لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92).
فقوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) فيه إشارة إلى أن فرضية الجهاد مرفوعة عن أصحاب المعاذير وقت عذرهم، وهي في الوقت ذاته قاعدة عامة في معاني الشريعة الإسلامية، والحرج أصله الضيق بين الأشياء المجتمعة فهو الضيق في صدور الناس وفي تكليفاتهم.
والشريعة الإسلامية جاءت لنفع الناس وجلب الخير لهم، " وخير الدين أيسره " (1)، كما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -، وقد روت أم المؤمنين عائشة عن أعمال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، ذلك أن الشاق يصعِّب على المؤمن المداومة، والمداومة تربي في النفس عادة الطاعة، وتكون لها في النفس مجار تنير الخير، ولذلك روى في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أحب الأعمال أدومها وإن قلَّ "، وروي عنه أنه قال: " إن الله يحب الديمة من الأفعال "، ونهى عن التشدد في الدين، وقال: " لَا تشددوا، ولكن سددوا وقاربوا "، وقد وصل الله تعالى شيريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - بشريعة إبراهيم أبي العرب لتقريبها إليهم، فقال:
(مِّلَّةَ أَبِيكمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا)، (مِّلَّةَ) منصوب على الاختصاص، أي أعني ملة أبيكم إبراهيم - عليه السلام -، وسمي أبًا للعرب، وإن كان أبا لبعضهم؛ وذلك لأن العرب جميعا كانوا يتفاخرون بالانتساب إليه، ولأنه باني البيت الحرام الذي كان مناط عزة العرب أجمعين، ولأنه أب بالفعل لقريش الذين ابتدأت الدعوة المحمدية فيهم، وكان ذكر هذه الدعوة الكريمة تقريبا وتأليفا، وإدناء من الإسلام، (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسلِمِينَ مِن قَبْلُ)، الإشارة إلى القرآن، وسماهم المسلمين من قبل في مثل ما حكاه اللَّه تعالى من دعاء إبراهيم - عليه السلام -: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا
________
(1) رواه الطبراني في الكبير، عن عمران بن حصين رضي الله عنه، ورجاله رجال الصحيح، ولفظه: " خَيْرُ دِينِكُمْ أيْسَرَه ". مجمع الزوائد (7385).(9/5037)
مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) وسمى القرآن المتبعين لمحمد - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ. . .).
قوله تعالى: (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) " اللام " وما بعدها متعلق بقوله تعالى، (وَجَاهِدُوا)، والمعنى جاهدوا لأجل أن يكون الرسول شهيدا عليكم بأنكم بلغتم وأديتم الأمانة التي أودعها اللَّه ونبيه إياكم، فيشهد الرسول بأنكم أديتموها حق أدائها، ورعيتموها حق رعايتها، وإن رسالة نبيكم والقرآن فيهما شهادة للأنبياء أجمعين ومعجزاتهم، ومن أطاعوا ومن كفروا، وأنتم بهذا تكونون شهداء بأن بلغتم لهم رسالات اللَّه مؤيدة بمعجزاتها، وأن منهم من آمن ومنهم من كفر.
ولان لهم هذه المنزلة، ومقامهم من رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - والرسائل السابقة أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال تعالت كلماته: (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ)، " الفاء " للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إذا كانت لكم هذه المكانة، فادرعوا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والاعتصام باللَّه فأمرهم بإقامة الصلاة وقال: (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ائتوا بها مقومة خالصة لوجه اللَّه تعالى بأركانها من ركوع وسجود وقعود خاشعين للَّه مستحضرين لذاته العلية، إذا ذكرتموه وإذ كبرتم، (وَآتُوا الزَّكآةَ)، وقد جمع سبحانه بذلك بين التهذيب الروحي بالصلاة، والتعاون الاجتماعي بالزكاة، ثم أمر بالاتفاق على طاعة اللَّه تعالى فقال:
(وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ) الاعضصام الاستمساك، فمعنى الاعتصام باللَّه الاستمساك به، بأن يكونوا مستمسكين بأوامره ونواهيه، ومستمسكين بذاته العلية لَا يفكرون إلا فيه، ولا يبتغون غيره، ويلتفون حول شريعته غير منفصلين عنه، وهو نعم المولى ونعم النصير، ولذا ختم السورة بقوله: (فَنِعْمَ الْمَوْلَى) الذي تكون له ولاية المؤمن لَا يوالي غيره ولا يواد من يحادّ اللَّه ورسوله، (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) الناصر، فلا ناصر في الشدائد، ولا منجي سواه.
* * *(9/5038)
(سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ)
تمهيد:
هي سورة مكية نزلت قبل الهجرة، وعدد آياتها 118 (ثماني عشرة ومائة آية)، قيل أنها نزلت بعد سورة الأنبياء، وقد ابتدأت بأوصاف المؤمنين الذين كتب اللَّه تعالى لهم الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)، ثم بين سبحانه أن رعاية الأمانة والعهد من أوصاف أهل الإيمان، وأشار إلى أن الذين وصفوا بهذه الأوصاف هم (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وبين سبحانه أصل خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله سبحانه نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة، ثم خلق من العلقة مضغة، فخلق من المضغة عظاما، فكسا العظام لحما، ثم أنشأه خلقا آخر (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)، ثم إنكم يوم القيامة مبعوثون.
ولقد بين بعد ذلك خلق الكون، فأنشأ فوق الأرض سبع طرائق، (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)، ثم بين سبحانه نعمه تعالى فيما أنشأ به الماء من جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه ومنها(9/5039)
تأكلون، ثم ذكر ما أنعم اللَّه به من شجرة الزيتون التي تنبت في سيناء، وبين نعم اللَّه تعالى في الأنعام، والعبرة في أنه سبحانه وتعالى يسقينا ما في بطونها، وما فيها من منافع، ونأكل من لحمها.
وذكر سبحانه وتعالى خبر قوم نوح وكفرهم وما آل إليه أمرهم بعد أن صنع الفلك ونجا هو وأهله ومن اتبعه، ثم بين سبحانه أنه بعد أن أغرق قوم نوح أنشأ من بعدهم قرنا آخرين، وأرسل فيهم رسولا وكذبوه، وكان ما سوغوه لأنفسهم من كفر أنه بشر مثلهم، وأنه ينذرهم بالبعث، فقالوا: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37).
ورموا رسولهم بالكذب وقالوا: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)، فاتجه رسولهم إلى ربه يستنصر به، قال: (قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40).
ثم بين بعد ذلك ما نزل بهم من عذاب ساحق (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41).
بعد ذلك أشار الله تعالى إلى قصة موسى وهارون وإرسالهما (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ)، استغربوا أن يؤمنوا لموسى وهارون، وقومهما مستعبدون لهم، فكذبوهما، وكانوا من المهلكين، (وَلَقَدْ آتَيْنَا موسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)، وجاء من بعد موسى عيسى ابن مريم، (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50).
وبعد ذلك وجه اللَّه تعالى خطابه للرسل عامة فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
ولنبين بذلك وحدة الرسالة الإلهية، ولكن الناس تقطعوا أمرهم وكل حزب بما لديهم فرحون، واغتر الأكثرون بما أوتوا من مال وبنين، (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56).(9/5040)
ويذكر سبحانه حال المؤمنين الذين اتبعوا الرسل: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62).
ويبين سبحانه بعد ذلك ظلم الظالمين، وأنهم في غمرة من هذا القرآن، ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون، وأن الترف هو الذي أفسد نفوسهم (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74).
وإن الرحمة تطغيهم، وكشف الضر يعميهم، (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)، وإنهم يتحيرون إذا أنزل اللَّه تعالى عليهم عذابا.
ومن بعد ذلك يبين سبحانه فضل الإنشاء، وقدرته في الإحياء والإماتة، واختلاف الليل والنهار: (أَفَلا تَتَّقُونَ)، بل قالوا مثل ما قال الأولون: (قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83).
يوجه سبحانه وتعالى أنظارهم إلى خلق السماوات والأرض وما فيهما، وَمَن رب السماوات السبع والأرض ورب العرش، ومن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير(10/5041)
ولا يجار عليه وسيقولون في كل هذه الأسئلة المنبهة بأنها لِلَّهِ سبحانه وتعالى:
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92).
وقد أمر اللَّه تعالى بأن يدعوهم هو ومن تبعه (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)، ويأمرهم سبحانه بالدعوة إلى الحق (بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ) ولا يحاربهم في حمقهم (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100).
ثم يذكر بعد ذلك يوم القيامة، وكيف يبتدئ بالنفخ في الصور (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذ وَلا يَتَسَاءَلُونَ)، وإن الميزان بعد ذلك يقام (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)، ويبين لهم كيف كذبوا بآيات الله ويجيبون مدعين، (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)،
ويتجهون إلى ربهم طالبين أن يخرجهم، وأنهم لَا يعودون، فيجابون: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108).
ويبين سبحانه وتعالى فريق الصالحين، وأنهم يعاملون بما قدموا، (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111).(10/5042)
ويبين سبحانه أن أمد الدنيا قصير في علم اللَّه مهما يطل في علم الناس، وإنهم لَا يحسون معدود ما يلبثون في الدنيا، (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114).
وقد بين اللَّه تعالى حكمة البعث فقال: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115).
وختم سبحانه وتعالى السورة ببيان واسع سلطانه، وكفر من يشرك به فقال عز من قائل:
(فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118).
* * *(10/5043)
معاني السورة
المؤمنوق حقا.
قال اللَّه تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
* * *(10/5044)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)
هذه أوصاف المؤمنين حقا وصدقا، وهم الذين يفوزون بجنة الفردوس، ويخلدون فيها، وهم الذين يفلحون أمام الله، وقد أكد فلاحهم بقد، التي لم تستعمل في القرآن الكريم إلا للتحقيق، وتأكيد القول، وقد عبر بالماضي، مع أن دخول الفردوس، والفوز سيكون بعد يوم القيامة والحساب؛ إذ من بعد ذلك يكون الثواب بالفوز بالفردوس، وذلك لتأكد الوقوع، وأنه لَا محالة سيكون كقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ. . .).
وقد ذكر اللَّه تعالى في هذه صفات للمؤمنين بها تتنزه نفوسهم وجوارحهم.
أولى هذه الصفات الخشوع في الصلاة، وقد قال تعالى في هذه الصفة:(10/5044)
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
(الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
الخشوع: الضراعة وخضوع القلب، ومن(10/5044)
مظهر الخشوع في الصلاة ألا يلتفت المصلي يمينا أو شمالا بأن يكون كل اتجاهه إلى اللَّه تعالى قلبا ونفسا وإحساسا، وجوارح، والخشوع في ذاته محله القلب، والجوارح مظهره، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: " لو خشع قلب هذا الرجل لخشعت جوارحه " (1). وإن الخشوع يتضمن أن يكون المصلي قد عمر قلبه بذكر اللَّه تعالى، وإذا عمر قلبه استحضر اللَّه في كل أركان الصلاة وأحس بأنه في حضرة اللَّه تعالى، فلا يحس بسواه.
وابتدأ بهذا الوصف، لأنه الطهارة النفسية والقلبية التي هي الأصل في تربية المؤمن.
والصفة الثانية: الإعراض عن اللغو، وقال تعالى:
________
(1) رواه الحكيم عن أبي هريرة رضي الله عنه. الفتح الكبير (10030): ج 3/ 45.(10/5045)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
هو جاء في مفردات القرآن للراغب الأصفهاني " اللغو من الكلام، ما لا يعتد به وهو الذي يورد لَا عن روية وفكر، فيجرى مجرى اللغا، وهو صوت العصافير، ونحوها من الطيور. . قال تعالى: (لا يسْمعونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا).
وإن سماع اللغو من القول يهون في النفس الأمور الخطيرة، ويجعلها في حال عبث ولهو، ومع الإكثار من سماع اللغو تنماع النفس انمياعا، ولا تقوى على تحمل مشاق التكليفات الشرعية، وما تقتضيه من صبر، وضبط نفس، ولا يكون رجلا نافعا أبدا، وتقديم (عن اللغو) يفيد أهمية الإعراض عن اللغو، وأنه لَا يعرض إلا عن اللغو، لتكون كل نفسه للجد من الأمور والمشاركة في الأعمال النافعة، والإعراض يفيد البعد عن اللاغين، وعن مجالسهم. . . ألا فليعتبر الذين يجعلون حياتهم لهوا ولعبا وعبثا.
وِالصفة الثالثة إيتاء الزكاة، ولقد ذكر سبحانه هذه الصفة بقوله تعالى:(10/5045)
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
المعروف في تعبير القرآن الكريم أنه يعبر عن الزكاة بقوله عز من قائل: (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، وهو مناسب لمعناها، لأن الزكاة عطاء، وفضلها في إيتائها، ولكن(10/5045)
هنا عبر عنها بـ (فاعلون). قال الزمخشري في هذا لِمَنْ يُعطى، ومعنى من المعاني ينسب للمعطي على أنه فعلها، فهو قد فعل الأمر المعنوي، وهو أنه أخرج الزكاة راضيا بالعطاء، ونقول إنه يرشح لهذا المعنى أن الآيات كلها تتجه إلى النواحي المعنوية، لَا إلى مجرد الأعمال الحسية، والزكاة لها ناحيتها المعنوية، وهو أن يدفعها طيبة نفسه، راضية يحسبها مغنما، ولا يعدها مغرمًا، وهذا هو الخير فيها، فإن الأمة تكون بخير ما عدت الزكاة مغنما ولم تعدها مغرما، وأن المعطِي لها يغنم من العطاء أكثر مما يعطيه المعطَى له من مال.
وإن ذلك يكون أعلى درجات الإحساس بالتعاون الإنساني والاجتماعي والإسلامي.
الوصف الرابع العفة: والمحافظة على النسل، وهذا ما عبر اللَّه تعالى عنه بقوله:(10/5046)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5)
(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
الفروج جمع فرج، وهو عضو التناسل عند الرجل وعند المرأة، واللام لتقوية التعدية بسبب تقدم الفروج على اسم الفاعل (حافظ)، وحفظ الفروج يتضمن ثلاثة معان:
أولها - معنى الصيانة، فهو يصونها عن رجس الحرام، ورجس الحرام معنوي ومادي. أما المعنوي فهو ما في الحرام من خبث يطهر نفسه منه، وأما المادي فهو يكون في الزنى من تعرض لأمراض خبيثة، هي التي جاءت من الأوربيين، والتي يسمى بعضها المرض الإفرنجي، ولا مانع من أن نشير إليها عند تفسير الآية، وإن لم تكن معروفة، ولكنها عرفت. فمنزل القرآن هو علام الغيوب.
ثانيها - الاستمساك والتحفظ بالعفة، وألا يرمي ماءه في غير محله، وليحفظ له نسبه.(10/5046)
ثالثها - التقيد، أي ليسوا منطلقين يلقونها في أي مكان، وعلى أي امرأة، كل ينزو كما تنزو القردة، وكالحمار ينزو على كل أتان.
والحفظ عن كل النساء وفي كل الأحوال.(10/5047)
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)
(إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ... (6)
ولتضمن الحفظ معنى الاستمساك والصيانة، كانت الإباحة متعدية بـ (على) في المستثنى (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ)، لَا يرسل نفسه إلا على زوجه أو ما ملكت يمينه، أي أنه مرسل على زوجه أو ما ملكت يمينه وأن التعدية بـ " على " جار مجرى قولهم: فلانة تحت فلان، أو فلان تحته فلانة، وربما يكون التعبير مأخوذا من الواقع الحسي، وفي التعدية بـ " على " إشارة إلى الحقيقة الإسلامية (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ. . .).
ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا، ويكون المعنى وصفهم بأنهم يحافظون على فروجهم في كل الأحوال، وباستمرار، ولكن على أزواجهم وما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، ولا يمنع ذلك من جواز أن يكون متصلا.
وقوله تعالى: (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) " الفاء " للإفصاح لأنها تفصح في شرط مقدر مأخوذ من الكلام، أي فإذا كان ذلك (عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين) أي ليس حراما، وفي التعبير بقوله تعالى: (غَيْرُ مَلُومِينَ) إشارة إلى أن عدم المحافظة والانطلاق موضع لوم في ذاته مع تحريمه؛ لأنه لَا يليق بأهل العقل والحكمة والفضيلة.
والوطء بملك اليمين حلال؛ لأن فيه تكريما للأمة وإعلاء لمنزلتها كالزوجة، وذريعة لعتقها، ومنع بيعها؛ لأنها إذا صارت أم ولد حرم بيعها، وإذا ولدت عتقت.
وإن من سار في غير ذلك وراء شهوته فهو المعتدي.(10/5047)
فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
(فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
" الفاء " تفيد ترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي إذا كان الحلال في هذه الدائرة فغيره عدوان على الأسر، وعلى المجتمع وعلى النفس، فيترتب على التحريم السابق(10/5047)
منع ابتغاء المحرمات، والابتغاء هو الطلب الشديد الذي يؤدي إلى العدوان؛ لأن الابتغاء افتعال من البغي، والبغي في ذاته في معنى التعدي، وأولئك الذين تنحرف طبائعهم، فلا يقفون عند الانحلال يطلبون الشهوات بشدة تؤدي بهم إلى الانحراف عن الجادة، وقوله: (وَرَاءَ ذَلِكَ) أي سواه، وعبر عنه بـ " وراء " إشارة إلى أنه انحطاط في الرتبة، وإلى أنه وراء الإنسانية المستقيمة، وانحراف في القصد: (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) الإشارة إلى هؤلاء الذين يبتغون غير الحلال، والإشارة إلى الموصوف بصفة فيها بيان أن هذه هي علة الحكم، والحكم أنهم عادون، أي ظالمون ومتجاوزون، فقد تجاوزوا حد الحلال وهو واسع: يجوز زواج أربع، والتسري بمن يشاء من الإماء، وهو ظالم لنفسه بارتكاب الحرام، وظالم لنسله، وظالم للمجتمع، والظلم مرتعه وخيم، ولا شك أن نكاح المتعة مما وراء ذلك؛ لأنها ليست زواجا، ولا ملك يمين، وبها احتجت عائشة على ابن عباس، وأخطأ الزمخشري ومن تبعه إذ عدها زواجا، وما هي بزواج، وما سماها أحد من السلف زواجا.
الوصف الخامس: مراعاة الأمانة، وهكذا انتقلت الآيات من مرتبة النفس إلى التعاون الاجتماعي إلى إقامة الأسرة على أساس العدل، والمحافظة على النسل، ثم بينت بعد ذلك الأسس التي يقوم عليها التعامل الإنساني، وهو الأمانة، فقال عز من قائل:(10/5048)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8)
الأمانة: ما يؤتمن عليه الإنسان، والعهد ما يكون اتفاقا بين طرفين يتعهد كل واحد لصاحبه، والمحافظة على الأمانة والعهد من صفات المؤمنين، وخيانتهما من صفات المنافقين، وقد ورد في الحديث الصحيح " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر "، وزيدت في رواية أخرى رابعة، " وإذا خاصم فجر ".
ورعاية الأمانة - والعهد القيام عليهما وملاحظتهما، والدقة في المحافظة عليهما، كما يرعى الراعي رعيته، وقال الزمخشري في ذلك: والراعي القائم على(10/5048)
الشيء يحفظه بهمة وإصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية ويقال: مَنْ راعي هذا الشيء أيْ متوليه وصاحبه.
وإن اللفظ يشمل كل ما يؤتمن عليه الإنسان من مال وشرف، وسر وعرض، وكل ما يطلع عليه الإنسان، ولا يكون من المروءة إعلانه، وكل ما يعاهد عليه، ويكون من البر والخير الوفاء به، ولقد قرن اللَّه تعالى الأمر بأداء الأمانة بالأمرِ بالعدل، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ. . .)، فأداء الأمانات وإقامة العدل يستقيم بهما أمر الناس، ويتعاونون فيما بينهم من غير شطط ولا مجاوزة للحد، ويكون المجتمع فاضلا.
وقرنت خيانة الأمانة بخيانة اللَّه ورسوله، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ).
الوصف السادس: هو المحافظة على الصلاة، وهو غير الخشوع، فالأول وصفهم بالخشوع، وهنا الوصف بالمحافظة عليها، وكلاهما لازم، ومطلوب، وهو صفة للمؤمن، فالمؤمن يحافظ على الصلاة، ويخشع فيها، ولكن قدم الخشوع على المحافظة؛ لأن الخشوع لبها، ولأنه أساس كل الفضائل الإسلامية؛ ولأنه روحانية الصلاة؛ ولأنه امتلاء النفس بها، وقال تعالى في المحافظة عليها:(10/5049)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
(وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9)
والمحافظة على الصلاة تقتضي:
أولا - المداومة عليها.
ثانيا - أداؤها في أوقاتها.
ثالثا - إقامتها بإتيانها مقومة ظاهرة وباطنة، وإن المداومة على الصلاة في أوقاتها مع إقامتها مصحوبة بذكر اللَّه واستحضاره في قراءتها وقيامها وركوعها وسجودها، وامتلاء النفس بالخشية تكون مذهبة لصدأ النفوس، يبتدئ يومه بصلاة(10/5049)
الصبح، ليقبل على اليوم طاهر النفس خاشعا من خشية اللَّه، حتى إذا ابتدأ الصدأ يعلوها بمعالجة الحياة وأعمالها جاءت صلاة الظهر، ثم صلاة العصر، ثم صلاتا العشي؛ المغرب والعشاء، ثم ينام طاهرا مطهرا، كما ابتدأ طاهرا، والمحافظة على الصلاة في أوقاتها تجعل المؤمن في خشية دائمة، وهو مشفق منه سبحانه.
تنبيهان:
أولهما - أن الأوصاف التي وصف الله تعالى عباده المؤمنين بها كان سبحانه يذكرها مقرونة بعبارات تفيد اختصاصهم بها، وأنها مقصورة عليهم، وهم مقصورون عليها بدليل اقتران (هُمْ) بكل الأوصاف.
فقال سبحانه في الخشوع: (الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) فهم مختصون من بين عباد اللَّه تعالى من الإنس والجن بأنهم الخاشعون في صلاتهم، وأنهم وحدهم الذين هم عن اللغو معرضون؛ وأنهم الذين هم للزكاة فاعلون راغبين في إعطائها معتبرين ذلك مغنما وليس مغرما، وأنهم هم وحدهم الذين يستمسكون بالمحافظة على أعراضهم، وأنهم وحدهم الذين يداومون على الصلوات، وأنهم هم الذين يراعون العهود والأمانات، وإنه في هذه الأمور يعبر عنهم باسم الفاعل ما عدا الأخير فقد عبر بالمضارع للدلالة على أنه صار لهم صفة.
والثاني - ما أشرنا إليه من أن الآية تدل على المباح من العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو ما يكون بالزواج أو بملك اليمين، وعلى ذلك تكون المتعة حراما، وتكون داخلة في قوله تعالى: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) وليست زواجا، حتى عند الذين يبيحونها؛ ولذلك احتجت بهذه الآيات عائشة - رضي اللَّه عنها وعن أبيها - على عبد اللَّه بن عباس عندما بلغها أنه يبيح المتعة، وهي لا تتوافر فيها شروط الزواج حتى تكونه؛ لأن من شروط عقد الزواج ألا يكون فيه ما يدل على التوقيت.
وقد ذكر اللَّه سبحانه بعد ذلك جزاء أولئك المتصفين بهذه الصفات، وهم المؤمنون حقا، فقال عز من قائل:(10/5050)
أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
(أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
الإرث انتقال المال من إنسان لإنسان بحكم الخلافة عنه، أو بحكم البقاء دونه، وهذا المعنى هو الظاهر من العبارات، فإن أولئك المشركين كانوا يحسبون أنهم وحدهم الباقون؛ لأنهم أكثر مالا وأعز نفرا، وبقاؤهم في هذه الدنيا؛ لأنهم ما كانوا يؤمنون بالبعث، ويقولون أئذا متنا وكنا ترابا أئنا لفي خلق جديد، ويفرضون أنه إن كان بعث فإنهم أصحاب السلطان يوم البعث.
فبين اللَّه تعالى أن أهل هذه الصفات هم الذين يرثون، ويخلفون غيرهم، وأنهم الباقون، وأن كل متع الآخرة تكون لهم؛ لأنهم أبقى وسجاياهم تجعلهم أهل النعيم الباقي، ولذا قال عن ميراثهم:(10/5051)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
(يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
الفردوس الأرض الواسعة المملوءة بالحدائق الغناء، والمثمرات اليانعات، والجنات المزهرة، وينعمون فيها بخيراتها ومناظرها إذ تجري من تحتها الأنهار، وينعمون مع ذلك بالخلود؛ ولذا قال تعالى: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)، والضمير في (فِيهَا) يعود إلى الفردوس على أساس معناها، لأن معناها الجنة -
* * *
آية الله في خلق الإنسان
قال تعالى:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
* * *(10/5051)
السلالة: هي صفو الطين هنا، والإنسان دخل في تكوينه صفو الطين مرتين: المرة الأولى - عندما خلق آدم من تراب فكان صفو الطين في تكوينه، والثانية - أن الطين يدخل في تكوينه بعد أن صار كيانا إنسيا؛ ذلك أن غذاءه يتكون من النبات والحيوان وكلاهما من صفو الطين؛ لأن النبات ينبت من اختلاط الطين بالماء، والحيوان آكل من النبات، فكانت سلالة من طين فيه(10/5052)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
(مِن) في قوله تعالى: (مِن سُلالَة) هي (مِن) الابتداء التي تدل على أن الإنسان يكون من سلالة طين و (مِّن) الثانية بيانية، أي من سلالة هي طين.
ولقد ذكر سبحانه خلقه بعد أن صار في أصلاب الآباء، ثم أرحام الأمهات، فقال:(10/5052)
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
(ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13)
العطف بـ " ثم " له موضعه؛ لأنه مر بأصلاب الآباء، ثم دفق الماء الذي هو النطفة في أرحام الأمهات، كما قال تعالى في تكوينه: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)، وقوله: (ثُمَّ جَعَلْنَاهُ)، الضمير يعود إلى الطين الذي جعل سلالته أي ما ينسل منه - نطفة.
و (جَعَلْنَاهُ) هنا بمعنى حولناه في أصلاب الآباء نطفة هي الماء الدافق الذي ألقي في أرحام الأمهات، وهذه الأرحام هي (القرار المكين) فالقرار معناه المستقر، ووصف بأنه مكين، أي أنه محكم، ما استقر فيه لَا يمكن أن يخرج منه، ووصف المستقر بأنه مكين من حيث إن ما يدخله يكون ثابتا، بل يتربى في موضعه ويتغذى حتى يحين ميقاته، فوصف الموضع بالاستقرار، والمكانة والثبات مع أن الثابت المستقر هو ما أودعه، كما يوصف الطريق بأنه سائر مع أن السائر هو الماشي فيه.
وإن الله الخلاق العليم يجعل الأرحام عندما يدفق فيها الماء يغلق عليه ويتربى فيه، ويتغذى من الدم، حتى يحين ميعاد الولادة، والأدوار التي يذكرها اللَّه تعالى بعد ذلك وهو في القرار المكين، حتى خلق خلقا جديدا فقال تعالى:(10/5052)
ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
(ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
العطف بـ " ثم " في خلق العلقة من الماء السائل الأبيض في موضعه؛ لأنه يكون في وقت أطول، إذ إنه يتحول إلى لحمة حمراء، ويتحيز في مكان بعد أن كان سائلا ليس له مكان متحيز فيه يملأ فراغا، وعبر هنا بالخلق، ولم يعبر بالجعل، لأنه أنشأه إنشاءً، إذ إن تحول ما ينسل من الطين إلى ماء هو النطفة تحويل بخلق الخالق، ولذا عبر بـ " جعل " التي تدل على الخلق، والتصيير والتحويل، بعد ذلك (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً)، أي أن العلقة تحولت إلى مُضْغة، والأصل في المضغة قدر ما يمضغ في الفم من اللحم، ويبتدئ في المضغة تشكيل اللحم وتصويره بالصورة التي تكون عليه؛ ولذا جاء في سورة الحج: (ثُمَّ مِن مُضْغَةٍ مخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مخَلَّقَةٍ. . .)، فيبتدئ في المضغة التخليق، وينتهي بأن يكسى عظاما، والتعبير بـ (خَلَقْنَا) هنا للإشارة إلى أن ذلك التصيير أو التحويل إنما هو بخلق اللَّه تعالى لَا بالسببية التي تحول الجنين من نطفة إلى علقة ثم إلى مضغة، فإن اللَّه تعالى هو الخلاق العليم الذي ينشئ الشيء، فلا ينشأ شيء بغير إرادته، إنما إرادة اللَّه تعالى وقدرته هي الفاعلة.
ثم قال سبحانه: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا)، أي بعد أن تخلقت المضغة، وتميزت أجزاؤها، جعلها اللَّه تعالى عظاما أي جعل من هذه المضغة عظاما صلبة تتحمل. سبحان اللَّه تعالى، طين فماء مهين فقطعة لحم، فمضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم قال تعالى: (فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لحْمًا)، أي جعلنا العظام التي خلقت من المضغة - مكسوة باللحم، وظاهر أن ذلك بخلق اللَّه وتكوينه، ابتدأت بماء مهين، ثم بقطعة لحم ثم بمضغة قدر ما يمضغه الإنسان، ثم بتخليقها، وجعلها عظاما ثم يكسو العظام باللحم، ذلك بقدرة العليم الحكيم وخلقه.
وهنا نلاحظ أن العطف كان بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب، في قوله تعالى: (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا)؛ وذلك للدلالة على سرعة(10/5053)
التكوين مع تفاوت هذا التكوين، أو التحول بإرادة اللَّه تعالى وحده، وبذلك يتبين أنه سهلٌ يسيرٌ عليه، وأن إعادته تكون أيسر، وما خلق الإنسان بأكبر من خلق السماء والأرض.
وأما قوله تعالى في سورة الحج: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا. . .).
وكان العطف بـ " ثم " لا بـ " الفاء "؛ لأن السياق لبيان المراحل، كما قال سبحانه: (لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ) وقد اقتضى هذا أن يكون العطف بما يدل على التراخي، وإن ذلك نسبي، فهو بالنسبة لنا تراخ حقيقي، إذ إن تكوّن العلقة من النطفة يحتاج إلى زمن، وإن كان عند اللَّه يسيرا، فأيامنا عنده أزمان قصيرة، وإن طالت عندنا، وقال تعالى: (ثُمَّ أَنشَأنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)، أي أوجدنا فيه حالا غير الأحوال السابقة، فقد خرج إلى الحياة طفلا، ثم بلغ أشده ومنهم من يتوفى، ومنهم من يرد إلى أرذل العمر؛ لكيلا يعلم من بعد علم شيئا، وقد جعل اللَّه تعالى لهم سمعا وبصرا وأفئدة، وبذلك صار إنسانًا سويا، وأرسل إليه الرسل فَضَلَّ من ضلَّ واهتدىِ من اهتدى، وكل هذا أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله عز من قائل: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) وكان العطف بـ " ثم " له موضعه؛ لأن ذلك الخلق الآخر أخذ أدوارا مختلفة.
وكلمة (آخَرَ) تشير إلى أنه وصل إلى حال هي غير الطينِ وغير العلقة وغير المضغة، بل إنه خلق كامل، وقد قال في ذلك الزمخشري: (خَلْقًا آخَرَ)، أي خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانا، وكان جمادا، وناطقا وكان أبكم، وسميعا، وكان أصم، وبصيرا، وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره، وكل عضو من أعضائه، وكل جزء من أجزائه عجائب قدرته، وغرائب حكمه لَا تدرك بوصف الواصف، ولا بشرح الشارح.
(فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) " الفاء " للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر معناه إذا كان اللَّه هو الذي خلق ذلك الخلق فتبارك اللَّه أحسن الخالقين، وروي أن(10/5054)
عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل عندما سمعا الآية من قوله: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَان مِن سُلالَة مِّن طين) إلى قوله تعالى: (ثُمَّ أَنشَأنَاهُ خَلْقًا آخَرَ)، قالا: (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هكذا أنزلت (1)، ونحن لَا نرضى هذه الرواية، ولكن ذكرناها؛ لأنها تنبئ عن أن هذه الجملة السامية ثمرة طيبة للخلق السابق.
والبركة أصلها من موضع برك الجمل، وقد أطلقت على كل أمر خير ثابت، (فَتَبَارَكَ) معناها تسامي في البركة وعلا، حتى لَا يناهده أحد في خيره الدائم، و (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، أفعل التفضيل ليس على بابه إنما معناه أن خلق اللَّه تعالى وصل إلى أعلى درجات الحسن، بحيث لَا يناصبه حسن قط، وحقا لقد خلق اللَّه الإنسان في أحسن تقويم، كما قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم).
وإن نهاية هذا الإنسان في الدنيا هي الموت، ولم يخلق عبثًا، بل يكون بعد الموت البعث؛ ولذا قال تعالى:
________
(1) رواه الطيالسي، وابن أبي حاتم وابن مردويه، وابن عساكر، وهو صحيح. كما في كنز العمال (35747): ج 1/ 2549.(10/5055)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15)
(ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
العطف بـ " ثم " في موضعه؛ لأن مؤداه أنهم بعد خلقهم في أحسن خلقة، ومنهم من يرده اللَّه تعالى إلى أسفل السافلين، ويستمرون إلى أجل مسمى، ضَلوا فيه أو اهتدوا، أخلصوا دينهم لِلَّهِ أو كفروا، وبعث فيهم الرسل مبشرين ومنذرين إنهم، بعد هذا الدور لميتون، وقد أكد سبحانه موت الناس مع أنه واقع مشاهد كل يوم يموت ناس ويولد ناس، وكان التأكيد بـ " أنَّ " وبالجملة الاسمية، وباللام وبالوصف، (مَيِّتُون) وكان ذلك التوكيد لكيلا يغتر الناس بغرور هذه الدنيا، وأنها إلى فناء مهما طَالت، وأن الحياة الآخرة هي الباقية الخالدة في سعادة ونعيم، أو في شقاء وجحيم.
وفى التعبير بالوصف (مَيِّتُونَ) إشارة إلى أن حياتهم في الدنيا كانها الموت لأنه يترصدهم، فلا يغتروا بغرورها، وبعد الموت يكون البعث، ولذا قال تعالى:(10/5055)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
كان العطف بـ " ثم " له موضعه؛ لأن الأجسام تبقى في القبور أو حيث تكون في أجزاء أخرى كما قال تعالى: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. . .) وقد أكد سبحانه وتعالى: البعث لأن اللَّه تعالى لم يخلقنا عبثا، وقال عز من قائل: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجعون).
أكد اللَّه سبحانه وتعالى البعث ليعظم إنكارهم له، ولقد بالغوا في إنكاره كشأن الذين لَا يؤمنون إلا بما يحسون ولا يؤمنون بالغيب، وأكده سبحانه بـ " أن " وبالجملة الاسمية، وجعل ذلك يوم القيامة، واللَّه سبحانه وتعالى هو الذي خلق وأبدع، وخلقه في الإنشاء، دليل على قدرته على الإعادة.
* * *
خلق الكون ونعم الله على الإنسان
قال تعالى:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
* * *(10/5056)
بعد أن بين اللَّه تعالى خلق الإنسان، وما فيه من عجائب تدل على قدرة اللَّه تعالى - جل وعز - أخذ يبين سبحانه وتعالى خلق ما هو أكبر من الإنسان، وما فيه حياة الإنسان ومعاشه، وما هو مسخر له في السماوات والأرض فقال تعالى:(10/5057)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ).
الطرائق جمع طريقة، وهي هنا بمعنى مطروقة من طرق النقل من حيث إنها مسالك، ومن طرق الخوافي في الطير، بمعنى أن كل طبقة منها فوق الطبقة الأخرى، وطرائق السماء أفلاكها، إذ كل فلك فوق الفلك الآخر وكل مربوطة بأرسان (1) من الجاذبية والنواميس الكونية، بحيث تكون متماسكة، كل نجم وكوكب فيها مشدود بالآخر، كأن حبلا أو سلكا يمسكه، وفسر بعض علماء الفلك هذا النص السامي بأن سبع طرائق سبعة أفلاك لكل سماء طريق يجري بما فيها من الأقمار والنجوم.
وقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) أي أن هذه الطرائق بما فيها من كواكب ونجوم مسخرات بأمره سبحانه يجري كل تحت رعاية اللَّه تعالى وعينه، وهو القائم على كل شيء يسيره بأمره سبحانه إنه عليم خبير (أَلا يَعْلَمُ منْ خَلَقَ وَهُو اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
ونفَى سبحانه وتعالى الغفلة عن ذاته العلية، وهي منفية بحكم علمه الكامل ولكن كان نفي الغفلة كناية عن كمال عنايته بخلقه، وأنه يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وأن كل الوجود تحت رعايته وعنايته، وأنه يسير بأمره، وعلى مقتضى إرادته النافذة، وحكمته العالية.
وصيغة النفي تدل على أن الغفلة ليست من شأنه تعالى، لأنه نفي الكينونة بقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ)، أي ليس من شأننا أن نغفل عن خلقنا، بل نحن قائمون عليه مراقبون له محافظون عليه،
________
(1) أرسان جمع رَسَن، وهو الحبل.(10/5057)
ولقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك نعمه على خلقه في صلة الأرض بما فوقها، فقال تعالى:(10/5058)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
(وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
يمن اللَّه علينا، وله المن والفضل، بأننا نعيش في الأرض برخاء، ونجد حاجاتنا منها موفورة، وأسبابها قائمة بقوله: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءَ بِقَدَرٍ)، أي بمقدار مصلح للأرض على أن يكون غيثا لَا عتيا، فالمطر الزائد كالسيل الجارف لا يكون غيثا بل يكون عتيا، ويهدد الله به الظالمين من الناس، كالسيل الذي أغرق قوم نوح، فقوله تعالى: (بِقَدَرٍ) أي على القدر الذي تعنيه الحاجات، ويكون إصلاحا، ولا يكون فيه فساد للزرع والضرع، ويقول سبحانه: (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) أي جعلنا في الأرض مستقرا له، كأنما يسكنها، كما يأوي الآوي إلى مسكنه.
وذلك أن ما تنزله السماء قسمان: قسم عارض ممطر يغيث في وقت الجدب، ولا ينزل بانتظام كالمطر الذي ينزل بالاستسقاء، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستسقي، ومن بعده أهل الصلاح والتقوى، وقسم يجري في أنهار ويسلك ينابيع الأرض في عيون، وهذا يُسكنه الأرض، كنهر النيل، فإنه ينزل على الجبال، وفي البحيرات التي تمده، وهذا يبدو كأنه الساكن في الأرض، وإن كان في سير دائم من منبعه إلى مصبه، وهذا وأشباهه يوجد الخصب والنماء بإذن اللَّه تعالى، ومن الناس مَن اعتقد أنه دائم لا يغيض، ولذا قال تعالى: (وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) أي إنا على إذهابه لقادرون، والباء للتعدية، ولقوة الإذهاب كقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ)، وإن مثل الأنهار العيون، فهي ينابيع في الأرض قد اختزنتها الأرض في جوفها وهي للَّه، (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30).
وقد قال تعالى في بيان بعض نعم الماء:(10/5058)
فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
(فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19)
الفاء عاطفة، وانشأنا، خلقنا بإنشاء جديد لَا بمجرد التوليد لشيء من شيء، فإن إخراج الحي من الجامد ليس توليدا مجردا، إنما هو إنشاء لمخلوق جديد، واقرأ قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)، ثم يقول تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99).
وقوله تعالى: (مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَاب)، من هنا بيانية، فهي بيان لنوع الجنات، (وَأَعْنَاب)، جمع عنب، وجمعه لأنه أنواع مختلفة فالأعناب بكل أنواعها، خلقها اللَّه تعالى وأنشأها إنشاء، ولم تذكر الحبوب؛ لأنها كانت قليلة في مكة وما حولها، وإنما كان النخيل والأعناب فيها، وفي الطائف القريبة منها.
وهذان النوعان النخيل والأعناب، فاكهة يانعة يتفكهون بها، وغذاء طيب يستغنون به عن كل الأطعمة، فإذا كان عند الرجل نخلة وناقة، فعنده الغذاء الموفور من التمر واللبن، ولذا قال تعالى: (لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)، أي إنها فاكهة وغذاء، فالعنب يؤكل رطبا وزبيبا، والبلح يؤكل رطبا وبسرا، وهو أنواع مختلفة.
وذكر سبحانه وتعالى نوعا ثالثا من الأشجار، وهو الزيتون، فقال تعالى:(10/5059)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
(وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
الواو عاطفة، (شَجَرَةً) معطوفة على (جنات)، أي أنشأنا شجرة، وقال المفسرون جميعا، إنها شجرة الزيتون وهي شجرة مباركة، وتنكيرها لبيان فضل خيراتها، و (مِن) للابتداء أو بمعنى (فِي)، والمعنى شجرة تخرج مباركة في طور(10/5059)
سيناء، والطور هو جبل الطور، والمراد كل سيناء، وعرفت بأكرم مكان فيها؛ لأن فيه تجلى اللَّه على موسى كليمه، وهي أرض مقدسة من الأراضي التي شرفها اللَّه تعالى بتقديسه، وقد أقسم اللَّه تعالى بها، فقد قال عز من قائل: (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)، فقرنها في القسم بالبلد الأمين بيت اللَّه الحرام، وكان ذكرها لتوجيه الأنظار إليها وعدم تركها لقتلة الأنبياء وفسقة الأرض، وليس لليهود أن يطلبوا تراث موسى أو ما خلفه، لأن أحق الناس بموسى عليه السلام محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن اتبعه، فلو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبعه، فإن يهود هذا الزمان ومن قبلهم مقطوعون عن موسى - عليه السلام - قد قتلوا الأنبياء؛ ولأن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - قد نسخت شريعة التوراة، وما جاء به موسى إلا ما أبقاه القرآن الكريم كشريعة القصاص.
وإن ذكر طور سيناء منسوبة إليها شجرة الزيتون، لتوجيه عقول المسلمين إليها، إذ الزيتون شجرته في كثير من أرض اللَّه تعالى، وقد وصف اللَّه تعالى شجرة الزيتون بقوله: (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)، أي تنبت هذه الشجرة المباركة مصاحبة للدهن، أي تنبت وقد أودعها اللَّه تعالى الدهن، وإن الذي ينبت هو أخشاب الشجرة، ولكن لأن الدهن خلقه اللَّه تعالى فيها، وتفيض به جعلت كأنها أنبتت الدهن ذاته، أو أن الدهن نبت مع أخشابها، والدهن هو الزيت، وإن فيه شفاء للناس، وقد وصف اللَّه تعالى شجرته بأنها مباركة فقال تعالى في سورة النور:
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ. . .).
والصبغ، وهو إدام الطعام، وإنه يؤخذ من زيتون الشجرة إذا لم يعصر زيته إدام للطعام، يسهل تناوله، وذكر سبحانه بعد ذلك نعم اللَّه تعالى التي تجيء ثمرة للنبات الذي أنتجه اللَّه تعالى بالماء.(10/5060)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21)
الأنعام: جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم، وما يشبهها فيما يؤدي مؤداها ما يزلل للإنسان، ويكون تحت سلطانه، ويطوَّع لإرادته، وأول ما حكم به سبحانه أن فيها عبرة أي اعتبارًا بدلالتها على خلق الخالق وقدرته وإبقائه على الإنسان، فهي حيوان مسخر للإنسان، ومع أن له إرادة، وإن لم تكن عاقلة، وكونا مستقلا، سخره اللَّه تعالى للإنسان مطوعة له مستأنسة له، وذكر من هذه العبر ما في درها من لبن يسقينا إياه رب العالمين، ولكم فيها منافع، فيتخذ من أصوافها، وأوبارها وأشعارها أثاثا، ويتخذ من جلودها بيوتا وأخبية، (وَمِنْهَا تَأْكلُونَ) أي نأكل لحمها فهو حلال طيب، فحياتها كلها خير تدر لبنا، ويؤخذ منها أثاث، وبيوت ومساكن، ولحمها يؤكل، وكل هذه نعم يجب علينا شكرها، ولا يصح أن نكفر بها، ونشرك باللَّه تعالى المنعم؛ إذ شكر المنعم واجب بحكم العقل والإيمان.
ويقول سبحانه وتعالى:(10/5061)
وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
(وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
الضمير في (عَلَيْهَا) يعود على الأنعام، وليس معناه أن كلها يحمل الإنسان بل إن بعضها، وهو الإبل، والخيل والبغال والحمير إن أدخلناها في عموم النعم، ومن المؤكد أن بعضها وهو الإبل يتخذ للحمل حتى سموا الإبل سفينة الصحراء، وقد قال ذو الرمة في الإبل: سفينة بر تحت خدي زمامها.
ولذا ذكرت وراء الإبل من الأنعام الفلك، فإن الفلك تجري بقدرة اللَّه تعالى حاملة الأمتعة والمنافع من الشرق إلى الغرب، رابطة الأقاليم في الأرض بعضها إلى بعض، فهي التي تنقل خيرات الأرض بعضها لبعض.
* * *(10/5061)
من أخبار الرسل
قال تعالى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
* * *
قص اللَّه تعالى بعد ذلك قصص النبيين تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتعليما له وبيانا لتشابه إجابة الكافرين؛ مما يدل على موطن الشك في قلوبهم الذي ينادي بها إلى الكفر، وظلم النبيين، وإنكار الحقائق التي تؤيدها الفطرة، وإنهم إذ يتشابهون في الكفر قد تشابهوا فيما يتذرعون به من إنكار، كما أن دعوات النبيين واحدة في(10/5062)
ابتدائها وهي الدعوة إلى عبادة اللَّه تعالى وحده، وهذا نوح الأب الثاني للبشرية يقول اللَّه تعالت كلماته فيه:(10/5063)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23).
