] فَلَمْ يَجِدْهُ فِي الْبِئْرِ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ إِخْوَتَهُ فَطَلَبُوهُ فَإِذَا هُمْ بمالك [بن ذعر] [6] وأصحابه نزول فَأَتَوْهُمْ فَإِذَا هُمْ بِيُوسُفَ، فَقَالُوا هَذَا عَبْدٌ آبِقٌ مِنَّا. وَيُقَالُ: إِنَّهُمْ هَدَّدُوا يُوسُفَ حَتَّى لَمْ
__________
1180- صحيح. أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 68) وأحمد (3/ 286) والحاكم (2/ 570) والواحدي في «الوسيط» (2/ 88) من طريق حماد بن سلمة ثابت عن أنس مرفوعا وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو على شرط مسلم.
وأخرجه مسلم 162 من طريق حماد بن سلمة ثابت عن أنس مرفوعا في أثناء حديث الإسراء وفيه: « ... فإذا أنا بيوسف، إذا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ ... » .
(1) هذه القصة مصدرها كتب الأقدمين.
(2) ما بين الحاصرتين زيد في المطبوع وط.
(3) في المطبوع «استبضعها» والمثبت عن المخطوط والطبري.
(4) في المخطوط «المال» والمثبت عن الطبري والمطبوع.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.(2/481)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
يَعْرِفْ حَالَهُ. وَقَالَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ، ثُمَّ بَاعُوهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وجلّ:
[سورة يوسف (12) : الآيات 20 الى 21]
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)
وَشَرَوْهُ، أَيْ: بَاعُوهُ، بِثَمَنٍ بَخْسٍ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: حَرَامٌ لِأَنَّ ثَمَنَ الْحُرِّ حَرَامٌ، وَسُمِّيَ الْحَرَامُ بَخْسًا لِأَنَّهُ مَبْخُوسُ الْبَرَكَةِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ: بَخْسٍ أَيْ زُيُوفٍ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ [1] : بِثَمَنٍ قَلِيلٍ. دَراهِمَ، بَدَلٌ مِنَ الثَّمَنِ، مَعْدُودَةٍ، ذَكَّرَ الْعَدَدَ عبارة عن قلّته [2] . وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ مَعْدُودَةً لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لَا يَزِنُونَ مَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا، إِنَّمَا كَانُوا يَعُدُّونَهَا عَدًّا فَإِذَا بَلَغَتْ أُوقِيَّةً وَزَنُوهَا. وَاخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ، فقال ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وقَتَادَةُ: عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَاقْتَسَمُوهَا دِرْهَمَيْنِ دِرْهَمَيْنِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اثْنَانِ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا. وَكانُوا، يَعْنِي: إِخْوَةَ يُوسُفَ، فِيهِ، أَيْ: فِي يُوسُفَ مِنَ الزَّاهِدِينَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوا مَنْزِلَتَهُ عِنْدَ اللَّهِ. وَقِيلَ: كَانُوا فِي الثَّمَنِ مِنَ الزَّاهِدِينَ لِأَنَّهُمْ [3] لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ تَحْصِيلُ الثَّمَنِ إِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُمْ تَبْعِيدَ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ مَالِكُ بْنُ ذُعْرٍ وَأَصْحَابُهُ بِيُوسُفَ، فَتَبِعَهُمْ إِخْوَتُهُ يَقُولُونَ: اسْتَوْثِقُوا مِنْهُ لَا يَأْبَقْ، قَالَ: فَذَهَبُوا بِهِ حَتَّى قَدِمُوا مِصْرَ، وَعَرَضَهُ مَالِكٌ عَلَى الْبَيْعِ فَاشْتَرَاهُ قِطْفِيرُ، قاله ابن عباس: وقال: إطفير صَاحِبُ أَمْرِ الْمَلِكِ، وَكَانَ عَلَى خَزَائِنِ مِصْرَ يُسَمَّى الْعَزِيزَ، وَكَانَ الْمَلِكُ يَوْمَئِذٍ بِمِصْرَ وَنَوَاحِيهَا الرَّيَّانُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ شِرْوَانَ [4] مِنَ الْعَمَالِقَةِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْمَلِكَ لَمْ يَمُتْ حَتَّى آمَنَ وَاتَّبَعَ يُوسُفَ عَلَى دِينِهِ، ثُمَّ مَاتَ وَيُوسُفُ حَيٌّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَمَّا دَخَلُوا مِصْرَ تَلَقَّى قِطْفِيرُ مَالِكَ بْنَ ذُعْرٍ فَابْتَاعَ مِنْهُ يُوسُفَ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَزَوْجِ نَعْلٍ وَثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ. وَقَالَ وَهَبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَدِمَتِ السَّيَّارَةُ بِيُوسُفَ مِصْرَ فَدَخَلُوا بِهِ السُّوقَ يَعْرِضُونَهُ لِلْبَيْعِ، فَتَرَافَعَ النَّاسُ فِي ثَمَنِهِ حَتَّى بَلَغَ ثَمَنُهُ وَزْنَهُ ذَهَبًا وَوَزْنَهُ فِضَّةً وَوَزْنَهُ مِسْكًا وَحَرِيرًا، وَكَانَ وَزْنُهُ أَرْبَعَمِائَةِ رِطْلٍ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَابْتَاعَهُ قِطْفِيرُ مِنْ مَالِكِ بْنِ ذُعْرٍ بِهَذَا الثَّمَنِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ، وَاسْمُهَا رَاعِيلُ. وَقِيلَ: زُلَيْخَا، أَكْرِمِي مَثْواهُ، أَيْ:
مَنْزِلَهُ وَمُقَامَهُ، وَالْمَثْوَى: مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ. وَقِيلَ: أَكْرِمِيهِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمُقَامِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ جُرَيْجٍ: مَنْزِلَتَهُ. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا، أَيْ: نَبِيعَهُ بِالرِّبْحِ إِنْ أَرَدْنَا الْبَيْعَ أَوْ يَكْفِيَنَا إِذَا بَلَغَ بَعْضَ أُمُورِنَا، أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً، أَيْ: نَتَبَنَّاهُ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَفْرَسُ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ: الْعَزِيزُ فِي يُوسُفَ حَيْثُ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا، وَابْنَةُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَتْ لِأَبِيهَا فِي مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، وَأَبُو بَكْرٍ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَيْثُ اسْتَخْلَفَهُ. وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ:
فِي أَرْضِ مِصْرَ، [أَيْ: كَمَا أَنْقَذْنَا يُوسُفُ مِنَ الْقَتْلِ وَأَخْرَجْنَاهُ مِنَ الْجُبِّ، كَذَلِكَ مَكَّنَا لَهُ في الأرض] [5]
__________
(1) تصحف في المخطوط «السدي» .
(2) في المطبوع «قلتها» . [.....]
(3) في المخطوط «لأنه» .
(4) في المخطوط «نزوان» .
(5) سقط من المخطوط.(2/482)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
فَجَعَلْنَاهُ عَلَى خَزَائِنِهَا. وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، أَيْ: مَكَّنَّا لَهُ في الأرض لكي نعلمه تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الرُّؤْيَا. وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ، قِيلَ: الْهَاءُ فِي أَمْرِهِ كِنَايَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ ولا يردّ عليه حُكْمَهُ [1] رَادٌّ. وَقِيلَ: هِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّهَ مُسْتَوْلٍ عَلَى أَمْرِ يُوسُفَ بِالتَّدْبِيرِ وَالْحِيَاطَةِ لَا يَكِلُهُ إلى أحد حتى يبلغه مُنْتَهَى عِلْمِهِ فِيهِ. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، مَا اللَّهُ به صانع.
[سورة يوسف (12) : الآيات 22 الى 23]
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ، مُنْتَهَى شَبَابِهِ وشدّته وقوّته ومعرفته. قَالَ مُجَاهِدٌ: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ: ثَلَاثِينَ سَنَةً. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عِشْرِينَ سَنَةً. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْأَشَدُّ مَا بَيْنَ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً إِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً. وَسُئِلَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنِ الْأَشُدِّ قَالَ: هُوَ الْحُلُمُ. آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً، فَالْحُكْمُ النُّبُوَّةُ وَالْعِلْمُ الْفِقْهُ فِي الدِّينِ. وَقِيلَ: حَكَمًا يَعْنِي إِصَابَةً فِي الْقَوْلِ، وَعِلْمًا بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا. وَقِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَكِيمِ وَالْعَالِمِ، أَنَّ الْعَالِمَ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ وَالْحَكِيمَ الَّذِي يَعْمَلُ بِمَا يُوجِبُهُ الْعِلْمُ، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْمُؤْمِنِينَ، وَعَنْهُ أَيْضًا: الْمُهْتَدِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الصَّابِرِينَ عَلَى النَّوَائِبِ كَمَا صَبَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ، يَعْنِي: امْرَأَةَ الْعَزِيزِ. وَالْمُرَاوَدَةُ: طَلَبُ الْفِعْلِ، وَالْمُرَادُ هاهنا أَنَّهَا دَعَتْهُ إِلَى نَفْسِهَا لِيُوَاقِعَهَا، وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ، أَيْ: أَطْبَقَتْهَا وَكَانَتْ سَبْعَةً، وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ، أَيْ: هلمّ وأقبل، قرأ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ: هَيْتَ لَكَ بفتح الهاء والتاء جميعا، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ: «هِيتَ» بِكَسْرِ الْهَاءِ وَفَتْحِ التَّاءِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: «هَيْتُ» بِفَتْحِ الْهَاءِ وضمّ التاء، [والوجه أن في هذه الكلمة ثلاث لغات هيت وهيت وهيت والكل بمعنى هلمّ] [2] ، وقرأ السلمي وقتادة: هيئت لَكَ بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ التَّاءِ مهموزا على مثال جئت، يَعْنِي: تَهَيَّأْتُ لَكَ، وَأَنْكَرَهُ أَبُو عمرو [و] [3] الكسائي، وَقَالَا: لَمْ يُحْكَ هَذَا عَنِ الْعَرَبِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَرَبِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَقْرَأَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَيْتَ لَكَ [4] : قال أبو عبيد [5] : كَانَ الْكِسَائِيُّ يَقُولُ: هِيَ لُغَةٌ لأهل حوران وقعت إلى الحجاز معناها: تَعَالَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هِيَ أَيْضًا بِالْحَوْرَانِيَّةِ هَلُمَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: هِيَ لُغَةٌ عَرَبِيَّةٌ وَهِيَ كَلِمَةُ حَثٍّ وَإِقْبَالٍ عَلَى الشَّيْءِ. قَالَ أبو عبيد: إِنَّ الْعَرَبَ لَا تُثَنِّي هَيْتَ ولا تجمع و [لا] [6] تُؤَنِّثُ وَإِنَّهَا بِصُورَةٍ وَاحِدَةٍ فِي كُلِّ حَالٍ. قالَ يُوسُفَ لَهَا عِنْدَ ذَلِكَ: مَعاذَ اللَّهِ، أَيْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ وَأَعْتَصِمُ بِاللَّهِ مِمَّا دَعَوْتِنِي إِلَيْهِ، إِنَّهُ رَبِّي، يُرِيدُ أَنَّ زَوْجَكِ قِطْفِيرَ سَيِّدِي أَحْسَنَ مَثْوايَ، أَيْ: أَكْرَمَ مَنْزِلِي هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يُرِيدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ، أَيْ آوَانِي وَمِنْ بَلَاءِ الْجُبِّ عَافَانِي. إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ، يَعْنِي: إِنْ فَعَلْتُ هَذَا فَخُنْتُهُ فِي أَهْلِهِ بَعْدَ مَا أكرم مثواي فأنا ظالم
__________
(1) في المطبوع «عليه حكم» بدل «حكمه» .
(2) زيد في المطبوع.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) أخرجه البخاري 4692 والطبري 19008 عن ابن مسعود قال: «هيت لك إنما نقرؤها كما علمنا» وهذا له حكم الرفع.
(5) في النسخ والمخطوط «عبيدة» والمثبت عن الطبري و «الدر المنثور» .
(6) سقط من المطبوع.(2/483)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
وَلَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَقِيلَ: لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أَيْ لَا يَسْعَدُ الزناة.
[سورة يوسف (12) : آية 24]
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها، وَالْهَمُّ هُوَ المقاربة من الشيء [1] مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ فِيهِ، فَهَمُّهَا: عَزْمُهَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَالزِّنَا، وَأَمَّا هَمُّهُ: فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: حَلَّ الْهِمْيَانَ وَجَلَسَ مِنْهَا مَجْلِسَ الخاتن [2] . وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حَلَّ سَرَاوِيلَهُ وَجَعَلَ يُعَالِجُ ثِيَابَهُ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِثْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: جَرَى الشَّيْطَانُ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ إِلَى جِيدِ يُوسُفَ وَبِالْيَدِ الْأُخْرَى إِلَى جِيدِ الْمَرْأَةِ حَتَّى جَمَعَ بَيْنَهُمَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القاسم بن سلّام: قد أَنْكَرَ قَوْمٌ هَذَا الْقَوْلَ [3]
، وَالْقَوْلُ مَا قَالَ مُتَقَدِّمُو هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِاللَّهِ أَنْ يقولوا في الأنبياء مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ [4] . وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَرَادَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ مُرَاوَدَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ نَفْسِهِ جَعَلَتْ تَذْكُرُ لَهُ مَحَاسِنَ نَفْسِهِ وَتُشَوِّقُهُ إِلَى نَفْسِهَا، فَقَالَتْ: يَا يُوسُفُ مَا أَحْسَنَ شَعْرَكَ، قَالَ: هُوَ أَوَّلُ مَا ينثر مِنْ جَسَدِي، قَالَتْ: مَا أَحْسَنَ عَيْنَيْكَ، قَالَ: هِيَ أَوَّلُ مَا تَسِيلُ عَلَى وَجْهِي فِي قَبْرِي، قَالَتْ: مَا أَحْسَنَ وَجْهَكَ، قَالَ: هُوَ لِلتُّرَابِ يَأْكُلُهُ، وَقِيلَ: إِنَّهَا قَالَتْ إِنَّ فَرَاشَ الْحَرِيرِ مَبْسُوطٌ فَقُمْ فَاقْضِ حَاجَتِي، قَالَ: إذًا يَذْهَبُ نَصِيبِي مِنَ الْجَنَّةِ، فَلَمْ تَزَلْ تُطْمِعُهُ وَتَدْعُوهُ إِلَى اللَّذَّةِ وَهُوَ شَابٌّ يَجِدُ مِنْ شَبَقِ الشَّبَابِ مَا يَجِدُهُ الرَّجُلُ، وَهِيَ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ جَمِيلَةٌ حَتَّى لَانَ [5] لَهَا مِمَّا يَرَى مِنْ كَلَفِهَا به، وَهَمَّ بِهَا ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَدَارَكَ عَبْدَهُ وَنَبِيَّهُ بِالْبُرْهَانِ الَّذِي ذَكَرَهُ [6] وَزَعْمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّ هَذَا لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَقَالَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ، [عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، أَيْ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ] [7] لَهَمَّ بِهَا، وَلَكِنَّهُ رَأَى الْبُرْهَانَ فَلَمْ يَهُمَّ، وأنكره النحاة [8] ،
__________
(1) في المطبوع «الفعل» .
(2) تصحف في المطبوع «الخائن» .
(3) زيد في المطبوع «وقالوا هَذَا لَا يَلِيقُ بِحَالِ الْأَنْبِيَاءِ» .
(4) كذا قال أبو عبيد رحمه الله، وفيما قاله نظر، فقد ثبت عن ابن عباس وابن عمرو بن العاص الأخذ عن الإسرائيليات، والرواية عنهم، وعامة من تكلم في ذلك من السلف إنما هم من تلامذة ابن عباس، وهذا وأمثاله من الإسرائيليات الباطلة، وهي كذب وزور وبهتان من الإسرائيليين على أنبياء الله، وليس هذا بأول طعن لهم في نبي من أنبياء الله، بل طعنوا في داود وفي سليمان وفي موسى نفسه كما ذكر الله بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا ... والذي لابن عباس وغيره الكلام في ذلك هو الحديث المتفق عليه «حدثوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ» وفي رواية «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تكذبوهم ... » فالأول يحمل على الثاني، فلا يلزم تصديقهم إن تكلموا بما يوافق القرآن وشريعتنا تصديقهم ولا تكذيبهم، وأما إن تكلموا بما يخالف الدين الحنيف أو بما فيه الطعن والنيل من أنبياء الله تعالى، أو ما فيه مجازفات وحماقات كقصة عوج بن عنق وأمثال ذلك، فهذا نرده بلا ريب ومن دون توقف، ونقول: إن كان علماء الحديث حكموا بضعف ما يحدث به الزهري والحسن وغيرهما عند سقوط الصحابي وهذان من الأئمة الأعلام، فكيف بمراسيل بني إسرائيل الأفاكين الكذابين، وهي سلسلة ربما تبلغ مئات الرجال أو الآلاف، وفيهم الزنادقة والملاحدة وغير ذلك، فحذار حذار أن يقبل المسلم مثل هذا الخبر ونحوه، والله الموفق.
(5) تصحف في المطبوع «لأن» . [.....]
(6) هذا الأثر متلقى عن الإسرائيليات.
(7) زيد في المطبوع وط.
(8) ليس جميعهم بل ذهب جماعة من أهل الكوفة إلى جواز ذلك، ووافقهم من البصريين أبو العباس المبرد وأبو زيد الأنصاري.(2/484)
وَقَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ لَا تُؤَخِّرُ لَوْلَا عَنِ الْفِعْلِ، فَلَا تَقُولُ: لَقَدْ قُمْتُ لَوْلَا زَيْدٌ، وَهُوَ يُرِيدُ لَوْلَا زَيْدٌ لَقُمْتُ.
وَقِيلَ: هَمَّتْ بِيُوسُفَ أَنْ يَفْتَرِشَهَا، وَهَمَّ بِهَا يُوسُفُ أَيْ: تَمَنَّى أَنْ تَكُونَ لَهُ زَوْجَةً. وَهَذَا التَّأْوِيلُ وَأَمْثَالُهُ غَيْرُ مُرْضِيَةٍ لِمُخَالَفَتِهَا أَقَاوِيلَ القدماء من العلماء الذين أخذ عَنْهُمُ الدِّينُ وَالْعِلْمُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْقَدْرَ الَّذِي فَعَلَهُ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَالصَّغَائِرُ تَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السّلام. وروي إِنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمَا دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ حِينَ خَرَجَ مِنَ السِّجْنِ وَأَقَرَّتِ الْمَرْأَةُ، قَالَ يُوسُفُ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف: 52] ، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: وَلَا حِينَ هَمَمْتَ بِهَا يَا يُوسُفُ؟ فَقَالَ يُوسُفُ عِنْدَ ذَلِكَ:
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي [يوسف: 53] [1] . وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَذْكُرْ ذُنُوبَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ لِيُعَيِّرَهُمْ، وَلَكِنْ ذَكَرَهَا لِيُبَيِّنَ مَوْضِعَ النِّعْمَةِ عليهم، ولئلا ييأس أَحَدٌ مِنْ رَحْمَتِهِ. وَقِيلَ:
إِنَّهُ ابْتَلَاهُمْ بِالذُّنُوبِ لِيَتَفَرَّدَ بِالطَّهَارَةِ وَالْعِزَّةِ، وَيَلْقَاهُ جَمِيعُ الْخُلْقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى انْكِسَارِ الْمَعْصِيَةِ. وَقِيلَ:
لِيَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً لِأَهْلِ الذُّنُوبِ فِي رَجَاءِ الرَّحْمَةِ وَتَرْكِ الْإِيَاسِ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَقَائِقِ:
الْهَمُّ هَمَّانِ، هَمُّ ثَابِتٌ وَهُوَ إِذَا كَانَ مَعَهُ عَزْمٌ وَعَقْدٌ ورضى، مِثْلُ هَمِّ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، وَالْعَبْدُ مَأْخُوذٌ بِهِ، وَهَمٌّ عَارِضٌ وَهُوَ الْخَطْرَةُ وَحَدِيثُ النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ وَلَا عَزْمٍ، مِثْلُ هَمِّ يوسف عليه السلام، والعبد غير مؤاخذ [2] بِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَوْ يَعْمَلْ.
«1181» أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّشٌ الزِّيَادِيُّ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثَنَا مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِذَا تَحَدَّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَإِذَا تَحَدَّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سيّئة فأنا أغفرها مَا لَمْ يَعْمَلْهَا، فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا» .
قَوْلُهُ عزّ وجلّ: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ، اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الْبُرْهَانِ، قَالَ قَتَادَةُ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ:
إِنَّهُ رَأَى صُورَةَ يَعْقُوبَ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: يَا يُوسُفُ تَعْمَلُ عَمَلَ السُّفَهَاءِ وَأَنْتَ مكتوب في الأنبياء. وقال
__________
1181- إسناده صحيح. أحمد بن يوسف روى له مسلم، ومن دونه توبعوا، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
عبد الرزاق هو ابن همام، معمر هو ابن راشد، همام هو ابن منبه.
وهو في «شرح السنة» 4043 بهذا الإسناد، وفي «مصنف عبد الرزاق» 20557 عن معمر به بنحوه.
وأخرجه مسلم 129 وأحمد (2/ 315) وابن حبان 379 من طريق عبد الرزاق به.
وأخرجه البخاري 7501 ومسلم 128 والترمذي 3073 وأحمد (2/ 242) وابن مندة 375 وابن حبان 380 و381 ومن طرق عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عن أبي هريرة مرفوعا بنحوه.
وأخرجه مسلم 128 ح 204 وابن مندة في «الإيمان» 377 وابن حبان 383 من طريق الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أبيه عن أبي هريرة به.
وغيرهما. ثم هناك تخريج آخر، وهو أن جواب لولا وإن لم يتقدم، لكن ما ذكر قبل لولا يكون دالا عليه فتنبه، والله الموفق.
(1) هذا الأثر من الإسرائيليات، وهو من بدع التأويل، والراجح أن الكلام المتقدم أنما هو من كلام امرأة العزيز. فتدبر، والله أعلم.
(2) في المطبوع «مأخوذ» .(2/485)
الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: انْفَرَجَ لَهُ سَقْفُ الْبَيْتِ فَرَأَى يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَاضًّا عَلَى أُصْبُعِهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مُثِّلَ لَهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِهِ فَخَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَنَامِلِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نُودِيَ يَا يُوسُفُ تُوَاقِعُهَا إِنَّمَا مَثَلُكَ مَا لَمْ تُوَاقِعْهَا مَثَلُ الطَّيْرِ فِي جو [1] السَّمَاءِ لَا يُطَاقُ وَمَثَلُكَ إِنْ واقعتها [2] مَثَلُهُ إِذَا مَاتَ وَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَ [عن] نفسه [شيئا] [3] ، وَمَثَلُكَ مَا لَمْ تُوَاقِعْهَا مَثَلُ الثَّوْرِ الصَّعْبِ الَّذِي لَا يُطَاقُ وَمَثَلُكَ إِنْ وَاقَعْتَهَا مَثَلُ الثَّوْرِ يَمُوتُ فَيَدْخُلُ النَّمْلُ فِي أَصْلِ قَرْنَيْهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْفَعَهُ عن نفسه.
عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: وَهَمَّ بِها، قَالَ: حَلَّ سَرَاوِيلَهُ وَقَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنَ امْرَأَتِهِ فَإِذَا بِكَفٍّ قَدْ بَدَتْ بَيْنَهُمَا بِلَا مِعْصَمٍ وَلَا عَضُدٍ مَكْتُوبٍ عَلَيْهَا: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) [الِانْفِطَارِ: 10- 12] ، فَقَامَ هَارِبًا وَقَامَتْ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُمَا الرُّعْبُ عَادَتْ وَعَادَ فَظَهَرَتْ تِلْكَ الْكَفُّ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا (32) [الْإِسْرَاءِ: 32] ، فَقَامَ هَارِبًا وَقَامَتْ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُمَا الرُّعْبُ عَادَتْ وَعَادَ، فظهر فرأى تِلْكَ الْكَفَّ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: 281] ، فَقَامَ هَارِبًا وَقَامَتْ، فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْهُمَا الرُّعْبُ عَادَتْ وَعَادَ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَدْرِكْ عَبْدِي قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ الْخَطِيئَةَ، فَانْحَطَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَاضًّا عَلَى أُصْبُعِهِ، يَقُولُ: يَا يُوسُفُ تَعْمَلُ عَمَلَ السُّفَهَاءِ وَأَنْتَ مَكْتُوبٌ عِنْدَ اللَّهِ في [ديوان] [4] الْأَنْبِيَاءِ [5] . وَرُوِيَ أَنَّهُ مَسَحَهُ بِجَنَاحِهِ فَخَرَجَتْ شَهْوَتُهُ مِنْ أَنَامِلِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعَّبٍ الْقُرَظِيُّ: رَفَعَ يُوسُفُ رَأْسَهُ إِلَى سَقْفِ الْبَيْتِ حين همّ بها فرأى مكتوبا [6] في حائط البيت: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا (32) [الإسراء: 32] ، وَرَوَى عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي الْبُرْهَانِ أَنَّهُ رَأَى مِثَالَ الْمَلِكِ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الْبُرْهَانُ النُّبُوَّةُ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي صَدْرِهِ حَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُسْخِطُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ.
وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: كَانَ فِي الْبَيْتِ صَنَمٌ فَقَامَتِ الْمَرْأَةُ وَسَتَرَتْهُ بِثَوْبٍ، فَقَالَ لَهَا يُوسُفُ: لِمَ فَعَلْتِ هَذَا؟ فَقَالَتِ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ أَنْ يَرَانِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَقَالَ يُوسُفُ: أَتَسْتَحِينَ مِمَّا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَفْقَهُ؟ فَأَنَا أَحَقُّ أَنْ أَسْتَحِيَ مِنْ ربّي [الذي هو يسمع ويبصر ويفقه ثم تولّى عنها] [7] هاربا. قوله عزّ وجلّ: لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ، جَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَوَاقَعَ الْمَعْصِيَةَ.
كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ، فَالسُّوءُ الْإِثْمُ. وَقِيلَ: السُّوءُ الْقَبِيحُ وَالْفَحْشَاءُ: الزِّنَا. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ: الْمُخْلَصِينَ بِفَتْحِ اللَّامِ حَيْثُ كَانَ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَعْدَهُ ذِكْرُ الدِّينِ، زَادَ الْكُوفِيُّونَ مُخْلَصاً فِي سورة مريم [51] عليها السلام فَفَتَحُوا. وَمَعْنَى الْمُخْلَصِينَ الْمُخْتَارِينَ لِلنُّبُوَّةِ. دليله: إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) [ص: 46] ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ اللَّامِ، أي: المخلصين لله بالطاعة والعبادة
__________
(1) في المطبوع «جوف» .
(2) في المطبوع «تواقعه» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) الآثار الواردة في همّ يوسف مصدرها الإسرائيليات، لا حجة في شيء من ذلك.
(6) في المطبوع وط «كتابا» .
(7) زيادة عن المخطوط. [.....](2/486)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
[سورة يوسف (12) : الآيات 25 الى 26]
وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26)
وَاسْتَبَقَا الْبابَ، وَذَلِكَ أن يوسف [عليه الصّلاة والسّلام] [1] لَمَّا رَأَى الْبُرْهَانَ قَامَ مُبَادِرًا إِلَى بَابِ الْبَيْتِ هَارِبًا وَتَبِعَتْهُ الْمَرْأَةُ لِتَمْسِكَ الْبَابَ حَتَّى لَا يَخْرُجَ يُوسُفُ، فَسَبَقَ يُوسُفُ وَأَدْرَكَتْهُ الْمَرْأَةُ فَتَعَلَّقَتْ بِقَمِيصِهِ [مِنْ] [2] خَلْفِهِ فَجَذَبَتْهُ إِلَيْهَا حَتَّى لَا يَخْرُجَ. وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ، أَيْ: فَشَقَّتْهُ مِنْ دُبُرٍ، أَيْ: مِنْ خَلْفٍ، فَلَمَّا خَرَجَا لَقِيَا الْعَزِيزَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ، وَجَدَا زَوْجَ الْمَرْأَةِ قِطْفِيرَ عِنْدَ الْبَابِ جَالِسًا مَعَ ابْنِ عَمٍّ راعيل فلما رأته هابته وقالَتْ سَابِقَةً بِالْقَوْلِ لِزَوْجِهَا: مَا جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً، يَعْنِي: الزِّنَا، ثُمَّ خَافَتْ عَلَيْهِ أَنْ يقتله [ولم تبلغ منه مأربا] [3] ، فَقَالَتْ: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ، أَيْ: يُحْبَسَ، أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ، أَيْ: ضَرْبٌ بِالسِّيَاطِ، فَلَمَّا سَمِعَ يُوسُفُ مَقَالَتَهَا.
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي، يَعْنِي: طَلَبَتْ مِنِّي الْفَاحِشَةَ فأبيت وفررت منها. قيل: مَا كَانَ يُرِيدُ يُوسُفُ أَنْ يَذْكُرَهُ [4] ، فَلَمَّا قَالَتِ الْمَرْأَةُ «مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا» ذَكَرَهُ، فَقَالَ: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي. وَشَهِدَ شاهِدٌ، وَحَكَمَ حَاكِمٌ، مِنْ أَهْلِها، اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ الشَّاهِدِ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: كَانَ صَبِيًّا فِي الْمَهْدِ أَنْطَقَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
«1182» وَهُوَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: «تكلّم في المهد أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ، ابْنُ مَاشِطَةِ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ» .
وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ الصَّبِيُّ ابْنَ خَالِ الْمَرْأَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: لَمْ يَكُنْ صبيا ولكنه
__________
1182- إسناده ضعيف، وذكر شاهد يوسف باطل.
أخرجه الطبري 19118 عن ابن عباس مرفوعا، وإسناده ضعيف، فيه عطاء بن السائب، وهو صدوق إلا أنه اختلط، وقد اضطرب فيه فرواه موقوفا على ابن عباس أخرجه الطبري 19108 و19109 وسكت عليه الحافظ في «تخريج الكشاف» (2/ 459) وهو ضعيف.
وأخرج أحمد (1/ 301) وأبو يعلى 2517 والطبراني 12280 وابن حبان 2904 والبيهقي في «الدلائل» (2/ 389) عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عباس حديثا مرفوعا وفي آخره ... قال ابن عباس: «أربعة تكلموا وهم صغار....» فهو موقوف كما ترى وهو الصواب.
وقد اضطرب ابن السائب فرواه تارة مرفوعا، وتارة موقوفا، والموقوف أصح، وهو غير قوي مع وقفه لأن مداره على ابن السائب، وقد اختلط، والصواب أن شاهد يوسف كان كبيرا بل كان مستشارا للعزيز وقاضيا.
ويؤيد ما قلت ما رواه البخاري 3436 ومسلم 2550 وأحمد (2/ 307) وغيرهم من حديث أبي هريرة: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثلاثة: عيسى ابن مريم وصاحب جريج والطفل الرضيع» وقصته معروفة، وبهذا يتبين أن ذكر شاهد يوسف في الذين تكلموا في المهد تفرد به ابن السائب، ولا يتابع عليه بل خولف، والظاهر أنه متلقى عن أهل الكتاب، والله أعلم.
وانظر «فتح القدير» للشوكاني 1266 و «الكشاف» 541 وكلاهما بتخريجي.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «يذكرها» .(2/487)
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
كَانَ رَجُلًا حَكِيمًا ذَا رَأْيٍ. قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ ابْنُ عَمِّ رَاعِيلَ فَحَكَمَ فَقَالَ: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ، أَيْ: مِنْ قُدَّامٍ، فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ.
[سورة يوسف (12) : الآيات 27 الى 30]
وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)
وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) .
فَلَمَّا رَأى، قِطْفِيرُ، قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ، عَرَفَ خِيَانَةَ امْرَأَتِهِ وَبَرَاءَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قالَ لها: إِنَّهُ، أي: هَذَا الصَّنِيعَ، مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ، وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الشَّاهِدِ، ثُمَّ أَقْبَلُ قِطْفِيرُ عَلَى يُوسُفَ.
فَقَالَ: يُوسُفُ، أَيْ: يَا يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا، أَيْ: عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَلَا تَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ حَتَّى لَا يَشِيعَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا تَكْتَرِثْ به فَقَدْ بَانَ عُذْرُكَ وَبَرَاءَتُكَ، ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ، أَيْ: تُوبِي إِلَى اللَّهِ، إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ، من المذنبين. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الشاهد ليوسف ولراعيل، أراد بِقَوْلِهِ: وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ، أَيْ: سَلِي زَوْجَكِ أَنْ لَا يُعَاقِبَكِ وَيَصْفَحَ عَنْكِ، إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ، مِنَ الْمُذْنِبِينَ حَتَّى رَاوَدْتِ شَابًّا عَنْ نَفْسِهِ وَخُنْتِ زَوْجَكِ، فَلَمَّا اسْتَعْصَمَ كَذَبْتِ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا قَالَ مِنَ الْخَاطِئِينَ وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْخَاطِئَاتِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْخَبَرَ عَنِ النِّسَاءِ بَلْ قَصْدَ بِهِ الْخَبَرَ عَمَّنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، تَقْدِيرُهُ: مِنَ الْقَوْمِ الْخَاطِئِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التَّحْرِيمِ: 12] ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ [النمل: 43] .
قوله عزّ وجلّ: وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ الْآيَةَ، يَقُولُ: شَاعَ أَمْرُ يُوسُفَ وَالْمَرْأَةِ فِي الْمَدِينَةِ مَدِينَةِ مِصْرَ. وَقِيلَ: مدينة عين شمس، وَتَحَدَّثَ [1] النِّسَاءُ بِذَلِكَ وَقُلْنَ وَهُنَّ خَمْسُ نِسْوَةٍ، امْرَأَةُ حَاجِبِ الْمَلِكِ، وَامْرَأَةُ صَاحِبِ الدَّوَابِّ، وَامْرَأَةُ الْخَبَّازِ، وَامْرَأَةُ السَّاقِي، وَامْرَأَةُ صَاحِبِ السَّجْنِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: هُنَّ نِسْوَةٌ من أشراف مصر، امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها
، أَيْ: عَبْدَهَا الْكَنْعَانِيَّ، عَنْ نَفْسِهِ، أَيْ: تَطْلُبُ مِنْ عَبْدِهَا الْفَاحِشَةَ، قَدْ شَغَفَها حُبًّا، أَيْ: عَلِقَهَا حُبًّا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: حَجَبَ حُبُّهُ قَلْبَهَا حَتَّى لَا تَعْقِلَ سِوَاهُ. وَقِيلَ: أَحَبَّتْهُ حَتَّى دَخَلَ [2] حُبُّهُ شَغَافَ قَلْبِهَا، أَيْ: دَاخِلَ قَلْبِهَا. قَالَ السُّدِّيُّ: الشَّغَافُ جِلْدَةٌ رَقِيقَةٌ عَلَى الْقَلْبِ، يَقُولُ دَخَلَ الْحُبُّ الْجِلْدَ حَتَّى أَصَابَ الْقَلْبَ. وَقَرَأَ الشَّعْبِيُّ وَالْأَعْرَجُ: شَعَفَهَا بِالْعَيْنِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ، مَعْنَاهُ: ذَهَبَ الْحُبُّ بِهَا كُلَّ مَذْهَبٍ، ومنه شعف الجبال وهو رؤوسها. إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، أَيْ: خَطَإٍ ظَاهِرٍ. وَقِيلَ: [مَعْنَاهُ] [3] إنها تركت ما يكون على أمثالها من العفاف والستر.
[سورة يوسف (12) : آية 31]
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
فَلَمَّا سَمِعَتْ، رَاعِيلُ، بِمَكْرِهِنَّ، بِقَوْلِهِنَّ وحديثهن، قال قتادة والسدي. وقال ابن إسحاق:
__________
(1) في المطبوع «وتحدثت» .
(2) في المطبوع «دخلها» .
(3) زيادة عن المخطوط.(2/488)
إِنَّمَا قُلْنَ ذَلِكَ مَكْرًا بِهَا لتريهن يوسف [الذي سلبها العقل] [1] ، وكان وصف لَهُنَّ حُسْنُهُ وَجَمَالُهُ. وَقِيلَ:
إِنَّهَا أفشت لهن [سَرَّهَا وَاسْتَكْتَمَتْهُنَّ فَأَفْشَيْنَ] [2] ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ مَكْرًا. أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ، قَالَ وهب:
اتّخذت [راعيل] [3] مَأْدُبَةً وَدَعَتْ أَرْبَعِينَ امْرَأَةً مِنْهُنَّ هَؤُلَاءِ اللَّاتِي عَيَّرْنَهَا. وَأَعْتَدَتْ، أَيْ: أَعَدَّتْ، لَهُنَّ مُتَّكَأً، أَيْ: مَا يُتَّكَأُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: مُتَّكَأً أَيْ: طَعَامًا سَمَّاهُ مُتَّكَأً لِأَنَّ أَهْلَ الطَّعَامِ إِذَا جَلَسُوا يَتَّكِئُونَ عَلَى الْوَسَائِدِ، فَسَمَّى الطَّعَامَ مُتَّكَأً عَلَى الِاسْتِعَارَةِ. يُقَالُ:
اتَّكَأْنَا عِنْدَ فُلَانٍ، أَيْ: طَعِمْنَا. وَيُقَالُ: الْمُتَّكَأُ مَا اتَّكَأْتَ عَلَيْهِ للشراب أَوِ الْحَدِيثِ أَوِ الطَّعَامِ، وَيُقْرَأُ فِي الشَّوَاذِّ «مَتْكَأً» بِسُكُونِ التَّاءِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ ابْنُ عباس: هو الأترج. وقد روي عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلُهُ. وَقِيلَ: هُوَ الْأُتْرُجُّ بِالْحَبَشَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الزماورد [4] . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ كُلُّ شَيْءٍ يُقْطَعُ بِالسِّكِّينِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ: كُلُّ مَا يُجَزُّ بِالسِّكِّينِ فَهُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ مُتْكٌ، وَالْمُتْكُ وَالْبُتْكُ بِالْمِيمِ وَالْبَاءِ: الْقَطْعُ، فَزَيَّنَتْ الْمَأْدُبَةَ بِأَلْوَانِ الْفَوَاكِهِ وَالْأَطْعِمَةِ، وَوَضَعَتِ الوسائد ودعت النّسوة. وَآتَتْ، أعطت، كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً، فَكُنَّ يَأْكُلْنَ اللَّحْمَ حَزَّا [5] بِالسِّكِّينِ. وَقالَتِ لِيُوسُفَ: اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ، وَذَلِكَ أَنَّهَا كانت أجلسته في مكان آخَرَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِنَّ يُوسُفُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ فَضْلُ يُوسُفَ عَلَى سائر النَّاسِ فِي الْحُسْنِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ النُّجُومِ.
«1183» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأَيْتُ لَيْلَةَ أسري بي إلى السماء [فإذا] يُوسُفَ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» .
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي فَرْوَةَ: كَانَ يُوسُفُ إِذَا سَارَ فِي أَزِقَّةِ مصر يرى تلألأ وَجْهِهِ عَلَى الْجُدْرَانِ. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ، أَعْظَمْنَهُ، قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هَالَهُنَّ أَمْرُهُ وَبُهِتْنَ. وَقِيلَ: أَكْبَرْنَهُ أَيْ: حِضْنَ لِأَجْلِهِ مِنْ جَمَالِهِ.
وَلَا يَصِحُّ. وَقَطَّعْنَ، أَيْ: حَزَّزْنَ بِالسَّكَاكِينِ الَّتِي مَعَهُنَّ، أَيْدِيَهُنَّ، وَهُنَّ يَحْسَبْنَ أَنَّهُنَّ يَقْطَعْنَ الْأُتْرُجَّ، وَلَمْ يَجِدْنَ الْأَلَمَ لِشُغْلِ قُلُوبِهِنَّ بِيُوسُفَ. قال مجاهد: فما أحسن إلا بالدم. وقال قتادة: إنهنّ أَبَنَّ أَيْدِيَهُنَّ حَتَّى أَلْقَيْنَهَا. وَالْأَصَحُّ [أنه] [6] كَانَ قَطْعًا بِلَا إِبَانَةٍ، وَقَالَ وَهْبٌ: مَاتَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُنَّ. وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً، أَيْ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ هذا بشرا، قرأ أبو عمر: [حاشى بإتيان الْيَاءِ] [7] فِي الْوَصْلِ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِحَذْفِ الْيَاءِ [8] لِكَثْرَةِ دورها [9] على الألسن وإتباع الكذب. وَقَوْلُهُ: مَا هَذَا بَشَراً، نُصِبَ بنزع حرف الصفة، أي: بِبَشَرٍ، إِنْ هَذَا، أَيْ: مَا هَذَا، إِلَّا مَلَكٌ، مِنَ الْمَلَائِكَةِ،
__________
1183- ضعيف. أخرجه الطبري 22021 من حديث أبي هريرة في أثناء خبر مطوّل وفيه أبو جعفر الرازي، والجمهور على ضعفه.
وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه أيضا الطبري 22023 في أثناء خبر مطوّل، وفيه أبو هارون العبدي اسمه عمارة بن حوين، وهو ضعيف، وقد صح وصف يوسف بأنه أعطي شطر الحسن كما تقدم برقم: 1180 وليس فيه تشبيهه بالقمر.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط وط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع وط، «الرّباورد» .
(5) في المخطوط «جزا» . [.....]
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) في المطبوع «الألف» .
(9) كذا في المخطوط والمطبوع، وفي ط «ورودها» .(2/489)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
كَرِيمٌ، على الله.
[سورة يوسف (12) : الآيات 32 الى 35]
قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
قالَتْ، يَعْنِي: رَاعِيلَ، فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ، أَيْ: فِي حُبِّهِ، ثُمَّ صَرَّحَتْ بِمَا فَعَلَتْ، فَقَالَتْ: وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ، أي: امتنع، وَإِنَّمَا صَرَّحَتْ بِهِ لِأَنَّهَا عَلِمَتْ أن لَا مَلَامَةَ عَلَيْهَا مِنْهُنَّ وَقَدْ أصابهنّ ما أصابهن [1] مِنْ رُؤْيَتِهِ، فَقُلْنَ لَهُ: أَطِعْ مَوْلَاتَكَ. فَقَالَتْ رَاعِيلُ: وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ، وَلَئِنْ لَمْ يُطَاوِعْنِي فِيمَا دَعَوْتُهُ إِلَيْهِ، لَيُسْجَنَنَّ، أي: ليعاقبن بالحبس، وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ، مِنَ الْأَذِلَّاءِ. وَنُونُ التوكيد تثقل وتخفّف. فالوقف عَلَى قَوْلِهِ: لَيُسْجَنَنَّ، بِالنُّونِ لِأَنَّهَا مُشَدَّدَةٌ، وَعَلَى قَوْلِهِ: وَلَيَكُوناً بِالْأَلْفِ لِأَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ، وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِنُونِ [2] الْإِعْرَابِ فِي الْأَسْمَاءِ كَقَوْلِهِ:
رَأَيْتُ رَجُلًا، وَإِذَا وَقَفْتَ [قَلْتَ] [3] : رَأَيْتُ رَجُلَا بِالْأَلْفِ، وَمِثْلُهُ: لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ [الْعَلَقِ: 15] ، فَاخْتَارَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ السِّجْنَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ حِينَ تَوَعَّدَتْهُ المرأة.
قالَ رَبِّ، أَيْ: يَا رَبِّ، السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ، [قِيلَ: كَانَ الدُّعَاءُ مِنْهَا خَاصَّةً، وَلَكِنَّهُ أَضَافَ إِلَيْهِنَّ خُرُوجًا مِنَ التَّصْرِيحِ إِلَى التَّعْرِيضِ. وَقِيلَ: إِنَّهُنَّ جَمِيعًا دَعَوْنَهُ إِلَى أَنْفُسِهِنَّ] [4] ، قرأ يعقوب وحده: بفتح السين. وقرأ الآخرون بكسرها واتّفقوا على كسر السين في قوله: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ [يوسف: 36] . وَقِيلَ: لَوْ لَمْ يَقُلِ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ لَمْ يُبْتَلَ بِالسِّجْنِ، وَالْأَوْلَى بِالْمَرْءِ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ الْعَافِيَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ، أَمِلْ إِلَيْهِنَّ وَأُتَابِعْهُنَّ، يُقَالُ: صَبَا فُلَانٌ إلى كذا يصبوا صَبْوًا وَصُبُوًّا وَصُبُوَّةً إِذَا مَالَ وَاشْتَاقَ إِلَيْهِ. وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا ارْتَكَبَ ذَنْبًا يَرْتَكِبُهُ عَنْ جهالة.
فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ، السميع لِدُعَائِهِ الْعَلِيمُ بِمَكْرِهِنَّ.
ثُمَّ بَدا لَهُمْ، يعني: لِلْعَزِيزِ وَأَصْحَابِهِ فِي الرَّأْيِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنْ يَقْتَصِرُوا مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِعْرَاضِ. ثُمَّ بَدَا لَهُمْ [5] أَنْ يَحْبِسُوهُ. مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ، الدَّالَّةِ عَلَى بَرَاءَةِ يُوسُفَ مِنْ قَدِّ الْقَمِيصِ وَكَلَامِ الطِّفْلِ وَقَطْعِ النِّسَاءِ أَيْدِيَهُنَّ وَذَهَابِ عُقُولِهِنَّ. لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ، إِلَى مُدَّةٍ يَرَوْنَ فِيهِ رَأْيَهُمْ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِلَى أَنْ تَنْقَطِعَ مَقَالَةُ النَّاسِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: سَبْعُ سِنِينَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَمْسُ سِنِينَ. قَالَ السُّدِّيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْأَةَ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: إِنَّ هَذَا الْعَبْدَ الْعِبْرَانِيَّ قَدْ فَضَحَنِي فِي النَّاسِ يُخْبِرُهُمْ أَنِّي رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِمَّا أَنْ تَأْذَنَ لي أن أخرج فَأَعْتَذِرَ إِلَى النَّاسِ، وَإِمَّا أَنْ تَحْبِسَهُ، فَحَبَسَهُ وَذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ الْحَبْسَ تَطْهِيرًا لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ هَمِّهِ بِالْمَرْأَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَثَرَ يوسف [عليه الصّلاة والسّلام] [6]
__________
(1) في المطبوع وط «أصابها» .
(2) في المطبوع «شبهة نون» .
(3) زيادة عن ط.
(4) ما بين الحاصرتين كذا في المطبوع وط، ووقع في المخطوط عقب «وقرأ العامة بكسرها» .
(5) تصحف في المطبوع «له مأن» .
(6) زيادة عن المخطوط.(2/490)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
ثَلَاثَ عَثَرَاتٍ حِينَ هَمَّ بِهَا فَسُجِنَ، وَحِينَ قَالَ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وَحِينَ قَالَ لِلْإِخْوَةِ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ، فَقَالُوا: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ.
[سورة يوسف (12) : آية 36]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ، وَهُمَا غُلَامَانِ كَانَا لِلرَّيَّانِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ شروان [1] العمليقي [2] مَلِكِ مِصْرَ الْأَكْبَرِ، أَحَدُهُمَا خَبَّازُهُ وَصَاحِبُ طَعَامِهِ وَالْآخَرُ سَاقِيهِ وَصَاحِبُ شَرَابِهِ، غَضِبَ الْمَلِكُ عَلَيْهِمَا فَحَبَسَهُمَا. وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ مِصْرَ أَرَادُوا الْمَكْرَ بِالْمَلِكِ وَاغْتِيَالَهُ فَضَمَّنُوا لِهَذَيْنَ مَالًا لِيَسُمَّا الْمَلِكَ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ فَأَجَابَاهُمْ ثُمَّ إِنَّ السَّاقِيَ نَكَلَ عَنْهُ، وَقَبِلَ الْخَبَّازُ الرِّشْوَةَ فَسَمَّ الطعام، فلما أحضروا [3] الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، قَالَ السَّاقِي: لَا تَأْكُلْ أَيُّهَا الْمَلِكُ فَإِنَّ الطَّعَامَ مَسْمُومٌ، وَقَالَ الْخَبَّازُ: لَا تَشْرَبْ فَإِنَّ الشَّرَابَ مَسْمُومٌ، فَقَالَ الْمَلِكُ للساقي: اشرب [منه] [4] [فشرب] فلم يضرّه، وقال الخباز: كل من الطعام، فَأَبَى فَجَرَّبَ ذَلِكَ الطَّعَامَ عَلَى دَابَّةٍ فَأَكَلَتْهُ فَهَلَكَتْ، فَأَمَرَ الْمَلِكُ بِحَبْسِهِمَا وَكَانَ يُوسُفُ حِينَ دَخَلَ السجن جعل ينشر علمه [على من في السجن] [5] ، وَيَقُولُ: إِنِّي أَعْبُرُ الْأَحْلَامَ، فَقَالَ أَحَدُ الْفَتَيَيْنِ لِصَاحِبِهِ: هَلُمَّ فَلْنُجَرِّبْ هذا الْعِبْرَانِيَّ، فَتَرَاءَيَا لَهُ فَسَأَلَاهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَا رَأَيَا شَيْئًا، [قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا رَأَيَا شَيْئًا] [6] وَإِنَّمَا تَحَالَمَا لِيُجَرِّبَا يُوسُفَ [فيما يقول] [7] ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ كَانَا رَأَيَا حَقِيقَةً، فَرَآهُمَا يُوسُفُ وَهُمَا مَهْمُومَانِ فَسَأَلَهُمَا عَنْ شَأْنِهِمَا، فَذَكَرَا أَنَّهُمَا غلامان للملك وقد حبسهما، وقد رأيا رؤيا قد غَمَّتْهُمَا، فَقَالَ يُوسُفُ: قُصَّا عَلَيَّ ما رأيتما، فقصّا عليه ف قالَ أَحَدُهُما، وَهُوَ صَاحِبُ الشَّرَابِ، إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً، أَيْ: عِنَبًا سَمَّى الْعِنَبَ خَمْرًا بِاسْمِ ما يؤول إِلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَطْبُخُ الْآجُرَّ، أَيْ: يَطْبُخُ اللَّبِنَ لِلْآجُرِّ. وَقِيلَ: الْخَمْرُ الْعِنَبُ بِلُغَةِ عَمَّانَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ إِنِّي رَأَيْتُ كأني في بستان، فإذا أنا بأصل حبلة عليها ثلاثة عَنَاقِيدَ مِنْ عِنَبٍ فَجَنَيْتُهَا وَكَانَ كَأْسَ الْمَلِكِ بِيَدِي فَعَصَرْتُهَا فِيهِ وَسَقَيْتُ الْمَلِكَ فَشَرِبَهُ. وَقالَ الْآخَرُ، وَهُوَ الْخَبَّازُ: إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ [8] فَوْقَ رَأْسِي ثَلَاثَ سلال فيها الخبز والألوان من الأطعمة وسباع الطير ينهشن وينهبن مِنْهُ. نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ، أَخْبِرْنَا بِتَفْسِيرِهِ وتعبيره وما يؤول إِلَيْهِ أَمْرُ هَذِهِ الرُّؤْيَا. إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، أَيِ: الْعَالِمِينِ بِعِبَارَةِ الرُّؤْيَا، وَالْإِحْسَانُ بِمَعْنَى الْعِلْمِ. وَرُوِيَ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، مَا كَانَ إِحْسَانُهُ؟ قَالَ: كَانَ إِذَا مَرِضَ إِنْسَانٌ فِي السِّجْنِ عَادَهُ وَقَامَ عَلَيْهِ [بالتعهد] [9] ، وَإِذَا ضَاقَ عَلَيْهِ الْمَجْلِسُ وَسَّعَ له وإذا احتاج إلى شيء جَمَعَ لَهُ شَيْئًا، وَكَانَ مَعَ هَذَا يَجْتَهِدُ فِي الْعِبَادَةِ، وَيَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ لِلصَّلَاةِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا دَخَلَ السِّجْنَ وَجَدَ فِيهِ قوما قد اشْتَدَّ بَلَاؤُهُمْ وَانْقَطَعَ رَجَاؤُهُمْ وَطَالَ حزنهم، فجعل يسلّيهم وجعل يقول: أَبْشِرُوا وَاصْبِرُوا تُؤْجَرُوا، فَيَقُولُونَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ يَا فَتَى مَا أَحْسَنَ وَجْهَكَ وَخُلُقَكَ وَحَدِيثَكَ، لَقَدْ بُورِكَ لَنَا فِي جِوَارِكَ فَمَنْ أَنْتَ يَا فَتَى؟ قَالَ: أَنَا
__________
(1) في المخطوط «حردان» .
(2) في المطبوع «العمليق» .
(3) في المطبوع «أحضر» .
(4) زيادة عن المخطوط. [.....]
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) سقط من المخطوط.
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) في المخطوط «كأني» .
(9) زيادة عن المخطوط.(2/491)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
يوسف ابن صفي الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق ابن خَلِيلِ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ عَامِلُ السِّجْنِ: يَا فَتَى وَاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْتُ لَخَلَّيْتُ سَبِيلَكَ، وَلَكِنْ سأحسن جوارك [تسكن في أيّ البيوت من السجن شئت] [1] .
وروي أَنَّ الْفَتَيَيْنِ لَمَّا رَأَيَا يُوسُفَ قَالَا لَهُ: لَقَدْ أَحْبَبْنَاكَ حِينَ رَأَيْنَاكَ، فَقَالَ لَهُمَا يُوسُفُ: أَنْشُدُكُمَا بالله أن لا تحباني فو الله مَا أَحَبَّنِي أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا دَخَلَ عَلَيَّ مِنْ حُبِّهِ بَلَاءٌ، لَقَدْ أَحَبَّتْنِي عَمَّتِي فَدَخَلَ عَلَيَّ بلاء، لقد أَحَبَّنِي أَبِي فَأُلْقِيتُ فِي الْجُبِّ، وَأَحَبَّتْنِي امْرَأَةُ الْعَزِيزِ فَحُبِسْتُ، فَلَمَّا قَصَّا عَلَيْهِ الرُّؤْيَا كَرِهَ يُوسُفُ أَنْ يُعَبِّرَ لَهُمَا مَا سَأَلَاهُ لِمَا عَلِمَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَكْرُوهِ عَلَى أَحَدِهِمَا، فَأَعْرَضَ عَنْ سؤالهما وأخذ في غيره من إِظْهَارِ الْمُعْجِزَةِ وَالدُّعَاءِ إِلَى التَّوْحِيدِ.
[سورة يوسف (12) : الآيات 37 الى 38]
قالَ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
قالَ لَا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ، قِيلَ: أَرَادَ بِهِ فِي النَّوْمِ يَقُولُ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ فِي نَوْمِكُمَا، إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ، فِي الْيَقَظَةِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ فِي الْيَقَظَةِ يَقُولُ: لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ مِنْ مَنَازِلِكُمَا تُرْزَقَانِهِ تُطْعَمَانِهِ وَتَأْكُلَانِهِ إِلَّا نَبَّأَتْكُمَا بِتَأْوِيلِهِ بِقَدْرِهِ وَلَوْنِهِ وَالْوَقْتِ الَّذِي يَصِلُ فِيهِ إِلَيْكُمَا، قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما، قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكُمَا، وَأَيَّ طَعَامٍ أَكَلْتُمْ وَكَمْ أَكَلْتُمْ وَمَتَى أَكَلْتُمْ، فَهَذَا مِثْلُ مُعْجِزَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ [آلِ عِمْرَانَ: 49] ، فَقَالَا: هَذَا [2] فِعْلُ الْعَرَّافِينَ وَالْكَهَنَةِ، فَمِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا الْعِلْمُ؟ فَقَالَ: مَا أَنَا بَكَاهِنٍ وَإِنَّمَا ذلِكُما، الْعِلْمُ، مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ، وَتَكْرَارُ هُمْ عَلَى التَّأْكِيدِ.
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ، أَظْهَرَ أَنَّهُ من أولاد الْأَنْبِيَاءِ، مَا كانَ لَنا، مَا يَنْبَغِي لَنَا، أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، مَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَنَا مِنَ الشِّرْكِ، ذلِكَ، التَّوْحِيدُ وَالْعِلْمُ، مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ، بما [3] بَيَّنَ لَهُمْ مِنَ الْهُدَى، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ، ثُمَّ دعاهما إلى الإسلام فقال:
[سورة يوسف (12) : الآيات 39 الى 43]
يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43)
__________
(1) العبارة في المطبوع «فَتُمَكَّنُ فِي أَيِّ بُيُوتِ السِّجْنِ حيث شئت» وفي ط بدون «حيث» .
(2) زيد في المطبوع لفظ «من» .