ناداهم مقربا لنفوسهم متلطفا معهم في القول: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ) ابتدأ بذكر أنهم قومه الذين ألفهم وألفوه، وجربوه، ولم يعهدوا عليه كذبا، وما أشبه هذا بقول محمد - صلى الله عليه وسلم - في أول دعوته لقريش: " أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم؛ ما جربنا عليك إلا صدقا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " (1) قال نوح لقومه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ) أي وحده فلا عبادة إلا له وحده؛ ولذا قال بعد ذلك (مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غيْرُهُ) (مِّنْ) لاستغراق النفي، أي ليس لكم أي إله غيره، فلا ألوهية إلا له سبحانه وتعالى، وحرضهم على الطاعة، وخلع عبادة الأوثان، فقال: (أَفَلا تَتَّقُونَ)، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي ترتب على الأمر بعبادته سبحانه وحده وبطلان عبادة الأوثان التي يعبدونها أن يطلب منهم محرضا تقوى اللَّه واتقاء عذابه، والفاء مؤخرة عن تقديم لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام للتنبيه، والتحريض على اتقاء العذاب، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لقومه في أول دعوته: " إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. وإنها للجنة أبدا أو النار أبدا " (2).
هذا كلام نوح - عليه السلام - في دعوته قومه، وقد بينا أنه يتشابه مع دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - قومه، وقد كان جواب قومه بعد أن دعاهم عليه السلام مشابها لإجابة قريش لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بعد أن أمعن في دعوته، قالوا له عليه السلام:
________
(1) رواه البخاري: تفسير القرآن (وأنذر عشيرتك الأقربين) (4397) وبنحوه مسلم: الإيمان في قوله تعالى: (وأنذر عشسيرتك الأقربين) (307) من رواية ابن عباس رضي اللَّه عنهما.
(2) سبق تخريجه.
(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)(10/5063)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)
كانت إجابتهم إجابة من فوجئ بأمر لم يألفه ولم يعرفه، وكذلك كانت إجابة أهل مكة للنبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا أولا - (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مثْلُكُمْ)، كذلك قال أهل مكة، قالوا: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ)، وقالوا ثانيا - (يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي يطلب الفضل عليكم بالرياسة والسلطان، كذلك قال أبو جهل أحد زعماء الشرك وأطغاهم؛ فقد قال في سبب كفره: تنازعنا وبني عبد مناف الشرف، اطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، حتى إذا تحاذينا على الركب قالوا منا نبي، فأنى يكون لنا ذلك، واللَّه لَا نؤمن به أبدًا.
وقالوا ثالثا - (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلائِكَةً)، أي لو شاء اللَّه أن ينزل رسالة من عنده لأنزل بها ملكا يخاطبنا، كذلك طلب المشركون أن ينزل عليهم بالرسالة ملك، (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9).
وقالوا رابعا في رد دعوة نوح للتوحيد: (مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ)، أي إنهم لَا يتبعون إلا ما كان عليه آباؤهم، كما قال تعالى عن مشركي مكة، (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ)، وهكذا نجد رد قوم نوح عليه السلام يشبهه تماما رد المشركين على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كانت نتيجته أن أهلك اللَّه تعالى الكافرين من قوم نوح، وكان عليهم أن يتوقعوا مثل ما نزل بقوم نوح، لولا رحمة اللَّه، عسى أن يخرج اللَّه من أصلابهم من يعبد اللَّه، بل أن يكون منهم من ينصر الحق، ويجاهد مع المجاهدين.
ولقد استمرت دعوة نوح عليه السلام إلى الحق، واستمر عنادهم، ووصفوه بأنه مجنون، وأنهم ينتظرونه حتى يفيق.(10/5064)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
(جِنَّةٌ) بكسر الجيم، أي مما هو إلا رجل به جنون (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي إذا كان به جنون فتربصوا به حتى حين، أي إلى حين(10/5064)
يستفيق ويرشد، والتربص انتظار زوال أمر، أو مجيئه، أي انتظروه حتى يفيق، أو يعرض عن هذه الدعوة.
وكذلك قال قوم محمد - صلى الله عليه وسلم - فقالوا مجنون، وقالوا إن كان الذي يأتيك رئيا من الجن بذلنا من أموالنا ما نكشفه عنك، وهكذا تشابهت أقوال الكفار لأنها تنبع جميعا من نفوس غير مؤمنة، وتشك في القول الحكيم المرشد.
يئس نوح من إيمان قومه أو الأكثرين منهم، وقال له اللَّه تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)، فاتجه إلى ربه ضارعا طالبا النصرة.(10/5065)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
(قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26)
أي قال: انصرني عليهم لأنهم كذبوني ودفعهم تكذيبهم إلى الفساد، وقال:
(وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27).
وهنا نجد الفارق بين نوح عليه السلام، وخاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم -، فبينما نوح يدعو لهلاك الكافرين من قومه ويخاطب ربه، فيقول: (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)، يقول خاتم النبيين صاحب الرسالة الأخيرة الباقية: " إني لأرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لَا يشرك به شيئا " (1).
استجاب اللَّه تعالى لدعاء نوح، ودبر له الأمر لينجو نوح ومن آمن معه، وما آمن معه إلا قليل، وقال تعالى:
________
(1) متفق عليه، وقد سبق تخريجه.
(فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)(10/5065)
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)
ْأوحى الله تعالى إلى نوح أن يصنع الفلك لينجو فيه من أراد اللَّه تعالى نجاته وهم الذين آمنوا وأهل نوح الذين لم يكفروا، أن تفسيرية، لمعنى الإيحاء الذي أوحى به إلى نوح عليه السلام، فقوله: (اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)، أي اصنع الفلك برعايتنا ورقابتنا، كمن يكون تحت العين والبصر، ولا يعد ذلك تأويلا، بل إنه ظاهر اللفظ، من غير تأويل، فلا حاجة إلى ما قيل إن هذا تأويل كقول الخلف، ولا إلى القول بأن للَّه عينا ليست كأعيننا، كما يُدَّعى أنه قول السلف (راجع في هذا رسالة الغزالي: إلجام العوام عن علم الكلام).
أي أن صناعة الفلك كانت برقابة اللَّه - تعالى - ورعايته ووحيه في البناء والتصرفات، (وَفَارَ التَّنُّورُ الفُرْنُ الذي يخبز فيه الخبز، والتعبير عن سبب سير السفينة الذي يقترن بسيرها بقوله تعالى: (وفَارَ التَّنُّورُ) فيه ما يشير إلى أنها كانت تسير ببخار الماء، وقد أشرنا إلى هذا المعنى في سورة هود.
(فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كلٍّ زَوْجَيْنِ)، أي أدخل فيها من كل صنفين زوجين ذكر وأنثى، واسلك بمعنى أدخل هي في اللغة، ومن ذلك قوله تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر)، أي ما أدخلكم فيها، وقال تعالى: (وَأَهْلَكَ)، أي أدخل أهلك إلا من سبق عليه القول بهلاكهم لأنهم كافرون، وقد خاطبه نوح في شأن ابنه كما جاء في سورة هود إذ قال نوح - عليه السلام - إشفاقا على ابنه: (إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي. . .)، فقال اللَّه تعالِىٍ له: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غيْرُ صَالِحٍ. . .). وقوله: (مَن سَبقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) وهو الحكم عليهم بالهلاك، ولذا تعدى بعَلَىَ وقد التفت الله تعالى حكمه، من بعد ذلك إلى نوح ومن معه مذكرًا لهم بعد أن أغرق الكافرين، فقال مخاطبا نوحا:(10/5066)
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28)
استويت، أي تمكنت واقتعدت أنت ومن معك مقاعدكم، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وإن ذلك يدل على أن قوم نوح قد ساوروه بالأذى وإرادة(10/5066)
إهلاكه وقومه، حتى أمر بأن يحمد الله تعالى على نجاته منهم وقد كانوا ظالمين، وهذا كقوله تعالى: (فَقطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ)، وهكذا أمر اللَّه تعالى نوحا بأن يحمد اللَّه تعالى إذا استوى كما قال في سورة هود: (وَقَالَ ارْكَبُوا فيهَا بِسْمِ اللَّه مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ ربِي لَغَفُورٌ رحِيمٌ)، كما أمره سبحانه وتعالي أن يدعو اللَّه في قابل أمره شاكرا حامدا، فقال تعالى:(10/5067)
وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
(وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
الخطاب لنوح عليه السلام، وصوره: بـ (رَبِّ) للإشارة إلى أنه إذ نجاه لا يصح أن يلجأ إلا لعنايته وكلاءته وحمايته (أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا) المنزل هنا بمعنى المصدر، لَا بمعنى المكان، أي أنزلني إنزالا فيه خير ونماء وبركة، بأن يثبت اللَّه تعالى قلوب الذين آمنوا على الحق، وقد رأوا بأعينهم عاقبة الذين ظلموا أنفسهم بالكفر ومعاندة الحق، وقد بارك سبحانه من معه، فجعل منهم ذرية الخليقة فكان بحق الأب الثاني للإنسانية، وقد أثنى على ربه بما هو حقه، (وأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلينَ)، أي أنت الذي تنزل منازل أعلى ما يكون الإنزال المبارك.
وقد بين سبحانه وتعالى العبرة في هذا قصص المحكم الخاص بنوح وقومه، فقال عز من قائل:(10/5067)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
أي أن في ذلك القصص الخاص بنوح وقومه، وكيف أرهقوه من أمر الرسالة عسرا، لآيات وعبر للذين يستبصرون، ويدركون أن الأمور البالية يتعرض أصحابها للمشقات من أهل الباطل والضلال، وقد كان إحجام الضالين أولا لأنه بشر مثلهم، ولأنهم ينكرون البعث ولا يؤمنون به، ولأنه اتبعه الضعفاء والفقراء الذين ازدرتهم أعين المستكبرين، وهكذا مما ابتليت به أنت، وكانت الآية الأخيرة أن الله تعالى أغرقهم، وقطع دابر الذين ظلموا، وفيه آية سامية في علوها وهي أن الزلفى عند اللَّه بالحق والإيمان به، لَا بالقرابة فهذا ابن نوح كان من المغرقين مع أنه أقرب الناس إلى نوح.
وإن من فضل اللَّه تعالى وشأنه أن يعامل الأخيار معاملة المختبرين، ولذا قال تعالى: (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) إن هنا هي المخففة من الثقيلة، وإنها ضمير الشأن،(10/5067)
والمعنى، وإن الحال والشأن للذات العلية (كُنَّا لمُبْتَلِينَ)، و (كان) تدل على الدوام واللام واقعة في خبر إن مميزة لها، ومبتلين خبر كنا، وهي اسم فاعل، لَا اسم مفعول، أي إن الحال والشأن أن نعامل الأبرار معاملة المختبرين لكي يعرف خيرهم، ويظهر استحقاقهم للثواب، وإن المخير لَا يأتي عفوا سهلا ميسرا، لَا بد له من من جهاد، وعلى قدر الجهاد يكون الثواب، وكان حقا على محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يجاهد المشركين، ولا ييأس من نصر اللَّه، وللَّه ورسوله الغلبة والعزة.
* * *
الرسل بعد نوح لاقوا ما لاقى
قال تعالى:
(ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
* * *(10/5068)
ذكر اللَّه تعالى نبذة صغيرة من قصة نوح عليه السلام مشيرة إلى سائرها الذي ذكر مفصلا في سورة هود، وهي نموذج قرآني لقصة الذين كانوا بين نوح ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، من الرسل، في تكذيب أقوامهم، ونوع هذا التكذيب، فهم يحسبون أن الرسول لَا يكون بشرا يأكل مما يأكلون، ويشرب مما يشربون، ويحسبون أنه لَا بعث ولا نشور، وأن الأتباع يكونون من الأقوياء لَا من الضعفاء الأذلين في زعمهم الفاسدين، وفي ذلك بيان أن ما ينزل بمحمد من بلاء الأقوياء المستكبرين هو صور من صور ما لاقاه النبيون من نوح. فعليه الصبر كما صبر أولو العزم من الرسل.
قال تعالى:(10/5069)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)
(ثُمَّ أَنشَأنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ).
العطف بـ (ثُمَّ) لتطاول الزمن بين نوح، وبين من جاءوا بعد، والقرن جماعة من الناس، وذكرهم سبحانه وتعالى بالمفرد ولم يذكرهم بالجمع، لتشابه أحوالهم في نوع إنكارهم، وما يدعون إليه رسلهم، فكانوا كقرن واحد، وليسوا قرونا متعددين، وكلمة (آخَرِينَ)، أي ليس هم قوم نوح، وإن كانوا على شاكلتهم، وكفروا كفرهم، وضلوا ضلالهم. ولم يذكر سبحانه من هم هذا القرن، ولا شك أنه جاء بعد نوح عاد وثمود، ومدين، وأرسل لهم رسلا آخرين دعوهم إلى ما دعا إليه نوح عليه السلام، من توحيد، وإيمان بالبعث والنشور، وأن الثواب للمؤمنين، والعقاب للظالمين، ولم يذكر اللَّه تعالى بالتعيين هؤلاء الأقوام، وإن لم يقصص القرآن قصصهم فقد قال تعالى: (مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ). وإن أهل هذه القرون أُرسل إليهم رسل فقال تعالى:(10/5069)
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
(فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32)
في هذا النص أنه سبحانه وتعالى أرسل إليهم رسولا، مع أن الذين جاءوا بعد نوح رسل في أقاليم مختلفة، وفي قرون متوالية، رسولا بعد رسول، وربما يكونون عدة رسل في جيل واحد، كإبراهيم ولوط، وكموسى وهارون، ولكن أفرد ذكر الرسول؛ لأنهم جميعا جاءوا برسالة واحدة وهي التوحيد، والإصلاح، فهم وإن(10/5069)
تعددوا هم كرسول واحد، وذكرت الدعوة بالصيغة التي ذكرت بها دعوة نوح عليه السلام: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) و (أَن) هنا تفسيرية؛ لأن ما بعدها تفسير لـ (فَأَرْسَلْنَا)، أي أرسلناهم بأن يقولوا اعبدوا اللَّه ما لكم من إله غيره. أي ليس لكم من إله أي إله غيره، (أَفَلا تَتَّقونَ)، وقد تقدم ذكر معناها قريبًا، ولقد ذكر سبحانه أن الرسول منهم يعرفونه ويألفونه، ويكون من أوسطهم نسبا، وأعلاهم مكانة، ولقد كان رد قومه عليه - وهو مثل من الرسل الذين جاءوا بعد نوح - كرد قوم نوح فقال تعالى عنهم:(10/5070)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)
(وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33)
وصف الله الذين كفروا وكذبوا بثلاث صفات هي الصفات الملازمة لمعارضي الأنبياء ومعانديهم، الصفة الأولى: أنهم من الملأ، أي من أشراف قومه وبطانة الرؤساء والكبراء، وليسوا من الضعفاء ولا الفقراء والعبيد، الصفة الثانية: أنهم كذبوا بلقاء الآخرة، لَا يؤمنون بالبعث والنشور؛ لأنهم استغرقتهم المادة، فلا يؤمنون بالبعث، ولا يصدقون إلا المحسوس الذي يرونه، ومن لَا يؤمن إلا بما يحس فقلبه أعمى وعقله في ضلال، وهو كالأنعام بل أضل سبيلا، وقوله تعالى: (وَكَذبُوا بِلِقَاءِ الآخِرةِ) من إضافة المصدر إلى ظرفه، أي اللقاء الذي يكون في الآخرة، وهو لقاء الحساب والعقاب والثواب، ولقاء ملائكة العذاب، أي أنه يلقى كل في الآخرة كل ما هو شقاء مرهوب.
والصفة الثالثة: قوله تعالى (وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) والترف التوسع في النعيم، وأترفوا في الحياة الدنيا معناها وسع لهم فيها، ونالوا نعيمها، وذكر (الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) إشارة إلى أنهم ينعمون في الحياة الدنيا، ولم يلهموا شكر النعمة فيها؛ لأنهم لو ألهموا الشكر، لوسعت عليهم النعمة في الدنيا والآخرة.
وذكر الإتراف في هذه الحياة الدنيا؛ لأن الترف فيها لَا يجعلهم يعملون للآخرة؛ إذ تلهيهم أموالهم وأولادهم عن العمل للآخرة، كما قال الله تعالى(10/5070)
للكافرين: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)؛
ولأن الترف من غير إيمان يجعل النفس مائعة غير جادة إلا فيما يعني جمع المال؛ ولأن كثرة المادة تمنع إدراك معاني الإيمان لأن المادة تستغرق الإدراك، وأساس الإيمان هو الإيمان بالغيب، وبما وراء الحس، ولا يكون ذلك إلا بقلب مملوء بالرحمة والمعاني الإنسانية السامية.
ومع هذه الأوصاف نجد سبب إنكارهم أنه بشر مثلهم، فيقولون في تكذيبهم:
(مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) فهم أولا يحكمون بالمثلية لهم، وفي ذلك إشعار بأنهم ينفسون عليه مكانته من النبوة دونهم، وأن ذلك يومئ بحقدهم عليه، وحسدهم له على ما آتاه اللَّه تعالى من فضله، ووضحوا هذه المثلية بقوله تعالى عنهم: (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) فأقيستهم مادية صرفة، ولا يؤمنون بمعنى من المعاني العالية، ولقد قرروا خسرانهم إن أطاعوا بشرًا مثلهم، فقال تعالى حاكيا عنهم:(10/5071)
وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)
(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)
أكدوا من فرط حسدهم خسرانهم إن أطاعوا بشرا مثلهم، وأكدوه بلام القسم، وبالقسم، وبالتأكيد في الجواب بـ (إن) أوبلام التوكيد الواقعة في جواب (إن)، وإنهم في زعمهم يخسرون مكانتهم في قومهم وشرفهم المزعوم في قبيلهم، وسلطانهم في أقوامهم، ويصيرون تابعين لمثلهم، وهم المتبوعون في أقوامهم، وذلك كله غرور الترف، وفساد المقاييس، وسيطرة المادة.
ويذكرون بعد ذلك أشد ما يدعوهم استنكارا، وهو وعدهم بالبعث، فيقول تعالى عنهم:(10/5071)
أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
كانت المادة الأولى لإنكارهم التي سوغت كفرهم أنه بشر مثلهم، ثم كانت المادة الثانية أنه يعدهم بأنهم سيبعثون، قالوا مستنكرين ومستبعدين: (أَيَعِدُكمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ) الاستفهام للإنكار، أي استنكار هذا الوعد، لإنكار الواقع، فهو في معنى التوبيخ للنبيين على هذا الوعد الذي وعدوه، والذي هو جزء من رسالتهم، ويذكرون سبب الإنكار في أمرين:(10/5071)
ْأولا - أنهم ماتوا.
والثاني - أنهم صاروا ترابا وعظاما بالية، وهي رميم، وإن ذلك يجعل الإعادة في نظرهم مستحيلة؛ لأن الأرواح زهقت بالموت، والأجسام بليت، ونسوا أن الذي بدأهم وأنشاهم من العدم، كما قال سبحانه: (كمَا بَدَأَكُمْ تَعودُونَ)، وأن الذي فطرهم أولا هو الذي يعيدهم ثانية. ويزيدون في استبعادهم أو إنكارهم أنهم مخرجون من دفائن القبور إلى ظاهر الوجود، وكل ذلك من سيطرة المادة.
ويؤكدون ذلك فيقولون:(10/5072)
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
(هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
(هَيْهَاتَ) يقول النحويون: إنها اسم فعل ماضٍ بمعنى بَعُدَ، وقد أكدوا البعد بالتوكيد اللفظي بتكرار الكلمة، كما أكد الاستبعاد باللام في قوله تعالى: (لِمَا تُوعَدُونَ) فكأن مضمون الكلام البعد المؤكد لما توعدون، أي الذي توعدونه من بعث ونشور وعقاب وحساب، كاللام في قوله تعالى: (هَيْتَ لَكَ. . .)، أي النداء لك أو لإغرائك.
وهكذا قد غشيت المادة تفكيرهم، حتى صاروا لَا يفكرون إلا عن طريقها، ويستبعدون بأهوائهم، ولا يفكرون بعقولهم، ويؤكدون إنكار البعث، فيقولون كما حكى اللَّه تعالى عنهم بقوله:(10/5072)
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
(إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
فصلت هذه الجملة عما قبلها؛ لأنها في معنى البيان لها، وتوكيدها، وقد انتقلوا من مرتبة الإنكار، إلى مرتبة ادعاء النقيض وادعاء أنه لَا حياة بعد هذه الحياة قالوا: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا) فإن نافية، ففي الجملة نفي وإيجاب، وهذا يفيد القصر، أي لَا حياة إلا هذه الحياة الدنيا، والدنيا مؤنث أدنى، أي هذه الدنيا القريبة وليست الحياة البعيدة (هِيَ) - تفيد التوكيد، إذ مضمونها أن هذه الحياة وحدها.(10/5072)
(نَمُوتُ وَنَحْيَا) أي يولد من يولد، ويموت من يموت، ويحيا بالميلاد من يحيا، كما نرى الموتى والأحياء، فهم يقرون بالواقع المحسوس فقط، ليموت من يموت، ولا يعود، ويولد من يولد فيحيا ثم يموت، ولا عود لمن مات، ولذا حكى عنهم أنهم يقولون: (وَمَا نَحْنُ بِمَبْعوثِينَ) أكدوا النفي بالباء، وبنفي الوصف، أي ليس من شأننا أن نبعث؛ لأن من مات لَا يعود؛ ولأنه لَا تحيا العظام بعد أن صارت رميما.
بعد هذا الإنكار الذي من شأن الذين كذبوا بلقاء الآخرة ينتقلون من مرتبة الإنكار المجرد، إلى مرتبة التهجم على مقام الرسالة، فيقولون:(10/5073)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
(إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38)
الافتراء: الاختلاق؛ لأنه افتعال من فرى بمعنى قطع، أي أنه قطع واشتد في اختلاق الكذب، بما قال من قول بعيد عن معقولهم وأهوائهم، وادعوا أنه افتراء الكذب على اللَّه تعالى، وهو أعظم الافتراء، (إِنْ) نافية، وبعدها الاستثناء فهو نفي وإيجاب، ومعنى ذلك أنهم قصروا حال الرسول على افتراء الكذب على اللَّه تعالى، وكأن عبارتهم فيها نوع تحقير لرسولهم، إذ يقولون: (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ) من غير أن يذكروا اسمه، أو رسالته، ويحصرونه في الافتراء عليه سبحانه، ثم يردفون ذلك مؤكدين كفرهم (وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ)، أي ما نحن بمذعنين لقوله ولا مصدقين به، ولتضمن الإيمان معنى الإذعان والتسليم عدي باللام، أي ما نحن بمصدقين، ولا مذعنين له.
كان كلامهم هذا إيذانا بالإيذاء، وقد هددوه، ولذا يتجه الرسول إلى من أرسله، فيطلب نصره:(10/5073)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39)
(قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39)
اتجه الرسول، وهو أي رسول جاء بعد نوح، فهم في معاندة الكافرين لهم، والتجائهم إلى ربهم بسبب صورة واحدة تكررت في القرون التي جاءت بعده عليه(10/5073)
السلام، تبين طبائع بعض الناس في تلقي الحق، وتبين صبر الرسل، وبقاء العنت من أقوامهم. ونادى ربه الحافظ الكالئ الحامي، (انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ)، أي التكذيب، وما تبع التكذيب من إعنات وإيذاء، ومقاومة عنيفة آثمة، فطلب النصرة لا يكون من التكذيب المجرد، إنما يكون مما يصحبه ويكون ملازما له.
أجابه ربه بأن نصره قريب فقال له:(10/5074)
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
(قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
(عَمَّا) هنا لتأكيد القول، ولبيان القلة الزمنية التي تكون حتى ينزل عليهم عذاب اللَّه الساحق الماحق، أي عن قليل من الزمن متجاوزين عنه أي تاركين له أي قلة في غيهم يرتعون (لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِين) على كفرهم وعلى عنادهم، وصدهم عن سبيل الله بعد مقاومتهم للحق.
وقد تأكد نزول العذاب بهم بمؤكدات، فأكد أولا - بـ " مَا "، المؤكدة، وثانيا - بالقسم، وثالثا - لام القسم، ورابعا - نون التوكيد الثقيلة، وقد بين سبحانه كيف نزل بهم العذاب، فعبر عن أمر اللَّه بعذابهم بصيحة أرجفت أرضهم وديارهم، وجاءتهم بريح صرصر عاتية، فقال:(10/5074)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
" الفاء " عاطفة على القسم السابق جاء ما بعده فوره، أي بعد زمن ليس ببعيد في علم، والصيحة بالحق هي إرادة اللَّه التي تكون بالحق دائما، فهي كناية عن إرادة اللَّه تعالى التي لَا يتخلف حكمها ساعة من زمان، وكانت هذه الإرادة تتجلى في رجفة تجعل عالي الأرض سافلها، أو تدكدك الديار، أو بريح صرصر عاتية، كما فعل اللَّه مع قوم لوط وعاد وثمود.
وقوله تعالى: (فَأخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) تعبير مجازي مؤداه أنه نزلت بهم آثارها التي أرادها اللَّه تعالى بهم، وقد شبهت الصيحة بسبع: التهمهم وأخذهم؛ لأنها لم تُبقِ منهم ولم تذر، وقال تعالى: (فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً) الفاء عاطفة على (فَأخَذَتْهمُ)،(10/5074)
أي أن هذه أمور متعاقبة من غير تراخ، والغثاء الأشياء التي ليس لها كيان ولكن تبدو كأنها شيء موجود له كيان، جاء في مفردات الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن، الغثاء غثاء السيل والقدر، وهو ما يطفح ويغرق من النبات اليابس، وزبد القدر، ويضرب به المثل فيما يضيع، ويذهب غير معتد به، ويقال: " غثا الوادي غثوا، وغثت نفسه تغثى غثيانا غثيت ".
ومؤدى هذا القول: أن أولئك الذين كانوا يحسبون أنهم كجلاميد الصخر في عنفهم وعنادهم وإيذائهم قد صاروا شيئا ليس له كيان، وإن كان لهم كيان، فهو لا يبقى زمانين، بل كان رغاء، يعلو وينتفخ ويزول بنفخة واحدة، وقال تعالى: (فَبُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالمِينَ) الفاء للإفصاح، أي إذا كانوا قد صاروا غثاء فقد بعدوا وهلكوا فبعدا وهلاكا لهم، والبعد ضد القرب، والبعد لغير أوبة هلاك وموت؛ لذا يقال: " بعِد " بكسر العين بمعنى مات وهلك، كما قال تعالى: (كمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ)، أي هلكت، وأظهر سبحانه في موضع الإضمار لبيان أن ذلك كان بسبب ظلمهم لأنفسهم، وللناس، وللحقائق، ولتدليهم في الشرك فعقابهم قصاص من ظلمهم، وما ربك بظلام للعبيد.
* * *
القرون من بعدهم
قال تعالى:
(ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ(10/5075)
فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
* * *(10/5076)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42)
(ثُمَّ) للترتيب والتراخي، وقد ذكرت هنا للإشارة إلى أنها مهما تتطاول الأزمنة، فإنها متعاقبة، لَا يخلو جيل من رسول، وقد توالت النذر، و (أَنْشَأْنَا) معناها أوجدنا بعد عدم (الفاسقين) الظالمين قبلهم (قُرُونًا)، أي أجيالا آخرين، يجيئون جيلا بعد جيل، يخلف كل جيل ما قبله، والقادر الحكيم العليم هو المنشئ لها جميعا.
وإن كل جيل أمة واحدة تجيء في ميقاتها تعقب من سبقها، ويسبق من بعدها، والدنيا لَا تقف حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وحتى يبعث اللَّه مَن في القبور.(10/5076)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)
(مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43)
الأجل الوقت المعلوم المحدود لها، فلا توجد أمة قبل ميقاتها تجيء في وقت، (وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ)، أي ما يطلبون تأخير وقتها فتزيد في عمرها، بل إن ما حدَّه اللَّه تعالى، هو الواقع في حده، وعاد الضمير إلى الأمة بضمير الجمع العاقل للإشارة إلى أن الأمة مجموعة العقلاء المدركين المكلفين، المخاطبين من الرسل، وإن حد زمن كل أمة محدود برسولها الذي بُعث بخطاب اللَّه تعالى لها، ولذا قال تعالى ذاكرا رسلهم المرسلين إليهم فقال:(10/5076)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
(ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
ذكر (ثُمَّ) هنا كما أشرنا لتطاول الأزمنة، وقوله تعالى: (تَتْرَا) أصلها وترى، والألف للتأنيث كما قال الزمخشري أو للإلحاق، وهناك قراءة بالتنوين، أيِ تترًا (1)، والمعنى واحد، أي أرسلنا رسلنا وترا، أي واحدا بعد واحد (كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذبوهُ) ومجيء الرسول لأمة هو مجيء دعوته ورسالته التي كلفه اللَّه تعالى بتبليغها، فليس مجيء الرسول مجيء شخصي مجرد، إنما مجيئه بوصف كونه رسولا من اللَّه تعالى، وبهذا الوصف يكون مجيء الرسالة، والتكذيب له في هذه الرسالة مع أنه في كل الأحوال معروف بالصدق بينهم، ولا يختار الرسول إلا من الصادقين أهل الأمانة.
(فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا) الضمير يعود إلى المكذبين، والإتباع إنما هو إتباع المكذبين بالإهلاك أي بعضهم في الهلاك يتبع من سبقوه، فتوالى الإرسال، وتوالى الجحود، وتوالى الهلاك من بعد ذلك، وقد صاروا بعد الهلاك المتعاقب أحاديث تذكر للعبرة والاعتبار، و (أَحَادِيثَ) اسم جنس لحديث.
والمعنى أنهم بعد هلاكهم المتوالي في العصور والأزمان صاروا أحاديث للناس يعتبر بها من يعتبر، ويستبصر بها من يستبصر، ويتلهى بها من يتلهى بأخبار الأولين.
(فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ)، أي فهلاكا لقوم لَا يؤمنون، أي ليس من شأنهم الإيمان والإذعان للحق المبين، والفاء للسببية أي بسبب ذلك التكذيب المتتابع، والهلاك المترادف تكون الدعوة بالهلاك للذين لَا يؤمنون، ويتجدد كذبهم آنًا بعد آنٍ.
وبعد أن ذكر سبحانه تتابع الرسل في أرض العرب، أشار سبحانه إلى أنبياء بني إسرائيل، وابتدأ بموسى وأخيه هارون اللذين أنقذ اللَّه تعالى بني إسرائيل على أيديهما فقال:
________
(1) قرأها بالتنوين: ابن كثير وأبو عمرو، ويزيد: أبو جعفر المدني، وقرأ الباقون بغير تنوين. غاية الاختصار 2/ 584.(10/5077)
(ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
العطف بـ(10/5078)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45)
(ثُمَّ) التي للتراخي لبعد الزمان وبعد المكان، وللانتقال من قوم متشابهين إلى غيرهم، ذكر اللَّه تعالى رسالة موسى وهارون؛ لأن الله تعالى استجاب لموسى عندما دعا ربه أن يجعل له وزيرا من أهله، هارون، وقد خاطبا معا فرعون ذا الأوتاد عندما لقياه.
أرسلهما اللَّه تعالى بآياته، وقد بلغت تسعا، (وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) أي بحجة باهرة، فالسلطان في لغة القرآن يطلق على الحجة؛ ولأن الحجة سلطان الداعي وقوته، ولا قوة لمن لَا حجة له ولو كان فرعون، ووصف اللَّه تعالى السلطان بأنه (مّبِينٍ)، أي واضح بين من حيث الحجية؛ إذ إنه غير قابل للنقض، ومعلوم معروف؛ لأنه غير قابل للإنكار.
وقد ذكر الله تعالى من أرسل إليه موسى وأخاه هارون فقال:(10/5078)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
(إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46)
فرعون في عصره كان طاغية الدنيا، وكان المصريون قد استسلموا له وكان ملؤه حكام مصر يحكمون بطغيانه، ويسولون له كل ما يفعل، ويسوغون له ما به يعلو ويسرف، وباسمه عتوا عن أمر العقل والمنطق والحق، بعث الله تعالى موسى وهارون إلى هؤلاء وكل يعتز بعزة فرعون، وكانوا يستفتحون بعزته، فكانوا من منطق الوقائع، لَا من منطق الحق والعقل مستكبرين؛ ولذا رتب على حالهم أنهم مستكبرون فقال: (فَاسْتَكْبَرُوا)، و (الفاء) فاء السببية، أي بسبب هذه الطغواء استكبروا وكانوا قوما عالين، أي مرتفعين عن الناس، لَا في ذات أنفسهم، بل بحكم واقع الحكم والأمور التي تسير سيرا مطردا، وهم يعلون في أنفسهم ادعاء وغلوا وطغيانا لَا يستمعون إلى الحق، ولا يصغون إلى داعية، يغالون في رده، ولقد قال تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)، وقد ذكر اللَّه تعالى مضمون ردهم، فكان كرد غيرهم، وهو استبعاد أن يكون الرسول مثلهم، وقد تواضعوا في ذكر هذه المثلية.(10/5078)
فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
(فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47)
الفاء عاطفة ما بعدها على (فَاسْتَكْبَرُوا)، وقولهم (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا) الاستفهام هنا للإنكار بمعنى النفي مع الإنكار الشديد، فالمعنى لَا نؤمن ولا نذعن لبشرين مثلنا، وقد سببوا كفرهم بسببين.
أولهما - أنهما مثلهم في البشرية، وكأنهم تصوروا أن الرسالة الإلهية لَا تكون لبشر، وقد لفوا في هذا لف غيرهم من المشركين الذين مر ذكرهم.
والثاني - أن قومهما - وهم بنو إسرائيل - لهم عابدون، أي خاضعون خضوعا مطلقا قد استذلوهم وذبحوا أبناءهم واستحيوا نساءهم، وعبَّدوهم، كما فرض فرعون على المصريين أن يعبدوه، وقال لهم: (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيرِي. . .)، ومهما يكن فهم كانوا يعدونهم دونهم، كما يعد القوي دائما الضعيف الذليل دونه قدرا ومكانا.(10/5079)
فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
(فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48)
" الفاء " للإفصاح، والمعنى إذا كان ذلك قولهم فقد كذبوهما، وكفروا برسالة موسى - عليه السلام - مع توالي الآيات المثبتة لرسالته، ومع غلبه عليهم، وقد جمعوا الجموع من المدائن حاشرين، ولذلك كانوا مهلكين، ولذا قال تعالى: (فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) أي فرعون وملؤه وجيوشه، فقد فتح البحر لبني إسرائيل، فكان كل فرق كالطود العظيم، فسار فرعون وملؤه وجنده فانطبق عليهم، فكانوا من المغرقين، ونجا المصريون الذين لم يكونوا من ملته ولا من جنده.
وإن حكم فرعون كان يقوم على إرادته المنفردة، فما أراده فهو قانون، يفرض بالقسر والقوة، فعندما بعث فيهم موسى بين لهم أن القانون من الله، لَا من فرعون وأشباهه، وأنه أتى لهم بهذا القانون في التوراة، ولذا قال تعالى:(10/5079)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
أكد الله تعالى أنه أعطاهم كتابا ينظم العلاقة بين الناس بعضهم مع بعض، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وينظم الأسرة، ويقيم العلاقات بين آحادها، وأكد(10/5079)
سبحانه وتعالى إيتاء موسى هذا الكتاب الذي يعد دستور الحكم لأرض مصر وغيرها، ويقيد فرعون وغيره، ويكفه عن طغيانه، جاء موسى بهذا من عند اللَّه تعالى في عصر لم يكن يعرف إلا حكم الطاغوت من فرعون وأشباهه من طواغيت أهل مصر، (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ)، أي رجاء أن يهتدوا إلى العمل الصالح، وأن يعرفوا ما لهم من حقوق إنسانية، وما عليهم من واجبات، وتنظم بها العلاقات بين الناس على أساس من العدل والحق.
ويجب أن ننبه هنا إلى أن الذي بين أيدينا مما يسمى كتب العهد القديم ليست هي توراة موسى، بل نسوا حظا مما ذكروا به، وزيد فيها أحاديث ما أنزل اللَّه بها من سلطان بل هي أساطير الأولين.
وبعد موسى جاء أنبياء ينفذون أحكام التوراة التي كانت صادقة، كداود وسليمان وأيوب وغيرهم، ثم جاء من بعدهم عيسى عليه السلام، ولذا قال تعالى:(10/5080)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
(وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) أي صيرنا ابن مريم وأمه آية، أي معجزة خارقة للعادة، وعرف عيسى بأنه ابن مريم لبيان أنه ليس له أب، وأن مريم ولدته من غير أب، وكان بذلك هو وأمه آية خارقة لمجرى العادات، ذلك أن مجرى العادات في الأسباب والمسببات أن الولد يكون من نطفة توضع في رحم المرأة فيجيء الولد بإذن اللَّه تعالى، كما تبين في قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13).
إلى آخر الآيات الكريمات، فكانت المعجزة في أن عيسى جاء من غير أب؛ وذلك لإثبات قدرة اللَّه تعالى وإرادته، وأنه مختار فعال لما يريد، ذلك أن الفلسفة الأيونية التي ظهرت في آسيا الصغرى، وتولدت منها الفلسفة اليونانية كانت تؤمن إيمانا عميقا - ولو كان باطلا - بأن الدنيا وجدت بالسببية، أي بوجود المعلول عن علة، حتى قالوا إن الكون كله وجد عن السبب الأول بالعلة، وبولادة عيسى من غير أب تبين أن اللَّه فاعل مختار، رزاق، وهو ذو القوة المتين، وكان عيسى عليه السلام وأمه آية خارقة للعادة، فأمه - عليها السلام - حملت من غير نطفة، وهو ولد من غير أب، فكانت المعجزة في كليهما، ومكونة منهما.(10/5080)
ويقول تعالى: (وَآوَيْنَاهُمَا)، أي جعلنا مأواهما ربوة، أي مكانا مرتفعا، قد أوت إليه مريم عندما فأجأها المخاض إلى جذع النخلة، حتى لَا يراها الناس وقد قال تعالى في ذلك: (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26).
والربوة مع أنها مرتفع من الأرض (ذَاتِ قَرِارٍ وَمَعِينٍ)، أي يمكن القرار فوقها، لأنها مستوية، فيها مهاد كالفراش، (وَمعِينٍ) أي ماء طاهر ثرّ. وقال الزجاج: هو الماء الجاري، وقال بعض الباحثين في اللغة يقال: معن الماء إذا جرى، وهكذا اقترنت ولادة عيسى بمعجزات، فكانت الربوة في المرتفع عن الأرض، ذات قرار ممهد، وفيها الماء الجاري، وتكلم في المهد صبيا، وكان هو في ذاته معجزة.
* * *
الأنبياء بشر يأكلون، والكفر بهم واحد
قال اللَّه تعالى:
(يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)(10/5081)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
* * *(10/5082)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
(يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ) النداء للرسل، وهو نداء لبيان حقيقة الرسل، وأنهم من البشر يأكلون الطعام، وكان النداء لهم وقد مضوا إلى ربهم، ولم يكن عند نزول الآية الكريمة إلا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذكر النداء في هذا للدلالة على أنهم كانوا يخاطبون بهذا الخطاب، رسول منهم كان يخاطب بهذا الخطاب، وتباح له طيبات الطعام، والطيبات من الرزق، ويؤمر به كالأمر بكل مباح، والطيبات تتحقق طيبتها بأمور؛ منها: أولهما ألا يكون خبيثا في ذاته كالميتة والدم ولحم الخنزير، وأن يكون قد سمي عليه عند ذبحه، وأن يكون قد كسب من حلال، فيجتمع فيه الحل الذاتي والحل الديني، (وَاعْمَلُوا صَالِحًا) وليس الأمر الذي يكون به متميزا عن سائر البشر إلا العمل الصالح بأن يكون خالصا له، والعمل الصالح هو العمل الطيب الذي يكون خيرا محضا للناس لَا يكون معه شر لَا في ذاته، ولا في نيته، والعمل الصالح ما يكون فيه النفع لأكبر عدد ممكن، وما تكون فيه سعادة عاجلة لأكثر الناس، أو سعادة آجلة لعامتهم، ويدخل في هذا دعوتهم إلى الهداية والرشاد، والتبليغ عن أمر ربهم.
(إِنِي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وقد وثق اللَّه تعالى العمل الصالح عليهم ببيان إحاطة علمه تعالى به، فقال: (إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، وقد أكد اللَّه تعالى علمه بكل ما(10/5082)
يعملون ليترقبوا جزاءه الوفاق لأعمالهم، وهم بشر يجزون بالخير على ما يقدمون كغيرهم من البشر.
وقد أشار سبحانه إلى أن الناس جميعا فطرة واحدة ينبعثون عن غرائز واحدة، ويختلفون عند اصطدام هذه الغرائز، واختلاف النزوع باختلافها، ولذا قال عز من قائل:(10/5083)
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
(وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
(وَإِنَّ هَذِهِ) إن بالكسر، على أن الواو لاستئناف كلام جديد، له وثيق الصلة بالآية السابقة، وقال أكثر المفسرين: إن الأمة بمعنى الدين والملة، وأمة منصوبة بالحال، أي أن هذه أمتكم حال كونها أمة واحدة أي على دين واحد، وهو توحيد اللَّه - تعالى - بلغته الرسل أجمعون، ولكن جاء الاختلاف، فتقطعوا زبرا، وصاروا أحزابا، ولكن كل حزب بما لديهم فرحون، وقوله تعالى: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَقُونِ)، أي أن ربكم واحد، كما أن دينكم واحد، أجمع عليه الرسل الذين بعثوا من عند اللَّه، والفاء في قوله تعالى: (فَاتَّقون) سببية، أي بسبب أني ربكم الذي خلقكم، ويكلؤكم بالليل والنهار (فَاتَّقُونِ)، أي اعبدوه، واجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية.
هذه على تفسير أمتكم بمعنى دينكم الواجب اتباعه، ولا يصح أن تسمى غير التوحيد دينا قيما، وقد عرض لي أن نفسر كلمة أمة بما فسرناها به في سورة البقرة، في قوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً. . .)، أي صنفا على طريقة واحدة، وعلى غرائز واحدة وقد تتناحر نوازع نفوس التي تسير وراء الغرائز من غير تهذيب بدين يجيء به نبي مرسل، وبذلك يترتب التقاطع من هذه الوحدة في الغرائز والطبائع، فإذا كان حب الغلب غريزة، فإنه لابد من التغالب؛ لأن كلا يجد في نفسه دافعا لأن يكون هو الغالب، فيكون التنازع والتقاطع، ويكون التعبير بالفاء في قوله في الآية الآتية:(10/5083)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا. . .)، أي أنه جاء التقطع من وحدة الغرائز.
هذا ما بدر لنا، واللَّه أعلم بمراده، وقوله: (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)، أي أن النداء بالتقوى لكف الغرائز، وتهذيبها هو الذي يكفها، ويجعلها في ميزان الاعتدال.(10/5083)
(فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
الزبر جمع زبرة أو اسم جنس جمعي، وهو الذي يفرق فيه بين المفرد والجمع بالتاء أو بياء النسب، كروم ورومي، والزبرة قطعة من الحديد، وقد شبهت الجماعات المختلفة في نزاعها بزبر الحديد، من حيث إن كل واحدة شديدة في التمسك بما عندها كأنها صلب الحديد، لَا تترك رأيها، كما لَا تتفرق زبر الحديد.
أي اختلفوا متقطعين متنابزين غير مجتمعين في أمرهم، بحيث لَا متسع للالتقاء فيما بينهم، يتحزبون في تفكيرهم: (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)، أي كل جماعة متحزبة متعصبة لما عندها، فرحة به، وتحسب أنه الحق الذي لَا ريب فيه، وهو الضلال المبين، وإن التحزب لفكرة يدفع إلى التعصب لها، والتعصب يعمي ويصم، وتقديم الجار والمجرور - بما لديهم - لبيان أهميته عندهم.
وهنا ننبه إلى أن الفاء في قوله: (فَتَقَطَّعُوا) فاء السببية، وهي بهذا المعنى يرجح أن معنى الأمة ما بدر لنا، وتبعا أن يكون معناها: دين التوحيد؛ لأنه لا يترتب عليه التقاطع والتفرق.(10/5084)
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
(فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والضمير يعود إلى المشركين، فإنهم حاضرون في ذهن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أنهم في كفرهم وعنادهم موضوع القول، وتسرية اللَّه لنبيه لأجل أذاهم المستمر اللحوح، والغمرة الماء الكثير الذي يغمر من ينزل فيه، والمراد الجهالة، أي ذرهم في جهالتهم التي غطت عقولهم وفكرهم كما تغطي الغمرة: التي تغطي أجسامهم، وإن جهالتهم هذه جعلتهم في حيرة بين حق رأوا دلائله، وباطل قد استولى على نفوسهم، وقوله تعالى: (حَتَّى حِينٍ) إلى حين ليس ببعيد، وإنه لقريب؛ لأنه واقع، وكل واقع قريب مهما يتباعد زمانه.
والفاء فاء الإفصاح، والمعنى إذا كانوا قد أعرضوا عن الحق، ولجوا في إعراضهم جهالة وحيرة فذرهم حتى حين، والحين الذي ينتهي عنده انتظار أمر الله(10/5084)
هو ما بعد الهجرة، ولقاؤهم في ميدان القتال، ويكون دفع ظلمهم ووقفهم عند حدودهم، ولا يصح أن يظنوا أن مالهم وأولادهم تغني عنهم شيئا، ولذا قال تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) هذه الآية الكريمة متصلة بما قبلها؛ إذ مغزى الآية السابقة أن اللَّه تعالى ينذرهم بأنهم بعد حين سيتسلط عليهم العباد المؤمنون، وإذا كانت نقمة اللَّه تعالى نازلة بهم لَا محالة على أيدي عباد اللَّه الصابرين، فلا يصح أن يظنوا أن اللَّه يسارع لهم في الخيرات،(10/5085)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55)
(أَيَحْسَبُونَ) الاستفهام للاستنكار بمعنى النفي مع رميهم بالجهل والغرور، أي لَا يحسبون أن الذي نمدهم من مال وبنين، وكل أسباب القوة مسارعة لهم في خير لهم، إنما هو مطاولة، وإمهال من غير إهمال،(10/5085)
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
(بَل لَا يَشْعُرُونَ) بل للإضراب، أي إضراب عن هذا الزعم الذي يزعمونه، والحسبان الذي يظنون، إنما هم لَا يشعرون، أي لَا يشعرون بما يرتكبون من جرائم، ولا يشعرون بأن عذاب اللَّه واقع، ولذا لَا يستعدون.
ولقد ذكر بعد ذلك المؤمنين فقال عز من قائل:(10/5085)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)
الخشية خوف يشوبه تعظيم، والإشفاق خوف تشوبه محبة، وكذلك شأن المؤمن فهو يخاف اللَّه ويعظمه، ويحبه، فهو يحب اللَّه تعالى، ويحبه اللَّه تعالى، وهو يعظم اللَّه تعالى، ويخاف عذابه، فهو يستكثر أخطاءه، ويخاف العقاب، ولذلك كان من شأن أهل الإيمان أن يغلب في نفوسهم خوف العقاب على رجاء الثواب، وقد أكد سبحانه خشية المؤمنين وإشفاقهم بمؤكدات:
أولها - (إِنَّ) فهي لتوكيد الكلام.
وثانيها - ضمير الفصل (هُم).(10/5085)
ْوثالثها - تقديم الخشية على متعلقها.
ورابعها - التعبير بربهم، أي القائم على أمورهم وكالئهم، وحاميهم.
هذا هو الوصف الأول من أوصاف أهل الإيمان الذين يستحقون الثواب، ولهم الغرفات الآمنة عند ربهم.
وذُكر أولا - لأنه يتضمن إذعان القلب، وامتلاء النفس بهيبته سبحانه، فيكون قريبا منه، يفطن لآياته، ولذا قال سبحانه في الوصف الثاني:(10/5086)
وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)
(وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)
إنهم لخشيتهم من ربهم، وإشفاقهم، ومحبتهم لربهم تصفو نفوسهم، وتذهب الكدرة من أفهامهم، فإذا رأوا الآيات توجهوا إليها بقلب سليم مشرق، قذف به نور الإخلاص، والواو عاطفة تعطف صفة على صفة؛ ولذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنون) يصدقون موجب هذه الآيات، وما تدعو إليه؛ ذلك أن الإخلاص إذا دخل القلب ملأه بنور الحكمة، فأدرك به، ولم تقف حوائل دون الإدراك فيكون الإدراك سليمًا، ولا ينطق اللسان إلا بالحق، ولقد تأكد الحكم بما تأكد به الوصف الأول، والتعبير بالمضارع يفيد تجدد الإيمان بتجدد الآيات، فكلما كانت آية من آيات اللَّه وهي كثيرة زادت المؤمن إيمانا، فإيمانهم متجدد في نماء، ويزيد بزيادة الآيات، وقال سبحانه في الوصف الثالث:(10/5086)
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
(وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59)
الشرك يجيء دائما من أوهام تسيطر على النفس الإنسانية، فتجعلها تعتقد قوة في حجر، أو في شخص، وقد تكون مسوغات موهمة، وقد يكون الوهم نفسيا من ذات النفس، ونفس المؤمن سليمة صافية فيها نور الحق، قد استضاءت به، وعمرت بذكر اللَّه تعالى وامتلأت به فلا تضل أبدا، ولذا قال تعالى: في الوصف الثالث من أوصاف المؤمنين (وَالَّذينَ هُم بِربِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ) إنهم يعترفون أن العبادة لَا تكون إلا للقادر على كل شيء الذى لَا مثيل له الواحد في ذاته وصفاته وخلقه، فهم كما عرفوا آياته وأذعنوا، فهم أيضا يذعنون لمعاني الوحدانية، فلا يشركون به شيئا، وفي الجملة السامية التوكيدات في الآيات السابقة وإن من أجل صفات المؤمنين كما أشرنا من قبل أنهم يستصغرون حسناتهم، ويستكثرون أخطاءهم، ولذا قال فيهم رب العالمين.(10/5086)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
(وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
ذلك هو الوصف الرابع، وهو أنهم في وجل من لقاء ربهم مع ما يعطون من حسنات.
الوجل: الخوف مع الاضطراب الشديد، والإحساس بالقصور، وهذا هو الوصف الرابع لأهل الإيمان، والإيتاء: الإعطاء، والمعنى أن هؤلاء المؤمنين لفرط إحساسهم بخشية ربهم، وإشفاقه يعطون العطاء الكبير ويخشون مع ذلك ألا يقبل منهم لرياء أو نحوه مما يمحق الحسنات، أو لوجود داء يذهب بخير القربات، ولقد قال الحسن البصري سيد أهل البصرة: لقد أدركنا أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها، ولا شك أن ذلك من تغليب خوفهم على رجائهم، وقوله تعالى: (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) حال من فاعل يؤتون (1).
ووجلهم من أنهم إلى ربهم راجعون، وهذا يدل على أمرين:
أحدهما - أنهم ذاكرون دائما لليوم الآخر، ويغلبون خوفهم منه على رجائهم فيه، لفرط إحساسهم بالخشية من اللَّه تعالى.
ويدل ثانيا - على أنهم يرهبون الوقوف أمام اللَّه استصغارا لحسناتهم، واستكثارا لسيئاتهم.
وقد قال تعالى في جزائهم:
________
(1) عن عَائِشَةَ، زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: " لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ [ص:328] الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}. رراه الترمذي - تفسير القرآن - رمن سورة المؤمنون (3099)، كما رراه ابن ماجه في الزهد (4188).(10/5087)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
(أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
الإشارة إلى الحاملين لأوصاف السبق عند اللَّه تعالى، الذين هم من خشية ربهم مشفقون، والذين هم يذعنون لدلائل آيات ربهم، ولا يشركون شيئا في(10/5087)
العبادة، والذين يقطعون من أموالهم للفقراء، ويوجلون إذ يعلمون أنهم إلى ربهم راجعون، هؤلاء بهذه الصفات التي تسمو بهم يسارعون في الخيرات، لأنهم يتنقلون في وسط صفات سامية، فيتنقلون مسرعين في وسط خيرات، ويلاحظ هنا أن التعدية بـ " في " تفيد أنهم ينتقلون من مرتبة خير إلى أعلى منها مسارعين بهذه الصفات السامية، فهم وسط دائرة الخير دائما يتنقلون في درجاتها، أو الخير يمهِّد للخير، وكل خير يمهد إلى أعلى منه: (وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) الجملة حال من فاعل يسارعون، فهم بهذه المسارعة المتنقلة بهم من خير إلى خير يسابقون إليها وكأنما يسبقون إلى الجزاء الأوفى، والنعيم، فجزاء المسارعة في الخير، سبق إليه، والضمير يعود إلى الخيرات، والمعنى أن السبق إلى الخير هو نفسه خير، وينتهي إلى جزائه، فهؤلاء يبتدئ جزاؤهم من أعمالهم براحة ضمائرهم، واستمتاعهم برضا ربهم، وإحساسهم بإنسانيتهم الكريمة، فالخير جزاؤه يبتدئ من ذات فعله، وينتهي به إلى النعيم يوم القيامة.
وبين سبحانه أن الله تعالى يريد اليسر من عباده، ولا يريد العسر، وأنه لا يكلف سبحانه إلا بما يكون في دائرة الطاقة في يسر ومن غير مشقة، فيقول تعالت حكمته:(10/5088)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
(وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) الواو للاستئناف، (وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) أي إلا ما في طاقتها، وتستطيع القيام به في سعة من غير إرهاق ولا إجهاد، فلفظ (وُسْعَهَا)، يشير إلى أنه تكون عند عمله في سعة من غير ضيق ولا إحراج، فلا حرج في الدين ولا ضيق، وكذلك كل تكليفات الإسلام ليس فيها شقة فوق الطاقة، وما يكون فيها شقة ربما تكون شديدة أحيانا لَا تكون على الكافة كالجهاد، بل يكون ابتداء فرض كفاية إلا أن يدخل العدو أرضنا، فيكون فرض عين على كل قادر على حمل السلاح؛ لأنه يكون شقة شديدة لدفع شقة أشد، وهي شقة الذل وضياع الدين، وهذه أشد الشُّقات.(10/5088)
والصفات التي اتصف بها المؤمنون، والأعمال التي يقومون بها في الطاقة، والعمل عن سعة ويسر وسهولة إلا على الذين لَا يؤمنون باللَّه واليوم الآخر.
وإن كل عمل خيرا أو شرا في إحصاء دقيق لَا يتخلف عنه شيء، ولذا قال تعالى: (وَلَدَيْنَا كتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ) قالوا: إنه كتاب الأعمال الذي يحصى فيه كل عمل خيرا كان أو شرا، ويصح أن نقول: إن ذلك تصوير لعلم اللَّه بما يفعله كل إنسان، ويوم القيامة يجده محضرا يخبر به ويحاسب عليه، لَا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وصور اللَّه سبحانه وتعالى إحصاء أعماله كله كأنها تنطق به متلبسة بالحق مخالطة له غير بعيدة، وأكد سبحانه أنهم لَا يظلمون، فقال: (وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)، فلا ينقص من خير فعلوه، ولا يزاد على سيئاتهم سيئات، بل إن اللَّه يعفو عن السيئات إذا كثرت الحسنات: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. . .).
هذه صفات المؤمنين وعقباها جاء بها سبحانه وسط وصف الكافرين، واستكبارهم ليكون المؤمنون مجال اعتبارة وليمكن لهم، ثم أخذ سبحانه يتمم بيان ضلال الكافرين، فقال تعالى:(10/5089)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
(بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63)
الإضراب هنا فيه بيان أنهم لَا ينتفعون بالعظات والعبر، ولا يستبصرون بهداية المهتدين، ولا يترفون مال الحق وأهله، ولا مآل الباطل وأهله (فِي غَمْرَةٍ منْ هَذَا) الغمرة أصلها ما يغمر الإنسان من الماء، وقد فسر بعضهم الغمرة بالغفلة التي غمرتهم، وهو تفسير حسن، وقد غفلوا أولا عن الكتاب الذي يكتب الحسنات والسيئات، أو علم اللَّه تعالى الذي لا يغادر صغيرة أو كبيرة إلا أحصاها، وغفلوا عن رقابة اللَّه تعالى لأعمالهم وغفلوا عن أعمال المؤمنين واستقامة قلوبهم، وهم أناس مثلهم، قد سبقوهم في الفضل وشرف الإيمان، والمسارعة في الخيرات والسبق فيها، وأنهم قد سارعوا في الكفر، كما سارع المؤمنون في الخيرات، وسبقوا إليها،(10/5089)
فكان لهم في الكفر أعمال كثيرة منها: أنهم حرموا على أنفسهم ما لم يحرم اللَّه تعالى، كما حرموا السائبة والوصيلة والبحيرة. . .، ومنها: أنهم جعلوا للأوثان نصيبا من الحرث، ومنها: أنهم صدوا عن سبيل اللَّه، ومنها: أنهم فتنوا المؤمنين في دينهم، ومنها: أنهم آذوهم وأخرجوهم، ومنها: أن رءوسهم صارت عشا للخرافات والأوهام؛ ولذا قال تعالى: (وَلَهُمْ أَعْمَالٌ من دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) وقد أشرنا إلى بعض هذه الأعمال. ومنها: طوافهم بالبيت عراة، وادعاؤهم أن اللَّه تعالى أمر بها (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا. . .)، وقوله تعالى:
(مِّن دُونِ ذَلِكَ) الإشارة إلى الشرك والكفر بآيات اللَّه تعالى، وإنكار التوحيد، و (مِّن) بيانية، (دُونِ) أي غيرها وأدنى منها درجة في التكليف، وأنهم مستمرون، وهذا معنى قوله تعالى: (هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) فالجملة حالية من ضمير " لها "، أي والحال أنهم مستمرون على هذه الأعمال غير منقطعين عنها فهم في ضلال مستمر.
(حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
حتى للغاية، والمعنى: فهم في غفلتهم المستمرة الغامرة الحق بالباطل لا يستبصرون ولا يتيقظون، ولا ينبههم إلا قارعة تقرعهم؛ ولذا قال:(10/5090)
حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64)
(حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ) فتقرعهم القارعة، أي أنهم غافلون، حتى تنبههم من الغفلة قارعة تمس المترفين، وخص المترفين بالذكر، مع أن القارعة تعمهم وغيرهم إذ المهلكات تعم، ولا تخص المترفين منهم. خص المترفين؛ لأنهم أصل الإنكار الذين تلهيهم الغفلة عن الحق، أو يلهبهم ما هم فيه من ترف عن أن يدركوا الحق؛ لأنهم لا شدائد تنبههم، فالشدائد ترهف المدارك، وتوقظ الأفهام، ولأنهم لَا يصبرون على الابتلاء، بل يخرون صاغرين أمام أي شدة، أو كارثة تكرثهم؛ ولذا قال: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ) (إِذَا) للمفاجأة، والمفاجأة تحوُّل حالهم من استكبار واعتزاز وغفلة إلى صغار وتنبه، وضراعة، فالجؤار مصدر جأر وهو رفع الصوت بالضراعة والاستغاثة.(10/5090)
والعذاب قيل: هو عذاب الدنيا بكارثة دنيوية أو حرب هازمة لهم، والتعبير (أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ) معناها أنزلنا بهم العذاب جزاء ما أجرموا. وكنى عن ذنوبهم بالعذاب الذي استحقوه بها، وقال أخذناهم، كناية عن أنه أخذهم حتى لا يفلتوا منه، وشبه إنزاله بهم بأخذهم إليه أخذا مصحوبا بالعذاب الشديد. وإنهم إذ يضرعون ويجأرون يفعلون ذلك في وقت غير مناسب؛ لأنه قد فات وقت الضراعة والاستعانة باللَّه، إذ إن تلك الضراعة كانت وهم في وقت التكليف؛ ولذا قال تعالى:(10/5091)
لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
(لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)
هذه الجملة السامية في مقام التعليل للجملة التي قبلها، أي لَا تضرعوا، لأنكم تأبيتم في وقت التكليف واستكبرتم علينا وكفرتم بِآياتنا، فلن ننصركم، وبقى عليكم أن تذوقوا مغبة أعمالكم، وذلك كقوله: (وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)، وكقوله تعالى: (كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3).
* * *
حالهم في غفلتهم وإعراضهم
قال تعالى:
(قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ(10/5091)
وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
* * *
الآيات هي الآيات القرآنية بدليل التعبير بقوله:(10/5092)
قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
(تُتْلَى)، والتلاوة القراءة المرتلة التي تجيء الكلمة تلو الكلمة واضحة في نطقها متقنة في صرفها عند النطق مستوفية مدها وهي الترتيل، كما قال تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرتِيلًا)، وكما قال تعالى: (وَرَتَّلْنَاهُ) أالفرقان،، وأن القرآن الكريم قد تواتر كتابة وقراءة وترتيلا، وهو في ترتيله قد تلقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل، علمه اللَّه تعالى إياه.
وقد أكد جط ت وتعالى بـ (قَدْ) الدالة على التحقيق و (كَانَتْ) تدل على استمرار التلاوة، ولكنهم ما كانوا ليتبعونها، ويتدبرونها، ويتعرفون مراميها وغايتها، معتبرين بعبرها، متأولين مآلها، بل إنهم يستمعون بآذانهم، وقلوبهم لاهية، وعقولهم معرضة، ولذا قال تعالى: (فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ) " الفاء " عاطفة، " كنتم " معناها أن هذه كانت حالا دائمة مستمرة لَا يستمعون إلا بآذانهم، وقلوبهم معرضة، وقوله تعالى: (عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ)، هذا التعبير تصوير للإعراض يظهر حسيا، كيف كان إعراضهم عن الحق (تَنكِصُونَ)، أي ترجعون وراءكم، ووجوهكم كأنها مقبلة، فهم يرجعون القهقرى، بأدبارهم، ويسيرون إلى الوراء بأعقابهم، وقد جاء في قراءة شاذة منسوبة لعلي بن أبي طالب " فكنتم على أدباركم "، ولعلها تفسير له رضي الله تعالى عنه، وهذا تشبيه حال بحال، فشبهت حالهم في أنهم يسمعون بآذانهم دون أن تعيه قلوبهم بحال من يلقون بوجوههم وهم يسيرون القهقرى إلى الوراء.
وبين سبحانه أن ذلك كان استكبارا، فقال:(10/5092)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
(مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
(مُسْتَكْبِرِينَ) حال من " الواو " في (تَنكِصُونَ)، وهي تفرقة واضحة بين حالين، إحداهما تململهم عند سماع الحق حتى إنهم ينكصون على أعقابهم عند سماعهم، وحالهم وهم يجأرون ضارعين صاغرين عندما يؤخذون ببعض العذاب الذي يستحقون.
وقوله تعالى: (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) الضمير في (بِهِ) يعود إلى القرآن الذي تتلى آياته، مستكبرين استكبارا مصاحبا لسماعه، أي متعالين على القرآن نفسه، أو متعالين بسببه لأنهم لم يذعنوا لحقائقه، ويصح أن يكون متعلقا بـ (سَامِرًا) أي جاعلين القرآن موضع سمرهم حول الكعبة، (تهْجُرُونَ) (1)، أي يقولون الهجر من القول الفاحش، أي أنهم مع نكوصهم على أعقابهم عند سماع تلاوته يجعلون الطعن فيه وسب النبي - صلى الله عليه وسلم - موضع سمرهم وقولهم الهَجْر من القول الفاحش، وقرئ يُهجرون، وبضم الياء وماضيها " أهجر " أي دخل في هجر القول.
وخلاصة المعنى على هذا أنهم ينكصون معرضين عند سماع التلاوة مستكبرين سامرا به بهجر القول، أي لَا سمر لهم إلا السخرية به وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - ناطقين بالهجر الفاحش من القول، ومع ذلك يجأرون ضارعين عندما يأخذهم عذاب يفجأهم أو كارثة تكرثهم، وكان حقا عليهم أن يتدبروا القرآن بدل أن يعرضوا عنه ويتخذوه موضوعا لسمرهم وهجرهم.
________
(1) قراءة (تُهجِرون) بضم التاء وكسر الجيم: نافع، وقرأ الباقون بفتح التاء وضم الجيم. غاية الاختصار: 2/ 584.(10/5093)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهي مؤخرة عن تقديم؛ لأن الاستفهام له الصدارة، ومؤدى القول أنهم قد نكصوا على أعقابهم ثم جأروا عندما اشتدت بهم الشديدة، أفما كان أولى من هذا أن يتدبروا القول بأن يتدبروا ما تلى عليهم ويتعرفوا معانيه، أم أنه جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين، فـ (أَمْ) على هذا هي التي تكون للمعادلة بين أمرين، والاستفهام هنا لاستنكار المعادلة، والمعنى ألم(10/5093)
يتدبروا ما سمعوا من آيات تتلى أم أنهم جعلوا هذه الآية في منزلة ما جاء به آباؤهم فما دامت لم يجئ بها آباؤهم فهي في موضع الإنكار، وفي هذا توبيخ لهم من ناحيتين:
أولاهما - أنهم مقلدون لَا يفكرون بعقولهم تفكير موازنة بين حق وباطل.
وثانيهما - أنهم مقلدون آباءهم، ولو كان آباؤهم لَا يعقلون شيئًا ولا يهتدون.(10/5094)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
(أَمْ) تتضمن معنى بل، والاستفهام الإنكاري، و " بل " معناها الإضراب، فالكلام فيه إضراب انتقالي، والمعنى نضرب عن هذا، ونسألهم ألم تعرفوا رسولكم فأنتم له منكرون، ومؤدى هذا التساؤل أنكم قد عرفتم رسولكم، فقد نشأ بينكم، وعرفتم صدقه وعدله واتزان فكره، وسلامة طبعه، وضئضئ نسبه، وأنه من أوسطكم، وأنه الأمين بينكم فكيف تنكرون رسالته، وتنكرون شخصه، وهو الأمين النسيب فيكم، وأرجح رجالكم عقلا.(10/5094)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
(أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)
(أَمْ) تدل على الإضراب والاستفهام معا، وهو إضراب انتقالي يضرب بها عن الكلام قبله، وينتقل إلى استفهام جديد، ولا شك أنهم يعرفون أمانته وصدقه، واستقامة نفسه وخلقه وعقله، وطبعه، ولا يتحول ذلك إلا إذا اضطرب كيانه العقلي والنفسي، وأصيب بجنون، والمعنى أيقولون به جنة؛ أي أتحول عن طبيعته، وأصابه جنون، وهو يقول القول الحكيم، ويتصرف التصرف الحكيم، فلم يكن به جنون، بل زاد بالبعث عقلا وعلما، وإنما هو الكراهية للحق، ولذا قال: (بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَأَكثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ)، (بَلْ) للإضراب عن كل ما سبق فهم يعرفون إعجاز القرآن وقد تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا، وإذا لم يتدبروا القول، فهو يقرعهم بالحجة، وهم يعرفون الأمانة عنده، وهم لَا يقولون صادقين إنه مجنون، ليس هذا ولا شيء منه، ولكن الحق ثقل عليهم، وقد جاء به ليبطل عبادة الأوثان وتحريمهم(10/5094)
ما أحل اللَّه، وأكثر أهل مكة كارهون للحق: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ. . .)، وإن هو إلا الهوى سيطر عليهم واتخذوا إلههم هواهم؛ ولذا قال تعالى:(10/5095)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
(وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
الهوى ينبعث من مصدرين:
أولهما - الشهوة والسيطرة التي قد تجمح بصاحبها عن مناهج السداد، وموضع الاستقامة، والتي تضل معها الأفهام والعقول.
وثانيهما - سيطرة الأهواء، فيتخيل ثم يخال، وإن هذين الأمرين لَا يقوم بهما أمر صالح للبقاء، فالشهوات نزعات ولا تكون معها إلا لذات وقتية لَا تدوم، بل تنتهي بانتهاء وقتها؛ فلذة الخمر تنتهي بانتهاء وقتها، وكذلك كل لذة جسمية تنفعل بها النفس لَا تدوم، وشهوات الناس مختلفة، فيكون التضاد بين الناس والتنازع المستمر، والتناحر القاتل، كما نرى الآن في أمم أوربا وخاصة أمريكا، ثم الأوهام من شأنها أن تصور ما ليس واقعا كأنه واقع، ويتخيل الشخص، ثم يخال.
هذا هو الهوى، وأهواء العرب، كانت انحرافا فكريا أدى إلى استحسان الشر، وضعفا عقليا أدى إلى اتباع الآباء ولو كانوا لَا يعقلون شيئا، مما أدى إلى تحريم ما أحل اللَّه، وأدى إلى الطواف عرايا، للتخلص من نجاسة الثياب المعنوية، كما توهموا، وأدى إلى قتل أبنائهم ووأد بناتهم، وإلى استباحة أكل أموال الناس بالباطل.
هذه هي الأهواء ما كان معروفا منها بعضه عند العرب، أما الحق فإن مصدره العقل، والعقل يقوم على ثلاثة أمور:
أولها - الميزان بين الأشياء والأفعال فيتخير أنقاها وأثبتها وأصلحها، وأكثرها نفعا.(10/5095)
وثانيها - القسطاس المستقيم الذي يكون ميزان الأشياء، وحكم الموازنة فيها.
وثالثها - أنه يقدر خير الأمور بأنه ما يكون باقيا، ولو كان في آجل. على هذا لَا يمكن أن يكون الحق متفقا مع الأهواء، وخصوصا أهواء العرب
التي أشرنا إلى بعضها؛ ولذا قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَق أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ). أما فساد السماوات فلأنها قائمة على تماسك أجرأهما بأركان قوية منتظمة لَا تتخلف، ولو كانت خاضعة لأهواء أهل الشرك لتزايلت؛ لأن أهواء أهل الشرك تفرق المجتمع، كما كانت الحال بينهم، وأما الأرض فلأنها تعمر باستنباط خيرها، وتعرُّف إصلاحها والغرائز الإنسانية التي تمد النفوس بشهوة الغلب، وشهوة الجنس، وشهوة المال، وشهوة السلطان والتحكم، وإذا حكمت هذه وأشباهها، فإن الحاكم يعجل بفنائه، ولولا رحمة من ربك ببقاء سلطان الحق ولو في الأقوال دون الأفعال، لآذنت الدنيا بخراب، قال تعالى في بيان أن الرسل جميعا جاءوا بالحق وميزانه: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25).
(بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكرِهِم مُعْرِضُونَ) بل للإضراب عن توهمهم أن الحق يساير أهواءهم، وأتيناهم بما بذكرهم الحق، ويبعدهم عن أهوائهم ويذكرهم بمعنى التذكير، وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي جئناهم بما يذكرهم، وينبههم إلى خلل تفكيرهم وبعدهم عن الحق وسيطرة أهوائهم (فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ) و " الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فرتبوا النقيض على نقيضه، وبنوا إهمال التذكير على التذكير، وذلك من ضلال العقول، فرتبوا الإعراض على التذكير. اللهم اكفنا شر ضلال الأهواء، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى الحق الخالص، لَا يسألهم أجرا، ولا جزاء ولا سلطانا؛ ولذا قال تعالى:
(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)(10/5096)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
(أَمْ) تتضمن معنى بل، وهمزة الاستفهام، والإضراب إضراب انتقالي، فنقلهم سبحانه من الحكم بأنهم يتبعون أهواءهم، إلى مكانة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه لا يطلب منهم مالا، ولا سلطانا، والاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي لَا يسألكم خرجا والخرج المال الذي يأخذه السلطان من الرعية، والخراج العطاء الكثير، ما سألتهم خرجا حتى يدعوا أنك تريد سلطانا عليهم وجاها، فما أعطاه اللَّه تعالى خير، وهو كثير، وهو ربك وكافلك، ومديم العطاء عليك، وهو مغنيك دائما عن الناس، وهو خير الرازقين، فرزقه خير الأرزاق، وافر يتفضل على من وقف على بابه، والمعنى خراجه أي عطاؤه أغلى رزق وعطاء، وليس فوقه رزق لطالب رزق، ويصح أن نقول: إن المراد من خراج اللَّه تعالى نعمة على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي نعم معنوية، فما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - معروفا بالمال، إنما كان معروفا بالسمو الإنساني الكامل الذي لم يناصبه أحد فيه؛ ولذا اجتباه رب العالمين خاتما للنبيين، وكان آخر لبنة في صرح الرسالات الإلهية.
ولقد قال الزمخشري كلمة بليغة في معنى هذه الآية: قد ألزمهم الحجة في هذه الآيات، وقطع معاذيرهم، وعللهم، بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله، مخبور سره وعلنه، خليق بأن يجتبى مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم يعرض له حتى يدعى بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلما للنيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم، وهو إضلالهم بالتدبر والتأمل وتعللهم بانه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من اللَّه بالمعجزات والآيات المنزلة، وكراهيتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر. اهـ ملخصا.(10/5097)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73)
وبعد أن أشار سبحانه إلى أنهم يبتغون الهوى المنبعث من أوهامهم وشهواته وتقليدهم، وأن الحق لَا يتبع أهواءهم، بين اللَّه سبحانه وتعالى أن دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - هي دعوة الحق، وأمارة الحق استقامة طريقه فهو لَا اعوجاج فيه؛ ولذا قال تعالى:(10/5097)
(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الخط المستقيم هو أقرب خط بين نقطتين، فالوصول إليه قريب سهل، والصراط هو الطريق المستقيم، ولقد شبه اللَّه تعالى الحق من حيث إنه أقرب طريق للوصول إلى اللَّه تعالى، فإن اللَّه هو الحق، وطريقه الحق، ورسالته الحق، وأكد اللَّه تعالى أن رسوله يدعو إلى الحق، وأن صراطه هو المستقيم بمؤكدات:
أولها - " إن " المؤكدة الدالة على التحقيق.
والثانية - اللام في خبرها.
والثالثة - الجملة الاسمية.
وهنا نجد تفرقة واضحة بين الحق الذي يدعو إليه النبيون، والهوى الذي يدعو إليه المشركون، فاللَّه يدعو ورسوله إلى طريق مستقيم يتفق مع العقول ولا اعوجاج فيه، ولا أمت، يرتفعون فيه وينخفضون، بينما الأهواء متفرقة المخارق متفاوتة في طريق يتنازعون فيها أمرهم.
وإن هؤلاء يتنكبون الصراط المستقيم؛ ولذا قال تعالى:(10/5098)
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
(وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
يقال: نكب عنه أي: مال عنه وانحرف إلى غيره، والصراط هو الصراط المستقيم، وقد مالوا عنه إلى مثارات الشيطان، فالصراط المستقيم هو صراط الله تعالى كما قال تعالت كلماته: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153).
وقد وصف اللَّه سبحانه الذين لَا يؤمنون بالآخرة بالميل عن طريق الحق؛ وذلك لأن الذين لَا يؤمنون بالآخرة ماديون لَا يؤمنون إلا بالمادة، والإنسان روح كماله في أن يؤمن بالغيب، ولذلك كان من أوصاف المؤمنين: الإيمان بالغيب، وإن الذين لَا يؤمنون بالغيب يحسبون أن الحياة الدنيا هي كل شيء فتسلط عليهم أهواؤهم وشهواتهم، والشهوات مردية، والأهواء فاتنة النفوس، والذين لَا يؤمنون(10/5098)
بالآخرة يحسبون أنهم خلقوا عبثا، وأنه لَا جزاء لمن أحسن، ولا عقاب على من يسيء، كما قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).
* * *
يذكرون الله في الشدة ولا يذكرونه في الرخاء
قال الله تعالى:
(وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
* * *
إن من شأن من لَا يؤمن باللَّه واليوم الآخر، أن يكون إحساسه خاضعا للساعة التي يكون فيها لَا ينفذ ببصيرته إلى ما وراءها فيقول في كل شيء: ما هي إلا حياتنا الدنيا، ولا يفكر إلا في الحالة التي تظله.(10/5099)
ومن شأنه أنه إذا نالته شدة أحس بسلطان اللَّه تعالى، وأنه كاشف الضر، فإذا زال عنه الضر عاد إلى كفره، وهذا المعنى بصوره قوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ).
لقد تضرع المشركون لبلاء نزل بهم فرقَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال اللَّه تعالى مبينا سنته فيهم وفي أمثالهم:(10/5100)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
(وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
أي لو غمرناهم برحمتنا في وقت شدتهم، فأزلنا عنهم الغم، وكشفنا الضر من مرض أو بلاء لاستمروا لاجين في ظلمهم الطاغي يعمهون، الكشف كناية عن ذهاب الضر؛ لأن الضرر يكون كالغمة، وكشفها إزالة كربها، وما المراد من الرحمة وكشف الضرر أهو زواله بعد النزول، أم أنه يستمر في الرحمة بأن يتمتع بنعمة الصحة والعافية وعدم وجود الضرر؛ إن الآية تحتملهما، وإن الرحمة هي التمتع بمتع الحياة، وعدم نزول الضرر، بل هو مكشوف عنها كل ضرر يحتمل أن يوجد، ويكون المعنى أن النعمة تغرهم فيكفرونها، وعدم نزول ضرر بهم كذلك، فيستمرون في حالهم لاجِّين فيها و (فِي طُغْيَانِهِمْ) أي في ظلمهم الطاغي (يَعْمَهُونَ)، أي يترددون ويتحيرون، فإن الطاغي متردد متحير دائما، إذ إن للفطرة العادلة صوتا وإن لم يكن مجلجلا، والظلم لجلج دائما، وإذا رأيت الظالم يعنف دائما، فاعلم أن ذلك لإسكات الصوت الخفي الذي ينبعث خافتا ليسكته.
وعلى الاحتمال الآخر، وهو أن هذا يكون بعد نزول ضرر وكشفه، فإنه واضح، ولكن نحن نرجح الأول لقوله تعالى: (لَلَجُّوا) - إلى آخره؛ لأن اللجاجة استمرار الحال قائمة، والشدة فيها، ويكون المعنى أن استمرار النعمة عليهم تطغيهم بالظلم، وتغريهم بالشر.
(وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)(10/5100)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)
الضمير في قوله: (أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ) يعود إلى مشركي مكة الذين كانوا يعاندون النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يعود إلى الكفار عامة من حيث إنه بيان لحال الكفار، في أنهم إذا نزلت بهم جائحة أو شديدة خنعوا في وقت نزولها، وما استكانوا لها وما تضرعوا لها وما تضرعوا بعدها وآمنوا. كان تفسير الزمخشري على أن موضوع القول، هم كفار مكة نزلت بهم مجاعة، كما جعل موضوع الآية السابقة والآية التالية أهل مكة، وذكر أن ثمامة بن أثال الحنفي منع الميرة عن أهل مكة، وقال: لا أعطيكم حبة حنطة إلا أن يأذن رسول اللَّه، فأخذهم الله تعالى بالسنين فجاء أبو سفيان إلى رسول الله في المدينة، وقال له: أنشدك اللَّه والرحم، ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين. فقال محمد - صلى الله عليه وسلم - بلى، فقال: قتلت الآباء، وجوعت الأبناء فنزلت هذه الآيات الثلاث (1).
وربما يكون هذا الكلام مستقيما لو كانت الآيات بعد غزوة بدر، وبعد الغزوات كلها إلى الحديبية، ولكن السورة كلها مكية ونسقها مكي، فكيف تجيء آية بمعان مدنية لم تتحقق إلا في المدينة، ولم يثبت أن هذه الآيات نزلت بالمدينة استثناء من السورة.
ولذا نقول: إن الآيات الثلاث عامة في وصف غير الكفار في كفرهم من أنهم يخنعون عند الشدائد، ويعودون إلى الاستكبار، فيخنعون، ثم يتمردون، اقرأ قوله تعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135).
فاللَّه جل علاه كان ينزل الشدائد على الكافرين، فيذلون عند نزولها، ولكن إذا انكشفت الغمة عادوا إلى كفرهم وطغيانهم، كما رأينا في فرعون وملئه، وقد ذكر سبحانه وتعالى أن ذلك شأن كل الكافرين يكشف اللَّه تعالى عنهم الضر إذا أصيبوا به، فيخنعون في وقته، ثم يعودون إلى كفرهم بعد كشفه.
________
(1) ذكره بنحو من ذلك: الطبري في جامع البيان:18/ 34، من رواية ابن حميد عن ابن عباس، وراجع سيرة ابن هشام: أسر ثمامة بن أثال الحنفي وإسلامه.(10/5101)
وقوله تعالى: (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) " الفاء، للإفصاح، والاستكانة معناها كما أشار الراغب، وبين الزمخشري: الانتقال من كون إلى كون، وحال إلى حال، فهي افتعل من كان، أي فيما انتقلوا من الكَوْن الذي هم فيه وهو الكفر إلى الكون الذي يدعوهم رسولهم إليه، وهو الإيمان باللَّه ورسوله (وَمَا يَتَضَرَّعُونَ) أي لم ينتقلوا إلى كَوْن الإيمان، وما اتجهوا بالضراعة الدائمة المتجددة للَّه تعالى المستمرة شأن المؤمنين الضارعين لربهم، وكان نفي المضارع لنفي تجدد الضراعة ودوامها في كل أحوال الشخص، لَا في وقت الشدة فقط.
وقوله: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ)، معناها أخذناهم متلبسين بالعذاب، أي أنه سبحانه أخذهم، وهم في حال العذاب وأنقذهم، ومع ذلك استمروا على كفرهم، وأنهم يستمرون في غيهم حتى يجيئهم العذاب الذي لَا يزول؛ ولذا قال تعالى:(10/5102)
حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
(حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
سار الزمخشري على المنهاج الذي ارتضاه في الآيات الثلاث، وهو أن موضوع الآيات أهل مكة، فذكر أن الباب الذي فتحه اللَّه تعالى هو الجوع، وذكر أنه أشد الأبواب.
ونحن على رأينا، وهو أن الآيات وصف للمشركين في الشدائد تنزل بهم، والكفر المستمر الذي يلابسهم في كل أحوالهم، ويكون الباب الذي يفتح عليهم من العذاب ولا يغلق - يوم القيامة.
(حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ. . .).
(حَتَّى) هنا تفريعية لَا غائية أي يتفرع عن هذا اللهو الذي هم فيه سائرون، لا تنزع بهم الشدائد عن شرهم أن يُفاجَأوا إذا جاء باب من الشدة لَا يغلق، ولا يرجى أن يغلق، وهو يوم القيامة، وسماه سبحانه بابًا ذا عذاب شديد؛ لأنه كالباب الذي كان مسدودا، ثم فتحه اللَّه تعالى فلا يسد أبدا، فهو باب ابتدأ بالبعث والنشور، ثم ثنى سبحانه بالحساب وأعمالهم تنطق عليهم بآثامهم، وإنها لتنطق(10/5102)
بالحق، ثم ختم بالإلقاء في الجحيم، وكل هذا تصوير لحالهم من حيث إنهم كانوا كلما نزلت بهم شديدة رجوا بعدها نجاة حتى جاءهم ما لَا ينتهي ولا يسد أبدا، وهو يوم القيامة، وسمي بابا؛ لأنه يفتح، وينتهي إلى الجحيم التي فيها يُسَجرون.
ويقول سبحانه: (إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) الضمير يعود إلى الباب، ويقصد ما وراءه مما يدخلون فيه (مُبْلِسُونَ) أي متحيرون، كما يقول الله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ)، وقال تعالى: (لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)، والإبلاس كما أشرنا هو الحيرة الشديدة مع اليأس الذي لا رجاء فيه.
بعد ذلك بين سبحانه إنشاءه للإنسان، وإنه أنشأ له حواسه التي بها يحس، وعقله الذي به يدرك، ولكنه كفر بهذه النعم، فقال تعالى:(10/5103)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)
بين الله سبحانه وتعالى أنه منحهم أسباب الإدراك، ولم يدركوا، ولم يشكروا اللَّه تعالى على ما أنعم، فهو سبحانه وتعالى أنشأ لكم السمع لتسمعوا الخير وتدركوه، ولتسمعوا آيات الله تعالى في الرعد، فترهبوه، ولتسمعوا النذر فتتقوا، ولتسمعوا المبشرات فترجوه. والأبصار: وهي جمع بصر، لتبصروا الكون وما فيه، فتبصروا الشمس والقمر، والنجوم في أبراجها، والماء ينزل فينبت الزرع، وتكون الأرض ذات منظر بهيج، وجمع الأبصار، ولم يأت بها مفردة كالسمع لتعدد المبصرات وتغايرها وتكاثرها، وفي كل مبصر منها آية تدل على وحدانية الله وقدرته، وكل مبصر له حيز وشكل وصور مختلفة، ولبيان أن في المبصرات مناظر مختلفة تسوغ تعدد البصر لأجلها.
والأفئدة جمع فؤاد، وهو القلب، والعرب كانت تجعل موضع الإدراك والتفكير القلب، وأنه عند التحقيق أوسع إدراكا من العقل؛ لأن القلب يشعر ويحس ويتصور، وفي الشعور علم، والعقل يدرك ويتصور ويربط الأسباب بالنتائج، ويقيس بين الأشياء، وجمع الأفئدة؛ لتعدد المدركات، وسموها أو انحدارها.(10/5103)
وإن هذه الحواس والمدارك هي التي بها علا الإنسان، وقال تعالى: (قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ) (مَا) دالة على تأكد ما قبلها أي قليلا أي قلة (مَا تَشْكُرُونَ) فلا تقومون بحق هذه النعم كما قال تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، وقال تعالى: (فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْء. . .)، إذ كانوا يجحدون بآيات الله تعالى، وإن أول شكر للنعمة الإقرار بفضل من أنعم، وألا يسوى بغيره مما لَا يضر ولا ينفع، وليس له سمع ولا بصر ولا فؤاد، بل هي أحجار لَا حياة فيها.(10/5104)
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
(وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
الضمير يعود على ذي الجلال والإكرام، والواو عاطفة، ذرأ معناها أظهر ونشر فهو اللَّه جل جلاله هو الذي أظهرنا في الأرض، ونشرنا في أقاليم شتى في الأرض، وجعلنا ألوانا وألسنة مختلفة، وتلك من آيات الله تعالى، كما قال جلت قدرته: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ. . .)، وذكر سبحانه وتعالى في قوله: (فِي الأَرْضِ) إشارة إلى أن الانتشار في عموم الأرض كلها، وإشارة إلى أننا منها وبثنا الله تعالى فيها، وإليها نعود، ثم قال تعالى مبينا المآل: (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) تقديم الجار فيه معنى الاختصاص، أي إليه وحده تحشرون، لَا يكون معكم شيء مما تدعون من دونه، وقال سبحانه:
(تُحْشَرُونَ)، أي تُجمعون محشورين غير مفرقين، بل يكونون جمعا لَا تفاوت(10/5104)
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
(وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
الضمير يعود أيضا إلى الله جل جلاله؛ وذلك لتربية المهابة في النفس، والمعنى: هو اللَّه الخالق الذي يحيي الإنسان كل يوم وكل ساعة من زمان، فينشئ من يحييه، ويميت من ينتهي أجله، فإذا جاء أجله لَا يستأخر ساعة، ولا يتقدم ساعة، ولكل أجل كتاب.(10/5104)
وكما ذكر اللَّه سبحانه وتعالى أنه يملك الحياة والموت، وأننا نعاين كل يوم من يموت، ومن يولد، ويستقبل الحياة فلله سبحانه وتعالى ما هو أعظم وأكبر، له الليل والنهار، وذكر سبحانه وتعالى الليل والنهار باللام على أن ذلك في سلطانه وقبضته سبحانه للإشارة إلى السماوات والأرض في قبضته؛ لأن الليل والنهار يجيئان من دوران الأرض حول الشمس أي من صلة الأرض بالسماء وطولهما وقصرهما يتبعان ذلك، فذكر الليل والنهار يومئ إلى سلطان اللَّه تعالى الكامل على السماء والأرض وما بينهما وعلى الوجود كله، وإذا كانت الحياة والموت تصور خلق الأحياء، وأنه في سلطان الحياة والموت، فإن ذكر اختلاف الليل والنهار يصور سلطانه - سبحانه وتعالى - على كل الوجود.
ثم قال تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) " الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والاستفهام للتحريض على التفكير بعقولهم، والموازنة بين الحقائق التي يرونها بأعينهم، والمعنى إذا رأيتم ذلك عينا ومحسوسا ألا تدركون بعقولكم أن اللَّه قادر على كل شيء، وعلى الإعادة بعد الموت، وأنتم ترون كل يوم حياة وموتا، والليل والنهار خلفة، ذلك هو اللَّه خالق كل شيء، ولكنهم مع ذلك ينكرون البعث ودلائله قائمة ثابتة تقرع حسهم.
(بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)(10/5105)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)
بل للإضراب والانتقال، وهو الانتقال من ذكر أحوال الكافرين المتشابهة جيلا بعد جيل، إلى المشركين الذين يعاندون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيان المشابهة بين قولهم وقول من سبقوهم، وأوضح هذه المشابهة في كفر الحاضرين بالبعث، كما كفر الماضون، وعقد سبحانه المشابهة في كفرهم بالبعث، فقال: (بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ) الذين غلب على تفكيرهم المادة المحسوسة دون الغيب المعقول، وفسر اللَّه تعالى قولهم الذي شابهوا به من سبقوهم، والتقوا مجهم على مائدة الإنكار لغير المادي المحسوس، (أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابَا وَعِظَامًا أَئِنَّا لمَبْعُوثونَ) الاستفهام للإنكار، في قوله(10/5105)
تعالى عنهم:(10/5106)
قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82)
(أَئِذَا مِتْنَا)، وقوله: (أَئِنَّا لمَبْعُوثُونَ)، في هذا الاستفهام إشارة إلى موضع استنكارهم، فموضع استنكارهم البعث بعد أن يموتوا ويصيروا ترابا وعظاما، كقولهم: (مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ. . .)، وكرر سبحانه الاستفهام للنص على موضع إنكارهم أو استنكارهم، وذلك جهل منهم باللَّه وهو الخالق، وهو شديد المحال.