(3) في المطبوع وط «ما» .(2/492)
يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ، جَعَلَهُمَا صَاحِبَيِ السجن لكونهما فيه، كما قال [1] لِسُكَّانِ الْجَنَّةِ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ، وَلِسُكَّانِ النَّارِ: أَصْحَابُ النَّارِ، أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ، أَيْ: آلِهَةٌ شَتَّى هَذَا مِنْ ذَهَبٍ وَهَذَا مِنْ فِضَّةٍ، وَهَذَا مِنْ حَدِيدٍ وَهَذَا أَعْلَى وَهَذَا أَوْسَطُ وَهَذَا أَدْنَى، مُتَبَايِنُونَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ، الَّذِي لَا ثَانِيَ لَهُ، الْقَهَّارُ: الْغَالِبُ عَلَى الْكُلِّ، ثُمَّ بَيَّنَ عَجْزَ الْأَصْنَامِ فَقَالَ:
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ، أَيْ: مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَقَدِ ابْتَدَأَ الْخِطَابَ لِلِاثْنَيْنِ لِأَنَّهُ أَرَادَ جَمِيعَ أَهْلِ السِّجْنِ، وَكُلَّ مَنْ هُوَ عَلَى [مِثْلِ حَالِهِمَا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ] [2] ، إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها، آلِهَةً وَأَرْبَابًا خَالِيَةً عَنِ الْمَعْنَى لَا حَقِيقَةَ لِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ، أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ، حُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، إِنِ الْحُكْمُ، مَا الْقَضَاءُ وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ، إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، الْمُسْتَقِيمُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ فَسَّرَ رُؤْيَاهُمَا، فَقَالَ:
يَا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما، وَهُوَ صَاحِبُ الشَّرَابِ، فَيَسْقِي رَبَّهُ، يَعْنِي الملك، خَمْراً، والعناقيد الثَّلَاثَةُ أَيَّامٍ يَبْقَى فِي السِّجْنِ ثُمَّ يَدْعُوهُ الْمَلِكُ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ [3] أيام، ويردّ إِلَى مَنْزِلَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْآخَرُ، يَعْنِي: صَاحِبَ الطَّعَامِ فَيَدْعُوهُ الْمَلِكُ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامِ، وَالسِّلَالُ الثَّلَاثُ الثَّلَاثَةُ أَيَّامٍ يَبْقَى في السجن، ثم يخرجه فيأمر به، فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَمَّا سَمِعَا قول يوسف [عليه الصّلاة والسّلام ذلك لهم] [4] قَالَا: مَا رَأَيْنَا شَيْئًا إِنَّمَا كُنَّا نَلْعَبُ، قَالَ يُوسُفُ: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ، أَيْ: فُرِغَ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي عَنْهُ تَسْأَلَانِ، وَوَجَبَ حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْكُمَا بالذي [5] أَخْبَرْتُكُمَا بِهِ، رَأَيْتُمَا أَوْ لَمْ تَرَيَا.
وَقالَ، يَعْنِي: يُوسُفَ عِنْدَ ذلك لِلَّذِي ظَنَّ، [أي] : عَلِمَ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ السَّاقِي، اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، يَعْنِي: سَيِّدَكَ الْمَلِكَ، وَقُلْ لَهُ إِنَّ فِي السِّجْنِ غُلَامًا مَحْبُوسًا ظُلْمًا طَالَ حَبْسُهُ، فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ، قِيلَ: أَنْسَى الشَّيْطَانُ السَّاقِيَ ذِكْرَ يُوسُفَ لِلْمَلِكِ تَقْدِيرُهُ: فَأَنْسَاهُ الشيطان ذكره لربه. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنْسَى الشَّيْطَانُ يُوسُفَ ذِكْرَ رَبِّهِ حِينَ ابْتَغَى الْفَرَجَ مِنْ غَيْرِهِ وَاسْتَعَانَ بِمَخْلُوقٍ، وَتِلْكَ غَفْلَةٌ عَرَضَتْ لِيُوسُفَ مِنَ الشَّيْطَانِ [6] . فَلَبِثَ، فَمَكَثَ، فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْبِضْعِ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى السَّبْعِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا بَيْنَ الثَّلَاثِ إِلَى التِّسْعِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا دُونُ الْعَشَرَةِ. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْبِضْعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سَبْعُ سِنِينَ، وَكَانَ قَدْ لَبِثَ قَبْلَهُ خَمْسَ سِنِينَ فَجُمْلَتُهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ وَهْبٌ: أَصَابَ أَيُّوبَ الْبَلَاءُ سَبْعَ سِنِينَ، وَتُرِكَ يُوسُفُ فِي السِّجْنِ سَبْعَ سِنِينَ، وَعُذِّبَ بُخْتَنَصَّرُ فَحُوِّلَ فِي السِّبَاعِ سَبْعَ سِنِينَ. قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: لَمَّا قَالَ يُوسُفُ لِلسَّاقِي اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ، قِيلَ لَهُ: يَا يُوسُفُ اتَّخَذْتَ مِنْ دُونِي وَكِيلًا لَأُطِيلَنَّ حَبْسَكَ، فَبَكَى يُوسُفُ، وَقَالَ: يَا رَبِّ أَنْسَى قَلْبِي كَثْرَةُ الْبَلْوَى فَقُلْتُ كَلِمَةً وَلَنْ أَعُودَ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
دَخَلَ جِبْرِيلُ عَلَى يُوسُفَ فِي السِّجْنِ، فَلَمَّا رَآهُ يُوسُفُ عَرَفَهُ فَقَالَ لَهُ: يا أخا [7] المنذرين ما لي أراك بين
__________
(1) في المطبوع وط «يقال» .
(2) العبارة في المخطوط «هذا الحال من الشرك» .
(3) في المخطوط «ثلاثة» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع وط «الذي» .
(6) الصحيح أن الضمير في «أنساه» يعود على الذي نجا لا على يوسف، ولا يصح عن ابن عباس والأكثرون ما ذكر المصنف راجع «البحر المحيط» (5/ 311) للإمام العلامة أبي حيان. [.....]
(7) تصحف في المطبوع «أخي» .(2/493)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
الْخَاطِئِينَ؟ فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: يَا طاهر [يا بن] [1] الطَّاهِرِينَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَيَقُولُ لَكَ: أَمَا اسْتَحْيَيْتَ مِنِّي أَنِ اسْتَشْفَعْتَ بِالْآدَمِيِّينَ، فَوَعِزَّتِي وجلالي لَأُلْبِثَنَّكَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ، فقال يُوسُفُ:
وَهُوَ فِي ذَلِكَ عَنِّي رَاضٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إذًا لَا أُبَالِي.
وَقَالَ كَعْبٌ: قَالَ جِبْرِيلُ لِيُوسُفَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقول من خلقك؟ قال: عزّ وجلّ، قَالَ: فَمَنْ حَبَّبَكَ إِلَى أَبِيكَ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَمَنْ نَجَّاكَ مِنْ كَرْبِ الْبِئْرِ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَمَنْ عَلَّمَكَ تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا؟
قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَمَنْ صَرْفَ عَنْكَ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ؟ قَالَ: اللَّهُ، قَالَ: فَكَيْفَ اسْتَشْفَعَتْ [2] بِآدَمِيٍّ مِثْلِكَ؟
فَلَمَّا انْقَضَتْ سَبْعُ سِنِينَ. قَالَ الكلبي: فهذه السبع سوى الخمس [3] الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ، وَدَنَا فرج يوسف فرأى مَلِكُ مِصْرَ الْأَكْبَرُ رُؤْيَا عَجِيبَةً هَالَتْهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ ثُمَّ خَرَجَ عَقِبَهُنَّ سَبْعُ بَقَرَاتٍ عِجَافٌ فِي غَايَةِ الْهُزَالِ، فَابْتَلَعَتِ الْعِجَافُ السِّمَانَ فَدَخَلْنَ فِي بُطُونِهِنَّ، فلم يرى منهن شيئا وَلَمْ يَتَبَيَّنْ عَلَى الْعِجَافِ مِنْهَا شَيْءٌ، ثُمَّ رَأَى سَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ قَدِ انْعَقَدَ حَبُّهُا وَسَبْعًا أُخْرَى يَابِسَاتٍ قَدِ اسْتُحْصِدَتْ، فَالْتَوَتِ الْيَابِسَاتُ عَلَى الْخُضْرِ حَتَّى غَلَبْنَ عَلَيْهَا وَلَمْ يَبْقَ مِنْ خُضْرَتِهَا شَيْءٌ، فَجَمَعَ السَّحَرَةَ وَالْكَهَنَةَ وَالْحَازَةَ [4] وَالْمُعَبِّرِينَ وَقَصَّ عَلَيْهِمْ رُؤْيَاهُ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ، ثم قال لَهُمْ: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ.
[سورة يوسف (12) : الآيات 44 الى 48]
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أَخْلَاطُ أَحْلَامٍ مُشْتَبِهَةٍ [أَهَاوِيلُ] [5] وَاحِدُهَا [6] ضِغْثٌ، وَأَصْلُهُ الْحُزْمَةُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَشِيشِ، وَالْأَحْلَامُ جَمْعُ الْحُلْمِ، وَهُوَ الرُّؤْيَا، وَالْفِعْلُ مِنْهُ [حَلَمْتُ أَحْلُمُ] [7] بِفَتْحِ اللَّامِ في الماضي وضمّها في المغاير [8] حُلُمًا وَحُلْمًا، مُثَقَّلًا وَمُخَفَّفًا. وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ.
وَقالَ الَّذِي نَجا، مِنَ الْقَتْلِ، مِنْهُما، مِنَ الْفَتَيَيْنِ وَهُوَ السَّاقِي، وَادَّكَرَ، أَيْ: تَذَكَّرَ قَوْلَ يُوسُفَ اذْكُرْنِي عند ربك، بَعْدَ أُمَّةٍ، أي: بَعْدَ حِينٍ وَهُوَ سَبْعُ سِنِينَ، أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الغلام [الساقي] [9] جَثَا بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ، وَقَالَ: [أيها الملك] [10] إِنَّ فِي السِّجْنِ رَجُلًا يَعْبُرُ الرُّؤْيَا، فَأَرْسِلُونِ، وَفِيهِ اخْتِصَارٌ تَقْدِيرُهُ: فَأَرْسِلْنِي أَيُّهَا الْمَلِكُ إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَهُ فَأَتَى السِّجْنَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ولم
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «استعنت» .
(3) في المطبوع «الخمسة» .
(4) وقع في المطبوع «والحاذة» وسقط من المخطوط.
(5) زيد في المطبوع وط.
(6) في المخطوط «واحدتها» .
(7) كذا في المطبوع وط، وفي المخطوط «حلم أحلم» والأصح في ذلك «حلم يحلم» .
(8) كذا في المخطوطتين، وفي المطبوع وط «الغابر» ووجه المثبت أن معنى «المغاير» أي المتحول، ويراد به الحال والاستقبال، وهو المضارع، وأما وجه «الغائر» فيكون «غير» بمعنى «مكث» فإنها إحدى معانيها، والله أعلم.
(9) زيادة عن المخطوط.
(10) زيادة عن المخطوط.(2/494)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
يَكُنِ السِّجْنُ فِي الْمَدِينَةِ.
فَقَالَ: يُوسُفُ، يَعْنِي: يَا يُوسُفُ، أَيُّهَا الصِّدِّيقُ، وَالصَّدِيقُ الْكَثِيرُ الصِّدْقِ، أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ، فَإِنَّ الْمَلِكَ رَأَى هَذِهِ الرُّؤْيَا، لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ، أَهْلِ مِصْرَ، لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، تَأْوِيلَ الرُّؤْيَا. وَقِيلَ: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ مَنْزِلَتَكَ فِي الْعِلْمِ، فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ مُعَبِّرًا وَمُعَلِّمًا: أَمَّا الْبَقَرَاتُ السِّمَانُ وَالسُّنْبُلَاتُ الْخُضْرُ فَسَبْعُ سِنِينَ مَخَاصِيبُ، وَالْبَقَرَاتُ الْعِجَافُ وَالسُّنْبُلَاتُ [الْيَابِسَاتُ] [1] ، فَالسُّنُونَ الْمُجْدِبَةُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ يُوسُفَ.
قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً، هَذَا خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ، يَعْنِي: ازْرَعُوا سَبْعَ سِنِينَ عَلَى عَادَتِكُمْ فِي الزِّرَاعَةِ، وَالدَّأَبُ: الْعَادَةُ. وَقِيلَ: بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ بِرِوَايَةِ حَفْصٍ: دَأَباً، بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: دَأَبْتُ فِي الْأَمْرِ أَدْأَبُ دَأَبَا ودأبا إذا اجتهدت. فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ، أَمْرَهُمْ بِتَرْكِ الْحِنْطَةِ فِي السُّنْبُلَةِ لتكون أبقى على [طول] [2] الزَّمَانِ وَلَا تَفْسُدَ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، أي:
تَدْرُسُونَ قَلِيلًا لِلْأَكْلِ، أَمَرَهُمْ بِحِفْظِ الْأَكْثَرِ وَالْأَكْلِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ.
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ، سَمَّى السِّنِينَ الْمُجْدِبَةَ شِدَادًا لِشِدَّتِهَا عَلَى النَّاسِ، يَأْكُلْنَ، أَيْ:
يَفْنِينَ وَيُهْلِكْنَ، مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ، أَيْ: يُؤْكَلُ فِيهِنَّ مَا أَعْدَدْتُمْ لَهُنَّ مِنَ الطَّعَامِ أَضَافَ الْأَكْلَ إِلَى السِّنِينَ عَلَى طَرِيقِ التَّوَسُّعِ، إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ، تُحْرِزُونَ وتدّخرون للبذر.
[سورة يوسف (12) : الآيات 49 الى 52]
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ، أَيْ: يُمْطَرُونَ مِنَ الْغَيْثِ، وَهُوَ الْمَطَرُ. وَقِيلَ: يُنْقَذُونَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ اسْتَغَثْتُ فُلَانًا فَأَغَاثَنِي، وَفِيهِ يَعْصِرُونَ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: تَعْصِرُونَ، بِالتَّاءِ لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ رَدًّا إِلَى النَّاسِ، وَمَعْنَاهُ: يَعْصِرُونَ الْعِنَبَ خَمْرًا وَالزَّيْتُونَ زَيْتًا وَالسِّمْسِمَ دُهْنًا وَأَرَادَ به كثرة النعم [3] وَالْخَيْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَعْصِرُونَ، أي: ينجون من الكرب [4] والجدب [الذي كانوا فيه] [5] ، والعصر: النجاة وَالْمَلْجَأُ.
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ السَّاقِيَ لَمَّا رَجَعَ إِلَى الْمَلِكِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا أَفْتَاهُ به يُوسُفُ مِنْ تَأْوِيلِ رُؤْيَاهُ، وَعَرَفَ الْمَلِكُ أَنَّ الَّذِي قَالَهُ كَائِنٌ، قَالَ: ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ، وَقَالَ لَهُ: أَجِبِ الْمَلِكَ أَبَى أَنْ يَخْرُجَ مَعَ الرَّسُولِ حَتَّى تَظْهَرَ بَرَاءَتُهُ ثُمَّ، قالَ لِلرَّسُولِ: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ، يَعْنِي: سيدك الملك، فَسْئَلْهُ مَا بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِذِكْرِ امْرَأَةِ العزيز أدبا واحتراما.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «النعيم» . [.....]
(4) في المطبوع «الكروب» .
(5) زيادة عن المخطوط.(2/495)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
«1184» قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ لَأَجَبْتُ الدَّاعِيَ» .
إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ، أَيْ: إِنَّ اللَّهَ بِصَنِيعِهِنَّ عَالِمٌ، وَإِنَّمَا أَرَادَ يُوسُفُ بِذِكْرِهِنَّ بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ حَتَّى لَا يَنْظُرَ إليه الملك بعين التّهمة والخيانة، وَيَصِيرَ إِلَيْهِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّكِّ عَنْ أَمْرِهِ، فَرَجَعَ الرَّسُولُ إِلَى الْمَلِكِ مِنْ عِنْدِ يُوسُفَ بِرِسَالَتِهِ، فَدَعَا الْمَلِكُ النِّسْوَةَ وَامْرَأَةَ الْعَزِيزِ.
قالَ لَهُنَّ: مَا خَطْبُكُنَّ، مَا شَأْنُكُنَّ وَأَمْرُكُنَّ، إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ، خَاطَبَهُنَّ وَالْمُرَادُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ، وَقِيلَ: إِنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسِهِ وَسَائِرُ النِّسْوَةِ أمرنه [1] بطاعتها فلذلك خاطبهن جميعا، وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ، مَعَاذَ اللَّهِ، مَا عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، خِيَانَةٍ، قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ ظَهَرَ وَتَبَيَّنَ. وَقِيلَ: إِنَّ النِّسْوَةَ أَقْبَلْنَ عَلَى امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فَقَرَّرْنَهَا فَأَقَرَّتْ، وَقِيلَ: خَافَتْ أَنْ يشهدن عليها فأقرّت وقالت: أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ، فِي قَوْلِهِ: هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ يُوسُفُ قَالَ:
ذلِكَ، أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي فَعَلْتُ مِنْ رَدِّي رَسُولَ الْمَلِكِ إِلَيْهِ، لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ، أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ، فِي زَوْجَتِهِ، بِالْغَيْبِ، أَيْ: فِي حَالِ غَيْبَتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ، قَوْلُهُ: ذلِكَ لِيَعْلَمَ مِنْ كَلَامِ يُوسُفَ اتَّصَلَ بِقَوْلِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ: أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ من غير تمييز [2] لِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ. وَقِيلَ:
فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، مَعْنَاهُ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ، قِيلَ: لَمَّا قَالَ يُوسُفُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، قَالَ لَهُ جبريل [عليه السلام] [3] : وَلَا حِينَ هَمَمْتَ بِهَا؟ فَقَالَ يوسف عند ذلك: وما أبرىء نفسي. وقال السُّدِّيُّ: إِنَّمَا قَالَتْ لَهُ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ:
وَلَا حِينَ حَلَلْتَ سَرَاوِيلَكَ يَا يُوسُفُ؟ [4] ، فَقَالَ يُوسُفُ [عِنْدَ ذلك] [5] :
[سورة يوسف (12) : الآيات 53 الى 54]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي، مِنَ الْخَطَإِ وَالزَّلَلِ فَأُزَكِّيهَا، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، بِالْمَعْصِيَةِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي، أَيْ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبِّي فعصمه، وما بِمَعْنَى مِنْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ [النِّسَاءِ:
3] ، أَيْ: مَنْ طَابَ لَكُمْ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَصَمَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلَمْ يُرَكِّبْ فِيهِمُ الشَّهْوَةَ. وَقِيلَ: إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِشَارَةٌ إِلَى حَالَةِ الْعِصْمَةِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبُرْهَانِ. إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لِلْمَلِكِ عُذْرُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السلام وعرف أمانته وعلمه [اشتاق لرؤيته وكلامه، وذلك معنى قوله تعالى إخبارا عنه] [6] :
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي، أَيْ: أَجْعَلُهُ خَالِصًا لِنَفْسِي، فَلَمَّا كَلَّمَهُ، فيه اختصار
__________
1184- صحيح. وهو بعض حديث أخرجه البخاري 3372 و4537 ومسلم 151 ح 238 وابن ماجه 4026 وابن حبان 6208 والطحاوي في «المشكل» 326 عن أبي هريرة مرفوعا.
وانظر الحديث المتقدم في سورة البقرة آية: 260.
(1) في المطبوع «أمرته» .
(2) في المطبوع «تميز» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) هذا الأثر من الإسرائيليات، لا يليق بيوسف عليه السلام.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيد في المطبوع وحده.(2/496)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
تَقْدِيرُهُ: فَجَاءَ الرَّسُولُ يُوسُفَ فَقَالَ لَهُ: أَجِبِ الْمَلِكَ الْآنَ.
رُوِيَ أَنَّهُ قَامَ وَدَعَا لِأَهْلِ السِّجْنِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ عَطِّفْ عَلَيْهِمْ قُلُوبَ الْأَخْيَارِ وَلَا تُعَمِّ عَلَيْهِمُ الْأَخْبَارَ، فَهُمْ أَعْلَمُ النَّاسِ بِالْأَخْبَارِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ السجن كتب على بابه هَذَا قَبْرُ الْأَحْيَاءِ وَبَيْتُ الْأَحْزَانِ وَتَجْرِبَةُ الْأَصْدِقَاءِ وَشَمَاتَةُ الْأَعْدَاءِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ وَتَنَظَّفَ مِنْ دَرَنِ السِّجْنِ وَلَبِسَ ثِيَابًا حِسَانًا [1] وَقَصَدَ الْمَلِكَ.
قَالَ وَهْبٌ: فَلَمَّا وَقَفَ بِبَابِ الْمَلِكِ قَالَ: حَسْبِي رَبِّي مِنْ دُنْيَايَ وَحَسْبِي رَبِّي مِنْ خَلْقِهِ عَزَّ جَارُهُ وَجَلَّ ثَنَاؤُهُ وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ، ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى الْمَلِكِ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِخَيْرِكَ مِنْ خَيْرِهِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهِ وَشَرِّ غَيْرِهِ فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ الْمَلِكُ سَلَّمَ عَلَيْهِ يُوسُفُ بِالْعَرَبِيَّةِ، فقال له الْمَلِكُ: مَا هَذَا اللِّسَانُ؟ قَالَ: لِسَانُ عَمِّي إِسْمَاعِيلَ ثُمَّ دَعَا له بالعبرانية فقال له: مَا هَذَا اللِّسَانُ؟ قَالَ: هَذَا لِسَانُ آبَائِي وَلَمْ يَعْرِفِ الْمَلِكُ هَذَيْنِ اللِّسَانَيْنِ. قَالَ وَهْبٌ: وَكَانَ الْمَلِكُ يَتَكَلَّمُ بِسَبْعِينَ لِسَانًا، فَكُلَّمَا تَكَلَّمَ بِلِسَانٍ أَجَابَهُ يُوسُفُ بِذَلِكَ اللِّسَانِ وَزَادَ عَلَيْهِ بِلِسَانِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْعِبْرَانِيَّةِ، فَأَعْجَبَ الْمَلِكُ مَا رَأَى مِنْهُ مَعَ حَدَاثَةِ سِنِّهِ، وَكَانَ يُوسُفُ يَوْمَئِذٍ ابْنَ ثَلَاثِينَ [2] سَنَةً، فأجلسه وقالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ، الْمَكَانَةُ فِي الْجَاهِ، أَمِينٌ، أَيْ: صَادِقٌ.
[سورة يوسف (12) : آية 55]
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
وَرُوِيَ أَنَّ الْمَلِكَ قَالَ لَهُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَ رُؤْيَايَ منك شفاها، فقال له يُوسُفُ: نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ رَأَيْتَ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ شُهْبٍ غُرٍّ حِسَانٍ، كَشَفَ لَكَ عَنْهُنَّ النِّيلُ فَطَلَعْنَ عَلَيْكَ مِنْ شَاطِئِهِ تَشْخَبُ أَخَلَافُهُنَّ لَبَنًا فَبَيْنَمَا أَنْتَ تَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ وَيُعْجِبُكَ حُسْنُهُنَّ إِذْ نَضَبَ النِّيلُ فَغَارَ مَاؤُهُ وَبَدَا يُبْسُهُ، فَخَرَجَ مِنْ حِمْأَتِهِ سَبْعُ بَقَرَاتٍ عِجَافٌ شُعْثٌ غُبْرٌ مُتَقَلِّصَاتُ [3] الْبُطُونِ، لَيْسَ لَهُنَّ ضُرُوعٌ وَلَا أَخْلَافٌ، وَلَهُنَّ أَنْيَابٌ وَأَضْرَاسٌ وَأَكُفٌّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ، وَخَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمَ السِّبَاعِ، فَافْتَرَسْنَ السِّمَانَ افْتِرَاسَ السَّبُعِ فَأَكَلْنَ لُحُومَهُنَّ وَمَزَّقْنَ جُلُودَهُنَّ، وَحَطَّمْنَ عِظَامَهُنَّ وَتَمْشَشْنَ مُخَّهُنَّ، فَبَيْنَمَا أَنْتَ تَنْظُرُ وَتَتَعَجَّبُ إذا سَبْعُ سَنَابِلَ خُضَرٍ وَسَبْعٌ أُخَرَ [يابسات] [4] سُودٍ فِي مَنْبَتٍ وَاحِدٍ عُرُوقُهُنَّ فِي الثَّرَى [وَالْمَاءِ فَبَيْنَمَا أَنْتَ تقول في نفسك أي شيء هؤلاء؟ خُضَرٌ مُثْمِرَاتٌ وَهَؤُلَاءِ سُودٌ يَابِسَاتٌ] [5] ، وَالْمَنْبَتُ وَاحِدٌ وَأُصُولُهُنَّ فِي الْمَاءِ، أذهبت رِيحٌ فَذَرَتِ الْأَوْرَاقَ مِنَ الْيَابِسَاتِ السُّودِ عَلَى الْخُضْرِ الْمُثْمِرَاتِ فَاشْتَعَلَتْ فيهن النار، فأحرقتهن فَصِرْنَ سُودًا فَهَذَا مَا رَأَيْتَ؟ فانتبهت مِنْ نَوْمِكَ مَذْعُورًا، فَقَالَ الْمَلِكُ: وَاللَّهِ مَا شَأْنُ هَذِهِ الرُّؤْيَا وَإِنْ كَانَتْ عَجِيبَةً بِأَعْجَبَ مِمَّا سَمِعْتُ مِنْكَ، فَمَا تَرَى فِي رُؤْيَايَ أَيُّهَا الصَّدِيقُ؟ فَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَرَى أَنَّ تُجَمِّعَ الطَّعَامَ وَتَزْرَعَ زَرْعًا كَثِيرًا فِي هَذِهِ السِّنِينَ الْمُخْصِبَةِ، وَتَجْعَلَ الطَّعَامَ فِي الْخَزَائِنِ بِقَصَبِهِ وَسُنْبُلِهِ لِيَكُونَ القصب والسنبل علفا للدواب والحبّ طعاما للناس، وَتَأْمُرَ النَّاسَ فَيَرْفَعُونَ مِنْ طَعَامِهِمُ الْخُمُسَ فَيَكْفِيكَ مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جَمَعْتَهُ لِأَهْلِ مِصْرَ وَمَنْ حَوْلَهَا، ويأتيك الخلق من [سائر] [6] النواحي للميرة فتبيع منهم الطعام وتأخذ ثمنه فَيَجْتَمِعَ عِنْدَكَ مِنَ الْكُنُوزِ مَا لَمْ يَجْتَمِعْ لِأَحَدٍ [قَبْلَكَ] [7] ، فَقَالَ الْمَلِكُ: وَمَنْ لِي بِهَذَا وَمَنْ يَجْمَعُهُ وَيَبِيعُهُ وَيَكْفِينِي الشُّغْلَ فِيهِ؟
فَ قالَ يُوسُفُ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ، الْخَزَائِنُ: جَمْعُ خِزَانَةٍ وأراد خزائن الطعام
__________
(1) في المطبوع «حسنا» .
(2) في المطبوع «ثمانين» .
(3) في المخطوط «مقلصات» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيد في المطبوع. [.....]
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيادة عن المخطوط.(2/497)
وَالْأَمْوَالِ، وَالْأَرْضُ أَرْضُ مِصْرَ، أَيْ: خَزَائِنِ أَرْضِكَ. [وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنس: أي] [1] عَلَى خَرَاجِ مِصْرَ وَدَخْلِهِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ، أَيْ: حَفِيظٌ لِلْخَزَائِنِ عَلِيمٌ بِوُجُوهِ مَصَالِحِهَا. وَقِيلَ: حَفِيظٌ عليم، أي:
كَاتِبٌ حَاسِبٌ. وَقِيلَ: حَفِيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعْتَنِي عَلِيمٌ بِمَا وَلَّيْتَنِي. وَقِيلَ: حَفِيظٌ لِلْحِسَابِ عَلِيمٌ بِالْأَلْسُنِ أَعْلَمُ لغة مَنْ يَأْتِينِي. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: حَفِيظٌ بتقديره في السنين الخصبة [2] عَلِيمٌ بِوَقْتِ الْجُوعِ حِينَ يَقَعُ [في الأرض الجدب] [3] ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: وَمَنْ أَحَقُّ بِهِ مِنْكَ؟!» فَوَلَّاهُ ذَلِكَ وَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ، ذُو مَكَانَةٍ وَمَنْزِلَةٍ، أَمِينٌ عَلَى الْخَزَائِنِ.
«1185» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ محمد الفنجوي ثنا مخلد بن جعفر الباقرجي ثنا الحسن بن علوية ثنا إسماعيل بن عيسى ثنا إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَحِمَ اللَّهُ أَخِي يُوسُفَ لَوْ لَمْ يَقُلِ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ لَاسْتَعْمَلَهُ مِنْ سَاعَتِهِ، وَلَكِنَّهُ أَخَّرَهُ لِذَلِكَ سَنَةً فَأَقَامَ فِي بَيْتِهِ سَنَةً مع الملك» .
[قال] [4] : وَبِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا انْصَرَمَتِ السنة من يوم [5] سَأَلَ الْإِمَارَةَ دَعَاهُ الْمَلِكُ فَتَوَجَّهَ وَقَلَّدَهُ بِسَيْفِهِ وَوَضَعَ لَهُ سَرِيرًا من ذهب مكلّلا [6] بِالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَضَرَبَ عَلَيْهِ حُلَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، وَطُولُ السَّرِيرِ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا وَعَرَضُهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ، عَلَيْهِ ثلاثون فراشا وستون مرفقة [7] ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ فَخَرَجَ مُتَوَّجًا وَلَوْنُهُ كَالثَّلْجِ وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ، يَرَى النَّاظِرُ وَجْهَهُ فِي صَفَاءِ لَوْنِ وَجْهِهِ فَانْطَلَقَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ، وَدَانَتْ لَهُ الْمُلُوكُ وَدَخْلَ الْمَلِكُ بَيْتَهُ وَفَوَّضَ إِلَيْهِ أَمْرَ مِصْرَ، وَعَزَلَ قِطْفِيرَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وَجَعْلَ يُوسُفَ مَكَانَهُ. قال ابْنُ إِسْحَاقَ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَكَانَ لِمَلِكِ مِصْرَ خَزَائِنُ كَثِيرَةٌ فَسَلَّمَ سُلْطَانَهُ كُلَّهُ إِلَيْهِ وَجَعَلَ أَمْرَهُ وَقَضَاءَهُ نَافِذًا، قَالُوا: ثُمَّ إِنْ قِطْفِيرَ هَلَكَ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي فَزَوَّجَ الْمَلِكُ يُوسُفَ [8] رَاعِيلَ امْرَأَةَ قِطْفِيرَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَ: أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِمَّا كنت تريدين مني؟ فَقَالَتْ: أَيُّهَا الصَّدِيقُ لَا تَلُمْنِي فَإِنِّي كُنْتُ امْرَأَةً حَسْنَاءَ نَاعِمَةً كَمَا تَرَى فِي مُلْكٍ وَدُنْيَا، وَكَانَ صَاحِبِي لَا يَأْتِي النِّسَاءَ، وَكُنْتَ كَمَا جَعَلَكَ اللَّهُ فِي حسنك وجمالك وهيئتك فغلبتني نفسي وقويت عليّ شهوتي ولم أتمالك عقلي في محبتي فيك، فقرب منها يوسف فوجدها عَذْرَاءَ فَأَصَابَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدَيْنِ إفرائيم وميشا ابني يُوسُفَ [9] . وَاسْتَوْثَقَ لِيُوسُفَ مُلْكُ مِصْرَ فَأَقَامَ فِيهِمُ الْعَدْلَ وَأَحَبَّهُ الرِّجَالُ والنساء، فذلك قوله تعالى:
__________
1185- باطل. إسناد مصنوع، فيه إسحاق بن بشر متهم متروك، وجويبر متروك أيضا، والضحاك لم يلق ابن عباس، وقد روي بهذا الإسناد تفسيرا عن ابن عباس وعامته لا أصل له.
وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» (2/ 482) : أخرجه الثعلبي عن ابن عباس من رواية إِسْحَاقُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ جُوَيْبِرٍ عن الضحاك، وهذا إسناد ساقط اه.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «المجدبة» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «اليوم الذي» بدل «يوم» والمراد بقوله:
الثعلبي.
(6) في المطبوع «مكلل» .
(7) في المطبوع «مفرمة» . والمرفقة (بالكسر) : المتكأ والمخدة.
(8) في المطبوع «ليوسف» .
(9) هذا الأثر وما قبله مصدرهما كتب الأقدمين، لا حجة في شيء من ذلك.(2/498)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
[سورة يوسف (12) : الآيات 56 الى 57]
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ، يَعْنِي: أرض مصر ملكّناه، يَتَبَوَّأُ، أي: ينزل أيّ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ، وَيَصْنَعُ فِيهَا مَا يشاء. قرأ ابن كثير وحده: نَشاءُ بِالنُّونِ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: مَكَّنَّا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: يَتَبَوَّأُ. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا، أي: بنعمتنا، مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبٌ: يَعْنِي الصَّابِرِينَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: فَلَمْ يَزَلْ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُو الْمَلِكَ إِلَى الْإِسْلَامِ [1] وَيَتَلَطَّفُ به حَتَّى أَسْلَمَ الْمَلِكُ وَكَثِيرٌ مِنَ الناس، فهذا في أمر الدُّنْيَا.
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ، ثَوَابُ الْآخِرَةِ، خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ، فَلَمَّا اطْمَأَنَّ يُوسُفُ فِي مُلْكِهِ دبر في جمع الطعام أحسن التَّدْبِيرِ، وَبَنَى الْحُصُونَ وَالْبُيُوتَ الْكَثِيرَةَ، وَجَمَعَ فِيهَا الطَّعَامَ لِلسِّنِينَ الْمُجْدِبَةِ، وَأَنْفَقَ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى خَلَتِ السِّنُونَ الْمُخْصِبَةُ وَدَخَلَتِ السِّنُونَ الْمُجْدِبَةُ بِهَوْلٍ لَمْ يَعْهَدِ النَّاسُ بِمِثْلِهِ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَبَّرَ فِي طَعَامِ الْمَلِكِ وَحَاشِيَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً وَاحِدَةً نِصْفَ النَّهَارِ، فَلَمَّا دَخَلَتْ سَنَةُ الْقَحْطِ كَانَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَهُ الْجُوعُ هُوَ الْمَلِكُ فِي نِصْفِ اللَّيْلِ فَنَادَى يَا يُوسُفُ الْجُوعَ [الْجُوعَ] [2] ، فَقَالَ يُوسُفُ: هَذَا أَوَانُ الْقَحْطِ، فَفِي السَّنَةِ الأولى من سنين الْجَدْبِ هَلَكَ كُلُّ شَيْءٍ أَعَدُّوهُ فِي السِّنِينَ الْمُخْصِبَةِ، فَجَعَلَ أَهْلُ مِصْرَ يَبْتَاعُونَ مِنْ يُوسُفَ الطَّعَامَ، فباعهم في أَوَّلَ سَنَةٍ بِالنُّقُودِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ بِمِصْرَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إلا قبضه، وباعهم في السَّنَةَ الثَّانِيَةَ بِالْحُلِيِّ وَالْجَوَاهِرِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِي النَّاسِ منها شيء، وباعهم في السَّنَةَ الثَّالِثَةَ بِالْمَوَاشِي وَالدَّوَابِّ حَتَّى احْتَوَى عَلَيْهَا أَجْمَعَ، وَبَاعَهُمْ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ بِالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ حَتَّى لم يبق [بمصر] [3] فِي يَدِ أَحَدٍ عَبْدٌ وَلَا أمة، وباعهم في السَّنَةَ الْخَامِسَةَ بِالضَّيَاعِ وَالْعَقَارِ وَالدَّوْرِ حَتَّى احْتَوَى عَلَيْهَا [أَجْمَعَ] [4] ، وَبَاعَهُمْ في السَّنَةَ السَّادِسَةَ بِأَوْلَادِهِمْ حَتَّى اسْتَرَقَّهُمْ، وباعهم في السَّنَةَ السَّابِعَةَ بِرِقَابِهِمْ حَتَّى اسْتَرَقَّهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ بِمِصْرَ حُرٌّ وَلَا حُرَّةٌ إِلَّا صَارَ عَبْدًا لَهُ، فقال الناس: ما رأينا كَالْيَوْمِ مَلِكًا أَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، ثُمَّ قَالَ يُوسُفُ لِلْمَلِكِ: كَيْفَ رَأَيْتَ صُنْعَ رَبِّي فِيمَا خَوَّلَنِي فَمَا تَرَى فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: الرَّأْيُ رأيك والأمر إليك وَنَحْنُ لَكَ تَبَعٌ، قَالَ: فَإِنِّي أشهد الله وأشهدك أني قد أَعْتَقْتُ أَهْلَ مِصْرَ عَنْ آخِرِهِمْ وَرَدَدْتُ عَلَيْهِمْ أَمْلَاكَهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّ يُوسُفَ كَانَ لَا يَشْبَعُ مِنْ طَعَامٍ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ، فَقِيلَ لَهُ:
أَتَجُوعُ وَبِيَدِكَ خَزَائِنُ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ: أَخَافُ إِنْ شَبِعْتُ أَنْ أَنْسَى الْجَائِعَ، وَأَمَرَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طَبَّاخِي الْمَلِكِ أَنْ يَجْعَلُوا غَدَاءَهُ نِصْفَ النَّهَارِ، وَأَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يَذُوقَ الْمَلِكُ طَعْمَ الْجُوعِ فَلَا يَنْسَى الْجَائِعِينَ، فَمِنْ ثَمَّ جَعَلَ الْمُلُوكُ غِذَاءَهُمْ نِصْفَ النَّهَارِ. قَالَ: وَقَصَدَ النَّاسُ مِصْرَ مِنْ كل النواحي يَمْتَارُونَ الطَّعَامَ فَجَعَلَ يُوسُفُ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ عظيما أَكْثَرَ مِنْ حِمْلِ بِعِيرٍ تَقْسِيطًا بَيْنَ النَّاسِ، وَتَزَاحَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ فأصاب أَرْضَ كَنْعَانَ وَبِلَادَ الشَّامِ مَا أَصَابَ النَّاسُ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ مِنَ الْقَحْطِ وَالشِّدَّةِ، وَنَزَلَ بِيَعْقُوبَ ما نزل بالناس [من الضيق والجهد في المعيشة] [5] ، فَأَرْسَلَ بَنِيهِ إِلَى مِصْرَ لِلْمِيرَةِ وَأَمْسَكَ بِنْيَامِينَ أَخَا يُوسُفَ لِأُمِّهِ.
[سورة يوسف (12) : آية 58]
وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
__________
(1) في المطبوع «الاسم» .
(2) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.(2/499)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ، وَكَانُوا عَشَرَةً، وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ بالقرب مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ، بِغَوْرِ الشَّامِ، وَكَانُوا أَهْلَ بَادِيَةٍ وَإِبِلٍ وَشَاةٍ، فَدَعَاهُمْ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ: يَا بَنِيَّ بَلَغَنِي أَنَّ بِمِصْرَ مَلِكًا صَالِحًا يَبِيعُ الطَّعَامَ، فَتَجَهَّزُوا واذهبوا [إليه] [1] لِتَشْتَرُوا مِنْهُ الطَّعَامَ، فَأَرْسَلَهُمْ فَقَدِمُوا مِصْرَ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ، عَلَى يُوسُفَ، فَعَرَفَهُمْ، يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: عَرَفَهُمْ بِأَوَّلِ مَا نَظَرَ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَعْرِفْهُمْ حَتَّى تَعَرَّفُوا إِلَيْهِ، وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ، أَيْ: لَمْ يَعْرِفُوهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَكَانَ بَيْنَ أَنْ قَذَفُوهُ فِي الْبِئْرِ وَبَيْنَ أَنْ دَخَلُوا عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَلِذَلِكَ أَنْكَرُوهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: إِنَّمَا لَمْ يَعَرِفُوهُ لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْمُلْكِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ كَانَ بِزِيِّ مُلُوكِ مِصْرَ عَلَيْهِ ثِيَابٌ مِنْ حَرِيرٍ وَفِي عُنُقِهِ طَوْقٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِمْ يُوسُفُ وَكَلَّمُوهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، قَالَ لَهُمْ أَخْبَرُونِي مَنْ أَنْتُمْ وَمَا أَمْرُكُمْ فَإِنِّي أَنْكَرْتُ شَأْنَكُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ قوم من أهل الشَّامِ رُعَاةٌ أَصَابَنَا الْجَهْدُ فَجِئْنَا نَمْتَارُ، فَقَالَ:
لَعَلَّكُمْ جِئْتُمْ تَنْظُرُونَ عَوْرَةَ بِلَادِي، قَالُوا: لَا وَاللَّهِ مَا نَحْنُ بِجَوَاسِيسَ إِنَّمَا نَحْنُ إِخْوَةٌ بَنُو أَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ شَيْخٌ صِدِّيقٌ يُقَالُ لَهُ: يَعْقُوبُ نبيّ من أنبياء الله، فقال: وَكَمْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: كُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ فَذَهَبَ أَخٌ لَنَا مَعَنَا إِلَى الْبَرِّيَّةِ فَهَلَكَ فِيهَا وَكَانَ أَحَبَّنَا [2] إِلَى أَبِينَا، قَالَ: فَكَمْ أنتم هاهنا؟ قَالُوا: عَشَرَةٌ، قَالَ: وَأَيْنَ الْآخَرُ؟
قَالُوا: عِنْدَ أَبِينَا لِأَنَّهُ أَخُو [3] الذي هلك من أمه، فأبونا يتسلّى به، فقال: فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي تَقُولُونَ حق وصدق؟ قَالُوا: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّا بِبِلَادٍ لا يعرفنا فيها أحد من أهلها، فقال لهم يُوسُفُ: فَأَتَوْنِي بِأَخِيكُمُ الَّذِي مِنْ أَبِيكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَأَنَا أَرْضَى بِذَلِكَ، قَالُوا: فَإِنَّ أَبَانَا يَحْزَنُ عَلَى فِرَاقِهِ وَسَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ، قَالَ:
فَدَعُوا بَعْضَكُمْ عِنْدِي رهينة حتى تأتوني بأخيكم الذي من أبيكم، فاقترعوا [حينها] [4] [على من يدعوه عنده] [5] بَيْنَهُمْ فَأَصَابَتِ الْقَرْعَةُ شَمْعُونَ وَكَانَ أَحْسَنَهُمْ رَأْيًا فِي يُوسُفَ، فَخَلَّفُوهُ عِنْدَهُ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
[سورة يوسف (12) : الآيات 59 الى 62]
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ، أَيْ: حَمَّلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بَعِيرًا بِعُدَّتِهِمْ، قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ، يَعْنِي: بِنْيَامِينَ، أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ، أَيْ: أُتِمُّهُ وَلَا أَبْخَسُ النَّاسَ شَيْئًا فَأَزِيدُكُمْ حِمْلَ بِعِيرٍ لِأَجْلِ أَخِيكُمْ وَأُكْرِمُ مَنْزِلَتَكُمْ وَأُحْسِنُ إِلَيْكُمْ، وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ خَيْرُ الْمُضِيفِينَ. وَكَانَ قَدْ أَحْسَنَ ضِيَافَتَهُمْ.
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي، أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي طَعَامٌ أَكِيلُهُ، وَلا تَقْرَبُونِ، أَيْ:
لَا تَقْرَبُوا دَارِي وَبِلَادِي بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ جَزْمٌ عَلَى النَّهْيِ.
قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ، أَيْ: نَطْلُبُهُ وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُرْسِلَهُ مَعَنَا، وَإِنَّا لَفاعِلُونَ، مَا أَمَرْتَنَا بِهِ.
وَقالَ لِفِتْيانِهِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: لِفِتْيانِهِ، بِالْأَلِفِ وَالنُّونِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: «لِفِتْيَتِهِ»
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «أخينا» .
(3) في المخطوط «أخ» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.(2/500)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
بِالتَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلْفٍ، يُرِيدُ غلمانه [1] ، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ الصِّبْيَانِ وَالصِّبْيَةِ، اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ، [أي] [2] :
ثَمَنَ طَعَامِهِمْ وَكَانَتْ دَرَاهِمَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتِ النِّعَالَ وَالْأُدْمَ. وَقِيلَ: كَانَتْ ثَمَانِيَةَ جُرْبٍ مِنْ سَوِيقِ الْمُقْلِ. وَالْأَوَّلُ أصح فِي رِحالِهِمْ، [في] [3] : أَوْعِيَتِهِمْ، وَهِيَ جَمْعُ رَحْلٍ، لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا، انْصَرَفُوا، إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي فَعَلَهُ يُوسُفُ مِنْ أَجْلِهِ، قِيلَ: أَرَادَ أَنْ يُرِيَهُمْ كَرَمَهُ فِي رَدِّ الْبِضَاعَةِ وَتَقْدِيمِ الضَّمَانِ فِي الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ لِيَكُونَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى الْعَوْدِ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا أَيْ كَرَامَتَهُمْ عَلَيْنَا. وَقِيلَ: رأى لؤما [في] أَخْذَ [ثَمَنِ] [4] الطَّعَامِ مِنْ أَبِيهِ وَإِخْوَتِهِ مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فَرَدَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ تَكَرُّمًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: تَخَوَّفَ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَ أَبِيهِ مِنَ الْوَرِقِ مَا يَرْجِعُونَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى. وَقِيلَ: فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ دِيَانَتَهُمْ تَحْمِلُهُمْ عَلَى رَدِّ الْبِضَاعَةِ نَفْيًا لِلْغَلَطِ وَلَا يستحلّون [5] إمساكها.
[سورة يوسف (12) : الآيات 63 الى 65]
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يَا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يَا أَبانا مَا نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يَا أَبانا، إِنَّا قَدِمْنَا عَلَى خَيْرِ رَجُلٍ أَنْزَلَنَا وَأَكْرَمَنَا كَرَامَةً لَوْ كَانَ رَجُلًا مِنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ مَا أَكْرَمَنَا كَرَامَتَهُ، فَقَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ: إِذَا أَتَيْتُمْ مَلِكَ مصر فأقرئوه مني السلام، قولوا [6] لَهُ:
إِنَّ أَبَانَا يُصَلِّي عَلَيْكَ وَيَدْعُو لَكَ بِمَا أَوْلَيْتَنَا، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ شَمْعُونُ؟ قَالُوا: ارْتَهَنَهُ مَلِكُ مِصْرَ وَأَخْبَرُوهُ بِالْقِصَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: وَلِمَ أَخْبَرْتُمُوهُ؟ قَالُوا: إِنَّهُ أَخَذَنَا وَقَالَ أَنْتُمْ جَوَاسِيسُ حَيْثُ كَلَّمْنَاهُ بِلِسَانِ الْعِبْرَانِيَّةِ، وَقَصُّوا عَلَيْهِ الْقِصَّةَ، وَقَالُوا: يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ، قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ يُمْنَعُ مِنَّا الْكَيْلُ إِنْ لَمْ تَحْمِلْ أَخَانَا مَعَنَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أعطي باسم كل واحد منا حمل بعير ويمنع مِنَّا الْكَيْلَ لِبِنْيَامِينَ، وَالْمُرَادُ بِالْكَيْلِ الطعام لأنه كان يُكَالُ، فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا بِنْيَامِينَ، نَكْتَلْ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَكْتَلْ بالياء، يعني: يكيل لِنَفْسِهِ كَمَا نَحْنُ نَكْتَالُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: نَكْتَلْ بِالنُّونِ، يَعْنِي: نَكْتَلْ [نَحْنُ] وَهُوَ الطَّعَامُ. وَقِيلَ: نَكْتَلْ لَهُ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.
قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ، يُوسُفَ مِنْ قَبْلُ، أَيْ: كَيْفَ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ وَقَدْ فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ مَا فَعَلْتُمْ؟ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: حافِظاً بِالْأَلْفِ عَلَى التَّفْسِيرِ، كَمَا يُقَالُ هُوَ خَيْرٌ رَجُلًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: حِفْظًا بِغَيْرِ أَلْفٍ عَلَى الْمَصْدَرِ، يَعْنِي: خَيْرُكُمْ حِفْظًا، يَقُولُ: حِفْظُهُ خَيْرٌ مِنْ حِفْظِكُمْ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ، الَّذِي حَمَلُوهُ مِنْ مصر، وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ، [أي] : ثَمَنَ الطَّعَامِ [7] ، رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يَا أَبانا مَا نَبْغِي، أَيْ: مَاذَا نَبْغِي وَأَيَّ شَيْءٍ نَطْلُبُ؟ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا لِيَعْقُوبَ عَلَيْهِ
__________
(1) في المطبوع «لغلمانه» والمثبت عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المخطوط «يستحلوا» .
(6) في المطبوع «وقوله» والمثبت عن المخطوط. [.....]
(7) في المطبوع «ثم الطعام» والمثبت عن المخطوط.(2/501)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
السَّلَامُ إِحْسَانَ الْمَلِكِ إِلَيْهِمْ وَحَثُّوهُ عَلَى إِرْسَالِ بِنْيَامِينَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا فتحوا المتاع وجدوا البضاعة، قَالُوا:
يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي، هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا، أَيَّ: شَيْءٍ نَطْلُبُ بِالْكَلَامِ فَهَذَا هُوَ الْعِيَانُ مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْإِكْرَامِ، أَوْفَى لَنَا الْكَيْلَ وَرَدَّ عَلَيْنَا الثَّمَنَ، أَرَادُوا تَطْيِيبَ نَفْسِ أَبِيهِمْ، وَنَمِيرُ أَهْلَنا، أَيْ: نَشْتَرِي لَهُمُ الطَّعَامَ فَنَحْمِلُهُ إِلَيْهِمْ. يُقَالُ: مَارَ أَهْلَهُ يَمِيرُ مَيْرًا إِذَا حَمَلَ إِلَيْهِمُ الطعام من بَلَدٍ آخَرَ. وَمِثْلُهُ امْتَارَ يَمْتَارُ امْتِيَارًا. وَنَحْفَظُ أَخانا بِنْيَامِينَ، أَيْ: مِمَّا تَخَافُ عَلَيْهِ. وَنَزْدادُ، عَلَى أحملنا، كَيْلَ بَعِيرٍ، أَيْ:
حِمْلَ بَعِيرٍ يُكَالُ [1] لَنَا مِنْ أَجْلِهِ، لِأَنَّهُ كَانَ يُعْطِي بِاسْمِ كُلِّ رَجُلٍ حِمْلَ بَعِيرٍ، ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ، أَيْ:
مَا حَمَلْنَاهُ قَلِيلٌ لَا يكفينا [2] وأهلنا. وقيل: معناه وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ لَا مُؤْنَةَ فِيهِ وَلَا مشقّة.
وقال مجاهد: البعير هاهنا الْحِمَارُ كَيْلَ بَعِيرٍ، أَيْ: حِمْلَ حِمَارٍ، وَهِيَ لُغَةٌ، يُقَالُ لِلْحِمَارِ: بَعِيرٌ. وَهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ حُمُرٍ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ [أَنَّهُ الْبَعِيرُ الْمَعْرُوفُ] [3] .
[سورة يوسف (12) : الآيات 66 الى 68]
قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)
قالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ: لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ تعطون مَوْثِقاً، أي: مِيثَاقًا وَعَهْدًا، مِنَ اللَّهِ، وَالْعَهْدُ الموثق: المؤكّد بالقسم [4] . وقيل: الْمُؤَكَّدُ بِإِشْهَادِ اللَّهِ عَلَى نَفْسِهِ، لَتَأْتُنَّنِي بِهِ، وَأَدْخَلَ اللَّامَ فِيهِ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ الْيَمِينُ، إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا أَنْ تَهْلَكُوا جَمِيعًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا أَنْ تَغْلِبُوا حَتَّى لَا تُطِيقُوا ذَلِكَ. وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ الْإِخْوَةَ ضَاقَ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ وَجَهِدُوا أَشَدَّ الْجُهْدِ، فَلَمْ يَجِدْ يَعْقُوبُ بُدًّا مِنْ إِرْسَالِ بِنْيَامِينَ مَعَهُمْ. فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ، أَعْطَوْهُ عُهُودَهُمْ، قالَ، يَعْنِي: يَعْقُوبَ اللَّهُ عَلى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ، شَاهِدٌ. وَقِيلَ: حَافَظٌ. قَالَ كَعْبٌ: لَمَّا قَالَ يَعْقُوبُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وهو أرحم الراحمين، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَعِزَّتِي [وجلالي] لأردنّ عليك كليهما بعد ما توكّلت عليّ.
وَقالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ: لَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ مِنْ عِنْدِهِ، يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، وَذَلِكَ أنه خاف عليهم [من] [5] الْعَيْنَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أُعْطُوا جَمَالًا وَقُوَّةً وَامْتِدَادَ قَامَةٍ، وَكَانُوا وَلَدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَفَرَّقُوا فِي دُخُولِهِمْ لِئَلَّا يُصَابُوا بِالْعَيْنِ، فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ.
«1186» وَجَاءَ فِي الْأَثَرِ: «إِنَّ الْعَيْنَ تُدْخِلُ الرَّجُلَ القبر والجمل القدر» .
__________
1186- ضعيف. أخرجه الخطيب في «تاريخه» (9/ 244) وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 90) والقضاعي في «مسند الشهاب» 1057 و1058 من حديث جابر ومداره على شعيب بن أيوب وقد وثقه الدارقطني وابن حبان وقال أبو داود: إني لأخاف الله تعالى في الرواية عنه.
(1) في المطبوع «يكتال» .
(2) في المطبوع «يفينا» والمثبت عن المخطوط وط.
(3) العبارة في المخطوط «لأنه المعروف» .
(4) زيد في المطبوع «وقيل: المؤكد بالقسم» .
(5) زيادة عن المخطوط.(2/502)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يَرْجُو أَنْ يَرَوْا يُوسُفَ فِي التَّفَرُّقِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. ثُمَّ قَالَ: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، مَعْنَاهُ: إِنْ كَانَ اللَّهُ قَضَى فِيكُمْ قَضَاءً فَيُصِيبُكُمْ مُجْتَمِعِينَ كُنْتُمْ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ، فَإِنَّ الْمَقْدُورَ كَائِنٌ والحذر لا ينفع عن الْقَدَرِ، إِنِ الْحُكْمُ، مَا الْحُكْمُ، إِلَّا لِلَّهِ، هَذَا تَفْوِيضُ يَعْقُوبَ أُمُورَهُ إِلَى اللَّهِ، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، اعْتَمَدْتُ، وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ.
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ، أَيْ: مِنَ الْأَبْوَابِ الْمُتَفَرِّقَةِ. وَقِيلَ: كانت المدينة مدينة الفرما وَلَهَا أَرْبَعَةُ أَبْوَابٍ، فَدَخَلُوهَا مِنْ أَبْوَابِهَا، مَا كانَ يُغْنِي، يَدْفَعُ عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، صَدَقَ اللَّهُ تَعَالَى يَعْقُوبَ فِيمَا قَالَ، إِلَّا حاجَةً، مُرَادًا، فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها، أَشْفَقَ عَلَيْهِمْ إِشْفَاقَ الْآبَاءِ عَلَى أَبْنَائِهِمْ وَجَرَى الْأَمْرُ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ، يَعْنِي: يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَذُو عِلْمٍ، يَعْنِي: كَانَ يَعْمَلُ مَا يَعْمَلُ عَنْ عِلْمٍ لَا عَنْ جَهْلٍ، لِما عَلَّمْناهُ، أَيْ: لِتَعْلِيمِنَا إِيَّاهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لِعَامِلٍ بِمَا عَلِمَ. قَالَ سُفْيَانُ: مَنْ لَا يَعْمَلُ بِمَا يَعْلَمُ لَا يَكُونُ عَالِمًا. وَقِيلَ: إنه لَذُو حِفْظٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، مَا يَعْلَمُ يَعْقُوبُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْلُكُوا طريق إصابة العلم. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ ما ألهم الله أولياءه.
[سورة يوسف (12) : آية 69]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ، قَالُوا: هَذَا أَخُونَا الَّذِي أَمَرْتَنَا أَنْ نَأْتِيَكَ بِهِ قَدْ جِئْنَاكَ بِهِ، فَقَالَ:
أَحْسَنْتُمْ وَأَصَبْتُمْ، وَسَتَجِدُونَ جَزَاءَ ذلك عندي، ثم أنزلهم فأكرم منزلتهم، ثُمَّ أَضَافَهُمُ وَأَجْلَسَ كُلَّ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ عَلَى مَائِدَةٍ فَبَقِيَ بِنْيَامِينُ وَحِيدًا فَبَكَى وَقَالَ: لَوْ كَانَ أَخِي يُوسُفُ حَيًّا لَأَجْلَسَنِي مَعَهُ، فَقَالَ يُوسُفُ:
لَقَدْ بَقِيَ أَخُوكُمْ [1] هَذَا وَحِيدًا فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى مَائِدَتِهِ فَجَعَلَ يُواكِلُهُ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَمَرَ لَهُمْ بِمِثْلِ [ذَلِكَ] ، وقال [لهم] [2] : لِيَنَمْ كُلُّ أَخَوَيْنِ مِنْكُمْ عَلَى مِثَالٍ، فَبَقِيَ بِنْيَامِينُ وَحَدَهُ، فَقَالَ يُوسُفُ: هَذَا يَنَامُ مَعِي عَلَى فِرَاشِي، فَنَامَ [3] مَعَهُ فَجَعَلَ يُوسُفُ يَضُمُّهُ إِلَيْهِ وَيَشُمُّ رِيحَهُ حَتَّى أصبح، وجعل روبيل [4] يَقُولُ:
مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هَذَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ، قَالَ لَهُمْ: إِنِّي أَرَى هَذَا الرَّجُلَ لَيْسَ مَعَهُ ثَانٍ فَسَأَضُمُّهُ إِلَيَّ فَيَكُونُ مَنْزِلُهُ مَعِي، ثُمَّ أَنْزَلَهُمْ مُنْزِلًا وَأَجْرَى عَلَيْهِمُ الطَّعَامَ، وَأَنْزَلَ أَخَاهُ لِأُمِّهِ [مَعَهُ] [5] ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: آوَى إِلَيْهِ أَخاهُ، أَيْ: ضَمَّ إِلَيْهِ أَخَاهُ فَلَمَّا خَلَا بِهِ قَالَ [له] : مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: بِنْيَامِينُ، قَالَ: وَمَا بِنْيَامِينُ؟
قَالَ: ابْنُ الْمُثْكِلِ [6] ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا وُلِدَ هَلَكَتْ أُمُّهُ قَالَ: وَمَا اسْمُ أُمِّكَ؟ قال: راحيل، قال: راحيل بنت من؟ قال: راحيل بنت لاوى، قال: فَهَلْ لَكَ مِنْ وَلَدٍ؟ قَالَ: نعم عشر بَنِينَ، قَالَ: فَهَلْ لَكَ مِنْ أَخٍ لِأُمِّكَ، قَالَ: كَانَ لِي أَخٌ فَهَلَكَ، قَالَ يُوسُفُ: أَتُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَخَاكَ بَدَلَ أَخِيكَ الْهَالِكِ، فَقَالَ بِنْيَامِينُ:
وَمَنْ يَجِدُ أخًا مِثْلَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ وَلَكِنْ لَمْ يَلِدْكَ يَعْقُوبُ وَلَا رَاحِيلُ، فَبَكَى يُوسُفُ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَامَ إِلَيْهِ وَعَانَقَهُ، وَقَالَ [لَهُ] : قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ، أَيْ: لَا تَحْزَنْ، بِما كانُوا يَعْمَلُونَ، بشيء
__________
والحديث ضعفه السخاوي في «المقاصد الحسنة» وأنكره الذهبي في «الميزان» في ترجمة شعيب بن أيوب، وهو كما قالا، والصحيح في ذلك «العين حق» وهذا متفق عليه، وتقدم.