وقد أفرط المشركون في إنكارهم فقالوا:(10/5106)
لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
(لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعدهم بالبعث والنشور في أول دعوته لهم، فقد قال عندما أمره ربه أن يصدع بأمر ربه، وقال له: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكينَ)، وعندما قال له عز وجل: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)، قال - صلى الله عليه وسلم -: " واللَّه لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون " (1) واستمر يكرر هذه الدعوة لهم غير وانٍ ولا مقصر، وبمقدار استمراره كان جحود المشركين؛ ولذا أخبر اللَّه تعالى عنهم: (لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْن وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ) أكدوا أنهم وعدوا وآباؤهم الذين أدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل هذا الزمان، وقد أكدوا أنه وعدهم بقد، وباللام، ولكن مع توكيد وعدهم أكدوا إنكارهم له، فقد قالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (إِنْ) نافية أي ما هذا الوعد المكرر إلا أكاذيب الأولين التي تقال في موضع السمر والتفكه بفارغ القول، جاء في مفردات الراغب في الأساطير: " قال المبرد هي جمع أسطورة، نحو أرجوحة وأراجيح، وأِفية وأثافى وأحدوثة وأحاديث "، أي أنها أخبار غير صادقة يتفكه بها، ويقطع الوقت بالسمر عليها، فليست حقا تتبع، ولا جَدًّا من
القول يتعظ به.
________
(1) سبق تخريجه.(10/5106)
الكون يخبر بواحدانية الله
قال اللَّه تعالى:
(قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
* * *
هذه الآيات كلها توجيه للعقول إلى اللَّه تعالى خالق الكون والقوام عليه، وهي استفهامات يتعين الجواب فيها وليس لديهم سبيل لإنكار الجواب، بل الجواب متعين، لَا مناص منه، ولا سبيل لغيره؛ لأن العرب كانوا يعلمون أن اللَّه خالق السماوات والأرض (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. . .)، فهم ما كانوا يجهلون الله تعالى، بل كانوا يعلمون أنه خالق السماوات والأرض، وأنه الذي يلجأ إليه في الشدائد، ويعلمون أنه واحد في ذاته وصفاته، ولكنهم في العبادة يشركون به غيره، وكأنهم يحسبون أنهم لَا يصلون إلى مقام الذات العلية، فيتخذون بأوهامهم الأوثان ذرائع، ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّه زلفى.(10/5107)
قال اللَّه تعالى مخاطبا نبيه آمرا له:(10/5108)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84)
(قُل لمِنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كنتُمْ تَعْلَمُونَ) الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يواجههم بالحقائق وما يترتب على العلم بها، ولمن الأرض؛ أي من يملك الأرض ومن عليها من العقلاء ملكية كاملة بالخلق والإنشاء والتكوين؛ أمره أن يسألهم عن ذات الأرض، وعن العقلاء فيها، ولكن لم يسأل عن غير العقلاء من الدواب، وما في باطنها من معادن وفلزات، وما في بحارها من جواهر كريمة، ونقول: إن كلمة الأرض شملت بعمومها كل ما على ظاهرها من نبات وحيوان وجماد، وما في جوفها من فلزات سائلة وغير سائلة ومعادن أكثرها في باطنها. ولأن الملكية وإن وقعت على العقلاء باعترافهم فهي على غيرهم تثبت بالأولى؛ لأن غير العقلاء أشياء تشترى وتباع، فهي أولى بالملكية، ويعلق النبي - بأمر اللَّه - الإجابة على علمهم، والتعليق يومئ إلى علمهم وأنه حقيقة، ولكن ذكر بـ " إنْ " التي تفيد الشك في وقوع الشرط، للإشارة إلى أن علمهم كلا علم؛ لأنهم يعملون بنقيضه.
ولقد بين اللَّه تعالى إجابتهم، فقال:(10/5108)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)
السين لتأكيد القول، أي سيكون جوابهم حتما: للَّه، لما ذكرنا من أنهم يعلمون أن خالق الكون كله بما فيه ومن فيه هو اللَّه تعالى لَا ريب عندهم في ذلك، ولكنهم يفصلون النتيجة عن مقدماتها، فعلمهم بالخالق كان يوجب عليهم ألا يعبدوا غيره؛ لأن العبادة نتيجة الخلق والتكوين، ولذا قال تعالى: (قُلْ) والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (أَفَلا تَذَكَرونَ) (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي لترتيب التذكر على إيمانهم بأن اللَّه تعالى خالق الأرض ومن فيها، أي إذا كنتم تعلمون هذا وتؤمنون فألا تذكرون، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، أي أنهم في الواقع لَا يتذكرون، ولا يربطون المقدمات بنتائجها، والذكر هو إدراك موجبات العقل، والحقائق التي تؤمن بها القلوب.
وقد أمر اللَّه تعالى نبيه أن يسألهم في أمر كوني آخر.(10/5108)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)
(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)
الخطاب أيضا للنبي يأمره أن يسألهم (مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْع)، والربوبية تقتضي:
أولا - الخلق والتكوين.
وتقتضي ثانيا - الإمداد برحمته.
وتقتضي ثالثا - الرقابة عليه والتنظيم له، والتسيير له، والقيام على شئونه، والسماوات وصفها بأنها سبع، ثم قال تعالى: (وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)، أي صاحب السلطان العظيم المهيمن على الوجود كله.
وإجابتهم لَا محالة(10/5109)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87)
(سيَقُولُونَ لِلَّهِ ... (87)
السين لتأكيد القول في المستقبل، وذلك لما
ذكرنا من قبل من أنهم يعلمون أنه لَا سلطان في الخلق والتكوين والهيمنة على الوجود إلا للَّه، ولكنهم كما قلنا: لَا يرتبون النتائج على علمهم، بل يعبدون غير اللَّه بسيطرة أوهامهم على تفكيرهم، ونجد هنا افتراقا في الجواب عن السؤال، فالسؤال: مَن رب السماوات؟ والجواب: اللَّه، وظاهر الجواب أن يكون " اللَّه " من غير لام، ونقول في الجواب عن ذلك إن السؤال عن الربوبية يقتضي السؤال عن الملكية والسلطان، كأنه قيل لمن السلطان والملك فكان الجواب (للَّه).
ويلاحظ أنه تكرر لفظ الرب في قوله تعالى: (مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْع وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم) ونقول: إن التكرار لتغاير معنى الربوبية، ففي الأولى السؤال عن الخالق، والمنمي، والقائم بالتدبير، والتسيير، والثاني معنى الربوبية السلطان والحكم، (قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) الأمر موجه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليقنعهم بخلق اللَّه مع استحقاقه وحده العبودية (أَفَلا تَتَّقُونَ) (الفاء) كما ذكرنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه إذا كان يجب عليهم أن يتقوا اللَّه ويجعلوا وقاية بينهم وبين عذابه، ما دام هو رب هذا الوجود كله، ورب السلطان فيه وحده، وهو الذي يعذب من يشاء، ويغفر لمن يشاء.(10/5109)
ولقد أمره سبحانه أن يسألهم سؤالا ثالثا:(10/5110)
قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)
(قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
الملكوت صيغة مبالغة تفيد الملك الممكن الذي لا سلطان إلا له، فالواو والتاء للمبالغة، كجبروت، ورهبوت ورحموت، وزيادة المبني تدل على زيادة المعنى، و (مَنْ بِيَدِهِ)، أي من له السلطان والملك الكامل لأقصى أنواع الملك، وهو يقبضه كما يقبض صاحب الصولجان (1).
وقد صور اللَّه سبحانه وتعالى اتساع سلطانه، وفرضه على كل إنسان وكل شيء بذي قوة يضم إلى جواره من يشاء، ويمنعه من أن تصل إليه يد معتدية، لا يمكن أن يكون لأحد جوار يمنعه سبحانه من أن ينزل من الهلاك ما شاء لمن شاء؛ لأنه فوق العالمين (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ): (إِن كنتُمْ تَعْلَمُونَ)، وأتى بـ (إِن)؛ لأن حالهم من الشرك تدل على أنهم لَا يعلمون،
________
(1) الصولجان: فارسي معرب، وهو المحجن أي العود المعوج. الذي نراه في أيدي العظماء والملوك لسان العرب " بتصرف " (صلج).(10/5110)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)
(سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ... (89)
التعدية باللام لتضمن السؤال معنى الملك والسلطان، أي أن الملكوت كله للَّه تعالى.
أمر اللَّه تعالى نبيه بقوله: (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) (الفاء) أيضا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي يترتب على علمهم بأن اللَّه تعالى خالق الأرض، ومن فيها والسماوات السبع، وربوبيته للعرش ولها، وكونه صاحب السلطان الأعظم يترتب على كل هذا أن يسألوا كيف يُسحرون، أي ينخدعون ويميلون عن الحق الراكز في نفوسهم إلى الباطل الذي هو أوهام مخيلة، وليس حقائق ثابتة معلومة لكل ذي فكر وعقل وإدراك، و (أنى) هنا بمعنى كيف، كـ " أنى " في قوله تعالى: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ. . .).
فهذه الآيات تبين كيف تسيطر الأوهام على ذوي الأهواء الذين لَا يفكرون، وتقاوم الحقائق الثابتة لديهم، وتسيرهم مع مخالفتها لكل معقول، ولما كان عندهم من علم سابق، ولقد قال تعالى:(10/5110)
(بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
هذا إضراب انتقالي، انتقل اللَّه بهم من المجاوبة التي تكون بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يوجه أنظارهم إلى ما ينبئ عن الحق وهو الوحدانية، يأخذها من نتائج ما يقولون، وإذا كان الأمر كما يقول المناطقة: النتائج متضمنة في مقدماتها، وما البرهان إلا كشف ما تطويه المقدمات من نتائج، فعلمهم بأن الكون كله مخلوق للَّه تعالى متضمن وحدانيته تعالى في العبادة.
الإضراب الانتقالي هو الانتقال من المجاوبة إلى تقرير الحق مبينا بطلان ما يدعون بطريق إثبات بطلانه في ذاته، وبيان صحة نقيضه، قال تعالى:(10/5111)
بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
(بَلْ أَتَيْنَاهُم بِالْحَقِّ)، أي بالأمر الثابت الذي لَا يتطرق إليه الريب، (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) جعل وصفهم بالكذب المستمر مقابلا للحق الذي جاءهم اللَّه تعالى به؛ لأن الكذب إذا مردت عليه النفس فسدت، وصارت لَا تفرق بين باطل وحق، إذ تكون نفسه غير مؤمنة، لأن الإيمان تصديق دماذعان، فلابد من الصدق لكي يكون الإيمان، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند اللَّه كذابا " (1).
ولقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإيمان والكذب نقيضان لَا يجتمعان، فقد سئل أيكون المؤمن بخيلا؟ قال: يكون، أو يكون المؤمن جبانا؟، قال: نعم يكون، وسئل: أيكون المؤمن كذابا؟ قال: لَا يكون المؤمن كذابا " (2).
ولذا كان حقا أن يقابل الحق الذي يجيء به اللَّه تعالى ويتأكد كذبهم، وقد أكد اللَّه تعالى بـ " أن " المؤكدة، وباللام، وبالوصف، بأنهم من شأنهم الكذب، وبالجملة الاسمية.
________
(1) سبق تخريجه.
(2) نْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، أَنَّهُ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»، فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ فَقَالَ: «نَعَمْ»، فَقِيلَ لَهُ: «أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا»؟ فَقَالَ: «لَا». . رواه مالك في الموطأ - الجامع (1571).(10/5111)
ولا يفتح القلب للأوهام، ووسوسة الشيطان إلا أن يمرد على الكذب؛ لأن الكذب يخفت صوت الحق والبرهان والعقل، ولقد نفى اللَّه تعالى من بعد ذلك أوهامهم، فقال:(10/5112)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
(مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ ... (91) نفى اللَّه تعالى أن يكون له ولد، وادعاءهم أن اللَّه اتخذ ولدا فالنصارى قالوا: اتخذ اللَّه عيسى ولدا له، وبعض المشركين قالوا: اتخذ اللَّه تعالى الملائكة بنات له، واليهود قالوا: اتخذ اللَّه عزيرا ولدا له، وتعبيرهم بـ (اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ) يشير إلى احتياج اللَّه تعالى للولد، كما يقول النصارى اتخذ اللَّه عيسى ولدا ليُقتل ويكفِّر عن خطيئة آدم، واللَّه سبحانه وتعالى غفار للذنوب قابل للتوب، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُم الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، أي المحمود على كرمه وإفضاله دائما.
والقسم الثاني من المشركين الذين اتخذوا الأوثان آلهة من دون اللَّه أو معه، وقد نفى اللَّه سبحانه وتعالى ذلك نفيا كاملا مستغرقا، و (مِن) في قوله: (مِن وَلَدٍ)، و (مِنْ إِلَهٍ)، لاستغراق النفي، والمعنى ما اتخذ اللَّه من ولد أيَّ ولد كان، فالكل خَلْق له، ولا تفاوت أمامه، وما كان معه من إله أي إله، ومن أي مادة.
ولقد بَرْهن سبحانه، على بطلان الشرك فقال: (إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) أي إذا كان هناك آلهة غير اللَّه. فالتنوين في (إِذًا) ينبئ عن جملة أضيفت إليها (إذا)، وتكون في معنى الشرط، ولو كان هناك لترتب على ذلك أمران محالان، ولا وجود لهما، وإذا انتفيا انتفى ما أدى إليهما، فنفي اللازم يقتضي نفي الملزوم، والأمران هما:
الأول - أن يذهب كل وأحد بما خلق، وبذلك لَا يتحقق التناسق في الوجود، وكله نسق واحد، لَا تفاوت فيه.(10/5112)
والثاني - أن يكون بينهما التعالي، فلا يكونان في قدرة واحدة، بل يكونان على أقدار مختلفة، وفرض التساوي في القدر ينتهي إلى أن يكونوا كشخص واحد أو كإله واحد، والواحد ضد التعدد، فلكي يستقيم فرض التعدد لابد أن يفرض أن بعضهم يعلو على بعض، وذلك يؤدي إلى التنازع، وهذا يؤدي إلى الفساد، كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22).
وقال في هذه الآية، (سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ)، أي تقدس سبحانه وتعالى " ما " يصح أن تكون موصولا حرفيا، ويصح أن تكون موصولا اسميا، وعلى الأول يكون المعنى تقدس اللَّه تعالى وتنزه عن وصفهم له بأن له شريكا أو اتخذ ولدا، وعلى الثاني يكون المعنى تقدس اللَّه عن الذي يصفونه به وهو أن له شريكا، والمؤدى واحد.
وقد بين سبحانه ما يؤدي إلى نزاهته نزاهة مطلقة، فقال عز من قائل:(10/5113)
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
(عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
وقدم الغيب على الشهادة؛ لأن العلم بالغيب أبلغ في الدلالة على وصف العلم من الشهادة، وقال تعالى: (عَالِمِ الْغَيْبِ) من غير التعدية بالباء، للإشارة إلى أنه يعلم الغيب كله لَا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، لَا في الغيب ولا في الشهادة، ومن كان كذلك فهو كامل الوجود، ليس له شبيه، ولا مثيل، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فتعالى اللَّه عما يشركون، أي فتسامى سبحانه عن أن يشركوا به شيئا، و (ما) موصول حرفي، أي تعالى اللَّه عن إشراكهم به، ويصح أن تكون موصولا اسميا.
* * *(10/5113)
ما يوعدون من عذاب
قال تعالى:
(قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
* * *
في هذه الآيات الكريمة تهديد بما أعده اللَّه تعالى من عذاب للمشركين بعد أن بين لهم بالأدلة القاطعة أن الشرك باطل. وإن النفوس المنحرفة تخاطب بالدليل الهادي المرشد، فإن لم تجد الهداية المرشدة، والبراهين الساطعة كان الإنذار الشديد، وقد برهن فبقي الإنذار، ابتدأ سبحانه الإنذار الشديد، بأن أشار للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أنه إنذار لَا يقع في نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، وأنه يحسن أن يطلب رؤيته، فقال:(10/5114)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93)
(قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعدُونَ).
ابتدأ القول بالنداء بـ (رَبِّ) لبيان أن ذلك الذي ينذر به من مقتضى الربوبية، لأن مقتضى الربوبية؛ أن يجزى المحسن إحسانا، والمسيء بما يستحق، فلا يستوي الأعمى والبصير، ولا الظلمات ولا النور. (إِمَّا تُرِيَنِّي) " إما " - هي " إنْ " مدغمة في " ما "، و (ما) جاءت لتوكيد فعل الشرط، ولذلك جاءت نون التوكيد الثقيلة رادفة(10/5114)
لتوكيد " ما " والجواب محذوف لتذهب النفوس فيه كل مذهب، وفي ذلك إشارة إلى هوله وأنه لَا تكتنه العقول كنهه، و (ما) في قوله تعالى: (مَا يُوعَدُونَ) ما هنا موصولة بمعنى الذي، وإن اللَّه تعالى وعدهم بالعذاب في الدنيا والعذاب في الآخرة، أما في الدنيا فالنصر الذي وعد اللَّه تعالى به نبيه الأمين، والذي كان له فيه الغلب، وكان النصر حليفه دائما ولم يهزم ولا في أحُد، وأما عذاب الآخرة فهو الجحيم خالدين فيها، وبئس المصير.(10/5115)
رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
(رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
ضراعة من النبي - صلى الله عليه وسلم - اتجه بها إلى ربه بأمر ربه، و (الفاء) تفصح عن شرط مقدر، وتقدير القول إذا كان ما يوعدون به من هذا الهول الذي لَا يُكتنه، ولا يقدر قدره من العذاب، فلا تجعلني فيهم، وأظهر في موضع الإضمار لإثبات ظلمهم، وأن ذلك العذاب هو بسبب ذلك الظلم، وهذا النص يتضمن براءة النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يكون ظالما، وأن يكون من الأقوام الظالمين أو في صفوفهم، فإن الرضا عن الظلم كالظلم، وإن كان دونه جزاء.(10/5115)
وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
(وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95)
يبين اللَّه تعالى أنه سيُرِي رسوله، ما وعد به الكفار من عذاب في الدنيا بالغلب والانتصار، وفي ذلك تبشير وإنذار، تبشير للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ما يعدهم من عذاب على أيدي المؤمنين، وأن اللَّه تعالى قادر على أن يُريه لنبيه في حياته قبل أن يمضي لربه، وقد أكد سبحانه وتعالى قدرته على أن يريه النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الدنيا أكدها اللَّه سبحانه بالجملة الاسمية و " إنَّ "، وإضافة الأمر إليه سبحانه بضمير المتكلم العظيم المعظم، وثانيا باللام، وبالوصف بقادر. سبحانه وتعالى.
ولقد أمر الرسول إلى أن يريه عذابهم، ويحين حينه، ألا يكون غليظا فيهم، بل يدفع بالتي هي أحسن، حتى لَا يشمس نفوسهم، بل إن التبليغ يوجب عليه أن يدنيهم، ولو كانوا مناوئين، ولذا قال الحكيم العليم:(10/5115)
ْ(10/5116)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
وقد بين اللَّه تعالى لنبيه أنه في سبيل التبليغ لَا يدفع السيئة بسيئة مئلها، بل يأخذهم بالصفح، والتجاوز عن الإساءة في سبيل دعوة الحق والإيمان، فقال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) السيئة مفعول، (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، أي الحال التي تكون أحسن الردود ردا مدنيا مقربا، وليس جافيا مبعدا، والتعبير بـ أفعل التفضيل معناه أن يتخير خير ما يدفع به سفه القول، وحمق الفعال من سخرية واستهزاء وتهكم بدعوته، وبالذين معه من ذكرهم بالسوء وإيذائهم وتعذيبهم، ورد الإساءة بالأمر الحسن فضيلة ذوي السلام من الرجال الصابرين، وقوله تعالى: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفونَ)، أي نحن نعلم علما ليس فوقه علم بالأوصاف التي يصفونك بها أنت وأصحابك، فلا تأخذك هذه الأوصاف إلى أن تعاملهم بمثلها، إنك جئت هاديا داعيا إلى الحق ومرشدا، وما جئت مجافيا ولا معاديا، وبالرفق تدنيهم وبالجفوة والغلظة تقصيهم، فألفهم، ولا تخاصمهم، وأحمق الدعاة من يوجد خصومة بينه وبين من يدعوهم، فتثور أعصابهم لتقاوم دعوته، وقد بين سبحانه أن مغاضبة من يدعوهم من همزات الشياطين، فقال:(10/5116)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
(وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
يأمر اللَّه تعالى نبيه بأن يلجأ إليه، ويعوذ به من همزات الشياطين، وأن يحضروه في معالجة الدعوة الخالصة للَّه تعالى، وتبليغ الرسالة الإلهية إلى خلقه، والهمزة: هي النخسة التي تكون من وراء، واللمزة هي النخسة التي تكون من الأمام، وهمزات الشيطان هي سورة الغضب وحدته، ونسبت إلى الشيطان؛ لأنها تكون من غير الحكمة، وأمر اللَّه تعالى نبيه بأن يستعيذ من همزات الشياطين هو أمر له بأن يدرع بالصبر وألا ينساق وراء الغضب من أفعال من يدعوهم، بل يسايرهم ويلاينهم ما لم يكن في ذلك ضياع حق أو علو بالباطل، فالأمر بالدعاء بالالتجاء إلى اللَّه من همزات الشياطين، أمر له عليه الصلاة والسلام بأن يتئد، ويدعو(10/5116)
بالحكمة، كما قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. . .).(10/5117)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
(وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
أي ألجأ إليك عائذا لائذا أن يحضر الشياطين دعوتي إلى الحق، حتى لَا أخرج عن جادة الدعوة بالتي هي أحسن، وإن هذا وما سبقه تحريض للنبي - صلى الله عليه وسلم - بألطف عبارة، وأبلغ إشارة بأن يأخذ قومه بالرفق، والأناة، والمواتاة حتى لَا ينفروا، وكذلك الشأن في كل داع لأمر، أو لجديد من الحق لم يألفه الناس لَا يغاضبهم ولا ينافرهم، بل يتألفهم، ويقرب منهم، ولا يباعدهم.
وقد أنذر سبحانه المشركين بأنهم سيندمون حيث لَا ينفع الندم، وأنهم يحاولون أن يصلحوا من أنفسهم حيث فاتهم الأجل وسبقهم الزمن، وما سبقهم لا يعود.(10/5117)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
الضمير في (أَحَدَهُمُ)، يعود إلى المشركين الذين كانوا يرددون: (أَئذَا مِتْنَا وَكنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِئا لمَبْعوثونَ)، والذين كانوا يرددون (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ)، هؤلاء إذا حضر أحدهم الموت، ورأى رهبته وأدرك معاني الآيات الكونية والقرآنية، والدعوة المحمدية، علم أنه كان في ضلال، وذكر أحدهم مع أن الأمر يعمهم؛ للإشارة إلى أن الضلال كان من اجتماعهم وتألفهم على الباطل، وتعاونهم على إثمه - (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) الخطاب للجماعة التي تقبض الأرواح من الملائكة، أو هو عندما يكون قاب قوسين من الموت، ينادي من حوله أو في نفسه يقول: ارجعون، كما يقول المستغيث عندما يدلهم عليه الأمر، أو تحدثه نفسه بذلك، كما قال تعالى: (وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ. . .).
وقوله تعالى:(10/5117)
لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
(لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ... (100)
أي رجاء أن أعمل صالحا فيما تركت من مال وقوة، وسلطان، وكان الرجاء والتردد لأنه لَا يضمن توفيق اللَّه، أو(10/5117)
لأن الرجاء هو ما تقتضيه الكياسة، فهو يطلبه راجيا، وقد رد اللَّه تعالى رجاءه مكذبا له في عزمته على تدارك ما فاته، وإنما هي أمنية يتمناها ويخالفها كما كان يعد في الدنيا أنه إذا ذهب الكرب عاد إلى ربه مؤمنا، فإذا كشف اللَّه عنه الضر عاد كافرا. رد اللَّه تعالى كلامه بقوله: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا)، أي أن هذا الرجاء كلمة نطق بها، ولا تصادف عقيدة في قلبه، وأكد هذا بقوله تعالى: (هُوَ قَائِلُهَا) أي أنه لا يتجاوز النطق بها، ولا معنى لها في القلب، كما قال تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ. . .)، (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثونَ) الوراء تدل على ما يستقبل أي ما يجيئهم بعد قولهم، وهذا كقوله: (وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كل سَفِينَةٍ غَصْبًا).
والضمير في (وَرَائِهِم) يعود إلى جماعة المشركين، وما قاله أحدهم هو المتردد على ألسنتهم جميعا، فعاد الضمير إليهم جميعا، والبرزخ هو الحاجز المانع، قال الجوهري: البرزخ الحاجز بين الشيئين، والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث، وقد قالوا: إنه القبر، ونقول: هو القبر لمن يقبر، والله أعلم.
* * *
يوم القيامة وما فيه من حساب وعقاب
قال تعالى:
(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)(10/5118)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
* * *
جاء في المفردات في تفسير كلمة الصور في قوله:(10/5119)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) الصور مثل قرن ينفخ فيه فيجعل الله سبحانه ذلك سببا لعودة الصور والأرواح إلى أجسادها، أي أن البعث يكون على اللَّه يسيرا، إذ ليس إلا كنفخ القائد في البوق، فيجيء الناس بصورهم وأجسامهم، وأرواحهم تلتقي بأجسامهم بعد جمع متفرق من أماكنها التي كانت فيها متفرقة، والفاء في قوله تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ) فاء الإفصاح لأنها تفصح عن محذوف، والفاء الثانية: (فَلا أَنسَابَ بيْنهُم) الواقعة في جواب الشرط، ومعنى فلا أنساب بينهم، أي أنهم يكونون أمام اللَّه تعالى على سواء، فلا أنساب بينهم يتفاخرون بها، ويعلو بعضهم على بعض بشرفهم ولا تفاوت بينهم بسببها، إنما الأعمال هي التي تكون مناط الفخر، وسر الاستكبار: (وَلا يَتَسَاءَلونَ)، أي يكون كل في شغل بنفسه من هول اليوم العظيم، فلا يسأل المرء عن زوجه ولا عن أبيه وأخيه، وابنه، بل ترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب اللَّه شديد، وفي هذا الوقت يكون الحكم الذي ترتضَى حكومته هو العمل، وميزان الأعمال، لذا قال تعالى:(10/5119)
فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102)
(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
الفاء للإفصاح أيضا، وقد صور اللَّه الأعمال بأنها كالمحسوسات توزن فإن كانت جيدة يقبلها الله تعالى فإنها تكون في الميزان وتنخفض كفتها لثقلها، وإن ذلك تصوير للأعمال الراجحة المقبولة التي كانت مع الحق، ونفعت الناس، وكانت صالحة، وهذا تأويل حسن للميزان، بأنه تصوير دقيق للعدالة الربانية التي لَا تبخس الناس أشياءهم، ولا تنقص الناس أعمالهم، والسلفيون الذين لَا يؤولون، ولا يفسرون ويقولون: إنه يكون يوم القيامة ميزان حقيقي توزن به الأعمال.
وقد قال تعالى في جزاء الذين يقبل اللَّه أعمالهم، ويكافئهم عليها (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الإشارة إلى ذوي الأعمال الطيبة التي عرفت بالميزان أو كان ذكر الميزان تصوير للعدالة ودقة الحساب، أي أولئك بسبب هذه الأعمال، والإشارة إليهم موصوفين بعملهم هم المفلحون أي الفائزون بالجنة ونعيمها، ورضوان اللَّه تعالى، وهو أكبر، وفي الكلام قصر، أي هم الفائزون وحدهم، ولو كانوا في الدنيا ضعفاء، وأرقاء ومساكين، وغيرهم عتاة مستكبرون، وقد دل على القصر تعريف الطرفين فإنه يفيد القصر، على ما هو معروف في علم البيان، وقد تأكد القصر بضمير الفصل، و (هُمُ).
هذا جزاء من ثقلت موازينه، أما من خفت موازينه، فقد قال سبحانه فيه:(10/5120)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)
(وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)
وإن ذلك تصوير لعدل اللَّه تعالى الذي لَا يظلم أحدا، فهو كالميزان الذي توضع فيه الأعمال، فلا يظلم أحد شيئا، أو يكون ثمة ميزان حقيقي، كما يقول السلفيون الذين يقولون: إن السلف لَا يؤول، ولكن يفوض، ويقول ثمة ميزان يناسب اليوم الآخر، وقد ذكر اللَّه تعالى لهم عقابهم، وهو مكون من ثلاثة:(10/5120)
أولها - أنهم خسروا أنفسهم، فقد خسرا المعاني الروحية التي كانت ترفعهم من دركة الحيوانية إلى مرتبة الإنسانية، وخسروا العزاء النفسي الذي كان يكشف عنهم ضراء الحياة ويجعلهم يحتملونها، وخسروا الإيمان الصادق باللَّه فهو نعمة لا يحس بها إلا المؤمنون.
ثانيها - العذاب الشديد الذي ينزل بهم، وهو الدخول في جهنم، ولهذا قال اللَّه تعالى فيه: (فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) وقدم الجار والمجرور؛ لبيان اختصاص جهنم بخلودهم فيها، أي خالدون في جهنم لَا في غير، فليس عندهم في هذا الخلود قسمة من نعيم.
والعنصر الثالث - من الجزاء ذكره بقوله تعالى:(10/5121)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
(تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
هذه أوصاف جهنم أو ما يصيب الذين ينزلون فيها ويخلدون، ولفح: معناها أصابتهم بحَرّها وسمومها، فأجسامهم حطبها، ووجوههم تصاب بحرها وسمومها، ويقال: لفحته بالسيف إذا ضربته به، فهم في عذاب دائم مستمر لَا يسلم منه جزء من أجسامهم (وَهُمْ فِيهَا كالحُونَ) وعن ابن عباس في تفسير (وَهُمْ فِيهَا كالحُونَ) يريد كالذي كلح، وتقلصت شفتاه، وسالَ صديده، والمعنى الجملي، تشوي وجوههم النار، وتتقلص شفاههم وتعبس، ويقال: إن الكالح هو الذي تقلصت شفتاه، وبدت أسنانه، وفي الجملة شاهت منهم الوجوه وتحرقت الأجسام ويقول لهم ربهم وهم في هذه الحال.(10/5121)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
(أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)
الاستفهام داخل على حرف نفي، وهو للإنكار بمعنى عدم الوقوع، ونفي النفي إثبات، والاستفهام مع دلالته على النفي فيه توبيخ وتذكير بجرائمهم، وجحودهم بالحق، وهو أبلج، والمعنى قد كانت آياتي تتلى عليكم، والواضح أنها آيات القرآن، لأنها هي التي تتلى مرتلة، كما أنزلها اللَّه تعالى على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -،(10/5121)
وأضاف سبحانه وتعالى الآيات إلى ذاته العلية؛ لأنها آياته إذ هو كلام اللَّه تعالى، وهو تشريف لها، وبيان عظم جرمهم في تكذيبهم، إذ يكذبون اللَّه سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: (فَكُنتُم) و (الفاء) للترتيب والتعقيب، أي فكنتم فور تلاوتها تسارعون بالتكذيب من غير تأمل وتدبر، وإنهم يكذبونها ويكذبون النبي - صلى الله عليه وسلم - مع إقامته الحجة، وعجزهم عن أن يأتوا بمثله، ويكذبون اللَّه تعالى منزل الخلق، والذي خاطب خلقه، وعدَّى التكذيب بالباء للإشارة إلى أن موضوع التكذيب آيات اللَّه، أي أنهم كذبوا النبي، وكان موضوع تكذيبهم آيات اللَّه تعالى خالق كل شيء.
وقد أجاب المشركون يوم القيامة:(10/5122)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
(قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
قالوا يوم القيامة عارفين ربهم مخاطبين له بلفظة: (رَبَّنَا) إذعانا لمعنى الربوبية الذي كانت أعمالهم منكرة له، والشِّقوة بكسر الشين كرِدة، معناها الشقاوة والشقاء وهو ضد السعادة، ولعل المراد بالملاذ والأهواء والشهوات الجامحة فهي التي غلبت عليهم وأنستهم أنفسهم والحق، ويكونون قد عبروا عن المسبب وأرادوا السبب على سبيل المجاز المرسل، وكأن المعنى سيطرت علينا ملاذنا التي أدت بنا إلى هذا الشقاء، وقد صرحوا بذلك وبانها أدت بهم الشهوات إلى الضلال فقالوا: (وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ)، أي استمررنا ضالين؛ لأن " كان " تدل على الاستمرار، أي عشنا حياتنا كلها ضالين الحق مجانبين الصواب، وذكر (قَوْمًا) للدلالة على أنهم تعاونوا على الإثم والعدوان، وقاوموا الحق، وضلوا مجتمعين.
أقروا بضلالهم، ولكنهم حسبوا أنهم إن عادوا أصلحوا من أمرهم، قالوا:(10/5122)
رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
(رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
ابتدءوا متضرعين متقدمين في ندائهم بالربوبية الكالئة معترفين (أخرجنا منها) الضمير يعود إلى الجحيم، على ألا يعودوا إلى ما كانوا عليه من كفر وفساد في الأرض، وخروج عن كل جادة مستقيمة (فَإِنْ عُدْنَا)، أي إلى ما كنا عليه من شرك(10/5122)
وعصيان، (فَإِنَّا ظَالمُونَ) الفاء واقعة في جواب الشرط، حكموا على أنفسهم بأنهم يكونون ظالمين، أي يكون الظلم وصفا مستمرا لهم، وكأنَّهم يومئون إلى أنهم لم يكونوا ظالمين من قبل، أو كأنهم لم يعدوا الإعلام السابق عن طريق النبيين ليس معدودًا في الإعلام، وكأنَّه لَا إعلام إلا بالعذاب، وقال تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ. . .).
أجابهم اللَّه في ذلك بقوله:(10/5123)
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
(قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
القائل كما يظهر من ثنايا القول هو اللَّه جل حلاله، (اخْسَئُوا) أي ابعدوا (وَلا تُكَلِّمُونِ)، ياء المتكلم محذوفة والمعنى " لا تكلموني "؛ وذلك لأن كلام اللَّه تعالى منزلة من الرضا لَا يصل إليها إلا الأبرار المتقون الذين يكلمهم اللَّه وينظر إليهم ويزكيهم، أما هؤلاء فهم مطرودون من رحمته محرومون من رضاه، وذلك رد عنيف لطلبهم أن يخرجوا كأنهم يخدعون ربهم، وحالهم في الدنيا كاشف، وقد كانوا يتضرعون في الشديدة فإذا عادوا كأن لم يتضرعوا من قبل.
وقد ذكر سبحانه أسوأ أحوالهم، وهي السخرية ممن يتضرعون إلى اللَّه تعالى، فقال:(10/5123)
إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
(إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109)
وإن الله تعالى ليذكرهم بأعمالهم مع المؤمنين الذين كانوا يضرعون إلى الله تعالى، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه، فيقول: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ منْ عِبَادِي) هذه الجملة في مقام التعليل لإبعاد المشركين وطردهم، ومنعهم من الكلام معه، أي أنه سبحانه وتعالى يعاملهم يوم القيامة بهذه المعاملة البعدة الطاردة جزاء وفاقا لما كانوا يعملونه مع المؤمنين، والفريق من عباده هم فريق المؤمنين الذين كانوا يؤمنون به وبرسله ويضرعون إليه، يقولون: (رَبَّنَا آمَنَّا)، أي صدقنا وأذعنَّا، وصرنا ممن اتبعوا رسولك، (فَاغْفِرْ لَنَا).(10/5123)
وشأن المؤمن الضارع أن يحسب أن ذنوبه قبل حسناته، فيطلب الغفران قبل طلب الجزاء على الطاعة؛ لأنه يحس أنه لم يقم بحق اللَّه تعالى عليه، حتى يطالب بحق له، (وَارْحَمْنَا)، أي امنن علينا بدوام الهداية، وأدخلنا في رحمتك، دعوا اللَّه تعالى أن يرحمهم ولم يدعوه بأن يكافئهم، بل يحسبون كشأن الأبرار أن ما كان يجزيهم به من خير فهو فضل رحمته ورضوانه، ولا يحسبون أنهم عملوا ما يستحقون عليه جزاء، (وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)، أي وأنت الذي ترحم رحمة ليس فوقها رحمة يا رب العالمين.
ماذا كان لقاء المشركين لهؤلاء المؤمنين؛(10/5124)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
(فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
الفاء للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا على هذه الضراعة، فلم يقتدوا بهم ويأتسوا، بل اتخذوهم سخريا. . قرئ بضم السين، وقرئ بكسرها (1)، وفرق بعض اللغويين بأن القراءة بالضم معناها التسخير، وبالكسر معناها الاستهزاء، ولا يعرف هذه التفرقة الخليل بن أحمد ولا سيبويه ولا الكسائي ولا الفراء بل هما لغتان بمعنى واحد، ولقد كان المشركون يسخرون من الذين آمنوا، وقوله تعالى: (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي)، أي أن هذه السخرية جعلتهم لَا يلتفتون إلى معاني الذكر الحكيم، ولا يتدبرون آياته، ولا يعتبرون بعبره، وإنه بسبب هذا كله ينسون ذكر اللَّه تعالى فلا تمتلئ قلوبهم به، ولا يخشونه، (وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ)، أي كنتم أيها المشركون الساكنون في جهنم تضحكون منهم، والضحك يميت القلب، ولا تكون معه عبرة ولا استبصار.
________
(1) قرأها بضم السين: نافع وأبو جعفر، وحمزة والكسائي وخلف، ووافق أبو يزيد (عن المفضل عن عاصم) - جبلة، وقرأ الباقون بكسر السين. غاية الاختصار: 2/ 485.(10/5124)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
قرئ بفتح همزة (أن) (1) وتكون مجرورة بلام محذوفة، والمعنى إني جزيتهم(10/5124)
اليوم الذي تعذبون فيه هذا العذاب الأليم بسبب صبرهم على سخريتكم، وعلى الإيذاء الذي تؤذونهم، وكان ذلك الجزاء اليوم، أي في الوقت الذي تكونون فيه في الجحيم يكون هؤلاء الذين كنتم تتخذونهم سخريا، وكنتم منهم تضحكون في نعيم مقيم، ورضوان من اللَّه تعالى ينظر إليهم، ويكلمهم، ويزكيهم.
وعلى قراءة كسر همزة " إنَّ " (1) تكون (إن) جملة في معنى تعليل الجزاء، أو بيانه، (إِنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزونَ) (2) أي هم وحدهم الفائزون، ودل على القصر تعريف الطرفين، والتأكيد بضمير الفصل، والجملة فيها عدة تأكيدات، فهي مؤكدة بـ " أن "، وبالجملة الاسمية، وبـ " هُم "، واللَّه سبحانه رءوف رحيم.
* * *
مدة البقاء فى الأرض
قال تعالى:
(قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
* * *
________
(1) (إنهم هم الفائزون) بكسر الهمزة، حمزة والكسائي، وقرأ الباقون بفتح همز - " إنْ. غاية الاختصار: 2/ 586.
(2) انظر السابق.(10/5125)
إن هذه الدنيا مع أدوارهم فيها من أجنة في الأرحام إلى الخروج من بطون أمهاتهم أطفالا فشبابا فكهولا يكون الإحساس بها، كأنها يوم أو بعض يوم؛ ولذا يسألون يوم القيامة عن مدة مكثهم(10/5126)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
(قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ)، أيَّ مدة بقيتم في الأرض قد اتخذتموها مهادا وفراشا وأفسدتم بها مما أفسدتم، وعادين ذلك بالسنين (عَدَدَ سِنِينَ) هذا بيان لأصل الاستفهام بعد نوع إيهام، أي كم لبثتم من عدد السنين، فالسؤال عن عدد السنين، لَا عن عدد الشهور والأيام؛ لأنهم في ذلك الوقت يكونون قرب الخروج من أرحام الأمهات أطفالا، فالسؤال عن وقت وعيهم وهو يكون بالسنين.
وقد أجابوا: بأنهم مكثوا يوما أو بعض يوم، لأنهم كانوا فيها يتمتعون ويرتعون في الحرام فكانت قصيرة في نظرهم، ولذا قالوا:(10/5126)
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)
(قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113)
(الفاء) للإفصاح، أي أنهم يجهلون عدد السنين فلا يستطيعون الإجابة، وأحسوا بأن الذي يسألهم عنده وسائل المعرفة، وعده عليهم من سنين حياتهم في الدنيا، كما أحصى أعمالهم، ووجدوها محضرة، فمن أحصى الأعمال لابد أن يعرف عدد السنين؛ ولذا (فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ)، أي الذين من شأنهم أن يعدوا ويحصوا.
وقد أكد سبحانه أنهم ما لبثوا إلا قليلا، والقلة بالنسبة للآخرة، ولذا قال عز من قائل:(10/5126)
قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
(قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114)
(إِن) نافية، أي ما لبثتم إلا زمنا قليلا؛ لأن الدنيا متاع قليل غير باق، والآخرة خير وأبقى، فمهما تطل الآجال في الدنيا فهي فانية، والفاني قليل إذا وزن بالباقي الذي لَا يفنى، وذلك ما لم يكونوا يعلمونه إذ كانوا يقولون ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما نحن بمعوثين؛ ولذا قال تعالى: (لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، أي لو ثبت وقَرَّ في نفوسكم أنكم كنتم تعلمون حقيقة هذه الدنيا، وأنها معبر طال(10/5126)
زمنه أو قصر إلى حياة دائمة باقية، إما أن تكون عذابا مستقرا أو فانية أو نعيما باقيا، و (لو) - حرف امتناع لامتناع، أي امتنع علمكم في الآخرة لامتناع علمكم في الدنيا بأنها سنون قليلة بالنسبة للآخرة، وقد أكد نفي علمهم بـ (إن)، وبـ " كان "، وللَّه في خلقه شئون، وقد انتفى علمهم، لأنهم حسبوا أنه لَا حياة بعد الموت؛ ولذا قال عز من قائل:(10/5127)
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
قلنا: إن الآية السابقة فيها إيماء إلى أن الحياة الدنيا أمدها قصير بالنسبة للآخرة، وإنها لجنة أبدا ولنار أبدا، وإن ذلك مع ما سبق يتبين أنه لابد من البعث، وأن حكمة الخلق والإيجاد للإنسان لَا تتحقق إلا به، ولذا قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا) (الفاء) تفيد ترتيب السؤال على ما قبلها، وهي مؤخرة عن تقديم،؛ لأن أداة الاستفهام لها الصدارة، والاستفهام للاستنكار أي إنكار ما وقع، فهم حسبوا ذلك، وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، و (أَنَّمَا) أداة حصر، أي ما خلقناكم إلا عبثا، أي من غير حكمة باهرة ظاهرة، والعبث أي من غير حكمة من الله تعالى، وعبثا منكم أي خلقناكم لتعبثوا من غير طلب مطلوب منكم، ولا غاية تتجهون إليها، لتلهو أو تلعبوا وتقولوا وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب، ولا محاسب يحاسبكم، (وَأَنَّكمْ إِلَيْنَا لَا ترْجَعونَ) الواو عاطفة أي وحسبتم أنكم إلينا لَا ترجعون لتحاسبوا على ما كان منكم من لهو عابث، وتقديم الجار والمجرور يدل على الاختصاص والتهديد بالرجوع إليه سبحانه وتعالى وحده بحيث لَا يكون معهم شفيع يشفع، ولا وَلي يناصر، ولا فدية تعطى، بل يؤاخذ كل على ما فعل، إن قليلا، وإن كثيرا، وإن خيرا، وإن شرا، وأكد سبحانه وتعالى رجوعهم إليه، بالجملة الاسمية، وبتصديرها بـ (إن) الدال على التحقيق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)(10/5127)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنه يترتب على ما ذكر من خلق الإنسان والكون كله أن يكون في علو لَا يتسامى إليه أحد في الوجود، وقد وصفه سبحانه بصفات خمس هي لَا تكون إلا له سبحانه؛ إذ هو كامل الوجود، وتلك صفات كامل الوجود، وليست إلا له:
الأولى - أنه سبحانه له وحده الملك والسلطان، ولا سلطان فوق رب العالمين.
والصفة الثانية - أنه الحق الثابت الدائم، الذي لَا ثبات لغيره، وملكه قائم على الحق والعدل؛ لأنه قام على كونه خالق الوجود كله، وهو ربه، فهو الملك وهو الحق، وهو قائم على دعائم الحق، ويحكمه سبحانه وتعالى بالعدل.
والصفة الثالثة - أنه هو اللَّه وحده فلا إله غيره؛ سبحانه وتعالى؛ لأنه إذا كان الخالق وحده، وله الملك وحده، فهو الإله وحده، وقد أشرنا من قبل إلى أن العرب كانوا يعترفون بأن اللَّه وحده خالق كل شيء، وأنه واحد في ذاته وصفاته، ولكن عند العبادة يعبدون الأوثان، فاللَّه سبحانه يبين أن الخلق ووحدة الذات توجبان وحدة الألوهية.
الصفة الرابعة - أنه رب العرش، أي صاحب السلطان وحده في الدنيا والآخرة فلا سلطان لشخص أو حجر، إنما السلطان له وحده في الدنيا والآخرة.
الصفة الخامسة - أنه الكريم الذي فاض بنعمه الظاهرة والباطنة على الوجود كله، ويغفر ويرحم، والذي يقبل التوبة عن عباده، كما قال عز من قائل: (اِنِّي لَغَفَّارٌ لمِن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالحَا ثُمَّ اهْتَدَى).
وإن المشركين لَا برهان عندهم على أن ما يعبدونه استحق العبادة؛ ولذا قال تعالى: (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)(10/5128)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
(وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ)، أي يعبد مع اللَّه إلها آخر بزعمه من بشر أو حجر " لا برهان له به " أي بعَدِّه إلها، أو باستحقاقه لصفة الألوهية، فالضمير في (بِهِ) يعود على (إِلَهًا آخَرَ)، ونفي البرهان يقتضي أولا أنه لَا برهان على وجوده بحيث يكون نافعا ضارا، وينفي ثانيا: استحقاقه للعبادة، لأن من يعبده أعلى تكوينا منه في كثير من الأحيان، فالإنسان يعبد حجرا، وهو يسمع ويبصر، والحجر لَا يسمع ولا يبصر ولا حياة فيه، بل هو جماد، وإذا كان لَا برهان يسوغ عبادته، فإنما الوهم لَا العقل هو الذي سهل هذه العبادة، وقال تعالى في جواب الشرط: (فَإِنَّمَا حِسَابُه عِندَ رَبِّهِ) (الفاء) واقعة في جواب الشرط، (إنما) للحصر، أي لَا يحاسبه إلا ربه، وفي ذلك إنذار شديد بالعقاب الأليم فحسابه عند ربه الذي خلقه، وقام عليه، وهو القاهر فوق عباده، ثم قال تعالى: (إِنَّه لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) وهذه الجملة في بيان نتيجة الحساب وهو أشد العقاب، والضمير في (إِنَّهُ) ضمير الشأن، أي أن الحال والشأن لا يفلح الكافرون لكفرهم، ولن يغني عنهم شيء.(10/5129)
وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
(وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - يطالبه بأن يدعو ربه ضارعا إليه بالغفران والرحمة فهو (خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) أي الرحمن الذي لَا يصل إلى رحمته أحد وقد طلب أن يغفر من غير ذكر المغفور له، وطلب أن يرحم من غير ذكر من يُرحم، وذلك لشمول من يطلب الغفران لهم، والرحمة لهم، فهو الغفور الرحيم الذي سبقت رحمته عذابه، وفى ذلك الطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - تصفية لنفسه من شوائب الحقد، والحسد، ليدني من يدعوهم، ولا يجافيهم، فإن الجفوة تبعد، والرحمة تقرب، إن اللَّه غفور رحيم.
* * *(10/5129)
(سُورَةُ النُّورِ)
تمهيد:
هذه سورة مدنية وعدد آياتها (64) أربع وستون آية، وسميت النور لقوله تعالى فيها: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ. . .)، وإنها لو سميت سورة الأسرة لكانت جديرة بهذا الاسم.
وقد ابتدأ بما هو آفة الأسرة، وحمايتها منه، وهو الزنى، فكان أولها - عقوبة الزناة التي تحمى الأسرة والمجتمع من أشراره (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3).
وأراد الله تعالى أن يكون المجتمع الإسلامي مجتمعا نزيها لَا يترامى بالسوء والفاحشة صيانة للفضيلة، ونصاب الشهادة بالزنى أربعة، فمن رمى محصنة أو محصنا بالزنى يجلد ثمانين جلدة.، فقال: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قرر سبحانه عقوبة مادية بالجلد ثمانين جلدة، وعقوبة أدبية تبعية، وهي ألا تقبل لهم شهادة أبدا.(10/5130)
ولكن قد يرمي الرجل زوجه، وليس معه شهود أربعة، فأوجب اللعان، بأن يتحالفا على البراءة، وقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)، وإن ذلك فضل من الله ورحمة لأنه حمى المجتمع والأسرة من تلك الآفة الخلقية المخربة، ولأنه منع قول الزور وأن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
وقد أشارت السورة إلى حديث الإفك على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، فقال عز من قائل: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)، وعلمنا الأدب عندما نستمع خبر سوء فلا يجوز لنا أن نذيعه بل نظن خيرا بالمؤمنين وخصوصا ما يتعلق ببيت الرسول: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13).
وإن هذا كان جرما عظيما؛ لأن رمي المحصنات أمر عظيم، ورمى زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - جرم هو أعظم الحرام، ويقول سبحانه: (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)، وإن إشاعة قول السوء عن أم المؤمنين تؤدي إلى إشاعة الفاحشة في المؤمنين (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
ويبين لنا سبحانه أن الخوض في مثل هذا من تتبع خطوات الشيطان.(10/5131)
وينهانا سبحانه عن ذلك، فيقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ. . .).
والأسر لابد فيها من التراحم، ولو كان بعض آحادها قد شذ، كما شذ بعض ذوي قرابة أبي بكر الذي كان يمده بفضل ماله، فخاض في حديث الإفك على عائشة، فمنعه أبو بكر من فضله، فقال الله تعالى ناهيا أبا بكر، ومن يكون في مثل حاله: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)، وقد بين سبحانه بعد ذلك إثم الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، (. . . لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25).
وإن الله لَا يختار لنبيه إلا الطيب من النساء؛ لأن الطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين، والنبي وزوجه مبرءون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم، وقد بين سبحانه وتعالى حرمة البيوت، وتحريم التهجم على الأسرة بغير إذن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)، ويفصل سبحانه بدقة لأحوال الاستئذان، فيقول:
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29).
بعد ذلك أقر الله تعالى بعض الطرف للرجال والنساء، (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)(10/5132)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)، ويحث على إنكاح الأيامى غير المتزوجات، والصالحين من العباد ولو كانوا فقراء، وإن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، ونهى عن البغاء ووسائله، ونهى عن إكراه الإماء على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا، (. . . وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رحِيمٌ).
وتنتقل الآيات إلى تطهير المجتمع على نور من أحكام الله تعالى، وقد ابتدأ بذكر نوره سبحانه، فقال جل شأنه: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35).
وإن صلاح المجتمع يبتدئ من بيوت العبادة: بالصلاة، فهي طهارة القلوب، والمجتمع الصالح ما قام إلا على طهارة النفوس، فذكر سبحانه وتعالى المساجد ومكانتها عند الله فقال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38).
وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك أن أعمال الكفار في ضياع ما داموا لم يؤمنوا بالله واليوم الآخر، وقد شبهها سبحانه وتعالى بعدة تشبيهات، فشبهها(10/5133)
بالسراب الذي يكون بِقِيعَةٍ حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، وشبهه بالظلمات (أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40).
ويوجه الأنظار إلى خلقه سبحانه وتعالى وخضوع الوجود له (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42).
يوجه سبحانه الأنظار إلى السحاب، وكيف يتكون (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44).
ثم يوجه سبحانه الأنظار إلى خلق الدواب (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45).
بعد هذا بين كيف أنزل أكبر النعم، وهي نعمة الرسالة، (لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) ويذكر بعد ذلك أحوال الذين تلقوا هذه الآيات، (وَوَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)، وهؤلاء لَا يتجاوز النطق بالشهادة حناجرهم، (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50).
وهؤلاء كالأعراب الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكالذين يذكرون في الأسماء الإسلامية، ويؤمنون بالقوانين الأوربية، ولا يؤمنون بشريعة القرآن (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا(10/5134)
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52).
ومن ضعفاء الإيمان من يقسمون بالله إنهم لمعهم، فيقول لهم الله تعالى: (. . . لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)، وبين من بعد ذلك (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)، ويأمر سبحانه تعالى بعد ذلك بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة وطاعة الرسول رجاء رحمة الله، ويبين بعد ذلك أنه لا يعجزه المشركون في الأرض، ولكن يمهلهم، ومأواهم بعد الإمهال جهنم وبئس المصير.
بعد هذه الآيات المتعلقة بالإيمان، وأخلاق ضعفاء الإيمان ومن في قلوبهم مرض والمشركين، يعود إلى الأسرة وآداب الاستئذان، وقد تكلم في الاستئذان بالنسبة للداخلين في بيوت غير بيوتهم، ثم من بعد ذلك تكلم في استئذان الساكنين من الأسرة في دار واحدة في الاستئذان على الأسرة نفسها في الدخول إلى الحجرات المخصصة للرجل وزوجه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58).
الأطفال البالغون الحلم علَّمهم الاستئذان ككل آحاد الأسرة، لَا في أوقات العورات فقط، ولا تترك الآيات أحكام القواعد من النساء اللاتي لَا يرجون نكاحا أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة، وأن يستعففن خير لهن والله سميع عليم.(10/5135)
وتكلم سبحانه في نفقات الأقارب فيقول: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61).
وقد ذكر سبحانه وتعالى ما يجب أن يكون عليه المؤمنون، فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)، ويعلِّم سبحانه المؤمنين في أدبهم مع الرسول فيقول عز من قائل:
(لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63).
وختم الله سبحانه وتعالى السورة ببيان سلطانه في هذا الوجود كله (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64).
* * *(10/5136)
معاني السورة
حد الزنى
قال الله تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
* * *
ابتدأ سبحانه وتعالى السورة باختصاصها بأنها سورة(10/5137)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
(سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا)، وذكرها منكرة لإعلاء شأنها، وحسبها أنها منزلة من عند الله، واختصت بذكر أنها أنزلت من عند الله، وقوله: (وَفَرَضْنَاهَا)، أي فرضنا ما فيها من أحكام تتعلق بحماية الأسرة وعقاب المعتدين على النسل فيها، ولكيلا يتمرد على أحكامها أحد، فهي أحكام مفروضة من عند الله، وهي تطهير للعباد من إثمهم، وكما شرف الله تعالى السورة كلها بنسبة إنزالها إليه، شرف آيات الأحكام فيها بالإنزال؛ تأكيدا للإلزام بأحكامها، والتزام أحكامها، ولو كانت شديدة فهي شديدة على المعتدين، وحفظ للمؤمنين، وقوله تعالى: (وَفَرَضْنَاهَا)، أي فرضنا ما اشتملت عليه من أحكام، وأولها وأشد عقوبة: الزنى، وقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، أي تذكرون أحكامها، وتعرفون شدتها، فتعرفون قبح الجريمة، وأثرها في المجتمع الإسلامي، وأنها لَا تكون في قوم إلا كتبت عليهم الذلة، والضعف والاستسلام، والخنوع.(10/5137)
وقد ابتدأ من ذلك بحكم من يرتكبون هذه الجريمة المفرقة بين الجماعات، المضيعة للنسل، فقال تعالى:(10/5138)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزنى هو وضع النطفة في رحم غير حلال له، أو بشكل عام: وضع العضو في عضو ليس حلالا له، والزنى أقبح الجرائم التي تفتك بالجماعات الإنسانية، ولذا قرن النهي عنه بالقتل إذ يقول سبحانه: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33).
وترى النهي عن الزنى جاء بعد النهي عن
الوأد؛ لأنه من بابه، وإذا كان الوأد قتلا للولد، فالزاني كذلك؛ لأنه يرمي النطفة، ولذا لوحظ في الأمم التي تكثر فيها الفاحشة، أنها تفنى شيئا فشيئا، وأن شيوع الزنى في أمة يضعف قوتها ونخوتها ويجعلها جماعة لاهية لاعبة.
وهذه الجريمة لما فيها من فحش، وإضعاف لقوة الأمة، وإردائها في مهاوي الهلكة شدد الله تعالى عقوبتها، فقال: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) وهنا ثلاث إشارات بيانية: أولاها: في تقديم الزانية على الزاني، قالوا: لأن قوة الشهوة الدافعة إلى الزنى عند المرأة أقوى، وربما لَا نوافق على ذلك كثيرا؛ لأن الرجل يطلب في أكثر الأحيان، والمرأة لَا تطلب الرجل إلا قليلا، وإن حدثتها نفسها فإن الحياء يكفها إلا إذا خلعته، وقد نقول: إنها إن طلبها الرجل ولم تكن مؤمنة سارعت إليه، ونقول في تعليل ذلك إن العقوبة قاسية، وقد قدمت المرأة لكيلا يمتنع أحد عن إقامة الحد بدعوى ضعفها، والشفقة عليها والرفق بها؛ لأنها من القوارير.
ثانيتها: أن كلمة الزاني والزانية وصف بالزنى، وذلك يكون في أكثر الأحوال من تعوّد هذه الجريمة، ولذلك لَا يكون إلا ممن أعلن هذه الجريمة الفاحشة ولذلك(10/5138)
كان لابد من شروط لإقامة هذا الحد: أن يشهد أربعة بها، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الجريمة معلنة مجاهرا بها، وذلك لَا يكون إلا ممن تعودوا هذه الجريمة، وقد يكون الزنى في أول أمره، ولكن يندر أن يحضره أربعة من الرجال العدول، ومع ذلك يطبق الحكم سدا للذريعة.
ثالثتها: أن التعبير عن الضرب بالجَلْد للإشارة إلى أنه يؤلم الجِلْد، وذلك بأن يكون الضرب قريبا من الجلد، فلا يستره إلا ثوب عادي، ولا يضرب على حشوة من قطن أو نحوه.
والفاء في قوله تعالى: (فَاجْلِدُوا) هي الفاء الواقعة في جواب الشرط، والتعبير بـ (زانية وزان) يفيد أن من يرتكب هذه الجريمة فاجلدوهم مائة جلدة.
وهذه هي العقوبة الأولى، وقد تبعتها عقوبة أخرى، وهي أن تكون هذه العقوبة في العلن لَا في السر، ولذا قال تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ منَ الْمُؤْمِنِينَ)، أي ليحضر العقوبة التي هي (عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ منَ الْمُؤْمِنِينَ)، وما حد الطائفة، قيل: اثنان. وقيل: أربعة، ونقول إنها الطائفة التي يكون بها الإعلام، بأن تكون العقوبة في مكان تكون فيه علنية لَا سرية، وسمى الله هذه العقوبة عذابا؛ لأنها عذاب الدنيا، ووراءها عذاب الآخرة، إن لم يتوبا توبة نصوحا؛ ولأنها قاسية غليظة، والرحمة بالجاني تشجيع على الجناية، والغلظة في عقابه رحمة بالجماعة الإنسانية.
ولغلظة العقوبة قال تعالى: (وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) الرأفة انفعال نفسي يدفع إلى الشفقة والألم والتقزز منها والاستنكار النفسي لها، فلا يصح أن تكون الرأفة هي المسيطرة، وعبر عن ذلك بقوله: (وَلا تَأخُذْكم بِهِمَا رَأْفَةٌ)، أي لا يصح أن تستولي عليكم حتى يقال: إنها أخذتكم، فالرأفة بالجاني استهانة بالحكم وتشجيع عليه كما ذكرنا.
وألفاظ الآية الكريمة عامة، وأجمعوا على أنها تطبق على البكر، أي غير المتزوج، أي غير المحصن الذي أحصن بالزواج ودخل في هذا الزواج.(10/5139)
وإنه من المقررات الشرعية أنه لَا يخصص اللفظ إلا بمخصص في قوته، والحنفية يعدون العام قطعي الدلالة، وهو الذي عرضناه، فلا يخصصه إلا قطعي مثله قرآنا أو سنة مشهورة تبلغ مبلغ القرآن في قطعيته، والآية - بلا ريب - قطعية السند؛ لأن القرآن كله متواتر، ومن أنكر ذلك فقد كفر.
ولذا كان لابد أن يكون ما يخصصه من نصوص قطعي السند قطعي الدلالة، وقد ادعى الحنفية أن حديث رجم الزاني، وإن كان حديث آحاد فهو مشهور، والشهرة ادعاء له.
ومن أجل أن نبين مقام هذه الآيات من الآيات الواردة في عقوبة الزنى، نذكر أن قبلها ثلاث آيات في ترتيب المصحف، وننبه أننا لَا نرى في القرآن منسوخا قط؛ لأنه سجل الشريعة الذي سجلت الأحكام الدائمة الباقية في تكليفها إلى يوم الدين.
الآيتان الأوليان
(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16).
دلت هاتان الآيتان على ثلاثة أمور باقية: أولها: أن الشهادة على الزنى تكون: بأربعة، ولذا قرر قبل هذا المنع الحاجز الصائن الاستشهاد بأربعة، والإمساك في البيوت لحماية الضعفاء من العبث حتى الموت أو الزواج، وهو السبيل الذي جعله الله تعالى لصيانتهن، وليس الحد سبيلا، ثانيها: العقوبة للزاني والزانية، ولكنه سبحانه وتعالى ذكر العقوبة مجملة، بينتها آية سورة النور التي نتكلم في معانيها، فالإيذاء في سورة النساء مجمل بينته سورة النور، ثالثها: أن التوبة إذا كانت وجب الإعراض عن العقوبة، ولذا قال عز من قائل: (فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا) وتكون العقوبة شرعا محكما إذا لم يتوبا، وتكون العقوبة في سورة(10/5140)
النساء شرطها عدم التوبة في وقتها، وبذلك قال الحنابلة والظاهرية ورواية عن الشافعي رضي الله عنه.
ومن أخطاء بعض المفسرين الواضحة تفسيرهم " اللاتي يأتين الفاحشة " بأنها السحاق، فإن البقاء في البيوت تمكين لها، ولا الفاحشة في الآية الثانية باللواط، فإن ذلك ينفر منه الذوق السليم، والفاحشة تكاد تكون محصورة في الزنى، وقد قيل: إن ثمة آية تقول (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة) ونسخت تلاوة، ولم تنسخ حكما، وهذه رواية بطريق الآحاد، وإن ادعيت شهرة الخبر (1).
وقد يقول قائل: إن الرجم أقسى عقوبة في الأرض فكيف يثبت ما دونها بالقرآن القطعي بدلالته وسنده، ولا تثبت تلك العقوبة الغليظة إلا بحديث آحاد، وإن ادعيت شهرته، والاعتراض وارد، ولا سبيل لدفع إيراده.
ولقد سأل بعض التابعين الصحابة أكان رجم النبي - صلى الله عليه وسلم - لماعز والغامدية قبل نزول آية النور أم بعدها؛ فقال: لَا أدري لعله قبلها، ونحن لَا نتهجم بالنسخ، ولو كان نسخ السنة، فلسنا ندَّعي نسخها بالآية الكريمة، ولم يبين أنها نسخته ولا نسمح بنسخ السنة بمجرد الاحتمال، ولا بمجرد التعارض، ولكن يبقى بين أيدينا أن العقوبات كلها مذكورة في القرآن إلا هذه مع أنها أقسى عقوبة، وإذا كان ثمة احتمال النسخ، فهو احتمال ناشئ من دليل وليس احتمالا مجردا أقسى من أشد عقوبات إلا الآية التي فيها محاربة الله ورسوله، وهو القتل والصلب، فإن الرجم: الرمي بالحجارة حتى يموت فهو عذاب حتى الموت، والصلب أهون لأنه بعد الموت حيث لَا يكون إحساس، ولا يضر الشاة سلخها بعد موتها، كما قالت ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها، ولعن الله من آذاها في نفسها وفي أبيها وآذي الكعبة معها.
_________
(1) رواه ابن ماجه: الحدود - الرجم (2534) عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وأحمد: مسند الأنصار - حديث زر بن حبيش عن أبي بن كعب (20261)، في مسند الأنصار - حديث زيد بن ثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (20613). وراجع البخاري: الحدود (6327)، 6328)، الاعتصام بالكتاب والسنة (6778)، ومسلم: الحدود (3201).(10/5141)
هذه عقوبة الزنى، ونعتقد أن حكم الآية عام، والظاهر من الألفاظ أنها تعم المحصن وغير المحصن، وقالوا: ثبت بالسنة تغريب عام، بعد الجلد على ملأ من الناس لكي يذهب عنه عار الجلد. وروي عن مالك أن المرأة لَا تعذب حتى لَا تكون عرضة للسقوط مرة أخرى، وفائدة التعذيب بالنسبة للرجل لكي يذهب عنه خزي الجريمة، لأن الخزي يجعله يهون في ذات نفسه، فيهون عليه ارتكاب الجريمة، إذ الجريمة في ذاتها هوان.
وقد يقول قائل في هذه المناسبة: إن الدعوة إلى أن يشهد العقوبة طائفة من المؤمنين يناقض الستر الذي دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين " (1) والجواب عن ذلك أن إعلان العقوبة خير، لأنه ردع عام، أما إعلان الجريمة من غير عقوبة فدعوة إلى الجريمة، وفرق بين دعوة الردع ودعوة الفجور.
لم نذكر الآية الرابعة، وهي إحدى الثلاث غير المذكورة في سورة النور، وهي قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25).
إن ظاهر الآية من غير تأويل، ولا تحميل الألفاظ غير ما يحتمل أن الظاهر من قوله تعالى: (فَإِذَا أُحْصِنَّ)، أي فإذا تزوجن فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، وإن الرجم لَا ينصف، وإذن يكون ما على المحصنات المتزوجات جلدا قابلا للتنصيف، وإن هذا يدل بدلالة الإشارة أو الاقتضاء على أنه لَا رجم، ولذا
________
(1) رواه البخاري: الأدب - ستر المؤمن على نفسه (5608)، ومسلم: الزهد والرقائق - النهي عن هتك الإنسان ستر نفسه (5306). من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.(10/5142)
قلنا: إن احتمال نسخ الرجم بآية من سورة النور احتمال ناشئ عن دليل، وما كان النسخ نسخ قرآن، إنما هو نسخ سنة، إذ الرجم لم يثبت إلا بالسنة.
هذه آية سورة النور، وما يرتبط بها، وما يتعلق بأحكام الزنى، قال تعالى بعد ذلك:(10/5143)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
(الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
إن الرجل النظيف لَا يلقي بمائه في موضع دنس، وأي دنس أخبث من دنس الزنى، أي فهو لَا يتزوج زانية، والنكاح هنا بمعنى العقد، لَا بمعنى الوطء كما روي عن ابن عباس برواية ضعيفة لم تصح، ويقول الزجاج: إن النكاح لم يذكر في القرآن إلا بمعنى العقد، فلا ينكح مؤمن زانية قط، ما دامت لم تتب توبة نصوحا، ولم تنخلع من هذه الموبقة، وتطهرها بالتوبة بعد الحد، وإن المؤمنة التقية لَا ترضى أن يكون زوجا لها زان عرف بالزنى، بل إن الزاني إذا تزوج مؤمنة كان الزواج فاسدا بحكم الكفاءة في الزواج، وقد أجمع الفقهاء على عد الكفاءة في التدين وقال فيه مالك رضي الله عنه: إنه زوج.
وكما أن الزاني لَا يجد من يقبله زوجا إلا زانية أو مشركة، كذلك الزانية لا تجد زوجا يقبلها إلا إذا كان زانيا أو مشركا، وإن ذلك حكم الطبع السليم الذي تكون فيه النفس غير مهينة، ولا مبتذلة، ولا مدنسة بالرجس والآثام؛ وذلك لأن الزوج عشير يخالط زوجه بالحس، ويخالطه بالنفس، وعدوى النفوس كعدوى الآثام تتلاقح بالأمراض، كما تنتقل الأمراض بين الناس.
جانيك من يجنى عليك وقد ... تعدى الصحاح مبارك الجرب
وإن ذلك وإن كانت الفطرة تمنعه، فالشرع لَا يرضاه، وقد قال: (وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الإشارة إلى النكاح، أي نكاح الزاني بغير الزانية، والزانية بغير الزاني، أي لَا يكون دأب النفوس إلا متفاعلا بعضه ببعض، وبظاهر الآية أخذ(10/5143)
بعض الفقهاء، ومنهما الظاهرية والحنابلة أو بعضهم، وبعض قليل من الشافعية والمالكية والحنابلة وأكثر الشافعية على أن نكاح الزناة ليس بفاسد.
ويجب أن نقول: إن الزانية التي وصف الزنى قائم بها، وإذا تابت فإنها تنخلع منه؛ لأن التوبة النصوح تجبُّ ما قبلها، وكذلك الزاني، فإن التوبة تطهر النفس، والإخلاص في التوبة يوجب الندم، وإن الله هو قابل التوبة، وغفار الذنوب، وكذلك نقرر أنه بالإجماع يجوز الزواج ممن تاب وآمن وعمل صالحا.
وإن الشريعة كما تطهر الأسرة من الزناة تحميها من الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فيعاقب الذين يرمون الطاهرات العفيفات بالزنى ووضعت لهم عقابا رادعا ثمانين جلدة، فقال تعالت كلماته:
* * *
حد القذف(10/5144)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
هذه جريمة القذف، وهو في الشريعة رمي المحصن بالزنى، والمذكور في الآية رمي المحصنات، وقد ثبت بقانون المساواة أن هذا حكم رامي الرجال؛ ذلك لأن قانون المساواة الشرعية يجعل حكم الرجل كحكم المرأة، فإننا نرى التكليف كان في أكثر الأحوال يجيء بمخاطبة الرجال، ثم يدخل النساء بحكم قانون المساواة في التكليف.(10/5144)
وذكر النساء وحدهن، وإن دخل الرجال بحكم قانون المساواة؛ لأن المحصنات يصيبهن ضرر الرمي بالزنا أكثر من الرجل بحكم العرف في الدنيا؛ ولأنها موضع الأمانة الربانية، فصيانتها أوجب، ورميها يكون أشد، ولأن أول رمي كان لأطهر نساء قريش - بعد فاطمة - زوج محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبنت أبي بكر الصديق، فكان ذكر النساء أولا.
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ) لم يقل بالزنى، بل لم يذكر المرمى به تحصنا وإبعادًا لألفاظ الشين عن المحصنات الطاهرات العفيفات، وقوله تعالى: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً)، الفاء هنا كفاء الشرط لتضمن الموصول معنى الشرط، وفيه مع ذلك إشارة واضحة إلى أن رمي المحصنات هو سبب هذا الحكم القاسي، والإحصان يتضمن معاني ثلاثة: أولها: الإسلام، فلا إحصان لغير مسلم ولا مسلمة، وثانيها: الحرية فلا إحصان لعبد، ولا لأمة، وثالثها: ألا يقع في زنى من قبل، أو يكون قد دخل في عقد فاسد بشبهة تسقط الحد، ولا تمنع بقاء وصف الزنى كالعقد على المحارم ونحوه مما هو مفصل في كتاب " الزواج "، فليرجع إليه (1).
والعقوبات ثلاث كما أشرنا:
الأولى: الجلد ثمانين جلدة، ووضحنا المعنى في التعبير بقوله (فَاجْلِدُوهُمْ) من حيث إن المراد ضرب يؤلم الجِلْد، فلا يكون ثمة حاجز يمنع إيلام الجلد كحشية أو نحو ذلك، وهذه عقوبة بدنية تصيب البدن وتؤلمه، وإذا كانت هذه عقوبة ومن قبل عقوبة الزانية فيها قسوة، فإنها رحمة بالجماعة المؤمنة من أن يفشو فيها الزنى، ويشيع، وفي ذلك فتنة وخراب وفساد كبير، وضياع للأمم، وللنسل، وخيانة للأمانة التي أودعها الله أصلاب الرجال، وأرحام النساء.
الثانية: إهدار أقوال القاذفين بألا تقبل لهم شهادة في قضاء، وهذا قوله تعالى: (وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) والأبدية توجب ألا تقبل لهم شهادة مطلقا: تابوا أو لم يتوبوا، وهذا ما قرره الحنفية وأكثر الفقهاء، وقرر الشافعية أن التوبة
________
(1) ارجع إلى كتاب " عقد الزواج وآثاره " للإمام محمد أبو زهرة.(10/5145)
النصوح تنهي هذه العقوبة؛ لأدن التوبة المقبولة تجبُّ ما قبلها من المعاصي؛ ولأن استثناء التوبة في الآية:(10/5146)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
(إِلَّا الَّذِين تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا) جاء بعد (لا تَقْبَلُوا)، والحكم بالفسق، فيشمل الاستثناء منهما لَا من أحدهما، ونحن نميل إلى ما فهمه الحنفية، أولا لأن النص على الأبدية يمنع الاستثناء؛ ولأن (وَأُوْلَئِكَ هُم الْفَاسِقُونَ) جملة مستقلة، والجملة " ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا " قد انتهت، فلا يتعلق الاستثناء بها، ولأن هذا هو الذي يلائم أنها عقوبة، ولأن إشاعة الفاحشة أعظم جرائم اللسان، فيجب أن تتعلق العقوبة به.
العقوبة الثالثة: الوصف بالفسق في قوله تعالى: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، وهذه هي التي دخلها الاستثناء؛ لأنها في جملته والحكم بالفسق اقترن به الاستثناء، فخرج المستثنى من حكم المستثنى منه.
وشرط تحقق حد القذف، ألا يأتي من يرمي بالزنى بأربعة شهود هو منهم، وبعبارة أدق بثلاثة معه يقرون قوله، ولذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) وكان التعبير في العطف بـ (ثم) الدالة على التراخي فيه إشارة إلى بعد الحصول على ثلاثة يشهدون معه، فإن إثبات الزنى بأربعة عسير، إلا أن يكون فعلا علنيا، ولا يحدث ذلك إلا في أفحش الأمم فجورا كأهل أوروبا وأمريكا.
والرمي - لكي يقام حد القذف - يجب أن يكون رميا صريحا بالزنى حتى يقول الفقهاء إنه رآه يضع إحليله في فرجها كما تضع الميل في المكحلة، أو نحو هذا التعبير.
ولو عَرَّضَ لَا يكون رميا بالزنى، ولو كان التعريض كالتصريح وضوحا، وقد رُمي المغيرة بن شعبة الذي صار نصيرا لمعاوية، فشهد ثلاثة من الأربعة بالرمي الصريح، وعرض زياد ابن أبيه الذي ألحقه معاوية بنسبه لم يصرح، فَعَدَّهُم عمر بن الخطاب الذي كان يقضي في الأمر بنفسه، قاذفين، وعاقبهم عقوبة الجلد.(10/5146)
وما كان ذلك إلا ليحمل الناس الذين يرون تلك الجريمة البشعة ألا ينطقوا بها، حتى لَا تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ويشيع الترامي بالزنى، فيستهين الناس به.
ثم قال الله تعالى في وصف القاذفين (. . . وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
الإشارة إلى الذين يرمون المحصنات، والإشارة إلى الموصوف بصفة أو القائم بعمل، بين أن ذلك العمل هو سبب الحكم، فالقذف سبب الحكم بالفسق؛ لأنه في ذاته فسق في القول، وقد أكد سبحانه وتعالى الحكم بفسقهم أولا: بالجملة الاسمية، وثانيا: تضمير الفصل " هم "، وثالثا: بجعل الفسق وصفا لهم، ورابعا: بقصرهم على الفسق، أي أنهم لا يخرجون من الفسق، فهم في دائرته لَا يخرجون عنها، فهم في شر مستمر دائم لا يخرجون عن دائرته قط إلا إذا تابوا، ولذا قال تعالى:
(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
الاستثناء من الحكم باستغراق الفسق؛ لأن رحمة الله تتسع للعصاة الذين أذنبوا، ولذلك ترفع عن القاذفين عقوبة عدم قبول شهادة، وإن ذلك هو الذي يتفق مع المتبادر من السياق البياني للقرآن الكريم؛ إذ إن الأمر بعدم قبول الشهادة في آية منفردة عن هذه الآية، وهي أمر بهذا العقاب معطوف على أمر بالعقاب البدني، وهما في جملتين إنشائيتين، والحكم بالفسق في جملة خبر.
والرأي الذي في المذهب الشافعي الذي يجيز قبول الشهادة إن تابوا، قال: إن الاستثناء من الآيتين معا، وقد قلنا: إننا نميل إلى رأي الجمهور في الاستثناء من الحكم بالفسق فقط، لذكر كلمة (أَبَدًا) وما كان قول الله لغوا، ولأنه المتبادر.
ولأن منع قبول الشهادة لحق الناس ولصيانة مجلس القضاء.
والاستثناء هو قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا) فالتوبة هي الإقلاع عن هذا والعزم على ألا يعود إليه، والندم على ما وقع، وذلك بالشعور بالحسرة لوقوعه، ولابد من الإصلاح بدل الإفساد والتخريب، فالذي تغير الفسق،(10/5147)
وذلك بأن يكون صالحا، وخصوصا أن الله جل جلاله سجل عليهم وصف الفسق، فلا يزيله إلا وصف الإصلاح.
وبين قبول توبتهم عن الفسق، فيقول عز من قائل: (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ) وقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ غفُورٌ رحِيم) دليل على قبول التوبة؛ لأن الفاء كالواقعة في جواب الشرط، لتضمن التوبة والإصلاح معنى الشرط، والمعنى فإن الله يقبل توبة هؤلاء الفاسقين لأن الله غفور رحيم يغفر الذنوب لمن يتوب من عباده، ويعفو عن السيئات، وذلك رحمة بعباده.
ونقرر أخيرا أن العقوبة بعدم قبول الشهادة أمر دنيوي نظم الله تعالى أهلية الشهادة، والحكم بها، وأما الغفران فأمره إلى الله تعالى، وهو الغفور الرحيم.
* * *
اللعان
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
* * *
روى أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الرجل يجد الرجل مع أهله وإن قتله قتلتموه، وإن تكلم ضربتموه، وإن سكت سكت على غيظ اللهم بين " (1)؛ فكانت
________
(1) عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: إِنَّا لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا، فَتَكَلَّمَ، جَلَدْتُمُوهُ، أَوْ قَتَلَ، قَتَلْتُمُوهُ، وَإِنْ سَكَتَ، سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ، وَاللهِ لَأَسْأَلَنَّ عَنْهُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ". . الحديث. رواه مسلم: اللعانَ باب (2748)، كما رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد.(10/5148)
هذه الآيات علاجا لذلك وشفاء لغيظه، ورحمة بالناس، وخاصة بالأسرة الإسلامية: لتقوم على الاطمئنان النفسي، والثقة التي تكون بين ركنيها، وهما الزوجان، ولصيانتها عن القالة.(10/5149)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)
(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ)، أي لم يكن شهداء غيرهم ولم يذكر عددا في الرمي، للإشارة إلى ما ينبغي، وهو ألا يعلم أحد بما يلاحظه على زوجه في هذه التهمة، فأسرار الأسرة لَا يصح أن تعلن على الملأ فلا يُسأل: مَنْ شهودك الذين يشهدون بصحة قولك، ولا يقدم هو تهمته، فيعفيه حكم اللعان من تقديم شهادة أو المطالبة بأي شاهد.
وسميت العقوبة عقوبة اللعان، لما اشتملت عليها بعض الأيمان بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وكلمة (شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ) الشهادة تطلق، ويراد بها الحضور، ولعل هذا هو المعنى الأصلي، وتطلق ويراد بها الإقرار كقوله تعالى: (. . . وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا. . .)، وتطلق ويراد بها الشهادة، وكلمة أشهد بالله تتضمن معنى اليمين، وقال بعض اللغويين: إن كلمة (أشهد) بذاتها من غير اقترانها بكلمة (بالله) تتضمن معنى اليمين.
وكلمة: (وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ) هي جمع شهيد أو شاهد، الظاهر أنه ليس معهم شاهد يشهد إلا أنفسهم، لأنه لم يحضر سواهم، أو لم يتقدم للشهادة أحد سواهم، وأنفسهم مستثنى مفرغ من (شهداء)، أي لم يشهد في الرمي إلا أنفسهم، وقد ذكر الله أربع شهادات (فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَات بِاللَّهِ إِنَّه لَمِنَ الصَّادِقِينَ)، ونرى أن الشهادة قد اقترنت بالله فكانت الشهادة يمينا، فيحلف - أربع مرات متتالية (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)، وقد أكد صدقه في يمينه بثلاثة مؤكدات: أولها (إنَّ) التي تفيد التوكيد، واللام المؤكدة دخلت عليه، والثالثة وصفه بأنه من الصادقين، أي من زمرة أهل الصدق، وجماعتهم، وهم المتقون الأبرار.
والشهادة الخامسة، أي اليمين الخامسة يحلف بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، أي يحلف بأن الله تعالى ينزل عليه لعنته إن كان من الكاذبين، فهو يوثق(10/5149)
طلب إنزال لعنة الله به إن كان كاذبا، وهذه الجملة أهي طلبية بمعنى أنه يطلب من الله أن ينزل اللعنة به؛ الظاهر ذلك، ولكن تحتمل أن تكون خبرية، بمعنى أنه يحلف أنه يستحق لعنة الله تعالى إن كان من الكاذبين، وذلك ظاهر من التعليق، وإلى هذا نميل، هذه أيمان الرجل، انتهت بالحلف على استحقاقه اللعنة إن كان كاذبا، أما المرأة فإنها تكون عرضة للعذاب، وهو عقاب الزنى، فإذا كان الرجل صادقا وأقرت بالزِنى، فالعقوبة هي العقوبة المقررة في آيات الزني، ولكنها لم تقر، فقال تعالى:(10/5150)
وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
(وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
ويدرأ معناها يميل عنها، أو يدفع وتبرأ ساحتها، أن تحلف أربع مرات بالله إنه لمن الكاذبين، وقد تأكد إثباتها لكذبه بما تأكد به إثباته لصدقه، بأن واللام، ودخوله في صفوف الكاذبين، والخامسة حلفها باستحقاقها للعذاب بأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وكونها طلبية أو خبرية، وميلنا إلى أنها خبرية شرطية هو ما قلناه في شهادته الإيجابية المثبتة فيقال هنا في النفي ما قيل في الإثبات.
ولابد هنا من الكلام في أمور:
الأمر الأول: أن نفي نسب الولد يعد من الرمي بشرط ألا يكون منه إقرار بالنسب ولو ضمنا، فلو نفي بسبب الولادة إذا لم يوجد منه ما يدل على رضاه به ونسبته إليه، ولو كان وهو جنين في بطن أمه، فإن النسب ينتفي، ويجب اللعان، وإلا حُدَّ حد القذف، وإذا امتنعت هي عن اللعان سترة بالنفي حُدَّت حد الزنى المقرر في القرآن.
والأمر الثاني: أنه في الآية اشترط رؤية الرجل للزنى، وإن اشتراطه قول من لا دليل عنده في هذا، بل الدليل قائم على نفي هذا الشرط، بدليل اللعان عند نفي نسب الولد، وبالدليل جواز اللعان من الأعمى، واشتراط علمه بالجس باليد، كلام غير جدير بالالتفات.(10/5150)
الأمر الثالث: أن الشهادات في اللعان يمين فلا يشترط فيه إلا صلاحية العبادة باليمين، بأن يكون بالغا عاقلا، أم أنها شهادة وليست يمينا مجردة، بل الشهادة جزء من أجزائها، فيشترط فيها ما يشترط في الشهادة من أن يكون بالغا عاقلا مسلما حرا.
بالأول أخذ مالك والشافعي وأحمد، ولذا لَا يشترط في اللعان أن يكون المتلاعنان مسلمين حرين، فلا يجوز اللعان بين الذميين، ولا العبيد، بل يجب التلاعن في الذميين، وغيرهم، وذلك القول يجعل الجماعة الإسلامية نزيهة عن قول الباطل، وعن سماعه من الذميين، والعبيد، وهذا القول كما ترى مبني على أن هذه الشهادات أيمان خالصة.
والقول الآخر، أنها شهادة فيها يمين، وقد قال أبو حنيفة، وقول عند الشافعي، فلا لعان عند هؤلاء بين الذميين ولا بين العبيد، ولا لعان إذا كان أحد الزوجين ذميا أو عبدا.
الأمر الرابع: أن الثقة دعامة العلاقة بين الزوجين، فإذا عرض لها ما يزعزعها انفصمت العلاقة الزوجية وأصبح الزواج حراما وبينهما اللعان ويفرق بينهما، وهي فرقة أبدية لَا يحل له أن يتزوجها، وتكون كحرمة المشركة والمشرك، وعلى هذا جمهور الفقهاء.
وقال أبو حنيفة: إنها تحرم عليه إلى أن يكذب نفسه، فإذا كذب نفسه حلت له، وحُدَّ حد القذف، فله أن يتزوجها من جديد وتقوم بينهما عشرة زوجية بعقد ومهر جديدين، وإن هذا الرأي أرفق بالناس، وفي هذا الموضوع كلام فارجع إليه في كتاب الفقه (1). وإن اللعان فضل من الله تعالى على عباده، وقبل أن نترك الكلام في طريقته نقول: إنه عبر عن اللعنة في جانب الرجال؛ لأنهم أقوى جلدا وإدراكا لمعنى الطرد، ولا يؤثر فيهم الغضب بمقدار ما يؤثر الطرد الحسي، لَا مجرد الغضب النفسي، وفي جانب النساء عبر بالغضب؛ لأنه يؤثر في نفوسهن، ومجرد الإعراض يؤثر في نفوسهن.
________
(1) كتاب " أصول الفقه " للإمام محمد أبو زهرة.(10/5151)
ِقال تعالى(10/5152)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
(وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
(لَوْلَا) حرف يقول النحويون إنه حرف امتناع لوجود، أي امتنع وقوع الجزاء لوجود الشرط والجزاء، لبيان أنه كبير عظيم لَا يكتنه كنهه، ولا تتصورون وأنتم تفعلون هذه الأفعال نتائجها، ولو كان القرآن يساير أهواءكم لكان الويل والثبور، وعظائم الأمور، فكنتم تتقاتلون على الأعراض، ولقطعتم الأرحام، ولضاعت مصالح الإنسان ولشاعت الفاحشة في الدين، فجواب الشرط محذوف لسعة عمومه، وكثرة آثامه إذا لم يتداركهم بفضله في أحكامه الرادعة، وأحكامه التي تجمع ولا تفرق، وفضل الله تعالى ظاهر في أحكامه في الزنى وفي القذف، وفي جمع شمل الأسرة في اللعان.
وقد فتح سبحانه وتعالى باب التوبة في قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) أي لولا فضل الله سبحانه وتعالى فيما شرع وقرر أنه يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن سيئاتهم ولحكمته فيها قرر وقدر وشرع - لكان الهول العظيم، وضياع الأمور.
ووصف الله سبحانه وتعالى نفسه بأنه تواب، أي كثير التوبة للمذنبين من عباده رحمة بهم، وتهذيبا لنفوسهم، وذلك لأن المذنب إذا أذنب وأحس بذنبه، ذهب عنه غروره وتضرع إلى ربه، والإحساس بالمعصية وطلب العفو عنها يقربه من الله تعالى ويدنيه منه، ولذا قال بعض حكماء الصوفية: معصية مُذلة خير من طاعة مُدِلَّة، ومعصية أورثت ذلا وانكسارًا خير من طاعة أورثت دِلا وافتخارا، والله عفو غفور.
* * *(10/5152)
الإفك حول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها
(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
* * *
كان هذا القصص الحق الخاص بالإفك على أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله تعالى عنهما، وقد روي أن اللعان نزل في فتنة هذا الإفك الذي حِيكَ حولها رضي الله عنها، ومهما تكن قيمة هذه الرواية فمن المؤكد أنه طبق على الذين رددوه، فقد قيل فيما روى أنه طبق على مسطح بن أثال، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش أخت زينب زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت لها منزلة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تناصى منزلة عائشة رضي الله عنها (1).
________
(1) راجع القصة في صحيح البخاري: الشهادات - تعديل النساء بعضهن بعضا (2467)، ومسلم: التوبة - في حديث الإفك وقبول توبة القاذف (4974).(10/5153)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
والإفك هو الكذب، كأن الكاذب صرف عن الحق إلى الباطل، لأن الإفك أصل معناه الصرف. كأن الأفاك يرى الحق واضحا بينا، فيعدل عنه إلى قول الباطل وينصرف إليه، وكذلك الأمر بالنسبة للإفك على عائشة، بين أيديهم أمارات الحق واضحة بينة فينصرفون عنها إلى الباطل الذي لَا ريب فيه.
والعصبة: الطائفة المجتمعة التي يشد بعضها بعضا، وكأنهم جماعة يتآمرون فيما بينهم على قول الباطل وترويجه وإشاعته، وقوله تعالى: (مِّنكُمْ)، إشارة إلى أنهم يعيشون بينكم، وأنهم يتغلغلون في أوساطكم، وحسبك أن مسطحا هذا له بالصديق قرابة، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - يعطيه من فضل ماله، كما تبين ذلك عند الكلام في معاني قوله تعالى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ. . .).
وقال تعالى: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) نفَى الله تعالى أن يكون شرا، ونهانا عن أن نظن أنه شر، وقرر مؤكدا أنه خير لكم، وهنا نسأل ما وجه الخيرية لكم، وقرر الله تعالى أنه خير لكم، أي أنه ليس خيرا في ذاته، ولا يمكن أن يكون خيرا في ذاته، ونهى عن أن يظن المؤمنون أنه شر لهم، فالشرية والخيرية بالنسبة لجماعة المؤمنين في عاقبة هذا الإثم ونتائجه، وإن نظرنا هذه النظرة، نجد أن المؤمنين أدركوا أولا: أن فيهم خُبْثًا يُحترس منه، ومعرفة الداء الذي يكون في الجسم لعلاجه خير من إخفائه أو الجهل به، وثانيا: لأن هذا الداء لحق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعالجه بدواء من الله، إذ ناله في الألم ما ينال البشر في هذه الحال، ولكنه صبر على الأذى، وعالج الأمر بالحكمة والروية، لَا بالغضب والتسرع، نعم إن الاتهام سبق إلى نفسه، ولكن لم يسبق بالعمل استجابة للغضب من غير تثبيت واستيقان.
وثالثا: أنه لَا يصح الإفراط في الغضب، حتى تنحل قوى النفس، ورابعا: أنه لا يصح أن تتخذ مجالس السمر للحديث في الأعراض، واتهام الأبرياء والبريئات الطاهرات من النساء، وخامسا: أنه لَا يصح أن يتلقى العلم في الأعراض عن(10/5154)
الأسماع، وتردد ما سمعت الآذان الأفواه، بل إن علم ذلك يكون بالمعاينة، وأن الإفشاء شر في ذاته والستر أولى.