(1) في المطبوع «أحدكم» والمثبت عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «فبات» .
(4) في المطبوع «روبين» والمثبت عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «المنكل» والمثبت عن المخطوط. [.....](2/503)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)
فَعَلُوهُ بِنَا فِيمَا مَضَى، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْنَا، وَلَا تُعْلِمْهُمْ شَيْئًا مِمَّا أَعْلَمْتُكُ، ثُمَّ أَوْفَى يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ الْكَيْلَ وَحَمَّلَ لَهُمْ بَعِيرًا بَعِيرًا وَلِبِنْيَامِينَ بَعِيرًا بِاسْمِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِسِقَايَةِ الْمَلِكِ فَجُعِلَتْ فِي رَحْلِ بِنْيَامِينَ.
قال السدي: جَعَلَ [1] السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، وَالْأَخُ لَا يَشْعُرُ، وَقَالَ كَعْبٌ: لَمَّا قَالَ لَهُ يُوسُفُ: إِنِّي أَنَا أَخُوكَ، قَالَ بِنْيَامِينُ: أَنَا لَا أُفَارِقُكَ، فَقَالَ [لَهُ] [2] يُوسُفُ: قَدْ عَلِمْتُ اغْتِمَامَ وَالِدِي بِي وَإِذَا حَبَسْتُكَ ازْدَادَ غَمُّهُ وَلَا يُمْكِنُنِي هَذَا إِلَّا بَعْدَ أَنْ أُشْهِرَكَ بِأَمْرٍ فَظِيعٍ وَأَنْسِبَكَ إِلَى ما لا يحل [3] ، قَالَ: لَا أُبَالِي فَافْعَلْ مَا بَدَا لَكَ فَإِنِّي لَا أُفَارِقُكَ، قَالَ: فَإِنِّي أَدُسُّ صَاعِي فِي رحلك ثم أنادي عليك بِالسَّرِقَةِ لِيُهَيَّأَ لِي رَدُّكَ بَعْدَ تسريحك، قال: فافعل كما تريد.
[سورة يوسف (12) : الآيات 70 الى 74]
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74)
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ، وَهِيَ الْمَشْرَبَةُ الَّتِي كَانَ الْمَلِكُ يَشْرَبُ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ مِنْ زَبَرْجَدٍ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ مِنْ فِضَّةٍ. وَقِيلَ: مِنْ ذَهَبٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَتْ مَشْرَبَةً مِنْ فِضَّةٍ مُرَصَّعَةً بالجواهر، وجعلها يُوسُفُ مِكْيَالًا لِئَلَّا يُكَالَ بِغَيْرِهَا، وَكَانَ يَشْرَبُ مِنْهَا. وَالسِّقَايَةُ وَالصُّوَاعُ واحد، فجعلت في وعاء طعام [أخيه] [4] بِنْيَامِينَ، ثُمَّ ارْتَحَلُوا وَأَمْهَلَهُمْ يُوسُفُ حَتَّى انْطَلَقُوا وَذَهَبُوا مَنْزِلًا. وَقِيلَ: حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الْعِمَارَةِ، ثُمَّ بعث من خَلْفَهُمْ مَنِ اسْتَوْقَفَهُمْ وَحَبَسَهُمْ. ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ، نَادَى مُنَادٍ، أَيَّتُهَا الْعِيرُ، وَهِيَ الْقَافِلَةُ الَّتِي فِيهَا الْأَحْمَالُ. قَالَ مُجَاهِدٌ:
كَانَتِ الْعِيرُ حميرا. قال الْفَرَّاءُ: كَانُوا أَصْحَابَ إِبِلٍ. إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ، قِفُوا. قِيلَ [5] : قَالُوهُ مِنْ غَيْرِ أَمْرِ يُوسُفَ. وَقِيلَ: قَالُوهُ بِأَمْرِهِ، وَكَانَ هَفْوَةً مِنْهُ. وَقِيلَ: قَالُوهُ عَلَى تَأْوِيلِ أَنَّهُمْ سَرَقُوا يُوسُفَ مِنْ أَبِيهِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمُ الرَّسُولُ، قَالَ لَهُمْ: أَلَمْ نُكْرِمْ ضِيَافَتَكُمْ وَنَحْسُنْ مَنْزِلَتَكُمْ وَنُوَفِّكُمْ كَيْلَكُمْ وَنَفْعَلْ بِكُمْ مَا لَمْ نفعل بغيركم؟ قالوا: بلى، قالوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: سِقَايَةُ الْمَلِكِ فَقَدْنَاهَا، وَلَا نَتَّهِمُ عَلَيْهَا غَيْرَكُمْ.
فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ، عَطَفُوا عَلَى الْمُؤَذِّنِ وَأَصْحَابِهِ، مَاذَا تَفْقِدُونَ، مَا الَّذِي ضلّ عنكم. والفقدان: ضدّ الوجود [6] .
قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ، مِنَ الطَّعَامِ، وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ، كَفِيلٌ، يقوله المؤذن.
قالُوا، يَعْنِي: إِخْوَةُ يُوسُفَ، تَاللَّهِ، أي: والله، خصّت هَذِهِ الْكَلِمَةُ بِأَنْ أُبْدِلَتِ الْوَاوُ فِيهَا بِالتَّاءِ فِي الْيَمِينِ دُونَ سَائِرِ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ، لِنَسْرِقَ فِي أَرْضِ مِصْرَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتُمْ؟ وَمِنْ أَيْنَ عَلِمُوا ذَلِكَ؟ قيل: قالوا قد عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّا مُنْذُ قَطَعْنَا هَذَا الطَّرِيقَ لَمْ نَرْزَأْ أَحَدًا شَيْئًا فَاسْأَلُوا عَنَّا مَنْ مَرَرْنَا بِهِ، هَلْ ضَرَرْنَا أَحَدًا. وَقِيلَ:
لِأَنَّهُمْ رَدُّوا الْبِضَاعَةَ الَّتِي جُعِلَتْ فِي رِحَالِهِمْ، قَالُوا: فَلَوْ كُنَّا سَارِقِينَ مَا رَدَدْنَاهَا. وَقِيلَ: قَالُوا ذَلِكَ لأنهم
__________
(1) في المطبوع «جعلت» والمثبت عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «يحل» وفي ط «يحمد» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «قال» والمثبت عن المخطوط.
(6) في المطبوع «الوجدان» والمثبت عن المخطوط.(2/504)
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
كَانُوا مَعْرُوفِينَ بِأَنَّهُمْ لَا يَتَنَاوَلُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ، وَكَانُوا إِذَا دَخَلُوا مِصْرَ كَمَّمُوا أَفْوَاهَ دَوَابِّهِمْ كَيْلَا تَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ حُرُوثِ النَّاسِ، وَما كُنَّا سارِقِينَ.
قالُوا، يَعْنِي: الْمُنَادِيَ وَأَصْحَابَهُ فَما جَزاؤُهُ، يعني [1] : ما جَزَاءُ السَّارِقِ، إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ، في قولكم: ما كنا سارقين.
[سورة يوسف (12) : الآيات 75 الى 76]
قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
قالُوا، يَعْنِي: إِخْوَةَ يُوسُفَ، جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ، أَيْ: فَالسَّارِقُ جَزَاؤُهُ أَنْ يُسَلَّمَ السَّارِقُ بِسَرِقَتِهِ إِلَى الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَيَسْتَرِقَّهُ سَنَةً، وَكَانَ ذَلِكَ سُنَّةَ آلِ يَعْقُوبَ فِي حُكْمِ السَّارِقِ، وكان [في] [2] حُكْمُ مَلِكِ مِصْرَ أَنْ يُضْرَبَ السَّارِقُ وَيُغَرَّمَ ضِعْفَيْ قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ، فَأَرَادَ يُوسُفُ أَنْ يَحْبِسَ أَخَاهُ عِنْدَهُ، فَرَدَّ الْحُكْمَ إِلَيْهِمْ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ حَبْسِهِ عِنْدَهُ عَلَى حُكْمِهِمْ. كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ، الْفَاعِلِينِ مَا لَيْسَ لَهُمْ فِعْلُهُ مِنْ سَرِقَةِ مَالِ الْغَيْرِ، فَقَالَ الرَّسُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: لَا بُدَّ مِنْ تَفْتِيشِ أَمْتِعَتِكُمْ، فَأَخَذَ فِي تَفْتِيشِهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ رَدَّهُمْ إِلَى يُوسُفَ فَأَمَرَ بِتَفْتِيشِ أوعيتهم بين يديه [واحدا واحدا] [3] .
[فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ، لِإِزَالَةِ التُّهْمَةِ، قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ، فَكَانَ يُفَتِّشُ أَوْعِيَتَهُمْ وَاحِدًا وَاحِدًا] [4] .
قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ كَانَ لَا يَفْتَحُ مَتَاعًا وَلَا يَنْظُرُ فِي وِعَاءٍ إِلَّا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَأَثُّمًا مِمَّا قَذَفَهُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا رَحْلُ بِنْيَامِينَ، قَالَ: مَا أَظُنُّ هَذَا أَخَذَهُ، فَقَالَ إِخْوَتُهُ: وَاللَّهِ لَا نَتْرُكُ حَتَّى تَنْظُرَ فِي رَحْلِهِ فَإِنَّهُ أَطْيَبُ لِنَفْسِكَ وَلِأَنْفُسِنَا، فَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُ اسْتَخْرَجُوهُ مِنْهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ، وَإِنَّمَا أَنَّثَ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ: اسْتَخْرَجَها، وَالصُّوَاعُ مُذَكَّرٌ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ [يوسف: 72] ، لأنه ردّ الكناية هاهنا إِلَى السِّقَايَةِ. وَقِيلَ: الصُّوَاعُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فَلَمَّا أَخْرَجَ الصُّوَاعَ مِنْ رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم مِنَ الْحَيَاءِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى بِنْيَامِينَ وَقَالُوا: مَا الَّذِي صَنَعْتَ فَضَحْتَنَا وَسَوَّدَتْ وُجُوهَنَا يَا بَنِي رَاحِيلَ؟ مَا يَزَالُ لَنَا مِنْكُمُ الْبَلَاءُ مَتَى أَخَذْتَ هَذَا الصُّوَاعَ، فَقَالَ بِنْيَامِينُ: بَلْ بَنُو رَاحِيلَ لَا يَزَالُ لَهُمْ مِنْكُمْ بَلَاءٌ ذَهَبْتُمْ بأخي فأهلكتموه في البرية والله قد وضع هَذَا الصُّوَاعَ فِي رَحْلِي الَّذِي وَضَعَ الْبِضَاعَةَ فِي رِحَالِكُمْ، فَأَخَذُوا بِنْيَامِينَ رَقِيقًا. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ الرجل أخذه [5] بِرَقَبَتِهِ وَرَدَّهُ إِلَى يُوسُفَ كَمَا يُرَدُّ السُّرَّاقُ، كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ، والكيد هاهنا جَزَاءُ الْكَيْدِ، يَعْنِي: كَمَا فَعَلُوا فِي الِابْتِدَاءِ بِيُوسُفَ مِنَ الْكَيْدِ فَعَلْنَا بِهِمْ. وَقَدْ قَالَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِيُوسُفَ: فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً [يوسف: 5] ، فَكِدْنَا لِيُوسُفَ فِي أَمْرِهِمْ. وَالْكَيْدُ مِنَ الْخُلُقِ: الْحِيلَةُ، وَمِنَ اللَّهِ: التدبير بالحق. وقيل: كذبا أهلمنا. وَقِيلَ: دَبَّرْنَا. وَقِيلَ: أَرَدْنَا. وَمَعْنَاهُ: صَنَعْنَا لِيُوسُفَ حَتَّى ضَمَّ أَخَاهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إخوته [وذلك قوله] [6] : مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ، فَيَضُمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، فِي دِينِ الْمَلِكِ، أي: في حكمه.
قال قَتَادَةُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي سُلْطَانِهِ. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، يَعْنِي: إِنَّ يُوسُفَ لَمْ يَكُنْ يتمكّن من
__________
(1) في المخطوط «أي» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع.
(5) في المطبوع «أخذ» والمثبت عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.(2/505)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
حَبْسِ أَخِيهِ فِي حُكْمِ الْمَلِكِ لَوْلَا مَا كِدْنَا لَهُ بِلُطْفِنَا حَتَّى وَجَدَ السَّبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، وَهُوَ مَا أَجْرَى عَلَى أَلْسِنَةِ الْإِخْوَةِ أَنَّ جَزَاءَ السَّارِقِ الِاسْتِرْقَاقُ، فَحَصَلَ مُرَادُ يُوسُفَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى. نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ، بِالْعِلْمِ كَمَا رَفَعْنَا دَرَجَةَ يُوسُفَ عَلَى إِخْوَتِهِ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ «يَرْفَعُ» وَ «يَشَاءُ» بِالْيَاءِ فِيهِمَا، [وَإِضَافَةُ دَرَجاتٍ إِلَى مِنْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْوَجْهُ أَنَّ الْفِعْلَ فِيهِمَا مُسْنَدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، أَيْ: يَرْفَعُ اللَّهُ دَرَجَاتِ مِنْ يَشَاءُ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنُّونِ فِيهِمَا، إِلَّا أَنَّ الكوفيين قرؤوا: دَرَجاتٍ بِالتَّنْوِينِ، وَمَنْ سِوَاهُمْ بِالْإِضَافَةِ، أي: نرفع به نحن، والواقع أَيْضًا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى] [1] . وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَوْقَ كُلِّ عَالَمٍ عَالَمٌ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ الْعِلْمُ إلى الله تعالى، فإن الله تعالى فوق كل عالم.
[سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 78]
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ، يُرِيدُونَ أخا له من أمه يعنون به يُوسُفَ، وَاخْتَلَفُوا فِي السَّرِقَةِ الَّتِي وَصَفُوا بِهَا يُوسُفَ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] ، فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: كَانَ لِجَدِّهِ أَبِي [2] أُمِّهِ صَنَمٌ يعبده فأخذه سرّا وكسره وَأَلْقَاهُ فِي الطَّرِيقِ لِئَلَّا يُعْبَدَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ يُوسُفَ جَاءَهُ سَائِلٌ يَوْمًا فَأَخَذَ بَيْضَةً مِنَ البيت فناولها السائل. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: أَخَذَ دَجَاجَةً مِنَ الطَّيْرِ الَّتِي كَانَتْ فِي بَيْتِ يَعْقُوبَ فَأَعْطَاهَا سَائِلًا. وقال وهب: كان يخبّىء الطَّعَامَ مِنَ الْمَائِدَةِ لِلْفُقَرَاءِ.
وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ يُوسُفَ كَانَ عِنْدَ عَمَّتِهِ ابْنَةِ إِسْحَاقَ بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ رَاحِيلَ، فَحَضَنَتْهُ عَمَّتُهُ وَأَحَبَّتْهُ حُبًّا شَدِيدًا، فَلَمَّا تَرَعْرَعَ وَقَعَتْ مَحَبَّةُ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ، فَأَتَاهَا وَقَالَ: يَا أُخْتَاهْ سَلِّمِي إليّ يوسف فو الله مَا أَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَغِيبَ عَنِّي سَاعَةً، قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَنَا بِتَارِكِهِ، فَقَالَتْ: دَعْهُ عِنْدِي أَيَّامًا أَنْظُرْ إِلَيْهِ لَعَلَّ ذَلِكَ يُسَلِّينِي عَنْهُ، ففعل ذلك فعمدت [عمته] [3] إِلَى مِنْطَقَةٍ لِإِسْحَاقَ كَانُوا يَتَوَارَثُونَهَا بِالْكِبَرِ، فَكَانَتْ عِنْدَهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ أَكْبَرَ وَلَدِ إِسْحَاقَ، فَحَزَمَتِ الْمِنْطَقَةَ عَلَى يُوسُفَ تَحْتَ ثِيَابِهِ وَهُوَ صَغِيرٌ، ثُمَّ قَالَتْ: لَقَدْ فَقَدْتُ مِنْطَقَةَ إِسْحَاقَ اكْشِفُوا أَهْلَ الْبَيْتِ فَكَشَفُوا فَوَجَدُوهَا مَعَ يُوسُفَ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّهُ لَسَلَمٌ [4] لِي، فَقَالَ يَعْقُوبُ: إِنْ كَانَ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ سَلَمٌ [5] لَكَ، فَأَمْسَكَتْهُ حَتَّى مَاتَتْ، فَذَلِكَ الَّذِي قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ، فَأَسَرَّها، أَضْمَرَهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ، وَإِنَّمَا أَتَتِ الْكِنَايَةُ لِأَنَّهُ عَنِيَ [6] بِهَا الْكَلِمَةَ وَهِيَ قَوْلُهُ: قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً، ذَكَرَهَا سِرًّا فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهَا، يُرِيدُ أَنْتُمْ شَرٌّ مكانا أي منزلا عِنْدَ اللَّهِ مِمَّنْ رَمَيْتُمُوهُ بِالسَّرِقَةِ فِي صَنِيعِكُمْ بِيُوسُفَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ يُوسُفَ سَرِقَةٌ حَقِيقِيَّةٌ وَخِيَانَتُكُمْ حَقِيقَةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ، تَقُولُونَ.
قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً، وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ غَضِبُوا غَضَبًا شَدِيدًا لِهَذِهِ الْحَالَةِ، وَكَانَ
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع.
(2) في المطبوع «ابن» والمثبت عن المخطوط. [.....]
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المخطوط «ليسلم» والسلم: انقياد المذعن المستخذي كالأسير الذي لا يمتنع ممن أمره.
(5) في المخطوط «يسلم» .
(6) في المطبوع «كين» والمثبت عن المخطوط.(2/506)
قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
بَنُو يَعْقُوبَ إِذَا غَضِبُوا لَمْ يُطَاقُوا، وَكَانَ رُوبِيلُ إِذَا غَضِبَ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ، وَإِذَا صَاحَ أَلْقَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ حَامِلٍ سَمِعَتْ صَوْتَهُ وَلَدَهَا، وَكَانَ مَعَ هَذَا إِذَا مَسَّهُ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ سَكَنَ غَضَبُهُ. وَقِيلَ: كَانَ هَذَا صِفَةُ شَمْعُونَ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِإِخْوَتِهِ: كَمْ عَدَدُ الْأَسْوَاقِ بِمِصْرَ؟ فَقَالُوا: عَشَرَةٌ، فَقَالَ:
اكْفُونِي أَنْتُمُ الْأَسْوَاقَ وَأَنَا أَكْفِيكُمُ الْمَلِكَ، أَوِ اكْفُونِي أَنْتُمُ الْمَلِكَ وَأَنَا أَكْفِيكُمُ الْأَسْوَاقَ، فَدَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ فَقَالَ رُوبِيلُ: لَتَرُدَّنَ عَلَيْنَا أَخَانَا أَوْ لَأَصِيحَنَّ صَيْحَةً لَا تُبْقِي بِمِصْرَ امرأة حامل إِلَّا أَلْقَتْ وَلَدَهَا وَقَامَتْ كُلُّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِ رُوبِيلَ فَخَرَجَتْ مِنْ ثِيَابِهِ، فَقَالَ يُوسُفُ لِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ: قُمْ إِلَى جَنْبِ رُوبِيلَ فَمُسَّهُ. وَرُوِيَ:
خُذْ بِيَدِهِ فَأْتِنِي بِهِ، فَذَهَبَ الْغُلَامُ فَمَسَّهُ فَسَكَنَ غَضَبُهُ. فَقَالَ رُوبِيلُ: إِنَّ هاهنا لبذرا من بذر يَعْقُوبَ، فَقَالَ يُوسُفُ: مَنْ يَعْقُوبُ؟ وَرُوِيَ أَنَّهُ غَضِبَ ثَانِيًا فَقَامَ إِلَيْهِ يُوسُفُ فَرَكَضَهُ بِرِجْلِهِ وَأَخَذَ بِتَلَابِيبِهِ [1] فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَقَالَ: أنتم يا مَعْشَرَ الْعِبْرَانِيِّينَ تَظُنُّونَ أَنْ لَا أَحَدَ أَشَدُّ مِنْكُمْ؟ فَلَمَّا صَارَ أَمْرُهُمْ إِلَى هَذَا وَرَأَوْا أَنْ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى تَخْلِيصِهِ خضعوا وذلّوا وقالوا: قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً يُحِبُّهُ، فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ، بَدَلًا مِنْهُ، إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، فِي أَفْعَالِكِ. وَقِيلَ: مِنَ الْمُحْسِنِينَ إِلَيْنَا فِي تَوْفِيَةِ الْكَيْلِ وَحُسْنِ الضِّيَافَةِ وَرَدِّ الْبِضَاعَةِ. وَقِيلَ: يَعْنُونَ: إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ كُنْتُ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
[سورة يوسف (12) : الآيات 79 الى 80]
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80)
قالَ يُوسُفُ: مَعاذَ اللَّهِ، أَعُوذُ بِاللَّهِ، أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ، وَلَمْ يَقُلْ إِلَّا مَنْ سَرَقَ تَحْرُّزًا مِنَ الْكَذِبِ، إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ، إِنْ أخذنا برئيا بمجرم.
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ، أَيْ: أَيِسُوا مِنْ يُوسُفَ أَنْ يُجِيبَهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوهُ. وقال أبو عبيدة:
استيأسوا [2] اسْتَيْقَنُوا أَنَّ الْأَخَ لَا يُرَدُّ إِلَيْهِمْ. خَلَصُوا نَجِيًّا، أَيْ: خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ يَتَنَاجَوْنَ وَيَتَشَاوَرُونَ لَا يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ. وَالنَّجِيُّ يَصْلُحُ لِلْجَمَاعَةِ كما قال هاهنا وَيَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ كَقَوْلِهِ: وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا [مَرْيَمَ: 52] ، وَإِنَّمَا جَازَ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ جُعِلَ نَعْتًا كَالْعَدْلِ وَالزُّورِ، وَمِثْلُهُ النَّجْوَى يَكُونُ اسْمًا وَمَصْدَرًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الْإِسَرَاءِ: 47] ، أَيْ: مُتَنَاجُونَ. وَقَالَ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ [الْمُجَادَلَةِ: 7] ، وَقَالَ فِي الْمَصْدَرِ: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ [الْمُجَادَلَةِ: 10] . قالَ كَبِيرُهُمْ، يَعْنِي: فِي الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ لَا فِي السِّنِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ: هُوَ يَهُوذَا وَهُوَ أَعْقَلُهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ شَمْعُونُ، وَكَانَتْ لَهُ الرِّئَاسَةُ عَلَى إِخْوَتِهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ رُوبِيلُ، وَكَانَ أَكْبَرَهُمْ فِي السِّنِّ، وَهُوَ الَّذِي نَهَى الْإِخْوَةَ عَنْ قَتْلِ يُوسُفَ. أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً، عَهْدًا، مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ، قَصَّرْتُمْ فِي يُوسُفَ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَحَلِّ مَا، قِيلَ: هُوَ نَصْبٌ بِإِيقَاعِ الْعَلَمِ عَلَيْهِ، يَعْنِي: أَلَمْ تَعْلَمُوا مِنْ قَبْلِ تَفْرِيطِكُمْ فِي يُوسُفَ. وَقِيلَ: وهو في محل رفع عَلَى الِابْتِدَاءِ وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنَ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ قَبْلُ، هَذَا تَفْرِيطُكُمْ فِي يُوسُفَ. وَقِيلَ: مَا صِلَةٌ، أَيْ: وَمِنْ قَبْلِ هَذَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ، فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ، الَّتِي أَنَا بِهَا وَهِيَ [أَرْضُ] [3] مِصْرَ،
__________
(1) في المخطوط «بجلابيبه» .
(2) في المخطوط «أبوا» .
(3) زيادة عن المخطوط.(2/507)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي، بِالْخُرُوجِ منها يدعوني، أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي، بِرَدِّ [1] أَخِي إِلَيَّ أَوْ بِخُرُوجِي وَتَرْكِ أَخِي.
وَقِيلَ: أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بِالسَّيْفِ فَأُقَاتِلُهُمْ وَأَسْتَرِدُّ أَخِي، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ، أَعْدَلُ مَنْ فصل بين الناس.
[سورة يوسف (12) : الآيات 81 الى 83]
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ، يَقُولُ الْأَخُ الْمُحْتَبِسُ بِمِصْرَ لِإِخْوَتِهِ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ، فَقُولُوا يَا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ، بنيامين، سَرَقَ، وقرأ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ [سُرِّقَ] [2] بِضَمِّ السِّينِ وَكَسْرِ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِهَا، يَعْنِي: نُسِبَ إِلَى السَّرِقَةِ، كَمَا يُقَالُ خَوَّنْتُهُ أَيْ نَسَبْتُهُ إِلَى الْخِيَانَةِ، وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا، يَعْنِي: مَا قُلْنَا هَذَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا فَإِنَّا رَأَيْنَا إِخْرَاجَ الصواع مِنْ مَتَاعِهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَمَا شهدنا إلّا بما علمنا أَيْ مَا كَانَتْ مِنَّا شَهَادَةٌ فِي عُمْرِنَا عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ شَهَادَةٌ مِنَّا إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ عَنْ صَنِيعِ ابْنِكَ بِزَعْمِهِمْ. وَقِيلَ: قَالَ لَهُمْ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَا يَدْرِي هَذَا الرَّجُلُ أَنَّ السَّارِقَ يُؤْخَذُ بِسَرِقَتِهِ إِلَّا بِقَوْلِكُمْ، فَقَالُوا: مَا شَهِدْنَا عِنْدَ يُوسُفَ بِأَنَّ السَّارِقَ يُسْتَرَقُّ إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا، وكان الحكم ذلك عند يَعْقُوبَ وَبَنِيهِ. وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مَا كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ ابْنَكَ سَيَسْرِقُ ويصير أمرنا إلى هذا، وَإِنَّمَا قُلْنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا مِمَّا لنا إلى حفظه من سَبِيلٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا كُنَّا لِلَيْلِهِ وَنَهَارِهِ وَمَجِيئِهِ وَذَهَابِهِ حَافِظِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ فَلَعَلَّهَا دُسَّتْ بِاللَّيْلِ في رحله.
وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها، أَيْ: أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَهِيَ مِصْرُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ قَرْيَةٌ مِنْ قُرَى مِصْرَ كَانُوا ارْتَحَلُوا مِنْهَا إِلَى مِصْرَ. وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها، أَيِ: الْقَافِلَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا. وَكَانَ صَحِبَهُمْ قَوْمٌ مِنْ كَنْعَانَ مِنْ جِيرَانِ يَعْقُوبَ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَرَفَ الْأَخُ الْمُحْتَبِسُ بِمِصْرَ أَنَّ إِخْوَتَهُ أَهْلَ تُهْمَةٍ عند أبيهم لما كانوا يصنعوا فِي أَمْرِ يُوسُفَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يقولوا هذه المقالة لِأَبِيهِمْ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اسْتَجَازَ يُوسُفُ أَنْ يَعْمَلَ مثل هذا بأبيه ولم يخبر بِمَكَانِهِ وَحَبَسَ أَخَاهُ مَعَ عِلْمِهِ بشدّة وجد أبيه عليه؟ وقيل:
معنى العقوق: قطيعة الرَّحِمِ وَقِلَّةِ الشَّفَقَةِ؟ قِيلَ: قَدْ أكثر الناس فيه [من الأقوال] [3] . وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ عَمِلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ الله سبحانه وتعالى، وأمره به لِيَزِيدَ فِي بَلَاءِ يَعْقُوبَ فَيُضَاعِفَ لَهُ الْأَجْرَ وَيُلْحِقَهُ فِي الدَّرَجَةِ بِآبَائِهِ الْمَاضِينَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ نَفْسَهُ لِإِخْوَتِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يُدَبِّرُوا فِي أَمْرِهِ تَدْبِيرًا فَيَكْتُمُوهُ عَنْ أَبِيهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ، زيّنت، أَنْفُسُكُمْ أَمْراً، فيه اخْتِصَارٌ مَعْنَاهُ: فَرَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ وَذَكَرُوا لِأَبِيهِمْ مَا قَالَ كَبِيرُهُمْ، فَقَالَ يَعْقُوبُ: بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً، أَيْ: حُمِلَ أَخِيكُمْ إِلَى مِصْرَ لِطَلَبِ نَفْعٍ عَاجِلٍ، فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً، يَعْنِي: يُوسُفَ وَبِنْيَامِينَ وَأَخَاهُمُ الْمُقِيمَ بِمِصْرَ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ، بِحُزْنِي وَوَجْدِي عَلَى فَقْدِهِمْ، الْحَكِيمُ، فِي تَدْبِيرِ خَلْقِهِ.
[سورة يوسف (12) : الآيات 84 الى 86]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
__________
(1) في المطبوع «يرد» والمثبت عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.(2/508)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بلغه خبر بنيامين تناهى [1] حزنه وبلغ جهده، وهيج حُزْنُهُ عَلَى يُوسُفَ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ، وَقالَ يَا أَسَفى، يَا حُزْنَاهْ، عَلى يُوسُفَ، وَالْأَسَفُ أَشَدُّ الْحُزْنِ، وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ، يعني: عَمِيَ بَصَرُهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمْ يُبْصِرْ بِهِمَا سِتَّ سِنِينَ، فَهُوَ كَظِيمٌ، أَيْ: مَكْظُومٌ مَمْلُوءٌ مِنَ الْحُزْنِ مُمْسِكٌ عَلَيْهِ لَا يَبُثُّهُ. قال قتادة: تردّد حُزْنَهُ فِي جَوْفِهِ وَلَمْ يَقُلْ إلّا خيرا. وقال الْحَسَنُ: كَانَ بَيْنَ خُرُوجِ يُوسُفَ مِنْ حِجْرِ أَبِيهِ إِلَى يَوْمِ الْتَقَى مَعَهُ ثَمَانُونَ عَامًا لَا تَجِفُّ عَيْنَا يَعْقُوبَ وَمَا عَلَى وجه الأرض أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ يَعْقُوبَ [عليه الصّلاة والسّلام] .
قالُوا، يَعْنِي: أَوْلَادَ يَعْقُوبَ، تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ، أَيْ: لَا تَزَالُ تَذْكُرُ يُوسُفَ، لَا تَفْتُرُ مِنْ حبه، يقال: ما فتىء يَفْعَلُ كَذَا، أَيْ: مَا زَالَ يفعل، وَ (لَا) مَحْذُوفَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: تَفْتَؤُا، يقال:
ما فتىء يَفْعَلُ كَذَا، أَيْ: مَا زَالَ كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَقُلْتُ يَمِينُ الله أبرح قاعدا ... وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي
أَيْ: لَا أَبْرَحُ. حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دفنا. قال مُجَاهِدٌ: الْحَرَضُ مَا دُونَ الْمَوْتِ، يَعْنِي: قَرِيبًا مِنَ الْمَوْتِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَاسِدًا لَا عَقْلَ لَكَ، وَالْحَرَضُ: الَّذِي فَسَدَ جِسْمُهُ وَعَقْلُهُ.
وَقِيلَ: ذَائِبًا مِنَ الْهَمِّ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: حَتَّى تَكُونَ دَنِفَ الْجِسْمِ مَخْبُولَ الْعَقْلِ. وَأَصْلُ الْحَرَضِ: الْفَسَادُ فِي الْجِسْمِ، وَالْعَقْلِ مِنَ الحزن والهرم، أو العشق أو الهمّ، يُقَالُ: رَجُلٌ حَرَضٌ وَامْرَأَةٌ حَرَضٌ، وَرَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ حَرَضٌ، وَرِجَالٌ وَنِسَاءٌ كَذَلِكَ، يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَالْجَمْعُ وَالْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وضع موضع [الحال و] [2] الِاسْمِ. أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ، أي: من الميّتين.
لَ
يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ ذَلِكَ لما رأى غلظتهم: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
، وَالْبَثُّ أَشَدُّ الْحُزْنِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ حَتَّى يبثّه [3] أي يظهره، وقال الحسن: بثي أي:
حاجتي. وروي أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى يَعْقُوبَ جَارٌ له فقال [لَهُ] [4] : يَا يَعْقُوبُ مَا الَّذِي غيّر حالك ما لي أَرَاكَ قَدْ تَهَشَّمْتَ وَفَنِيتَ وَلَمْ تَبْلُغْ مِنَ السِّنِّ مَا بَلَغَ أَبُوكَ؟ قَالَ: هَشَّمَنِي وَأَفْنَانِي مَا ابْتَلَانِي اللَّهُ بِهِ مِنْ هَمِّ يُوسُفَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا يَعْقُوبُ أَتَشْكُونِي إِلَى خَلْقِي؟ فَقَالَ: يَا رَبِّ خَطِيئَةٌ أَخْطَأْتُهَا فَاغْفِرْهَا لِي، فَقَالَ: قَدْ غَفَرْتُهَا لَكَ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا سُئِلَ قَالَ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ، وَرُوِيَ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: يَا يَعْقُوبُ مَا الَّذِي أذهب بصرك وقوّس [5] ظهرك؟ فقال: أَذْهَبَ بَصَرِي بُكَائِي [6] عَلَى يُوسُفَ، وَقَوَّسَ [7] ظَهْرِي حُزْنِي عَلَى أَخِيهِ؟ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: أَتَشْكُونِي فَوَعِزَّتِي [8] وَجَلَالِي لَا أَكْشِفُ مَا بِكَ حتى تدعوني، فعند ذلك قَالَ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله، فأوحى اللَّهُ إِلَيْهِ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَوْ كَانَا مَيِّتَيْنِ لَأَخْرَجْتُهُمَا لَكَ، وَإِنَّمَا وَجَدْتُ عَلَيْكُمْ لِأَنَّكُمْ ذَبَحْتُمْ شَاةً فَقَامَ بِبَابِكُمْ مسكين فلم تطعموه منها شيء، وَإِنَّ أَحَبَّ خَلْقِي إِلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْمَسَاكِينُ فَاصْنَعْ طَعَامًا وَادْعُ إِلَيْهِ الْمَسَاكِينَ، فَصَنَعَ طَعَامًا ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُفْطِرِ الليلة
__________
(1) في المخطوط «فقام» وفي ط «تتام» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «يثبته» والمثبت عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط. [.....]
(5) في المخطوط «أحنى» .
(6) في المخطوط «حزني» .
(7) في المخطوط «وأقوص» .
(8) في المخطوط «وعزتي» .(2/509)
عِنْدَ آلِ يَعْقُوبَ. وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا تَغَدَّى أَمَرَ مَنْ يُنَادِي: مَنْ أَرَادَ الْغَدَاءَ فَلْيَأْتِ يَعْقُوبَ، وَإِذَا أَفْطَرَ أَمَرَ مَنْ يُنَادِي: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفْطِرَ فَلْيَأْتِ يَعْقُوبَ: فَكَانَ يَتَغَدَّى وَيَتَعَشَّى مَعَ الْمَسَاكِينِ. وَعَنْ وهب بن منبه قال: لما أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى يَعْقُوبَ: أَتَدْرِي لِمَ عَاقَبْتُكَ وَحَبَسْتُ عَنْكَ يُوسُفَ ثَمَانِينَ سَنَةً؟ قَالَ: لَا [يَا إِلَهِي قَالَ] [1] : لِأَنَّكَ قَدْ شَوَيْتَ عَنَاقًا وَقَتَرْتَ عَلَى جَارِكَ، وَأَكَلْتَ وَلَمْ تُطْعِمْهُ.
وَرُوِيَ: أَنَّ سَبَبَ ابْتِلَاءِ يَعْقُوبَ أَنَّهُ ذَبَحَ عِجَلًا بَيْنَ يَدَيْ أُمِّهِ وَهِيَ تَخُورُ.
وَقَالَ وَهْبٌ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمَا: أتى جبريل إلى يوسف في السجن فقال [له] [2] : هَلْ تَعْرِفُنِي أَيُّهَا الصِّدِّيقُ؟ قَالَ: أَرَى صُورَةً طَاهِرَةً وَرِيحًا طَيِّبَةً، قَالَ: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَأَنَا الرُّوحُ الْأَمِينُ، قَالَ: فَمَا أَدْخَلَكَ مَدْخَلَ الْمُذْنِبِينَ وَأَنْتَ أَطْيَبُ الطَّيِّبِينَ وَرَأْسُ الْمُقَرَّبِينَ وَأَمِينُ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ يَا يُوسُفُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُطَهِّرُ الْبُيُوتَ بِطُهْرِ النَّبِيِّينَ، وَأَنَّ الْأَرْضَ التي يدخلونها هي أطهر الأراضين، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ طَهَّرَ بِكَ السِّجْنَ وَمَا حَوْلَهُ يَا طاهر الطَّاهِرَيْنِ وَابْنَ الصَّالِحِينَ الْمُخْلِصِينَ، قَالَ: كيف لِي بِاسْمِ الصِّدِّيقِينَ وَتَعُدُّنِي مِنَ الْمُخْلَصِينَ الطَّاهِرِينَ، وَقَدْ أُدْخِلْتُ مُدْخَلَ الْمُذْنِبِينَ وَسُمِّيتُ بِاسْمِ الْفَاسِقِينَ؟ قَالَ جبريل: لأنه لم يفتتن قَلْبُكَ وَلَمْ تُطِعْ سَيِّدَتَكَ فِي مَعْصِيَةِ رَبِّكَ لِذَلِكَ سَمَّاكَ اللَّهُ فِي الصَّدِّيقِينَ، وَعَدَّكَ مِنَ الْمُخْلَصِينَ، وَأَلْحَقَكَ بِآبَائِكَ الصَّالِحِينَ، قَالَ يُوسُفُ: هَلْ لَكَ عِلْمٌ بِيَعْقُوبَ أَيُّهَا الرُّوحُ الْأَمِينُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَهَبَهُ اللَّهُ الصَّبْرَ الْجَمِيلَ وَابْتَلَاهُ بِالْحُزْنِ عَلَيْكَ فَهُوَ كَظِيمٌ، قَالَ: فَكَمْ قَدْرُ حُزْنِهُ؟ قَالَ: حُزْنُ سَبْعِينَ ثكلى، قال:
فماذا [3] لَهُ مِنَ الْأَجْرِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَجْرُ مِائَةِ شَهِيدٍ، قَالَ: أَفَتُرَانِي لَاقِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَطَابَتْ نفسه، وَقَالَ: مَا أُبَالِي بِمَا لَقِيتُ إن رأيته. قوله تعالى: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ
، يَعْنِي: أَعْلَمُ مِنْ حَيَاةِ يُوسُفَ مَا لَا تَعْلَمُونَ.
رُوِيَ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ زَارَ يَعْقُوبَ [عليه الصّلاة والسّلام] فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلَكُ الطَّيِّبُ رِيحُهُ، الْحَسَنُ صُورَتُهُ، هَلْ قَبَضْتَ رُوحَ وَلَدِي فِي الْأَرْوَاحِ؟ قَالَ: لَا، فَسَكَنَ يَعْقُوبُ وَطَمِعَ فِي رؤيته، وقيل: وأعلم أن رؤيا [ولدي] [4] يُوسُفَ صَادِقَةٌ وَإِنِّي وَأَنْتُمْ سَنَسْجُدُ لَهُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا أَخْبَرَهُ وَلَدُهُ بِسِيرَةِ الْمَلِكِ أَحَسَّتْ نَفْسُ يعقوب فطمع وَقَالَ لَعَلَّهُ يُوسُفُ، فَقَالَ:
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ: أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَتَبَ كِتَابًا إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ حُبِسَ بِنْيَامِينُ: مِنْ يَعْقُوبَ إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّهِ إِلَى مَلِكِ مِصْرَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ وُكِّلَ بِنَا الْبَلَاءُ أَمَّا جَدِّي إِبْرَاهِيمُ فَشُدَّتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ، فَجَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ بَرْدًا وَسَلَامًا، وَأَمَّا أَبِي فَشُدَّتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَوُضِعَ السِّكِّينُ عَلَى قَفَاهُ، فَفَدَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا أَنَا فَكَانَ لِيَ ابْنٌ وَكَانَ أَحَبَّ أَوْلَادِي إِلَيَّ فَذَهَبَ بِهِ إِخْوَتُهُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ ثُمَّ أَتَوْنِي بِقَمِيصِهِ مُلَطَّخًا بِالدَّمِ، فَقَالُوا: قَدْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ، فَذَهَبَتْ عَيْنَايَ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ كَانَ لِيَ ابن وكان أخاه من أمه، وَكُنْتُ أَتَسَلَّى بِهِ وَإِنَّكَ حَبَسْتَهُ وَزَعَمْتَ أَنَّهُ سَرَقَ، وَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَسْرِقُ وَلَا نَلِدُ سارقا، فإن رددته إلي [أقرّ الله عينيك ولا أحزن قلبك] [5] وإلّا دعوت عليك دعوة تردك السَّابِعَ مِنْ وَلَدِكَ، فَلَمَّا قَرَأَ يُوسُفُ الْكِتَابَ لَمْ يَتَمَالَكِ الْبُكَاءَ
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع «فما زاد» والمثبت عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.(2/510)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
وَعِيلَ صَبْرُهُ، فَأَظْهَرَ نَفْسَهُ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
[سورة يوسف (12) : الآيات 87 الى 89]
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89)
[قوله] : يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا، تَخَبَّرُوا وَاطْلُبُوا الْخَبَرَ، مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ، وَالتَّحَسُّسُ بِالْحَاءِ وَالْجِيمِ [لَا يَبْعُدُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ، إِلَّا أَنَّ التَّحَسُّسَ بِالْحَاءِ فِي الْخَيْرِ وَبِالْجِيمِ] [1] فِي الشَّرِّ، والتحسس هُوَ طَلَبُ الشَّيْءِ بِالْحَاسَّةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: معناه التمسوا وَلا تَيْأَسُوا، وَلَا تَقْنَطُوا، مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، أي: من الرحمة. وَقِيلَ: مِنْ فَرَجِ اللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ.
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ تَقْدِيرُهُ: فَخَرَجُوا رَاجِعِينَ إِلَى مِصْرَ حَتَّى وَصَلُوا إليها فدخلوا على [يوسف، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ] [2] ، قالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ، أَيِ: الشِّدَّةُ وَالْجُوعُ، وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ، أَيْ: قَلِيلَةٍ رَدِيئَةٍ كَاسِدَةٍ لَا تُنْفَقُ فِي ثَمَنِ الطَّعَامِ إِلَّا بِتَجَوُّزٍ مِنَ الْبَائِعِ فِيهَا، وأصل الإزجاء [فيها] [3] السَّوْقُ وَالدَّفْعُ. وَقِيلَ لِلْبِضَاعَةِ مُزْجَاةٌ لِأَنَّهَا غَيْرُ نَافِقَةٍ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ عَلَى دَفْعٍ مَنْ آخِذِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِيهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ دَرَاهِمَ رَدِيئَةً زُيُوفًا. وَقِيلَ: كَانَتْ خِلَقَ الْغَرَائِرِ وَالْحِبَالِ. وَقِيلَ:
كَانَتْ مِنْ مَتَاعِ الْأَعْرَابِ مِنَ الصُّوفِ وَالْأَقِطِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: كَانَتِ الحبّة الخضراء. وقيل: كانت سَوِيقِ الْمُقْلِ. وَقِيلَ: كَانَتِ الْأُدْمَ [4] وَالنِّعَالَ. فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ، أَيْ: أعط لنا مَا كُنْتَ تُعْطِينَا قَبْلُ بِالثَّمَنِ الْجَيِّدِ الْوَافِي، وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا، أَيْ: تَفَضَّلْ عَلَيْنَا بِمَا بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَلَا تَنْقُصْنَا.
هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالضَّحَّاكُ: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا بِرَدِّ أَخِينَا إِلَيْنَا. إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي [يُثِيبُ، الْمُتَصَدِّقِينَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَمْ يقولوا إن الله يحزيك لأنهم [لا] يَعْلَمُوا أَنَّهُ مُؤْمِنٌ. وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: هَلْ حُرِّمَتِ الصَّدَقَةُ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سِوَى نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ؟ فَقَالَ سُفْيَانُ:
أَلَمْ تَسْمَعْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [5] ، يُرِيدُ أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ حَلَالًا لَهُمْ.
وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ تَصَدَّقْ عَلَيَّ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَتَصَدَّقُ وَإِنَّمَا يَتَصَدَّقُ مَنْ يَبْغِي الثَّوَابَ، قُلِ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي أَوْ تَفَضَّلْ عَلَيَّ.
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) ، اخْتَلَفُوا فِي السَّبَبِ الَّذِي حَمَلَ يُوسُفَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، قال ابْنُ إِسْحَاقَ: ذُكِرَ لِي أَنَّهُمْ لَمَّا كَلَّمُوهُ بِهَذَا الْكَلَامِ أَدْرَكَتْهُ الرِّقَّةُ فَارْفَضَّ دَمْعُهُ فباح بالذي كان يكتمه. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ حِينَ حَكَى لِإِخْوَتِهِ أَنَّ مَالِكَ بْنَ ذُعْرٍ قَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ غُلَامًا فِي بِئْرٍ مِنْ حَالِهِ كيت وكيت، فابتعته بكذا [وكذا] [6] دِرْهَمًا، فَقَالُوا: أَيُّهَا الْمَلِكُ، نَحْنُ بعنا ذلك الغلام [منه] [7] ، فَغَاظَ يُوسُفَ ذَلِكَ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ فَذَهَبُوا بِهِمْ لِيَقْتُلُوهُمْ، فَوَلَّى يَهُوذَا وَهُوَ يَقُولُ كَانَ يَعْقُوبُ يَحْزَنُ وَيَبْكِي لِفَقْدِ وَاحِدٍ مِنَّا حَتَّى كُفَّ بَصَرُهُ، فَكَيْفَ إِذَا أَتَاهُ قَتْلُ بَنِيهِ كُلِّهِمْ؟ ثُمَّ قَالُوا لَهُ: إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَابْعَثْ
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيد في المطبوع.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المخطوط «الأديم» .
(5) ما بين المعقوفتين سقط من المخطوط ب. [.....]
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيادة عن المخطوط.(2/511)
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
بِأَمْتِعَتِنَا إِلَى أَبِينَا فَإِنَّهُ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ حِينَ رَحِمَهُمْ وَبَكَى، وَقَالَ ذَلِكَ الْقَوْلَ. وَقِيلَ: قَالَهُ حِينَ قَرَأَ كِتَابَ أَبِيهِ الذي كتب إِلَيْهِ فَلَمْ يَتَمَالَكِ الْبُكَاءَ، فَقَالَ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ فَرَّقْتُمْ بَيْنَهُمَا، وَصَنَعْتُمْ مَا صَنَعْتُمْ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ بما يؤول إِلَيْهِ أَمْرُ يُوسُفَ؟ وَقِيلَ: مُذْنِبُونَ عاصون. وقال الحسن: إذ أنتم شبان وَمَعَكُمْ جَهْلُ الشَّبَابِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وأخيه وما كان منهم [ضرر] [1] إلى أخيه شيء وَهُمْ لَمْ يَسْعَوْا فِي حَبْسِهِ؟ قِيلَ: قَدْ قَالُوا لَهُ فِي الصاع مَا رَأَيْنَا مِنْكُمْ يَا بَنِي رَاحِيلَ خَيْرًا [2] .
وَقِيلَ: لَمَّا كَانَا مِنْ أُمٍّ وَاحِدَةٍ، كَانُوا يُؤْذُونَهُ من بعد فقد يوسف.
[سورة يوسف (12) : الآيات 90 الى 93]
قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وأبو جعفر: أَإِنَّكَ عَلَى الْخَبَرِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ يُوسُفُ يَتَكَلَّمُ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ، فَلَمَّا قَالَ يُوسُفُ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ، كَشَفَ عَنْهُمُ الْغِطَاءَ وَرَفَعَ الْحِجَابَ، فَعَرَفُوهُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَالَ هذا القول تبسّم فَرَأَوْا ثَنَايَاهُ كَاللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ فَشَبَّهُوهُ بيوسف، فقالوا استفهاما أإنّك لَأَنْتَ يُوسُفُ؟
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمْ يَعْرِفُوهُ حَتَّى وَضَعَ التَّاجَ عَنْ رَأْسِهِ، وَكَانَ لَهُ فِي قَرْنِهِ عَلَامَةٌ وَكَانَ لِيَعْقُوبَ مِثْلُهَا وَلِإِسْحَاقَ مِثْلُهَا وَلِسَارَةَ مِثْلُهَا شِبْهُ الشامة، فعرفوه فقالوا: أإنك لَأَنْتَ يُوسُفُ، وَقِيلَ: قَالُوهُ عَلَى التَّوَهُّمِ حَتَّى، قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي، بِنْيَامِينُ، قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أنعم الله عَلَيْنَا بِأَنْ جَمَعَ بَيْنَنَا، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ، بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَاجْتِنَابِ الْمَعَاصِي، وَيَصْبِرْ، عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عباس: يتّقي الزّنا ويصبر على الْعُزُوبَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَتَّقِي الْمَعْصِيَةَ وَيَصْبِرُ عَلَى السِّجْنِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
قالُوا، مُعْتَذِرِينَ، تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا، أَيِ: اخْتَارَكَ اللَّهُ وَفَضَّلَكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ، أَيْ: [وَمَا كُنَّا فِي صَنِيعِنَا بِكَ إلا] [3] مخطئين مذنبين. يقال: خطىء خطأ إِذَا تَعَمَّدَ، وَأَخْطَأَ إِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَعَمِّدٍ.
قالَ يُوسُفُ وَكَانَ حَلِيمًا: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، لا تعيير عليكم وَلَا أَذْكُرُ لَكُمْ ذَنْبَكُمْ بَعْدَ الْيَوْمَ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَلَمَّا عَرَّفَهُمْ يُوسُفُ نَفْسَهُ سَأَلَهُمْ عَنْ أَبِيهِ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ أَبِي بَعْدِي؟ قَالُوا: ذهبت عيناه من البكاء فأعطاهم قميصه، ثم قال:
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) العبارة في المخطوط «ما رأينا منكم إلا البلاء يا بني راحيل» أما في ط: «مَا يَزَالُ لَنَا بَلَاءٌ. وَقِيلَ: مَا رَأَيْنَا مِنْكُمْ يَا بَنِي راحيل خيرا» .
(3) ما بين المعقوفتين في المطبوع «وما صنيعنا بك لا» والمثبت عن المخطوط.(2/512)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً، أَيْ: يَعُدْ [1] مُبْصِرًا. وَقِيلَ: [يَأْتِينِي] [2] بَصِيرًا لأنه كان قد دعا له [3] .
قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يَعُودُ بَصِيرًا إِلَّا بَعْدَ أَنْ أعلمه الله عزّ وجلّ. قال الضَّحَّاكُ: كَانَ ذَلِكَ الْقَمِيصُ مِنْ نَسْجِ الْجَنَّةِ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَمَرَهُ جِبْرِيلُ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ قَمِيصَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ الْقَمِيصُ قَمِيصَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جُرِّدَ مِنْ ثِيَابِهِ وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ عُرْيَانًا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ بِقَمِيصٍ مِنْ حَرِيرِ الْجَنَّةِ فَأَلْبَسَهُ إِيَّاهُ، فَكَانَ ذَلِكَ الْقَمِيصُ عِنْدَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، فلما مات [إبراهيم] [4] وَرِثَهُ إِسْحَاقُ، فَلَمَّا مَاتَ وِرِثَهُ يَعْقُوبُ، فَلَمَّا شَبَّ يُوسُفُ جَعَلَ يَعْقُوبُ ذَلِكَ الْقَمِيصَ فِي قَصَبَةٍ وَسَدَّ رَأَسَهَا وَعَلَّقَهَا فِي عُنُقِهِ [فجعله حرزا] [5] لِمَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنَ العين، وكان لَا يُفَارِقُهُ فَلَمَّا أُلْقِيَ فِي الْبِئْرِ عُرْيَانًا جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَلَى يُوسُفَ ذَلِكَ التَّعْوِيذُ فَأَخْرَجَ الْقَمِيصَ مِنْهُ وَأَلْبَسَهُ إِيَّاهُ، ففي ذلك الْوَقْتِ جَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ له: أرسل إلى أبيك ذَلِكَ الْقَمِيصَ، فَإِنَّ فِيهِ رِيحَ الْجَنَّةِ لَا يَقَعُ عَلَى سَقِيمٍ ولا مبتلى إلّا عوفي [لوقته] [6] ، فَدَفَعَ يُوسُفُ ذَلِكَ الْقَمِيصَ إِلَى إِخْوَتِهِ وَقَالَ: أَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا، وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ.
[سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 95]
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ، أَيْ: خَرَجَتْ مِنْ عَرِيشِ مِصْرَ مُتَوَجِّهَةً إِلَى كَنْعَانَ، قالَ أَبُوهُمْ، [أَيْ:
قَالَ يَعْقُوبُ] [7] لِوَلَدِ وَلَدِهِ، إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ، رُوِيَ أَنَّ رِيحَ الصَّبَا اسْتَأْذَنَتْ رَبَّهَا فِي أَنْ تَأْتِيَ يَعْقُوبَ بِرِيحِ يُوسُفَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْبَشِيرُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أصاب يعقوب ريح القميص [8] مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مِنْ مَسِيرَةِ ثَمَانِ لَيَالٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ بَيْنَهُمَا ثَمَانُونَ فَرْسَخًا. وَقِيلَ:
هَبَّتْ ريح الصبا فَصَفَّقَتِ الْقَمِيصَ فَاحْتَمَلَتْ رِيحَ الْقَمِيصِ إِلَى يَعْقُوبَ فَوَجَدَ رِيحَ الْجَنَّةِ فَعَلِمَ أَنْ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ مِنْ رِيحِ الْجَنَّةِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ الْقَمِيصِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: إِنِّي لِأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ. لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ، تُسَفِّهُونِي، وَعَنِ ابْنِ عباس: تجهلون [9] . وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تهرِّمون فَتَقُولُونَ: شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ خَرَّفَ وَذَهَبَ عَقْلُهُ. وقيل: تضعفون. وقال أبو عبيدة: تضللون. وأصل الفند: الفساد.
قالُوا، يَعْنِي: أَوْلَادَ أَوْلَادِهِ، تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ، لفي خطئك السابق [10] مِنْ ذِكْرِ يُوسُفَ لَا تَنْسَاهُ، والضلال هو الذهاب عن الطريق الصَّوَابِ، فَإِنَّ عِنْدَهُمْ أَنْ يُوسُفَ قَدْ مَاتَ وَيَرَوْنَ يَعْقُوبَ قَدْ لهج بذكره.
__________
(1) كذا في المطبوع وط والطبري وفي المخطوط «يأت» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع وط «دعاه» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيد في المطبوع وط.
(8) في المطبوع «يوسف» .
(9) جاءت هذه الكلمة وما بعدها في المطبوع وط بياء، والمثبت عن المخطوط والطبري. [.....]