(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
قسم الله تعالى الذين تحدثوا في هذا الإفك إلى قسمين - أولهما: من ردد القول ترديدا، ولم يكن هو مخترع القول بل أشاعه. والقسم الثاني: وهو منهم الذي اخترع القول ونشره؛ ولهذا عبر سبحانه وتعالى عنه بأنه (تَوَلَّى كِبْرَهُ) الكبر الإثم الكبير الذي أنشأه وأشاعه واقتدى به، ولا شك أن ذلك إثمه أكبر، ولذلك ذكر أن له عذابا عظيما، لَا يحد حده إلا أن يراه ويذوقه، فإن عليه وزره، ووزر من تبعه، والآخرون عليهم إثم أنهم نجسوا ألسنتهم بترداده، ولاكته ألسنتهم واستمرأوه في مجالسهم غير مقدرين مقام القول فيها - رضي الله عنها - ومقام زوجها - صلى الله عليه وسلم -، ولا متعرفين مصدره، بل صرفوا أنفسهم من الحق إلى الباطل.
وهنا إشارتان بيانيتان:
الأولى: في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ جَاءوا بِالإِفْكِ) وهذه إشارة إلى أنه لم يكن له أصل واقع، ولكن جاءوا مروجين له مرددين سامرين في مجالسهم، يتلهون به.
الثانية: (مِّنكمْ) إشارة إلى أنهم متغلغلون في أوساطكم يبثون فيها الإحراف الفكري والنفسي واللساني، يلهونكم عن جد الأعمال إلى لغو القول الآثم، وإشاعة الفساد والتقاطع بينكم، وتسهيل الفسق، لأن ترداد القول ونسبة الفعل الفاحش إلى زوج محمد - صلى الله عليه وسلم - يروج الفسق بين الفتيات اللاتي ليس لهن مكانة زوج محمد - صلى الله عليه وسلم - وابنة الصديق. وقد ذكرت أم المؤمنين عائشة فيما روي عنها أن الذي تولى كبر هذا الإثم وأشاعه هو رأس النفاق وكبير المنافقين، عبد الله بن أبي ابن سلول.
ولنقص طرفا من قصة الإفك الأثيم بيانا لموضوع النص الكريم:(10/5155)
ِكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يختارا من بين نسائه من يصحبه في غزواته، وفي غزوة بني المصطلق اختار أم المؤمنين عائشة، وبعد أن انتهت الغزوة بانتصار المؤمنين عاد الجيش، وقد كانت عائشة تركت مركبها لحاجة في الصحراء، ورحل القوم في هذه الأثناء، وحملوا هودجها إلى البعير يحسبونها فيه، وشدوه، وقد انطلق الركب به، فلما عادت من حاجتها، لم تجد أحدا فتلحفت بجلبابها، واضطجعت مسلِّمة أمرها إلى ربها الذي لَا ينام، فمر صفوان بن المعطل السلمي، وكان قد تخلف عن العسكر لبعض شأنه فرأى سواد عائشة وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ظعينة رسول الله، وقرب منها بعيره فقال اركبي فركبت، ولم يصلوا إلى الناس، وما بحثوا عنها، حتى أصبح الصباح، وعلموا تخلفها ثم حضورها على جمل مع الصالح الذي سار وراءه، وكان حصورا، لَا أرب له في النساء، وجدها رأس النفاق مقالا يقوله، فنشر الإثم رأس النفاق وقال مقالته، وقبلها من المهاجرين والأنصار من لا يمحصون الأقوال، ويتعرفون نتائجها وغاياتها، ويرجفون ويرمونه جزافا.
وأثر القول في نفس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه بشر، وقد مرضت فرأت من الرسول ما لم تعهده، وانتقلت إلى بيت أبيها لتمرضها أمها، وعرفت ما شاع من قالة السوء، فبكت، وانضاف إلى وجع جسمها وجع نفسها.
عندئذ أعلن الرسول بين المؤمنين ما في نفسه، واستشار صحابته في خاصة أمره، فبادر بعض كبار الصحابة بالبراءة، بما ألهمه به إيمانه، وعلى رأس هؤلاء عمر، ورأى علي بن أبي طالب قاضي الصحابة أن يترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأمر والنساء غيرها كثيرات، ويحقق، فيسأل جاريتها عن أحوالها، فسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - جاريتها بريرة، فقالت: والله ما أعلم إلا خيرا، وما كنت أعيب على عائشة إلا أني كنت أعجن عجيني، فآمرها أن تحفظه، فتنام عنه، فتأتي الشاة فتأكله، وإذا كانت الواقعة أنها كانت نائمة وقد عاد الذي ساق بعيرها، فقد ثبت أن عذرها كان من جنس ما اعتادت مع ملاحظة أنها كانت صبية لم تبلغ الخامسة عشر من عمرها.(10/5156)
اطمأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أنها فرية مفتراة، وهم بأن يعيدها إلى بيته الكريم، ولكنها أبت أن تعود إلا إذا برأها الله، وما كانت تطمع في أن ينزل قرآن يتلى ببراءتها، ولكن الله تعالى أكرم نبيه بقرآن يتلى ببراءتها، والقرآن الذي نزل ببراءتها قوله تعالى: (الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ. . .)، الآيات (1).
ولقد بين الله تعالى ما يجب على أهل الإيمان عند شيوع قالة السوء، فقال عز من قائل:
________
(1) المرجع السابق.(10/5157)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
(لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
(لَوْلَا) للتحضيض على ظن الخير من المؤمنين والمؤمنات بأنفسهم خيرا، فإذا تلقى المؤمن والمؤمنة خبرا احتمل الصدق والكذب، وفيه شر يسارع إلى رده، ويقول: هذا إفك مبين. أي بين واضح، وخصوصا إذا كان ذلك الخبر، يمس من عرف بالطهر والعفاف، ومن يكون من شأنهم الطهر والعفاف والأمانة والإخلاص؛ وذلك أن الناس في تلقي أخبار السوء قسمان:
أحدهما: يظن في المؤمن الخير، ويحمل كل أحواله على الصلاح، فلا يقبل الإفك عليه، ويكذبه، ويقول: هذا إفك مبين بين واضح، ويرى من الصلاح في حال المؤمنين دليلا على الكذب، ودافعا إلى التكذيب.
والقسم الثاني: وهو الخاضع للشيطان يحسبه نهزة فينتهزها لإشاعة السوء، والسمر به في المجالس، ويجعله ملهاته ويغتاب أخاه المؤمن، ويأكل لحمه، ويعبث بكرامته مستهينا متندرا عابثا، وهذا يكبر أخبار السوء فيشيعها وقد نماها الخيال الفاسد، والعبث العابث.
وفى الآية الكريمة إشارتان بيانيتان.(10/5157)
ِأولاهما: في قوله تعالى (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ) فالتعبير (بِأنفُسِهِمْ) يضير إلى الأخوة الإسلامية الرابطة التي تجعل إشاعة السوء عن بعضهم إشاعة عن جميعهم، وتوهين للرابطة التي تربطهم، وإشاعة السوء تنبعث من تفكك في بعض الجماعة وتنتهي إلى تفككها كلها، وتذهب بالذمار الخلقي فيها.
الثانية: ذكر (الْمُؤْمِنَاتُ) مع أن كل حكم أو أمر يعم المؤمنين والمؤمنات من غير نص على المؤمنات، ولكن نص على المؤمنات هنا؛ لأن النساء كثيرا ما يقعن في هذا النوع من الغيبة من غير احتراس ولا تحفظ، ألم تر إلى أن حمنة بنت جحش وقعت في إشاعة هذا الإفك تحسب أن في ذلك ما يرضي أختها أم المؤمنين زينب، وهذه كانت برة تقية، كانت تنفي عن عائشة ولا تقر كلام أختها، بل ترده، وبالتعبير بالوصف في المؤمنين والمؤمنات يشير - سبحانه - إلى أن الإيمان يقتضي ذلك، والله على كل شيء شهيد.
بعد هذا بين - سبحانه - طريق التثبت لأهل الدين والتقوى فقال تعالى:(10/5158)
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
(لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
(لَوْلَا) للحض كالسابقة، والحض حض على التثبت في القول، ولا يقبله المؤمن والمؤمنة، إلا أن يكون مثل الشمس وضوحا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لشاهد جاء يشهد: " على مثلها فاشهد " وأشار إلى الشمس في رائعة النهار (1).
وإن التثبت يكون بأربعة شهداء، فالحض على التثبت، وليس على جمع الشهود ليشهدوا، فإن ذلك لَا يخلو من إشاعة للفاحشة، وقد دل الحض على
أمرين:
أولهما: أنه لَا يصح التكلم إلا إذا جاءوا بأربعة شهداء يشهدون، فإنه في هذه الحال يحل التكلم؛ لأنه سيقام الحد ويشهد عليه طائفة من المؤمنين.
________
(1) رواه أبو سعيد النقاش في القضاة. كنز العمال (17782): ج 1/ 1310(10/5158)
الأمر الثاني: أنه لَا يصح المبادرة إلى الكلام، بل يُكفُّ، ويلزم الصمت إذا لم يكن هؤلاء الأربعة من الشهداء، وإلا حق عليه الحد للافتراء، أو كما يعبر الفقهاء حد الفرية، وهو حد القذف، ولذا قال تعالى:
(فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) الفاء الأولى فاء الإفصاح أو عاطفة، والفاء الثانية هي الواقعة في جواب الشرط، والإشارة إلى الذين يرمون من غير بينة، وهذه الإشارة تفيد أن هذه الحال سبب للحكم عليهم بالكذب الملازم الثابت فيهم الذي يمنع أن يقبل منهم قول بعد ذلك، وهم الذين يحدون حد القذف كما بينا، ولا تقبل لهم شهادة أبدا؛ لأن وصف الكذب ملازم لهم، ولا تقبل شهادة كاذب، ويعاقب عقوبة المفترين المبعدين، والتبعية، والأدبية، وهي الحكم عليه بالفسق.
والتعدية بـ " على " في قوله تعالى: (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) معناها إثبات الإفك إذ الضمير يعود عليه، وإثبات الإفك المراد موضوعه، وهو رمى المحصنة الكريمة بنت الكريم وزوج الكريم، وفي ذلك إشارة إلى أنه غير ممكن، فـ " لَوْلَا " تدل مع التحضيض على الاستبعاد، بل الاستحالة لمقام موضوع الافتراء.
وقد بين سبحانه عظم الإثم وضرره في الجماعة المسلمة، فقال عز من قائل:(10/5159)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
(وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
(وَلَوْلَا) كما يقول علماء اللغة هنا حرف امتناع لوجود، أي امتنع جوابها وهو أنه يمسهم عذاب عظيم لوجود فضل الله تعالى ورحمته، فأما فضله، فهو ما أنعم به عليهم من نعمة الإيمان التي تجعل نفوسهم متأدبة بآدابه آخذة بأهدابه، وأنهم إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فعادوا إلى الحق نادمين تائبين مطهرين أنفسهم وألسنتهم وقلوبهم، وألا يخوضوا من بعد ذلك في حديث، هذا فضل الله تعالى الذي كانوا فيه بنعمة الإيمان، وما كان إنما هو أمر عارض قد زال بهداية الله تعالى،(10/5159)
وأما رحمته فهي أنه سبحانه وتعالى لم يأخذهم بأمر عارض، بل غفر لهم، وأي رحمة أعظم من غفران لعمل كان منهم بجهالة، ثم تابوا من قريب، كما قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ. . .).
وجواب الشرط (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) و " مَسَّ " معناها أصاب جلودكم كما يمس الحديد المحمى الجسم الحي فيؤلمه. وفي كلمة (أَفَضْتُمْ فِيهِ) " أفاض " أصلها من فاض الإناء حتى سال، ومعنى (أَفَضْتُمْ) فيه مجاز بالاستعارة، إذ شبه حديثهم الذي خاضوا فيه غير محترسين ولا مفكرين، بالماء الذي يسيل، فلا يضبط، وكأن الحديث يسيل سيلا زائدا عن حده، وبغير غاية.
وقوله تعالى: (عَذَابٌ عَظِيمٌ) التنكير فيه للتعظيم، أي عذاب لَا تدركونه اليوم، وسترونه، ثم صور حالهم في عدم تفكيرهم فقال سبحانه:(10/5160)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
(إِذْ) ظرف متعلق بقوله تعالى: (لَمَسَّكُمْ)، لمسكم العذاب العظيم في القول (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) تتلقون هذا الإفك من الألسنة، وترددونه من غير علم ولا تثبت، واقتران المس بزمنه، ينبئ عن أن هذا الذي كان في الظرف، أو كان الظرف وعاء له، عن أنه هو السبب لولا فضل الله ورحمته. ومعنى (تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ)، أي وسائل التلقي والعلم لم تكن معاينة ولكن هي الألسنة، وتقولونه مرددين ما سمعتم بأفواهكم، ولم تؤمن به قلوبكم، ولم تعاينوه وتروه، بل انتقلت الكلمات من الألسنة ورددتها الأفواه من غير علم أو تثبت، فالألسنة قالته من غير علم، ورددته الأفواه من غير علم، واتخذوه سمرا، يرطبون فيه المجالس بالإثم من غير علم، ظنا منهم أنه هين لَا أثر له، ولا إثم فيه، وأن التفكه بهذا القول هو أمر هين، (وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ) وذكر اسم الله تعالى توهينا لزعمهم، وبيان عظم الإثم، وفيه توبيخ شديد لهم، فليس ما ارتكبوه هنة صغيرة بل هو جريمة كبيرة(10/5160)
تفتك ببناء الجماعة الإسلامية التي من شأنها أن تقوم على تقوى من الله تعالى ورضوان، فترديد الاتهام يسهل الإجرام، وليس ذلك شأن الجماعات الفاضلة، وهنا إشارتان بيانيتان:
أولاهما: التعبير (بِأَلْسِنَتِكُمْ) الخطاب للجميع مع أنه لم يردد هذا إلا عدد قد أقيم عليهم حد القذف، وحدوا، ولكن خوطب الجميع للإشارة إلى أن واجب الفضلاء إذا سمعوا لغو القول الجارح أن يوقفوا قائليه ويمنعوهم، فإذا سمعوا ولم يتكلموا ولم يشاركوا فكأنهم جميعا تكلموا.
الثانية: أن قوله تعالى: (وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهكُم) تفيد أنهم يتكلمون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم كقوله تعالى: (. . . يَقُولُونَ بَألْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ).
بل هي ألسنة تردد قولا لَا علم لهم به، ومآله على جماعتهم وخيم.
وقد بين سبحانه وتعالى ما ينبغي للمؤمن عند تلقيه خبر السوء، فقال:(10/5161)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
(وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
الواو واصلة الجملتين، وهو امتداد للتوبيخ للذين خاضوا في هذا الإثم، و (لولا) للتحضيض لاتباع ما ينبغي عند سماع قول السوء في أخيه المؤمن، وخصوصا إذا كان من العليين المكرمين عند الله والناس أجمعين: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ) وهذا حض على أن يقولوا هذا القول مؤمنين به (مَّا يَكُونُ لَنَا)، أي ليس لنا، وليس بكائن سائغ لنا (أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا)، وهذا شأن الإنسان المؤمن الكامل، لَا يسمح لنفسه أن يخوض في حديث لا يعلمه، وخصوصا إذا كان يتكلم في الأعراض، عرض أي امرئٍ كان، فكيف إذا كان ذلك في عرض الصديقة بنت الصديق، وزوج خير الخلق أجمعين، ولها مكانة من محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي الآية نفي للكينونة (مَّا يَكُونُ)، وهي أبلغ نفي لمثل هذا القول، وأبلغ من النفي المؤكد، وأنه غير سائغ في ذاته لأمرين:
أولهما: تقديس الله تعالى، لتأكيد النفي عن زوج نبيه، ومن لها مكان الاختصاص بمحبة فوق محبة غيرها من أزواجه، وهذا في معنى التعجب من أن(10/5161)
يكون مثل هذا الفعل وهذا القول مرددا بين المؤمنين، ولم يوقفوه حتى تفاقم الأمر، وآذى النبي، إذ وصل إلى سمعه الكريم، وأن التنزيه لله سبحانه في هذا المقام إشعار بأنه وحده المنزه، ويقال ذلك في كل موضع يتفاقم فيه الإثم.
(هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) الإشارة إلى الإفك، والبهتان: الكذب الذي تدهش له العقول وتتحير لفظاعته وغرابته، وبعده عن كل معقول، وهذا هو الكذب على زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
هذا ما ينبغي للمؤمن إذا نقل إليه خبر السوء الذي لَا يعقل ولا يقبل، فيجب عليه أمران. أولهما: ألا يردده لأنه لَا يليق بالكامل أن يجعله موضع أحاديثه، لأنه منكر لَا يردد، وفحش لَا ينطق. الثاني: أن يسارع إلى التكذيب إذا كانت عنده أدلة التكذيب من مقام المفترى عليه بين قومه، ومقام من ينتسب إليه، وبذلك يقف الكذب، ولا يسير في وسط الجماعات، والله بعباده رءوف رحيم.
* * *
عظة الله في هذا
قال تعالى:
(يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا(10/5162)
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
* * *(10/5163)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)
الوعظ زجر مقترن بتخويف من العذاب أو سوء العقاب والمآل في الجماعة الإسلامية - وقال الخليل بن أحمد: هو التذكير بالخير فيميل له القلب، والتعبير بالمضارع لبيان أن ما مضى من قول فيه عظة، والله سبحانه وتعالى مستمر ومجدد لهم العظة آنًا بعد آنٍ، فهو سبحانه وتعالى مديم تجديد الإرشاد والتنبيه إلى ما فيه طهارة جماعتكم، والبعد عن ذمها، (أَن تَعُودوا) المصدر المنسبك من " أن " وما بعده، متعلق بمقدر محذوف مناسب، وهو كراهة أن تعودوا، أي كراهة عودتكم لمثلها أبدا، والضمير يعود إلى الشأن وهو الحال التي كانوا عليها، ووقعوا فيها، والتعبير عنها ب) (لِمِثْلِهِ)، مبالغة لأن لَا يقعوا فيها، كما تقول لكريم: مثلك لا يبخل: أي أنت لَا تبخل؛ لأن فيه سجايا لَا تسمح له أن يبخل كما لَا تسمح لمثله، فمعنى لا (تَعُودُوا لِمِثْلِهِ) لمثلها، أي لَا تعودوا إليها. وأشباهها، ثم علق القول على الإيمان فقال: (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) وهذا تنبيه إلى أمرين أولهما: إثبات أن الإيمان يتجافى عن رمي المحصنات المؤمنات، وتلقيه وترديده من غير علم ولا تثبت، ويقين، فإن ذلك من أشد أنواع الغيبة وأفحشها، ويؤدي إلى فساد الجماعة بشيوع الترامي بالزنى فيه. والأمر الثاني: هو الحض على الإيمان والتمسك به، وبأخلاق المؤمنين، والله غفور رحيم.
ويقول سبحانه:(10/5163)
وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
(وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
الواو عاطفة، وقد عطفت قوله تعالى: (وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكمُ الآيَاتِ) الآيات ظاهر القول أنها هي الآيات القرآنية الدالة على المواعظ الشرعية، والرحمة بالجماعة الإسلامية، فإن القرآن موعظة ورحمة وهدى، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ(10/5163)
جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)،
ويكون المعنى على ذلك ويبين لكم الآيات، أي ينزل عليكم سبحانه وتعالى آيات مبينة الأحكام الشرعية، والمواعظ الموجهة إلى الخير، والداعية إلى الرشاد، والهادية، وتضمن البيان معنى الإنزال؛ لأن الإنزال من الله تعالى هو بيان الحقائق الإسلامية.
وإن هذه الآيات هي الملائمة الرائدة للجماعة الإسلامية المرشدة لها، التي تتجه بها نحو سيادة الفضيلة، والله سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ما فيه الخير والرشاد، ولذا عقب الآية الكريمة بقوله عز من قائل (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي أنه - سبحانه وتعالى - ينزل عليكم أنه عالم بكل شيء يعلم ما يسر وما يعلن، وأنه حكيم يعالج آفات الجماعات بحكمته وتدبيره، ويشرع ما هو جدير بعلمه وحكمته، وما يصلح مالهم وعامة أمورهم، ويجعلهم جماعة فاضلة، وأنها خير أمة أخرجت للناس.
وبيَّن سبحانه وتعالى أن الذين يروجون الفساد ويتهمون الأبرار يعملون على إشاعة الفاحشة ونشرها، فقال تعالى:(10/5164)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
بين سبحانه في هذه الآية ما يترتب على رمي البرآء، واتهام الأتقياء وخصوصا من لهم مكانة في الإيمان والفضل، وقد بين ما يترتب عليه إشاعة الفحشاء ونشرها بين الذين آمنوا؛ وذلك لأنها إذا شاعت في الأتقياء ذوي المكانة سهل ارتكاب الفاحشة، فإذا تسامع من يكون في قلبه نزغة أن فلانة من أزواج الكبراء، قد ارتكبتها فلا تجد حرجا أو لائمة أن ترتكبها، فكان الذين يلوكون بألسنتهم اتهام أزواج الكبراء قاصدين إليها غير متأثمين من ترويجها يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا؛ لأنهم إذا علموا النتائج المترتبة على قولهم، واستمروا في غيهم، فهم يحبون هذه النتيجة ويسعون بعملهم إليها، وقد ذكر سبحانه ذلك ليعلم العابثون إن استمروا أنهم يحبون هذا الفساد، وقد ذكر سبحانه جزاءهم، فقال:(10/5164)
(لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، أما عذاب الدنيا فهو العقاب الصارم وهو الحد، والحد كما قلنا يتضمن ثلاثة أنواع لَا يكفَّر إلا آخرها، وهي الجلد ثمانين جلدة، والثاني: ألا تقبل لهم شهادة أبدا، والثالث: الحكم عليهم بأنهم فاسقون، وهذا ما تكفره التوبة.
وأما عذاب الآخرة فإن الله تعالى اختصه بعلمه، حتى نراه يوم القيامة عيانا، ولا نعلم منه إلا ما أراد الله بيانه في القرآن الكريم من عذاب الكافرين، ثم قال تعالى مؤكدا العواقب الوخيمة من رمي البريئات والبرآء (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمونَ) الله وحده يعلم صحة الاتهام إن كان صحيحا، ومواضع التهمة، ويعلم أثر ذلك في الجماعات من إشاعة الفساد، وانحلال الرابطة الاجتماعية، وإشاعة الأقوال الباطلة (وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) أسرار البيوت ودخائلها، فإن ذلك في كِن مستور، ومن المصلحة ستره، روى أبو الدرداء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أيما رجل حالت شفاعته دون حد من حدود الله تعالى لم يزل في سخط الله تعالى حتى ينزع، وأيما رجل شد غضبا على مسلم في خصومة لَا علم له بها فقد عاند الله حقه وحرص على سخطه، وعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وأيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله تعالى أن يدنيه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاذ ما قال " (1)، وإن هذا الحديث كما روي، جامع لآفات اللسان التي ترمي في نار جهنم. ثم يبين سبحانه أن هذه الآفات تكب الناس على وجوههم في جهنم لولا فضل الله. وأشنعها حديث الإفك. فقال تعالى:
________
(1) رواه الطبراني عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وراجع الترغيب والترهيب للمنذرى (3399): 3/ 137.(10/5165)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
(وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)
(لَوْلَا) هنا حرف امتناع لوجود، والجواب الممتنع لوجود فعل محذوف، لتذهب فيه النفس والفكر كل مذهب، وذلك ينبئ عن أنه هول أي هول، وشديد أي شدة يتناسب مع عِظم الجرم، وذلك العذاب ممتنع لوجود فضل الله تعالى المنعم(10/5165)
علينا ببيان شريعته وعفوه عنا، وقد نبهنا إلى مغبة هذا لنرتدع، ونستغفر، ونقلع عن أهواء النفس، ووسوسة الشيطان، ورحمته بنا من أن نؤخذ بجرمنا فور ارتكابه، وإن كنا نستحقه، وأن الله تعالى من صفته أنه رءوف رحيم، الرأفة انفعال النفس بالرفق والعطف على من يخشى عليه، وهذا بالنسبة للإنسان، أما بالنسبة لله تعالى فهي صفة تليق بذاته الكريمة، وهي تقابل ما عند العبيد، ولكنها تتفق مع صفات الكمال التي يتصف بها الله تعالى، والرحمة لطف الله تعالى في الأحكام ووضعها في مواضعها سواء أكانت خفيفة أم كانت غليظة في عقاب، فالعقوبة - مهما كانت شديدة - من رحمة الله تعالى بعباده، وإن رمي الأبرياء من طاعة الشيطان، ولذا قال تعالى:(10/5166)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ... (21)
ذكر سبحانه العواقب الوخيمة التي تترتب على ترداد الإفك على ألسنة الناس وإنه يترتب عليه فساد أمر المؤمنين وتشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وفي هذه الآية يشير إلى أنه من وسوسة الشيطان، ومن اتباع مسالكه، ونهى المؤمنين عن ذلك صيانة لأنفسهم، ولعقولهم، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا لَا تَتَّبِعوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) تقرأ بضم الخاء وفتحها، وقراءة الجمهور بضمها، وخطوات الشيطان جمع خطوة، وهي ما يكون بين الرِجْلين عند السير، وذلك يتضمن النهي عن السير في مسالك الشيطان، وعبَّر عن طريق الشيطان بخطواته، على أنه تعبير مجازي شبه من يخضع لهواه بمن يتبع الشيطان في خطواته، فيخطو مثله غير متجنب لها، ولا لطريقه.
ثم بين سبحانه سير الشيطان، وأن من يتبعه يتبع الفحشاء والمنكر، فقال عز من قائل: (وَمَن يَتَّبِعْ خطوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ) والفحشاء: الأمر الزائد في القبح الذي يتجاوز كل حد، والمنكر: الأمر الذي تنكره العقول، والفطرة المستقيمة، ولا يقبله الناس، ولا يرضاه ذوو الكرامات، والذين يتطهرون في أقوالهم وأفعالهم.(10/5166)
وقوله تعالى (فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ)، ليست جواب الشرط، بل هو يومئ إليه، لأنه علة، ويكون مجرى البيان: ومن يتبع خطوات الشيطان فهو منساق إلى الفساد، لأنه يأمر بالفحشاء والمنكر، وعبر سبحانه عن وسوسة الشيطان وإغوائه بالأمر لأنه يستولي على من اتبعه، وكأنه سلطان مسيطر يأمره وينهاه، ولا سلطان على نفس الضال غيره؛ لأنه رضي مسلك الشيطان طريقا، وهو ينتهي لَا محالة إلى الضلال الذي لَا هداية معه قط.
وإن الله سبحانه بفضله ورحمته لَا يترك الناس تحت إغواء الشيطان، ودنسه، ولذا قال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
الزكاة تطلق بمعنى التنمية، وتطلق بمعنى الطهارة، وهنا بمعنى تزكية العقول في النفس، وامتلائها طهرا، وعفافا وإيمانا، أي أنه لولا فضل الله تعالى بالموعظة والهداية وتربية النفوس بالتقوى ورحمته بهدايتكم وقبولكم للحق وتجنبكم مخاوف الشيطان ما طهر منكم من أحد أبدا، وقد أكد سبحانه جواب الشرط وعمومه أولا بـ " مِنْ " الدالة على استغراق النفي للآحاد والجماعة، وأكد النفي أيضا بدخول (مِن) على (أحد)، كما أكده بذكر (أبدا)؛ وذلك لأن الشيطان يأتي النفوس من قبل أهوائها وشهواتها، وشهوات النفس حلوة، ولكنها وبيئة، ولكن الله تعالى لَا يترك عباده جميعا تحت غواية الشيطان الرجيم، فهو يجتبي من عباده من يزكيه ويطهره في قلبه ولسانه ونفسه، ولا يشاء الله تعالى لعبده تلك الطهارة إلا إذا سلك سبيلها، واختار نجدها، فيأخذه إلى ما اختار.
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله تعالت كلماته: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، أي واسع الرحمة والفضل، عليم بمن يستحقها، فيتوجه إليه سبحانه وتعالى بأن يسلك به طريق الهداية والطهارة.
* * *(10/5167)
المعصية لَا تسوغ قطع الرحم، والبراءة من الإفك قال تعالى:
(وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
* * *(10/5168)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
(وَلا يَأتَلِ) معناها لَا يحلف، من الإلية بمعنى الحلف، وائتلى افتعل من الإلية، ويروى في ذلك أن مسطح بن أثاثة كان ابن خالة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وكان فقيرا مسكينا، ومهاجرا في سبيل الله. وحضر بدرا ولكن زلق لسانه فخاض في حديث الإفك مع قرابته من أبي بكر، الذي كان ينفق عليه لفقره وقرابته، وهجرته، وحضوره بدرا، فلما فعل فعلته، ولاك بلسانه سمعة الصديقة(10/5168)
بنت الصديق مُنِعَ النفقة، وقال: لَا أنفعه بنافعة قط، فنهاه الله تعالى عن ذلك (1) وكان نهيا عاما لكل من يكون في مثل حال الصديق ومثل حال مسطح، وإن السبب يكون خاصا، ولكن الحكم يكون عاما، وهو نهي عن الحلف، وعن المحلوف به، ومؤداه أنه يجب عليه أن يرد نافعته إليه، ويستمر في النفقة ويحنث في يمينه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليحنث وليكفر " (2)، ولا تمح أيمان مانعة من الخير كما قال تعالى: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ. . .)، أي لَا تجعلوها حائلة بينكم وبين أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس.
(الْفَضْلِ) هنا هو الخلق الكريم الذي يفيض بالخير على الناس، فالمعنى ولا يأتل أصحاب الفضل الذين لَا يشحون بخير على من دونهم، ومن مثل أبي بكر في الفضل بعد النبيين، الذي كان إذا رأى من يفتن في دينه اشتراه من وليه وأعتقه، و (السَّعَةِ)، أي الخير الكثير في المال، وبذلك يكون أولئك الفضلاء يجمعون بين الخلق الكامل والمال الثري، يفيض بخلقه، ويعطي من ماله، يطالب هؤلاء بأن يغفروا زلات من يعطونهم، كما يغفر الله لهم زلاتهم وخطيئاتهم إن كانت، فيقول سبحانه (أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) الاستفهام بمعنى النفي والتنبيه على وجوب الغفران، أي أنه كما أنكم تحبون أن يغفر الله لكم فاصفحوا واعفوا، فإن الجزاء من جنس العمل والوجدان والإحساس، والفرق بين العفو، والصفح، هو أن العفو هو عدم جزاء السيئة بمثلها، ودفع السيئة بالحسنة، والصفح هو محو آثار الإساءة من النفس، وقد أمر الله تعالى رسوله بالصفح الجميل، فقال عز من قائل: (. . . فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، وهو الصفح مع تجافي ما يذكر بالإساءة.
________
(1) راجع القصة في الموضع المشار إليه آنفا من البخاري ومسلم: وكذلك الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة النور (3104).
(2) سبق تخريجه.(10/5169)
وقد ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله: (وَاللَّه غَفورٌ رحِيمٌ)، أي كثير المغفرة تعم رحمته بكثرتها، وذكر هذين الوصفين في هذا المقام دعوة للناس بأن يتخلقوا بصفات الله، وإن كانت لَا تليق إلا بذاته وجلاله.
وقد يستنبط الفقهاء من هذا خطأ من يقول إن الزكاة لَا تصرف لعاص، لأن ذلك يتنافى مع معنى هذه الآية ومغزاها الكريم، ولأن منع العاصي ربما يؤدي إلى إسرافه في المعصية، والرفق به قد يقربه ويهديه.
وبعد هذا الأدب الكريم الذي يعم ولا يخص الصديق وابنته - بين بعد ذلك عقاب الذين يرمون المحصنات، فقال عز من قائل:(10/5170)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
هذه الآية عامة في كل من يرمى محصنة، وهي التي عرفت بالتقوى والبعد عن الخنا، وليس موضوعه مَنْ رمى عائشة - رضي الله عنها - بل من يكون لسانه غير منضبط، يرسل القول إرسالا، بين المؤمنين في المحصنات، فهي تعم كل من ليس عفيف اللسان يرمى النساء بالفحش، لأدنى شبهة، وإن الكامل يعف لسانه عن النطق بالهجر.
والمحصنة هي التي لم ترتكب الخنا، وهي عفيفة عرفت بالعفة، ولم تعرف بالفجر، (الْغَافِلاتِ) الغافلة هي الطيبة الطاهرة التي ليس عندها خبرة، ولا معرفة بأحوال الناس، وشأن المرأة التقية أن تكون في غفلة عما يلهو به الناس، لَا تعرف الرذيلة ولا ترتكبها، فيها غرارة، وسذاجة، والمؤمن كما في الأثر: غر كريم، والمنافق خب لئيم (1)، وليس المراد أنها بلهاء، بل تفسر الغافلة بأنها الساذجة المستقيمة النفس التي تعيش بالفطرة ولا تجانفها. وقد قال الزمخشري في تفسير معنى الغافلات: الغافلات السليمات الصدور التقيات القلوب اللاتي ليس فيهن
________
(1) سبق تخريجه.(10/5170)
دهاء، ولا مكر، لأنهن لَا يعرفن الأمور ولم يرزن الأحوال فلا يفطنَّ لما تفطن له المجربات العارفات.
وإن الغافلات أيضا لَا ينتبهن لمقالات الآثمين، ولا يعملن على ردها، وسوق الفاسدين إلى القضاء ليقيم عليهن حد القذف، وقذف هؤلاء أعظم جرما، وأدل على اللجاجة في الأذى والاستهتار في القول من غير تأثم ولا تحرج، (الْمُؤْمِنَاتِ)، أي اللاتي يجملهن الإيمان، ويزيدهن عفة فوق عفتهن بالفطرة السليمة النقية الطاهرة، وقد ذكر سبحانه عقاب خسة هؤلاء الذين يرمون المحصنات الغافلات فقال: (لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) أي طردوا ونبذوا في الدنيا، فليس لهم فيها ذكر طيب، ولا كرامة لهم، ولا احترام لخساسة نفوسهم، ولعنوا في الآخرة فهم مبعدون عن رضا الله، وعن أن ينظر إليهم، ولا يكلمهم، لأنهم قد دنسوا ألسنتهم بإشاعة هذا الهجر من القول، (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) وهو دخولهم في الجحيم.(10/5171)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
(يَوْمَ) متعلق بقوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، أي أن ذلك العذاب العظيم يكون في يوم لَا يخفى فيه آثم، ويكون كل شيء شاهدا على ما أجرموا، وقد صور الله تعالى ذلك بأن ألسنتهم تشهد عليهم بما اخترصوا فيه، وأرجلهم تشهد بما سعوا فيه بالباطل، وأفسدوا به الناس، وأيديهم تشهد بما بطشوا، وما فعلوا من آثام، وشهادتهم منصبة على ما كانوا يعملون.
هذا كله متعلق بحادث الإفك، ذكر في بعض الآيات ما هو موضوع الإفك حول أم المؤمنين عائشة، وبعضه عام ذكر لمناسبة الحديث عن هذا الإفك الأثيم، ولقد قال الزمخشري رضي الله عنه في هذا المقام ما نصه:
" لو فلَّيت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله تعالى عليها، ولا أنزل آية من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام ما ركب من ذلك واستفظاع ما أقدم عليه ما أنزل فيه عن طرق مختلفة وأساليب مفتنة،(10/5171)
كل واحد منها كافٍ في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله " (1).
________
(1) راجع الكشاف للزمخشري: ج 3/ 57.(10/5172)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
(يَوْمَ) بدل أو عطف بيان من قوله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم) والآية السابقة كانت مشتملة على الإثبات يوم القيامة وأنه كان من جوارحهم التي تشهد عليهم، وهي شهادة صادقة، وهذه الآية تبين الحكم، وهو العقاب الشديد، والدين هنا هو الجزاء الصارم الشديد، فـ (الدِّين) تجيء بمعنى الجزاء والحساب، يوفيهم جزاءهم الحق الذي استحقوه بأقوالهم الآثمة، وعندئذ في هذا يعلمون الله، وصدق وعيده، فيعلمون أنه سبحانه هو وحده الحق المبين، ويعلمون أن ما أشركوا به كان باطلا، ولا حق إلا الله، ولا يعبد بحق سواه، تبارك الله وتعالى أحسن الخالقين.
بعد ذلك بين - سبحانه - براءة عائشة من الإفك، فقال عز من قائل:(10/5172)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
(الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
وهذا برهان منطقي مستمد من واقع الحياة، وما يختاره الله تعالى للناس، وهو التجانس بين الأزواج في الأخلاق والأعمال والأقوال.
الخبيثات جمع خبيثة، وهل المراد وصف النساء أم وصف الأقوال؛ قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وجمهور مفسري السلف: ويكون المعنى أن خبيث الأقوال، إنما ينطبق على خبيث الرجال وقد حصرت فيهم، وكذلك الخبيثون انحصروا في خبيث الأقوال لَا يعدونها، (وَالطَّيِّبَات)، أي الأقوال الطيبة تنحصر(10/5172)
في الطيبين من الرجال، وهم منحصرون فيها لَا يتجاوزونها إلى خبيث الأقوال، وقد عد هذا احتمالا في الآية الزمخشري، والاحتمال الثاني الذي ذكره أن المراد بالخبيثات النساء، وكذلك الطيبات، وإلى هذا نميل، فليس موضوع الكلام خبائث الأقوال، وطيباتها، إنما موضوعها البريئات من النساء والبرآء من الرجال الذين يرمون بخبث القول، فهي أولى بأن تفسر بموضوعها.
والخبيث هو من قام به الخبث، وهو الرجس الحسي، وقد شبه الرجس المعنوي، وهو فساد النفوس وارتكابها موبق الأفعال من زنى وشرب خمر وسرقة، واختلاس واغتصاب بالخبث الحسي، كما في قوله تعالى: (. . . إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا. . .). وقوله تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ) هو من قبيل القصر؛ لأن فيه تعريفا للطرفين، ومعنى ذلك أن الخبيثات لَا يكن إلا للخبيثين من الرجال، أي لَا يمكن أن يكن أزواجا إلا للخبيث من الرجال، إذا لَا يقدم عليهن إلا مثلهن، وكذلك كان القصر في الجملة الثانية، والخبيثون للخبيثات، أي انحصر زواج الخبيثين في الخبيثات من النساء، أي لَا ترضى بواحد منهم زوجا لها تجناز معه مرحلة الحياة إلا الخبيثات من النساء، فلا ترضى شريفة طيبة برجل خبيث النفس والقول والعمل.
وكذلك الطيبات للطيبين هو أيضا فيه قصر بتعريف الطرفين، أي أن الطيبات من النساء لَا يقبلن إلا زواج الطيببن؛ لأن الطيبة الكريمة لَا ترضى أن تكون فراشا إلا للطيب الكريم، ولا يرضى ذووها إلا بكريم طيب ذي خلق ودين، والطيبون ذوو الأخلاق الذين لَا يختارون إلا كريمة ذات خلق ودين، والشطر الأول كقوله تعالى: (الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَان أَوْ مُشْرِكٌ. . .).
(أوْلَئِكَ مبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كرِيمٌ) والإشارة هنا إلى الطيبين والطيبات؛ لأنهم الأقرب في الذكر ولأنهم الذين ياثم الخبثاء بالقول القاذف فيهم، والتبرئة لَا تكون إلا لمن يرمى بالقول الخبيث.(10/5173)
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)، أما المغفرة فهي أن الله تعالى يغفر لهم من اللمم، وبعض السيئات بسبب القذف الآثم لهم فإنه ينتقص من سيئات المظلوم بمقدار اعتداء الظالمين، والرزق الكريم هو الحسنات في الدنيا، وجزاؤها في الآخرة، وهذا كقوله تعالى: (. . . وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزقًا كَرِيمًا).
والآية الكريمة عامة تعم نساء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونساء المؤمنين، وهي مع عمومها تدل على براءة أم المؤمنين عائشة من ناحية التصريحِ بكل طيبة ترمى، فقد صرح سبحانه بالبراءة، في قوله تعالى: (أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) وبرأها سبحانه بتضمين القول الدال على انحصار الخبيث من القول في الخبثاء والخبيثات، وانحصار الطيب من النساء والرجال في الطيب من الأخلاق والأقوال. . وإذا كان زوج كل طيب طيبة فزوج أطيب الرجال في الإنسانية أطيب النساء، والله واسع عليم.
* * *
أدب البيوت وصيانتها
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
* * *(10/5174)
كان الكلام السابق في رمي الأبرياء وحد القذف، واللعان، وحديث الإفك، وما يستوجبه رمي المحصنين والمحصنات إذا كان صادقا من شهادة أربعة من الشهداء، وقد يدفع الفضول بعضهم إلى أن يفشي سر البيوت لتأكيد مظنة الزنى، فجاء النص الكريم باحترام حرمة البيوت، دفعا لهذه، ومنعا لغشيان البيوت وانتهاك حرمتها وصيانة الأسر، فقال عز من قائل:(10/5175)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27).
النداء للذين آمنوا، وفي ذلك إشارة إلى ما يطلبه سبحانه من خواص أهل الإيمان، وهو من الأدب الذي يناسب إيمانكم وهو عدم التهجم على الأسر، وتكشف أستارها، وتحاشى إزعاجها، و (تستأنسوا) أي تطلبوا الأنس بأهلها وتزيلوا الوحشة التي تحدثها المفاجأة، والسين والتاء للطلب، وقالوا: إن معنى (حتَّى تَسْتَأنِسُوا)، حتى تستأذنوا، وقيل إن ثمة قراء قرءوا حتى تستأذنوا (1)، ونقول: الاستئناس أدق في التعريف وأدل على الاستعلام، لأن الاستئذان الإذن المجرد، وتتحقق الإجابة بالإذن، أما الاستئناس فطلب الأنس وإزالة الوحشة، وذلك لا يتحقق بمجرد الإذن بل لابد لتحققه من إيجاد الألفة، وهو يتضمن في تحقيق طلب الإذن، والاستجابة بالإذن فعلا.
وإن هذا يتضمن في معناه ومغزاه النهي عن التجسس والتحسس، وظن السوء، وأنه يجب أن يظن خيرا.
وإنه من تمام الاستئناس السلام، ولذا قال تعالى: (وَتسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يدخل بيتا سلَّم ثلاث مرات (2)، ولا يكتفي بسلام واحد إعلاما لمن يدخل عليهم، واستئناسًا لهم، وإزالة لوحشة المفاجأة، والبيوت: الظاهر أنها ليس الدور، إنما هي محل البيات حيث تكون العورات مظنة أن تكون مكشوفة
________
(1) قراءة حتى (تستأذنوا)، ليست من القراءات المتواترة.
(2) البخاري: الاستئذان - التسليم والاستئذان ثلاثا (5775)، والترمذي: الاستئذان والآداب (2647). عن أنس رضي الله عنه.(10/5175)
غير مستورة، فإذا كانت الدار ذات بيوت في كل بيت منها سكن كان الاستئناس والسلام واجبين، وقد ذكر في أدب السلف الصالح أنه إذا وجد البيت بابه مفتوحًا، يستأذن وهو واقف بجانب منه.
وننبه هنا إلى أمرين:
أولهما: أن السلف الصالح كانوا يذكرون أسماءهم عند الاستئذان والاستئناس، فعمر رضي الله تعالى عنه استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر، وكذلك أبو موسى الأشعري، ويكره أن يقول المستأذن: (أنا، من غير ذكر اسمه) (1).
ثانيهما: أنه يستأذن على محارمه وغيرهم، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل من رجل: أيستأذن على أمه؟ فقال: نعم، أترضى أن تراها عارية (2).
وفى الحق: إن الاستئناس والتسليم لثلاثة أسباب. أولها: أن يكون صاحب البيت ليس على حال يصح للقاء واستقبال الناس. وثانيها: احترام الملكية، سواء أكانت ملكية عينية بأن يكون البيت ملكه، أو ملكية منفعة إذا كان مؤجرا، وثالثها: إزالة وحشة المفاجأة.
وقد ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله عز من قائل: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) الإشارة إلى هذه الآداب الكريمة، والخطاب لمن وجه إليهم الخطاب في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ)، وكان الخطاب بلفظ الجمع؛ لأن المخاطبين جمع، وتكون " ذلك " بالخطاب المفرد، إذا كان المخاطب محمدا وحده، وإنه بتقصي ذلك في القرآن تثبت هذه التفرقة في الخطاب. وقد خاطب بالإشارة بأمرين:
أولهما: أنه (خَيْرٌ لكُمْ)، لكي تصان الأعراض، وتستر العورات، ولا يكون نطاق اتهام، ونفور بالاستيحاش، وحيث كشفت الأستار كانت الفتن وكان ظن السوء، فتسود القطيعة، والتفاحش، ورمي الأبرياء.
________
(1) عن جَابِر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي، فَدَقَقْتُ البَابَ، فَقَالَ: «مَنْ ذَا» فَقُلْتُ: أَنَا، فَقَالَ: «أَنَا أَنَا» كَأَنَّهُ كَرِهَهَا. رواه البخاري: الاستئذان - إذا قال: من ذا؟ قال: أنا (5781)، ومسلم: الآداب: كراهة قول المستأذن أنا، إذا قيل له: من هذا.
(2) رواه مالك في الموطأ: الجامع - الاستئذان (1519) عن عطاء بن يسار رضي الله عنه.(10/5176)
ثانيهما: رجاء التذكر وتعرف المصلحة وتحري الاحتشام، حتى من الآباء والأمهات.