(10) في المخطوط «القديم» .(2/513)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
[سورة يوسف (12) : الآيات 96 الى 98]
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ، وَهُوَ الْمُبَشِّرُ عَنْ يُوسُفَ، قَالَ ابْنُ مسعود: جاء البشير [من] [1] بَيْنَ يَدَيِ الْعِيرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ يَهُوذَا. [قَالَ السُّدِّيُّ: قَالَ يَهُوذَا] [2] : أَنَا ذَهَبْتُ بِالْقَمِيصِ مُلَطَّخًا بِالدَّمِ إِلَى يَعْقُوبَ فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ يُوسُفَ أَكَلَهُ الذِّئْبُ فَأَنَا أَذْهَبُ إِلَيْهِ الْيَوْمَ بِالْقَمِيصِ فَأُخْبِرُهُ أنه حَيٌّ فَأُفْرِحُهُ كَمَا أَحْزَنْتُهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَمَلَهُ يَهُوذَا وَخَرَجَ حَافِيًا حَاسِرًا يَعْدُو وَمَعَهُ سَبْعَةُ أَرْغِفَةٍ لَمْ يَسْتَوْفِ أَكْلَهَا حَتَّى أَتَى أَبَاهُ، وَكَانَتِ الْمَسَافَةُ ثَمَانِينَ فَرْسَخًا. وَقِيلَ: الْبَشِيرُ مَالِكُ بْنُ ذُعْرٍ. أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ، يَعْنِي: أَلْقَى الْبَشِيرُ قَمِيصَ يُوسُفَ عَلَى وَجْهِ يَعْقُوبَ، فَارْتَدَّ بَصِيراً، فَعَادَ بصيرا بعد ما كان أعمى وَعَادَتْ إِلَيْهِ قُوَّتُهُ بَعْدَ الضَّعْفِ، وَشَبَابُهُ بَعْدَ الْهَرَمِ وَسُرُورُهُ بَعْدَ الحزن. قالَ، يعني: يعقوب عليه السلام، أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ، مِنْ حَيَاةِ يُوسُفَ وَأَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ بَيْنَنَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِلْبَشِيرِ: كَيْفَ تَرَكْتَ يُوسُفَ؟ قَالَ: إِنَّهُ مَلِكُ مِصْرَ، فَقَالَ يَعْقُوبُ: مَا أَصْنَعُ بِالْمُلْكِ عَلَى أَيِّ دِينٍ تَرَكْتَهُ؟ قَالَ: عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: الْآنَ تَمَّتِ النِّعْمَةُ.
قالُوا يَا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) ، مُذْنِبِينَ.
قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: أَخَّرَ الدُّعَاءَ إِلَى السَّحَرِ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: هَلْ [مِنْ] [3] دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ. فَلَمَّا انْتَهَى يَعْقُوبُ إِلَى الْمَوْعِدِ قَامَ إِلَى الصلاة في السحر، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهَا رَفْعَ يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جَزَعِي عَلَى يُوسُفَ وَقِلَّةَ صَبْرِي عَنْهُ وَاغْفِرْ لِأَوْلَادِي مَا أَتَوْا إِلَى أَخِيهِمْ يُوسُفَ، فَأَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكَ وَلَهُمْ أَجْمَعِينَ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي يَعْنِي لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ.
قَالَ وَهْبٌ: كَانَ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلَّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
وَقَالَ طَاوُسٌ: أَخَّرَ الدُّعَاءَ إِلَى السَّحَرِ مِنْ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ فَوَافَقَ لَيْلَةَ عَاشُورَاءَ.
وَعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي، قَالَ: أَسْأَلُ يُوسُفَ إِنْ عَفَا عَنْكُمْ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
وروي أَنَّ يُوسُفَ كَانَ قَدْ بَعَثَ مَعَ الْبَشِيرِ إِلَى يَعْقُوبَ مِائَتَيْ راحلة [و] [4] جهازا كَثِيرًا لِيَأْتُوا بِيَعْقُوبَ وَأَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ، فَتَهَيَّأَ يَعْقُوبُ لِلْخُرُوجِ إِلَى مِصْرَ فَخَرَجُوا وَهُمُ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ مِنْ بَيْنِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ. وَقَالَ مَسْرُوقٌ: كَانُوا ثَلَاثَةً وَتِسْعِينَ، فَلَمَّا دَنَا مِنْ مِصْرَ كَلَّمَ يُوسُفُ الْمَلِكَ الَّذِي فَوْقَهُ، فَخَرَجَ يُوسُفُ وَالْمَلِكُ فِي أَرْبَعَةِ آلَافٍ مِنَ الْجُنُودِ [5] وَرَكِبَ أَهْلُ مِصْرَ مَعَهُمَا يَتَلَقَّوْنَ يَعْقُوبَ، وَكَانَ يَعْقُوبُ يَمْشِي وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى يَهُوذَا فَنَظَرَ إِلَى الْخَيْلِ وَالنَّاسِ فَقَالَ: يَا يَهُوذَا هَذَا فِرْعَوْنُ مِصْرَ، قَالَ: لَا هذا ابنك، [قال] [6] : فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف يبدأه [7] بِالسَّلَامِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: لَا حَتَّى يبدأ يعقوب بالسلام،
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط وط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المخطوط «الجند» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المطبوع «يبدأ» .(2/514)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
فَقَالَ يَعْقُوبُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا مُذْهِبَ الْأَحْزَانِ. وَرُوِيَ أَنَّهُمَا نَزَلَا وَتَعَانَقَا. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: لَمَّا الْتَقَى يَعْقُوبُ وَيُوسُفُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ عَانَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَبَكَيَا، فَقَالَ يُوسُفُ: يَا أَبَتِ بَكَيْتَ [عليّ] [1] حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُكَ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقِيَامَةَ تَجْمَعُنَا؟ قَالَ: بَلَى يا بني ولكن [فارقتك وأنت صغير] [2] ، فخشيت أَنْ تُسْلَبَ دِينَكَ فَيُحَالَ بَيْنِي وبينك.
[سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 100]
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
فَذَلِكَ قوله: فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ، أَيْ: ضَمَّ إِلَيْهِ، أَبَوَيْهِ، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ:
هُوَ أَبُوهُ وَخَالَتُهُ لِيَا، وَكَانَتْ أُمُّهُ رَاحِيلُ قَدْ مَاتَتْ فِي نِفَاسِ بِنْيَامِينَ. قال [3] الْحَسَنُ [4] : هُوَ أَبُوهُ وَأُمُّهُ وَكَانَتْ حَيَّةً. وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ: أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَحْيَا أُمَّهُ حَتَّى جَاءَتْ مَعَ يَعْقُوبَ إِلَى مِصْرَ [5] . وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ قَالَ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ، فَكَيْفَ قال ادخلوا مصر بعد ما أَخْبَرَ أَنَّهُمْ دَخَلُوهَا؟ وَمَا وَجْهُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ وَقَدْ حَصَلَ الدُّخُولُ؟ قِيلَ: إِنَّ يُوسُفَ إِنَّمَا قَالَ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلَ حِينَ تَلَقَّاهُمْ قَبْلَ دُخُولِهِمْ مِصْرَ، وَفِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الِاسْتِغْفَارِ وَهُوَ مِنْ قَوْلِ يَعْقُوبَ لِبَنِيهِ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقِيلَ: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْنِ مِنَ الْجَوَازِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَدْخُلُونَ مِصْرَ قَبْلَهُ إِلَّا بِجَوَازٍ مِنْ مُلُوكِهِمْ، يَقُولُ: آمِنِينَ مِنَ الْجَوَازِ إِنْ شاء الله، كَمَا قَالَ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الْفَتْحِ: 27] ، وقيل: إِنْ هاهنا بِمَعْنَى إِذْ، يُرِيدُ إِذْ شَاءَ اللَّهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آلِ عِمْرَانَ: 139] ، أَيْ: إِذْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ، أَيْ: عَلَى السرير، أجلسهما [عليه] [6] . وَالرَّفْعُ: هُوَ النَّقْلُ إِلَى الْعُلُوِّ.
وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً، يَعْنِي: يَعْقُوبَ وخالته وإخوته وكان [7] تحية الناس يومئذ [لملوكهم] [8] السُّجُودَ، وَلَمْ يُرِدْ بِالسُّجُودِ وَضْعَ الْجِبَاهِ عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا هُوَ الِانْحِنَاءُ وَالتَّوَاضُعُ. وَقِيلَ: وَضَعُوا الْجِبَاهَ عَلَى الْأَرْضِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التَّحِيَّةِ وَالتَّعْظِيمِ، لَا عَلَى طَرِيقِ الْعِبَادَةِ. وَكَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَنُسِخَ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَاهُ خَرُّوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سُجَّدًا بَيْنَ يَدَيْ يُوسُفَ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَقالَ يُوسُفُ عِنْدَ ذَلِكَ: يَا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا، وَهُوَ قَوْلُهُ: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] . وَقَدْ أَحْسَنَ بِي، [رَبِّي] [9] ، أَيْ: أَنْعَمَ عَلَيَّ، إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ، وَلَمْ يَقُلْ مِنَ الْجُبِّ مَعَ كَوْنِهِ أَشَدَّ [بَلَاءً] [10] مِنَ السجن استعمالا للكرم
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيد في المطبوع.
(3) في المخطوط «وقيل» .
(4) زيادة عن المخطوط وط.
(5) هذا وأمثاله من الإسرائيليات، لا حجة في شيء من ذلك، والله تعالى أعلم.
(6) زيادة عن المخطوط. [.....]
(7) في المطبوع «وكانت» .
(8) زيادة عن المخطوط.
(9) زيد في المطبوع وط.
(10) زيد في المطبوع وط.(2/515)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
لكيلا [1] يخجل إخوته بعد ما قَالَ لَهُمْ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ [يوسف: 92] ، ولأنه نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي إِخْرَاجِهِ مِنَ السِّجْنِ أَعْظَمُ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْجُبِّ صَارَ إِلَى الْعُبُودِيَّةِ وَالرِّقِّ، وَبَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ السِّجْنِ صَارَ إِلَى الْمُلْكِ، وَلِأَنَّ وُقُوعَهُ فِي الْبِئْرِ كَانَ لِحَسَدِ إخوته [له] [2] ، وفي السجن كان مُكَافَأَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِزَلَّةٍ كَانَتْ مِنْهُ. وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ، وَالْبَدْوُ بَسِيطٌ [3] مِنَ الْأَرْضِ يَسْكُنُهُ أَهْلُ الْمَوَاشِي بِمَاشِيَتِهِمْ، وَكَانُوا أهل بادية ومواشي، يقال: بدا يبدو [بدوا] [4] إِذَا صَارَ إِلَى الْبَادِيَةِ. مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ، أَفْسَدَ، الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي، بالحسد والبغض، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ، أَيْ: ذُو لُطْفٍ، لِما يَشاءُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لمن يَشَاءُ. وَحَقِيقَةُ اللَّطِيفِ الَّذِي يُوصِلُ الْإِحْسَانَ إِلَى غَيْرِهِ بِالرِّفْقِ، إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، قَالَ أَهْلُ التَّارِيخِ: أَقَامَ يَعْقُوبُ بِمِصْرَ عِنْدَ يُوسُفَ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً فِي أَغْبَطِ حَالٍ وَأَهْنَإِ عَيْشٍ، ثُمَّ مَاتَ بِمِصْرَ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ أَوْصَى إِلَى ابْنِهِ يُوسُفَ أَنْ يَحْمِلَ جَسَدَهُ حَتَّى يَدْفِنَهُ عِنْدَ أَبِيهِ إِسْحَاقَ، فَفَعَلَ يُوسُفُ ذَلِكَ، وَمَضَى بِهِ حَتَّى دَفَنَهُ بِالشَّامِ، ثم انصرف إلى مصر. وقال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
نُقِلَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي تَابُوتٍ مِنْ سَاجٍ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَوَافَقَ ذلك موت الْعِيصُ فَدُفِنَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ، وَكَانَا وُلِدَا فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ عُمْرُهُمَا مِائَةً وَسَبْعًا وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَلَمَّا جَمَعَ اللَّهُ تَعَالَى لِيُوسُفَ شَمْلَهُ عَلَى أَنَّ نَعِيمَ الدُّنْيَا لَا يَدُومُ سَأَلَ اللَّهَ تعالى حسن العاقبة، فقال:
[سورة يوسف (12) : آية 101]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ، يَعْنِي: مُلْكَ مِصْرَ، وَالْمُلْكُ: اتِّسَاعُ الْمَقْدُورِ لِمَنْ لَهُ السِّيَاسَةُ وَالتَّدْبِيرُ، وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ، يَعْنِي: تَعْبِيرَ الرُّؤْيَا. فاطِرَ، أَيْ: يا فَاطِرِ، السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أَيْ: خَالِقِهِمَا، أَنْتَ وَلِيِّي، أَيْ: مُعِينِي وَمُتَوَلِّي أَمْرِي، فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً، يَقُولُ:
اقْبِضْنِي إِلَيْكَ مُسْلِمًا، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ، يُرِيدُ بِآبَائِي النَّبِيِّينَ. قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَسْأَلْ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَوْتَ إِلَّا يُوسُفُ [عليه السلام] [5] . وَفِي الْقِصَّةِ: لَمَّا جَمَعَ اللَّهُ شَمَلَهُ وَأَوْصَلَ إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَأَهْلَهُ اشْتَاقَ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ. قَالَ الْحَسَنُ: عَاشَ بَعْدَ هَذَا سِنِينَ كَثِيرَةً. وَقَالَ غَيْرُهُ: لَمَّا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لَمْ يَمْضِ عَلَيْهِ أُسْبُوعٌ حَتَّى تُوُفِّيَ. وَاخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ غَيْبَةِ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ، فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقِيلَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: أُلْقِيَ يُوسُفُ فِي الْجُبِّ وَهُوَ ابْنُ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَغَابَ عَنْ أَبِيهِ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ لِقَاءِ يَعْقُوبَ ثَلَاثًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَفِي التَّوْرَاةِ مَاتَ وَهُوَ ابن مائة وعشرين [6] سنة وَوُلِدَ لِيُوسُفَ مِنَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ ثَلَاثَةُ أَوْلَادٍ: أَفْرَائِيمُ وَمِيشَا وَرَحْمَةُ امْرَأَةُ أَيُّوبَ [الْمُبْتَلَى] [7] عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: عَاشَ يُوسُفُ بَعْدَ أَبِيهِ سِتِّينَ سَنَةً. وَقِيلَ: أَكْثَرُ.
وَاخْتَلَفَتِ الْأَقَاوِيلُ فِيهِ. وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَدَفَنُوهُ فِي النِّيلِ فِي صُنْدُوقٍ مِنْ رُخَامٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَشَاحَّ النَّاسُ فِيهِ فَطَلَبَ أَهْلُ كُلِّ مَحِلَّةٍ أَنْ يُدْفَنَ فِي مَحِلَّتِهِمْ رَجَاءَ بَرَكَتِهِ، حَتَّى هَمُّوا بِالْقِتَالِ، فَرَأَوْا أَنْ يَدْفِنُوهُ فِي النِّيلِ حَيْثُ يَتَفَرَّقُ الْمَاءُ بِمِصْرَ لِيَجْرِيَ الْمَاءُ عَلَيْهِ وَتَصِلَ بَرَكَتُهُ إِلَى جميعهم.
__________
(1) في المخطوط «كي لا» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «البسط» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «عشر» .
(7) زيد في المطبوع وط.(2/516)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: دُفِنَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ مِنَ النِّيلِ، فَأَخْصَبَ ذَلِكَ الْجَانِبُ وَأَجْدَبَ الْجَانِبُ الْآخَرُ، فَنُقِلَ إِلَى الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ فَأَخْصَبَ ذَلِكَ الْجَانِبُ وَأَجْدَبَ الْجَانِبُ الْآخَرُ، فَدَفَنُوهُ فِي وَسَطِهِ. وَقَدَّرُوا ذَلِكَ بِسِلْسِلَةٍ فَأَخْصَبَ الْجَانِبَانِ [1] جَمِيعًا إِلَى أَنْ أَخْرَجَهُ مُوسَى فَدَفَنَهُ بِقُرْبِ آبَائِهِ بالشام.
[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 106]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
ذلِكَ، الَّذِي ذَكَرْتُ، مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ، أي: وما كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ عِنْدَ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ، إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ، أَيْ: عَزَمُوا عَلَى إِلْقَاءِ يُوسُفَ فِي الْجُبِّ، وَهُمْ يَمْكُرُونَ، بِيُوسُفَ.
وَما أَكْثَرُ النَّاسِ، يَا مُحَمَّدُ، وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ، على إيمانهم. روي أَنَّ الْيَهُودَ وَقُرَيْشًا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ عَلَى [2] مُوَافَقَةِ التَّوْرَاةِ لَمْ يُسْلِمُوا، فَحَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ [3] : إِنَّهُمْ لَا يؤمنون ولو حرصت على إيمانهم.
وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ، أَيْ: عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، مِنْ أَجْرٍ، [أي] : جُعْلٍ وَجَزَاءٍ، إِنْ هُوَ، مَا هُوَ يَعْنِي الْقُرْآنَ، إِلَّا ذِكْرٌ، عِظَةٌ وَتَذْكِيرٌ، لِلْعالَمِينَ.
وَكَأَيِّنْ، وَكَمْ، مِنْ آيَةٍ، عِبْرَةٍ وَدَلَالَةٍ، فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ، لَا يَتَفَكَّرُونَ فِيهَا وَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهَا.
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) ، فَكَانَ مِنْ إِيمَانِهِمْ إِذَا سُئِلُوا: من خلق السموات وَالْأَرْضَ؟ قَالُوا: اللَّهُ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ يُنْزِلُ الْقَطْرَ؟ قَالُوا: اللَّهُ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَيُشْرِكُونَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَلْبِيَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: هَذَا فِي الدُّعَاءِ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ نَسُوا رَبَّهُمْ فِي الرَّخَاءِ، فَإِذَا أَصَابَهُمُ الْبَلَاءُ أَخْلَصُوا فِي الدُّعَاءِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [يونس: 22] الآية، فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) [الْعَنْكَبُوتِ: 65] ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الآيات.
[سورة يوسف (12) : الآيات 107 الى 109]
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109)
__________
(1) في المطبوع «الجانبات» .
(2) في المخطوط «عن» .
(3) في المطبوع «لهم» . [.....](2/517)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ، أَيْ: عُقُوبَةٌ مُجَلَّلَةٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: عَذَابٌ يَغْشَاهُمْ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ [الْعَنْكَبُوتِ: 55] . قَالَ قَتَادَةُ: وَقِيعَةٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الصَّوَاعِقَ وَالْقَوَارِعَ. أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً، فَجْأَةً، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، بِقِيَامِهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
تَهِيجُ [الصَّيْحَةُ] [1] بِالنَّاسِ وَهُمْ فِي أَسْوَاقِهِمْ.
قُلْ يَا مُحَمَّدُ: هذِهِ الدَّعْوَةُ الَّتِي أَدْعُو إِلَيْهَا وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا، سَبِيلِي، سُنَّتِي وَمِنْهَاجِي. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: دِينِي، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النَّحْلِ: 125] ، أَيْ: إِلَى دِينِهِ. أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ، عَلَى يَقِينٍ. وَالْبَصِيرَةُ: هِيَ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي يميّز بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي، أَيْ: وَمَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي أَيْضًا يَدْعُو إِلَى اللَّهِ، هَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَابْنِ زيد. قال: حَقٌّ عَلَى مَنِ اتَّبَعَهُ أَنْ يَدْعُوَ إِلَى مَا دَعَا إِلَيْهِ، وَيُذَكِّرَ [2] بِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عند قوله: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ: عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي، يَقُولُ: إِنِّي عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ رَبِّي وَكُلُّ مَنِ اتَّبَعَنِي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
يَعْنِي أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا عَلَى أَحْسَنِ طَرِيقَةٍ وَأَقْصَدِ هِدَايَةٍ، مَعْدِنَ الْعِلْمِ وَكَنْزَ الْإِيمَانِ وَجُنْدَ الرَّحْمَنِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَنْ كَانَ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا أفضل هذه الأمّة، أبرّها قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، [قَوْمٌ] [3] اخْتَارَهُمُ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ [صلى الله عليه وسلّم] [4] ولإقامة دِينِهِ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ، [وَاتَّبِعُوهُمْ على آثَارِهِمْ وَتَمَسَّكُوا بِمَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ أَخْلَاقِهِمْ وَسِيَرِهِمْ] [5] ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسُبْحانَ اللَّهِ، أَيْ: وَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ تَنْزِيهًا لَهُ عَمَّا أَشْرَكُوا بِهِ. وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ، يَا مُحَمَّدُ، إِلَّا رِجالًا، [لَا] [6] مَلَائِكَةً، نُوحِي إِلَيْهِمْ، قَرَأَ حَفْصٌ:
نُوحِي بِالنُّونِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَفَتْحِ الْحَاءِ. مِنْ أَهْلِ الْقُرى، يَعْنِي: مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ دُونَ أهل الْبَوَادِي لِأَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ أَعْقَلُ. [قال الْحَسَنُ: [لَمْ] يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ بَدْوٍ وَلَا مِنَ الْجِنِّ وَلَا مِنَ النِّسَاءِ، وَقِيلَ: إِنَّمَا لم يبعث] [7] من أهل البوادي لِغِلَظِهِمْ وَجَفَائِهِمْ. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ الْمُكَذِّبِينَ، فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ، آخِرُ أَمْرِ، الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يَعْنِي: الْأُمَمَ الْمُكَذِّبَةَ فَيَعْتَبِرُوا، وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، يقول: خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا، يَقُولُ جَلَّ ذِكْرُهُ هَذَا فِعْلُنَا بِأَهْلِ [وِلَايَتِنَا] [8] طاعتنا أَنْ نُنْجِيَهُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَمَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لَهُمْ، فَتَرَكَ مَا ذَكَرْنَا اكْتِفَاءً بدلالة الكلام عليه. قوله: وَلَدارُ الْآخِرَةِ، قِيلَ: مَعْنَاهُ وَلَدَارُ الحال الآخرة [خير] [9] . وَقِيلَ: هُوَ إِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) [الْوَاقِعَةِ:
95] ، وَكَقَوْلِهِمْ: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَرَبِيعُ الْآخَرِ. أَفَلا تَعْقِلُونَ، فتؤمنون.
[سورة يوسف (12) : الآيات 110 الى 111]
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ مَا كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
__________
(1) زيادة عن المخطوط وط.
(2) في المطبوع «ويذكرون» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) العبارة في المخطوط «فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم» .
(6) زيادة عن المخطوط أوط، وهي في المخطوط ب «إلا» .
(7) سقط من المطبوع.
(8) سقط من المطبوع.
(9) زيد في المطبوع.(2/518)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا.
اخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قَوْلِهِ: كُذِبُوا، فَقَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ: كُذِبُوا بِالتَّخْفِيفِ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تُنْكِرُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَرَأَ الآخرون بالتشديد، فمن شدّده قَالَ: مَعْنَاهُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ، الرُّسُلُ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ وَظَنُّوا أَيْ أَيْقَنُوا يَعْنِي الرُّسُلَ أَنَّ الْأُمَمَ قَدْ كَذَّبُوهُمْ تَكْذِيبًا لَا يرجى بعده [1] إِيمَانِهِمْ، وَالظَّنُّ بِمَعْنَى الْيَقِينِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ أَنْ يُصَدِّقُوهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّ مَنْ آمَنَ بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ [2] وَارْتَدُّوا عَنْ دِينِهِمْ لِشِدَّةِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِبْطَاءِ النَّصْرِ. وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّخْفِيفِ قَالَ: مَعْنَاهُ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ وَظَنُّوا، أَيْ: ظَنَّ قَوْمُهُمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبَتْهُمْ فِي وعيد العقاب.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ معناه ضعف قلوبهم [الرُّسُلِ] [3] ، يَعْنِي: وَظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّهُمْ قد كَذَبُوا فِيمَا وَعَدُوا مِنَ النَّصْرِ، وَكَانُوا بَشَرًا فَضَعُفُوا وَيَئِسُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أَخْلَفُوا، ثُمَّ تَلَا: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: 214] ، جاءَهُمْ، أَيْ: جَاءَ الرُّسُلَ نَصْرُنَا. فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ، قَرَأَ الْعَامَّةُ بِنُونَيْنِ، أَيْ: نَحْنُ نُنَجِّي مَنْ نَشَاءُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مَضْمُومَةٍ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، لِأَنَّهَا مَكْتُوبَةٌ في المصحف بنون واحدة مضمومة، فَيَكُونُ مَحَلُّ مَنْ رَفْعًا عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ نَصْبًا، فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ الْمُطِيعُونَ. وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا، عَذَابُنَا، عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، أي: الْمُشْرِكِينَ.
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ، أَيْ: فِي خَبَرِ يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ، عِبْرَةٌ عِظَةٌ، لِأُولِي الْأَلْبابِ مَا كانَ، يَعْنِي: الْقُرْآنَ، حَدِيثاً يُفْتَرى، أَيْ: يُخْتَلَقُ، وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي، أَيْ: وَلَكِنْ كَانَ تَصْدِيقَ الَّذِي، بَيْنَ يَدَيْهِ، مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ، مِمَّا يَحْتَاجُ الْعِبَادُ إِلَيْهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهُدىً وَرَحْمَةً، بَيَانًا ونعمة، لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، [والله تعالى أعلم] [4] .
تمّ الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوّله سورة الرعد.
تمّ بحمد الله ومنّه وكرمه تخريج وتحقيق الجزء الثاني من تفسير الإمام البغوي ويليه الجزء الثالث إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
__________
(1) فِي المطبوع «بعد» .
(2) في المخطوط «كذبوا» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيادة عن المخطوط.(2/519)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
[المجلد الثالث]
تفسير سُورَةِ الرَّعْدِ
مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الرعد: 31] ، إلى [1] قوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا [الرعد: 43] ، وهي ثلاث وأربعون آية
[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
المر قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ أَنَا اللَّهُ أَعْلَمُ وَأَرَى، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ، يَعْنِي: تِلْكَ الْأَخْبَارُ الَّتِي قَصَصْتُهَا عَلَيْكَ آيَاتُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ، يَعْنِي: وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ، مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ، أَيْ: هُوَ الْحَقُّ فَاعْتَصِمْ بِهِ، فَيَكُونُ مَحَلُّ الَّذِي رَفْعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْحَقُّ خَبَرَهُ، وَقِيلَ: مَحَلُّهُ خَفْضٌ يَعْنِي تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَآيَاتُ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ: الْحَقَّ يَعْنِي ذَلِكَ الْحَقُّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِالْكِتَابِ الْقُرْآنَ، وَمَعْنَاهُ هَذِهِ آيَاتُ الْكِتَابِ يَعْنِي الْقُرْآنَ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقُّ، وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ حِينَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا يَقُولُهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، فَرَدَّ قَوْلَهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ دَلَائِلَ رُبُوبِيَّتِهِ، فَقَالَ عَزَّ مَنْ قَائِلٍ:
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها، يَعْنِي: السَّوَارِيَ وَاحِدُهَا عَمُودٌ مِثْلُ أَدِيمٍ وَأُدُمٍ وَعُمُدٌ أَيْضًا جَمْعُهُ مِثْلُ رَسُولٍ وَرُسُلٍ، وَمَعْنَاهُ نَفْيُ الْعَمَدِ أَصْلًا وَهُوَ الْأَصَحُّ يَعْنِي لَيْسَ مِنْ دُونِهَا دِعَامَةٌ تُدَعِّمُهَا وَلَا فَوْقَهَا عَلَاقَةٌ تُمْسِكُهَا. قَالَ إِيَاسُ بن معاوية: السماء مقبية عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ. وَقِيلَ: تَرَوْنَهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْعُمُدِ، مَعْنَاهُ: لَهَا عُمُدٌ وَلَكِنْ لَا تَرَوْنَهَا، وَزُعِمَ: أَنَّ عُمُدَهَا جَبَلٌ قَافٍ وَهُوَ مُحِيطٌ بِالدُّنْيَا وَالسَّمَاءُ عَلَيْهِ مِثْلُ الْقُبَّةِ [2] . ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ، عَلَا عَلَيْهِ، وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، ذَلَّلَهُمَا لِمَنَافِعِ خَلْقِهِ فَهُمَا مَقْهُورَانِ، كُلٌّ يَجْرِي، أَيْ: يَجْرِيَانِ عَلَى مَا يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، لِأَجَلٍ مُسَمًّى، أَيْ: إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ وَهُوَ فَنَاءُ الدُّنْيَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِالْأَجَلِ الْمُسَمَّى دَرَجَاتَهُمَا وَمَنَازِلَهُمَا يَنْتَهِيَانِ إِلَيْهَا ولا يجاوزانها،
__________
(1) في المطبوع وط «و» بدل «إلى» . [.....]
(2) هذا من الإسرائيليات.(3/5)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، يَقْضِيهِ وَحْدَهُ، يُفَصِّلُ الْآياتِ، يُبَيِّنُ الدَّلَالَاتِ، لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، لِكَيْ تُوقِنُوا بِوَعْدِهِ وتصدقوه.
[سورة الرعد (13) : الآيات 3 الى 5]
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ، بَسَطَهَا وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ، جِبَالًا ثَابِتَةً، وَاحِدَتُهَا: رَاسِيَةٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أَبُو قُبَيْسٍ أَوَّلَ جَبَلٍ وضع على الأرض، وَأَنْهاراً، أي: وَجَعَلَ فِيهَا أَنْهَارًا.
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ، أَيْ: صِنْفَيْنِ اثْنَيْنِ أَحْمَرُ وَأَصْفَرُ وَحُلْوًا وَحَامِضًا، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ، أَيْ: يُلْبِسُ النَّهَارَ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ وَيُلْبِسُ اللَّيْلَ بِضَوْءِ النَّهَارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، فَيَسْتَدِلُّونَ، وَالتَّفَكُّرُ تَصَرُّفُ الْقَلْبِ فِي طَلَبِ مَعَانِي الْأَشْيَاءِ.
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ، مُتَقَارِبَاتٌ يُقَرَّبُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَهِيَ مُخْتَلِفَةٌ، هَذِهِ طِيِّبَةٌ تُنْبِتُ وَهَذِهِ سَبِخَةٌ لَا تُنْبِتُ، وَهَذِهِ قَلِيلَةُ الرِّيعِ وَهَذِهِ كثيرة الريع، وَجَنَّاتٌ أي: بَسَاتِينُ، مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ، رَفَعَهَا كُلَّهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ عَطْفًا عَلَى الْجَنَّاتِ، وَجَرَّهَا الْآخَرُونَ نَسَقًا عَلَى الْأَعْنَابِ، وَالصِّنْوَانُ جَمْعُ صِنْوٍ وَهُوَ النَّخَلَاتُ يَجْمَعُهُنَّ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَغَيْرُ صِنْوانٍ، هِيَ النَّخْلَةُ الْمُنْفَرِدَةُ بِأَصْلِهَا.
وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: صِنْوَانٌ مُجْتَمِعٌ، وَغَيْرُ صِنْوَانٍ مُتَفَرِّقٌ، نَظِيرُهُ مِنَ الْكَلَامِ قِنْوَانٌ جَمْعُ قِنْوٍ.
«1187» وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم في العباس: «إنّ عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ» وَلَا فَرْقَ فِي الصِّنْوَانِ وَالْقِنْوَانِ بَيْنَ التَّثْنِيَةِ [1] وَالْجَمْعِ إِلَّا فِي الْإِعْرَابِ وَذَلِكَ أَنَّ النُّونَ فِي التَّثْنِيَةِ مَكْسُورَةٌ غَيْرُ مُنَوَّنَةٍ وَفِي الْجَمْعِ مُنَوَّنَةٌ، يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ «يُسْقَى» بِالْيَاءِ أَيْ يُسْقَى ذَلِكَ كُلُّهُ بِمَاءٍ وَاحِدٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَنَّاتٌ وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى من بعد وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ، وَلَمْ يَقُلْ بَعْضَهُ، وَالْمَاءُ جِسْمٌ رَقِيقٌ مَائِعٌ به حياة كل نام، [لا لون له فيلون بلون إنائه] [2] وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، في الثمرة [3] وَالطَّعْمِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «وَيُفَضِّلُ» بِالْيَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ عَلَى مَعْنَى وَنَحْنُ نُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ.
«1188» وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ [عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم] [4] : وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ، قال
__________
1187- تقدم في تفسير سورة البقرة عند آية: 133.
1188- ضعيف. أخرجه الترمذي 3118 والطبري 20126 من حديث أبي هريرة. حسنه الترمذي! مع أن فيه سيف بن محمد
(1) تصحف في المطبوع إلى «الثنية» .
(2) زيادة عن المخطوطتين.
(3) في المطبوع وط «الثمر» والمثبت عن المخطوطتين.
(4) زيادة يقتضيها السياق.(3/6)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
«الْفَارِسِيُّ [1] وَالدَّقَلُ [2] وَالْحُلْوُ وَالْحَامِضُ» قَالَ مُجَاهِدٌ: كَمَثَلِ بَنِيَ آدَمَ صَالِحِهِمْ وَخَبِيثِهِمْ وَأَبُوهُمْ وَاحِدٌ.
قَالَ الْحَسَنُ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لقلوب بني آدم، كَانَتِ الْأَرْضُ طِينَةً وَاحِدَةً فِي يَدِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ فَسَطَحَهَا فَصَارَتْ قِطَعًا مُتَجَاوِرَةً فَيُنْزِلُ عَلَيْهَا الْمَطَرَ مِنَ السَّمَاءِ فَتُخْرِجُ هَذِهِ زَهْرَتَهَا وَشَجَرَهَا وَثَمَرَهَا وَنَبَاتَهَا، وَتُخْرِجُ هَذِهِ سَبَخَهَا وَمِلْحَهَا وَخَبِيثَهَا، وَكُلٌ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ، كَذَلِكَ النَّاسُ خُلِقُوا مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ تَذْكِرَةً، فَتَرِقُّ قُلُوبٌ فَتَخْشَعُ وَتَقْسُو قُلُوبٌ فَتَلْهُو، قَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا جَالَسَ الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ مِنْ عِنْدِهِ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (82) [الْإِسْرَاءِ: 82] . إِنَّ فِي ذلِكَ الَّذِي ذَكَرْتُ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ، الْعَجَبُ تَغَيُّرُ النَّفْسِ بِرُؤْيَةِ الْمُسْتَبْعَدِ فِي الْعَادَةِ وَالْخِطَابُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعْنَاهُ إِنَّكَ إِنْ تَعْجَبْ مِنْ إِنْكَارِهِمُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ مع إقرارهم بابتداء الخلق [فَعَجَبٌ أَمْرُهُمْ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ مَعَ إِقْرَارِهِمْ بِابْتِدَاءِ الْخَلْقِ] [3] مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْقُلُوبِ أَنَّ الْإِعَادَةَ أَهْوَنُ مِنَ الِابْتِدَاءِ، فَهَذَا مَوْضِعُ الْعَجَبِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَإِنَّ تَعْجَبْ مِنْ تَكْذِيبِ الْمُشْرِكِينَ وَاتِّخَاذِهِمْ مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا وَهُمْ قَدْ رَأَوْا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَا ضَرَبَ لَهُمْ بِهِ الْأَمْثَالَ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ، أَيْ: فتعجب أيضا من قولهم: أَإِذا كُنَّا تُراباً، بعد الموت أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ، أَيْ: نُعَادُ خَلْقًا جَدِيدًا كَمَا كُنَّا قَبْلَ الْمَوْتِ.
قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ أإذا مُسْتَفْهِمًا «إِنَّا» بِتَرْكِهِ عَلَى الْخَبَرِ ضِدَّهُ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ، وَكَذَلِكَ فِي سُبْحَانَ [49- 98] فِي مَوْضِعَيْنِ والمؤمنون [82] وَالم السَّجْدَةِ [10] ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالِاسْتِفْهَامِ فِيهِمَا وَفِي الصَّافَّاتِ فِي مَوْضِعَيْنِ هَكَذَا إِلَّا أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ يُوَافِقُ نَافِعًا فِي أَوَّلِ الصَّافَّاتِ فَيُقَدِّمُ الِاسْتِفْهَامَ وَيَعْقُوبُ لَا يَسْتَفْهِمُ الثانية (ااذا متنا أإنا لمدينون) ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
[سورة الرعد (13) : الآيات 6 الى 7]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)
قوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ، الِاسْتِعْجَالُ طَلَبُ تَعْجِيلِ الْأَمْرِ قَبْلَ مَجِيءِ وقته، والسيئة هاهنا هِيَ الْعُقُوبَةُ وَالْحَسَنَةُ الْعَافِيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْعُقُوبَةَ بَدَلًا مِنَ الْعَافِيَةِ اسْتِهْزَاءً مِنْهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أو ائتنا بعذاب أليم.
وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ، أَيْ: مَضَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ فِي الْأُمَمِ الَّتِي عَصَتْ رَبَّهَا وَكَذَّبَتْ رُسُلَهَا الْعُقُوبَاتُ، وَالْمَثُلَاتُ جَمْعُ الْمَثُلَةِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّ الثَّاءِ مِثْلُ صَدُقَةٍ وَصَدُقَاتٍ. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ.
__________
قال الحافظ في «التقريب» كذبوه اهـ. وتابعه سليمان بن عبيد الله عند الطبري 20127 والعقيلي 2/ 131، 617 لكن قال العقيلي: هذا الحديث إنما يعرف ب «سيف بن محمد» ولا يتابع سليمان عليه.
(1) الفارسي: نوع جيد من التمر نسبة إلى فارس.
(2) الدقل: رديء التمر.
(3) زيد في المطبوع وط.(3/7)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، أَيْ: عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، أَيْ: عَلَامَةٌ وَحُجَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ، مُخَوِّفٌ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ، أَيْ: لِكُلِّ قَوْمٍ نَبِيٌّ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: دَاعٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْحَقِّ أَوْ إِلَى الضَّلَالَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْهَادِي مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يقول: [1] أَنْتَ مُنْذِرٌ وَأَنْتَ هَادٍ لِكُلِّ قَوْمٍ أَيْ دَاعٍ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْهَادِي هُوَ اللَّهُ تعالى.
[سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 11]
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)
قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى، مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى سَوِيَّ الْخَلْقِ أَوْ نَاقِصَ الْخَلْقِ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ، أَيْ مَا تَنْقُصُ وَما تَزْدادُ.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: غَيْضُ الْأَرْحَامِ الْحَيْضُ عَلَى الْحَمْلِ، فَإِذَا حَاضَتِ الْحَامِلُ كَانَ نُقْصَانًا فِي الْوَلَدِ لِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ غِذَاءُ الْوَلَدِ فِي الرَّحِمِ فَإِذَا أَهْرَقَتِ الدَّمَ يَنْقُصُ الْغِذَاءُ فَيَنْتَقِصُ الْوَلَدُ، وَإِذَا لَمْ تَحِضْ يَزْدَادُ الْوَلَدُ وَيَتِمُّ، فَالنُّقْصَانُ نُقْصَانُ خِلْقَةِ الْوَلَدِ بِخُرُوجِ الدَّمِ وَالزِّيَادَةُ تَمَامُ خِلْقَتِهِ بِاسْتِمْسَاكِ الدَّمِ.
وَقِيلَ: إِذَا حَاضَتْ يَنْتَقِصُ الْغِذَاءُ وَتَزْدَادُ مُدَّةُ الْحَمْلِ حَتَّى تستكمل تسعة أشهر طاهرا فَإِنْ رَأَتْ [2] خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا وَضَعَتْ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَالنُّقْصَانُ فِي الْغِذَاءِ وَالزِّيَادَةُ فِي الْمُدَّةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ:
غَيْضُهَا نُقْصَانُهَا مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَالزِّيَادَةُ زِيَادَتُهَا عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ.
وَقِيلَ: النُّقْصَانُ السَّقْطُ وَالزِّيَادَةُ تَمَامُ الْخَلْقِ، وَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، فَقَدْ يُولَدُ الْمَوْلُودُ لِهَذِهِ الْمُدَّةِ وَيَعِيشُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي أَكْثَرِهَا فَقَالَ قَوْمٌ: أَكْثَرُهَا سَنَتَانِ وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ أَكْثَرَهَا أَرْبَعُ سِنِينَ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ. قَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ: إِنَّمَا سُمِّيَ هَرَمُ بْنُ حَيَّانَ هَرَمًا لِأَنَّهُ بَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعَ سِنِينَ [3] ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ، أي: بتقدير واحد لَا يُجَاوِزُهُ وَلَا يُقَصِّرُ عَنْهُ.
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ، الَّذِي كَلُّ شَيْءٍ دُونَهُ، الْمُتَعالِ، الْمُسْتَعْلِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ، أَيْ: يَسْتَوِي فِي عِلْمِ اللَّهِ الْمُسِرُّ بِالْقَوْلِ وَالْجَاهِرُ بِهِ، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ، أَيْ: مُسْتَتِرٌ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَسارِبٌ بِالنَّهارِ، أَيْ: ذَاهِبٌ في
__________
(1) زيد في المطبوع وط «إنما» .
(2) كذا في المطبوع و «ط» وفي المخطوط «زادت» .
(3) هذه الأقوال جميعا لا مستند لها البتة، وإنما هي القصص والحكايات، والصواب أن أكثر الحمل تسعة أشهر وربما زاد أياما فإن زاد أكثر من ذلك أصبحت الأم وجنينها في حالة خطر، فإن زاد فوق ذلك أياما ربما أدى إلى هلاك الجنين أو الجنين وأمه معا، فهذا هو الحق، وهو ما عليه الطب في أيامنا، وما أخذ به أبو حنيفة أو الشافعي أو غير هما فإنما يكون أخذه عن امرأة أخبرته بذلك أو رجل أعلمه به، وكل ذلك لا يصح، فكما كذب عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أيضا يكذب على غيره، فتنبه، والله أعلم. [.....](3/8)
سربه ظاهرا، وَالسَّرْبُ بِفَتْحِ السِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ الطَّرِيقُ، قَالَ الْقُتَيْبِيُّ: سَارِبٌ بِالنَّهَارِ أَيْ مُتَصَرِّفٌ فِي حَوَائِجِهِ.
قَالَ ابن عباس: هُوَ صَاحِبُ رِيبَةٍ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ فَإِذَا خَرَجَ بِالنَّهَارِ أَرَى النَّاسَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنَ الْإِثْمِ، وَقِيلَ: مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ أَيْ ظَاهِرٌ مِنْ قَوْلِهِمْ خَفِيتُ الشَّيْءَ إِذَا أَظْهَرْتَهُ وَأَخْفَيْتُهُ إِذَا كَتَمْتَهُ، وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ أَيْ مُتَوَارٍ دَاخِلٌ فِي سَرْبٍ.
لَهُ مُعَقِّباتٌ، أَيْ: لِلَّهِ تَعَالَى مَلَائِكَةٌ يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ [1] بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَإِذَا صَعِدَتْ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ جَاءَ فِي عَقِبِهَا مَلَائِكَةُ النَّهَارِ، وَإِذَا صَعِدَتْ مَلَائِكَةُ النَّهَارِ جَاءَ فِي عَقِبِهَا مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ، وَالتَّعْقِيبُ: الْعَوْدُ بَعْدَ الْبَدْءِ وَإِنَّمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ لِأَنَّ وَاحِدَهَا مُعَقِّبٌ، وَجَمْعَهُ مُعَقِّبَةٌ ثُمَّ جَمْعُ الْجَمْعِ مُعَقِّبَاتٌ كَمَا قِيلَ:
أَبْنَاوَاتُ سَعْدٍ وَرِجَالَاتُ بَكْرٍ.
«1189» أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، يَعْنِي: مِنْ قُدَّامِ هَذَا الْمُسْتَخْفِي بِاللَّيْلِ وَالسَّارِبِ بِالنَّهَارِ وَمِنْ خَلْفِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ، يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، يَعْنِي: بِأَمْرِ اللَّهِ، أَيْ: يَحْفَظُونَهُ بِإِذْنِ اللَّهِ مَا لَمْ يَجِئِ القدر، فإذا جاء القدر خُلُوًّا عَنْهُ. وَقِيلَ: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أَيْ: مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحِفْظِ عَنْهُ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وَلَهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِهِ يَحْفَظُهُ فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ، فَمَا مِنْهُمْ شَيْءٌ يَأْتِيهِ يُرِيدُهُ إِلَّا قَالَ وَرَاءَكَ إِلَّا شَيْءٌ يَأْذَنُ اللَّهُ فِيهِ فَيُصِيبُهُ.
قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَّلَ بِكُمْ مَلَائِكَةً يَذُبُّونَ عَنْكُمْ في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الْجِنُّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْآيَةُ فِي الْأُمَرَاءِ وَحَرَسِهِمْ يَحْفَظُونَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ. وَقِيلَ: الْآيَةُ فِي الْمَلَكَيْنِ الْقَاعِدَيْنِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ يَكْتُبَانِ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) [ق: 17] ، وقال ابْنُ جُرَيْجٍ: مَعْنَى يَحْفَظُونَهُ أَيْ يحفظون عليه مِنْ أَمْرِ اللَّهِ يَعْنِي الْحَسَنَاتِ والسيئات. وَقِيلَ: الْهَاءُ فِي (لَهُ) رَاجِعَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رَوَى جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ يَعْنِي لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُرَّاسٌ من الرحمن
__________
1189- إسناده صحيح، رجاله رجال البخاري ومسلم، أبو مصعب هو أحمد بن أبي بكر، أبو الزِّنَادِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، الأعرج، عبد الرحمن بن هرمز.
- وهو في «شرح السنة» 381 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق مالك وهو في «الموطأ» 1/ 170 عن أبي الزناد به.
- ومن طريق مالك أخرجه البخاري 555 و7429 و7486 ومسلم 632 والنسائي 1/ 240 وأحمد 2/ 486 وابن حبان 1739.
- وأخرجه البخاري 3223 من طريق شعيب عن أبي الزناد به.
- وأخرجه مسلم 632 وأحمد 2/ 312 وابن حبان 1736 من طريق عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ همام عن أبي هريرة به.
(1) زيد في المطبوع وط.(3/9)
مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، يَعْنِي مِنْ شَرِّ الْجِنِّ وَطَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي عامر بن الطفيل وأريد بْنِ رَبِيعَةَ:
«1190» وَكَانَتْ قِصَّتُهُمَا عَلَى مَا رَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَقْبَلَ عَامِرُ بْنِ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ وَهُمَا عَامِرِيَّانِ يُرِيدَانِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَدَخْلَا الْمَسْجِدَ فَاسْتَشْرَفَ النَّاسُ لِجَمَالِ عَامِرٍ وَكَانَ أَعْوَرَ وكان من أجمل [1] النَّاسِ، فَقَالَ رَجُلٌ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ قَدْ أَقْبَلَ نَحْوَكَ، فَقَالَ: «دَعْهُ فَإِنْ يَرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يَهْدِهِ» [2] فَأَقْبَلَ حَتَّى قَامَ عَلَيْهِ، فقال: يا محمد ما لي إِنْ أَسْلَمْتُ؟ قَالَ: «لَكَ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْكَ مَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ» ، قَالَ: تَجْعَلُ لِيَ الْأَمْرَ بَعْدَكَ، قَالَ: «لَيْسَ ذَلِكَ إِلَيَّ إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَجْعَلُهُ حَيْثُ يَشَاءُ» ، قَالَ: فَتَجْعَلُنِي عَلَى الْوَبَرِ وَأَنْتَ عَلَى الْمَدَرِ، قَالَ: لَا، قَالَ: فَمَاذَا تَجْعَلُ لِي؟ قَالَ: «أَجْعَلُ لَكَ أَعِنَّةَ الخيل تغزو عليها» ، قال: أو ليس ذلك لي الْيَوْمَ، قُمْ مَعِي أُكَلِّمْكَ، فَقَامَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عَامِرٌ أَوْصَى إِلَى أَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ إِذَا رأيتني أكلمه فدار مِنْ خَلْفِهِ فَاضْرِبْهُ بِالسَّيْفِ، فَجَعَلَ يُخَاصِمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُرَاجِعُهُ فَدَارَ أَرْبَدُ [من] [3] خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ليضربه بالسيف فَاخْتَرَطَ مِنْ سَيْفِهِ شِبْرًا ثُمَّ حبسه الله عَنْهُ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى سَلِّهِ وجعل عامر يومىء إِلَيْهِ فَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَى أَرْبَدَ وما يصنع [4] بسيفه [في علاجه] [5] ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمَا بِمَا شِئْتَ» ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى أَرْبَدَ صَاعِقَةً فِي يَوْمٍ صَحْوٍ قَائِظٍ فَأَحْرَقَتْهُ وَوَلَّى عَامِرٌ هَارِبًا وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ دَعَوْتَ رَبَّكَ فَقَتَلَ أَرْبَدَ وَاللَّهِ لَأَمْلَأَنَّهَا عَلَيْكَ خَيْلًا جُرْدًا وَفِتْيَانًا مُرْدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَمْنَعُكَ اللَّهُ تعالى من ذلك، وابنا قَيْلَةَ يُرِيدُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ» ، فَنَزَلَ عَامِرٌ بَيْتَ امْرَأَةٍ سَلُولِيَّةٍ فَلَمَّا أَصْبَحَ ضَمَّ عَلَيْهِ سِلَاحَهُ وَقَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ فَجَعَلَ يَرْكُضُ فِي الصَّحْرَاءِ، وَيَقُولُ: ابْرُزْ يَا مَلَكَ الْمَوْتِ، وَيَقُولُ الشِّعْرَ وَيَقُولُ وَاللَّاتِ لَئِنْ أَبْصَرْتُ [6] مُحَمَّدًا وَصَاحِبَهُ يَعْنِي مَلَكَ الْمَوْتِ لِأُنَفِذَنَّهُمَا بِرُمْحِي، فَأَرْسَلَ الله ملكا فلطمه بجناحه فأداره [7] فِي التُّرَابِ وَخَرَجَتْ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فِي الْوَقْتِ غُدَّةٌ عَظِيمَةٌ، فَعَادَ إِلَى بَيْتِ السَّلُولِيَّةِ [وَهُوَ يَقُولُ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ] [8] ، ثُمَّ دَعَا بِفَرَسِهِ فَرَكِبَهُ ثُمَّ أَجْرَاهُ حَتَّى مَاتَ عَلَى ظَهْرِهِ فَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فقتل عامر بِالطَّعْنِ وَأَرْبَدَ بِالصَّاعِقَةِ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَوْلَهُ: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، يَعْنِي لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَقِّبَاتٌ يَحْفَظُونَهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، يَعْنِي تِلْكَ الْمُعَقِّبَاتِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وتأخير، وقال لهذين:
__________
1190- ذكره المصنف عن الكلبي تعليقا هاهنا وإسناده إليه أول الكتاب. والكلبي ساقط منهم.
- وورد من وجه آخر عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابن عباس أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» 157 والطبراني في «الكبير» 10760 و «الطوال» 37 وفي إسناده عبد العزيز بن عمران وابنا زيد بن أسلم، وكلهم ضعيف.
ذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 42 ونسبه للطبراني في «الكبير» و «الأوسط» وقال: وفي إسنادهما عبد العزيز بن عمران، وهو ضعيف.
(1) كذا في المخطوطتين، وفي المطبوع وط «أجلّ» وكلاهما محتمل، فالمثبت وجهه أنه في غاية الجمال مع كونه أعور، ووجه الوارد في المطبوع، أنه من أعظم الناس إما في الهيئة والجثة، أو في مكانته بين الناس، والله تعالى أعلم.
(2) تصحف في المطبوع «بهذه» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع وط «صنع» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المخطوط «أصحر» .
(7) في المطبوع وط «فأرداه» .
(8) زيادة عن المطبوع وط.(3/10)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ، مِنَ الْعَافِيَةِ وَالنِّعْمَةِ، حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ، مِنَ الْحَالِ الجملية فَيَعْصُوا رَبَّهُمْ، وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً، أَيْ: عَذَابًا وَهَلَاكًا فَلا مَرَدَّ لَهُ أَيْ: لَا رَادَّ لَهُ، وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ، أَيْ: مَلْجَإٍ يلجؤون إِلَيْهِ، وَقِيلَ: وَالٍ يَلِي أَمْرَهُمْ ويمنع العذاب عنهم.
[سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 13]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13)
قوله: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً، قِيلَ: خَوْفًا مِنَ الصَّاعِقَةِ [و] طَمَعًا فِي نَفْعِ الْمَطَرِ، وَقِيلَ: الْخَوْفُ لِلْمُسَافِرِ يَخَافُ مِنْهُ الْأَذَى وَالْمَشَقَّةَ، وَالطَّمَعُ لِلْمُقِيمِ يَرْجُو مِنْهُ الْبَرَكَةَ وَالْمَنْفَعَةَ. وَقِيلَ:
الْخَوْفُ مِنَ الْمَطَرِ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ وَإِبَّانِهِ [1] ، وَالطَّمَعُ إِذَا كَانَ فِي مَكَانِهِ وإبانه [2] . ومن [3] البلدان، إذا مطروا قَحَطُوا وَإِذَا لَمْ يُمْطَرُوا أَخْصَبُوا. وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ، بِالْمَطَرِ. يُقَالُ: أَنْشَأَ اللَّهُ السَّحَابَةَ فَنَشَأَتْ أَيْ أَبْدَاهَا فَبَدَتْ [4] ، وَالسَّحَابُ [5] جَمْعٌ وَاحِدَتُهَا سَحَابَةٌ، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: السَّحَابُ غِرْبَالُ الْمَاءِ [6] .
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أن الرعد اسم لملك [7] يَسُوقُ السَّحَابَ وَالصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ مِنْهُ تَسْبِيحُهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ فَقَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَإِنْ أَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فعلي دينه، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ صَوْتَ الرَّعْدِ تَرَكَ الْحَدِيثَ وَقَالَ: سُبْحَانَ مَنْ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مَنْ خِيفَتِهِ، وَيَقُولُ [8] : إِنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ شَدِيدٌ.
«1191» وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «لَوْ أَنَّ عِبَادِي أَطَاعُونِي لَسَقَيْتُهُمُ المطر بالليل وأطلعت عَلَيْهِمُ الشَّمْسَ بِالنَّهَارِ وَلَمْ أُسْمِعْهُمْ صَوْتَ الرَّعْدِ» . وَقَالَ جُوَيْبِرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرَّعْدُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ يَصْرِفُهُ إِلَى حَيْثُ يُؤْمَرُ وَأَنَّ بُحُورَ الْمَاءِ فِي نَقْرَةِ إِبْهَامِهِ وَأَنَّهُ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى فَإِذَا سَبَّحَ لَا يَبْقَى مَلَكٌ فِي السَّمَاءِ إِلَّا رَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّسْبِيحِ فَعِنْدَهَا يَنْزِلُ الْقَطْرُ. [9] ، وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ، أَيْ: تُسَبِّحُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَشْيَتِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ أَعْوَانَ الرَّعْدِ، جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَعْوَانًا فَهُمْ خائفون خاضعون [متذللون] [10] طَائِعُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ، جَمْعُ صَاعِقَةٍ وَهِيَ الْعَذَابُ الْمُهْلِكُ يَنْزِلُ مِنَ الْبَرْقِ فَيَحْرِقُ مَنْ يُصِيبُهُ، فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ، كَمَا أَصَابَ أَرْبَدَ بْنَ رَبِيعَةَ، قال مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْبَاقِرُ: الصَّاعِقَةُ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ وَغَيْرَ الْمُسْلِمِ وَلَا تُصِيبُ الذَّاكِرَ، وَهُمْ يُجادِلُونَ، يُخَاصِمُونَ، فِي اللَّهِ، نَزَلَتْ فِي شَأْنِ
__________
1191- ضعيف جدا. أخرجه أحمد 3/ 359 والحاكم 2/ 349 وصححه وتعقبه الذهبي بقوله: صدقة بن موسى واه. وذكره الهيثمي في «المجمع» 2/ 211 ونسبه لأحمد والبزار وأعله بصدقة بن موسى أيضا.
1 في المخطوط «أيامه» .
2 في المخطوط «أيامه» . [.....]
(3) في المطبوع وط «ما» .
(4) كذا في المطبوع وط، وفي المخطوط «فبدأت» .
(5) في المطبوع «والسحب» .
(6) لا يصح عن علي والصواب أن السحاب منه يتكون الماء.
(7) في المطبوع وط «ملك» .
(8) تصحف في المخطوط «يقال» .
(9) في المطبوع وحده «المطر» .
(10) زيادة عن المخطوط.(3/11)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
أَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ حَيْثُ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِمَّ رَبُّكَ أَمِنْ دُرٍّ أَمْ مِنْ يَاقُوتٍ أَمْ مِنْ ذَهَبٍ؟ فَنَزَلَتْ صَاعِقَةٌ مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهُ.
«1192» وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ مِنْ طَوَاغِيتِ الْعَرَبِ بَعَثَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَرًا يَدْعُونَهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ لَهُمْ: أَخْبِرُونِي عَنْ رَبِّ مُحَمَّدٍ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ مِمَّ هُوَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَدِيدٍ أَوْ نُحَاسٍ، فَاسْتَعْظَمَ الْقَوْمُ مَقَالَتَهُ فَانْصَرَفُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا أَكْفَرَ قَلْبًا وَلَا أَعْتَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُ، فَقَالَ: «ارْجِعُوا إِلَيْهِ» فَرَجَعُوا إِلَيْهِ فَجَعَلَ لَا يَزِيدُهُمْ عَلَى مِثْلِ مَقَالَتِهِ الْأُولَى، وَقَالَ: أُجِيبُ مُحَمَّدًا إِلَى رَبٍّ لَا أَرَاهُ وَلَا أَعْرِفُهُ فَانْصَرَفُوا وَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا زَادَنَا عَلَى]
مقالته [مثل] [2] مَقَالَتِهِ الْأُولَى وَأَخْبَثَ فَقَالَ: «ارْجِعُوا إليه» فرجعوا إليه فبينما هم جلوس عِنْدَهُ يُنَازِعُونَهُ وَيَدْعُونَهُ وَهُوَ يَقُولُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إِذِ ارْتَفَعَتْ سَحَابَةٌ فكانت فوق رؤوسهم فَرَعَدَتْ وَبَرَقَتْ وَرَمَتْ بِصَاعِقَةٍ فَاحْتَرَقَ الكافر وهم جلوس [عنده] [3] ، فجاؤوا يَسْعَوْنَ لِيُخْبِرُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَقْبَلَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهُمْ احْتَرَقَ صَاحِبُكُمْ، فَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ عَلِمْتُمْ فَقَالُوا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ.
وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ، قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: شَدِيدُ الْأَخْذِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَدِيدُ الْحَوْلِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: شَدِيدُ الْحِقْدِ [4] . وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَدِيدُ الْقُوَّةِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: شَدِيدُ الْعُقُوبَةِ. وَقِيلَ: شَدِيدُ الْمَكْرِ. والمحال والمماحلة: المماكرة والمغالبة.
[سورة الرعد (13) : الآيات 14 الى 16]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ، أَيْ: لِلَّهِ دَعْوَةُ الصِّدْقِ. قَالَ [عَلِيٌّ] [5] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْوَةُ الْحَقِّ التَّوْحِيدُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَهَادَةٌ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقِيلَ: الدُّعَاءُ بِالْإِخْلَاصِ وَالدُّعَاءُ الْخَالِصُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ، أَيْ: يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعالى. لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ، أَيْ: لَا يُجِيبُونَهُمْ بِشَيْءٍ يُرِيدُونَهُ من
__________
1192- ذكره المصنف عن الحسن تعليقا هاهنا وإسناده إليه في أول الكتاب.
- وورد بنحوه من حديث أنس أخرجه النسائي في «التفسير» 279 وأبو يعلى 3341 والطبري 20270 والطبراني في «الأوسط» 2623 وابن أبي عاصم في «السنة» 692 والبيهقي في «الدلائل» 6/ 283 وفي إسناده علي بن أبي سارة وهو ضعيف، لكن تابعه عليه ديلم بن غزوان عن البزار كما في «مجمع الزوائد» 7/ 42، وديلم ليس به بأس، وقال الهيثمي: رجال البزار رجال الصحيح، غير ديلم، وهو ثقة اهـ. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، وفي الباب مراسيل راجع «الدر المنثور» 4/ 99 وابن كثير 2/ 623.
(1) في المطبوع وحده «عى» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) هذا منكر، وليس له أصل عن الحسن، لأنه من رواية عمرو بن عبيد، وهو متروك متهم.
(5) سقط من المطبوع وحده. [.....](3/12)
نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ، أَيْ: إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ لِيَقْبِضَ عَلَى الْمَاءِ، وَالْقَابِضُ عَلَى الْمَاءِ لَا يَكُونُ فِي يَدِهِ شَيْءٌ وَلَا يَبْلُغُ إِلَى فِيهِ مِنْهُ شَيْءٌ، كَذَلِكَ الَّذِي يَدْعُو الْأَصْنَامَ وَهِيَ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ لَا يَكُونُ بِيَدِهِ شَيْءٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كالرجل [العطشان الذي يريد الْمَاءَ مِنْ بَعِيدٍ فَهُوَ يُشِيرُ بِكَفِّهِ إِلَى الْمَاءِ وَيَدْعُوهُ بِلِسَانِهِ فلا يأتيه أبدا فهذا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَمِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَعَطَاءٍ] [1] كَالْعَطْشَانِ [2] الْجَالِسِ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى الْبِئْرِ فَلَا يَبْلُغُ قَعْرَ الْبِئْرِ إِلَى الْمَاءِ وَلَا يَرْتَفِعُ إِلَيْهِ الْمَاءُ فَلَا يَنْفَعُهُ بَسْطُ الْكَفِّ إِلَى الْمَاءِ وَدُعَاؤُهُ لَهُ، وَلَا هُوَ يَبْلُغُ فَاهُ، كَذَلِكَ الَّذِينَ يدعون الأصنام لا ينفعهم نداؤها دُعَاؤُهَا، وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَالْعَطْشَانِ إذا بسط كفيه إلى الْمَاءِ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَغْرِفْ بِهِمَا الْمَاءَ وَلَا يَبْلُغُ الْمَاءُ فَاهُ مَا دَامَ باسطا كفيه، مثل ضربه الله لِخَيْبَةِ الْكُفَّارِ. وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ، أَصْنَامَهُمْ [3] ، إِلَّا فِي ضَلالٍ، [يَضِلُّ عَنْهُمْ إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ كَمَا قَالَ: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ [الْأَنْعَامِ: 24] ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ رَبَّهُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ] [4] لِأَنَّ أَصْوَاتَهُمْ مَحْجُوبَةٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً، يَعْنِي: الْمَلَائِكَةَ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَكَرْهاً، يَعْنِي: الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ الَّذِينَ أُكْرِهُوا عَلَى السُّجُودِ بِالسَّيْفِ. وَظِلالُهُمْ، يَعْنِي: ظِلَالَ السَّاجِدِينَ طَوْعًا وَكَرْهًا تَسْجُدُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ طَوْعًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: ظِلُّ الْمُؤْمِنِ يَسْجُدُ طَوْعًا وَهُوَ طَائِعٌ، وَظِلُّ الْكَافِرِ يَسْجُدُ طَوْعًا وَهُوَ كَارِهٌ. بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ، يعني إذا سجد بالغدو والعشي يسجد معه ظله، والآصال: جمع الأصل، والأصل جَمْعُ الْأَصِيلِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقِيلَ: ظِلَالُهُمْ أَيْ: أَشْخَاصُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ بِالْبُكَرِ وَالْعَشَايَا. وَقِيلَ: سُجُودُ الظِّلِّ تذليله لما أريد له.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، أي: خالقهما ومدبر هما فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ، لِأَنَّهُمْ [5] يُقِرُّونَ بِأَنَّ الله خالقهم وخالق السموات وَالْأَرْضِ فَإِذَا أَجَابُوكَ فَقُلْ أَنْتَ أَيْضًا يَا مُحَمَّدُ (اللَّهُ) .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَالَ هَذَا لِلْمُشْرِكِينَ عَطَفُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا: أجِبْ أَنْتَ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ [له] [6] ف قُلْ [7] اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ، مَعْنَاهُ: إِنَّكُمْ مَعَ إِقْرَارِكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السموات وَالْأَرْضِ اتَّخَذْتُمْ مَنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَعَبَدْتُمُوهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ، يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا، فَكَيْفَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ؟ ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا فَقَالَ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، [كَذَلِكَ لَا يَسْتَوِي الْكَافِرُ وَالْمُؤْمِنُ] [8] .
أَمْ هَلْ تَسْتَوِي، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ يَسْتَوِي بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ لِأَنَّهُ لا حائل بين الفعل و [الاسم] [9] الْمُؤَنَّثِ. الظُّلُماتُ وَالنُّورُ، أَيْ: كَمَا لَا يَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ لَا يَسْتَوِي الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ. أَمْ جَعَلُوا، أي: جَعَلُوا، لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ، أَيِ: اشْتَبَهَ مَا خَلَقُوهُ بِمَا خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَدْرُونَ مَا خَلْقَ اللَّهُ وَمَا خَلَقَ آلِهَتُهُمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ، ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ تعالى مثلين للحق والباطل:
__________
(1) زيادة عن المخطوط وط.
(2) في المطبوع «العطشان» .
(3) في المخطوط «ربهم» .
(4) زيد في المطبوع وط.
(5) في المطبوع «إنهم» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) زيد في المطبوع «أنت يا محمد» .
(8) زيد في المطبوع وط.
(9) زيادة عن المخطوط وط.(3/13)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
[سورة الرعد (13) : آية 17]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17)
فقال عزّ وجلّ: أَنْزَلَ يَعْنِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، مِنَ السَّماءِ مَاءً، يَعْنِي الْمَطَرَ، فَسالَتْ، مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها، أَيْ: فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ، الَّذِي حَدَثَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، زَبَداً رابِياً، الزَّبَدُ الْخَبَثُ الَّذِي يَظْهَرُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَكَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْقِدْرِ، رَابِيًا أَيْ عَالِيًا مُرْتَفِعًا فَوْقَ الْمَاءِ فَالْمَاءُ الصَّافِي الْبَاقِي هُوَ الحق، والذاهب والزائل الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالْأَشْجَارِ وَجَوَانِبِ الْأَوْدِيَةِ هُوَ الْبَاطِلُ.
وَقِيلَ: قَوْلُهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً هَذَا مَثَلٌ لِلْقُرْآنِ [1] وَالْأَوْدِيَةُ مَثَلٌ لِلْقُلُوبِ [2] يُرِيدُ ينزل القرآن، فتحتمل مِنْهُ الْقُلُوبُ عَلَى قَدْرِ الْيَقِينِ وَالْعَقْلِ وَالشَّكِّ وَالْجَهْلِ.
فَهَذَا أَحَدُ الْمَثَلَيْنِ وَالْمَثَلُ الْآخَرُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ يُوقِدُونَ بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَلَا مُخَاطَبَةَ هَاهُنَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ وَمِمَّا تُوقِدُونَ، أَيْ: وَمِنَ الَّذِي تُوقِدُونَ عَلَيْهِ [فِي] [3] النَّارِ، وَالْإِيقَادُ جَعْلُ النَّارِ تَحْتَ الشَّيْءِ لِيَذُوبَ، ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ، أَيْ لِطَلَبِ زِينَةٍ، وَأَرَادَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ لِأَنَّ الْحِلْيَةَ تُطْلَبُ مِنْهُمَا، أَوْ مَتاعٍ أَيْ: طَلَبِ مَتَاعٍ وَهُوَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ، وَالرَّصَاصِ، وَالصُّفْرِ تُذَابُ فَيُتَّخَذُ مِنْهَا الْأَوَانِي وَغَيْرُهَا مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهَا، زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ، أَيْ: إِذَا أُذِيبَ فَلَهُ أَيْضًا زَبَدٌ مِثْلُ زَبَدِ الْمَاءِ، فَالْبَاقِي الصَّافِي مِنْ هَذِهِ الْجَوَاهِرِ مِثْلُ الْحَقِّ، وَالزَّبَدُ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِثْلُ الْبَاطِلِ، فَأَمَّا الزَّبَدُ، الَّذِي عَلَا السَّيْلَ وَالْفِلِزَّ، فَيَذْهَبُ جُفاءً أَيْ: ضَائِعًا بَاطِلًا، وَالْجُفَاءُ مَا رَمَى بِهِ الْوَادِي مِنَ الزَّبَدِ وَالْقِدْرُ إِلَى جَنَبَاتِهِ، يُقَالُ: جَفَا الْوَادِي وَأَجْفَأَ إِذَا أَلْقَى غُثَاءَهُ، وَأَجْفَأَتِ الْقِدْرُ وَجَفَأَتْ إِذَا غَلَتْ وَأَلْقَتْ زَبَدَهَا، فَإِذَا سَكَنَتْ لَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ، مَعْنَاهُ: إِنَّ الْبَاطِلَ وَإِنْ عَلَا فِي وَقْتٍ فَإِنَّهُ يَضْمَحِلُّ. وَقِيلَ: جُفَاءً أَيْ: مُتَفَرِّقًا. يُقَالُ: جَفَأَتِ الرِّيحُ الْغَيْمَ إِذَا فَرَّقَتْهُ وَذَهَبَتْ بِهِ، وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ، يَعْنِي: الماء والفلز من الذهب والفضلة وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ، فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: يَبْقَى وَلَا يَذْهَبُ، كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ، جَعَلَ اللَّهُ هذا مثالا [4] للحق والباطل، يعني: أَنَّ الْبَاطِلَ كَالزَّبَدِ يَذْهَبُ وَيَضِيعُ الحق كَالْمَاءِ وَالْفِلِزِّ يَبْقَى فِي الْقُلُوبِ.
وَقِيلَ: هَذَا تَسْلِيَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي: أَنَّ أَمْرَ الْمُشْرِكِينَ كَالزَّبَدِ يُرَى فِي الصُّورَةِ شَيْئًا وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَةٌ، وَأَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ كَالْمَاءِ الْمُسْتَقِرِّ فِي مَكَانِهِ لَهُ الْبَقَاءُ وَالثَّبَاتُ.
[سورة الرعد (13) : الآيات 18 الى 21]
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21)
__________
(1) في المخطوط «القرآن» .
(2) في المخطوط «القلوب» .
(3) زيادة عن المخطوط وط.
(4) في المخطوط «مثلا» .(3/14)
قوله تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا، أَجَابُوا، لِرَبِّهِمُ، فَأَطَاعُوهُ، الْحُسْنى الْجَنَّةُ، وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ، أَيْ: لَبَذَلُوا ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ افْتِدَاءً مِنَ النَّارِ، أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: سُوءُ الْحِسَابِ أَنْ يُحَاسَبَ الرَّجُلُ بِذَنْبِهِ كُلِّهِ لَا يَغْفِرُ لَهُ مِنْ شَيْءٌ، وَمَأْواهُمْ فِي الْآخِرَةِ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ، الْفِرَاشُ، أَيْ: بِئْسَ مَا مُهِّدَ لَهُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ، فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيَعْمَلُ بِمَا فِيهِ، كَمَنْ هُوَ أَعْمى، عَنْهُ لَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ.
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي حَمْزَةَ وَأَبِي جَهْلٍ. وَقِيلَ: فِي عَمَّارٍ وَأَبِي جَهْلٍ، فَالْأَوَّلُ حَمْزَةُ أَوْ عَمَّارٌ وَالثَّانِي أَبُو جَهْلٍ، وَهُوَ الْأَعْمَى، أَيْ: لَا يَسْتَوِي مَنْ يُبْصِرُ الْحَقَّ وَيَتَّبِعُهُ وَمَنْ لَا يُبْصِرُهُ وَلَا يَتَّبِعُهُ. إِنَّما يَتَذَكَّرُ يتعظ، أُولُوا الْأَلْبابِ. ذَوُو الْعُقُولِ.
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ، بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَفَرَضَهُ عَلَيْهِمْ فَلَا يخالفونه، وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ، قيل: أَرَادَ الْعَهْدَ الَّذِي أَخَذَهُ [1] عَلَى ذُرِّيَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِهِ.
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، قِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَلَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ صِلَةَ الرَّحِمِ.
«1193» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ ثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجُوَيْهِ ثَنَا ابن أبي شيبة ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ عَادَ أَبَا الردّاد [2] فَقَالَ يَعْنِي عَبْدَ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [يَقُولُ] [3] فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ: «أَنَا اللَّهُ وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا بتّته» .
__________
1193- صحيح بطرقه. فيه إرسال، ورجال الإسناد ثقات، لكن له طرق.
- حميد ثقة ثبت، وقد توبع هو ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم. ابن أبي شيبة هو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، الزُّهْرِيُّ هو محمد بن مسلم.
- وهو في «شرح السنة» 3326 بهذا الإسناد.
- وأخرجه أبو داود 1694 والترمذي 1907 وأحمد 1/ 194 وابن أبي شيبة 8/ 535- 536 والحاكم 4/ 158 من طرق عن ابن عيينة به وقال الترمذي: حديث سفيان عن الزهري حديث صحيح.
- وأخرجه عبد الرزاق في «المصنف» 10234 عن مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ردّاد الليثي عن عبد الرحمن به.
- ومن طريق عبد الرزاق أخرجه أبو داود 1695 وأحمد 1/ 194 والحاكم 4/ 157 وإسناده حسن في المتابعات لأجل رداد، فإنه مقبول.
- وأخرجه ابن حبان 443 من طريق معمر بالإسناد السابق.
- وأخرجه أحمد 1/ 194 ح 1690 والحاكم 4/ 157 من طريق يزيد بن هارون عن هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أبي كثير عن إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قارظ أن أباه حدثه أنه دخل على عبد الرحمن بن عوف، وهو مريض ... فذكره.
ورجال الإسناد رجال مسلم سوى قارظ، وهو حسن الحديث. وللحديث شواهد وطرق، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا. [.....]
(1) في المخطوط «أخذ» .
(2) في المطبوع «الدرداء» والمثبت عن كتب التراجم، و «شرح السنة» .
(3) زيادة عن المخطوط.(3/15)
«1194» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [1] الْمَلِيحِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ أنا أبو جعفر الرَّيَّانِيُّ ثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ ثنا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله قَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوَيِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ القطيعة، قال: [نعم] [2] أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَذَلِكَ لَكِ» ، ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ [مُحَمَّدٍ: 22] .
«1195» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [3] الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو جعفر الرَّيَّانِيُّ ثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ ثنا مسلم بن إبراهيم ثنا كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَشْكُرِيُّ ثنا الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «ثَلَاثَةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْقُرْآنُ يُحَاجُّ الْعِبَادَ، لَهُ ظَهْرٌ وَبَطْنٌ، وَالْأَمَانَةُ، وَالرَّحِمُ تُنَادِي أَلَا مَنْ وَصَلَنِي وَصْلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ» .
«1196» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ أَنَا أَبُو جعفر الرياني أنا
__________
1194- صحيح. حميد ثقة، وقد توبع هو ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- ابن أبي أويس هو إسماعيل بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله بن أويس، أبو مزرد هو عبد الرحمن بن يسار.
- وهو في «شرح السنة» 3325 بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 4831 و7502 ومسلم 2554 وأحمد 2/ 330 وابن حبان 441 والبيهقي 7/ 26 من طرق عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي مُزَرِّدٍ به.
1195- ضعيف بهذا اللفظ. إسناده ضعيف، الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عوف ذكره البخاري في «التاريخ» وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» من غير جرح أو تعديل، ووثقه ابن حبان وحده على قاعدته في توثيق المجاهيل.
- وقد اختلف فيه وفي أبيه، فقد قال ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» 3/ 23: الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عوف القرشي، وليس هو بابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيِّ، لكنه بصري آخر، روى عن أبيه روى عنه كثير اليشكري، سمعت أبي يقول ذلك.
- وقال الحافظ في «الإصابة» في ترجمته: فرق أبو حاتم بينه وبين الزهري وكذا قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في «تاريخه» .
- قلت: والزهري هو أحد العشرة، وذكره البخاري في «التاريخ» 2/ 296، فقال القرشي، ولم يتعرض للتفريق بينهما.
- وبكل حال الحسن هذا مجهول لم يرو عنه سوى اليشكري، واليشكري متكلم فيه أيضا، بل أعله العقيلي به حيث ذكره في ترجمة اليشكري، وقال: لا يصح إسناده.
- وهو في «شرح السنة» 3327 بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري في «التاريخ» 2/ 295- 296/ 2523 عن مسلم بن إبراهيم به.
- وأخرجه العقيلي في «الضعفاء» 4/ 5/ 1556 من طريق البخاري به.
- وقال: لا يصح إسناده.
- ونقله الذهبي في «الميزان» 3/ 409 عن العقيلي، ووافقه.
1196- صحيح. إسناده حسن في الشواهد لأجل عبد الله بن صالح، لكن توبع هو ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، عقيل هو ابن خالد، ابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري.
- وهو في «شرح السنة» 3323 بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 5986 ومسلم 2557 وابن حبان 438 والبيهقي 7/ 27 من طرق عن الليث به.
1 زيادة عن المخطوط و «شرح السنة» .
(2) زيادة عن المخطوط.
3 زيادة عن المخطوط و «شرح السنة» .(3/16)
حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» .
«1197» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] الْمَلِيحِيُّ أَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيُّ ثنا علي بن الجعد ثنا شُعْبَةُ عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ [1] عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَحْرَى أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ» .
«1198» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ رحم» [2] .
«1199» أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ محمش الزيادي ثنا أحمد بن إسحاق الصيدلاني أنا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بن نصر ثنا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ ثنا عمرو بن
__________
- وأخرجه أحمد 3/ 229 و226 و156 من طريقين عن أنس به.
- وأخرجه مسلم 2557 وأبو داود 1693 وابن حبان 439 من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري به.
1197- صحيح. إسناده حسن لأجل عيينة بن عبد الرحمن، وباقي الإسناد ثقات، وللحديث شواهد تقويه.
- شعبة هو ابن الحجاج، عبد الرحمن والد عيينة هو ابن جوشن.
- وهو في «شرح السنة» 3332 بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري في «الأدب المفرد 67 والحاكم 4/ 163 وابن حبان 456 من طرق عن شعبة به.
- وأخرجه أبو داود 4902 والترمذي 2511 وابن ماجه 4211 وأحمد 5/ 36 وابن حبان 455 من طرق عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ به وصححه الحاكم 2/ 356، ووافقه الذهبي.
- وللحديث شواهد، فهو صحيح.
1198- صحيح. إسناده صحيح. أحمد بن منصور ثقة، وقد توبع هو ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، عبد الرزاق بن همام، معمر بن راشد، الزهري محمد بن مسلم.
- وهو في «شرح السنة» 3331 بهذا الإسناد.
- خرج المصنف من طريق عبد الرزاق، وهو في «المصنف» 20328 عن معمر به.
- وأخرجه أحمد 4/ 84 والبيهقي 7/ 27 من طريق عبد الرزاق به.
- وأخرجه مسلم 2556 وأبو داود 1696 والترمذي 1909 وأحمد 4/ 80 والبيهقي 7/ 27 من طرق عن سفيان بن عيينة عن الزهري به.
- وأخرجه البخاري 5984 من طريق الليث عن عقيل عن الزهري به.
1199- صحيح، أبو نعيم فمن فوقه رجال البخاري ومسلم، ومن دونه توبعوا.
- وهو في «شرح السنة» 8 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 13 من طريق عمرو بن عثمان به.
- وأخرجه البخاري 5983 ومسلم 13 والنسائي 1/ 234 وأحمد 5/ 418 وابن حبان 3246 من طرق عن بهز بن أسد عن شعبة عن محمد بن عثمان وأبيه عن موسى بن طلحة به.
(1) تصحف في المطبوع «بكر» . [.....]
(2) زيد في المطبوع وحده «رحم» .(3/17)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ يَذْكُرُ عَنْ أَبِي أَيُّوبٍ الأنصاري أَنْ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ لَهُ فَقَالَ: أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ» .
«1200» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ ثنا أبو جعفر الرَّيَّانِيُّ ثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ ثنا [1] يعلى وأبو نعيم قالا: ثنا فطر عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس الواصل بالمكافىء ولكن الواصل الذي إذا انقطعت [2] رَحِمُهُ وَصَلَهَا» .
رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عن سفيان عن فطر وَقَالَ: «إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ.
[سورة الرعد (13) : الآيات 22 الى 25]
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
. وَالَّذِينَ صَبَرُوا، عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: عَلَى الْمَصَائِبِ وَالنَّوَائِبِ. وَقِيلَ: عَنِ الشَّهَوَاتِ. وَقِيلَ: عَنِ الْمَعَاصِي. ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ، طَلَبَ تَعْظِيمِهِ أَنْ يُخَالِفُوهُ، وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً، يَعْنِي يُؤَدُّونَ الزكاة، وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: يَدْفَعُونَ بِالصَّالِحِ مِنَ الْعَمَلِ السيّء مِنَ الْعَمَلِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هُودٍ: 114] .
«1201» وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً فَاعْمَلْ بجنبها حسنة تمحها، السرّ
__________
1200- صحيح. إسناده صحيح، حميد ثقة، وقد توبع هو ومن دونه، ومن فوقه ثقات، فطر هو ابن خليفة، مجاهد هو ابن جبر، يعلى بن عبيد، أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ.
- وأخرجه البخاري 5991 وأبو داود 1697 والترمذي 1908 وأحمد 2/ 190 من طرق عن مجاهد به.
1201- حسن. أخرجه الطبراني في «الكبير» 20/ 175 من حديث أبي سلمة عن معاذ بن جبل، وإسناده منقطع. وذكره الهيثمي في «المجمع» 4/ 218 وقال: وأبو سلمة لم يدرك معاذا، ورجاله ثقات اهـ.
- وأخرجه البيهقي في «الزهد» 956 من رواية إسماعيل بن رافع عن ثعلبة بن صالح عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى عَنِ معاذ بنحوه مطوّلا، وإسناده ضعيف لانقطاعه، سليمان بن موسى لم يدرك معاذا.
- وأخرجه البيهقي في «الزهد» 957 عن محمد بن جبير قال: بعث رسول الله معاذا إلى اليمن فذكره بنحوه وهذا مرسل محمد بن جبير تابعي.
- وورد من حديث أبي ذر، أخرجه أحمد 5/ 166 من طريق شمر بن عطية عن أشياخ له عن أبي ذر مرفوعا.
- وإسناده ضعيف، فيه من لم يسم.
- وكرره أحمد 5/ 177، وفيه عنعنة حبيب بن أبي ثابت، وميمون بن أبي شبيب، وكلاهما يرسل.
- الخلاصة: هو حديث حسن بطرقه وشواهده.
(1) زيد في المخطوط وط «أبو» وهو خطأ، إنما هو يعلى بن عبيد.
(2) في المطبوع «قطعت» .(3/18)
بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ» .
«1202» أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْخَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عامر يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعْمَلُ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ يَعْمَلُ الْحَسَنَاتِ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ عَلَيْهِ دِرْعٌ ضَيِّقَةٌ قَدْ خَنَقَتْهُ ثُمَّ عَمِلَ حَسَنَةً فَانْفَكَّتْ عَنْهُ حَلْقَةً ثُمَّ عَمِلَ أُخْرَى فَانْفَكَّتْ أُخْرَى حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْأَرْضِ» .
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مَعْنَى الْآيَةِ يَدْفَعُونَ الذَّنْبَ بِالتَّوْبَةِ. وَقِيلَ: لَا يُكَافِئُونَ الشَّرَّ بِالشِّرِّ وَلَكِنْ يَدْفَعُونَ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: مَعْنَاهُ إِذَا سُفِهَ عَلَيْهِمْ حَلِمُوا، فَالسَّفَهُ: السَّيِّئَةُ، وَالْحِلْمُ: الْحَسَنَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
رَدُّوا عليهم معروفا ونظيره قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الْفُرْقَانِ: 63] .
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا حُرِمُوا أَعْطَوْا وَإِذَا ظُلِمُوا عَفَوْا وَإِذَا قُطِعُوا وَصَلُوا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ ثَمَانِ خِلَالٍ [1] مُشِيرَةٌ إِلَى ثَمَانِيَةِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ، يَعْنِي الْجَنَّةَ، أَيْ: عَاقِبَتُهُمْ دار الثواب. ثم بيّن فقال:
جَنَّاتُ عَدْنٍ، بَسَاتِينُ إِقَامَةٍ، يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، قِيلَ: مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: مِنْ أَبْوَابِ الْقُصُورِ.
سَلامٌ عَلَيْكُمْ، أَيْ: يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ: يَقُولُونَ سَلَّمَكُمُ اللَّهُ مِنَ الْآفَاتِ الَّتِي [كُنْتُمْ] [2] تَخَافُونَ مِنْهَا، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ فِي مِقْدَارِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا ثَلَاثَ كَرَّاتٍ مَعَهُمُ الْهَدَايَا وَالتُّحَفُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ.
«1203» أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ
__________
1202- حديث حسن. إسناده لين لأنه من رواية ابن المبارك عن ابن لهيعة، وإلّا فابن لهيعة ضعيف، وتابعه يحيى بن أيوب.
ابن لهيعة هو عبد الله، أبو الخير هو مرثد بن عبد الله.
- وهو في «شرح السنة» 4044 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق ابن المبارك، وهو في «زوائد الزهد» 170 عن ابن لهيعة به.
- وأخرجه أحمد 4/ 145 من طريق ابن المبارك به.
- وأخرجه الطبراني 17/ (783) من طريق سعيد بن عفير عن ابن لهيعة به.
- وأخرجه الطبراني 17/ (784) من طريق يحيى بن أيوب عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ به.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 10/ 202 وقال: وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح.
- قلت: يحيى بن أيوب، وإن روى له الشيخان، فقد قال أحمد: سيىء الحفظ، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، لكن يصلح للمتابعة، فالحديث حسن إن شاء الله.
1203- موقوف ضعيف، إسناده ضعيف، فيه أبو الحجاج، وهو مجهول.
- رواه المصنف من طريق ابن المبارك، وهو في «الزهد» 237 «زيادات نعيم» عن بقية بن الوليد به.
- وأخرجه الطبري 20343 من طريق ابن المبارك به.
(1) في المخطوط «خصال» .
(2) زيادة عن المخطوط.(3/19)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
عَنْ بَقِيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ حَدَّثَنِي أَرْطَاةُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ مَشْيَخَةِ الْجُنْدِ يُقَالُ [لَهُ] [1] أَبُو الْحَجَّاجِ يَقُولُ: جَلَسْتُ إِلَى أَبِي أُمَامَةَ فَقَالَ: إِنَّ المؤمن ليكون متكأ على أريكته إذا دخل الْجَنَّةَ وَعِنْدَهُ سِمَاطَانِ مِنْ خَدَمٍ وَعِنْدَ طَرَفِ السِّمَاطَيْنِ بَابٌ مُبَوَّبٌ فيقبل الملك مِنْ مَلَائِكَةِ اللَّهِ يَسْتَأْذِنُ فَيَقُومُ أدنى الْخَدَمِ إِلَى الْبَابِ فَإِذَا هُوَ بِالْمَلَكِ يَسْتَأْذِنُ فَيَقُولُ لِلَّذِي يَلِيهِ [هذا] [2] مَلَكٌ يَسْتَأْذِنُ وَيَقُولُ الَّذِي يَلِيهِ [3] لِلَّذِي يَلِيهِ: مَلَكٌ يَسْتَأْذِنُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ الْمُؤْمِنَ، فَيَقُولُ: ائْذَنُوا لَهُ، فَيَقُولُ أَقْرَبُهُمْ إِلَى الْمُؤْمِنِ: ائْذَنُوا لَهُ، وَيَقُولُ الَّذِي يَلِيهِ لِلَّذِي يَلِيهِ: ائْذَنُوا لَهُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغَ أَقْصَاهُمُ الَّذِي عِنْدَ الْبَابِ، فَيَفْتَحُ لَهُ فَيَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَنْصَرِفُ.
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ، هَذَا فِي الْكُفَّارِ. وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، أَيْ:
يُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَيَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ. وَقِيلَ: يَقْطَعُونَ الرَّحِمَ، وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: يَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي، أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ، يَعْنِي: النَّارَ، وَقِيلَ: سُوءُ الْمُنْقَلَبِ لأن منقلب الناس دورهم.
[سورة الرعد (13) : الآيات 26 الى 28]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ، أَيْ: يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا، يَعْنِي: مُشْرِكِي مَكَّةَ أَشِرُوا وَبَطِرُوا، وَالْفَرَحُ لَذَّةٌ فِي الْقَلْبِ بِنَيْلِ الْمُشْتَهَى، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَرَحَ بِالدُّنْيَا حَرَامٌ. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ أَيْ: قَلِيلٌ ذَاهِبٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ:
كَمَثَلِ السُّكُرُّجَةِ وَالْقَصْعَةِ وَالْقَدَحِ وَالْقِدْرِ يُنْتَفَعُ بِهَا ثُمَّ تَذْهَبُ.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أَيْ: يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ بِالْإِنَابَةِ. وَقِيلَ: يُرْشِدُ إِلَى دِينِهِ من رجع [4] إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ.
الَّذِينَ آمَنُوا، فِي محل نصب بدلا [5] مِنْ قَوْلِهِ: مَنْ أَنابَ، وَتَطْمَئِنُّ، تَسْكُنُ، قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: بِالْقُرْآنِ، وَالسُّكُونُ يَكُونُ بِالْيَقِينِ، وَالِاضْطِرَابُ يَكُونُ بِالشَّكِّ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ، تَسْكُنُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَيَسْتَقِرُّ فِيهَا الْيَقِينُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا فِي الْحَلِفِ، يَقُولُ: إِذَا حَلَفَ الْمُسْلِمُ بِاللَّهِ عَلَى شَيْءٍ تَسْكُنُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الْأَنْفَالِ: 2] ، فَكَيْفَ تَكُونُ الطُّمَأْنِينَةُ وَالْوَجَلُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؟.
قِيلَ: الْوَجَلُ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَعِيدِ وَالْعِقَابِ وَالطُّمَأْنِينَةُ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَعْدِ وَالثَّوَابِ، فَالْقُلُوبُ تَوْجَلُ إِذَا ذَكَرَتْ عَدْلَ [6] اللَّهِ وَشِدَّةَ حِسَابِهِ، وَتَطْمَئِنُّ إِذَا ذكرت فضل الله وكرمه.
[سورة الرعد (13) : الآيات 29 الى 31]
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31)
__________
(1) زيادة عن كتب التخريج.
(2) زيادة عن كتب التخريج.
(3) في المطبوع «بينه» .
(4) في المطبوع «يرجع» .
(5) في المطبوع «النصب بدل» . [.....]
(6) تصحف في المطبوع «عبد» .(3/20)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، ابْتِدَاءٌ، [وقوله]]
طُوبى لَهُمْ خَبَرُهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ طُوبى، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: فَرَحٌ لَهُمْ وَقُرَّةُ عَيْنٍ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: نِعْمَ مَالَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: حُسْنَى لَهُمْ. وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ: هَذِهِ كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ يَقُولُ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ: طُوبَى لَكَ أَيْ أَصَبْتَ خَيْرًا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: خَيْرٌ لَهُمْ وكرامة. قال الْفَرَّاءُ: أَصْلُهُ مِنَ الطَّيِّبِ وَالْوَاوُ فِيهِ لِضَمَّةِ الطَّاءِ وَفِيهِ لُغَتَانِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: طُوبَاكَ وَطُوبَى لَكَ أَيْ لَهُمُ الطَّيِّبُ. وَحُسْنُ مَآبٍ أي: حسن المنقلب.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: طُوبَى اسْمُ الْجَنَّةِ بالحبشية. وقال الرَّبِيعُ: هُوَ الْبُسْتَانُ بِلُغَةِ الْهِنْدِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ وَأَبِي هريرة وأبي الدرداء قال: طُوبَى شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ تُظِلُّ الجنان كلها [من كبرها] [2] . وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: هِيَ شَجَرَةٌ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ أَصْلُهَا فِي دَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي كُلِّ دَارٍ وَغُرْفَةٍ غُصْنٌ مِنْهَا لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ لَوْنًا وَلَا زَهْرَةً إِلَّا وَفِيهَا مِنْهَا إِلَّا السَّوَادَ، وَلَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ تَعَالَى فَاكِهَةً وَلَا ثمرة إلا وفيها منها، ينبع مِنْ أَصْلِهَا عَيْنَانِ الْكَافُورُ وَالسَّلْسَبِيلُ.
وقال مُقَاتِلٌ: كُلُّ وَرَقَةٍ مِنْهَا تُظِلُّ أُمَّةً عَلَيْهَا مَلَكٌ يُسَبِّحُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِأَنْوَاعِ التَّسْبِيحِ.
«1204» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا طُوبَى؟ قال: «شجرة في الجنة ظلها مَسِيرَةُ مِائَةِ سَنَةٍ، ثِيَابُ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَخْرُجُ مِنْ أَكْمَامِهَا» .
«1205» وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ عَنْ أَبِيهِ يَرْفَعُهُ: «طُوبَى شَجَرَةٌ غَرَسَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ، تُنْبِتُ الْحُلِيَّ [3] وَالْحُلَلَ وَإِنَّ أَغْصَانَهَا لَتُرَى مِنْ وَرَاءِ سُورِ الْجَنَّةِ» .
«1206» أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ
__________
1204- أخرجه أحمد 3/ 71 وأبو يعلى 1374 والخطيب في «تاريخه» 4/ 91 من طريقين عن ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ دَرَّاجٍ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري به.
- وأخرجه ابن أبي داود في «البعث» 68 والطبري 20394 من طريق عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجِ بالإسناد السابق، وهذا إسناد ضعيف، لأنه من رواية دراج عن أبي الهيثم.
- وله شواهد موقوفة، لكن لا يحتج بشيء من ذلك، لأن ظاهر الآية لا يدل على أن المراد بذلك شجرة.
1205- ضعيف. أخرجه الطبري 20393 بإسناد ضعيف لضعف فرات بن أبي الفرات، والفقرة الأولى والثانية منه منكرة.
1206- إسناده ضعيف، فيه زياد مولى بني مخزوم، قال عنه ابن معين: لا شيء رواه المصنف من طريق ابن المبارك، وهو في-
(1) زيد في المطبوع وحده.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المخطوط «بالحلي» والمثبت هو الصواب.(3/21)
إِنَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ زِيَادٍ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنه: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ [1] لا يقطعها، اقرؤوا إِنْ شِئْتُمْ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) [الْوَاقِعَةِ: 30] فَبَلَغَ ذَلِكَ كَعْبًا فَقَالَ: صَدَقَ وَالَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ [2] وَالْقُرْآنَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ أَنَّ رَجُلَا رَكِبَ حِقَّةً أَوْ جَذَعَةً ثُمَّ دَارَ بِأَصْلِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ مَا بَلَغَهَا حَتَّى يَسْقُطَ هَرِمًا، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَرَسَهَا بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ، وَإِنَّ أَفْنَانَهَا لِمَنْ وَرَاءِ سُورِ الْجَنَّةِ، مَا فِي الْجَنَّةِ نَهْرٌ إِلَّا وَهُوَ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ.
«1207» وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يُقَالُ لَهَا طُوبَى، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا تفتّقي لعبدي عما شاء فتفتق [3] لَهُ عَنْ فَرَسٍ بِسَرْجِهِ وَلِجَامِهِ وهيئته كما شاء وتفتق [4] لَهُ عَنِ الرَّاحِلَةِ بِرَحْلِهَا وَزِمَامِهَا وَهَيْئَتِهَا كَمَا شَاءَ وَعَنِ الثِّيَابِ.
قوله تعالى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ أي: كَمَا أَرْسَلَنَا الْأَنْبِيَاءَ إِلَى الْأُمَمِ أرسلناك إلى هذه الأمة، وقَدْ خَلَتْ، مَضَتْ، مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا، لِتَقْرَأَ، عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ.
«1208» قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ: الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ نَزَلَتْ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو لَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابَ الصُّلْحِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلي: «اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، قَالُوا: لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا صَاحِبَ الْيَمَامَةِ، يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ، اكْتُبْ كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ.
وَالْمَعْرُوفُ أَنَّ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ وَسَبَبُ نُزُولِهَا:
«1209» أَنَّ أَبَا جَهْلٍ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي الْحِجْرِ يَدْعُو «يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ» فَرَجَعَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ:
إِنَّ مُحَمَّدًا يَدْعُو إِلَهَيْنِ يَدْعُو اللَّهَ وَيَدْعُو إِلَهًا آخَرَ يُسَمَّى الرَّحْمَنَ، ولا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا رَحِمْنَ الْيَمَامَةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110] .
__________
- «الزهد» 267 زيادات نعيم بن حماد عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ به.
- وكلام أبي هريرة صح مرفوعا، فقد أخرجه البخاري 4881 ومسلم 2826 والترمذي 2523 وأحمد 2/ 418 وابن حبان 7411 وأبو نعيم في «صفة الجنة» 403 والبغوي في «شرح السنة» 4268 من طرق من حديث أبي هريرة دون ذكر قول كعب.
- وخبر كعب ورد مرفوعا من حديث ابن عباس أخرجه الواحدي في «الوسيط» 3/ 15- 16 وإسناده ضعيف جدا.
1207- موقوف: إسناده لا بأس به لأجل شهر بن حوشب.
- رواه المصنف من طريق ابن المبارك، وهو في «الزهد» 265 «زيادات نعيم بن حماد» عن معمر به.
- وأخرجه الطبري 20383 والواحدي في «الوسيط» 3/ 16 من طريق معمر به.
1208- ضعيف. أخرجه الطبري 20396 عن قتادة مرسلا و20397 عن ابن جريج عن مجاهد مرسلا. والخبر فيه نكارة بذكر نزول الآية، وقوله «لَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا صَاحِبَ اليمامة» . وأما أصل الحديث ففي الصحيح، وسيأتي.
1209- يأتي في سورة الإسراء عنه آية: 110 إن شاء الله.
(1) كذا في المطبوع و «الزهد» وفي المخطوط «عام» .
(2) زيد في المخطوط وحده «والإنجيل على عيسى» وليست في «الزهد» .
(3) في المطبوع «ففتقت» . [.....]
(4) في المطبوع «وتفتقت» .(3/22)
«1210» وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كُفَّارِ قُرَيْشٍ حِينَ قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ» ، قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قُلْ، لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الرَّحْمَنَ الَّذِي أَنْكَرْتُمْ مَعْرِفَتَهُ، هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، اعْتَمَدْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ، أي: توبتي ومرجعي.
قوله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ، الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ مِنْهُمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ جَلَسُوا خَلْفَ الْكَعْبَةِ وَأَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُمْ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ إِنْ سَرَّكَ أَنْ نَتَّبِعَكَ فَسَيِّرْ جِبَالَ مَكَّةَ بِالْقُرْآنِ فَأَذْهِبْهَا عنا حتى تنفسخ فَإِنَّهَا أَرْضٌ ضَيِّقَةٌ لِمَزَارِعِنَا، وَاجْعَلْ لَنَا فِيهَا عُيُونًا وَأَنْهَارًا لِنَغْرِسَ فِيهَا الْأَشْجَارَ وَنَزْرَعَ، وَنَتَّخِذَ الْبَسَاتِينَ فَلَسْتَ كَمَا زَعَمْتَ بِأَهْوَنَ عَلَى ربك من داوود عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ سَخَّرَ لَهُ الْجِبَالَ تُسَبِّحُ مَعَهُ، أَوْ سَخِّرْ لَنَا الرِّيحَ فَنَرْكَبَهَا إِلَى الشَّامِ لَمِيرَتِنَا وَحَوَائِجِنَا وَنَرْجِعَ فِي يَوْمِنَا فَقَدْ سُخِّرَتِ الرِّيحُ لِسُلَيْمَانَ كَمَا زَعَمْتَ، وَلَسْتَ بِأَهْوَنَ عَلَى رَبِّكَ من سليمان أو أحيي لَنَا جَدَّكَ قُصَيًّا أَوْ مَنْ شِئْتَ مِنْ آبَائِنَا وَمَوْتَانَا لِنَسْأَلَهُ عَنْ أَمْرِكَ أَحَقٌّ مَا تَقُولُ أَمْ بَاطِلٌ، فَإِنَّ عِيسَى كَانَ يحي الْمَوْتَى وَلَسْتَ بِأَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [1] فَأُذْهِبَتْ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ، أَيْ: شُقِّقَتْ فَجُعِلَتْ أَنْهَارًا وَعُيُونًا أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ لَوْ فَقَالَ قَوْمٌ جَوَابُهُ محذوف اكتفاء بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ مُرَادَهُ وَتَقْدِيرُهُ لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ ... سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا
أَرَادَ لَرَدَدْنَاهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ قَالَ: لَوْ فُعِلَ هَذَا بِقُرْآنٍ قَبْلَ قُرْآنِكُمْ لَفُعِلَ بِقُرْآنِكُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ [2] : جَوَابُ لَوْ مُقَدَّمٌ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَوْ سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى لَكَفَرُوا بِالرَّحْمَنِ وَلَمْ يُؤْمِنُوا، لِمَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِنَا فِيهِمْ كَمَا قَالَ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَنْعَامُ: 111] ، ثُمَّ قَالَ: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً، أَيْ: فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنْ شَاءَ فَعَلَ وَإِنْ شاء لم يفعل، أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا.
قال أكثر المفسرون: مَعْنَاهُ أَفَلَمْ يَعْلَمْ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: هي لغة النخع. وقيل: هي لُغَةُ هَوَازِنَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَفَلَمْ يَتَبَيَّنِ الَّذِينَ آمَنُوا، وَأَنْكَرَ الْفَرَّاءُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ أَحَدًا مِنَ الْعَرَبِ يَقُولُ يَئِسْتُ بِمَعْنَى عَلِمْتُ، وَلَكِنْ مَعْنَى الْعِلْمِ فِيهِ مُضْمَرٌ.
وَذَلِكَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سَمِعُوا هَذَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ طَمِعُوا فِي أَنْ يَفْعَلَ اللَّهُ مَا سَأَلُوا فيؤمنوا فنزل: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا يَعْنِي: الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ مِنْ إِيمَانِ هؤلاء، أي ألم [3] ييأسوا عِلْمًا وَكُلُّ مَنْ عَلِمَ شَيْئًا يَئِسَ مِنْ خِلَافِهِ، يَقُولُ: أَلَمْ يُيَئِّسْهُمُ الْعِلْمُ، أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا، مِنْ كُفْرِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الْخَبِيثَةِ قارِعَةٌ أي: نازلة
__________
1210- ذكره المصنف تعليقا، فهذه علة، والضحاك لم يلق ابن عباس فالخبر لا شيء من هذا الوجه، وسيأتي في آخر الإسراء.
(1) انظر «الدر المنثور» 4/ 117- 118 عند هذه الآية.
(2) في المطبوع «الآخرون» .
(3) في المطبوع وط «لم» .(3/23)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
وَدَاهِيَةٌ تَقْرَعُهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ أَحْيَانًا بِالْجَدْبِ وَأَحْيَانًا بِالسَّلْبِ وَأَحْيَانًا بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِالْقَارِعَةِ السَّرَايَا الَّتِي كَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُهُمْ إِلَيْهِمْ، أَوْ تَحُلُّ، يعني:
السرية أو القارعة، قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ.
وَقِيلَ: أَوْ تَحُلُّ أَيْ تَنْزِلُ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ بِنَفْسِكَ قَرِيبًا مِنْ دِيَارِهِمْ، حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ، قِيلَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْفَتْحُ وَالنَّصْرُ وَظُهُورُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِهِ. إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ، وَكَانَ الْكُفَّارُ يَسْأَلُونَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَسْلِيَةً لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[سُورَةَ الرعد (13) : الآيات 32 الى 34]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ، كما استهزؤوا [1] بِكَ، فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا، أَمْهَلْتُهُمْ وَأَطَلْتُ لَهُمُ الْمُدَّةَ، وَمِنْهُ الْمَلَوَانِ: وَهُمَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ عَاقَبْتُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ، فَكَيْفَ كانَ عِقابِ، أَيْ: عِقَابِي لَهُمْ.
أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، أَيْ: حَافِظُهَا وَرَازِقُهَا وَعَالَمٌ بِهَا وَمُجَازِيهَا بِمَا عَمِلَتْ، وَجَوَابُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: كَمَنْ لَيْسَ بِقَائِمٍ بَلْ عَاجِزٌ عَنْ نَفْسِهِ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ بَيِّنُوا أَسْمَاءَهُمْ. وَقِيلَ: صِفُوهُمْ ثُمَّ انْظُرُوا هَلْ هِيَ أَهْلٌ لِأَنْ تُعْبَدَ؟ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ أَيْ: تُخْبِرُونَ اللَّهَ بِما لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ، فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ لِنَفْسِهِ شَرِيكًا وَلَا فِي الْأَرْضِ إِلَهًا غَيْرَهُ، أَمْ بِظاهِرٍ [يَعْنِي: أَمْ تَتَعَلَّقُونَ بِظَاهِرٍ] [2] ، مِنَ الْقَوْلِ، مَسْمُوعٍ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ له. وقيل: بزائل [3] مِنَ الْقَوْلِ قَالَ الشَّاعِرُ:
وَعَيَّرَنِي الْوَاشُونَ أَنِّي أُحِبُّهَا ... وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا
أَيْ: زَائِلٌ، بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ، كَيَدُهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شِرْكُهُمْ وَكَذِبُهُمْ عَلَى اللَّهِ، وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ، أَيْ: صُرِفُوا عَنِ الدِّينِ.
قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَيَعْقُوبُ وَصُدُّوا وَفِي حم المؤمن وَصُدُّوا بِضَمِّ الصَّادِ فِيهِمَا وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الْحَجُّ: 25] ، وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [النحل: 88] . وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ، بِخُذْلَانِهِ إِيَّاهُ، فَما لَهُ مِنْ هادٍ.
لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
، بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ
أَشَدُّ، وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
[أي] [4] مانع يمنعهم من العذاب.
__________
(1) في المخطوط «استهزىء» .
(2) سقط من المخطوط.
(3) في المخطوط «بباطل» .
(4) زيادة عن المخطوط.(3/24)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
[سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 36]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أَيْ: صِفَةُ الْجَنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى [النَّحْلُ: 60] أَيْ: الصِّفَةُ الْعُلْيَا، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، أَيْ: صِفَةُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أَنَّ الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا.
وَقِيلَ: مَثَلُ صِلَةٌ مَجَازُهَا الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. أُكُلُها دائِمٌ أَيْ: لَا يَنْقَطِعُ ثَمَرُهَا وَنَعِيمُهَا، وَظِلُّها، أَيْ: ظِلُّهَا ظَلِيلٌ لَا يَزُولُ وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ حَيْثُ قَالُوا إِنَّ نَعِيمَ الْجَنَّةِ يَفْنَى. تِلْكَ عُقْبَى أَيْ: عَاقِبَةُ الَّذِينَ اتَّقَوْا يَعْنِي: الْجَنَّةَ، وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْنِي: الْقُرْآنَ وَهُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَمِنَ الْأَحْزابِ يَعْنِي: الْكُفَّارَ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: كَانَ ذِكْرُ الرَّحْمَنِ قَلِيلًا فِي الْقُرْآنِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ سَاءَهُمْ قِلَّةُ ذكره في القرآن مع كثر ذِكْرِهِ فِي التَّوْرَاةِ، فَلَمَّا كَرَّرَ اللَّهُ ذِكْرَهُ فِي الْقُرْآنِ فَرِحُوا بِهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ، يَعْنِي:
مُشْرِكِي مَكَّةَ حِينَ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالُوا: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا رحمن اليمامة، يعنون مسليمة الْكَذَّابَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ [الْأَنْبِيَاءُ: 36] وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ [الرَّعْدُ: 30] [1] وَإِنَّمَا قَالَ بَعْضَهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُنْكِرُونَ ذِكْرَ اللَّهِ وَيُنْكِرُونَ ذِكْرَ الرَّحْمَنِ. قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ، أي: مرجعي.
[سورة الرعد (13) : الآيات 37 الى 39]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39)
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا، يَقُولُ كَمَا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ يَا مُحَمَّدُ فَأَنْكَرَهُ الْأَحْزَابُ كَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إليك الْحَكَمَ وَالدِّينَ عَرَبِيًّا، نُسِبَ إِلَى الْعَرَبِ لِأَنَّهُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ فَكَذَّبَ بِهِ الْأَحْزَابُ.
وَقِيلَ: نَظْمُ الْآيَةِ كَمَا أُنْزِلَتِ الْكُتُبُ عَلَى الرُّسُلِ بلغاتهم [2] كذلك [3] أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ حُكْمًا عَرَبِيًّا. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ، فِي الْمِلَّةِ. وقيل: في القبلة، بَعْدَ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ، يَعْنِي: مِنْ نَاصِرٍ وَلَا حَافِظٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ، روي أن اليهود.
__________
(1) تقدم الخبر برقم 1208.
(2) في المخطوط «بلغتهم» .
(3) في المطبوع وط «فكذلك» .(3/25)
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَيْسَتْ لَهُ هِمَّةٌ إِلَّا فِي النِّسَاءِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً، وَمَا جَعَلْنَاهُمْ مَلَائِكَةً لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَلَا يَنْكِحُونَ، وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، هَذَا جَوَابُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ.
ثُمَّ قَالَ: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ، يَقُولُ: لِكُلِّ أَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ كِتَابٌ قَدْ كَتَبَهُ فِيهِ [وَوَقْتٌ يَقَعُ فِيهِ وَقِيلَ لِكُلِّ آجِلٍ أَجَّلَهُ اللَّهُ كِتَابٌ أُثْبِتَ فِيهِ] [1] . وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ أَيْ: لِكُلِّ كِتَابٍ أَجَلٌ وَمُدَّةٌ أَيِ:
الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَقْتٌ يَنْزِلُ فِيهِ.
يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ، قَرَأَ ابن كثير وأبو عمر وَعَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ وَيُثْبِتُ بِالتَّخْفِيفِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْفَرَائِضِ فَيَنْسَخُهُ وَيُبَدِّلُهُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا فَلَا يَنْسَخُهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ إِلَّا الرِّزْقَ وَالْأَجَلَ وَالسَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ.
«1211» وَرَوَيْنَا عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ عَنِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يدخل الملك على النطفة بعد ما تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَشَقِيٌّ أَمْ [2] سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبَانِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟
فَيُكْتَبَانِ، وَيُكْتَبُ عَمَلُهُ وَأَثَرُهُ وأجله ورزقه، ثم تطوى الصحيفة فَلَا يُزَادُ فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ» . وعن عمر وابن مسعود [3] أَنَّهُمَا قَالَا: يَمْحُو السَّعَادَةَ وَالشَّقَاوَةَ أَيْضًا، وَيَمْحُو الرِّزْقَ وَالْأَجَلَ وَيُثْبِتُ ما يشاء.
روي عن عمر أَنَّهُ كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ فَأَثْبِتْنِي فيها وإن كنت كتبتني عَلَيَّ الشَّقَاوَةَ فَامْحُنِي، وَأَثْبِتْنِي فِي أَهْلِ السَّعَادَةِ وَالْمَغْفِرَةِ، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ. وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً فَيَقْطَعُ رَحِمَهُ فَتُرَدُّ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَالرَّجُلَ يَكُونُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمْرِهِ ثَلَاثَةُ أيام فيصل رحمه فيرد [4] إِلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً.
«1212» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [5] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ ثَنَا أَبُو جعفر الرَّيَّانِيُّ ثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنِي اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي زِيَادَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي الدرداء أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْزِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي آخِرِ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللَّيْلِ فَيَنْظُرُ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى مِنْهُنَّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ الَّذِي لَا يَنْظُرُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ» .
وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ إِنَّ الْحَفَظَةَ يَكْتُبُونَ جَمِيعَ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ وَأَقْوَالِهِمْ فَيَمْحُو اللَّهُ مِنْ دِيوَانِ الْحَفَظَةِ مَا لَيْسَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ. مِثْلُ قَوْلِهِ: أَكَلْتُ شَرِبْتُ دَخَلْتُ خَرَجْتُ وَنَحْوِهَا مِنْ كَلَامٍ هُوَ صادق فيه
__________
1211- تقدم في تفسير سورة آل عمران عند آية 6.
1212- إسناده ضعيف لضعف زيادة بن محمد، والمتن منكر.
- وأخرجه الطبري 20502 والبزار 3253 «كشف» من طريق الليث به.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 10/ 154 وقال: وفيه زيادة بن محمد الأنصاري، وهو منكر الحديث.
- قلت: وساقه الذهبي في ترجمة زيادة بأتم منه وقال: فهذه ألفاظ منكرة، لم يأت بها غير زيادة. انظر «الميزان» 2/ 98. [.....]
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «أو» .
(3) في المخطوط «ابن عمر وابن عباس» وليس بشيء، والوارد عن ابن عباس خلافه، انظر «الدر المنثور» 4/ 123- 124.
(4) في المطبوع وط «فتمد» .
(5) زيادة عن المخطوط.(3/26)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
وَيُثْبِتُ مَا فِيهِ ثَوَابٌ وَعِقَابٌ، هَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَالْكَلْبِيِّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَكْتُبُ الْقَوْلَ كُلَّهُ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الْخَمِيسِ طَرَحَ مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ.
وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَعُودُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَيَمُوتُ عَلَى ضَلَالَةٍ فَهُوَ الَّذِي يَمْحُو وَالَّذِي يُثْبِتُ الرَّجُلُ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللَّهِ فَيَمُوتُ وَهُوَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ الَّذِي يثبت.
وقال الحسن: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ أَيْ مَنْ جَاءَ أَجَلُهُ يَذْهَبُ بِهِ وَيُثْبِتُ مَنْ لَمْ يَجِئْ أجله إلى يوم أَجَلِهِ.
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قال: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ مِنْ ذُنُوبِ الْعِبَادِ فَيَغْفِرُهَا وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فلا يغفرها.
وقال عكرمة: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ مِنَ الذُّنُوبِ بِالتَّوْبَةِ وَيُثْبِتُ بَدَلَ الذُّنُوبِ حَسَنَاتٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [الْفُرْقَانُ: 70] . وقال السدي: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ يَعْنِي الْقَمَرَ وَيُثْبِتُ يَعْنِي الشَّمْسَ بَيَانُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [الْإِسْرَاءُ: 12] وَقَالَ الرَّبِيعُ: هَذَا فِي الْأَرْوَاحِ يَقْبِضُهَا اللَّهُ عِنْدَ النَّوْمِ فَمَنْ أَرَادَ مَوْتَهُ مَحَاهُ فَأَمْسَكَهُ وَمَنْ أَرَادَ بَقَاءَهُ أَثْبَتَهُ وَرَدَّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: 42] الآية. وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ، أَيْ: أَصْلُ الْكِتَابِ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذِي لَا يُبَدَّلُ وَلَا يُغَيَّرُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُمَا كِتَابَانِ: كِتَابٌ سِوَى أُمِّ الْكِتَابِ يَمْحُو مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ، وَأُمُّ الْكِتَابِ الَّذِي لَا يُغَيَّرُ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَعَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى لَوْحًا مَحْفُوظًا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ لَهَا دَفَّتَانِ مِنْ يَاقُوتٍ لِلَّهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ فيه ثلاثمائة وستون لحظة يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) .
وَسَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا عَنْ أُمِّ الْكِتَابِ فَقَالَ: عِلْمُ اللَّهِ مَا هُوَ خالق وما خلقه عاملون.
[سورة الرعد (13) : الآيات 40 الى 43]
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)
وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ، مِنَ الْعَذَابِ قَبْلَ وَفَاتِكَ، أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ، قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ، لَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا ذَلِكَ، وَعَلَيْنَا الْحِسابُ، الْجَزَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَوْا يَعْنِي: أَهْلَ مَكَّةَ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَاتِ، أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها، أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ فَتْحُ دِيَارِ [1] الشِّرْكِ، فَإِنَّ مَا زَادَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ نَقَصَ مِنْ دِيَارِ الشِّرْكِ، يَقُولُ: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرض [نقصدها] [2] نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا» فَنَفْتَحُهَا لِمُحَمَّدٍ أرضا
__________
(1) هذه الكلمة تكررت في المخطوط «دار» .
(2) سقط من المطبوع.(3/27)
بعد أرض حوالي أرضهم [وبلادهم] [1] ، أَفَلَا يَعْتَبِرُونَ؟ هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ.
وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ خَرَابُ الْأَرْضِ مَعْنَاهُ أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ فَنُخَرِّبُهَا وَنُهْلِكُ أَهْلَهَا أَفَلَا يَخَافُونَ أَنْ نَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ؟
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ خَرَابُ الْأَرْضِ وَقَبْضُ [2] أَهْلِهَا.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَبْضُ النَّاسِ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ مِثْلُهُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ وَجَمَاعَةٌ: نُقْصَانُهَا مَوْتُ الْعُلَمَاءِ، وَذَهَابُ الْفُقَهَاءِ.
121»
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بن إسماعيل ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ حدثنا مالك عَنْ هُشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ وَلَكِنْ يقبض العلم يقبض الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» .
وَقَالَ الْحَسَنُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَوْتُ الْعَالِمِ ثُلْمَةٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَسُدُّهَا شَيْءٌ مَا اخْتَلَفَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ.
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ قَبْلَ أَنْ يُقْبَضَ وَقَبْضُهُ ذَهَابُ أَهْلِهِ.
وَقَالَ عَلِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّمَا مَثَلُ الْفُقَهَاءِ كَمَثَلِ الْأَكُفِّ إِذَا قُطِعَتْ كَفٌّ لَمْ تَعُدْ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا بَقِيَ الْأَوَّلُ حَتَّى يَتَعَلَّمَ الْآخِرُ، فَإِذَا هَلَكَ الْأَوَّلُ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْآخِرُ هَلَكَ النَّاسُ.
وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: مَا عَلَامَةُ هَلَاكِ النَّاسِ؟ قَالَ: هَلَاكُ عُلَمَائِهِمْ. وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلَا نَاقِضَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ.
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يَعْنِي: مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَالْمَكْرُ: إِيصَالُ الْمَكْرُوهِ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ، فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً، أَيْ: عِنْدَ اللَّهِ جَزَاءُ مَكْرِهِمْ.
وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ مَكْرِهِمْ جَمِيعًا بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ وَإِلَيْهِ النَّفْعُ وَالضُّرُّ، [فَلَا يضر أَحَدٍ أَحَدًا إِلَّا بِإِذْنِهِ] [3] ، يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ.
قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَأَبُو عَمْرٍو «الْكَافِرُ» عَلَى التَّوْحِيدِ وَقَرَأَ الآخرون «الكافر» على الجمع.
__________
1213- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم، أبو أويس هو عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، هشام بن عروة بن الزبير.
- وهو في «شرح السنة» 147 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 100 عن إسماعيل بن أبي أويس به.
- وأخرجه مسلم 2673 والترمذي 2652 وابن ماجه 52 وأحمد 2/ 162 و190 وابن حبان 4571 من طرق عن هشام بن عروة به.
- وأخرجه البخاري 7307 ومسلم 2673 والطيالسي 2292 وأحمد 2/ 203 من طرق عن عروة به.
- وأخرجه مسلم 2673 ح 13 من طريق عمر بن الحكم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو به.
تنبيه: صحة الحديث لا يعني صحة ما ذهب إليه المصنف من تفسير الآية، فإن الآية وسياقها لا يساعد ما ذهب إليه المصنف، فإن الآية تخاطب كفار قريش آنذاك، وأين العلماء حينئذ؟!!.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «بنقص» .
(3) العبارة في المخطوط «فلا يضر مكر أحد إلّا بإذن الله» .(3/28)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ أَيْ: عَاقِبَةُ الدَّارِ الْآخِرَةِ حِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ وَيَدْخُلُ الْمُؤْمِنُونَ الْجَنَّةَ.
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا [أي لست رسولا إلينا] [1] قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، إِنِّي رَسُولُهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ، يُرِيدُ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ يَشْهَدُونَ أَيْضًا عَلَى ذَلِكَ.
قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ. وَأَنْكَرَ الشَّعْبِيُّ هَذَا وَقَالَ: السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ [أَسْلَمَ] [2] بِالْمَدِينَةِ.
وَقَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ أَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟ فَقَالَ:
وَكَيْفَ يَكُونُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ؟ وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَمَنْ عِنْدَهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالدَّالِ [أَيْ: مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَنْ عِنْدَهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَالدَّالِ] [3] عُلِمَ الْكِتَابُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ، دَلِيلُ هذه القراءة: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الْكَهْفِ: 65] وَقَوْلُهُ: الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) [الرَّحْمَنِ: 2] .
تفسير سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ
مَكِّيَّةٌ وَهِيَ إِحْدَى وَخَمْسُونَ آيَةً إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً [إبراهيم: 28] إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إبراهيم: 30]
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2)
الر كِتابٌ أَيْ: هَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ يَعْنِي الْقُرْآنَ، لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أَيْ: لِتَدْعُوَهُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الضَّلَالَةِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، بِأَمْرِ رَبِّهِمْ.
وَقِيلَ: بِعِلْمِ رَبِّهِمْ، إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ أي: إلى دينه، والعزيز هو الغالب والحميد هو المستحق للحمد [4] .
اللَّهِ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ «اللَّهُ» بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وخبره فيما بعد.
__________
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) سقط من المخطوط.
(3) سقط من المخطوط. [.....]
(4) في المخطوط «الحمد» .(3/29)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْخَفْضِ نَعْتًا لِلْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، وَكَانَ يَعْقُوبُ إِذَا وَصَلَ خَفَضَ وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو:
الْخَفْضُ على التقديم والتأخير تقديره [1] إِلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 3 الى 6]
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ، يَخْتَارُونَ، الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ: يَمْنَعُونَ النَّاسَ عَنْ قَبُولِ دِينِ اللَّهِ، وَيَبْغُونَها عِوَجاً [أَيْ] [2] يَطْلُبُونَهَا زَيْغًا وَمَيْلًا، يُرِيدُ يَطْلُبُونَ سَبِيلَ اللَّهِ جَائِرِينَ عَنِ الْقَصْدِ.
وَقِيلَ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الدنيا، ومعناه يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا عَلَى طَرِيقِ الْمَيْلِ عن الحق، أي: بجهة الْحَرَامِ.
أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ، بلغتهم ليفهموا عنه [ما يلقيه إليهم] [3] فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ هَذَا وَقَدْ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ؟ قِيلَ: بُعِثَ مِنَ [4] الْعَرَبِ بِلِسَانِهِمْ وَالنَّاسُ تَبَعٌ لَهُمْ ثُمَّ بَثَّ [5] الرُّسُلُ إِلَى الْأَطْرَافِ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُتَرْجِمُونَ لَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ أَيْ: مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ بِالدَّعْوَةِ، وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: بِنِعَمِ اللَّهِ.
وقال مقاتل: بوقائع الله [كما] [6] فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. يُقَالُ فُلَانٌ عَالِمٌ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ أَيْ بِوَقَائِعِهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِمَا كَانَ فِي أَيَّامِ اللَّهِ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْمِحْنَةِ فَاجْتَزَأَ بِذِكْرِ الْأَيَّامِ عَنْهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ مَعْلُومَةً عِنْدَهُمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، الصبار: الكثير الصبر، والشكور: الْكَثِيرُ الشُّكْرِ، وَأَرَادَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ لِأَنَّ الصَّبْرَ وَالشُّكْرَ مِنْ خِصَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعِلَّةُ [7] الْجَالِبَةُ لِهَذِهِ [8] الْوَاوِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَهُمْ أَنَّ آلَ فِرْعَوْنَ كَانُوا يُعَذِّبُونَهُمْ بِأَنْوَاعٍ الْعَذَابِ غَيْرِ التَّذْبِيحِ، وَبِالتَّذْبِيحِ، وَحَيْثُ طرح الواو في يذبحون ويقتلون أراد تفسير
__________
(1) في المخطوط «مجازه» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المخطوط «إلى» .
(5) في المخطوط «بعث» .
(6) زيادة عن المخطوط.
(7) في المطبوع «لعله» .
(8) في المطبوع «لهذا» .(3/30)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
الْعَذَابِ الَّذِي كَانُوا يَسُومُونَهُمْ، وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ، يَتْرُكُوهُنَّ أَحْيَاءً وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 7 الى 10]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ، أَيْ: أَعْلَمَ، يُقَالُ: أَذَّنَ وَتَأَذَّنَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، مِثْلُ أَوْعَدَ وَتَوَعَّدَ، لَئِنْ شَكَرْتُمْ نِعْمَتِي فَآمَنْتُمْ وَأَطَعْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ فِي النِّعْمَةِ.
وَقِيلَ: الشُّكْرُ قَيْدُ الْمَوْجُودِ وَصَيْدُ الْمَفْقُودِ.
وَقِيلَ: لَئِنْ شَكَرْتُمْ بِالطَّاعَةِ لَأَزِيدَنَّكُمْ فِي الثَّوَابِ. وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ، نِعْمَتِي فَجَحَدْتُمُوهَا وَلَمْ تَشْكُرُوهَا، إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ.
وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) ، أَيْ: غَنِيٌّ عَنْ خَلْقِهِ حَمِيدٌ مَحْمُودٌ فِي أَفْعَالِهِ لِأَنَّهُ فيها متفضل و [1] عادل.
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ، خَبَرُ الَّذِينَ، مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ، يَعْنِي: مَنْ كَانَ بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ وعاد وثمود.
رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ [قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ] [2] : كَذَبَ النَّسَّابُونَ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ: بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ عَدْنَانَ ثَلَاثُونَ قَرْنًا لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى.
وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يَكْرَهُ أَنْ يَنْسِبَ الْإِنْسَانُ نفسه أبا أَبًا إِلَى آدَمَ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أُولَئِكَ الْآبَاءَ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بِالدَّلَالَاتِ الْوَاضِحَاتِ، فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: عَضُّوا عَلَى أَيْدِيهِمْ غَيْظًا كَمَا قَالَ: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [آلِ عِمْرَانَ: 119] . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا سَمِعُوا كِتَابَ اللَّهِ عَجِبُوا وَرَجَعُوا بِأَيْدِيهِمْ إِلَى أَفْوَاهِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَرَدُّوا مَا جاؤوا بِهِ، يُقَالُ: رَدَدْتُ قَوْلَ فُلَانٍ فِي فِيهِ أَيْ كَذَّبْتُهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي أَنَّ الْأُمَمَ رَدُّوا أَيْدِيَهُمْ [3] فِي أَفْوَاهِ أَنْفُسِهِمْ أَيْ وَضَعُوا الْأَيْدِيَ عَلَى الْأَفْوَاهِ إِشَارَةً إِلَى الرُّسُلِ أَنِ اسْكُتُوا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ عَلَى أَفْوَاهِ الرسل يسكتونهم بذلك. وقيل: إن الْأَيْدِي بِمَعْنَى النِّعَمِ مَعْنَاهُ: رَدُّوا مَا لَوْ قَبِلُوا كَانَتْ أَيَادِيَ وَنِعَمًا فِي أَفْوَاهِهِمْ أَيْ: بِأَفْوَاهِهِمْ يَعْنِي بِأَلْسِنَتِهِمْ. وَقالُوا يَعْنِي الْأُمَمَ لِلرُّسُلِ، إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ، مُوجِبٍ لِلرِّيبَةِ موقع للتهمة.
__________
(1) في المخطوط «أو» .
(2) العبارة في المطبوع وحده «قال بعد ما قرأ هذه الآية» .
(3) زيد في المطبوع «في أفواههم أي» .(3/31)
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ، هَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى نَفْيِ مَا اعْتَقَدُوهُ، فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، خَالِقُهُمَا، يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ، أي: ذنوبكم ومِنْ صِلَةٌ، وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، إِلَى حِينِ اسْتِيفَاءِ آجَالِكُمْ فَلَا يُعَاجِلُكُمْ بِالْعَذَابِ، قالُوا، لِلرُّسُلِ، إِنْ أَنْتُمْ، مَا أَنْتُمْ، إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا، في الصورة والجسم وَلَسْتُمْ مَلَائِكَةً وَإِنَّمَا، تُرِيدُونَ، بِقَوْلِكُمْ، أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ، حُجَّةٍ بينة على صحة دعواكم.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 11 الى 13]
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى مَا آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، بِالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.
وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ عَرَفْنَا أَنْ لا ينالنا شيء [1] إِلَّا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا، بَيَّنَ لَنَا الرُّشْدَ وَبَصَّرَنَا طَرِيقَ النَّجَاةِ. وَلَنَصْبِرَنَّ، اللَّامُ لَامُ الْقَسَمِ مَجَازُهُ [2] : وَاللَّهِ لِنَصْبِرَنَّ، عَلى مَا آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ.
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا، يَعْنُونَ إِلَّا أَنْ تَرْجِعُوا أَوْ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِنَا، فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 14 الى 18]
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أَيْ: [مِنْ] [3] بَعْدِ هَلَاكِهِمْ، ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي أي: خاف قِيَامَهُ بَيْنَ يَدَيَّ كَمَا قَالَ: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (64) [الرَّحْمَنِ: 46] ، فَأَضَافَ قِيَامَ الْعَبْدِ إِلَى نَفْسِهِ.
كَمَا تَقُولُ: نَدِمْتُ عَلَى ضَرْبِكَ أَيْ عَلَى ضَرْبِي إِيَّاكَ، وَخافَ وَعِيدِ أي عقابي.
قوله: وَاسْتَفْتَحُوا أَيِ: اسْتَنْصَرُوا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْأُمَمَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلُ صَادِقِينَ فَعَذِّبْنَا، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] .
__________
(1) في المطبوع وط «لا ننال شيئا» .
(2) في المطبوع «مجازا» . [.....]
(3) زيادة عن المخطوط.(3/32)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: وَاسْتَفْتَحُوا يَعْنِي الرُّسُلَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا يَئِسُوا مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمُ اسْتَنْصَرُوا اللَّهَ وَدَعَوْا عَلَى قَوْمِهِمْ بِالْعَذَابِ، كَمَا قال نُوحٌ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نُوحٌ: 26] وقال موسى: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ [يُونُسَ: 88] ، الْآيَةَ. وَخابَ، وخسر. وَقِيلَ:
هَلَكَ، كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ وَالْجَبَّارُ: الَّذِي لَا يَرَى فَوْقَهُ أَحَدًا. وَالْجَبْرِيَّةُ: طَلَبُ الْعُلُوِّ بِمَا لَا غَايَةَ وَرَاءَهُ. وَهَذَا الْوَصْفُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقِيلَ: الْجَبَّارُ: الَّذِي يُجْبِرُ الْخَلْقَ عَلَى مُرَادِهِ، وَالْعَنِيدُ: الْمُعَانِدُ للحق ومجانبه. قال مجاهد، وعن ابن عباس: هُوَ الْمُعْرِضُ عَنِ الْحَقِّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الْمُتَكَبِّرُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: الْعَنِيدُ: الَّذِي أَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أَيْ: أَمَامَهُ [1] كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ [الْكَهْفِ: 79] أَيْ أَمَامَهُمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: هُوَ كَمَا يُقَالُ هَذَا الْأَمْرُ مِنْ وَرَائِكَ يُرِيدُ أَنَّهُ سَيَأْتِيكَ، وَأَنَا مِنْ وَرَاءِ فُلَانٍ يَعْنِي أَصِلُ إِلَيْهِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ أَيْ بَعْدَهُ، وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ أَيْ: مِنْ مَاءٍ هُوَ صَدِيدٌ وَهُوَ مَا يَسِيلُ مِنْ أَبْدَانِ الْكُفَّارِ مِنَ الْقَيْحِ وَالدَّمِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: مَا يَسِيلُ مِنْ فُرُوجِ الزناة يسقاه الكافر.
يَتَجَرَّعُهُ أَيْ: يَتَحَسَّاهُ وَيَشْرَبُهُ لَا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ جُرْعَةً جُرْعَةً لِمَرَارَتِهِ وَحَرَارَتِهِ، وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ، ويكاد صِلَةٌ أَيْ لَا يُسِيغُهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَكَدْ يَراها [النُّورِ: 40] أَيْ: لَمْ يَرَهَا، قَالَ ابْنُ عباس: لَا يُجِيزُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَكَادُ لَا يُسِيغُهُ وَيُسِيغُهُ فَيَغْلِي فِي جَوْفِهِ.
«1214» أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو عن عبيد [2] اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ، قَالَ:
__________
1214- لا بأس به بشواهده. إسناده ضعيف لجهالة عبيد الله بن بسر لكن لم ينفرد به.
- وهو في «شرح السنة» 4301 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق ابن المبارك، وهو في «الزهد» 3140 «زيادات» عن صفوان بن عمرو به.
- وأخرجه الترمذي 2583 والنسائي في «التفسير» 283 من طريق سويد بن نصر به.
- وأخرجه أحمد 5/ 265 والحاكم 1/ 351 والطبري 20632 والبيهقي في «البعث» 602 من طرق عن ابن المبارك به وصححه الحاكم على شرط مسلم! ووافقه الذهبي؟! وقال الترمذي هذا حديث غريب، وهكذا قال البخاري عن عبيد الله بن بسر، ولا نعرف عبيد الله بن بسر إلّا في هذا الحديث.
- وله شاهد من حديث أبي سعيد، أخرجه أحمد 3/ 70 وابن حبان 7473 وإسناده ضعيف، لأنه من رواية دراج عن أبي الهيثم.
- وله شاهد من حديث أبي هريرة، أخرجه البيهقي في «البعث» 579.
- وفيه دراج لكن رواه عن غير أبي الهيثم، فالإسناد لا بأس به.
- الخلاصة: هذا الحديث بشواهده يصير حسنا أو قريبا من الحسن والآية تشهد لبعضه، وهناك آيات تشهد لبعضه الآخر، والحديث في الترهيب، ومذهب ابن المبارك وأحمد وغيرهما التساهل في هذا الباب، والله أعلم.
(1) زيد في المخطوط «جهنم» .
(2) في المطبوع «عبد» .(3/33)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
«يقرب إلى فيه فيكرهه فَإِذَا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ فَإِذَا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعَاءَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ» ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [طه: 74] ، وَيَقُولُ: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف: 29] .
وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ، يعني: يجدهم [1] الْمَوْتِ وَأَلَمَهُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ مِنْ أَعْضَائِهِ.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: حَتَّى مِنْ تَحْتِ كُلِّ شَعْرَةٍ مِنْ جَسَدِهِ.
وَقِيلَ: يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ قُدَّامِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، وَما هُوَ بِمَيِّتٍ، فَيَسْتَرِيحُ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ تُعَلَّقُ نفسه عند حنجرته ولا تَخْرُجُ مِنْ فِيهِ فَيَمُوتُ وَلَا تَرْجِعُ إِلَى مَكَانِهَا مِنْ جَوْفِهِ فتنفعه الحياة، نظيره [2] لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [محمد: 15] ، وَمِنْ وَرائِهِ، أَمَامَهُ، عَذابٌ غَلِيظٌ، شَدِيدٌ.
وَقِيلَ: الْعَذَابُ الْغَلِيظُ الْخُلُودُ في النار. مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ يعني: مثل أَعْمَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [الزُّمَرِ: 60] ، أَيْ: تَرَى وُجُوهَ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ مُسْوَدَّةً، كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ، وَصَفَ الْيَوْمَ بِالْعُصُوفِ، وَالْعُصُوفُ مِنْ صِفَةِ الرِّيحِ لِأَنَّ الرِّيحَ تكون فيه [3] ، كَمَا يُقَالُ: يَوْمٌ حَارٌّ وَيَوْمٌ بَارِدٌ لِأَنَّ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ فِيهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فِي يَوْمٍ عَاصِفِ الرِّيحِ فَحَذَفَ الرِّيحَ لِأَنَّهَا قَدْ ذُكِرَتْ مِنْ قَبْلُ، وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِأَعْمَالِ الْكُفَّارِ يُرِيدُ أَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِأَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ أَشْرَكُوا فِيهَا غَيْرَ اللَّهِ كَالرَّمَادِ الَّذِي ذَرَتْهُ الرِّيحُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَقْدِرُونَ، يَعْنِي: الْكُفَّارَ مِمَّا كَسَبُوا، فِي الدُّنْيَا، عَلى شَيْءٍ، فِي الْآخِرَةِ، ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 22]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَفِي سُورَةِ النُّورِ «خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ» مُضَافًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ «خَلَقَ» عَلَى الْمَاضِي «وَالْأَرْضَ» كل بالنصب، وبِالْحَقِّ أَيْ: لَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلًا وَإِنَّمَا خلقهم لِأَمْرٍ عَظِيمٍ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ، سِوَاكُمْ أَطْوَعَ لِلَّهِ مِنْكُمْ.
وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) ، مَنِيعٍ شَدِيدٍ، يَعْنِي أَنَّ الْأَشْيَاءَ تُسَهَّلُ فِي الْقُدْرَةِ [و] [4] لا يصعب على الله شيء وإن جلّ وعظم.
__________
(1) في المطبوع «بنفسه» .
(2) في المطبوع «ونظيرها» .
(3) في المخطوط «يكون فيها» .
(4) زيادة عن المخطوط.(3/34)
قوله تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً أَيْ: خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَى اللَّهِ وَظَهَرُوا جَمِيعًا، فَقالَ الضُّعَفاءُ، يَعْنِي الْأَتْبَاعَ، لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، أَيْ: تَكَبَّرُوا عَلَى النَّاسِ وَهُمُ الْقَادَةُ وَالرُّؤَسَاءُ، إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً جَمْعُ تَابِعٍ مِثْلُ حَرَسٍ وَحَارِسٍ، فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ، دَافِعُونَ، عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا، يَعْنِي القادة للمتبوعين، لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ، أَيْ: لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَدَعَوْنَاكُمْ إِلَى الْهُدَى، فَلَمَّا أَضَلَّنَا دَعَوْنَاكُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ، سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ، مَهْرَبٍ وَلَا مَنْجَاةٍ [1] .
قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُونَ فِي النَّارِ تَعَالَوْا نَجْزَعُ فَيَجْزَعُونَ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ فَلَا يَنْفَعُهُمُ الْجَزَعُ، ثُمَّ يَقُولُونَ:
تَعَالَوْا نَصْبِرُ فيصبرون خمسمائة عام فلا بنفعهم الصبر، فَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ النَّارِ استغاثوا [2] بالخزنة، كما قال تَعَالَى: وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) [غَافِرٍ: 49] ، فردت الخزنة عليهم:
أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى [غافر: 50] ، فردت الخزنة عليهم [قَالُوا] [3] : فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غَافِرٍ: 50] ، فَلَمَّا يَئِسُوا مِمَّا عِنْدَ الْخَزَنَةِ نَادَوْا يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزُّخْرُفِ: 77] سَأَلُوا الْمَوْتَ فَلَا يُجِيبُهُمْ ثمانين سنة والسنة ثلاثمائة وستون يَوْمًا وَالْيَوْمُ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ لَحَظَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الثمانين إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف: 77] ، فلما أيسوا مِمَّا قَبْلَهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْبَلَاءِ مَا تَرَوْنَ فَهَلُمُّوا فَلْنَصْبِرْ فَلَعَلَّ الصَّبْرَ يَنْفَعُنَا كَمَا صَبَرَ أَهْلُ الدُّنْيَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ فَنَفَعَهُمْ، فَأَجْمَعُوا عَلَى الصَّبْرِ فَطَالَ صبرهم ثم جزعوا فطال جزعهم فَنَادَوْا سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ أي: من منجاة. قَالَ فَقَامَ إِبْلِيسُ عِنْدَ ذَلِكَ فخطبهم.
وذلك قوله تعالى: وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ الْآيَةَ، فَلَمَّا سَمِعُوا مَقَالَتَهُ مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ فَنُودُوا لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إلى الإيمان فتكفرون، قال فَنَادَوُا الثَّانِيَةَ فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة: 12] فَرَدَّ عَلَيْهِمْ: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة: 13] الآيات، فَنَادَوُا الثَّالِثَةَ: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ [إِبْرَاهِيمَ: 44] ، فَرَدَّ عَلَيْهِمْ: أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ [إبراهيم: 44] الآيات، ثُمَّ نَادَوُا الرَّابِعَةَ:
رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر: 37] فَرَدَّ عَلَيْهِمْ: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر: 37] ، الآية قال: ثم مكث عَنْهُمْ [4] مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نَادَاهُمْ: أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) [المؤمنون: 105] ، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ قَالُوا: الْآنَ يَرْحَمُنَا، فَقَالُوا عِنْدَ ذَلِكَ: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) [المؤمنون: 106- 107] ، قال [لهم] [5] عند ذلك: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) [الْمُؤْمِنُونَ: 108] فَانْقَطَعَ عِنْدَ ذَلِكَ الرَّجَاءُ وَالدُّعَاءُ عَنْهُمْ، فأقبل بعضهم على بعض ينفخ بَعْضُهُمْ فِي وُجُوهِ بَعْضٍ وَأُطْبِقَتْ عليهم النار.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالَ الشَّيْطانُ، يَعْنِي: إِبْلِيسَ، لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ، أَيْ: فُرِغَ مِنْهُ فَأُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الجنة وأهل النار النار، قال مُقَاتِلٌ: يُوضَعُ لَهُ مِنْبَرٌ فِي النَّارِ فَيَرْقَاهُ فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ الْكَفَّارُ بالأئمة فيقول لهم،
__________
(1) في المطبوع «ولا منجا» .
(2) في المطبوع «يستغيثون» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) في المطبوع «فمكث عليهم» .
(5) زيادة عن المخطوط.(3/35)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، فَوَفَّى لَكُمْ بِهِ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ.
وَقِيلَ: يَقُولُ لَهُمْ قُلْتُ لَكُمْ لَا بَعْثَ وَلَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ. وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ، وِلَايَةٍ.
وَقِيلَ: لَمْ آتِكُمْ بِحُجَّةٍ فِيمَا دَعَوْتُكُمْ إِلَيْهِ، إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ، هَذَا اسْتِثْنَاءٌ منقطع معناه: ولكن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، بِإِجَابَتِي وَمُتَابَعَتِي مِنْ غَيْرِ سُلْطَانٍ وَلَا بُرْهَانٍ، مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ، بِمُغِيثِكُمْ، وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ، بِمُغِيثِيَّ.
قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ بِمُصْرِخِيَّ بكسر الياء، و [قرأ] [1] الآخرون بِالنَّصْبِ لِأَجْلِ التَّضْعِيفِ، وَمَنْ كَسَرَ فَلِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ حُرِّكَتْ إِلَى الْكَسْرِ لِأَنَّ الْيَاءَ أُخْتُ الْكَسْرَةِ، وَأَهْلُ النَّحْوِ لَمْ يَرْضَوْهُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لُغَةُ بَنِي يَرْبُوعٍ. وَالْأَصْلُ «بِمُصْرِخِينِيَّ» فَذَهَبَتِ النُّونُ لِأَجْلِ الْإِضَافَةِ وَأُدْغِمَتْ يَاءُ الْجَمَاعَةِ فِي يَاءِ الْإِضَافَةِ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ أَيْ: كَفَرْتُ بِجَعْلِكُمْ إِيَّايَ شَرِيكًا فِي عِبَادَتِهِ وَتَبَرَّأْتُ مِنْ ذَلِكَ، إِنَّ الظَّالِمِينَ، الْكَافِرِينَ، لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
«1215» أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَارِثُ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ رِشْدِينِ [2] بْنِ سَعْدٍ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ عَنْ دُخَيْنٍ [3] الْحَجَرِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ ذَكَرَ الْحَدِيثَ ثُمَّ قَالَ: «يَقُولُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكُمُ النَّبِيُّ الْأُمِّيُّ فَيَأْتُونِي فَيَأْذَنُ اللَّهُ لِي أَنْ أَقُومَ فَيَثُورُ مَجْلِسِي [مِنْ] [4] أَطْيَبِ رِيحٍ شَمَّهَا أَحَدٌ حَتَّى آتِي رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فَيُشَفِّعَنِي وَيَجْعَلَ لِي نُورًا من شعر رأسي إلى ظهر قَدَمِي، ثُمَّ يَقُولُ الْكُفَّارُ: قَدْ وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ [فَمَنْ يَشْفَعُ لَنَا فَيَقُولُونَ مَا هُوَ غَيْرُ إِبْلِيسَ هُوَ الَّذِي أَضَلَّنَا فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ لَهُ قَدْ وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ] [5] فَقُمْ أَنْتَ فَاشْفَعْ لَنَا فَإِنَّكَ أَنْتَ أَضْلَلْتَنَا فَيَقُومُ فَيَثُورُ مِنْ مَجْلِسِهِ أَنْتَنُ رِيحٍ شَمَّهَا أَحَدٌ، ثُمَّ تُعَظَّمُ جَهَنَّمُ وَيَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ الآية» .
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 23 الى 27]
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)
__________
1215- ضعيف، إسناده ضعيف جدا، فيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف منكر الحديث، وشيخه عبد الرحمن ضعيف، دخين هو ابن عامر.
- رواه المصنف من طريق ابن المبارك، وهو في «الزهد» 374 «زيادات» عن رشدين بن سعد بهذا الإسناد. وقد توبع رشدين فانحصرت العلة في ابن أنعم، فقد أخرجه الطبري 20646 من طريق سويد عن ابن المبارك به.
- وأخرجه الطبراني في «الكبير» 7/ 320- 321 من طريق عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ عَنْ دخين به.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 10/ 376 وقال: وفيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وهو ضعيف. [.....]
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) تصحف في المطبوع «رشيد» .
(3) تصحف في المخطوط «دجين» .
(4) وقع لفظ «من» في المطبوع قبل لفظ «مجلسي» .
(5) سقط من المطبوع.(3/36)
قوله تعالى: وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) ، يُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَتُسَلِّمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمُحَيِّي بِالسَّلَامِ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وجلّ.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا، أَلَمْ تَعْلَمْ، وَالْمَثَلُ قَوْلٌ سَائِرٌ لِتَشْبِيهِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ.
كَلِمَةً طَيِّبَةً، هِيَ قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، وَهِيَ النَّخْلَةُ يريد كشجرة طيبة الثمرة.
وقال أَبُو ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، أَصْلُها ثابِتٌ، فِي الْأَرْضِ، وَفَرْعُها، أَعْلَاهَا، فِي السَّماءِ، كَذَلِكَ أَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ رَاسِخٌ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالتَّصْدِيقِ فَإِذَا تَكَلَّمَ بِهَا عَرَجَتْ فَلَا تُحْجَبُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فَاطِرٍ: 10] .
تُؤْتِي أُكُلَها، تُعْطِي [1] ثَمَرَهَا، كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها، وَالْحِينُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْوَقْتُ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ هَاهُنَا فَقَالَ مُجَاهِدٌ وعكرمة: الحين هاهنا سَنَةٌ كَامِلَةٌ لِأَنَّ النَّخْلَةَ تُثْمِرُ كُلَّ سَنَةٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ إِطْلَاعِهَا إِلَى صِرَامِهَا. وَرَوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَقِيلَ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ ظُهُورِهَا إِلَى إِدْرَاكِهَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: شَهْرَانِ مِنْ حِينِ تُؤْكَلُ إِلَى الصِّرَامِ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: كُلَّ حِينٍ أَيْ كُلَّ غَدْوَةٍ وَعَشِيَّةٍ لِأَنَّ ثَمَرَ النَّخْلِ [2] يُؤْكَلُ أبدا ليلا ونهارا وصيفا وَشِتَاءً، إِمَّا تَمْرًا أَوْ رُطَبًا أَوْ بُسْرًا، كَذَلِكَ عَمَلُ الْمُؤْمِنِ يَصْعَدُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ وَبَرَكَةُ إِيمَانِهِ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا بَلْ تَصِلُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَالْحِكْمَةُ فِي تَمْثِيلِ الْإِيمَانِ بِالشَّجَرَةِ هِيَ أَنَّ الشَّجَرَةَ لَا تَكُونُ شَجَرَةً إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: عِرْقٌ رَاسِخٌ وَأَصْلٌ قَائِمٌ وَفَرْعٌ عَالٍ كَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ تَصْدِيقٌ بِالْقَلْبِ وَقَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْأَبْدَانِ.
«1216» أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْجَوْهَرِيُّ أنا أحمد بن علي الكشمهيني ثنا علي بن حجر ثنا إسماعيل بن جعفر ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَإِنَّهَا مِثْلُ الْمُسْلِمِ فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ» ؟ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أنها النخلة فاستحييت، ثم
__________
1216- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم، وللحديث طرق.
- وهو في «شرح السنة» 143 بهذا الإسناد.
- وخرجه مسلم 2811 من طريق علي بن حجر به.
- وأخرجه البخاري 61 ومسلم 2811 وابن حبان 246 من طرق عن إسماعيل بن جعفر به.
- وأخرجه البخاري 131 والترمذي 2867 وأحمد 2/ 61 و157 وابن حبان 243 من طرق عن ابن دينار به.
- وأخرجه البخاري 4698 و6144 ومسلم 2811 من طريق عبد الله عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ به.
- وأخرجه البخاري 6122 وأحمد 2/ 31 وابن مندة في «الإيمان» 190 من طريق شعبة عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنِ ابن عمر به.
- وأخرجه البخاري 72 و2209 ومسلم 2811 وأحمد 2/ 12 و115 والحميدي 676 وابن حبان 244 من طرق عن مجاهد عن ابن عمر به.
(1) في المطبوع «تغطي» .
(2) في المخطوط «النخلة» .(3/37)
قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «هِيَ النَّخْلَةُ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَ هِيَ النَّخْلَةُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا.
وَقِيلَ الْحِكْمَةُ فِي تَشْبِيهِهَا بِالنَّخْلَةِ مِنْ بَيْنِ سائر الأشجار أن النخلة [من دون سائر الأشجار] [1] أشبه الْأَشْجَارِ بِالْإِنْسَانِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا إِذَا قُطِعَ رَأْسُهَا يَبِسَتْ وَسَائِرُ الْأَشْجَارِ تَتَشَعَّبُ مِنْ جَوَانِبِهَا بَعْدَ قطع رؤوسها وَلِأَنَّهَا تُشْبِهُ الْإِنْسَانَ فِي أَنَّهَا لَا تَحْمِلُ إِلَّا بِالتَّلْقِيحِ وَلِأَنَّهَا خُلِقَتْ مِنْ فَضْلِ طِينَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
«1217» وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَكْرِمُوا عمتكم» قيل: ومن عمتنا؟ [يا رسول الله] [2] قَالَ: «النَّخْلَةُ» وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ.
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ. وَهِيَ الشِّرْكُ، كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ، وَهِيَ الْحَنْظَلُ. وَقِيلَ: هِيَ الثُّومُ.
وَقِيلَ: [هِيَ] [3] الْكُشُوثُ وَهِيَ الْعَشَقَةُ، اجْتُثَّتْ، يعني اقتلعت، مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ، ثَبَاتٍ، مَعْنَاهُ وَلَيْسَ لَهَا أَصْلٌ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فَرْعٌ صَاعِدٌ إِلَى السَّمَاءِ، كَذَلِكَ الْكَافِرُ لَا خَيْرَ فِيهِ وَلَا يَصْعَدُ لَهُ قَوْلٌ طَيِّبٌ ولا عمل صالح.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَهِيَ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، يَعْنِي قَبْلَ الْمَوْتِ، وَفِي الْآخِرَةِ، يَعْنِي فِي الْقَبْرِ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ المفسرين وَقِيلَ: فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا عِنْدَ السُّؤَالِ فِي الْقَبْرِ، وَفِي الْآخِرَةِ عِنْدَ الْبَعْثِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
«1218» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا أبو الوليد ثنا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ [4] بْنَ عُبَيْدَةَ عن البراء بن عازب أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ.
«1219» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الجلودي أنبأنا
__________
1217- ضعيف جدا. أخرجه أبو يعلى 455 وأبو نعيم في «الحلية» 6/ 123 وابن حبان في «المجروحين» 3/ 44 وابن الجوزي في «الموضوعات» 1/ 184 من حديث علي بلفظ «أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذي خلق منه آدم ... » .
- قال ابن الجوزي: لا يصح. مسرور بن سعيد منكر الحديث.
1218- إسناده صحيح على شرط البخاري. أبو الوليد هو هشام بن عبد الملك، شعبة هو ابن الحجاج.
- وهو في «شرح السنة» 1514 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 4699 عن أبي الوليد به.
- وأخرجه البخاري 1369 ومسلم 2871 وأبو داود 4750 والترمذي 3210 من طرق عن شعبة به.
وانظر الحديث الآتي.
1219- إسناده صحيح. مسلم هو صاحب الصحيح، قد توبع هو ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- رواه المصنف من طريق مسلم وهو في «صحيحه» 2871 عن محمد بن بشار به.
- وأخرجه النسائي في «التفسير» 284 وابن ماجه 4269 من طريق محمد بن بشار به.
وانظر الحديث المتقدم.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) زيادة عن المخطوط. [.....]
(4) تصحف في المطبوع «سعيد» .(3/38)
إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ أنبأنا مسلم بن الحجاج ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ ثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ يُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ الْآيَةَ.
«1220» وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمُلَيْحِيُّ أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بن إسماعيل ثنا عياش بن الوليد ثنا عبد الأعلى ثنا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بن مالك أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قبره وتولى عنه أصحابه وإنه لِيَسْمَعُ [1] قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فيقعدانه فيقولان [لَهُ] مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ فَيُقَالُ لَهُ انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا» . قَالَ قَتَادَةُ: وَذَكَرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ- ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ قال: «وأما المنافق أو الكافر فَيُقَالُ لَهُ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ غَيْرُ الثَّقَلَيْنِ» .
«1221» أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ الْمُظَفَّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التميمي ثنا أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ الله بن عدي الحافظ ثنا عبد الله بن سعيد ثنا أسد بن موسى ثنا عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدِ]
بْنِ كَثِيرٍ حَدَّثَنِي جَدِّي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ [حِسَّ] [3] النِّعَالِ إِذَا وَلَّى عَنْهُ النَّاسُ مُدْبِرِينَ، ثُمَّ يُجْلَسُ وَيُوضَعُ كَفَنُهُ فِي عُنُقِهِ ثُمَّ يُسْأَلُ» .
«1222» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ أتاه ملكان أسودان
__________
1220- إسناده على شرط البخاري، عبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى، سعيد هو ابن أبي عروبة، قتادة هو ابن دعامة.
- وهو في «شرح السنة» 1516 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 1374 عن عياش بن الوليد بهذا الإسناد.
- أخرجه البخاري 1338 ومسلم 2870 وأبو داود 4751 والنسائي 4/ 97- 98 وأحمد 3/ 126 وابن حبان 3120 و233 والبيهقي 4/ 80 من طرق عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ به.
- وأخرجه مسلم 2870 ح 70 والنسائي 4/ 97 والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» 16 و17 من طريق شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ قتادة به.
1221- إسناده ضعيف، كثير هو ابن عبيد القرشي مجهول.
- وهو في «شرح السنة» 115 بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد 2/ 445 وابن حبان 3118 من وجه آخر عن وكيع عن سفيان الثوري عن السدي عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ دون عجزه «ثم يجلس ويوضع.....» .
وإسناده ضعيف، لجهالة عبد الرحمن بن أبي كريمة وهو أبو إسماعيل السدي، ولأصل هذا الحديث شواهد.
1222- أخرجه الترمذي 1071 من طريق بشر بن المفضل عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هريرة وقال: حديث حسن غريب.
- وأخرجه ابن حبان 3117 وابن أبي عاصم في «السنة» 864 والآجري في «الشريعة» 872 والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» 56 وإسناده على شرط مسلم، وفي عبد الرحمن بن إسحاق كلام ينحط حديثه إلى درجة الحسن.
(1) في المطبوع «يسمع» .
(2) تصحف في المطبوع «سعد» .
(3) زيادة عن المخطوط وط و «شرح السنة» وقد زيد في المخطوط «قرع» قبل لفظ «حسّ» وزيد في المطبوع «خفق» والمثبت عن ط و «شرح السنة» .(3/39)
أَزْرَقَانِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَلِلْآخَرِ النكير، فيقولان [لَهُ] [1] مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ثم يقال له: نم [فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان نَمْ] [2] كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذلك، وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا أَوْ كَافِرًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلًا فَقُلْتُ مِثْلَهُ لَا أَدْرِي [3] ، فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ فَيُقَالُ لِلْأَرْضِ الْتَئِمِي عَلَيْهِ فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ فَتَخْتَلِفُ أَضْلَاعُهُ فَلَا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ» .
«1223» وَرُوِيَ عن البراء بن عازب أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ قَبَضَ رُوحَ الْمُؤْمِنِ وَقَالَ: «فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فِي قبره ويقولان لَهُ مَنْ رَبُّكَ وَمَا دِينُكَ وَمَنْ نَبِيُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ فَيَنْتَهِرَانِهِ وَيَقُولَانِ لَهُ الثَّانِيَةَ مَنْ رَبُّكَ وَمَا دِينُكَ وَمِنْ نَبِيُّكَ وَهِيَ آخِرُ فِتْنَةٍ تُعْرَضُ عَلَى الْمُؤْمِنِ [4] فَيُثَبِّتُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ وَدِينِيَ الْإِسْلَامُ وَنَبِيِّي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ» .
«1224» أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ الطَّيْسَفُونِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ التُّرَابِيُّ أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ بِسْطَامٍ أَنْبَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ أحمد بن سيار القرشي ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الْفَرَّاءُ أَبُو إسحاق ثنا هشام بن يوسف ثنا عبد الله بن بحير [5] عن هانىء مولى عثمان [عن عُثْمَانَ] [6] قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الرَّجُلِ وَقَفَ عَلَيْهِ وقال:
«استغفروا لأخيكم وسلوا [7] لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ» .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ وَهُوَ يَبْكِي: فَإِذَا أَنَا مِتُّ فَلَا تَصْحَبُنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَسُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ سَنًّا ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا يُنْحَرُ جزور ويقسم لحمه حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أراجع به رسل ربي.
__________
1223- جيد. أخرجه أبو داود 4753 و4754 وعبد الرزاق 6737 وابن أبي شيبة 3/ 380- 382 وأحمد 4/ 287 و288 و295 و296 والطيالسي 753 والطبري 20771 والآجري في «الشريعة» 878 والحاكم 1/ 37- 40 والبيهقي في «إثبات عذاب القبر» 20 و21 من طرق عن زاذان عن البراء به وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
- وقد أعله ابن حبان في صحيحه بإثر حديث 3117 بالانقطاع بين زاذان والبراء لكن فيه نظر، فقد صرح زاذان في رواية الحاكم بالسماع من البراء، فالحديث قوي، وصححه الحافظ ابن القيم في «تهذيب السنن» 4/ 337.
1224- إسناده حسن، رجاله ثقات.
- وهو في «شرح السنة» بإثر 1517 بهذا الإسناد.
- وأخرجه أبو داود 3221 عن إبراهيم بن موسى به.
- وأخرجه أحمد في «الزهد» 684 والحاكم 1/ 370 والبيهقي 4/ 56 وابن السني في «عمل اليوم والليلة» 585 من طرق عن هشام بن يوسف به، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيد في المطبوع وط و «سنن الترمذي» .
(3) زيد في المطبوع وط و «سنن الترمذي» .
(4) في المطبوع «المؤمنين» .
(5) تصحف في المطبوع «يحيى» . [.....]
(6) زيادة عن «شرح السنة» وكتب التخريج.
(7) في المطبوع وحده «واسألوا الله» .(3/40)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ أي: لا يهدي [الله] [1] الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْجَوَابِ بِالصَّوَابِ فِي الْقَبْرِ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ، مِنَ التَّوْفِيقِ وَالْخُذْلَانِ وَالتَّثْبِيتِ وَتَرْكِ التثبيت.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 31]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً.
«1225» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا [مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ أَنَا] [2] محمد بن إسماعيل ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عَمْرٌو عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً، قَالَ: هُمْ وَاللَّهِ كُفَّارُ قُرَيْشٍ.
وَقَالَ عَمْرٌو: هُمْ قُرَيْشٌ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَةُ اللَّهِ.
وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ، قَالَ: الْبَوَارُ يَوْمُ بدر، قوله: بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ أَيْ: غَيَّرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ منهم كُفْراً كفروا به وَأَحَلُّوا أي: أنزلوا قومهم ومن تَابَعَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ دارَ الْبَوارِ أي: الهلاك، ثم بين دار الْبَوَارَ فَقَالَ:
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها، يَدْخُلُونَهَا وَبِئْسَ الْقَرارُ، الْمُسْتَقَرُّ، وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ: الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ نُحِرُوا يَوْمَ بَدْرٍ.
وَقَالَ عمر بن الخطاب: هُمُ الْأَفْجَرَانِ مَنْ قُرَيْشٍ بَنُو الْمُغِيرَةِ وَبَنُو أُمَيَّةَ، أَمَّا بَنُو الْمُغِيرَةِ فَكُفِيتُمُوهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ.
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً، أَمْثَالًا وَلَيْسَ لِلَّهِ تَعَالَى نِدٌّ، لِيُضِلُّوا.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الياء، وكذلك في الحج [9] [وفي] [3] لقمان [6] والزمر [8] لِيُضِلُّوا وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ عَلَى مَعْنَى لِيُضِلُّوا النَّاسَ، عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا، عِيشُوا فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ.
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ، قال الفراء: هذا جَزْمٌ عَلَى الْجَزَاءِ، وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ، مُخَالَلَةٌ وَصَدَاقَةٌ.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 36]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
__________
1225- إسناده صحيح على شرط البخاري، الحميدي عبد الله بن الزبير، عمرو بن دينار، عطاء بن أبي رباح.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 4700 عن علي بن عبد الله به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) سقط من المطبوع.
(3) في المطبوع «سورة» .(3/41)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ، بإذنه. وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ، ذَلَّلَهَا لَكُمْ تُجْرُونَهَا حَيْثُ شِئْتُمْ.
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ، يَجْرِيَانِ فِيمَا يَعُودُ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَلَا يفتران، قال ابن عباس دؤو بهما فِي طَاعَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ، يَتَعَاقَبَانِ فِي الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ.
وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ، يعني: آتاكم مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَأَلْتُمُوهُ شَيْئًا، فَحَذَفَ الشَّيْءَ الثَّانِيَ اكْتِفَاءً بِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى التَّبْعِيضِ.
وَقِيلَ: هُوَ عَلَى التَّكْثِيرِ نَحْوُ قَوْلِكَ: فُلَانٌ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ، وَآتَاهُ كُلَّ الناس، وأنت تريد [1] بَعْضَهُمْ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ [الْأَنْعَامِ: 44] .
وَقَرَأَ الْحَسَنُ مِنْ كُلِّ بِالتَّنْوِينِ مَا عَلَى النَّفْيِ يَعْنِي مِنْ كُلِّ مَا لَمْ تَسْأَلُوهُ، يَعْنِي: أَعْطَاكُمْ أَشْيَاءَ مَا طَلَبْتُمُوهَا وَلَا سألتموها، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ، أَيْ: نِعَمَ اللَّهِ، لَا تُحْصُوها، أَيْ: لَا تُطِيقُوا عَدَّهَا [2] وَلَا الْقِيَامَ بِشُكْرِهَا إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ، أَيْ: ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ بالمعصية كافر بربه فِي نِعْمَتِهِ وَقِيلَ الظَّلُومُ الَّذِي يَشْكُرُ غَيْرَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ والكافر من يجحد منعمه.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ، يَعْنِي: الْحَرَمَ، آمِناً ذَا أَمْنٍ يُؤَمَّنُ فِيهِ، وَاجْنُبْنِي، أَبْعِدْنِي، وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ، يُقَالُ: جَنَّبْتُهُ [3] الشَّيْءَ أجنبته جَنْبًا وَجَنَّبْتُهُ تَجْنِيبًا وَاجْتَنَبْتُهُ اجْتِنَابًا [4] بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ كان إبراهيم مَعْصُومًا مِنْ عِبَادَةِ [5] الْأَصْنَامِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ السُّؤَالُ وَقَدْ عَبَدَ كَثِيرٌ من الْأَصْنَامَ فَأَيْنَ الْإِجَابَةُ؟ قِيلَ: الدُّعَاءُ في حق إبراهيم لِزِيَادَةِ الْعِصْمَةِ وَالتَّثْبِيتِ وَأَمَّا دُعَاؤُهُ لِبَنِيهِ فَأَرَادَ بَنِيهِ مِنْ صُلْبِهِ وَلَمْ يَعْبُدْ مِنْهُمْ أَحَدٌ الصَّنَمَ. وَقِيلَ: إِنَّ دُعَاءَهُ لِمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مِنْ بَنِيهِ.
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ، يَعْنِي: ضل بهن كثيرا مِنَ النَّاسِ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى حتى عبدوهن، وهذا من الْمَقْلُوبُ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ [آلِ عمران: 175] ، أي:
يخوفكم [6] بِأَوْلِيَائِهِ، وَقِيلَ: نَسَبَ الْإِضْلَالَ إِلَى الْأَصْنَامِ لِأَنَّهُنَّ سَبَبٌ فِيهِ كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ فَتَنَتْنِي الدُّنْيَا، نَسَبَ الْفِتْنَةَ إِلَى الدُّنْيَا لِأَنَّهَا سَبَبُ الْفِتْنَةِ. فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي، أي: من أهل ديني وملتي، وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قَالَ السُّدِّيُّ [7] : مَعْنَاهُ وَمَنْ عَصَانِي ثُمَّ تَابَ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: وَمَنْ عَصَانِي فِيمَا دُونَ الشِّرْكِ. وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُعْلِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يغفر الشرك.
__________
(1) في المخطوط «تعني» .
(2) في المخطوط «عددها» .
(3) في المطبوع «جنبت» .
(4) العبارة عند الطبري 7/ 460 «يقال منه: جنبته الشيء، فأنا أجنبه جنبا، وجنّبته الشر، فأنا أجنّبه تجنيبا، وأجنبته ذلك، فأنا أجنبه إجنابا» .
(5) زيد في المطبوع «بنيه» .
(6) في المطبوع «يخوفهم» .
(7) في المخطوط «أهل التفسير» والمثبت عن المطبوع وط و «الوسيط» للواحدي 3/ 33.(3/42)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
[سورة إبراهيم (14) : آية 37]
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
قوله تعالى: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي، أَدْخَلَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَمَجَازُ الْآيَةِ أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي وَلَدًا، بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، وَهُوَ مَكَّةُ لِأَنَّ مَكَّةَ وَادٍ [1] بَيْنَ جَبَلَيْنِ، عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، سَمَّاهُ مُحَرَّمًا لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عِنْدَهُ مَا لَا يَحْرُمُ عِنْدَ غَيْرِهِ.
«1226» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثنا عَبْدُ الله بن محمد ثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَنْبَأَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ وَكَثِيرِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ [2] مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا لِتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضْعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضْعَهُمَا هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ قَفَلَ [3] إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الوادي الذي ليس فيه أنيس وَلَا شَيْءٌ؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ أَمْرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حيث لا يرونه استقبل بوجه الْبَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بِهَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ، حَتَّى بَلَغَ يَشْكُرُونَ، وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَبَّطُ أَوْ قَالَ يَتَلَوَّى، وَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الْأَرْضِ يَلِيهَا فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ بطن الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرْفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ، ثُمَّ [أَتَتِ] [4] الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا» . فَلَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ: صَهٍ تُرِيدُ نفسها، ثم تسمعت فسمعته [5] أَيْضًا فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ، فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ حَتَّى ظَهَرَ الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تَخُوضُهُ وَتَقُولُ بيدها هكذا، أو جعلت تَغْرِفُ مِنَ الْمَاءِ فِي سِقَائِهَا وهو يفور بعد ما تَغْرِفُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ تَرَكَتْ زَمْزَمَ» أَوْ قَالَ: «لَوْ لم تغرف من
__________
1226- إسناده صحيح على شرط البخاري، عبد الرزاق بن همام، معمر بن راشد، أيوب بن أبي تميمة.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 3364 عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بهذا الإسناد.
- وأخرجه البيهقي 5/ 98- 99 من طريق عبد الرزاق به.
وانظر ما تقدم في تفسير سورة البقرة عند آية: 125. [.....]
(1) زيد في المطبوع وط «واد» .
(2) تصحف في المطبوع «المناطق» .
(3) كذا في المطبوع، وفي المخطوط «قام» وفي «صحيح البخاري» «قفّى» .
(4) سقط من المطبوع.
(5) في المطبوع «فسمعت» .(3/43)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
الماء في سفائها لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا» . قَالَ: فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا فَقَالَ لَهَا الْمَلَكُ: لَا تَخَافُوا الضَّيْعَةَ فَإِنَّ هَاهُنَا [1] بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِيهِ هَذَا الْغُلَامُ وَأَبُوهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يضيع أهله، وكان [2] الْبَيْتِ مُرْتَفِعًا مِنَ الْأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ تَأْتِيهِ السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ فَكَانَتْ كَذَلِكَ، حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ جُرْهُمٍ أَوْ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جُرْهُمٍ مُقْبِلِينَ مِنْ طَرِيقِ كَدَاءَ فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلَ مَكَّةَ، فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا فَقَالُوا إِنَّ هَذَا الطَّائِرَ لِيَدُورَ عَلَى مَاءٍ وَلَعَهْدُنَا بِهَذَا الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ فَأَقْبَلُوا وَأُمُّ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ وَلَكِنْ لَا حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَأَلْفَى ذَلِكَ أَمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الْأُنْسَ» فَنَزَلُوا وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا معهم حتى إذا كان أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ وَشَبَّ الْغُلَامُ وتعلم العربية منهم، وكان آنسهم وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ]
شَبَّ فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَمَاتَتْ أَمُّ إسماعيل فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل بطالع تَرِكَتَهُ. ذَكَرْنَا تِلْكَ الْقِصَّةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ، الْأَفْئِدَةُ جَمْعُ الْفُؤَادِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، تَشْتَاقُ وَتَحِنُّ إِلَيْهِمْ. قَالَ السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ أَمِلْ قُلُوبَهُمْ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ قَالَ أَفْئِدَةَ النَّاسِ لَزَاحَمَتْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالْهِنْدُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَحَجَّتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ وَلَكِنَّهُ قَالَ أَفْئِدَةً مِنَ الناس فهم [4] الْمُسْلِمُونَ. وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ، مَا رزقت سكان القرب ذوات [5] الماء، لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 38 الى 43]
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43)
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَما نُعْلِنُ، مِنْ أُمُورِنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: مِنِ الْوَجْدِ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ حَيْثُ أَسْكَنْتُهُمَا بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ. وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، قِيلَ: [هذا كله قول إبراهيم متصل بما قبله] [6] . وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ [7] : يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ، أَعْطَانِي على كبر السن، إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وُلِدَ إِسْمَاعِيلُ لِإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ إِسْحَاقُ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: بُشِّرَ إِبْرَاهِيمُ بِإِسْحَاقَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً.
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ، يَعْنِي: مِمَّنْ يُقِيمُ الصَّلَاةَ بِأَرْكَانِهَا وَيُحَافِظُ عَلَيْهَا، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، يعني: واجعل من ذريتي من يقيم الصَّلَاةَ. رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ، أَيْ عملي وعبادتي، سمّى العبادة
__________
(1) في المطبوع «وإن هناك» .
(2) زيد في المطبوع «موضع» .
(3) في المخطوط «حتى» .
(4) في المطبوع «وهم» .
(5) في المخطوط «ذات» .
(6) العبارة في المخطوط وط «هذه صلة قول إبراهيم» .
(7) في المخطوط «الآخرون» .(3/44)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
دُعَاءً، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اسْتَجِبْ دُعَائِي.