وقد ذكر سبحانه وتعالى:(10/5177)
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28)
الآيتان متصلتان، وهذه الآية تفريع على الآية السابقة، فالسابقة فرض فيها الإذن بعد الاستئناس والسلام، وإن كان فيها أناس استئذنوا، واستئنسوا، وسلموا عليهم، وهذه الآية مفروضة في جزء منها في حال إذا لم يجدوا أحدا، والجزء الثاني مفروض فيه إذا لم يكن إذن، بل كان الأمر بالمنع والرجوع.
فأما الجزء الأول فقد قال تعالى: (فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) فاصبروا حتى يوجد أو يحضر من يأذن لكم من أهل البيت، وقد يقال: إنه لَا أحد يخشى الاطلاع على المستور من عوراته، وقد أجاب الزمخشري على ذلك الاعتراض بقوله: " ذلك أن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لَا يحل النظر إليه فقط، إنما شرع لئلا يقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادة عن غيرهم، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها، ولأنه تصرف في ملك غيرك فلابد أن يكون برضاه، وإلا أشبه الغصب والتغلب " (1).
الفرض الأخير هو حال الرجوع، بين سبحانه حال الإذن، وحال خلو البيت وبقيت حال الرد، وطلب الرجوع وعدم الدخول، وهذا كما ترى متشعب عن الاستئناس، فقال تعالى: (وَإِن قِيلَ لَكُئم ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكمْ) والفاء واقعة في جواب الشرط، و " أزكى " معناها أطهر وأكرم؛ لأنها لَا تصح اللجاجة، فإن ذلك يكون خسة بكم، ولا يليق بكرامة الكريم.
ويقول الزمخشري عند قوله تعالى: (وَإِن قِيلَ لَكمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) ألا تلحوا في إطلاق الإذن ولا تلحوا في تسهيل الحجاب ولا تقفوا على الأبواب منتظرين؛
________
(1) الكشاف للزمخشري: 3/ 59. والدامر في قوله: لئلا يطلع الدامر، أي الهالك الذي لَا خير فيه. لسان العرب (دمر).(10/5177)
لأن هذا ما يجلب الكراهة ويقدح في قلوب الناس وخصوصا إذا كانوا ذوي مروءة، ومرتاضين بالآداب الحسنة، وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى الكراهة وجب الانتهاء عن كل ما يؤدي إلى ذلك بعنف، والتصييح بصاحب الدار وغير ذلك مما يدخل من لم يتهذب من الناس.
وقوله تعالى: (هُوَ أَزْكَى لَكُمْ) بمعنى الطهر، أي هو أطهر لكم، وأكرم، وأنمى لمروءتكم، ثم قال تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)، أي الله تعالى يعلم ما فيه خيركم وطهركم وأليق بكرمائكم، وما يبعد المنافرة بين جماعتكم، وأنتم لا تعلمون خيركم، ولا ما فيه طهارتكم وسموكم، ومعرفة الفاضل من أموركم، أي الله تعالى يعلم ما تعملون من خير وشر ولائق وغير لائق، عليم به، وقدم (بِمَا تَعْمَلُونَ) على (عَلِيمٌ) للأهمية وللاختصاص، وقبل الكلام في معاني هذه الآية الحكيمة وما قبلها نقول: إنه سبحانه لم يقل: فإن لم يأذنوا، بل قال (وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) للإشارة إلى أن عدم الإذن يتضمن الأمر بالرجوع يفهمه ذو الإحساس المرهف المدرك المنفذ لما يكون فيه حفظ للمروءة وصون للكرامة، وذلك يشير إلى منع اللجاجة، وألا يدخلوا بيوتا لَا يرغب في دخولهم أصحابها، وقد بين الله تعالى ما يرخص فيه من دخول بيوت غيرهم، فقال:(10/5178)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
الجناح الإثم، وتنكيره ليعم، أي ليس إثم في أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم، أي طعام أو أي شيء يقتنى وينتفع به من فرش وثياب، وأمتعة، وغيرها، وقيد سبحانه وتعالى أن تكون غير مسكونة، فلا يترتب على الدخول كشف للأستار، ولا انتهاك للحرمات، ولا تهجم، وقد يقال: إن فيها اعتداء على حق الملكية، ونقول: إنه ليس فيها اغتصاب، بل إنه دفع ضرر أكبر من ضرر الدخول، إذ إنه لو لم يتمكن من الدخول ربما يتلف المتاع إذا لم يسارع إلى أخذه، فلصاحب المتاع نفع، ولا ضرر على صاحب البيت مطلقا، وقد وضع محمد - صلى الله عليه وسلم -(10/5178)
بقبس من القرآن أنه يمكَّن لصاحب الحق من دفع الضرر عنه ما دام ذلك لَا يضر أخاه، وقد قالوا: إن ذلك يتحقق في الخانات التي تكون مخصصة لنزول التجار من المسافرين، يتركون فيها بضائعهم، ثم يعودون لأخذها، ونحو ذلك من الدور التي توضع فيها الأمتعة، ولا يسكنها الناس إلا قليلا.
ويبين الله سبحانه وتعالى أنه يعلم الظاهر والباطن ويعلم ما تخفون من نيات تكتمونها، فقال سبحانه: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ)، أي يعلم ما تظهرونه من أعمالكم، ويعلم ما تخفونه من نيات وتستبطنونه صدوركم فهو وحده علام الغيوب.
* * *
غض البصر
(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ(10/5179)
وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
* * *(10/5180)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
غض البصر هو النقص من النظر بحيث لَا يمعن بالنظر، ولا يحاول أن يتقصى أطراف من ينظر إليه، و (مِنْ) في قوله تعالى: (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) إما أن نقول: إنها لتقوى الأمر بالغض، أي غضوا أبصاركم أيَّ غض، فلا تمعن في شيء من النساء، وإما أن نقول إنها للتبعيض، أي تغض من بعض بصرك، والبعض الذي يغض عنه هو الإمعان والتتبع، والاستمرار في النظر حتى تغيب عنه، لَا ينفلت بنظره عنها، فذلك هو المطلوب من الغض، أما نظر الفجأة فمعفو عنه، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لَا تتبع النظرة النظرة، فإنما الأولى لك والثانية عليك " (1).
ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - في معنى هذا: " إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: ما لنا من مجالسنا بدّ، نتحدث فيها، فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؛ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " (2).
وابتدأ سبحانه وتعالى بالأمر بغض البصر، لأنه الباب الأكبر إلى القلب، ولأن النظرة المريبة ذريعة إلى أكبر الفحش، ولأن النظر المحصف يناقض الحياء، ولأنه يؤذي النساء، فيمنعهن من قضاء شئونهن خارج منازلهن، وما لهن بد من أدائها، ولأن غض البصر، ينشر اللياقة والحياء العام، والحياء خير كله.
(وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) معطوفة على الأمر بغض الأبصار الذي كان عاما، ولذا جمعت الأبصار، وذلك لتطهير البيئة الاجتماعية الإنسانية، فإن سلامة البيئة تجعل
________
(1) سبق تخريجه من رواية الترمذي، وأبو داود، وأحمد، والدارمي.
(2) رواه البخاري: الاستئذان - قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لَا تدخلوا. . " 5761)، ومسلم: اللباس والزينة - النهي عن الجلوس في الطرقات (3960). من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(10/5180)
الرأي العام صالحا طيبا طاهرا فاضلا يحث على الفضيلة، ويمنع الرذيلة، وفوق ذلك أمر بحفظ الفروج، والفروج جمع فرج، وهو سوءة المرأة وسوءة الرجل، وحفظها بسترها، ومنعها مما حرم الله تعالى، وهو الزنى، فإن الزنى يعرضها للأمراض الخبيثة، ويمنع النسل، والفروج تشمل فروج الرجال والنساء معا، وخوطب الرجال بحفظ فروج النساء بسترهن، ومتعهن بما أحل الله، وألا يؤذوهن بالفاحشة، وألا يعرضوهن لها، ولما حرم الله تعالى، فالرجل مسئول عن حشمة النساء، وهو الحريص عليهن.
(ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) ذلك، وهو غض البصر، وحفظ الفروج، أطهر لكم فيكون المجتمع طاهرا نقيا سليما، والبيوت طاهرة سليمة، وهم في ذات أنفسهم أطهار طيبون، ويكونون خيرًا في خير يظلهم الخير دائما، ويكونون في قبة من الفضيلة تظلهم، وتؤدى بهم جميعا إلى جنة الآخرة، كما كانوا في ظلة من الفضيلة في الدنيا.
(إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) هذا النص فيه تهديد وتبشير، فيه تبشير للأخيار إن استقاموا على الطريقة المستقيمة وفيه إنذار للفجار؛ لأنه سبحانه عليم علما دقيقا بما يصنعه كل واحد من الناس، و (يَصْنَعُونَ) أدق في الدلالة على العمل من:
يعملون، لأن يصنع معناها يفعله ويصير عادة له كعادة الصانع في صنعته.
ويلاحظ أن الخطاب كان من الله تعالى للنبي ليأمر المؤمنين بأن يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم؛ لأن ذلك من تبليغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه، وقد ذكر الله تعالى أولا غض البصر للرجال ثم ذكر سبحانه أمره للنبي عليه الصلاة والسلام بأن يطالب المؤمنات بغض البصر أيضا، كما طالب المؤمنين فقال عز من قائل:(10/5181)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
(وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ... (31)
الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول للمؤمنات كما قال للمؤمنين (يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ) بألا يمعن النظر في الرجال فإن ذلك يغريهن بالفتنة، كما يغري الرجال(10/5181)
الإمعان في النظر إليهن، وقد روي في بعض الأخبار أن " محمدا - صلى الله عليه وسلم - سأل فاطمة ابنته خير نساء المؤمنين: ما عفة المرأة؟ قالت: ألا ترى رجلا وألا يراها رجل (1)، وليس معنى ذلك إلا أن تغض بصرها عند رؤية الرجال، وإن نظرات النساء الممعنة فيهم تغري الرجال وتغريها، إذا كان فيمن تنظر إليه ما يحببه للنساء، (وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ) بسترها فلا تبدو، وبمنعها مما لَا يحل، وحفظها من الأمراض الخبيثة التي تفسد النسل والجسم. وقال تعالى: (وَلا يُبْدينَ زِينَتَهُنَّ) بأن يتبرجن، ويظهرن فى حلية تغري، وقد قال تعالى في معنى هذا: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59).
واستثنى من النهي عن إبداء ما تظهر منها من غير قصد إلى إظهارها: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) من غير قصد الإعلان عن جمالها، وقالوا: إن الوجه والكفين ظهورهما مقبول في الصلاح لَا يمنع صلاحها فيكون ظهورها في الحياة العامة ليس من إبداء الزينة المحرم، وقال ابن عطية من فقهاء المالكية " يظهر لي بحكم ألفاظ الآية بأن المرأة مأمورة بأن لَا تبدي، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لابد منه أو إصلاح شأن " والخلاصة أن الممنوع ما تبديه المرأة من زينة لتلفت الأنظار إلى محاسنها، ومفاتنها، فيكون ذلك إغراء للرجال، أما ما ظهر منها من زينة من غير محاولة إبداء له إغراءً، وتبرزًا للرجال فإنه لَا بأس به.
(وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) الجيوب فتحات الصدرِ التي تبدو منه أجزاء من الجسم، وهذه من العورة، والخُمُر جمع خمار، (وَلْيَضْرِبْن) أي ليضعن الخمر على هذه الجيوب التي ترى منها الصدور، فيستتر ذلك الجزء من عورة المرأة، لأن عورة المرأة الحرة كل جسمها، ومن النساء في هذه الأيام من يبدين بعض أجسامهن على أنه من الزينة التي تغري الرجال.
________
(1) رواه في رواية أطول من هذه: الدارقطني في الأفراد من رواية الحسن البصري عن علي رضي الله عنه، وقال: هذا حديث حسن غريب. كما في كنز العمال (11 460): ج 1/ 344.(10/5182)
هذا أمر عام للنساء بألا يبدين شيئا من الزينة إلا الذي يظهر في ذاته؛ لأن منع ظهوره فيه ضيق وحرج، وما جعل عليكم في الدين من حرج.
وقد استثنى سبحانه وتعالى المحارم الذين يخالطون الموأة من إبداء الزينة أمامهم؛ لأن هؤلاء محرمون عليها؛ ولأنها لو منعت الزينة عن رؤيتهم تكون هي في حرج، هي وزوجها.
وأول هؤلاء بعولتهن، فإن إبداء الزينة لهم من المستحسن من غير استهجان فإن الرغبة في زوج تعفه، وتبعده عن الرذيلة.
الطائفة الثانية آباؤهن، فإنها قطعة منه، وهو رحم محرم منها، وزينتها تسره، ولا تضره، ولا تغريه.
الطائفة الثالثة: آباء بعولتهن فإن أبا الزوج محرم لها، ولا يغرى بامرأة ابنه إلا لئيم، ومن يخرج عن الفطرة السليمة.
الطائفة الرابعة: أبناؤهن فإنهم قطعة منها، ولا يغرى بأمه إلا خبيث النفس.
الطائفة الخامسة: أبناء بعولتهن، فإنه ربيبها كابنها.
الطائفة السادسة: إخوانهن، وبنو إخوانهن.
الطائفة السابعة: أخواتهن، وبنو أخواتهن.
الطائفة الثامنة: نساؤهن. أي نساء المؤمنات فإنه يجوز إبداء الزينة أمامهن.
الطائفة التاسعة: أو ما ملكت أيمانهن، " ما " تشمل ما ملكت اليمين من العبيد والإماء، ولكن هنا المختص مما ملكت اليمين الذين تبدي المرأة لهم زينتها الإماء، لأنه لَا يصح أن تُبدى زينتهن أمام الرجال، وعلى ذلك أكثر فقهاء الأمصار، وروي غير ذلك عن بعض فقهاء الصحابة والتابعين، وعندي ألا يبدين زينتهن للعبيد، فإنهم رجال يشتهون، وليس عندهم من الكرامة ما يحملهم على التعفف، ولعل الدِّين ليس له تأثير قوي عند أكثرهم، ومن العبيد من يكون ذا جمال تشتهيه النساء، وقد كان بعض النساء في عهد الإمام عمر - رضي الله عنه - من تأولن آية سورة النساء في قوله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ. . .)، فملكت(10/5183)
نفسها عبدها من مقايسة النساء على الرجال، وقد منعها عمر، وروي أنه عزرها بمنع زواجها من الأحرار.
لهذا نرى أن قوله تعالى: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ) الظاهر تخصيصها بالنساء أما العبيد الرجال، فهن وبقية الرجال على سواء في المنع من ألا يبدين زينتهن لهم، صونا للبيوت ولكرامة النساء، ولحرمات البيوت الطاهرات.
الطائفة العاشرة: ما ذكرها سبحانه وتعالى بقوله: (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ).
(الإِرْبَةِ) معناها الحاجة إلى النكاح، وقد اشترط فيهم أن يكونوا تابعين، وألا يكونوا مشتهين للنساء، إما لأنه ثبت أنه عنين، أو شيخ فانٍ قد انتهى أمد شهوته، أو خصي أو مجبوب، وهو تابع في البيوت يؤاكل النساء ويخالطهن، وفي إبعاده حرج لهم ولهن.
وفى الحق: إن الآية ذكرت الوصف، ولم تذكر النوع، فكل من لَا يكون له أرب أو شهوة كالشيخ الفاني القاعد في البيت قابعا، وثبت أنه لَا أرب له في النساء، ولا يشتهى منهن حتى النظر، فإنه في موضع الاستثناء، وقد ألحق بهؤلاء غير أولي الإربة المخنثين من الرجال الذين كانوا يخدمون في البيوت في المدينة، ويطلعن علي عورات النساء، ويبدي النساء زينتهن أمامهم، وشك النبي - صلى الله عليه وسلم - لسماعه أحدهم يصف المرأة قائلا: تقبل بأربع، وتدبر بثمان. وهذا وصف لا يقوله إلا من يمعن النظر، وفي نظرته شهوة، فأمر بإبعاد المخنثين عن البيوت (1)، والأمر في معرفة غير أولى الإربة إلى الملاحظة واحترام النفس والكرامة.
الطائفة الحادية عشرة: هي ما ذكرها الله سبحانه بقوله: (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ) الطفل اسم جنس أي جمع أطفال، ولذا عاد الضمير
________
(1) رواه البخاري: المغازي - غزوة الطائف (3980)، ومسلم: السلام - منع المخنثين الدخول على الأجانب (4048). من رواية أم سلمة رضي الله عنها.(10/5184)
ضمير جمع في قوله تعالى: (لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ)، أي لم يعلموا عورات النساء يقال: ظهر عليه أي علمه واطلع عليه، يقال ظهرت على كذا أي علمته، أي يرون المرأة، فلا يفرقون بين العورة وغيرها، وهذا دليل على كمال الغفلة عن العلاقة بين الرجل والمرأة، فهؤلاء يستثنون من إبداء الزينة أمامهم، فإن نظراتهم، ليس فيها شهوة منبعثة، وهناك حرج على النساء في إخفاء زينتهن عنهم، ولا يوجد ما يدعو إلى الوقوع في الحرج، فسبب المنع غير قائم، والباعث عليه غير موجود.
هذا هو الأمر بالنسبة لإبداء الزينة، ما منع منه، وما استثنى في أحوال قد تقصيناها حالا، حالا.
وقد قال تعالى بعد ذلك عاطفا على النهي، وذلك قوله تعالى: (وَلا يَضْرِبْنَ بِأرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ)، أي لَا تضرب برجلها ليعلم الناس ما تخفيه من خلخال أو زينة على الساق، وإن النهي عن هذا يتضمن النهي عن الضرب في ذاته بحركة غير محتشمة، تتلوى فيها المرأة تلويا مغريا، ثم إنه يبدي الزينة المغرية المشتهاة، وقد قال الغزالي: إن الصَّبَّ المتيم يثير شهوته سماع صوت الهون تدق به حبيبة.
وفى الجملة: إنه يجب التستر في كل شيء، فلا يبدو منها ما يثير النظر أو الشهوة، وإن النفوس قد تغفل عن بعض هذا الواجب وهو غض البصر، ولذلك ختم الله تعالى الآيتين بقوله: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعَا أَيُّهَ الْمُؤْمِنونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
أمر الله سبحانه وتعالى بالتوبة مما عساه يكون قد غفلوا عنه من أمر الغض الذي لَا يعلمه إلا علام الغيوب، ولتتطهر منه السرائر، كما تطهرت المظاهر، وقوله تعالى: (جَمِيعًا) ليعم الأمر بالتوبة الذكور والإناث، فقد يدخل البيوت من يظن فيه الخير، وليس خيرا، وقد يكون تأثم من إدخاله إذا تبين فساد نفسه، (لَعَلَّكمْ تُفْلِحُونَ)، أي تفوزون، والرجاء من العباد، لَا من الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى.
* * *(10/5185)
النكاح هو الحصن
(وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
* * *
كانت الآيات السابقة فيها ما يصون الأسرة في كيانها، وما فيه صيانة النساء من قول السوء، وأن تمس عفتهن بالأنظار الجارحة، فأمر الرجال بغض البصر، وأمر بأن تكون نظرات النساء غير مغرية لأهل السوء، وألا يكون إبداء الزينة مغريا لأهل الدعارة والفساد، وكل هذا كان لحماية النفوس من الشر، وبعد ذلك بين الأمر الإيجابي الذي يصون المرأة، وهو سبيل العفة، وطريقها، وهو النكاح، فقال عز من قائل:(10/5186)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
(وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكمْ وَإمَائِكُمْ).
أنكحوا أي زوِّجوا، فالنكاح هو الزواج، والإنكاح هو التزويج، والخطاب للأولياء على النساء الذين لهم ولايتهم بقوله تعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامونَ عَلَى النِّسَاءِ. . .)، ويصح أن يكون الخطاب للأمة في مجموعها بأن(10/5186)
يسهلوا زواج الأيامى، وتكون الأيامى شاملة للرجال والنساء، ويكون الأمر بالنكاح هو الأمر بتسهيله وإشاعته، وتمكين كل بالغ وبالغة، فإنه حينئذٍ يعف النساء والرجال معا، ويكون غض البصر في الطرقات والبيوت، وألا يكون شيء يجر إلى الشر في المجتمع الإسلامي، فيكون طاهرا متنزها، لَا يظهر فيه إلا الخير، وتختفي المنكرات ونحن نميل إلى هذا التخريج.
والأيأت جمع أيِّم، وهو غير المتزوج من النساء والرجال، وقال أهل اللغة الأيم في الأصل هو المرأة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الأيِّم أحق بنفسها من وليها " سواء أكانت بِكْرًا أم كانت ثيبا، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أيما امرأة تأيمت على ولدها الصغار حتى يبلغوا، أو يغنيهم الله من فضله كهاتين في الجنة " (1)، وأشار بأصبعيه، ولكنه على سبيل المجاز المشهور أطلق على الرجل، وإن ذلك أوضح، وأبين.
أمر الله تعالى في هذه الآية بتسهيل زواج ثلاثة:
أولهم الأيم من الرجال والنساء الأحرار، وذلك بتسهيل الزواج، وألا تكون عوائق من أعراف بين الناس تصعب الزواج من مهور مفحشة، وجهاز مرهق مانع، ومساكن مستعلية في السكن، ويكون كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " خير الزواج أيسره كلفة " (2).
وثانيهم وثالثهم الصالحون من العباد والإماء، فيزوج السيد عبده إن أراد العبد أن يتزوج، ويكرهه على الزواج إن خشي عليه العنت، أو أن يقع في الزنى إن لم يتزوج فإنه يكون الزواج فرضا، والمسئول عن العبد هو مالكه فعليه أن يعفه، ويمنعه من الزنى، ولا طريق للمنع عنه إلا تزويجه، فكان التزويج فرضا على المالك؛ لأن
________
(1) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا، وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا ". رواه مسلم: استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر. . (2545)، والترمذي: النكاحَ ما جاء في استئمار الثيب والبكر (1026).
(2) عَنْ عَائِشَةَ أن رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:. إِن أعْظَمَ النكَاح بَرَكَة أيْسَرُهُ مُؤنة ". رواه أحمد: باقي مسند الأنصار - حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (23338).(10/5187)
الزواج فرض على العبد، وعبر بالصالحين من عبادكم وإمائكم؛ لأنهم الذين يرغبون في الصون والعفاف.
وكذلك الأمر بالنسبة للإماء إن خشي عليهن العنت يكون واجبا عليها أن تتزوج، وهي لَا تملك نفسها، بل يملك الولاية عليها مالكها، فيكون التزويج فرضا عليه، فإن لم تره وأراده كان له أن يكرهها، وقد أجمع الفقهاء على أن التزويج على الأمة ولاية إجبار لَا اختيار لها فيها.
وعباد جمع عبد، وإماء جمع أمة.
إذا كان واجبا على الجماعة أن تسهل الزواج وتشيعه لأنه سنة الإسلام، فإنه لا يصح أن يحول الفقر منه بين الزواج، فإن المال مال الله غاد ورائح، ففقير اليوم قد يكون من بعد غنيا، ولذا قال تعالى: (إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّه مِن فَضْلِهِ وَاللَّه وَاسعٌ عَلِيمٌ) أي أن الله تعالى يعطي من يشاء، ويغني من يشاء، (وَاللَّهُ وَاسعٌ عَلِيمٌ) أي واسع الرحمة والعطاء، عليم بمكان الحاجة وموضع العطاء.
وإن هذا النص يشمل الأحرار؛ لأنه قد يكون فقيرا، أما العبيد أو الإماء فلا مال يملكونه، وقد يدخل فقراء الملاك في العموم أيضا.
ثم قال تعالى في علاج حال الفقراء، فقال عز من قائل:(10/5188)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33)
(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ... (33)
اللام لام الأمر، و " يستعفف " السين والتاء للطلب، والمعنى ليطلب العفة ولايتجافى سبيلها والوصول إليها والحصول عليها، إنما يسلك كل المسالك لطلبها، فهي طلب للجهاد في العفة والحصول عليها (الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا) أي مهيئات النكاح من مهر ونفقة، ومسكن إلى آخر ما يكون سببا للنكاح أو تمهيدا له، فالتعبير بالنكاح ذكر للمسبب وإرادة للسبب، ومن لم يجد مهيئات النكاح لَا يجد النكاح، وأسباب الاستعفاف كثيرة منها ضبط النفس، ومنها الصيام، ومنها الانشغال بالعبادة وتلاوة القرآن، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة(10/5188)
فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " (1) الباءة تكاليف الزواج التي يمكنه أن يبوء بها في هذه العقدة المباركة، والصوم يتضمن معاني روحانية والتجرد من الملاذ والأهواء، ويتضمن الصبو وضبط النفس، وقرع الشهوات، والوجاء قطع الشهوات، ودفع سيطرتها، فتكون الشهوة أمة ذلولا، ولا تكون سيدا مطاعا، تخضع له النفوس وتتطامن، وتخنع.
وإن الاستعفاف يستمر حتى يغنيهم الله من فضله، فهو يستمر ضابطا نفسه مسيطرا عليها، حتى يغنيه الله تعالى من فضله أي بفضله ورحمته، وهو ذو الفضل العظيم.
وإن هذا الاستعفاف للأحرار من الرجال الذين لَا يملكون باءة النكاح، فما حال الرجال العبيد الذين لَا يملكون أسباب النكاح، ولهم فيه رغبة، ولا يزوجهم مواليهم، فما الذي يستطيعونه، شرع الله تعالى لهم المكاتبة وطالبهم بأدائها، وأمر الموالي أن يجيبوهم، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا).
(وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ)، كلام مستأنف له صلة بالكلام السابق، و (يَبْتَغُونَ) يطلبون راغبين متشددين في الطلب، والكتاب مصدر كاتَب يكاتب؛ لأن مصدر فاعل، فِعَال أو مُفاعلة كقتال ومقاتلة، وعناد ومعاندة، فمعنى الكتاب المكاتبة، أي إن طلبوا المكاتبة (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِم خَيْرًا) والفاء هي كالفاء الواقعة في جواب الشرط، لأن الاسم الموصول، (وَالَّذِينَ يبْتَغُونَ الْكِتَابَ) في معنى فعل الشرط، والمكاتية اتفاق بين المالك والمملوك على أن يتركه حتى يحصل على قدر من المال يتفقان عليه، فإن أنفذه وأداه عتق، وقد شرع الله ذلك العقد تسهيلا لفك الرقاب من غير ضياع حق للمالك، وتعليق الأمر بالمكاتبة على قوله: (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) والخير هنا الأمانة والاستقامة والقدرة على السعي للحصول على مال المكاتبة، وقال
________
(1) رواه البخاري: الصوم - الصوم لمن خاف على نفسه العزبة (1772)، ومسلم: النكاح - استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد (2485). من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(10/5189)
الظاهرية وبعض الفقهاء إن الأمر هنا (فَكَاتِبُوهُمْ) للوجوب بمقتضى ظاهر الأمر، أي إن الأمر هنا للوجوب بمقتضى ظاهر اللفظ.
وإنه من الواجب أو المندوب أن يؤتيهم القادرون ما يستعينون به على فك رقابهم، ولذا قال تعالى: (وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) أعطوهم من المال الذي أعطاكم الله تعالى، ونسبة المال إلى الله تعالى فيه حث على الإعطاء؛ لأنه بمال الله الذي جعلكم مستخلفين فيه، فكان حقا عليكم بمقتضى هذا الاستخلاف أن تعطوه لعيال الله تعالى، وهم الفقراء الأرقاء الذين يحتاجون ليفكوا رقبتهم، وقد أوجب الله تعالى ذلك فجعله مصرفا من مصارف الزكاة، وهو يصرف في الرقاب في قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ. . .).
وقال الفقهاء: إن سهم الرقاب ينفق في معاونة المكاتبين حتى يسدوا ما عليهم، وتسارع لهم الحرية.
وقد نهى سبحانه عن إكراه الإماء على البغاء، وهو طلب المرأة للزنى، وقد كان رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول عنده ست إماء كان يكرههن على البغاء ويأخذ أجورهن وهو سحت، لأن مهر البغايا سحت، وقد قال تعالى: (وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) الفتيات المراد بهن الإماء، وعبر عنهن بالفتيات لنقتدي بالقرآن، والنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: " لا تقل عبدي وأمَتي بل قل فتاي وفتاتي " (1)
وللحض على عدم إكراههن على البغاء لأنهن فتياته، فلا يسوغ إكراههن؛ ولأن التعبير بالفتاة فيه إيماء إلى صغرهن، وأنه مرغوب فيهن مبغي طلبهن ولسن عجائز يرغب عنهن، وقوله تعالى: (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)، مبالغة في اللوم والتأثيم، والتحصن إرادة حصن العفة يتحصنَّ به، ولا يجعلن أنفسهن متاعا يستفرشه الرجال في حرام.
________
(1) رواه بنحو من هذا مسلم: الألفاظ من الأدب وغيرها - حكم إطلاق لفظ العبد على المولى (4177)، والبخاري: العتق (2366) من رواية أبي هريرة رضي الله عنه.(10/5190)
وليس معنى التعليق أنهن إذا كن يبغين البغاء يكرهن، إنما الشرط لتحقيق معنى الإكراه، فهو لَا يكون إلا حيث تكون إرادة التحصن وهو توبيخ لمالك الأمة التي تفعل، فهي الأمة تأبى أن تكون بغيا، وهو الذي يريدها بغيا، ويقول سبحانه: (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) وعرض الحياة الدنيا هو المال من طريقه الرخيص الذي لا يرضاه، وهو أدنى طريق وأحقره.
ثم يقول تعالى في بيان أن الله تعالى يعفو عن هؤلاء المكرَهات، ويكون إثم الإكراه على مواليهن، فقال: (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، أي إن الله يغفر لهن هذا الذنب الذي كان بإكراه، وقوله: (مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ) للإشارة إلى أن الفعل الآثم يكون من بعد الإكراه وبسببه، فالله يغفر ذلك الإثم، لأنه غفور رحيم.
هذه الأحكام كلها أحكام لصيانة المجتمع الإسلامي وليكون طاهرا لَا دنس فيه، ولصيانة الأسرة، ولصيانة المرأة المسلمة حرة أو أمة، والرجل المسلم حرا أو عبدا، وهي آيات بينات، ولذا قال تعالى:(10/5191)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
(وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
يذكر الله تعالى في هذه الآية أنه أنزل في القرآن الكريم ثلاثة أمور.
أولها: (آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ)، أي آيات مبينة للأحكام الشرعية في الأسرة والمجتمع الإسلامي والعلاقات الإنسانية بين المسلمين وغيرهم، ففيها الآيات المكونة للأسرة من زواج وأحكام أولاد، وحقوق للزوجين في أثناء قيام الحياة الزوجية وانتهائها، وحقوق المرأة وحقوق الرجل، ثم فيها ما شُرع حماية للأسرة.
والأمر الثاني: (وَمَثَلًا مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُمْ)، أي من أمثال الذين خلوا من قبلكم، و " مثل " هنا مفرد يدل على الجمع ما دام غير معين، وهو القصص الحكيم الذي كان فيه العبر، كما قال تعالى: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ. . .).(10/5191)
والأمر الثالث: الموعظة - ببيان عقاب الذين يفسدون المجتمع الإسلامي، فذكر من قبل القصاص الذي تكون فيه المساواة بين الجريمة والعقوبة، وساق سبحانه القول في ذلك سوقا حكيما، ثم عقاب الذين يفسدون النسل، والذين يشيعون الفاحشة في الذين أسلموا، ففي كل هذا وعقوباته عظات لأولي الألباب يتعظ بها المتقون الذين يخافون عقابه ويرجون ثوابه، أما الذين لَا يتقون الله ولا يرجون ما عنده، فالسياط تكوي ظهورهم، والسيوف تقطع رقابهم، كما قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ. . .).
* * *
نور الله ومساجده
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
* * *(10/5192)
النور في لغة العرب ضد الظلام وهو الذي يضيء للأبصار فترى الأشياء وتميز بينها، وقد أطلق على سبيل المجاز على ما يميز بين المعاني فيفرق بين الحق والباطل، ولذا وصف به القرآن الكريم، فقال تعالى: (. . . وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نورًا مُّبِينًا)، وقال تعالى في وصف الكتاب: (. . . وَالْكِتَابِ الْمُنيرِ)، وسمي النبي - صلى الله عليه وسلم - نورًا فقال تعالى: (. . . قَدْ جَاءَكم مِّنَ اللَّهِ نَورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ).
وأطلق على التدبير المحكم، فيقال في مدح الملوك: الملك نور هذا البلد، وعلى رب البيت أنه نور البيت. وفي كل هذه الأمثلة يكون النور معنويا فاصلا بين الحق والباطل، والسديد وغير السديد، وعلى هذا نذكر معاني قوله تعالى:(10/5193)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
(اللَّهُ نُور السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، أي الله مدبر الوجود ومنشئه، خلقه ودبره في أدق نظام، وأعظم إبداع، فربط بين أجزائه برباط محكم لَا تنفصل كواكبه، ولا نجومه فتتساقط كوكبا بعد كوكب، ونجما بعد نجم، يأبى الله على السماوات والأرض أن تزولا، (وَلَئِن زَالَتَا إِن أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَد مِنْ بَعدِهِ. . .).
فقوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) كلمة (نور) من قبيل الاستعارة، إذ شبه إدارة الله تعالى للسماوات والأرض وتعليماته للعقلاء، وتسخيرها لغير العقلاء، بنظام رتيب محكم دقيق بالنور المميز، فصح وصف الله تعالى أو الإخبار عنه بالنور على هذا المعنى المجازي المصور لما نرى ونحس، ونور الله فوق ما نبصر وأعلى مما ندرك.
صور الله تعالى نوره المميز للأشياء والعقلاء مقربا له من مداركنا فيما نحس ونعلم ونرى، فقال تعالى: (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) المشكاة هي الكوة في البيت، والمصباح في هذه المشكاة أي في الجدار الذي فتحت فيه الكوة، وهي النافذة الضيقة التي ينبعث منها النور للبيت وهي في ذاتها منيرة، وينبعث نورها بقوة، لضيقها، ويشع داخل الحجرة، ومع ذلك قد وضع في جدارها مصباح فيه زجاجة، وهي(10/5193)
قنديل الزيت، وهي صافية صفاء واضحا، ومتلألئة، وكأنها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، و (دُرِّيٌّ)، كالكواكب الدرية المزهرة المنيرة، و (دُرِّيٌّ) نسبة للدر المتألق، وذلك إذا قرئت بضم الدال، وتقرأ بكسرها دِرِّي، وتكون على وزن فعّيل وهي من الدر قلبت الهمزة ياء، وذلك الإعلال كثير في اللغة العربية، وأدغمت التاء في الياء لسكون إحداهما (1). والدرء: الدفع، ويكون معناها أنها تدفع الظلام، وقوله تعالى: (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ) الضمير في يوقد يعود على (كَوْكَبٌ) المشبه به في الآية، وهذا على قراءة الياء، وعلى قراءة التاء يعود الضمير إلى زجاجة، وهي المتحدث عنه.
(مِن شجَرَةٍ) " من " للابتداء، أي مصدر الوقود شجرة مباركة، وهذه الشجرة هي شجرة الزيتون، والوقود من زيتها فهو منها، على هذا المعنى، وقد قال تعالى في هذه الشجرة على أنها من نعم الله تعالى: (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ)، وكانت الشجرة مباركة، وكما قال الزمخشري وصفها سبعون نبيا بأنها مباركة، وحسبها وصف القرآن، وصفها القرآن بأنها مباركة هنا وفي سورة " المؤمنون "، وإذا كانت سورة " المؤمنون " مكية، وسورة " النور " مدنية، فقد أجمع القرآن المكي والمدني على أنها مباركة، وبركتها في أنها ذات منافع كثيرة، يكون منها الوقود المضيء، وهو دهن يكون طعاما طيبا، وهو يدخل في أدوية الجلد الطبية، وترابه إذا حرق يكون كحلا للعيون ولا يضرها، وهو إدام، والزيتون نفسه للطعام، وهو الصبغ الذي قال الله فيها: (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ).
وقال عز من قائل: في وصف هذه الشجرة المباركة (زيتونة) وهذا بدل من (مباركة)، وهو إيضاح بعد إبهام فيكون فيه بيان مؤكد، وقد وصفها سبحانه بقوله: (لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ)، أي أنها في وسط الأرض لَا ينقطع عنها ضوء الشمس، إذ الشرقية ينقطع عنها الضوء في المساء، والغربية ينقطع عنها الضوء في الصباح، فهي لا تستر عنها الشمس في المساء أو الصباح، وهذا يساعد على نموها ونمو ثمارها.
________
(1) قرأها بكسر الدال وتشديد الياء، من غير مد ولا همز: المفضل عن عاصم. وقد شذت هذه القراءة فلا يقرأ بها اليوم، وقرأها بضم الدال وبالمد والهمز: حمزة وأبو بكر، وقرأ الباقون بضم الدال وياء مشددة، من غير مد ولا همز. غاية الاختصار: 2/ 589.(10/5194)
ووصف سبحانه وتعالى زيتها بالصفاء فقال تعالى: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ ولوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ) فهو صاف لَا عكرة فيه، ومشرق لَا دكنة فيه.
(نُّورٌ عَلَى نُورٍ)، أي أنه نور يجيء على نور، فنور المشكاة التي تدخل الحجرة نورها فيضيء، ونور المصباح، ونور الزجاجة، التي هي كالكوكب الدري، ونور الزيت الذي يكاد لصفائه يضيء.
وكل هذا وصف لنور الله الهادي المرشد، فإنه يغمر القلوب التي تفتح له بالهداية، وأما الذين حقت عليهم الضلالة فإنهم لَا يهتدون، وسدت القلوب عن أن يصل النور إليها.
ولذا قال تعالى: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) وهو من سلك طريق الهداية، وأبعد عن نفسه الغواية، التي يوسوس بها الشيطان، ويحاول جاهدا أن يغوي عباد الله، (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ)، يبين سبحانه وتعالى الأشباه والنظائر والغايات والنتائج ليهتدوا، (وَاللَّهُ بَكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، أي بكل شيء عليم، يعلم المهتدين وطريق هدايتهم، ويعلم الضالين وعاقبة ضلالهم، فهذه الجملة فيها تبشير للمؤمنين المهتدين، وإنذار للضالين الذين أغواهم الشيطان.
وقبل أن نترك الكلام في معاني هذه الآية لابد من ذكر إشارة بيانية، هي أن الله تعالى ذكر (مِصْبَاحٌ) منكرة ثم ذكرها من بعد ذلك معرفة، فيكون المبهم والمعرف واحدا، والذكر بالإبهام تم التعريف فيه بيان بعد إبهام، وفي ذلك فضل بيان وتأكيد، وكذلك بالنسبة لزجاجة فقد ذكرت نكرة، ثم ذكرت معرفة، وذلك فيه أيضا بيان وتأكيد للبيان، وقد بين سبحانه بعد ذلك مكان النور الرباني، فيكون أشد ما يكون في المساجد، فقال تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)(10/5195)
ْالآيتان مرتبطتان بالآيات التي قبلهما إعزازا للمعنى؛ وذلك لأن قوله تعالى(10/5196)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ) الجار والمجرور متعلقان بالآية التي قبلها، وفيها عدة أفعال كل فعل فيها يصلح متعلقا، فيصح أن يكون متعلقا بقوله: (يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ)، ويصح أن يكون متعلقا بقوله: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ) ويصح أن يكون التعليق بقوله: (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ) فالتعليق يصح أن يكون لفعل من هذه الأفعال، فالمساجد تتعلق بالنور والهداية، وهي بيوت الله تعالى، وفيها النور، وفيها يوقد النور الإلهي، وفيها الهداية.
ونكرت البيوت، لتذهب النفس في تعرفها كل مذهب، وقد عرفها سبحانه وتعالى بوصفها الذي يجليها، ويزيل إبهامها للنكرة، وهو قوله تعالى: (أَذِنَ اللَّهُ) الإذن الإعلام، ورفعتها هي رفعة مكانتها وقدرها، فالرفعة معنوية لَا حسية، ورفعتها المعنوية، لأن فيها النور وفيها الهداية، وفيها السمو، وفيها الربانيون الذين لا يريدون إلا رضا الله تعالى، وإنه يقترن بهذه الرفعة، أو بذكر اسم الله تعالى، ولذا قال تعالى: (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)، أي تتذكر القلوب اسم الله تعالى، وتمتلئ بهيبته وجلاله، وترتفع إلى مقام التجرد الروحي لله تعالى، فليس المراد كما يظهر ذكر اسم الله بلفظ الجلالة، وترداده في حلقات ذكر، وما تلهث فيه الأنفاس وتردده من صياح، بل المراد تذكر القلب والعقل لعظمته وامتلاؤهما بجلاله، وتقشعر منه الجلود، لَا بمجرد التمايل في حلقات ربما يتوسطها الشيطان!! ويكون فيها تقديس الله تعالى، وتنزيهه وعبادته كما جاء بها القرآن والسنة، ولذا قال تعالى: (يُسَبِّحُ) فِيهَا بِالْغدُوِّ وَالآصَالِ)، أي في الصباح، وهو أول اليوم، والآصال، وهي جمع أصيل، وهو آخر اليوم، وربما يدخل فيها ما بعدها، وهو العشي، كما قال تعالى في آية أخرى (. . . بُكْرَةً وَعَشِيًّا)، والتسبيح هنا يحتمل أن يراد به التنزيه المطلق، ويكون المراد أنه في هذه البيوت التي يذكر فيها اسم الله تعالى ينزه الله تعالى ويقدسه فيها رجال. . إلى آخره، فهي بيوت الله لَا يذكر فيها غيره، ولا يقدس فيها سواه.(10/5196)
ويحتمل أن يراد بالتسبيح الصملاة، وقد عبر سبحانه عن الصلاة بالتسبيح والتنزيه في قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)، قد جعل الله تعالى الصلاة موضع عبادته وتنزيهه، وهي عمود الدين، ولا دين من غير صلاة، ولكن لم يذكر الله تعالى من أوقات الصلاة إلا الغدو والآصال، ونقول: إن ذكر الآصال والغدو هو ذكر لما بينهما من الظهر، ولما بعدهما من العشي، وأن تفسير التسبيح بالصلاة أنسب للمساجد التي هي بيوت الله، كما قال تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا).
وقوله تعالى:(10/5197)
رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)
(رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ... (37)
إن اتصال هذه الآية بما قبلها إعرابا وبيانا للمعاني واضح، لأن (رِجَالٌ) فاعل لـ (يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ)، وقد بين سبحانه أحوال هؤلاء الرجال وصفاتهم، فقال: (لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكرِ اللَّهِ) أما إنهم لَا تلهيهم الحياة وما فيها عن ذكر الله، فهم في ذكر لله دائم، في تجارتهم يذكرون وفي بياعاتهم يذكرون الله تعالى، فذكر الله يجب أن تملأ به القلوب، لَا يغفلون عن ذكره أبدا، واذا ذكر الله تعالى في معاملاته الإنسانية كان في طهارة دائمة فلا يغش، ولا يداهن، ولا يبخس الناس أشياءهم، والصلاة شرعت في أوقاتها الخمس لدوام ذكر الله تعالى، فصلاة الفجر لملء النفس بذكر الله، فيقبل على الحياة، وهو ممتلئ بذكر الله تعالى، حتى إذا ابتدأ القلب يصدأ جاءت الظهر فجلته وطهرته بذكر الله، حتى صلاة الأصيل ثم صلاة العشاءين، ويختتم اليوم بتسبيح الله تعالى، وامتلاء النفس بذكره، فيستمر ذكر الله فيهم، ولا تلهيهم تجارة ولا بياعات، ولا أعمال الحياة عن ذكر الله أبدا؛ لأنهم في ذكر دائم بعبادة الله تعالى وخصوصا الصلاة، ولذا ذكر الصلاة وإقامتها، فقال تعالى: (وَإِقَامِ الصَلاةِ) وهذا من عطف الخاص على العام، وإقام الصلاة الإتيان بها مقومة مستقيمة بذكر الله تعالى في كل أركانها وكل عباراتها. والصلاة كما أشرنا تهذيب الروح واتصالها بالله، والمصلي وهو واقف لإقامتها يحس بأنه واقف في(10/5197)
الحضرة الربانية، والله يراه وهو العليم بما في الصدور، وما تخفي الأنفس، وهؤلاء لا تلهيهم مطالب الحياة وغاياتها عن إيتاء الزكاة، وهي التعاون الاجتماعي الذي تقوم على دعائمه الحياة الإنسانية في الإسلام.
وإن الأساس للخلاص الكامل للمؤمن هو الإيمان بالبعث والنشور والقيامة والحساب، فإن ذلك يجعل الإنسان يحس بأن لحياته معنى وغاية، ولم يخلق عبثا أو سدى، بل إن له يوما يحاسب فيه على ما قدم وما كسب، ولذا قال في أوصاف الرجال الذين يعمرون مساجد الله (يَخَافُونَ يَوْما تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ)، أي يخافون يوم الفزع الأكبر، و (تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ) تضطرب، والتقلب التحول أي بمعنى تتحول وتنتقل من مكانها ثم تعود، وتكون في تحول ثم عودة، وهذا يدل على اضطرابها، وفزعها أشد ما يكون الفزع، وإن تقلب القلوب يكون بين الطمع والخوف، والرجاء والهلع، وتقلب الأبصار يكون بأن تتقلب حدقة العين في الحركة من الخوف، وهذا يدل على فزع واضطراب مستمر، كما قال تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ. . .).