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ اسْتَغْفَرَ لِوَالِدَيْهِ وَهُمَا غَيْرُ مُؤْمِنَيْنِ؟ قِيلَ قَدْ قِيلَ إِنَّ أُمَّهُ أَسْلَمَتْ، وَقِيلَ: أَرَادَ إِنْ أَسْلَمَا وَتَابَا [1] ، وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُ أَبِيهِ وَقَدْ بَيَّنَ الله عذر خليله فِي اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِيهِ فِي سُورَةِ التوبة [114] . وَلِلْمُؤْمِنِينَ، أي: واغفر لِلْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ، يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ، أَيْ: يَبْدُو وَيَظْهَرُ. وَقِيلَ: أَرَادَ [2] يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِلْحِسَابِ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْحِسَابِ لِكَوْنِهِ مَفْهُومًا.
قَوْلُهُ تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ. الْغَفْلَةُ مَعْنًى يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الأمور و [في] الآية تسلية للمظلوم وَتَهْدِيدٌ لِلظَّالِمِ [3] ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ، أَيْ لَا تُغْمَضُ مِنْ هَوْلِ مَا تَرَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقِيلَ [4] : تَرْتَفِعُ وتزول عن أماكنها.
مُهْطِعِينَ، قَالَ قَتَادَةُ: مُسْرِعِينَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْإِهْطَاعُ النَّسَلَانُ كعدو الذئب، قال مُجَاهِدٌ: مُدِيمِي النَّظَرِ.
وَمَعْنَى الْإِهْطَاعِ أَنَّهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا، وَلَا يَعْرِفُونَ مَوَاطِنَ أَقْدَامِهِمْ، مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ، أي: رافعي رؤوسهم.
قال القتيبي: المقنع الذي برفع رأسه ويقبل بصره عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَقَالَ الحسن: وجوه الناس يومئذ إِلَى السَّمَاءِ لَا يَنْظُرُ أَحَدٌ إِلَى أَحَدٍ، لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ، لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبْصَارُهُمْ مِنْ شدة النظر، فهي شَاخِصَةٌ قَدْ شَغَلَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ، أَيْ:
خَالِيَةٌ.
قَالَ قَتَادَةُ: خَرَجَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ [5] صُدُورِهِمْ فَصَارَتْ فِي حَنَاجِرِهِمْ، لَا تخرج عن أفواههم ولا تعود إلى مكانها، فَالْأَفْئِدَةُ هَوَاءٌ لَا شَيْءَ فِيهَا وَمِنْهُ سُمِّيَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ هَوَاءٌ لِخُلُوِّهِ [6] ، وَقِيلَ:
خَالِيَةٌ لَا تَعِي شَيْئًا وَلَا تَعْقِلُ من الخوف.
وقال الأخفش: جوفا لَا عُقُولَ لَهَا. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كل أجوف خلو هَوَاءً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:
وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ أَيْ: مُتَرَدِّدَةٌ تَمُورُ فِي أَجْوَافِهِمْ لَيْسَ لَهَا مَكَانٌ تَسْتَقِرُّ فِيهِ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْقُلُوبَ زَائِلَةٌ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَالْأَبْصَارَ شَاخِصَةٌ [7] مِنْ هَوْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
[سورة إبراهيم (14) : آية 44]
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ، خَوِّفْهُمْ، يَوْمَ، أَيْ: بيوم، يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ، [و] هو يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، أَشْرَكُوا، رَبَّنا أَخِّرْنا، أَمْهِلْنَا، إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ، هَذَا سُؤَالُهُمُ الرَّدُّ إلى الدنيا، أي:
__________
(1) في المخطوط «ماتا» .
(2) زيد في المطبوع «يوم الحساب» . [.....]
(3) العبارة في المطبوع وط «والآية لتسلية المظلوم» .
(4) زيد في المخطوط «لا» .
(5) في المخطوط «من» .
(6) في المطبوع «الخلو» .
(7) في المخطوط «خاشعة» .(3/45)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
ارْجِعْنَا إِلَيْهَا، نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ، فَيُجَابُونَ [1] : أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ، حَلَفْتُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا، مَا لَكُمْ مِنْ زَوالٍ، عَنْهَا أَيْ: لَا تُبْعَثُونَ. وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: 38] .
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 45 الى 48]
وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48)
وَسَكَنْتُمْ، فِي الدُّنْيَا، فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، بِالْكَفْرِ وَالْعِصْيَانِ، يَعْنِي قَوْمَ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَغَيْرِهِمْ. وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ، أَيْ: عَرَفْتُمْ عُقُوبَتَنَا إِيَّاهُمْ، وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ، أَيْ: بَيَّنَّا مَثَلَكُمْ كَمَثَلِهِمْ.
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ، أَيْ: جَزَاءُ مَكْرِهِمْ، وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ، قَرَأَ علي وابن مسعود: وإن كاد مَكْرُهُمْ بِالدَّالِ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِالنُّونِ.
لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ، قَرَأَ الْعَامَّةُ «لِتَزُولَ» بِكَسْرِ اللَّامِ الْأُولَى وَنَصْبِ الثَّانِيَةِ، مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ مَكْرُهُمْ [2] قَالَ الْحَسَنُ: إِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ تَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ مَكْرَهُمْ لَا يُزِيلُ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ كَثُبُوتِ الْجِبَالِ. وَقَرَأَ ابْنُ جُرَيْجٍ وَالْكِسَائِيُّ: لِتَزُولَ بِفَتْحِ اللَّامِ الْأُولَى وَرَفْعِ الثَّانِيَةِ، مَعْنَاهُ: إِنَّ مَكْرَهُمْ وَإِنْ عَظُمَ حَتَّى بَلَغَ مَحَلًّا يُزِيلُ الْجِبَالَ لَمْ يَقْدِرُوا على إزالة أمر محمد.
قال قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَ [3] شِرْكُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مَرْيَمَ: 90- 91] .
وَيُحْكَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نُمْرُودَ الْجَبَّارِ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ [4] إِبْرَاهِيمُ حَقًّا فلا أنتهي حتى أصعد [إلى] السَّمَاءَ فَأَعْلَمَ مَا فِيهَا فَعَمَدَ إلى أربعة أفراخ [5] مِنَ النُّسُورِ فَرَبَّاهَا حَتَّى شَبَّتْ وَاتَّخَذَ تَابُوتًا وَجَعَلَ لَهُ بَابًا مِنْ أَعْلَى وَبَابًا مِنْ أَسْفَلَ، وقعد [6] نمرود مع الرجل فِي التَّابُوتِ وَنَصَبَ خَشَبَاتٍ فِي أطراف التابوت، وجعل على رؤوسها اللَّحْمَ وَرَبَطَ التَّابُوتَ بِأَرْجُلِ النُّسُورِ، وخلّاها فَطِرْنَ وَصَعِدْنَ طَمَعًا فِي اللَّحْمِ حَتَّى مَضَى يَوْمٌ وَأَبْعَدْنَ فِي الْهَوَاءِ، فَقَالَ نُمْرُودُ لِصَاحِبِهِ: افْتَحِ الْبَابَ الْأَعْلَى وَانْظُرْ إِلَى السَّمَاءِ هل قربنا منها، فَفَتَحَ الْبَابَ وَنَظَرَ فَقَالَ: إِنَّ السَّمَاءَ كَهَيْئَتِهَا ثُمَّ قَالَ افْتَحِ الْبَابَ الْأَسْفَلَ وَانْظُرْ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ تَرَاهَا فَفَعَلَ فَقَالَ أَرَى [الْأَرْضَ] [7] مِثْلَ اللُّجَّةِ وَالْجِبَالَ مِثْلَ الدُّخَانِ فَطَارَتِ النُّسُورُ يَوْمًا آخَرَ، وَارْتَفَعَتْ حَتَّى حَالَتِ الرِّيحُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الطَّيَرَانِ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ افْتَحِ الْبَابَيْنِ فَفَتَحَ الْأَعْلَى فَإِذَا السَّمَاءُ كَهَيْئَتِهَا وَفَتْحَ الْأَسْفَلَ فَإِذَا الْأَرْضُ سوداء
__________
(1) زيد في المطبوع وط، وفي المخطوط «فيجابوا» .
(2) زيد في المطبوع وحده «لتزول» .
(3) زيد في المطبوع «مكرهم» .
(4) في المخطوط «يقوله» .
(5) في المطبوع «أفرخ» .
(6) تكرر في المطبوع «من أسفل وقعد» .
(7) زيادة عن المخطوط.(3/46)
مُظْلِمَةٌ فَنُودِيَ أَيُّهَا الطَّاغِيَةُ أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ مَعَهُ في التابوت [عدة السلاح] [1] فحمل [2] الْقَوْسَ وَالنُّشَّابَ فَرَمَى بِسَهْمٍ فَعَادَ إليه السهم ملطخا [3] بِدَمِ سَمَكَةٍ قَذَفَتْ نَفْسَهَا مِنْ بَحْرٍ فِي الْهَوَاءِ.
وَقِيلَ: طَائِرٌ أَصَابَهُ السَّهْمُ، فَقَالَ: كُفِيتُ شُغْلَ إِلَهِ السَّمَاءِ، قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ نُمْرُودُ صَاحِبَهُ أَنْ يُصَوِّبَ الْخَشَبَاتِ ينكس [4] اللَّحْمَ فَفَعَلَ فَهَبَطَتِ النُّسُورُ بِالتَّابُوتِ فسمعت الجبال خفيق [5] التَّابُوتِ وَالنُّسُورِ فَفَزِعَتْ وَظَنَّتْ أَنَّهُ قَدْ حَدَثَ حَدَثٌ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَنَّ السَّاعَةَ قَدْ قَامَتْ، فَكَادَتْ تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا [6] ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ.
فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ، بِالنَّصْرِ لِأَوْلِيَائِهِ وَهَلَاكِ أَعْدَائِهِ، وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ رُسُلِهِ وَعْدَهُ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ.
قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ.
«1227» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي شيبة ثنا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ حدثني أَبُو حَازِمٍ [سَلَمَةُ] [7] بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ كَقُرْصَةِ النَّقِيِّ لَيْسَ فِيهَا عَلَمٌ لأحد» .
«1228» وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ ثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ هُوَ ابْنُ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَكُونُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُبْزَةً وَاحِدَةً يَتَكَفَّؤُهَا الْجَبَّارُ بِيَدِهِ كَمَا يتكفؤ أَحَدُكُمْ خُبْزَتَهُ فِي السَّفَرِ نُزُلًا لِأَهْلِ الْجَنَّةِ» .
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: تُبَدَّلُ الأرض بأرض بيضاء كالفضة نَقِيَّةٍ [8] لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ ولم يعمل فِيهَا خَطِيئَةٌ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أبي طالب: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ مِنْ فِضَّةٍ وَالسَّمَاءُ من ذهب.
__________
1227- صحيح. إسناده حسن، رجاله رجال البخاري ومسلم، لكن في خالد بن مخلد كلام ينحط عن درجة الصحيح، لكن توبع وللحديث شواهد. أبو بكر هو عبد الله بن محمد.
- رواه المصنف من طريق مسلم، وهو في «صحيحه» 2790 عن ابن أبي شيبة بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 6521 وابن حبان 7320 والطبراني 5831 و5908 من طرق عن أبي حازم به.
1228- إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم، يحيى هو ابن عبد الله، وبكير جده، الليث هو ابن سعد.
- وهو في «شرح السنة» 4201 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 6520 عن يحيى بن بكير به.
- وأخرجه مسلم 2792 وعبد بن حميد في «المنتخب» 962 والطحاوي في «المشكل» 4452. [.....]
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «حمل» .
(3) في المطبوع «متلطخا» .
(4) في المطبوع «ينكص» .
(5) في المخطوط «خفيف» .
(6) موقوف باطل. أخرجه الطبري 20919 و20920 و20921 و20922، وفيه عبد الرحمن بن واصل، وهو مجهول، والخبر من الإسرائيليات المصنوعة.
(7) سقط من المطبوع.
(8) في المطبوع «كفضة بيضاء» .(3/47)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تُبَدَّلُ الْأَرْضُ خُبْزَةً بَيْضَاءَ يَأْكُلُ الْمُؤْمِنُ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى التَّبْدِيلِ جَعْلُ السموات جِنَانًا وَجَعْلُ الْأَرْضِ نِيرَانًا.
وَقِيلَ: تَبْدِيلُ الْأَرْضِ تَغْيِيرُهَا مِنْ هَيْئَةٍ إلى هيئة [أخرى] [1] ، وهي تسسيير جِبَالِهَا وَطَمُّ أَنْهَارِهَا وَتَسْوِيَةُ أَوْدِيَتِهَا وقلع أَشْجَارِهَا وَجَعْلُهَا قَاعًا صَفْصَفًا، وَتَبْدِيلُ السموات: تغييرها عن حَالِهَا بِتَكْوِيرِ شَمْسِهَا، وَخُسُوفِ قَمَرِهَا وَانْتِثَارِ نُجُومِهَا، وَكَوْنِهَا مَرَّةً كَالدِّهَانِ، وَمَرَّةً كَالْمُهْلِ.
«1229» أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ الْقَاهِرِ أَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أبي شيبة ثنا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ دَاوُدَ وَهُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ فَأَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَئِذٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «عَلَى الصِّرَاطِ» .
«1230» وَرُوِيَ عَنْ ثوبان إِنَّ حِبْرًا مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ؟ قَالَ: «هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ الْجِسْرِ» .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَرَزُوا، خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ، الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ ويحكم ما يريد.
[سورة إبراهيم (14) : الآيات 49 الى 52]
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ، مَشْدُودِينَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، فِي الْأَصْفادِ، فِي الْقُيُودِ وَالْأَغْلَالِ وَاحِدُهَا صَفَدٌ، وَكُلُّ مَنْ شَدَدْتَهُ شَدًا وَثِيقًا فَقَدْ صَفَّدْتَهُ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ [2] : صَفَدْتُ الرَّجُلَ فَهُوَ مَصْفُودٌ وَصَفَّدْتُهُ بِالتَّشْدِيدِ فَهُوَ مُصَفَّدٌ.
وَقِيلَ: يُقْرَنُ كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ فِي سِلْسِلَةٍ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصَّافَّاتِ: 22] ، يَعْنِي: قُرَنَاءَهُمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مُقَرَّنَةٌ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ إِلَى رِقَابِهِمْ بِالْأَصْفَادِ والقيود، ومنه قيل للجبل قرن.
__________
1229- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم، أبو بكر هو عبد الله بن محمد، الشعبي هو عامر بن شراحيل، مسروق هو ابن الأجدع.
- رواه المصنف من طريق مسلم، وهو في «صحيحه» 2791 عن ابن أبي شيبة بهذا الإسناد.
- وأخرجه الترمذي 3121 وابن ماجه 4279 وأحمد 6/ 35 والحاكم 2/ 352 وابن حبان 7380 والطبري 20964 من طرق عن داود بن أبي هند به.
1230- صحيح. هو بعض حديث أخرجه مسلم 315 والنسائي في «الكبرى» 9073 وابن حبان 7422 والطبراني 1414 والحاكم 3/ 481- 482 وأبو نعيم في «صفة الجنة» 337 والبيهقي في «البعث» 315 من طرق عن مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَامٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلَامٍ عَنْ أَبِي سَلَامٍ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحَبِيِّ عَنْ ثوبان به.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيد في المطبوع وحده «تقول العرب» .(3/48)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
سَرابِيلُهُمْ، أَيْ: قُمُصُهُمْ، وَاحِدُهَا سِرْبَالُ. مِنْ قَطِرانٍ هو ما تَهْنَأُ [1] بِهِ الْإِبِلُ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ ويعقوب مِنْ قَطِرانٍ عَلَى كَلِمَتَيْنِ مُنَوَّنَتَيْنِ، وَالْقِطْرُ النُّحَاسُ وَالصُّفْرُ الْمُذَابُ، وَالْآنُ الَّذِي انْتَهَى حَرُّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) [الرَّحْمَنِ: 44] . وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ، أَيْ: تَعْلُو.
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ، مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ.
هَذَا، أَيْ: هَذَا الْقُرْآنُ، بَلاغٌ، أَيْ: تَبْلِيغٌ وَعِظَةٌ، لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا، وَلِيُخَوَّفُوا، بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ، أَيْ: لِيَسْتَدِلُّوا بِهَذِهِ الْآيَاتِ عَلَى وحدانية الله، وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ، أَيْ:
لِيَتَّعِظَ أُولُو الْعُقُولِ.
تفسير سورة الحجر
مكية وهي تسعة وتسعون آية
[سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
الر [قِيلَ] [2] مَعْنَاهُ أَنَا اللَّهُ أَرَى، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ، أَيْ: هَذِهِ آيَاتُ الْكِتَابِ، وَقُرْآنٍ أَيْ: وَآيَاتُ قُرْآنٍ، مُبِينٍ، أَيْ: بَيَّنَ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ وَالْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ ذَكَرَ الْكِتَابَ ثُمَّ قَالَ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ وَكِلَاهُمَا وَاحِدٌ؟ قُلْنَا: قَدْ قِيلَ كل واحد منهما يُفِيدُ فَائِدَةً أُخْرَى فَإِنَّ الْكِتَابَ مَا يُكْتَبُ وَالْقُرْآنُ مَا يُجْمَعُ بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَبِالْقُرْآنِ هَذَا الْكِتَابُ.
رُبَما قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَعَاصِمٌ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا [3] وَهُمَا لُغَتَانِ، وَرُبَّ لِلتَّقْلِيلِ وَكَمْ لِلتَّكْثِيرِ، وَرُبَّ تَدْخُلُ عَلَى الِاسْمِ، وَرُبَمَا عَلَى الْفِعْلِ، يُقَالُ: رُبَّ رَجُلٍ جَاءَنِي وَرُبَمَا جَاءَنِي رَجُلٌ، وَأَدْخَلَ مَا هَاهُنَا لِلْفِعْلِ بَعْدَهَا. يَوَدُّ، يَتَمَنَّى، الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْحَالِ [4] الَّتِي يَتَمَنَّى الْكَافِرُ فِيهَا الْإِسْلَامَ، قَالَ الضَّحَّاكُ: حَالَةُ الْمُعَايَنَةِ. وَقِيلَ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ حِينَ يُخْرِجُ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النار.
__________
(1) تصحف في المخطوط «تهيا» .
(2) زيادة عن المخطوط. [.....]
(3) في المطبوع «بتشديدهما» .
(4) في المطبوع «الحالة» .(3/49)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
«1231» وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ النَّارِ فِي النَّارِ وَمَعَهُمْ مَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ قَالَ الْكَفَّارُ لِمَنْ فِي النَّارِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَلَسْتُمْ مُسْلِمِينَ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالُوا فَمَا أَغْنَى عَنْكُمْ إِسْلَامُكُمْ وَأَنْتُمْ مَعَنَا فِي النَّارِ، قَالُوا: كَانَتْ لَنَا ذُنُوبٌ فأخذنا بها فيغفر الله لَهُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ فَيَأْمُرُ بِكُلِّ مَنْ كَانَ مَنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ فِي النَّارِ فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا فَحِينَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ» .
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ رُبَمَا وَهِيَ لِلتَّقْلِيلِ وَهَذَا التَّمَنِّي يكثر من الْكُفَّارُ؟ قُلْنَا: قَدْ تُذْكَرُ رُبَمَا لِلتَّكْثِيرِ أَوْ أَرَادَ أَنَّ شُغْلَهُمْ بِالْعَذَابِ لَا يُفَرِّغُهُمْ لِلنَّدَامَةِ إِنَّمَا يَخْطُرُ ذَلِكَ بِبَالِهِمْ أَحْيَانًا.
ذَرْهُمْ، يَا مُحَمَّدُ يَعْنِي الَّذِينَ كَفَرُوا، يَأْكُلُوا فِي الدُّنْيَا، وَيَتَمَتَّعُوا، مِنْ لذاتها [1] وَيُلْهِهِمُ، يَشْغَلُهُمْ، الْأَمَلُ، عَنِ الْأَخْذِ بِحَظِّهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، إِذَا وَرَدُوا الْقِيَامَةَ وَذَاقُوا وَبَالَ مَا صَنَعُوا، وَهَذَا تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: ذَرْهُمْ تَهْدِيدٌ وَقَوْلُهُ: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، تَهْدِيدٌ آخَرُ، فَمَتَى يَهْنَأُ الْعَيْشُ بَيْنَ تَهْدِيدَيْنِ. وَالْآيَةُ نَسَخَتْهَا آيَةُ القتال.
[سورة الحجر (15) : الآيات 4 الى 11]
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11)
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ، أَيْ: مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ، إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ، أَيْ: أَجَلٌ مَضْرُوبٌ لَا يُتَقَدَّمُ عَلَيْهِ وَلَا يَأْتِيهِمُ العذاب حتى يبلغوه ولا يتأخروا عنه [2] .
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها، من صلة أَيْ: مَا تَسْبِقُ أُمَّةٌ أَجْلَهَا، وَما يَسْتَأْخِرُونَ، أَيِ: الْمَوْتُ لَا
__________
1231- حسن بشواهده. أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» 843 والواحدي في «الوسيط» 3/ 39 والطبراني كما في «المجمع» 7/ 45 من حديث أبي موسى الأشعري.
- وقال الهيثمي: وفيه خالد بن نافع الأشعري قال أبو داود: متروك: قال الذهبي: هذا تجاوز في الحد، فلا يستحق الترك، فقد حدّث عنه أحمد بن حنبل وغيره، وبقية رجاله ثقات اهـ.
- وأخرجه الطبري 21005 من حديث أبي موسى قال: بلغنا أنه إذا كان يوم القيامة.... فذكره وفي آخره ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ......
- وللحديث شواهد يتقوى بها منها:
- حديث ابن عباس أخرجه الطبري 21007 والحاكم 2/ 353 وصححه ووافقه الذهبي مع أن في إسناده عطاء بن السائب اختلط.
- وحديث أنس أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» 844 وإسناده منقطع.
الخلاصة: هو حديث حسن بشواهده، وصححه الألباني في «ظلال الجنة» 843 و844، وحسبه أن يكون حسنا، والله أعلم.
(1) في المطبوع وحده «لذاتهم» .
(2) كذا في المخطوطتين، وفي المطبوع وط «ولا يتأخر عنهم» .(3/50)
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)
يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ، وَقِيلَ: الْعَذَابُ. وقيل: الأجل الْمَضْرُوبُ.
وَقالُوا يَعْنِي: مُشْرِكِي مَكَّةَ، يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ، أَيِ: الْقُرْآنُ وَأَرَادُوا بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، وَذَكَرُوا تَنْزِيلَ الذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ.
لَوْ مَا، هَلَّا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ، شَاهِدِينَ لَكَ بِالصِّدْقِ عَلَى مَا تَقُولُ إِنْ الله أرسلك، إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، أَنَّكَ نَبِيٌّ.
مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ، قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ بِنُونَيْنِ الْمَلائِكَةَ نَصْبٌ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ بِالتَّاءِ وَضَمَّهَا وَفَتْحِ الزَّايِ [والملائكة رَفْعٌ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ وَفَتْحِهَا وَفَتْحِ الزَّايِ] [1] الْمَلائِكَةَ رَفْعٌ.
إِلَّا بِالْحَقِّ أَيْ: بِالْعَذَابِ وَلَوْ نَزَلَتْ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ لَعَجَّلُوا بِالْعَذَابِ، وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ أَيْ:
مُؤَخَّرِينَ وَقَدْ كَانَ الْكُفَّارُ يَطْلُبُونَ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ عِيَانًا فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا. وَمَعْنَاهُ إِنَّهُمْ لَوْ نَزَلُوا عيانا لَزَالَ عَنِ الْكُفَّارِ الْإِمْهَالُ وَعُذِّبُوا فِي الْحَالِ.
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ، يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ، أَيْ: نَحْفَظُ الْقُرْآنَ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ يَزِيدُوا فِيهِ أَوْ يَنْقُصُوا مِنْهُ أَوْ يُبَدِّلُوا [2] ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فُصِّلَتْ:
42] وَالْبَاطِلُ: هُوَ إِبْلِيسُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَلَا أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ. وَقِيلَ: الْهَاءُ فِي لَهُ رَاجِعَةٌ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أي: إنا لمحمد حافظون [3] مِمَّنْ أَرَادَهُ بِسُوءٍ كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ، أَيْ: رُسُلًا، فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ، أَيْ: [فِي الْأُمَمِ وَالْقُرُونِ الماضية] [4] والشيعة هم القوم المجتمعة المتفقة كلمتهم [على رأي واحد] [5] .
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) ، كَمَا فَعَلُوا بِكَ ذَكَرَهُ تَسْلِيَةً لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[سورة الحجر (15) : الآيات 12 الى 17]
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16)
وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17)
كَذلِكَ نَسْلُكُهُ، أَيْ: كَمَا سَلَكْنَا الْكُفْرَ وَالتَّكْذِيبَ وَالِاسْتِهْزَاءَ بِالرُّسُلِ فِي قُلُوبِ شِيَعِ الْأَوَّلِينَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ نُدْخِلُهُ، فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ، يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ قَوْمَكَ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ.
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ، يَعْنِي: لَا يُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ، وَقَدْ خَلَتْ، مَضَتْ، سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، أَيْ: وَقَائِعُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِهْلَاكِ فِيمَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ يُخَوِّفُ أَهْلَ مَكَّةَ.
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ، يَعْنِي: عَلَى الَّذِينَ يَقُولُونَ لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ، بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ [أي] [6] فظلت الملائكة يعرجون فيه وَهُمْ يَرَوْنَهَا عِيَانًا، هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ فَظَلَّ هؤلاء الكفار يعرجون فيه أي: يصعدون. والأول أصح.
__________
(1) سقط من المخطوط.
(2) زيد في المطبوع وحده «بغيره» .
(3) في المطبوع «لحافظون» .
(4) العبارة في المخطوط «في أمم الأولين» .
(5) زيد في المطبوع.
(6) زيادة عن المخطوط.(3/51)
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ، سدت، أَبْصَرْنا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: سُحِرَتْ [1] ، وَقَالَ قَتَادَةُ أُخِذَتْ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عَمِيَتْ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ «سُكِرَتْ» بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ: حُبِسَتْ وَمُنِعَتِ النَّظَرَ كَمَا يُسْكَرُ النَّهْرُ لِحَبْسِ الْمَاءِ، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ، أَيْ: عُمِلَ فِينَا السِّحْرُ فَسَحَرَنَا محمد.
قوله تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً، وَالْبُرُوجُ هِيَ النُّجُومُ الْكِبَارُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الظُّهُورِ، يُقَالُ:
تَبَرَّجَتِ الْمَرْأَةُ إذا [2] ظَهَرَتْ، وَأَرَادَ بِهَا الْمَنَازِلَ الَّتِي تَنْزِلُهَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالْكَوَاكِبُ السَّيَّارَةُ، وَهِيَ اثْنَا عَشَرَ بُرْجًا الْحَمَلُ وَالثَّوْرُ وَالْجَوْزَاءُ وَالسَّرَطَانُ وَالْأَسَدُ وَالسُّنْبُلَةُ وَالْمِيزَانُ وَالْعَقْرَبُ وَالْقَوْسُ وَالْجَدْيُ وَالدَّلْوُ وَالْحُوتُ. وَقَالَ [3] عَطِيَّةُ: هِيَ قُصُورٌ فِي السَّمَاءِ عَلَيْهَا الْحَرَسُ، وَزَيَّنَّاها، أَيِ: السَّمَاءَ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ. لِلنَّاظِرِينَ.
وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) ، مَرْجُومٍ. وَقِيلَ: مَلْعُونٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتِ الشَّيَاطِينُ لَا يحجبون عن السموات وَكَانُوا يَدْخَلُونَهَا، [وَيَأْتُونَ بِأَخْبَارِهَا فَيُلْقُونَ على الكهنة ما سمعوا] [4] فَلَمَّا وُلِدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ منعوا من ثلاث سماوات فَلَمَّا وُلِدَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم منعوا من السموات [كلها] [5] أَجْمَعَ فَمَا مِنْهُمْ مَنْ أَحَدٍ يُرِيدُ اسْتِرَاقَ السَّمْعِ إِلَّا رُمِيَ بِشِهَابٍ فَلَمَّا مُنِعُوا مِنْ تِلْكَ الْمَقَاعِدِ ذَكَرُوا ذَلِكَ لِإِبْلِيسَ، فَقَالَ: لَقَدْ حَدَثَ فِي الْأَرْضِ حَدَثٌ [6] ، قال: فبعثهم [ينظرون ما الخبر] [7] فَوَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو الْقُرْآنَ فَقَالُوا هذا والله الحدث [8] .
[سورة الحجر (15) : الآيات 18 الى 22]
إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22)
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، لَكِنَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ، فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ، وَالشِّهَابُ الشُّعْلَةُ مِنَ النَّارِ وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيَاطِينَ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَيَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَيُرْمَوْنَ بِالْكَوَاكِبِ فلا تخطىء أَبَدًا فَمِنْهُمْ مَنْ تَقْتُلُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ تُحْرِقُ وَجْهَهُ [أَوْ جَنْبَهُ أَوْ يَدَهُ] [9] أَوْ حَيْثُ يَشَاءُ اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَخْبِلُهُ فَيَصِيرُ غُولًا يُضِلُّ النَّاسَ فِي الْبَوَادِي.
«1232» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [10] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يوسف ثنا
__________
1232- إسناده صحيح على شرط البخاري، الحميدي هو عبد الله بن الزبير، سفيان هو ابن عيينة، عمرو هو ابن دينار، عكرمة هو أبو عبد الله مولى ابن عباس.
- رواه المصنف من طريق الحميدي، وهو في «مسنده» 1151 عن سفيان بهذا الإسناد.
(1) في المخطوط «سجرت» .
(2) في المطبوع وط «أي» . [.....]
(3) زيد في المطبوع «ابن» .
(4) العبارة في المطبوع «ويأتون بأخبارها فيلقونها على الكهنة» .
(5) زيادة عن المخطوط.
(6) في المطبوع «حادث» .
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) في المطبوع «حدث» .
(9) زيد في المطبوع وط.
(10) زيادة عن المخطوط.(3/52)
محمد بن إسماعيل ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عَمْرٌو قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا خُضْعَانًا لِقَوْلِهِ كَأَنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قالوا: الذي قَالَ الْحَقُّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، وَوَصَفَ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَّفَهَا [1] وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَيَسْمَعُ [أَحَدُهُمُ] [2] الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يَكُونُ كَذَا وَكَذَا، فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ» .
«1233» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [3] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثَنَا محمد [حدثنا] [4] ابن أبي مريم ثنا الليث ثنا ابْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ وَهُوَ السَّحَابُ فَتَذْكُرُ الْأَمْرَ الَّذِي قُضِيَ فِي السَّمَاءِ فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السمع فتسمعه فتوحي إِلَى الْكُهَّانِ فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ شَاعِرٌ مِنَ الْعَرَبِ قَبْلَ زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ فِي بَدْءِ أَمْرِهِ وَكَانَ ذلك أساسا لنبوته.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقٍ: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ فَزِعَ لِلرَّمْيِ بِالنُّجُومِ هَذَا الْحَيُّ مِنْ ثَقِيفٍ وإنهم جاؤوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ أَحَدُ بَنِي عِلَاجٍ وَكَانَ أَهْدَى [5] الْعَرَبِ فَقَالُوا لَهُ: أَلَمْ تَرَ مَا حَدَثَ فِي السَّمَاءِ مِنَ الْقَذْفِ بِالنُّجُومِ؟ قَالَ: بَلَى فَانْظُرُوا فَإِنْ كَانَتْ مَعَالِمُ النُّجُومِ الَّتِي يُهْتَدَى بِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَتُعْرَفُ بِهَا الْأَنْوَاءُ مِنَ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ لِمَا يُصْلِحُ النَّاسَ مِنْ مَعَايِشِهِمْ هِيَ الَّتِي يُرْمَى بِهَا فَهِيَ وَاللَّهِ طي الدنيا وهلاك الخلق الذين [6] فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ نُجُومًا غَيْرَهَا وهي ثَابِتَةٌ عَلَى حَالِهَا فَهَذَا الْأَمْرُ أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا الْخَلْقِ.
قَالَ مَعْمَرٌ قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ: أَكَانَ يُرْمَى بِالنُّجُومِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى:
- وأخرجه البخاري 4800 من طريق الحميدي به.
- وأخرجه البخاري 4701 و7481 وأبو داود 3989 والترمذي 3223 وابن ماجه 194 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 147 وابن حبان 36 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 235- 236 وابن مندة في «الإيمان» 700 من طرق عن سفيان به.
__________
1233- إسناده صحيح على شرط البخاري، محمد هو ابن يحيى الذهلي، ابن أبي مريم هو سعيد بن الحكم، ابن جعفر هو محمد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 3210 عن محمد بهذا الإسناد.
- وعلقه البخاري 3288 من طريق الأسود عن عروة به.
- وأخرجه البخاري 5762 و6213 و7561 ومسلم 2228 وعبد الرزاق 20347 وابن حبان 6136 وأحمد 6/ 87 والبيهقي 8/ 138 والبغوي في «شرح السنة» 3151 من طرق عن الزهري عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عروة عن عائشة بنحوه.
(1) تصحف في المطبوع «فحدقها» .
(2) زيد في المطبوع.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) سقط من المطبوع.
(5) في المخطوط «أدهى» . [.....]
(6) في المطبوع وط «الذي» .(3/53)
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ [الجن: 9] الآية؟ قَالَ: غُلِّظَتْ [1] وَشُدِّدَ أَمْرُهَا حِينَ [2] بُعِثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّ الرجم كان قبل مبعثه ولكن لم يكن فِي شِدَّةِ الْحِرَاسَةِ [3] بَعْدَ مَبْعَثِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ النَّجْمَ يَنْقَضُّ فَيَرْمِي الشَّيَاطِينَ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى مَكَانِهِ والله أعلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَرْضَ مَدَدْناها، بَسَطْنَاهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، يُقَالُ: إِنَّهَا مسيرة خمسمائة عام [4] فِي مِثْلِهَا دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِ الْكَعْبَةِ. وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ، جِبَالًا ثَوَابِتَ، وَقَدْ كَانَتِ الْأَرْضُ تَمِيدُ إِلَى أَنْ أَرْسَاهَا اللَّهُ بِالْجِبَالِ، وَأَنْبَتْنا فِيها، أي: [5] الْأَرْضِ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ، بقدر معلوم.
وقيل: يعني الجبال وهي جواهرها [6] مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَغَيْرِهَا، حَتَّى [7] الزَّرْنِيخِ وَالْكُحْلِ كُلُّ ذَلِكَ يُوزَنُ وَزْنًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي تُوزَنُ [8] .
وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ، جَمْعُ مَعِيشَةٍ، قِيلَ: أَرَادَ بِهَا الْمَطَاعِمَ والمشارب والملابس. وقيل: مَا يَعِيشُ بِهِ الْآدَمِيُّ فِي الدُّنْيَا، وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ، [أي: جعلنا فيها معايش مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ] [9] مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ، أَيْ: جَعَلْنَاهَا [10] لَكُمْ وكفيناكم رزقها ومَنْ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى مَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النُّورِ: 45] ، وَقِيلَ: مَنْ فِي مَوْضِعِهَا لِأَنَّهُ أَرَادَ الْمَمَالِيكَ مَعَ الدَّوَابِّ. وَقِيلَ:
مَنْ فِي مَحَلِّ الْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْكَافِ وَالْمِيمِ فِي لكم.
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ، أَيْ: وَمَا مِنْ شَيْءٍ، إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ، أَيْ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ [11] الْمَطَرَ، وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، لِكُلِّ أَرْضٍ حَدٌّ مقدر، ويقال: ما تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ قَطْرَةٌ إِلَّا ومعها ملك يسوقها [إلى] [12] حَيْثُ يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيَشَاءُ، وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: فِي الْعَرْشِ مِثَالُ جَمِيعِ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَهُوَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ.
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ أَيْ: حَوَامِلَ لِأَنَّهَا تَحْمِلُ الْمَاءَ إِلَى السَّحَابِ، وَهُوَ جَمْعُ لَاقِحَةٍ، يُقَالُ: نَاقَةٌ لَاقِحَةٌ إِذَا حَمَلَتِ الْوَلَدَ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُرْسِلُ اللَّهُ الرِّيحَ فتحمل الماء فتمري [13] به السحاب فتدر كَمَا تَدِرُّ اللِّقْحَةُ ثُمَّ تُمْطِرُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَرَادَ بِاللَّوَاقِحِ الْمَلَاقِحَ وَاحِدَتُهَا مُلَقِّحَةٌ، لِأَنَّهَا تُلَقِّحُ الْأَشْجَارَ، قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: يَبْعَثُ اللَّهُ الرِّيحَ الْمُبَشِّرَةَ فَتَقُمُّ الْأَرْضَ قَمًّا ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ الْمُثِيرَةَ فَتُثِيرُ السَّحَابَ ثُمَّ يَبْعَثُ الله المؤلفة فتؤلف السَّحَابَ بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ فَتَجْعَلُهُ رُكَامًا، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّوَاقِحَ فَتُلَقِّحُ الشَّجَرَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: لَا تُقْطَرُ قَطْرَةٌ مِنَ السَّحَابِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ تَعْمَلَ الرِّيَاحُ الْأَرْبَعُ فِيهِ، فَالصَّبَا تَهَيُّجُهُ وَالشَّمَالُ تَجْمَعُهُ وَالْجَنُوبُ تَذْرُهُ وَالدَّبُورُ تُفَرِّقُهُ، وَفِي الْخَبَرِ: أَنَّ اللِّقْحَ رِيَاحُ الْجَنُوبِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: ما هبت ريح
__________
(1) في المطبوع «غلظ» .
(2) في المطبوع «حيث» .
(3) زيد في المطبوع «فصار شدة الحراسة والاهتمام بالرحم» .
(4) في المطبوع «سنة» .
(5) زيد في المطبوع «في» .
(6) في المطبوع «جواهر» .
(7) في المخطوط «من» .
(8) زيد في المطبوع وط، «وزنا» وليس في المخطوط والطبري 21088.
(9) زيد في المطبوع وط.
(10) في المطبوع وحده «جعلنا» .
(11) في المخطوط «بها» .
(12) زيادة عن المخطوط.
(13) في المطبوع «فتمر» وفي المخطوط «فترمي» والمثبت عن تفسير الطبري 21097 و21098 و21099. [.....](3/54)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
الجنوب إلا وانبعثت [1] عَيْنًا غَدِقَةً. وَأَمَّا الرِّيحُ الْعَقِيمُ فَإِنَّهَا تَأْتِي بِالْعَذَابِ وَلَا تُلَقِّحُ.
«1234» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ أَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ أَنَا الرَّبِيعُ أَنَا الشَّافِعِيُّ أنا من لا أتهم [2] ثنا الْعَلَاءُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا هَبَّتْ رِيحٌ قَطُّ إِلَّا جَثَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رَحْمَةً وَلَا تَجْعَلْهَا عَذَابًا، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحًا وَلَا تَجْعَلْهَا رِيحًا» .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي كِتَابِ الله عزّ وجلّ: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً [فصلت: 16] إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذَّارِيَاتِ] . وَقَالَ: وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ. وقال: يرسل الرياح مبشرات [قرأ حمزة وحده وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ على الوحدة والوجه أن الريح يراد بها الجنس والكثرة، ولهذا وصفت بالجمع في قوله لَواقِحَ، وقرأ الباقون الرِّياحَ بالألف على الجمع، ووجهه ظاهر وذلك أنها وصفت بقوله لَواقِحَ وهي جماعة فينبغي أن يكون الموصوف أيضا جماعة ليتوافقا. قَوْلُهُ] [3] . فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ، أَيْ: جَعَلَنَا الْمَطَرَ لَكُمْ سَقْيًا، يُقَالُ: أَسْقَى فُلَانٌ فُلَانًا إِذَا جَعَلَ لَهُ سَقْيًا وَسَقَاهُ إِذَا أَعْطَاهُ مَا يَشْرَبُ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: سَقَيْتُ الرَّجُلَ مَاءً وَلَبَنًا إِذَا كَانَ لِسَقْيِهِ، فَإِذَا جَعَلُوا له ماء لشرب أرضه أو ماشيته [4] [يقال] [5] أَسْقَيْتُهُ. وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ، يَعْنِي الْمَطَرَ فِي خَزَائِنِنَا لَا فِي خَزَائِنِكُمْ، وَقَالَ سُفْيَانُ: بِمَانِعِينَ.
[سورة الحجر (15) : الآيات 23 الى 30]
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27)
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) ، بِأَنْ نُمِيتَ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ، فَلَا يَبْقَى حَيٌّ سِوَانَا، وَالْوَارِثُ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قِيلَ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ مَصِيرَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ.
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ بِالْمُسْتَقْدِمِينَ الْأَمْوَاتَ وَبِالْمُسْتَأْخِرِينَ الْأَحْيَاءَ.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْمُسْتَقْدِمُونَ مَنْ خَلَقَ اللَّهُ وَالْمُسْتَأْخِرُونَ مَنْ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ. [قَالَ مُجَاهِدٌ] [6] : [الْمُسْتَقْدِمُونَ الْقُرُونُ الْأُولَى وَالْمُسْتَأْخِرُونَ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ الْحَسَنُ] [7] :
الْمُسْتَقْدِمُونَ فِي الطَّاعَةِ وَالْخَيْرِ، وَالْمُسْتَأْخِرُونَ الْمُبْطِئُونَ عَنْهَا. وَقِيلَ: الْمُسْتَقْدِمُونَ فِي الصُّفُوفِ فِي الصَّلَاةِ وَالْمُسْتَأْخِرُونَ فِيهَا.
__________
1234- إسناده ضعيف جدا. شيخ الشافعي هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وهو متروك، وكذبه القطان وابن معين، وكان الشافعي يوثقه!؟.
- رواه المصنف من طريق الشافعي، وهو في «مسنده» 1/ 175 بهذا الإسناد. وهو إسناد ساقط، والخبر شبه موضوع.
(1) في المطبوع وط «وبعث» .
(2) زيد في المطبوع وط «بحديثه» وليست في المخطوط و «مسند الشافعي» .
(3) زيد في المطبوع وحده.
(4) في المطبوع وط «ودوابه» .
(5) العبارة في المطبوع «تقول العرب» .
(6) في المخطوط «وقيل» .
(7) سقط من المخطوط.(3/55)
«1235» وَذَلِكَ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْرُجْنَ إِلَى صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فَيَقِفْنَ خَلْفَ الرِّجَالِ، فَرُبَّمَا كَانَ مِنَ الرِّجَالِ مَنْ فِي قَلْبِهِ رِيبَةٌ فَيَتَأَخَّرُ إلى آخر صفوف الرجال [ليقرب من النساء] [1] ، وَمِنَ النِّسَاءِ مَنْ كَانَتْ فِي قَلْبِهَا رِيبَةٌ فَتَتَقَدَّمُ إِلَى أَوَّلِ صُفُوفِ النِّسَاءِ لِتَقْرَبَ مِنَ الرِّجَالِ. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
«1236» وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا» .
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: أَرَادَ الْمُصَلِّينَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَالْمُؤَخِّرِينَ إِلَى آخِرِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَرَادَ بِالْمُسْتَقْدِمِينَ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ فِي صَفِّ الْقِتَالِ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: أَرَادَ مَنْ يُسَلِّمُ وَمَنْ لَا يُسَلِّمُ.
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) ، عَلَى مَا عَلِمَ مِنْهُمْ. وَقِيلَ: يُمِيتُ [2] الْكُلَّ ثُمَّ يَحْشُرُهُمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ.
«1237» أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمُؤَذِّنُ أَنَا أبو سعيد الصيرفي ثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ ثَنَا أحمد بن عبد الجبار ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ مَاتَ عَلَى شَيْءٍ بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ، يَعْنِي: آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُمِّيَ إِنْسَانًا لِظُهُورِهِ وَإِدْرَاكِ الْبَصَرِ إِيَّاهُ.
وَقِيلَ: مِنَ النِّسْيَانِ لِأَنَّهُ عَهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ. مِنْ صَلْصالٍ، وَهُوَ الطِّينُ الْيَابِسُ الَّذِي إِذَا نَقَرْتَهُ سَمِعْتَ لَهُ صَلْصَلَةً، أَيْ: صَوْتًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الطِّينُ الْحُرُّ الطيب الذي إذا نَضَبَ عَنْهُ الْمَاءُ تَشَقَّقَ فَإِذَا حُرِّكَ تَقَعْقَعَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الطِّينُ الْمُنْتِنُ. وَاخْتَارَهُ الْكِسَائِيُّ، وَقَالَ: هُوَ مِنْ صَلَّ اللَّحْمُ [وَأَصَلَّ] [3] ، إذا
__________
1235- خبر منكر شبه موضوع، مداره على نوح بن قيس، وفيه لين، وقد رواه غير واحد عن أبي الجوزاء قوله دون القصة.
والحديث أخرجه الترمذي 3122 والنسائي في «الكبرى» 12273 وابن ماجه 1046 والحاكم 2/ 353 وابن حبان 401 والطيالسي 2712 وأحمد 1/ 305 والطبراني 12/ 171 والطبري 21136 و21137 من طريق عن نوح بن قيس عن عمرو بن مالك النكري عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ عَنِ ابْنِ عباس بأتم منه وذكره ابن كثير في «تفسيره» 2/ 678- 679 وقال:
غريب جدا، وفيه نكارة شديدة. وانظر «تفسير الشوكاني» 1341 و «الكشاف» 577 و «أحكام القرآن» 1316 بتخريجي، فالسورة مكية بإجماع، وصلاة الجماعة مدنية.
1236- صحيح. أخرجه مسلم 440 وأبو داود 678 والترمذي 224 والنسائي 2/ 93- 94 وابن ماجه 1000 وأحمد 2/ 336 و354 و367 والطيالسي 2408 والبيهقي 3/ 97 والبغوي في «شرح السنة» 816 من طرق عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعا.
- وفي الباب من حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد 3/ 3 و16 وأبو يعلى 1102.
1237- حديث صحيح، إسناده ضعيف لضعف أحمد بن عبد الجبار، وهو العطاردي، لكن توبع هو ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- أبو معاوية هو محمد بن خازم، الأعمش هو سليمان بن مهران، أبو سفيان هو طلحة بن نافع.
- وهو في «شرح السنة» 4101 بهذا الإسناد.
- وأخرجه أبو يعلى 2269 عن ابن نمير عن أبي معاوية به.
- وأخرجه مسلم 2878 وأحمد 3/ 331 وأبو يعلى 10901 من طرق عن الأعمش به.
(1) زيد في المطبوع وحده.
(2) في المطبوع «يملك» .
(3) زيادة عن المخطوط. [.....](3/56)
أَنْتَنَ، مِنْ حَمَإٍ، وَالْحَمَأُ: الطِّينُ [1] الْأَسْوَدُ، مَسْنُونٍ أَيْ: مُتَغَيِّرٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ الْمُنْتِنُ الْمُتَغَيِّرُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ الْمَصْبُوبُ. تقول العرب: سننت الماء إذا [2] صَبَبْتُهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ التُّرَابُ الْمُبْتَلُّ الْمُنْتِنُ جُعِلَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ.
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَمَّرَ طِينَةَ آدَمَ وَتَرَكَهُ حَتَّى صَارَ مُتَغَيِّرًا أَسْوَدَ، ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَبُو الْجِنِّ كَمَا أَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ إِبْلِيسُ خُلِقَ قَبْلَ آدَمَ.
وَيُقَالُ: الْجَانُّ أَبُو الْجِنِّ وَإِبْلِيسُ أَبُو الشَّيَاطِينِ، وَفِي الْجِنِّ مُسْلِمُونَ وَكَافِرُونَ، وَيَحْيَوْنَ وَيَمُوتُونَ، وَأَمَّا الشَّيَاطِينُ فَلَيْسَ مِنْهُمْ مُسْلِمُونَ وَيَمُوتُونَ إِذَا مَاتَ إِبْلِيسُ.
وَذَكَرَ [3] وَهْبٌ: إِنَّ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يُولَدُ لَهُمْ [4] وَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ بِمَنْزِلَةِ الْآدَمِيِّينَ، وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الرِّيحِ لَا يَأْكُلُونَ وَلَا يَشْرَبُونَ وَلَا يَتَوَالَدُونَ. مِنْ نارِ السَّمُومِ، وَالسَّمُومُ رِيحٌ حَارَّةٌ تَدْخُلُ مَسَامَّ الْإِنْسَانِ فَتَقْتُلُهُ. يقال: السَّمُومُ بِالنَّهَارِ وَالْحَرُورُ بِاللَّيْلِ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ: السَّمُومُ نَارٌ لَا دُخَانَ لَهَا، وَالصَّوَاعِقُ تَكُونُ مِنْهَا وَهِيَ نَارٌ بَيْنَ السماء وبين الحجاب، فإذا أراد الله أن يحدث أَمْرًا خَرَقَتِ الْحِجَابَ فَهَوَتْ [5] إِلَى ما أمرت به فَالْهَدَّةُ الَّتِي تَسْمَعُونَ فِي خَرْقِ ذَلِكَ الْحِجَابِ. [وَقِيلَ: نَارُ السَّمُومِ لَهَبُ النَّارِ] [6] . وَقِيلَ: مِنْ نَارِ السَّمُومِ أَيْ: مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ.
وَعَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ إِبْلِيسُ مِنْ حَيٍّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ خُلِقُوا مِنْ نَارِ السَّمُومِ وَخُلِقَتِ الْجِنُّ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي الْقُرْآنِ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، فَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنَ النُّورِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً، أَيْ: سَأَخْلُقُ بَشَرًا، مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ.
فَإِذا سَوَّيْتُهُ، عَدَّلْتُ صُورَتَهُ، وَأَتْمَمْتُ خَلْقَهُ، وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي، فَصَارَ بَشَرًا حَيًّا وَالرُّوحُ جِسْمٌ لَطِيفٌ يَحْيَا بِهِ الإنسان، أضاف [الروح] [7] إِلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا، فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ، سُجُودَ تَحِيَّةٍ لَا سُجُودَ عِبَادَةٍ.
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ، الَّذِينَ أُمِرُوا بِالسُّجُودِ، كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قَالَ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِقَوْلِهِ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ؟ قُلْنَا: زَعَمَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا، وَذَكَرَ الْمُبَرِّدُ أَنَّ قَوْلَهُ: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كَانَ مِنَ الْمُحْتَمَلِ أَنَّهُ سَجَدَ بَعْضُهُمْ فَذَكَرَ كُلُّهُمْ لِيَزُولَ هَذَا الْإِشْكَالُ، ثُمَّ كَانَ يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ سَجَدُوا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَزَالَ ذَلِكَ الْإِشْكَالُ بِقَوْلِهِ: أَجْمَعُونَ.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَلَمْ يَفْعَلُوا فَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ [8] ، ثُمَّ قَالَ لِجَمَاعَةٍ أُخْرَى: اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا.
__________
(1) زيد في المطبوع «المنتن» .
(2) في المطبوع وط «أي» والمثبت عن المخطوط والقرطبي 10/ 22.
(3) زيد في المخطوط «ابن» .
(4) تصحف في المطبوع «يولدهم» .
(5) في المطبوع «فهو» .
(6) زيد في المطبوع وط.
(7) في المطبوع «وأضافه» .
(8) في المطبوع «فأحرقهم» .(3/57)
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
[سورة الحجر (15) : الآيات 31 الى 41]
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
قالَ هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ، أراد إني أَفْضَلُ مِنْهُ لِأَنَّهُ طِينِيٌّ وَأَنَا نَارِيٌّ وَالنَّارُ تَأْكُلُ الطِّينَ.
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أَيْ: مِنَ الْجَنَّةِ فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، طَرِيدٌ.
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) ، قِيلَ: إن أهل السموات يَلْعَنُونَ إِبْلِيسَ كَمَا يَلْعَنُهُ أَهْلُ الْأَرْضِ فَهُوَ مَلْعُونٌ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) ، أَرَادَ [الْخَبِيثُ] [1] أَنْ لَا يَمُوتَ.
قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) .
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) ، أَيِ: الْوَقْتِ الَّذِي يَمُوتُ فِيهِ الْخَلَائِقُ وَهُوَ النَّفْخَةُ الْأُولَى. وَيُقَالُ:
إِنَّ مُدَّةَ مَوْتِ إِبْلِيسَ أَرْبَعُونَ سَنَةً وَهِيَ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، ويقال: إنه لَمْ تَكُنْ إِجَابَةُ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ فِي الْإِمْهَالِ إِكْرَامًا لَهُ بَلْ كَانَتْ [2] زِيَادَةً فِي بَلَائِهِ وَشَقَائِهِ.
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي، أَضْلَلْتَنِي. وَقِيلَ: خَيَّبْتَنِي مِنْ رَحْمَتِكَ، لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، حُبَّ الدُّنْيَا وَمَعَاصِيَكَ، وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ، أَيْ: لَأُضِلَّنَّهُمْ، أَجْمَعِينَ.
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) ، المؤمنين الذين أخلصوا لك بالطاعة وَالتَّوْحِيدَ، وَمَنْ فَتَحَ اللَّامَ أَيْ من أخلصته بتوحيدك فهديته واصطفيته.
قالَ، اللَّهُ تَعَالَى، هَذَا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ صراط [إليّ] [3] مستقيم [و] [4] قال مُجَاهِدٌ: الْحَقُّ يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تعالى وعليه طريقه [لا يعرج على] [5] شَيْءٌ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يَعْنِي عَلَيَّ الدَّلَالَةُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: هَذَا عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِمَنْ يُخَاصِمُهُ طَرِيقُكَ [عَلَيَّ] [6] ، أَيْ: لَا تُفْلِتُ مِنِّي، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) [الْفَجْرِ: 14] . وَقِيلَ: مَعْنَاهُ عَلَى اسْتِقَامَتِهِ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْهِدَايَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ سِيرِينَ وَقَتَادَةُ وَيَعْقُوبُ «عَلِيٌّ» [7] مِنَ الْعُلُوِّ أَيْ: رَفِيعٌ وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْهُ رَفِيعٌ أَنْ يُنَالَ مُسْتَقِيمٌ أَنْ يمال.
__________
(1) زيد في المطبوع وط.
(2) في المخطوط «كان» .
(3) سقط من المطبوع.
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) العبارة في المطبوع وط «ولا يعوج عليه» والمثبت عن المخطوط والطبري 21176 و «الوسيط» 3/ 45.
(6) سقط من المطبوع. [.....]
(7) في المطبوع «على» .(3/58)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
[سورة الحجر (15) : الآيات 42 الى 45]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ، أَيْ: قُوَّةٌ. قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: يَعْنِي عَلَى قُلُوبِهِمْ. وَسُئِلَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: مَعْنَاهُ لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ تُلْقِيهِمْ فِي ذَنْبٍ يضيق عنه عفوي [ومغفرتي] [1] . وهؤلاء تنية الله الذين هداهم وَاجْتَبَاهُمْ. إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ.
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) ، يَعْنِي مَوْعِدَ إِبْلِيسَ وَمَنْ تَبِعَهُ.
لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ، أَطْبَاقٍ. قَالَ علي كرم الله وجهه: تَدْرُونَ كَيْفَ أَبْوَابُ النَّارِ هَكَذَا ووضع إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، أَيْ: سبعة أطباق [2] بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَإِنَّ اللَّهَ وَضَعَ الْجِنَانَ عَلَى الْعَرْضِ وَوَضَعَ النيران [أطباق] [3] بَعْضَهَا فَوْقَ بَعْضٍ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: النَّارُ سَبْعُ دَرَكَاتٍ أَوَّلُهَا جَهَنَّمُ ثُمَّ لَظَى ثُمَّ الْحُطَمَةُ ثُمَّ السَّعِيرُ ثُمَّ سَقَرُ ثُمَّ الْجَحِيمُ ثُمَّ الْهَاوِيَةُ. لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ، أَيْ: لِكُلِّ دَرَكَةٍ قَوْمٌ يَسْكُنُونَهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي الدَّرَكَةِ الْأُولَى أَهْلُ التَّوْحِيدِ الذين أُدْخِلُوا النَّارَ يُعَذَّبُونَ بِقَدْرِ ذُنُوبِهِمْ ثُمَّ يَخْرُجُونَ، وَفِي الثَّانِيَةِ النَّصَارَى، وَفِي الثَّالِثَةِ الْيَهُودُ، وَفِي الرَّابِعَةِ الصَّابِئُونَ، وَفِي الْخَامِسَةِ الْمَجُوسُ، وَفِي السَّادِسَةِ أَهْلُ الشِّرْكِ، وَفِي السَّابِعَةِ الْمُنَافِقُونَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النِّسَاءِ: 145] .
«1238» وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: [4] «ولجهنّم سَبْعَةُ أَبْوَابٍ بَابٌ مِنْهَا لِمَنْ سَلَّ السَّيْفَ عَلَى أُمَّتِي أَوْ قال على أمة محمد» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ، أَيْ: فِي بَسَاتِينَ وأنهار.
[سورة الحجر (15) : الآيات 46 الى 56]
ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55)
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56)
__________
1238- ضعيف. أخرجه الترمذي 3123 والبخاري في «تاريخه» 1/ 2/ 235 وضعفه الترمذي بقوله: غريب اهـ. وعلته جنيد هذا.
- جاء في «التهذيب» جنيد غير منسوب عن ابن عمر. قال أبو حاتم: حديثه عن ابن عمر مرسل. وذكره ابن حبان في «الثقات» اهـ.
فالخبر منقطع، وتفرد ابن حبان بتوثيقه فهاتان علتان للحديث.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «أبواب» .
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) زيد في المطبوع وحده «إن» .(3/59)
ادْخُلُوها أَيْ: يُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ، بِسَلامٍ، أَيْ: بِسَلَامَةٍ آمِنِينَ، مِنَ الْمَوْتِ وَالْخُرُوجِ وَالْآفَاتِ.
وَنَزَعْنا، أَخْرَجْنَا، مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ، هُوَ الشَّحْنَاءُ وَالْعَدَاوَةُ وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ، إِخْواناً، نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، عَلى سُرُرٍ جَمْعُ سَرِيرٍ مُتَقابِلِينَ، يُقَابِلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَا يَنْظُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى قَفَا صَاحِبِه. وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ فِي الْجَنَّةِ إِذَا وَدَّ أَنْ يَلْقَى أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ سَارَ سَرِيرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَيَلْتَقِيَانِ وَيَتَحَدَّثَانِ.
لَا يَمَسُّهُمْ، لَا يُصِيبُهُمْ، فِيها نَصَبٌ، أَيْ: تَعَبٌ [ومشقة] [1] وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ، هَذِهِ أَنَصُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْخُلُودِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي لِمَنْ تَابَ مِنْهُمْ.
«1239» وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَهُمْ يَضْحَكُونَ، فَقَالَ: «أَتَضْحَكُونَ وَبَيْنَ أَيْدِيكُمُ النار» ، فنزل جبريل بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ: «يَقُولُ لَكَ رَبُّكَ يَا مُحَمَّدُ لِمَ تُقَنِّطْ عِبَادِي مِنْ رَحْمَتِي» .
وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) .
«1240» قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ الْعَبْدُ قَدْرَ عَفْوِ اللَّهِ لَمَا تَوَرَّعَ عَنْ حَرَامٍ، وَلَوْ يَعْلَمُ قَدْرَ عَذَابِهِ لَبَخَعَ نَفْسَهُ» .
«1241» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [2] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثنا قتيبة بن سعيد ثنا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ
__________
1239- ضعيف. أخرجه الطبري 21214 عن عطاء عن رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم مرفوعا بنحوه وفيه مصعب بن ثابت، ضعفه أحمد ويحيى، وفيه أيضا عاصم بن عبيد الله ضعفوه.
- وله شاهد مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزبير أخرجه الطبراني كما في «المجمع» 11107 وقال الهيثمي: وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف اهـ. وفيه أيضا مصعب بن ثابت، وهو ضعيف كما تقدم.
وفي الباب من حديث عمر أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» 10/ 18573 مطوّلا وإسناده ضعيف فيه سلام الطويل وهو مجمع على ضعفه قاله الهيثمي والخبر منكر.
1240- ضعيف. أخرجه الطبري 21213 عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف.
1241- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- وهو في «شرح السنة» 4075 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 6469 عن قتيبة بهذا الإسناد.
وانظر ما تقدم عند آية: 12 من سورة الأنعام.
- وأخرجه مسلم 2755 وأحمد 2/ 397 والترمذي 3542 وابن حبان 345 و656 من طرق عَنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أبي هريرة مرفوعا دون صدره.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) زيادة عن المخطوط.(3/60)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ [1] ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي [2] عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنَ النَّارِ» .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) ، أَيْ: عَنْ أَضْيَافِهِ [3] [وهم الملائكة] [4] وَالضَّيْفُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَالْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ليبشروا إبراهيم بِالْوَلَدِ وَيُهْلِكُوا قَوْمَ لُوطٍ.
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ، إِبْرَاهِيمُ، إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ، خَائِفُونَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْكُلُوا طَعَامَهُ.
قالُوا لَا تَوْجَلْ لَا تَخَفْ، إِنَّا نُبَشِّرُكَ، [قرأ حمزة وحده «نبشرك» بفتح النون وإسكان الباء وضم السين وتخفيفها وقرأ الباقون نُبَشِّرُكَ بضم النون وفتح الباء وكسر الشين وتشديدها] [5] ، بِغُلامٍ عَلِيمٍ، أَيْ: غُلَامٍ فِي صِغَرِهِ عَلِيمٌ فِي كِبَرِهِ يَعْنِي إِسْحَاقَ، فَتَعَجَّبَ [6] إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ كِبَرِهِ وَكِبَرِ امْرَأَتِهِ.
قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي أَيْ: بِالْوَلَدِ عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ، أَيْ: عَلَى حَالِ الْكِبَرِ قَالَهُ عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ، فَبِمَ تُبَشِّرُونَ، فَبِأَيِّ شَيْءٍ تُبَشِّرُونَ، قَرَأَ نَافِعٌ بِكَسْرِ النُّونِ وَتَخْفِيفِهَا أَيْ: تُبَشِّرُونِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بكسرها وبتشديد النون أي تبشرونني أُدْغِمَتْ نُونُ الْجَمْعِ فِي نُونِ الْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ النُّونِ وتخفيفها.
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ أَيْ بِالصِّدْقِ، فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ.
قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِكَسْرِ النُّونِ وَالْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ قَنِطَ يَقْنَطُ وقنط يقنط أي: [7] ييأس، مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ، أَيِ: الْخَاسِرُونَ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ كَبِيرَةٌ كَالْأَمْنِ مِنْ مَكْرِهِ.
[سورة الحجر (15) : الآيات 57 الى 60]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)
قالَ إِبْرَاهِيمُ لَهُمْ، فَما خَطْبُكُمْ، مَا شَأْنُكُمْ، أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ.
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) ، مُشْرِكِينَ.
إِلَّا آلَ لُوطٍ، أَتْبَاعَهُ وَأَهْلَ دِينِهِ، إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ، خَفَّفَ الْجِيمَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَشَدَّدَهُ الْبَاقُونَ.
إِلَّا امْرَأَتَهُ، أَيِ: امْرَأَةَ لُوطٍ، قَدَّرْنا، قَضَيْنَا، إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ، الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنَ النَّفْيِ إِثْبَاتٌ، وَمِنَ الْإِثْبَاتِ نَفْيٌ، فَاسْتَثْنَى امْرَأَةَ لُوطٍ مِنَ النَّاجِينَ فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْهَالِكِينَ، قَرَأَ أبو بكر «قدرنا» هاهنا وَفِي سُورَةِ النَّمْلِ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ. والباقون بتشديدها.
[سورة الحجر (15) : الآيات 61 الى 70]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70)
__________
(1) زيد في المطبوع و «صحيح البخاري» ، وفي المخطوط و «شرح السنة» : الرحمة.
(2) في المخطوط «ما» والمثبت عن كتب التخريج.
(3) في المطبوع وط «الضيافة» . [.....]
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) زيد في المطبوع وحده.
(6) في المخطوط «فعجب» .
(7) زيد في المطبوع «من» .(3/61)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) .
قالَ، لُوطٌ لَهُمْ، إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أَيْ: أَنَا لَا أَعْرِفُكُمْ.
قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) ، أَيْ: يَشُكُّونَ فِي [1] أَنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ وَهُوَ الْعَذَابُ لأنه كان يوعدهم بالعذاب فلا يُصَدِّقُونَهُ.
وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ، بِالْيَقِينِ. وَقِيلَ: بِالْعَذَابِ، وَإِنَّا لَصادِقُونَ.
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ أَيْ [سِرْ] [2] خَلْفَهُمْ، وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ، حَتَّى لَا يَرْتَاعُوا مِنَ الْعَذَابِ إِذَا نَزَلَ بِقَوْمِهِمْ. وَقِيلَ: جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَامَةً لِمَنْ يَنْجُو مِنْ آلِ لُوطٍ، وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الشَّامَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي زُغَرَ. وَقِيلَ: الْأُرْدُنُ.
وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ، أي وفرغنا [3] إلى آل لوط ذَلِكَ الْأَمْرِ، أَيْ: أَحْكَمْنَا الْأَمْرَ الَّذِي أُمِرْنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ، وَأَخْبَرْنَاهُ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ «وَقُلْنَا لَهُ إِنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ» يَعْنِي أصلهم، مَقْطُوعٌ، مستأصل، مُصْبِحِينَ، فإذا دَخَلُوا فِي الصُّبْحِ. وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، يعني [مدينة] [4] سَدُومَ، يَسْتَبْشِرُونَ، بِأَضْيَافِ لُوطٍ أَيْ: يُبَشِّرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا طَمَعًا فِي رُكُوبِ الْفَاحِشَةِ مِنْهُمْ.
قالَ، لُوطٌ لِقَوْمِهِ، إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي، وَحَقٌّ عَلَى الرَّجُلِ إِكْرَامُ ضَيْفِهِ، فَلا تَفْضَحُونِ، فِيهِمْ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) ، وَلَا تُخْجِلُونِ.
قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) ، أَيْ: أَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ أَنْ تُضِيفَ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. وَقِيلَ: أَلَمْ نَنْهَكَ أَنْ تُدْخِلَ الْغُرَبَاءَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّا نركب منهم الفاحشة.
[سورة الحجر (15) : الآيات 71 الى 80]
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي أُزَوِّجُهُنَّ إِيَّاكُمْ إن أسلمتم فأتوا الحلال وذروا [5] الْحَرَامَ، إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ، مَا آمُرُكُمْ بِهِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْبَنَاتِ نِسَاءَ قَوْمِهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ كَالْوَالِدِ لِأُمَّتِهِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: لَعَمْرُكَ، يَا مُحَمَّدُ أَيْ وَحَيَاتِكَ، إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ، حيرتهم وضلالتهم،
__________
(1) زيد في المطبوع «في» .
(2) زيادة عن المخطوط.
(3) في المطبوع وحده «وقضينا» .
(4) زيادة عن المخطوط.
(5) في المطبوع «ودعوا» .(3/62)
وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
يَعْمَهُونَ، يترددون، وقال قَتَادَةُ: يَلْعَبُونَ. رُوِيَ عَنْ أَبِي الجوزاء [1] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا خَلَقَ اللَّهُ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيَاةِ أَحَدٍ إِلَّا بِحَيَاتِهِ.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) ، أَيْ: حِينَ أَضَاءَتِ الشَّمْسُ فَكَانَ ابْتِدَاءُ الْعَذَابِ حِينَ أَصْبَحُوا وَتَمَامُهُ حِينَ أَشْرَقُوا.
فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) .
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلنَّاظِرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لِلْمُتَفَرِّسِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لِلْمُعْتَبِرِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِلْمُتَفَكِّرِينَ.
وَإِنَّها يَعْنِي قُرَى قَوْمِ لُوطٍ، لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ، أَيْ: بِطَرِيقٍ وَاضِحٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِطْرِيقٍ مُعَلَّمٍ لَيْسَ بِخَفِيٍ وَلَا زَائِلٍ.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) .
وَإِنْ كانَ، وَقَدْ كَانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ، الْغَيْضَةِ، لَظالِمِينَ، لَكَافِرِينَ وَاللَّامُ لِلتَّأْكِيدِ وَهُمْ قَوْمُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا أَصْحَابَ غِيَاضٍ وَشَجَرٍ مُلْتَفٍّ، وكانت عَامَّةُ شَجَرِهِمُ الدَّوْمُ وَهُوَ الْمُقْلُ.
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ، بِالْعَذَابِ وَذَلِكَ [2] أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِمُ الْحَرَّ سَبْعَةَ أيام ثم بعث سحابة فالتجؤوا إليها يلتمسون الروح، فبعث عَلَيْهِمْ مِنْهَا نَارًا فَأَحْرَقَتْهُمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ [الشُّعَرَاءِ: 189] وَإِنَّهُما يَعْنِي مَدِينَتَي قَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ الْأَيْكَةِ لَبِإِمامٍ مُبِينٍ، لبطريق وَاضِحٍ مُسْتَبِينٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ، وَهِيَ مَدِينَةُ ثَمُودَ قَوْمِ صَالِحٍ وَهِيَ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ، الْمُرْسَلِينَ، أَرَادَ صَالِحًا وحده، [وَإِنَّمَا ذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِأَنَّ من كذب رسولا فقد كذب الرسل كلهم] [3] .
[سورة الحجر (15) : الآيات 81 الى 88]
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
وَآتَيْناهُمْ آياتِنا، يَعْنِي: النَّاقَةَ وَوَلَدَهَا وَالْبِئْرَ فَالْآيَاتُ [4] فِي النَّاقَةِ خُرُوجُهَا مِنَ الصَّخْرَةِ وَكِبَرُهَا وَقُرْبُ وِلَادِهَا [5] وَغَزَارَةُ لَبَنِهَا، فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ.
وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) ، مِنَ الْخَرَابِ وَوُقُوعِ الْجَبَلِ عَلَيْهِمْ.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ، يَعْنِي: صَيْحَةَ الْعَذَابِ، مُصْبِحِينَ، [أَيْ: دَاخِلِينَ فِي] [6] وَقْتِ الصُّبْحِ.
فَما أَغْنى عَنْهُمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (84) ، مِنَ الشِّرْكِ والأعمال الخبيثة.
__________
(1) تصحف في المخطوط «ابن الجوزي» .
(2) في المخطوط «وروي» .
(3) زيد في المطبوع وحده.
(4) في المطبوع وحده «والآية» .
(5) في المخطوط «ولادتها» . [.....]
(6) زيد في المطبوع وط.(3/63)
«1242» أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الكسائي ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ أَنْبَأَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عن معمر عن الزهري أنا سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ قَالَ «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ» ، قَالَ: وَتَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ [1] .
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ: «ثُمَّ قَنَّعَ رأسه وأسرع السير حتى أجاز الوادي» [2] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ، يَعْنِي: الْقِيَامَةَ لَآتِيَةٌ، يُجَازِي الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَاعْفُ عَفْوًا حَسَنًا نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) بِخَلْقِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي، قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ [هِيَ] [3] فَاتِحَةُ الْكِتَابِ. وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
«1243» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا محمد بن إسماعيل ثنا آدم ثنا ابن أبي ذئب [4] ثنا سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمُّ الْقُرْآنِ هي السبع المثاني» .
__________
1242- صحيح. إبراهيم بن عبد الله صدوق، وقد توبع هو ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، معمر بن راشد، الزهري محمد بن مسلم.
- وهو في «شرح السنة» 4060 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق ابن المبارك، وهو في «الزهد» 1556 عن معمر به.
- وأخرجه البخاري 3380 وأحمد 2/ 66 من طريق ابن المبارك به.
- وأخرجه البخاري 3381 ومسلم 2980 ح 39 وأحمد 2/ 96 والطبري 21275 وابن حبان 6199 من طرق عن الزهري به.
- وأخرجه البخاري 3379 ومسلم 2981 وابن حبان 6201 والبيهقي في «الدلائل» 5/ 234 من طرق عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ به.
- وأخرجه البخاري 433 و4702 و4420 ومسلم 2980 وأحمد 2/ 9 و58 و72 و137 وابن حبان 6200 والبيهقي في «الدلائل» 5/ 233 وفي «السنن الكبرى» 2/ 451 من طرق عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عن ابن عمر به.
وانظر ما تقدم في تفسير سورة الأعراف عند آية: 79.
1243- إسناده صحيح على شرط البخاري لتفرده عن آدم.
- آدم هو ابن أبي إياس، ابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن.
- وهو في «شرح السنة» 1182 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 4704 عن آدم به.
- وأخرجه أبو داود 1457 والترمذي 3124 من طريقين عن ابن أبي ذئب به.
وانظر ما تقدم في تفسير سورة الفاتحة.
(1) في المخطوط «الراحلة» .
(2) هذه الرواية عند البخاري 4419.
(3) زيادة عن المخطوط.
(4) تصحف في المطبوع «زيد» وفي المخطوط «ذؤيب» .(3/64)
وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، [وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قال: السَّبْعِ الْمَثَانِي هِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ والقرآن العظيم] [1] سَائِرُ الْقُرْآنِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الفاتحة لم سميت مثاني، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحُسْنُ وَقَتَادَةُ لِأَنَّهَا تُثَنَّى فِي الصَّلَاةِ فَتُقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا مَقْسُومَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ الْعَبْدِ نِصْفَيْنِ نِصْفُهَا ثَنَاءٌ وَنِصْفُهَا دُعَاءٌ.
«1244» كما روينا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يقول الله: «قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ» .
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِمَكَّةَ وَمَرَّةً بِالْمَدِينَةِ كُلَّ مَرَّةٍ مَعَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلِكٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَثْنَاهَا وَادَّخَرَهَا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ فَمَا أَعْطَاهَا غَيْرَهُمْ.
وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ [2] الْبَلْخِيُّ: سُمِّيَتْ مَثَانِيَ لِأَنَّهَا تُثْنِي أَهْلَ الشَّرِّ عَنِ الْفِسْقِ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ ثَنَيْتُ عَنَانِيَ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ أَوَّلَهَا ثَنَاءٌ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ السَّبْعَ الْمَثَانِيَ هِيَ السَّبْعُ الطِّوَالُ أَوَّلُهَا سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآخِرُهَا الْأَنْفَالُ مَعَ التَّوْبَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُورَةَ يُونُسَ بَدَلَ الْأَنْفَالِ.
«1245» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ أَنَا أَبُو إسحاق الثعلبي ثنا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ المخلدي أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُونَ بْنِ خَالِدٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَا: أنبأنا هلال بن العلاء ثنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَيُّوبَ بْنِ عُتْبَةَ [3] عَنْ يَحْيَى بْنِ [أبي] [4] كَثِيرٍ عَنْ شَدَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحْبِيِّ عن ثوبان أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْطَانِي السَّبْعَ الطِّوَالَ [مَكَانَ التَّوْرَاةِ، وَأَعْطَانِي الْمِئِينَ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ وَأَعْطَانِي مَكَانَ الزَّبُورِ الْمَثَانِيَ] [5] ، وَفَضَّلَنِي رَبِّي بِالْمُفَصَّلِ» .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُوتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّبْعَ الطِّوَالَ، وَأُعْطِيَ مُوسَى سِتًّا فَلَمَّا أَلْقَى الْأَلْوَاحَ رُفِعَ ثِنْتَانِ وَبَقِيَ أَرْبَعٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ السَّبْعُ الطِّوَالُ مَثَانِيَ لِأَنَّ الْفَرَائِضَ وَالْحُدُودَ وَالْأَمْثَالَ والخير والشر والعبر والخبر ثُنِّيَتْ فِيهَا. وَقَالَ طَاوُسٌ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَثَانِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [الزُّمَرِ: 23] . وَسُمِّيَ الْقُرْآنُ مَثَانِيَ لِأَنَّ الْأَنْبَاءَ وَالْقَصَصَ ثُنِّيَتْ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمُرَادُ بِالسَّبْعِ سَبْعَةُ أَسْبَاعِ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ عَلَى هَذَا وَهِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.
وَقِيلَ: الْوَاوُ مُقْحَمَةٌ مَجَازُهُ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي والقرآن العظيم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ، يَا مُحَمَّدُ، إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً، أَصْنَافًا، مِنْهُمْ أَيْ: مِنَ الْكُفَّارِ مُتَمَنِّيًا لَهَا، نَهَى اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا وَمُزَاحَمَةِ أَهْلِهَا عَلَيْهَا، وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ، أَيْ: لَا تَغْتَمَّ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنْ مُشَارَكَتِهِمْ في الدنيا.
__________
1244- تقدم في تفسير سورة الفاتحة.
1245- إسناده ضعيف لضعف أيوب بن عتبة.
- وله شاهد من حديث واثلة، وتقدم برقم: 11.
(1) زيد في المطبوع وط.
(2) في المخطوط «عبيد» .
(3) في المطبوع «عيبة» .
(4) سقط من المطبوع.
(5) زيد في المطبوع وط. [.....](3/65)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
«1246» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [1] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النُّعَيْمِيُّ أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أحمد بن محمد العنزي [2] ثنا عِيسَى بْنُ نَصْرٍ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الله بن المبارك أنا جَهْمُ بْنُ أَوْسٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي مَرْيَمَ وَمَرَّ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رُسْتُمَ فِي مَوْكِبِهِ، فَقَالَ لِابْنِ أَبِي مَرْيَمَ إِنِّي لَأَشْتَهِي مُجَالَسَتَكَ وَحَدِيثَكَ، فَلَمَّا مَضَى قَالَ ابْنُ مريم: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَغْبِطَنَّ فَاجِرًا بِنِعْمَتِهِ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا هُوَ لَاقٍ بَعْدَ مَوْتِهِ إِنَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ قَاتِلًا لَا يَمُوتُ» فَبَلَغَ ذَلِكَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَهْبٌ أَبَا دَاوُدَ الأعور، فقال: يَا أَبَا فُلَانٍ مَا قَاتِلًا لَا يَمُوتُ؟ قَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: النَّارُ.
«1247» أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِيُّ السرخسي أَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ محمد بن الفضل الفقيه ثنا أبو الحسن بن [3] إسحاق ثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ العبسي أَنَا وَكِيعٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَا تنظروا إلى من فَوْقَكُمْ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ» .
وَقِيلَ: هَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبِلَهَا وذلك أنه لِمَا مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ نَهَاهُ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا.
رُوِيَ أَنَّ سُفْيَانَ بْنَ عيينة تَأَوَّلَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لم يتغن بالقرآن [4] » أي: من لَمْ يَسْتَغْنِ بِالْقُرْآنِ [5] . فَتَأَوَّلَ [6] هَذِهِ الْآيَةَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ [أي] [7] ألن [8] جانبك لِلْمُؤْمِنِينَ، وارفق بهم والجناحان من ابن آدم جانباه.
[سورة الحجر (15) : الآيات 89 الى 95]
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93)
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
__________
1246- ضعيف. إسناده ضعيف، فيه جهم بْنِ أَوْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن أبي مريم، وكلاهما مجهول، وثقهما ابن حبان وحده على قاعدته في توثيق المجاهيل.
- وهو في «شرح السنة» 3998 بهذا الإسناد.
- وأخرجه الطبراني في «الأوسط» 4079 من طريق الحسن بن عيسى عن ابن المبارك به.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 10/ 355 وقال: ورجاله ثقات.
- وورد موقوفا بنحوه، أخرجه ابن المبارك في «الزهد» 623 عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ زيادة بن ثوبان عن أبي هريرة، وإسناده ضعيف لضعف موسى بن عبيدة.
- وورد عن وهب بن منبه قوله، أخرجه ابن المبارك 624، وفيه عبيد الله بن الوليد، وهو ضعيف.
1247- صحيح، إبراهيم بن عبد الله صدوق، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم، وكيع بن الجراح، الأعمش سليمان بن مهران، أبو صالح، اسمه ذكوان.
- وهو في «شرح السنة» 3996 بهذا الإسناد.
- وأخرجه. القضاعي في «مسند الشهاب» 737 من طريق إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 2963 ح 9 والترمذي 2513 وابن ماجه 4142 وأحمد 2/ 254 و482 وابن حبان 713 من طرق عن أبي معاوية ووكيع بهذا الإسناد.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) تصحف في المطبوع «المقبري» .
(3) زيد في المطبوع «أبي» .
(4) تقدم تخريجه.
(5) العبارة في المخطوط «بهذا القرآن» .
(6) في المطبوع «وتأويل» .
(7) زيادة عن المخطوط.
(8) في المطبوع «ليّن» .(3/66)
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) قَالَ الْفَرَّاءُ: مَجَازُهُ أُنْذِرُكُمْ [1] عَذَابًا كَعَذَابِ الْمُقْتَسِمِينَ، حُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) ، جزّؤوه فَجَعَلُوهُ أَعْضَاءً فَآمَنُوا بِبَعْضِهِ وَكَفَرُوا بِبَعْضِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْيَهُودُ والنصارى قسموا كتابهم ففرقوه وبددوه [2] . وقيل: المقتسمين: قَوْمٌ اقْتَسَمُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سِحْرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: شِعْرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَذِبٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
وَقِيلَ: الِاقْتِسَامُ هُوَ أَنَّهُمْ فَرَّقُوا الْقَوْلَ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: سَاحِرٌ كَاهِنٌ شَاعِرٌ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
كَانُوا سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا بَعَثَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ فاقتسموا أعقاب [3] مكة وأطرافها [4] وَقَعَدُوا عَلَى أَنْقَابِهَا [5] يَقُولُونَ لِمَنْ جَاءَ مِنَ الْحُجَّاجِ: لَا تَغْتَرُّوا بِهَذَا الرَّجُلِ الْخَارِجِ الَّذِي يَدَّعِي النُّبُوَّةَ مِنَّا، وَتَقُولُ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ وَطَائِفَةٌ إِنَّهُ كَاهِنٌ وَطَائِفَةٌ إِنَّهُ شَاعِرٌ وَالْوَلِيدُ قَاعِدٌ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ نَصَّبُوهُ حَكَمًا فَإِذَا سُئِلَ عَنْهُ قَالَ: صَدَقَ أُولَئِكَ يَعْنِي الْمُقْتَسِمِينَ. وَقَوْلُهُ: عِضِينَ قِيلَ: هُوَ جَمْعُ عُضْوٍ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ عَضَيْتُ الشَّيْءَ تَعْضِيَةً، إِذَا فَرَّقْتُهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْقُرْآنَ أَعْضَاءً، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سِحْرٌ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كِهَانَةٌ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَقِيلَ: هُوَ جَمْعُ عِضَةٍ. [يُقَالُ: عِضَةٌ] [6] وَعِضِينُ مِثْلُ بِرَةٍ وَبِرِينَ وَعِزَةٍ وَعِزِينَ وَأَصْلُهَا عِضْهَةٌ ذَهَبَتْ هَاؤُهَا الْأَصْلِيَّةُ كَمَا نَقَصُوا مِنَ الشَّفَةِ وَأَصْلُهَا شَفَهَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّكَ تَقُولُ فِي التَّصْغِيرِ شُفَيْهَةً وَالْمُرَادُ بِالْعِضَةِ الْكَذِبُ وَالْبُهْتَانُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعِضِينَ الْعِضَهُ [7] وَهُوَ السِّحْرُ يُرِيدُ أَنَّهُمْ سَمَّوُا الْقُرْآنَ سحرا.
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فِي الدُّنْيَا، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: قَالَ عِدَّةٌ مِنْ أهل العلم: عَنْ [8] لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) [الرَّحْمَنِ: 39] ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عَمِلْتُمْ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِهِمْ مِنْهُمْ وَلَكِنْ يَقُولُ: لِمَ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ وَاعْتَمَدَهُ قُطْرُبُ فَقَالَ: السُّؤَالُ ضَرْبَانِ سُؤَالُ اسْتِعْلَامٍ وَسُؤَالُ تَوْبِيخٍ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) [الرحمن: 39] ، يعني: استعلاما. وقوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يَعْنِي:
تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَتَيْنِ: إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ طويل فيه مواقف مختلفة يُسْأَلُونَ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِفِ وَلَا يسألون في بعضها، نظير ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) [الْمُرْسَلَاتِ: 35] ، وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) [الزمر: 31] .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَظْهِرْهُ. وَيُرْوَى عَنْهُ: أَمْضِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
أَعْلِمْ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: افْرُقْ، أَيِ: افْرُقْ بِالْقُرْآنِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: اقْضِ بِمَا تُؤْمَرُ، وَأَصْلُ الصَّدْعِ الْفَصْلُ وَالْفَرْقُ، أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِإِظْهَارِ الدَّعْوَةِ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ
__________
(1) في المخطوط «أنذرتكم» .
(2) في المطبوع وط «وبدلوه» .
(3) في المطبوع وط «عقاب» .
(4) في المطبوع «وطرفها» . [.....]
(5) في المطبوع «نقابها» .
(6) زيد في المطبوع.
(7) تصحف في المطبوع «العضة» .
(8) زيد في المطبوع «قوله» .(3/67)
[أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم] [1] كَانَ مُسْتَخْفِيًا حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَخَرَجَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ.
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاصْدَعْ بِأَمْرِ اللَّهِ وَلَا تَخَفْ أَحَدًا غَيْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ مَنْ عَادَاكَ كَمَا كَفَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.
«1248» وَهُمْ خَمْسَةُ نَفَرٍ مِنْ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، وَكَانَ رأسهم العاص بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ [2] بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ زَمْعَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ دَعَا عَلَيْهِ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ أَعْمِ بَصَرَهُ وَاثْكِلْهُ بِوَلَدِهِ» وَالْأُسُودُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسِ بن الطلاطلة فَأَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، والمستهزءون يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فَقَامَ جِبْرِيلُ وَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَنْبِهِ فَمَرَّ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ تَجِدُ هَذَا فَقَالَ: بِئْسَ عَبْدُ [3] اللَّهِ فَقَالَ: قَدْ كُفِيتَهُ وَأَوْمَأَ إِلَى سَاقِ الْوَلِيدِ فَمَرَّ بِرَجُلٍ مِنْ خُزَاعَةَ نَبَّالٍ يَرِيشُ نَبْلًا لَهُ [4] وَعَلَيْهِ بُرْدٌ يماني وَهُوَ يَجُرُّ إِزَارَهُ فَتَعَلَّقَتْ شَظْيَةٌ من النبل بإزاره فمنعه الكبر أن [يطأطىء رَأَسَهُ] [5] فَيَنْزِعَهَا وَجَعَلَتْ تَضْرِبُ سَاقَهُ فَخَدَشَتْهُ فَمَرِضَ مِنْهَا فَمَاتَ، وَمَرَّ بِهِ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ فَقَالَ جِبْرِيلُ كَيْفَ تَجِدُ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: «بِئْسَ عَبْدُ اللَّهِ» فَأَشَارَ جِبْرِيلُ إِلَى أَخْمَصِ رِجْلَيْهِ، وَقَالَ: قَدْ كُفِيتَهُ فَخَرَجَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ يَتَنَزَّهُ فَنَزَلَ شِعْبًا مِنْ تِلْكَ الشِّعَابِ فَوَطِئَ عَلَى شَبْرَقَةٍ [6] فَدَخَلَتْ مِنْهَا شَوْكَةٌ فِي أَخْمَصِ رِجْلِهِ فَقَالَ: لُدِغْتُ لُدِغْتُ [7] فَطَلَبُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا وَانْتَفَخَتْ رِجْلُهُ حَتَّى صَارَتْ مِثْلَ عُنُقِ الْبَعِيرِ، فَمَاتَ مَكَانَهُ. وَمَرَّ بِهِ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ جِبْرِيلُ: كَيْفَ تَجِدُ هَذَا؟ قَالَ: «عَبْدُ سُوءٍ» فَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: قَدْ كُفِيتَهُ، فعمي. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ رَمَاهُ جِبْرِيلُ بِوَرَقَةٍ خَضْرَاءَ [فَذَهَبَ بَصَرُهُ وَوَجِعَتْ عَيْنَاهُ] [8] فَجَعَلَ يَضْرِبُ بِرَأْسِهِ الْجِدَارَ حَتَّى هَلَكَ.
وَفِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَاعِدٌ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ فَجَعَلَ يَنْطَحُ رَأْسَهُ بِالشَّجَرَةِ وَيَضْرِبُ وَجْهَهُ بِالشَّوْكِ، فَاسْتَغَاثَ بِغُلَامِهِ فَقَالَ غُلَامُهُ لَا أَرَى أَحَدًا يَصْنَعُ بِكَ شَيْئًا غَيْرَ نَفْسِكَ حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ يَقُولُ قَتَلَنِي رَبُّ مُحَمَّدٍ. وَمَرَّ بِهِ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ فَقَالَ جِبْرِيلُ: كَيْفَ تَجِدُ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ:
«بِئْسَ عَبْدُ اللَّهِ عَلَى أَنَّهُ ابْنُ خَالِي» ، فَقَالَ: قَدْ كُفِيتَهُ، وَأَشَارَ إِلَى بَطْنِهِ فَاسْتَسْقَى بَطْنَهُ فَمَاتَ حينا.
__________
1248- أخرجه الطبري 21417 عن ابن إسحق به مع اختلاف يسير، وهذا معضل، وكرره 21419 عن سعيد بن جبير مرسلا، وكرره 21430 من مرسل قتادة وورد بنحوه عن قتادة ومقسم، أخرجه الطبري 21428.
- وورد بنحوه من حديث ابن عباس عند الطبراني في «الأحاديث الطوال» 33 وفي «الأوسط» 4983 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 317- 318.
- وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 46- 47 وقال: وفيه محمد بن عبد الحكيم النيسابوري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
- الخلاصة: هذه روايات عامتها مرسل، والموصول ضعيف، والمتن غريب جدا، والله أعلم.
(1) ما بين الحاصرتين في المطبوع «قال» .
(2) زيد في المطبوع «عبد» .
(3) العبارة في المطبوع «بئس عبد عبد الله» وفي كتب التخريج «بئس عبد الله» سوى الطبري فعبارته «بئس عدو الله» في المخطوط «بئس عبدا» ليس فيه لفظ الجلالة.
(4) في المطبوع «نباله» وهو خطأ.
(5) ما بين الحاصرتين في المخطوط «يتطامن» .
(6) الشبرقة: نبت له شوك.
(7) في المخطوط «لذعت» .
(8) ما بين الحاصرتين في المطبوع «فعمي فذهب ضوء بصره ورجعت» .(3/68)
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْكَلْبِيِّ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَهْلِهِ فَأَصَابَهُ السَّمُومُ فَاسْوَدَّ [جلده] [1] حَتَّى عَادَ حَبَشِيًّا فَأَتَى أَهْلَهُ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ وَأَغْلَقُوا دُونَهُ الْبَابَ حَتَّى مَاتَ، وَهُوَ يَقُولُ: قَتَلَنِي رَبُّ مُحَمَّدٍ، وَمَرَّ بِهِ الْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ جِبْرِيلُ: كَيْفَ تَجِدُ هَذَا يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: «عَبْدُ سُوءٍ» فَأَوْمَأَ إِلَى رَأْسِهِ وَقَالَ: قَدْ كُفِيتَهُ فَامْتَخَطَ قَيْحًا فَقَتَلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ أَكَلَ حُوتًا مَالِحًا فَأَصَابَهُ الْعَطَشُ فَلَمْ يَزَلْ يَشْرَبُ عَلَيْهِ مِنَ الْمَاءِ حَتَّى انْقَدَّ بَطْنُهُ فَمَاتَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) ، بك وبالقرآن.
[سورة الحجر (15) : الآيات 96 الى 99]
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَقِيلَ اسْتِهْزَاؤُهُمْ واقتسامهم [2] هو أن الله لَمَّا أَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ سُورَةَ البقرة وسورة النحل [3] وَسُورَةَ الْعَنْكَبُوتِ، كَانُوا يَجْتَمِعُونَ [وَيَقُولُونَ استهزاء هذا لي سورة البقرة وهذا لي سورة النحل وهذا لي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ] [4] .
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
فَصَلِّ بِأَمْرِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، مِنَ الْمُصَلِّينَ الْمُتَوَاضِعِينَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ: قُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ وبحمده وكن من الساجدين، يعني: من الْمُصَلِّينَ. وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمَرٌّ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ [5] .
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) ، أَيِ الْمَوْتُ الْمُوقَنُ بِهِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي سورة مريم:
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم: 31] .
«1249» أَخْبَرَنَا الْمُطَهَّرُ بْنُ عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ أنا محمد بن إبراهيم الصالحي أَنَا عَبْدُ اللَّهِ [بْنُ] [6] مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو [7] الشَّيْخِ الْحَافِظِ ثنا أُمَيَّةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّوَّافُ الْبَصْرِيُّ ثنا محمد بن يحيى الأزدي ثنا أَبِي وَالْهَيْثَمُ بْنُ خَارِجَةَ قَالَا: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قال:
__________
1249- ضعيف، إسناده إلى جبير بن نفير لا بأس به، وعلة الحديث الإرسال، والمرسل من قسم الضعيف، وورد من وجوه واهية.
- وهو في «شرح السنة» 3931 بهذا الإسناد.
- وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 2/ 54 من طريق عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جعفر بهذا الإسناد.
- وأخرجه ابن عدي في «الكامل» 5/ 257 من حديث ابن مسعود وأهله بعيسى بن سليمان بن دينار. وكذا ضعفه العراقي في «تخريج الإحياء» 3/ 265.
- وأخرجه ابن عدي 3/ 69 من حديث أبي الدرداء وأعله بخصيب بن جحدر البصري، وهو متروك متهم. [.....]
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «واستقسامهم» .
(3) زيد في المطبوع «وسورة النمل» .
(4) العبارة في المطبوع «ويقولون استهزاء يقول هَذَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَيَقُولُ هذا في سورة النمل، وَيَقُولُ هَذَا فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ» والمثبت عن المخطوط وط ويدل عليه الطبري 21378.
(5) تقدم تخريجه.
(6) سقط من المطبوع.
(7) تصحف في المطبوع «بن» .(3/69)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «ما أوحى الله إِلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنَ التَّاجِرِينَ وَلَكِنْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنْ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» .
«1250» وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ مُقْبِلًا وَعَلَيْهِ إِهَابُ كَبْشٍ قَدْ تَنَطَّقَ بِهِ [1] ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرُوا إِلَى هذا الذي نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ لَقَدْ رَأَيْتُهُ بين أبويه يغذوانه [2] بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَلَيْهِ حُلَّةً شَرَاهَا أَوْ شُرِيَتْ لَهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَدَعَاهُ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى مَا تَرَوْنَهُ» . والله أعلم.
تفسير سورة النحل
مكية [3] إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ إلى آخر السورة
[سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
أَتى أَيْ: جَاءَ وَدَنَا وَقَرُبَ، أَمْرُ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَتَاكَ الْأَمْرُ وَهُوَ مُتَوَقَّعٌ [4] بَعْدُ، أَيْ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ وَعْدًا [5] فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ، وُقُوعًا، أَمْرُ اللَّهِ قَالَ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ: المراد منه القيامة. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [الْقَمَرِ: 1] قَالَ الْكُفَّارُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّ هَذَا يَزْعُمُ أَنَّ الْقِيَامَةَ قَدْ قَرُبَتْ فَأَمْسِكُوا عَنْ بَعْضِ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حَتَّى تَنْظُرُوا مَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَمَّا لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ قالوا: مَا نَرَى شَيْئًا [مِمَّا تُخَوِّفُنَا به] [6] فَنَزَلَ قَوْلُهُ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ [الْأَنْبِيَاءِ: 1] ، فَأَشْفَقُوا فَلَمَّا امْتَدَّتِ الْأَيَّامُ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ مَا نَرَى شيئا [من ذلك] [7] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَوَثَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم [إلى السماء] [8] وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدْ أَتَتْ حَقِيقَةً فنزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمأنوا.
__________
1250- ضعيف. أخرجه أبو نعيم في «الحلية» 1/ 108 من طريق يزيد بن الأصم عن عمر به، وإسناده ضعيف، فيه إرسال بين يزيد وبين عمر، وفي بعض رجال الإسناد كلام، والأشبه كونه من كلام عمر.
(1) في المخطوط «تطبق عليه» .
(2) في المطبوع «يغذيانه» .
(3) زيد في المطبوع وط «مئتان وثمان وعشرون آية» .
(4) في المخطوط «يتوقع» .
(5) في المطبوع «وعده» .
(6) زيادة عن المخطوط. [.....]
(7) العبارة في المصبوع «مما تخوفنا به» .
(8) زيادة عن المخطوط.(3/70)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
وَالِاسْتِعْجَالُ: طَلَبُ الشَّيْءِ قَبْلَ حِينِهِ.
«1251» وَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ- وَأَشَارَ بِأُصْبُعَيْهِ- وَإِنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي» .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَعْثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَهْلِ السَّمَوَاتِ مَبْعُوثًا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: اللَّهُ أَكْبَرُ قَامَتِ السَّاعَةُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ هَاهُنَا عُقُوبَةُ الْمُكَذِّبِينَ وَالْعَذَابُ بِالسَّيْفِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ:
اللَّهُمَّ إِنَّ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ فَاسْتَعْجَلَ الْعَذَابَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَقُتِلَ النَّضْرُ يَوْمَ بَدْرٍ صَبْرًا. سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ، مَعْنَاهُ تَعَاظَمَ بِالْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ المشركون.
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ، قَرَأَ الْعَامَّةُ بِضَمِّ الياء وكسر الزاي، والْمَلائِكَةَ نَصْبٌ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِالتَّاءِ وَفَتْحِهَا وفتح الزاي والملائكة رَفْعٌ، يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ بِالْوَحْيِ سماه روحا لأنه يحي بِهِ الْقُلُوبَ وَالْحَقَّ. قَالَ عَطَاءٌ: بالنبوة. وقال قتادة: بالرحمة. وقال أَبُو عُبَيْدَةَ: بِالرُّوحِ يَعْنِي مَعَ الروح وهو جبرائيل. مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا، أَعْلِمُوا، أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ، وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ مُرُوهُمْ بِقَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُنْذِرِينَ مُخَوِّفِينَ بِالْقُرْآنِ إِنْ لَمْ يَقُولُوا. وقوله فَاتَّقُونِ أي: فخافون.
[سورة النحل (16) : الآيات 3 الى 8]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) ، أَيِ: ارْتَفَعَ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ، جَدِلٌ بِالْبَاطِلِ، مُبِينٌ، نَزَلَتْ فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ وَكَانَ يُنْكِرُ الْبَعْثَ، جاء بعظم رميم فقال [يا محمد] [1] : أتقول إن الله تعالى يحي هَذَا بَعْدَ مَا قَدْ رَمَّ؟ كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يَس: 78] نَزَلَتْ فِيهِ أَيْضًا. وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْآيَةَ عَامَّةٌ، وَفِيهَا بَيَانُ الْقُدْرَةِ وَكَشْفُ قَبِيحِ مَا فَعَلُوهُ، مِنْ جَحْدِ [2] نِعَمِ اللَّهِ مَعَ ظُهُورِهَا عَلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها، يَعْنِي الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ، لَكُمْ فِيها دِفْءٌ يَعْنِي: مِنْ أَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَصْوَافِهَا مَلَابِسَ وَلُحُفًا تَسْتَدْفِئُونَ بِهَا، وَمَنافِعُ، بالنسل والدر والركوب والحمل
__________
1251- المرفوع منه، أخرجه أحمد 4/ 309 والطبراني 22/ 126 من حديث وهب السّوائي وقال الهيثمي في «المجمع» 10/ 311: رجاله رجال الصحيح. غير أبي خالد الوالبي وهو ثقة.
- وورد من حديث بريدة، أخرجه أحمد 5/ 348 وقال الهيثمي 10/ 310: رجاله رجال الصحيح.
- فالمرفوع منه حسن.
- تنبيه: لفظ «لما نزلت هذه الآية» لم أقف له على أصل، ولم يذكره غير المصنف.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المطبوع «جحود» .(3/71)
وَغَيْرِهَا، وَمِنْها تَأْكُلُونَ، يَعْنِي لُحُومَهَا.
وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ، زِينَةٌ، حِينَ تُرِيحُونَ، أَيْ: حِينَ تَرُدُّونَهَا بِالْعَشِيِّ مِنْ مَرَاعِيهَا إِلَى مَبَارِكِهَا الَّتِي تَأْوِي إِلَيْهَا، وَحِينَ تَسْرَحُونَ، أَيْ: تُخْرِجُونَهَا بِالْغَدَاةِ مِنْ مَرَاحِهَا إِلَى مَسَارِحِهَا، وَقَدَّمَ الرَّوَاحَ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تُؤْخَذُ مِنْهَا بَعْدَ الرَّوَاحِ، وَمَالِكُهَا يَكُونُ أَعْجَبَ بِهَا إِذَا رَاحَتْ.
وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ، أَحْمَالَكُمْ، إِلى بَلَدٍ، آخَرَ غَيْرِ بَلَدِكُمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ: الْبَلَدُ مَكَّةُ، لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، أَيْ: بِالْمَشَقَّةِ وَالْجُهْدِ. وَالشِّقُّ: النِّصْفُ أَيْضًا أَيْ: لَمْ تَكُونُوا بَالِغَيْهِ إِلَّا بِنُقْصَانِ قُوَّةِ النَّفْسِ وَذَهَابِ نِصْفِهَا. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِشِقِّ بِفَتْحِ الشِّينِ وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ رَطْلٍ وَرِطْلٍ.
إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ، بخلقه حيث جعل لكم هذه المنافع.
وَالْخَيْلَ، يَعْنِي: وَخَلَقَ الْخَيْلَ وَهِيَ اسْمُ جِنْسٍ لَا وَاحِدَ لَهُ من لفظه كالإبل والنساء والسماء.
وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً، يَعْنِي: وَجَعَلَهَا زِينَةً لَكُمْ مَعَ الْمَنَافِعِ الَّتِي فِيهَا. وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ حَرَّمَ لُحُومَ الْخَيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَلًّا هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ: هَذِهِ لِلرُّكُوبِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَكَمُ وَمَالُكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى إِبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَشُرَيْحٍ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ [وَأَحْمَدُ] [1] وَإِسْحَاقُ، وَمَنْ أَبَاحَهَا قَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانَ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ تَعْرِيفُ اللَّهِ عِبَادَهُ نِعَمَهُ [2] وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَاحْتَجُّوا بِمَا:
«1252» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ [بْنُ أَحْمَدَ] [3] الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ ثَنَا محمد بن إسماعيل ثنا سليمان بن حرب ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو هُوَ ابْنُ دِينَارٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الْخَيْلِ» .
«1253» أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ الْمُظَفَّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّمِيمِيُّ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ يوسف السهمي أنا أبو
__________
1252- إسناده صحيح على شرط البخاري ومسلم.
- محمد بن علي هو ابن الحسين، ومشهور ب- الباقر- رضي الله عنه.
- وهو في «شرح السنة» 2804 بهذا الإسناد.
- رواه المصنف من طريق البخاري، وهو في «صحيحه» 4219 عن سليمان بن حرب بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري 5520 و5524 ومسلم 1941 وأبو داود 3788 والنسائي 7/ 201 وأحمد 3/ 361 والدارمي 3/ 87 وابن الجارود 885 وابن حبان 5273 والطحاوي 4/ 204 والبيهقي 9/ 326- 327 من طرق عن حماد بن زيد به.
1253- صحيح. الحسن بن الفرج، قد توبع هو ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم غير عمرو بن خالد وهو الرّقي، فإنه من رجال البخاري، عبيد الله هو ابن عمرو الجزري الرّقي، عبد الكريم هو ابن مالك الجزري.
- وهو في «شرح السنة» 2805 بهذا الإسناد.
- وأخرجه النسائي 7/ 201 من طريق عبيد الله بن عمرو بهذا الإسناد، ولم يذكر عجز الحديث.
- وأخرجه ابن ماجه 3197 وعبد الرزاق 8733 والطحاوي 4/ 211 والدارقطني 4/ 288 والبيهقي 9/ 327 من طرق عن عطاء به، فهو صحيح.
- وأخرجه أبو داود 3789 وأحمد 3/ 356 والدار ققطني 4/ 289 وابن حبان 5273 والبيهقي 9/ 327 من طرق عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ أبي الزبير عن جابر بنحوه، وصححه الحاكم 4/ 235 ووافقه الذهبي.
(1) زيادة عن المخطوط.
(2) في المخطوط «نعمته» .
(3) زيادة عن المخطوط.(3/72)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ [عَدِيٍّ الحافظ ثنا الحسن بن الفرج ثنا عمرو بن خالد ثنا عُبِيْدُ اللَّهِ عَنْ] [1] عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ لُحُومَ الْخَيْلِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَهَى عَنْ لُحُومِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ.
«1254» رُوِيَ عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ» وَإِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ.
وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ، قِيلَ: يَعْنِي مَا أَعَدَّ اللَّهُ فِي الْجَنَّةِ لِأَهْلِهَا وَفِي النَّارِ لِأَهْلِهَا مِمَّا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ ولا سمعته أُذُنٌ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ يَعْنِي: السُّوسَ فِي النَّبَاتِ وَالدُّودَ فِي الْفَوَاكِهِ.
[سورة النحل (16) : الآيات 9 الى 12]
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ يَعْنِي: بَيَانُ طَرِيقِ الْهُدَى مِنَ الضَّلَالَةِ. وَقِيلَ: بَيَانُ الْحَقِّ بِالْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ، وَالْقَصْدُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ. وَمِنْها جائِرٌ يَعْنِي: وَمِنَ السَّبِيلِ جَائِرٌ عَنِ الِاسْتِقَامَةِ مُعْوَجٌّ، فَالْقَصْدُ مِنَ السَّبِيلِ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَالْجَائِرُ منها دين الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ وَسَائِرُ مِلَلِ [2] الْكُفْرِ. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: قَصْدُ السَّبِيلِ بَيَانُ الشَّرَائِعِ وَالْفَرَائِضِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ وَسَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ:
قَصْدُ السَّبِيلِ: السُّنَّةُ. وَمِنْهَا جَائِرٌ: الْأَهْوَاءُ وَالْبِدَعُ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [الْأَنْعَامِ: 153] . وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة: 13] .
قوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ، تَشْرَبُونَهُ، وَمِنْهُ شَجَرٌ، أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الماء شراب أَشْجَارِكُمْ وَحَيَاةُ نَبَاتِكُمْ، فِيهِ يَعْنِي: فِي الشَّجَرِ، تُسِيمُونَ، تَرْعَوْنَ مَوَاشِيَكُمْ.
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ أَيْ: يُنْبِتُ اللَّهُ لَكُمْ بِهِ يَعْنِي بِالْمَاءِ الذي أنزل [إليكم] [3] ، قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ «نُنْبِتُ» بِالنُّونِ. الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.
وَسَخَّرَ لَكُمُ، ذَلَّلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ، مذللات،
__________
1254- شاذ. أخرجه أبو داود 3790 والنسائي 7/ 202 وابن ماجه 3198 وأحمد 4/ 89 والدارقطني 4/ 286 والطحاوي في «المشكل» 3066 والطبراني 3826 من طرق عن بقية بن الوليد عن ثور بن يزيد عن صالح بن يحيى بن المقدام عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ خالد بن الوليد به.
وضعف إسناده المصنف، وفيه صالح بن يحيى قال البخاري: فيه نظر.
- وقال أبو داود: هو حديث منسوخ وقال البيهقي: إسناده مضطرب.
- والحديث معارض بما قبله، فهو شاذ. وانظر ما قاله القرطبي 3854 و3856 بترقيمي.
(1) سقط من المخطوط.
(2) تصحف في المطبوع «مثل» .
(3) زيادة عن المخطوط. [.....](3/73)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
بِأَمْرِهِ أَيْ: بِإِذْنِهِ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عن عاصم والنّجوم مسخّرت بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 13 الى 17]
وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17)
وَما ذَرَأَ، خَلَقَ، لَكُمْ، لِأَجْلِكُمْ أَيْ: وَسَخَّرَ مَا خَلَقَ لِأَجْلِكُمْ، فِي الْأَرْضِ، مِنَ الدَّوَابِّ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَغَيْرِهَا، مُخْتَلِفاً، نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، يَعْتَبِرُونَ.
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا يَعْنِي: السَّمَكَ، وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها يَعْنِي: اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ، وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ، جواري فيه. قَالَ قَتَادَةُ: مُقْبِلَةً وَمُدْبِرَةً وَهُوَ أَنَّكَ تَرَى سَفِينَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا تُقْبِلُ وَالْأُخْرَى تُدَبِرُ تَجْرِيَانِ بِرِيحٍ وَاحِدَةٍ. قال الْحَسَنُ: مَوَاخِرَ أَيْ: مَمْلُوءَةً. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْأَخْفَشُ: شَوَاقُّ [1] تَشُقُّ الْمَاءَ بجؤجئها [2] . قَالَ مُجَاهِدٌ: تَمْخُرُ السُّفُنَ الرِّيَاحُ.
وَأَصْلُ الْمَخْرِ: الرَّفْعُ وَالشَّقُّ.
«1255» وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمُ الْبَوْلَ فليتمخر [3] الرِّيحَ» أَيْ: لِيَنْظُرْ مِنْ أَيْنَ مَجْرَاهَا وَهُبُوبُهَا [فَلْيَسْتَدْبِرْهَا] [4] حَتَّى لَا يُرَدَّ عَلَيْهِ الْبَوْلُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: صَوَائِخُ، وَالْمَخْرُ صَوْتُ هُبُوبِ الرِّيحِ عِنْدَ شِدَّتِهَا، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يَعْنِي: التِّجَارَةَ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ، إِذَا رَأَيْتُمْ صُنْعَ اللَّهِ فِيمَا سَخَّرَ لَكُمْ.
وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أَيْ: لِئَلَّا تَمِيدَ بِكُمْ أَيْ تَتَحَرَّكَ وَتَمِيلَ، وَالْمَيْدُ: هُوَ الِاضْطِرَابُ وَالتَّكَفُّؤُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلدَّوَّارِ الَّذِي يَعْتَرِي رَاكِبَ الْبَحْرِ: مَيَدٌ، قَالَ وَهْبٌ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمُورُ فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ: إِنَّ هَذِهِ غَيْرُ مُقِرَّةٍ أَحَدًا عَلَى ظَهْرِهَا فَأَصْبَحَتْ وَقَدْ أُرْسِيَتْ بِالْجِبَالِ فَلَمْ تدر الملائكة مم خلق الْجِبَالُ، وَأَنْهاراً وَسُبُلًا أَيْ: وَجَعَلَ فِيهَا أَنْهَارًا وَطُرُقًا مُخْتَلِفَةً، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، إِلَى مَا تُرِيدُونَ فَلَا تضلون [عنه] [5] .
__________
1255- لا أصل له في المرفوع بهذا اللفظ، وإنما أخرجه أبو عبيد في «غريب الحديث» 1/ 312 عن عباد بن عباد عن واصل مولى ابن عيينة قال: يقال: إذا أراد أحدكم البول فليتمخر الريح.
- وورد بنحوه في أثناء حديث وفيه « ... واستمخروا الريح..» ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» 1/ 36- 37 (75) وقال: سألت أبي عن حديث رواه أحمد بن ثابت فرخويه عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عن سماك بن الفضل عن أبي رشدين الجندي عن سراقة بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم ... فذكره قال أبي: ما يروونه موقوف وأسنده عبد الرزاق بأخرة.
- ونقل ابن حجر في «التلخيص» 1/ 107 قول ابن أبي حاتم وأن الأصح وقفه.
- وفي الباب أحاديث انظرها في «تلخيص الحبير» 1/ 107.
(1) زيد في المطبوع «مواخر» .
(2) أي بصدرها، وفي المخطوط وط «بجناحيها» .
(3) في المطبوع وط «فليستمخر» .
(4) سقط من المطبوع.
(5) زيادة عن المخطوط.(3/74)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
وَعَلاماتٍ، يَعْنِي: مَعَالِمَ الطُّرُقِ. قَالَ بَعْضُهُمْ: هَاهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ ثُمَّ ابْتَدَأَ، وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَالْكَلْبِيُّ: أَرَادَ بالعلامات النجوم [1] والجبال [فالجبال] [2] عَلَامَاتِ النَّهَارِ وَالنُّجُومُ عَلَامَاتُ اللَّيْلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِالْكُلِّ النُّجُومَ مِنْهَا مَا يَكُونُ عَلَامَاتٍ وَمِنْهَا مَا يَهْتَدُونَ بِهِ. قَالَ السُّدِّيُّ: أراد بالنجوم الثُّرَيَّا وَبَنَاتِ نَعْشٍ وَالْفَرْقَدَيْنِ وَالْجَدْيَ يهتدون بِهَا إِلَى الطُّرُقِ وَالْقِبْلَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ:
إِنَّمَا خَلْقَ اللَّهُ النُّجُومَ لِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ لِتَكُونَ زِينَةً لِلسَّمَاءِ وَمَعَالِمَ لِلطُّرُقِ وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ. فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذَا فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ.
أَفَمَنْ يَخْلُقُ، يَعْنِي: اللَّهَ تَعَالَى، كَمَنْ لَا يَخْلُقُ، يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
[سورة النحل (16) : الآيات 18 الى 23]
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ لِتَقْصِيرِكُمْ فِي شُكْرِ نِعَمِهِ [3] ، رَحِيمٌ بِكُمْ حَيْثُ وَسَّعَ عَلَيْكُمُ النِّعَمَ وَلَمْ يقطعها عنكم بالتقصير والمعاصي.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) .
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يَعْنِي: الْأَصْنَامَ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ يَدْعُونَ بِالْيَاءِ. لَا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ.
أَمُوتُ أَيِ الْأَصْنَامُ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ، يَعْنِي: الْأَصْنَامَ أَيَّانَ مَتَى يُبْعَثُونَ، وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْنَامَ تُبْعَثُ وَتُجْعَلُ فِيهَا الْحَيَاةُ [4] فتتبرأ من عابديها. وقيل: وما يَدْرِي الْكُفَّارُ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ مَتَى يُبْعَثُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ، جَاحِدَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ، مستعظمون [5] .
لَا جَرَمَ، حَقًّا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ.
«1256» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدِ بن محمد بن محمش البسطامي أنا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
__________
1256- حديث صحيح. علي بن الحسن ثقة وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال مسلم. شعبة بن الحجاج، فضيل بن عمرو، إبراهيم بن يزيد، عَبْدَ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ.
- وهو في «شرح السنة» 3481 بهذا الإسناد.
- وأخرجه مسلم 91 والترمذي 1999 وأبو عوانة 1/ 31 وابن خزيمة في «التوحيد» ص 384 وابن مندة في «الإيمان» 540 و541 من طرق عن أبان بن تغلب به.
(1) في المطبوع «الجبال» .
(2) في المطبوع «تكون» .
(3) في المخطوط «نعمته» .
(4) في المخطوط «الروح» .
(5) في المطبوع وط «متعظمون» .(3/75)