والنتيجة لهذا اليوم بينها الله تعالى بقوله:(10/5198)
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
(لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
هذا الجزاء، هو للذين لَا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله تعالى، فمع عملهم الصالح يخافون لقاء الله ويرهبونه استصغارا لأعمالهم الصالحة، وخوفا من هناتهم، وكذلك الطاهرون دائما؛ لأن نفوسهم نظيفة يخافون أن تلوث، كما يخاف اللامس على ثوبه الطاهر؛ لأن أي دنس يشوه منظره، ويقبح مخبره، فالطيب المستقيم على حق دائما، وقوله تعالى: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا) اللام هي لام العاقبة، أي لتكون عاقبة هذا اليوم بالنسبة لهؤلاء الأطهار أن يكون جزاء حسنا لأحسن أعمالهم، وجعل سبحانه وتعالى الجزاء لأحسن الأعمال، والجزاء لهم على أعمالهم، وذكر الكلام بهذه الصيغة لبيان أن الجزاء مساو للعمل تماما، والله قد يزيد(10/5198)
على الأعمال رحمة منه وفضلا، ولذا قال تعالى: (وَاللَّه يَرْزُق مَن يَشَاءُ بِغيْرِ حِسَابٍ) الرزق هنا هو الثواب الذي يزيد عن العمل، وهو فيض من رحمته، وفضل منه سبحانه، وقوله (بِغَيْرِ حِسَابٍ) فيه إشارة إلى أنه عطاء غير مجذوذ.
* * *
أعمال الكفار ونتيجتها
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ(10/5199)
وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
* * *
وصف الله تعالى أعمال الذين كفروا الخيرة في زعمهم وضرب لها مثلا، وأعمال الشر من عبادة الأوثان وما يتعلق بها من نيات، وقد قال تعالى في آية أخرى في وصف أعمال الخير في نظرهم، فقال: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117).
وأن الله تعالى ضرب مثلا في هذه الآيات للأعمال التي يحسبونها خيرا كالعطاء عند الميسر وشرب الخمر، ويبنون عليها طلب الجزاء يوم القيامة، فإذا جاء لا يجدون، فشبهها سبحانه وتعالى بقوله:(10/5200)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) السراب هو ما يرى في اشتداد الحر كالماء ويسرب ويجري كالماء، وهو لَا حقيقة له في ذاته، ولكنه الظمأ يصوره للظمآن كأنه ماء، والقيعة جمع قاع وهو ما انبسط من الأرض لَا زرع فيه ولا شجر، والمعنى أن الذين كفروا يعتمدون على ما يحسبونه خيرا في زعمهم، وهو خير في ذاته كصلة الرحم، ولكن لَا قيمة له لعدم الإيمان، والنية الحسنة، ويحسبون به أنه خير قدموه وهو لَا وجود له، فهو كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء، ويسير حتى يجهده السير، ويسير ثم يسير، ويشتد في طلبه حتى إذا جاء إلى ما ظنه عنده لم يجده شيئا، (وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ) ليحاسبه أشد الحساب، (فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، أي أن الله موف الحساب من عذاب الجحيم، وقال: (سَرِيعُ الْحِسَابِ) للدلالة على تأكد وقوعه، أنه لَا يتأخر حتى ينسى، ولا يتصور أن ينسى، بل يجيء سريعا مؤكدا ولا يمكن أن يهمل.(10/5200)
هذا تشبيه ما يظنونه خيرا، كما كانوا يفعلون من أعمال أي لَا يريدون بها ما عند الله، بل يريدون التعاظم والتفاخر بها، ولا يحتسبون أنها مقربة لله؛ لأنهم كانوا يشركون به.
أما أعمالهم السيئة. وتضافرها وتكاثرها، فقد كانت ظلمات بعضها فوق بعض، ولذا شبهها بالظلمات المتكاثفة، فقال:(10/5201)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
(أو) هنا لبيان الأعمال، وما اختص بعضها من تشبيه بالسراب، بأن كان يرجى منها الخير لو استقامت القلوب، وحسنت النية - فكانت كالسراب، وأعمال لا خير فيها، لَا في ذاتها، ولا في نياتها، فكانت كالظلمات، فأمره هنا كأمره في قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. . .)، فهي لبيان اختلاف الحكم باختلاف الجريمة، وهنا تدل (أو) على اختلاف التشبيه باختلاف حال العمل، من ظاهر الخير، وإن لم يكن بنية محتسبة بل بنية التفاخر، والتظاهر بالسلطان، إلى عمل كله شر في ظاهره وفي نيته، ويحيط به الإثم من كل نواحيه.
(كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لجِّيّ): اللجي نسبة إلى اللجة، وهي الماء الكثير، فالبحر كثير الماء، عميق ممتلئ، لَا يسبر غوره (يَغْشَاهُ مَوْجٌ) يعلوه، ويستره (مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ) أي موج متراكب بعضه فوق بعض، فالبحر لجي فيه ظلمات، والموج المتراكب الذي يكون موجا كثيفا بعد موج مضطرب مصطفق، ومن فوق الموج سحاب معتم، وغيم شديد، فهي ظلمات بعضها فوق بعض، فظلمة اللجة، وظلمة الموج المتراكب، وظلمة السحاب، كل هذا يوجد ظلاما دامسا لَا توجد معه رؤية صحيحة سليمة تكون طريقا للإدراك الصحيح، ولذا قال في تكميل التشبيه، فقال عز من قائل: (إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا)، إذا أخرج يده من جيبه لَا يكاد يراها،(10/5201)
مع أنها يده، وأخرجها من جيبه، والعلم بها متحقق؛ لأنها يده، وبعمله أخرجها، ومن مكانه في ثيابه التي يلبسها، ومع ذلك لَا يكاد يراها.
وخلاصة هذا التشبيه أن الله تعالى شبه حال الكافر في أفعاله التي تدفعه إلى الباطل، وهي في ذاتها باطل، وإن الباطل يدفع إلى باطل، فهو قد أشرك، وكان الشرك كبحر لُجي، ويدفع إلى أمواج من الباطل متكاثفة ويكون فوقها بسبب الشرك غمة تجعله في ظلام دائم، حتى يصبح غير مفرق بين حق وباطل، وتنسدُّ عليه مسالك الإدراك، كما يُسد على البصير النور في الغمام، والأمواج واللجج.
وإن هذا التشبيه يصور لنا حال المشرك كيف تتكاثف عليه ظلمات الباطل، فالشرك يكون كلجة دخل بها في بحر من الباطل لَا حدود له، وكلما أوغل فيه ازداد إعتاما، وهكذا تتضافر أسباب إظلام الأمور على العقل، فكلما خطا خطوة انسد عليه باب الإدراك انسدادا، تبتدئ بعبادة غير الله، ثم بالذبح لغير الله، ثم بتحريم ما أحل الله وإسناد التحريم، ثم باستباحة ما حرم الله من الخمر وأكل الخنزير، وأكل الموقوذة، والنطيحة، والميتة، وهكذا تتكاثف الظلمة، حتى لَا يرى حقا، ولا باطلا، ويكون لمن إِذا أخرج يده لم يكد يراها، وختم الله الآيتان بقوله تعالى (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ)، وهذا في مقام التجريد للتشبيه؛ لأنه مناسب للمشبه به، وليس بمناسب للمشبه لأن المؤدى، (وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا) يؤديه إلى الحق، كما كان من المشركين الذين أدت أفعالهم إلى ظلمات متكاثفة، (فَمَا لَهُ مِن نورٍ) كان تشبيه ظلمات الكفر بالبحر اللجي، والذي يعلوه ويستره موج من فوقه موج من فوقه سحاب، موعزا إلى التفكير في تكوين السحاب ونزول الأمطار، وبذلك الإيعاز الفكري الذي يكون من آية إلى معاني تالية، ترتبط آيات القرآن الكريم فيكون بعضها آخذا بحجز بعض في ارتباط عقلي نفسي، ولذا عقب هاتين الآيتين ببيان تسبيح الطير في السماء فقال عز من قائل:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)(10/5202)
الاستفهام في(10/5203)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41)
(أَلَمْ تَرَ)، إنكاري بمعنى النفي مع التنبيه إلى الحقائق لإدراكها، وهو داخل على نفي، وهو " لم "، ونفي النفي إثبات، والمعنى: قد رأيت أن الله يسبح له من في السماوات والأرض، ومعناها يقدسه ويخضع له ويسجد، أما تسبيحه فلأنه يدل على كمال الله تعالى، وتنزيهه عن مشابهة الحوادث، وأنه واحد أحد، وأنه صمد ليس بوالد ولا ولد، وأما السجود، فهو الخضوع الكامل لله تعالى.
والتعبير بـ (مَن) في قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ) مع أن فيها ما لا يعقل؛ فلأنها كلها في دلالتها على التسبيح أقيمت مقام العاقل؛ ولأن فيها عقلاء وغير عقلاء، غَلَّب في البيان العقلاء؛ لأنهم أعلى مكانة من غيرهم كالملائكة، فإنهم أعلى من غيرهم، ومثل ذلك عقلاء الإنس والجن المهديون، وغيرهم.
(وَالطَّيْرُ) لما فيها من إعجاز من أنها تطير، وتسير في الفضاء من غير أن يكون سيرها على أجرام جامدة تتحمل ما يسير عليها، بل هي تسير من غير جرم جامد ثقيل تسير عليه، ولذلك خصها بالذكر لفضل ما تدل عليه من إبداع في الخلق والتكوين، حتى كانت موضع درس للإنسان فأراد أن يقلدها، وتم له ما أراد فكانت الطائرات التي تقطع أجواز الفضاء، وسبحان من خلق كل شيء من غير مثال سبق، وقوله تعالى: (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ)، أي تطير في الفضاء تسير صافات، أي في صفوف متتالية ومتوازية، الأجنحة وراء الأجنحة، كما ترى في أسراب الحمام وغيرها من الطير من انتقالها من مكان إلى مكان متآخية منتظمة في صفوف، وذلك من إلهام العلي الخبير لها، والطير بالرفع عطف على (مَن) أي أن الطير تُسبح، كما يُسبح كل من في السماوات والأرض، وذكر مع ذلك إبداع الله تعالى خلقَها، وما ألهمها إياه، وما سخر لها من فضاء بالسير لمسافات.
إن فاعل (علم) يعود على الله تعالى أي كل فريق وطائفة، وخلق من خلقه - علم الله تعالى صلاته وتسبيحه، وقالوا: إن الصلاة تكون من العقلاء المهديين، والتسبيح بالخضوع والدلالة بالخلق والإبداع يكون من غير المهديين وغير العقلاء فهم في صفهم، فهم كالأنعام، بل أضل سبيلا.(10/5203)
وبين الله تعالى بعد ذلك كمال سلطانه، فقال:(10/5204)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
الملك هو السلطان الكامل، والله تعالى له السلطان على السماوات والأرض وحده؛ لأنه هو الذي خلقها، وما فيها ومن فيها، والنص الكريم يفيد الاختصاص بتقديم الجار والمجرور، أي له وحده السلطان الكامل في الأرض والسماء فلا سلطان لوجود سواه، فالمعبودات التي يعبدونها من أشخاص، وأوثان وشمس ونار، كل هذه لَا سلطان لها ولا شفاعة، بل السلطان لله وحده، وان هذا السلطان يعلمه المؤمنون، وسيراه رأي العيان الكافرون، ولذا قال تعالى: (وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)، أي المآل والنهاية. وتقديم الجار والمجرور أيضا يفيد القصر أي يصيرون إليه، لَا إلى أحد سواه، وعندئذ يلقاهم بأعمالهم والجزاء عليها.
بعد ذلك بين الله تعالى كيف يكون السحاب، وهم يرون هذا التكوين، وقد قلنا: إن ذكر البحر اللجي والأمواج المتلاطمة والسحاب توعز بإرادة تعرف خلقها، ولذا قال تعالى:(10/5204)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
الزج السوق والدفع، ومنه قوله:. . . وَجِئْنَا بِبِضَاعَة مُّزْجَاة. . .)، أي مدفوعة لَا يقبل عليها أحد، والمعنى لقد رأيت أن الله يزجي. . . ونقول: الاستفهام فيه إنكاري للتنبيه، ونفي النفي إثبات، و (ألم تر) جملة منفية لفظا، والمعنى لقد رأيتم أن السحاب والرؤية هنا علمية، أي لقد علمتم، فهم لم يروا بالحس أن الله يزجي سحابا، لكن علموا مما علمهم أن الله يزجي سحابا، أي يثيرها من بخار الماء، فيتكون من هذا البخار سحاب فيدفعه الله تعالى ويسوقه في تجمعه حتى يصير ركاما، وإن ذلك لَا يكون فور تكوين السحاب، إِنما يكون بعد زمن، ولذلك كان العطف بـ " ثم "، فقال سبحانه: (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا)، ومعنى(10/5204)
(ركاما) مجتمِع بعضه يكون فوق بعض، ولقد قال تعالى: (وَإِن يَرَوْا كسْفا مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يقُولُوا سَحَابٌ مرْكُومٌ)، وإنه إذا تراكم السحاب، وصار بعضه فوق بعض كان المطر، ولذا قال تعالى: (فَتَرَى الْوَدْقَ يخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ)، والودق هنا المطر، يقال: ودقت السحاب فهي وادقة - إذا أمطرت - وقوله: (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) ينبئ عن أنه مطر ضعيف لَا ينهمر انهمارا، ولا يكون وابلا؛ لأن الوابل تنحل فيه السحاب وتنهمر، ولا يكون ودقا يخرج خلاله من سحاب متراكم، ثم أشار سبحانه إلى الماء المنهمر بعد ذلك بقوله: (ويُنَزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَال فِيهَا مِن بَرَدٍ) السماء هنا ما علاك، (مِن جِبَالٍ) بدل اشتمال من السماء، أي ينزل مما علاك من جبال فيها من برد، وقد شبه السحاب المتراكم الذي يعلو طبقة فوق طبقة بالجبال لكمال تماسكها وتراكمها، وعلوها حتى صارت كالجبال في منظرها، وما ركبت الطائرة التي تحلق ونظرت السحاب المتراكم حتى حسبته جبلا، أو جبالا، وإذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يركب طائرة تمر فوق السحاب، فيكون هذا من دلائل إعجاز القرآن، وأنه لم يكن من عند أحد من البشر، وقوله تعالى: (مِن بَرَدٍ)، أي وينزل من الجبال التي تشبهها السحاب، أي ينزل من السحاب بعض البرد الذي فيها، والبرد هو كما قال الراغب في المفردات، والبرد ما يبرد من المطر في الهواء فيصلب، وبرد السحاب اختص بالذكر، وهذا قريب مما يقوله علماء الطبيعة من أن الماء يتبخر، فيكون سحابا، ثم يتكون من السحاب قطع صلبة هي البرد.
وتقريب القول بلغة الناس، وإن كان للقرآن المثل الأعلى في البيان الذي لا يناهد، تقريبه هكذا. وينزل السحاب التي تشبه الجبال في منظرها، وتكون (من) الثانية بيانية، أو تكون تبعيضية، أي ينزل منها بعض البرد، ونحن نميل إلى أنها بيانية.
وإذا كان ينزل المطر من البرد، فإنه لَا ينزل إلا بما يشاء سبحانه: (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ)، فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ أي ينزل عليه، وعبر بـ (يصيب)، دون (ينزل)؛ لأن الإصابة قد تكون بالخير، وقد تكون بغيره، فقد يكون(10/5205)
المطرْ غيثًا فيه " كرم يغاث فيه الناس، وقد يكون غيثا مدمرا، وصرفا عمن يشاء، قد يكون سببا في القحط، وقد يكون للدمار.
ثم وصف المطر في انهماره بأن يكون فيه برق ورعد، وحيثما كان البرق فإنه يكون الرعد، وقال تعالى: (يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ)، أي أن ضياءه الخاطف يكاد (يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ)، أي يذهبها، وعبر بالباء، للدلالة على أن البريق يأخذ الأبصار مصاحبا لها، فالباء للمصاحبة.
وذكر البرق ذكر للرعد؛ لأن البرق اصطدام سحابتين إحداهما موجبة في كهربتها، والثانية سالبة في كهربتها، فإذا احتكتا تولدت الشرارة فكان البرق، ومن هنا الاحتكاك كان صوت وهو الرعد، وهذا دليل على غزارة المطر، وكثرة انهماره، ثم ذكر بعد ذلك آية أخرى فقال:(10/5206)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
(يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى قدرته وإنعامه على خلقه بالماء، بين نعمته في الليل والنهار، فقال: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) والتقلب معناه أن يجعل أحدهما في موضع قلب الآخر، وتقليب الليل والنهار يبدو في أمرين:
أولهما: في أن يكون الليل والنهار خلفة، فيكون أحدهما خلفة للآخر، فيسلخ الليل من النهار، والنهار من الليل في نظام مستمر.
ثانيهما: أن يكون النهار أطول صيفا، وأن يكون الليل أطول شتاء، في نظام مستمر لَا يتخلف، قد يفسر العلم ظواهره، ولكن لَا يستطيع تغييره ولا إنشاءه، فالعلم يحصي الوقائع، ولا يوجدها، ذلك تقدير العزيز العليم، ولذا قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) العبرة في مدلولها الخاص بمعنى الاعتبار، والمؤدى لها أن تأخذ من الحاضر المشاهد دلالة على الغائب غير المشاهد، فيأخذ المستبصر من رؤية تقلب الليل والنهار، وانتظامه بإحكام ودوامه دليلا على أن إرادة حكيمة متصرفة تفعل ذلك بتدبير وإحكام، وخص أولي الأبصار بالعبرة؛ لأنهم يدركون(10/5206)
ببصرهم ما يحسون وما يرون، ويدركون ببصيرتهم ما وراء هذا الذي يحسون به من قدرة باهرة.
* * *
الماء وأثره في الوجود
قال الله تعالى:
(وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
* * *(10/5207)
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة الماء في تشبيه أعمال الكافرين، والماء العذب في تكوينه، وذكر معه إنزاله على من يصيبه، ونعمته في صرفه عنه إن لم تكن الأرض صالحة للزرع، حتى لَا يكون غثيا (1) بدل أن يكون غيثا، فكان في هذه الآية مبينا لنعمة الماء في الحياة والأحياء بشكل عام كما قال تعالى في كتابه العزيز: (. . . وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ. . .)، وذلك يعم الحيوان والنبات، والأشجار، من كل حي، وهنا يخص الأحياء من الحيوان، فيقول عز من قائل:
________
(1) غَثْيا، غثا السَّيْلُ المَرْتَعَ: جَمَعَ بَعْضَهُ إلى بعضٍ، وأذْهَبَ حَلاوَتَهُ.(10/5208)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
(وَاللَّهُ خَلَقَ كلَّ دَابَّة مِّن مَّاء) وصدَّر الآية الكريمة بلفظ الجلالة للإشارة إلى اختصاصه بالعبادة، لأن لفظ الجلالة يتضمن معنى الألوهية، وكل ما يذكر بعد ذلك من خلقه يكون دليل ألوهيته سبحانه، فالمخلوق يدل على الخالق، وكذلك كل عبادة سامية لله جل جلاله، ودلت على الخلق يكون فيها هذا المعنى الجليل.
والدابة من دب يدب، واسم الفاعل الدابّ، وألحقت به التاء للدلالة على المبالغة، وهي تشمل الحيوان جميعا، فكل حيوان يدب على الأرض، ويسير عليها، بقدرة الله تعالى، وخلقها من الماء معناها أن الماء من الأسباب الجوهرية لحياتها بخلق الله تعالى وإرادته، والماء مصدر حياتها بإذن الله وتمكينه وجعله، لأن الماء رِيُّها، ولا يحيا الحي إلا بشربه، وغذاء الحيوان كله مما ينبت من زرع، وبغرس من أشجار فيها ثمار مختلفة، حتى الحيوانات آكلة اللحوم غذاؤها يعود إلى الماء؛ لأنها تتغذى من النبات، والحيوان كله آكلا ومأكولَا من النبات، كما قال تعالى: (يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ. . .).
فالحيوان من الماء، بل الأحياء كلها من حيوان ونبات من الماء، والفرق بين الحيوان والنبات أن النبات غذاؤه من الماء مباشرة، والحيوان يرتوي من الماء، ويأخذ غذاءه من النبات الذي كان تكوينه من الماء.
وبين سبحانه وتعالى تنوع خلقه في الحيوان لبيان عدم التفرقة في الخلق بين حيوان يمشي على بطنه زاحفا وبين حيوان على رجلين سائرا، وما يمشي على أربع،(10/5208)
فقال عز من قائل: (فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ) كالحسيات والديدان، ونحيرها من الزواحف، ومنهم من يمشي على رجلين، كالإنسان والطيور، ومنهم من يمشي على أربع كالإبل والبقر والغنم، والفيل، والذئب، والأسد والكلب، وهنا ثلاث ملاحظات:
أولاها: أن الفاء هنا للإفصاح، فهي بيان أو جواب لشرط محذوف.
الثانية: التعبير بـ (مَن)، وهي تشمل العقلاء، وغير العقلاء، وقالوا: إنها إذا كانت للعموم جاز التعبير بـ (مَنْ) عن الجميع، وذلك تعبير عن الأعظم، والأكمل حيوانية، كما يعبر عن الجمع الذي يشمل الذكور والإناث بلفظ الذكور.
ثالثها: أن من الحيوان من يكون ذا أرجل أكثر من أربع، ولم يذكر أو يُشَر إليه، والجواب عن ذلك أن ذا الأرجل الكثيرة مشير إلى أربع منها، فهو مذكور أو نقول إن الآية لم تذكر الكل، أو أشير بذكر الأربع سيرًا للاطِّراد بالزيادة فذكر أولا ما لَا رجل له، ثم ما له رجلان ثم ما له أربع، ثم بالإشارة ما له أكثر، وخصوصا أن الله تعالى ختم الآية بقوله تعالى: (يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فإن ذلك يشير إلى أنه يخلق الأكثر من أربع كما يشاء، وهو قادر على كل شيء.
وهذه كلها آيات دالة على ألوهية الله جل جلاله وحده، وإنه لَا يهتدي إلى الوحدانية مع قيام دلائلها إلا من سار على الطريق واستقام على الجادة، فيأخذه الله تعالى إلى الهداية، ولذا قال تعالى:(10/5209)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
(وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
وهداية الله تعالى تكون لمن سلك طريق الحق وأبعد نفسه عن الضلالة، ذلك أن الله تعالى أودع فطرة الإنسان فطرة الاستعداد للحق والباطل، كما قال تعالى:
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
وقال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ الئجْدَينِ)، أي نجد الحق، ونجد الباطل، فمن سار في صراط(10/5209)
الحق فإن الله تعالى يأخذه إلى نهايته، ومن سار في طريق الضلالة تركه إلى نهايتها، ولذا قال تعالى: (وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ) له الهداية إذا اختار نجد الهداية (إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيم)، أي إلى طريق مستقيم هو طريق الحق، وهو أقصر طريق للهداية؛ لأن الخط المستقيم هو أقرب خط بين نقطتين، وقال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ. . .).
* * *
النفاق وضعف الإيمان(10/5210)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
(وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
بين سبحانه وتعالى الذين استضاءوا بنور الله تعالى وأقاموا الحق في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وأشار إلى أعمال الذين كفروا، وأن ما يحسبونه خيرا منها يكون كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، وشرهم كظلمات في بحر لجي، وهنا يبين سبحانه حال الذين لَا يمس الإيمان قلوبهم، وتتردد به ألسنتهم، كالأعراب الذين قالوا آمنا ولم يؤمنوا، (قل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَان فِي قُلُوبِكُم. . .).
يؤكدون إعلانهم الإيمان بأنهم يؤمنون بالله وبالرسول، ويؤكدون ذلك بالطاعة، والضمير يعود على المنافقين وضعاف الإيمان، وإن الأمر الذي يختبر به إيمانهم هو طاعتهم لحكم الله تعالى، وهؤلاء يبادرون بإعلان الطاعة بالسنتهم، وقلوبهم غير مؤمنة، ولا خاضعة لحكمه، ولا مذعنة لأمره سبحانه، وإنهم إذ يعلنون الإيمان بالله وبالرسول، ويقولون أطعنا ثم يتولى فريق منهم غير مؤمن للحق ولا مذعن له، ولذا يقول الله تعالى فيهم: (ثُمَّ يتَوَلَّى فَرِيقٌ منْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ) يتولى أي يعرض غير مؤمن ولا مذعن، والتعبير بـ (ثُمَّ) للبعد بين ما نطقوا وحقيقتهم في ذات أنفسهم، ولذلك نفَى الله تعالى عنهم الإيمان نفيا مؤكدا، فقال: (وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين) أولئك إشارة للذين قالوا آمنا بالله وبالرسول، (ثُمَّ يَتَوَلَى فَرِيقٌ)،(10/5210)
فالإشارة إلى هذا الفريق الذي أظهر الإيمان وأبطن الكفر، نفَى سبحانه وتعالى عنهم الإيمان، وأكد النفي بالباء، لأن الإيمان يقتضي إذعان القلب وتسليم الفؤاد.(10/5211)
وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48)
(وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
هذا موضع الكشف عن ضمائرهم، وهو الخضوع لحكم الله ورسوله، وإذا دعوا إلى الله ورسوله، والدعوة إلى الله ورسوله، ليحكم بينهم، الضمير يعود عليهم، على أنه ضمير الواحد مع أنهما اثنان الله ورسوله، ولكن لوحدة حكمها، وأنه واحد، عاد الضمير عليهما بالواحد، وذلك كقوله تعالى: (من يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، مع هذا الإيمان الذي أظهروه، والطاعة التي أبدوها يفاجأون بأن فريقا منهم يعرض، فإذا الفجائية تدل على المنافرة الشديدة بين ما يعلنون من إيمان وطاعة، وبين ما يظهر من حالهم من معاندة الأحكام وعدم خضوع لها، ووصف سبحانه إعراضهم مؤكدا له بالجملة الاسمية، وتصديره بكلمة (هم)، ووصفهم بالإعراض كأنه حالهم المستمرة، ولا علاقة بين ما أعلنوا وأظهروا، وبين ما أسروا وأخفوا.
هذا إذا كان الحق عليهم، أو كان مرددا بينهم وبين غيرهم، أما إذا كان الحق لهم، ويطمعون في أن يكون حكم الشريعة لهم فإنهم يبادرون بالخضوع، ولذا قال تعالى فيهم:(10/5211)
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
إن كان الحق بحكم الشريعة لهم، يأتون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مذعنين، أي خاضعين له غير مغيرين ولا مبدلين، وكأن الأمر على هواهم إن أيدت الشريعة ما يدّعون خضعوا لها، وإن لم تؤيد ما يدّعون يتولون معرضين، فهم لَا يخضعون إلا لهواهم، وشهواتهم.
وإن الناس الآن، وقد هجروا حكم الشريعة يتنادون بها إن وافقت أهواءهم، وإن لم توافق أهواءهم أبدوا ما زين لهم من قوانين الغرب التي لم تقم على أساس(10/5211)
العدالة المجردة، بل قامت على أساس أعراف الحكام، وما يشتهى الناس، ولذا عطلت الحدود، وأضاعت حقوق الناس.
ولقد قال الله تعالى مستنكرا حالهم هذه:(10/5212)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
(أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
هذا استفهام توبيخي، وهو إنكار للواقع من أمرهم، والمرض الذي يصيب القلب إما النفاق، وإما ضعف الإيمان، فهو تشبيه للمرض النفسي من ضعف الإيمان بالحقائق وعدم الإذعان للأحكام الشرعية، بالمرض الجسمي الذي يضعف فيه الجسم، وقد تدرج سبحانه في توبيخ مَن هذا حاله فابتدأ بضعف الإيمان والنفاق، ثم ثنى في التوبيخ بأنهم واقعون في الارتياب في حقائق أصل الدين والإيمان، ثم قال سبحانه ما هو أعظم من ذلك فقال: (أَمْ يَخَافونَ أَن يَحِيفَ اللَّه عَلَيْهِمْ)، يحيف معناها يجور في الحكم، ولا يجدون العدل عند الله ورسوله، وهذا انتقال من دركة إلى دركة في التوبيخ، فوبخوا أولا بضعف الإيمان ومرض القلوب، ثم كان التوبيخ؛ لأنهم يرتابون في الحقائق الإسلامية ثم كان التوبيخ الأشد؛ لأنهم يحسبون أن الله ورسوله يجوران، فكان ذلك ترقيا في التوبيخ، حتى وصل أعلاه وهو الكفر البواح برمي الله تعالى بالظلم، وهم الظالمون، ولذا قال تعالى: (بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) " بل " للإضراب ورد ما يومئ إليه حالهم، فهم الظالمون لأنفسهم بالضلال الذي اختاروه، وهم الظالمون لأنهم اختاروا الحكم الظالم، وتجانفوا عن الحق للإثم، وقد أكد الله تعالى ظلمهم بالجملة الاسمية، وبقصرهم على الظلم، وقصر الظلم عليهم، وبكلمة (هم) ضمير الفصل المؤكدة لظلمهم.
هذا مقال المنافقين وضعفاء الإيمان، أما مقال المؤمنين، فقد ذكره بقوله تعالت كلماته:
(إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)(10/5212)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
بعد أن بين سبحانه حال المنافقين وضعاف الإيمان بين أقوال المؤمنين وأحوالهم، فقال سبحانه وتعالى عن أولئك المؤمنين: (إِنَّمَا كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) " إنما " للحصر وتدل على القصر، و " كان " هنا تدل على الدوام والاستمرار في الماضي والحاضر والقابل، و (قول) خبر كان وقوله تعالى: (أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) ويكون مؤدى الكلام السامي، إنما كان قول المؤمنين المستمر الدائم، إذا دعوا إلى الله ورسوله، أي حكم القرآن والسنة، وهو حكم الله رسوله هو قولهم (سَمِعْنَا) دعوة الله ورسوله ليحكم بيننا (وَأَطَعْنَا) قولهما، ووحد الحكم وعاد الضمير عليهما بضمير الواحد، لأن الحكم واحد، إذا أمر الله رسوله به نفذه ودعا إليه، ولا قول لهم سوى ذلك، بل قولهم مقصور عليه، وهم مقصورون عليه لَا قول لهم غيره، فلا مرض في قلوبهم، ولا امتراء في إيمانهم، ولا هوى يتحكم فيهم فيتبعون حكم الله إن صادف أهواءهم، ويعرضون عنه إن لم يصادف هذه الأهواء فهواهم هو الذي يحكمهم، لَا الحق هو الذي يحكمهم.
وقد حكم الله تعالى لهؤلاء الذين قالوا: سمعنا وأطعنا بقوله تعالى:
(وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، أي الفائزون، وقد فازوا بالحق؛ لأن الحق في ذاته قوة واطمئنان وسعادة لمن ذاقه وعرفه، وهو اطمئنان النفوس واستقرارها وفازوا عند الله تعالى برضاه وهو أكبر الفوز، وأعظمه، والإشارة إلى أولئك المتصفين بالطاعة وسماع الحق والإيمان به والإذعان له، وهنا قصر واختصاص، وذلك بتعريف الطرفين أي أولئك وحدهم هم المفلحون، ولا فلاح لسواهم، وقد أكد سبحانه فلاحهم بالقصر.
وهنا نشيبر بكلمة موجزة عن حال المسلمين بعد ضعفهم، واستخذائهم، وركوب النصارى واليهود عليهم، لقد ارتضوا القوانين الأوروبية بديلا لأحكام القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، حاسبين أن ما عند النصارى هو الخير وما عند غيرهم لا خير فيه، حتى إنه لو دعا داع إلى أحكام الله ورسوله في كتابه وسنة نبيه رموه(10/5213)
بأنه رجعي، وأنه يريد أن يعود بالأمة إلى الوراء، ويقولون تقدم الأمة أمامها لا وراءها.
وفى الحق: إننا إذا دعونا إلى تطبيق حكم القرآن والسنة، إنما ندعو إلى الحق في ذاته وإلى العدل، وإن القرآن إذ يدعوهم بالحق والعدل في ذاته الذي لَا يفرق بين الناس، تدعوهم الأمة النصرانية إلى تحكيم الأعراف من غير نظر إلى كونه عدلا أو باطلا، ويقولون بل نتبع أعراف الناس، وما أشبه هذا بقول المشركين، بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، وإننا نترك حكم القرآن وهو النور، وهو الحق وهو العدل وهو الفضيلة، وهو حبل الله الممدود إلى يوم القيامة، ونأخذ بالأحكام التي تبيح الزنى وشرب الخمر والربا والسحت، وأكل أموال الناس بالباطل، وأحكام الله هي العدل كما تشهد الفطرة، وكما يشهد الإنصاف. . . نترك الحق ونأخذ بالجبت والطاغوت. . . فهل نحن مؤمنون!!.
إنه لَا قوة لنا إلا إذا كنا عدولا فيما بيننا، ولا نكون عدولا حقا إلا إذا أقمنا كتاب الله وسنة رسوله، وتركنا وراءنا ظهريا تلك القوانين، فهي الطاغوت، وهي والفضيلة نقيضان لَا يجتمعان.
وإن حكم الله تعالى الأخذ به من تقواه، والاعتصام بالعروة الوثقى، ولذا قال تعالى:(10/5214)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) الواو عاطفة استئنافية، لبيان أن من يتقي الله ويخشاه هو الذي يفوز حقا، ونجد هذا الكلام فيه شرط وجزاء، والشرط مكون من أجزاء ثلاثة بعضها مترتب على بعض. أولها: طاعة الله ورسوله، بامتلاء القلب بالطاعة. بحيث يخضع له ظاهرا وباطنا، ويخضع قلبه مع خضوع كل جوارحه، وهذا هو الجزء الأول، أو النقطة الأولى من الخط المستقيم الذي يبتدئ بالطاعة، وامتلاء القلب، ثم ينتقل من الطاعة الخاضعة الخانعة إلى الخشية، خشية الله تعالى، إذ يعلم ذاته وصفاته، ويمتلئ بهيبته وطاعته، كما قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ. . .)،(10/5214)
ويقول الراغب الأصفهاني: والخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك على علم بما يخشى منه، وقال تعالى في صفة العلماء: (الذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهُ. . .).
وإنه يجيء بعد الخشية الخوف من الله واتقاء عذابه، ولذا قال تعالى: (وَمَن يُطِع اللَّهُ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ)، فالتقوى جعل وقاية بين الشخص وعذاب الله تعالى، قال تعالى في وصف المؤمنين،) (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ).
هذه أجزاء الشرط، أما الجزاء، فهو قوله تعالى: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) الفاء فاء الجزاء، والإشارة إلى المتصفين بهذه الصفات الجليلة، والإشارة إلى موصوف بصفات تكون الصفات سبب الجزاء)، فهذه الصفات سبب الفوز، والآيات تفيد قصر الفوز عليهم ونصرهم، وذلك لتعريف الطرفين، وقد أكد سبحانه وتعالى فوزهم بالجملة الاسمية، وبضمير الفصل (هم)، وبقصر الفوز عليهم.
* * *
استخلاف الله أهل الطاعة
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ(10/5215)
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
* * *
الجَهْد الطاقة، أو أقصى درجاتها، وجاء في مفردات الراغب الأصفهاني في تفسير آية (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ)، أي حلفوا واجتهدوا في الحلف أن يأتوا على أبلغِ ما في وسعهم، وعلى ذلك يكون معنى الجهد في قوله تعالى:(10/5216)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53)
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْد أَيْمَانِهِمْ)، أي باذلين أقصى ما وسعهم من تأكيد القول، وباذلين في اليمين أعلى درجاتها في تأكيد القول، أي لَا يتركون قولا يؤكدون به عزمهم وإرادتهم إلا سلكوه.
والضمير في " أقسموا " يعود إلى جماعات المؤمنين، ويكون بهذا يدعوهم إلى ألا يقسموا بل يعملوا ويطيعوا، وعلى ذلك يكون المعنى عاما، وإن كان يشير إلى المنافقين وضعاف الإيمان، كأنهم مقصودون بالقصد الأول، والعموم مقصود بالقصد الثاني.
وأكثر المفسرين على أن الضمير يعود إلى المنافقين ومرضى القلوب ابتداء، ويكون تحذيرا للمؤمنين بعامة من أن يكون منهم مثل هذا الذي يحلف الأيمان الفاجرة، وقد رد الله تعالى هذه الأيمان، وقال سبحانه: (قُل لَا تُقْسِمُوا) وهذا فيه إيماء إلى أنها غير صادقة، وفيه تصريح بردها زجرا لهم؛ لأنهم بهذا يرتكبون إثميْن إثم التخلف عن الجهاد، وإثم اليمين الفاجرة، وإن بدل الإثم أن يتجهوا إلى الطاعة، ولذا قال سبحانه: (طَاعَةٌ معْروفَةٌ)، أي طاعة حقيقية مشهورة معروفة(10/5216)
لا مجال لإنكارها، ولا للتردد فيها، إذ هي قاطعة؛ لأنها ثابتة بالعيان لَا بالقول مجردا، والقسم (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أي عالم علما دقيقا بمما يعملون، أي بما يستمرون عليه من عمل يتفق مع إيمانهم أو لَا يتفق، وإنه يعلم ما تبدون وما تكتمون، ولا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء.
وننبه هنا إلى أمور ثلاثة:
أولها: أن قوله تعالى: (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) فقوله: (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) هي القسم، وهي تتضمن فعل الشرط، كأنه يوهم إلى أنهم لم يؤمروا مع أن الأمر عام
يدخلون فيه إن كانوا صادقين، وهم كاذبون، كما قال الله تعالى: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)،
والحديث عنهم بالغياب، لأنه بيان لقولهم وأحوالهم.
ثانيها: الانتقال إلى الخطاب في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ لَا تُقْسِمُوا) لمواجهتهم بالأمر والتقصير والنفاق في القول، والفُجر في الأيمان.
ثالثها: أن الضمير في (وأقسموا) يعود إلى المنافقين أو إلى المسلمين عامة وفيهم المنافقون وضعاف الإيمان، ولكن لم يكن من قبل ذكر لهؤلاء إلا المؤمنين.
ونقول في الجواب عن ذلك: إن القرآن كان ينزل في وسط جماعات تدعى إلى الإيمان فلم يكن مفصولا عمن يكونون بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزوله، وقد كانت الآيات ذاتها هي التي تعين مع مواقع الضمير، ففي مكة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بالقرآن الكريم المشركين وهم الذين يعاندونه، فكانوا كأنهم حاضرون فيعود الضمير إليهم إذا كان فيه حكاية لعنادهم ومهاتراتهم، فلما انتقل إلى المدينة، فبعد غزوة بدر الكبرى ظهر النفاق، وبدت أنياب اليهود، فكانت المعاندة من المنافقين واليهود، وظهر ضعاف الإيمان الذين يعبدون الله على حرف، فكانت الآيات التي تشير إلى(10/5217)
معاندة، أو خور، أو نفاق، تعود على هؤلاء ومعاني الآيات الكريمة تعين من يعيد الضمير إليهم.
ولقد أمر الله تعالى رسوله بأمرهم بالطاعة في كل الأمور في الحرب وغيرها من الطاعات، وما تقوم عليه الجماعات فقال:(10/5218)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
(قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم ذلك؛ لأن هذا من تبليغ الرسالة، وهو وحده المبلغ، والله هو الذي يكلفه بالتبليغ، وإن الطاعة وحدها هي التي تكشف ما يختفي من نيات، وما يظهر من أمور قد تبين في لحن القول، والمنافقون يعرفون في لحن أقوالهم كما قال: (. . . وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. . .)، (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)، أي أطيعوا طاعة من صميم قلوبكم، لَا من ظاهر أقوالكم، وذكر الرسول مع الله، للإشارة إلى التلازم بينهما، وإلى أن طاعة الرسول واجبة على الأمة، لكيلا يتململ اليهود، والمنافقون من إجابة الرسول، زاعمين في نفوسهم الفاسدة الفصل بين طاعة الله وطاعة رسوله، فيعصون الرسول، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، والخطاب للمنافقين ومن في قلوبهم مرض (فَإِنْ تَوَلَّوْا) هذا فعل مضارع حذفت فيه التاء الأولى، في " تتولوا " حذفت لكيلا يثقل على اللسان توالي التاءات، أي فإن تعرضوا ولا تطيعوا وتخضعوا (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ) من تكليف بالبلاغ، والدعوة إلى الجهاد والفضيلة، والعبادة الخالصة لوجه الله، (وَعَلَيْكُم مَا حُمِّلْتُمْ) من الطاعة والاستجابة، والفاء هي الواقعة في جواب الشرط، والفاء الأولى في قوله تعالى: (فَإِن تَوَلَّوْا) تفصح عن كلام مقدر، أي إن استحببتم فقد آمنتم، وإن تتولوا فالعاقبة عليكم، ودل على هذا قوله تعالى: (فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ)، أي وهو البلاغ، أي ليس عليه إلا ما حمله وهو البلاغ، وقدم الجار والمجرور للدلالة على الاختصاص، أي عليه ما حمّل وهو التبليغ ليس عليه غيره، فهو لَا يهديكم، ولكن يرشدكم ويدعوكم، ثم قال تعالى (وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ) من(10/5218)
إجابة للتبليغ، وقيام بحق الطاعة، والإخلاص، وإن لم تقوموا بحق ما حملتم ضل سبيلكم وخاب أمرمكم، (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) أي أن السبيل لاهتدائكم، ليست الأيمان التي تحلفونها، وإنما السبيل لذلك هو أن تطيعوا بملء قلوبكم، وخضوع نفوسكم، وليس ذلك إلا ما حملتموه، وما على الرسول أن تهتدوا، إنما عليه أن يرشد، ولذلك قال عز من قائل: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)، المبين الموضح للحقائق من غير مماراة، فإن الجدل وراء الجدل ضياع، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وإن وراء الطاعة المخلصة، والجهاد أن تستخلفوا في الأرض، ولذا قال سبحانه:(10/5219)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
بعد أن هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في جهاد مستمر هو ومن معه من المؤمنين، فبين الله تعالى غاية هذا الجهاد أن يكونوا هم الذين يخلفون الكافرين في السيطرة على الأرض والسلطان عليها، وكما ملئت الأرض فسادا تُملأ إصلاحا.
كان حال المهاجرين والأنصار جهادا مستمرا، لَا توضع سيوفهم في أغمدتها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الحق بلسان الحق من غير إكراه على إسلام، فإنه لَا إكراه في الدين، ولكن كان الجهاد ليعلم الرشد من الغي، ولإزالة المحاجزات التي كان يقيمها المتحكمون في الناس، فما كانت الحرب إلا لإزالة هذه المحاجزات، ولكي يخلو الناس بوجوههم للدعوة الإسلامية، ومن اهتدى بعد ذلك فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) التعبير بالموصول للدلالة على أن الصلة سبب هذا المؤكد، والاستخلاف جعلهم خلفاء، والأرض هي أرض العرب وغيرها من أرض الفرس والروم، وما وراءها من المشارق، والمغارب، والسين والتاء(10/5219)
للطلب، وهما يفيدان تأكيدا؛ لاستخلاف لأن الطلب من الله، وهو لا يتخلف، وتنصرفان إلى التأكيد المطلق، فجعلهم خلفاء في الأرض لمن كانوا قبلهم، فخلفوهم في السيطرة على الأرض، وكمال سلطانهم.
وقوله تعالى: (لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) اللام تنبئ عن قسم مضمر في القول، فالله وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بسبب إيمانهم، وعملهم الصالح في الطاعات والمعاملات الإنسانية وعدهم سبحانه بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من بعد نوح كعاد، وغيرهم خلفاء مسيطرين على ما في الأرض، وقد أكد سبحانه وتعالى وعده بالقسم، وبنون التوكيد الثقيلة، وبالمشابهة بينهم، وبين من سبقوهم ممن جعلهم خلفاء في الأرض.
وإن ذلك تبشير للمؤمنين الذين آمنوا واتبعوا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في جهاده، وهو ماض إلى يوم القيامة، وليست الخلافة هي خلافة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنها خلافة الله في الأرض بمقتضى الفطرة الإنسانية التي قال تعالى فيها: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ. . .)، فهي السلطان في الأرض بمقتضى التمكين الإلهي.
ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما إن جاء بدعوته إلى الهدى، حتى كانت مكة كلها تقاومه بكل أنواع المقاومة، ولهاميم (1) قريش تأكيد له، ولما انتقل إلى المدينة ليدعو إلى دينه، وقد فشا ذكره في أرض العرب، اضطر للجهاد، وأخذ يشق الطريق للدعوة فكان وعد الله تعالى، وهم في هذا الجهاد، وعد الله بأن يكونوا الممكنين في الأرض، وأن يكونوا مستخلفين فيها، وذلك الوعد يتضمن أمرين أحدهما: نصر مؤزر دائما ما داموا مؤمنين عاملين الصالحات، والثاني: أن يكون لهم السلطان، وأن يكونوا المسيطرين في الأرض، وإن استخلافهم في الأرض كان معه أمور أعزتهم وأعلتهم، ذكرها سبحانه في قوله تعالى:
________
(1) اللهاميم: جمع اللُّهْمُومُ: الجَوَادُ من الناس والخيل. الصحاح للجوهري: فصل اللام.(10/5220)
(وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ) وهذا هو الأمر الأول، وهو أساس لما قبله ولما بعده، فالدين يمكن فيما بينهم، فلا يكون ثمة ما يسوغ ضعف اليقين، بل تبقى الحجة للقرآن وحده، ويدركه الناس في دعة واستقرار، ولا يوجد إيذاء ولا استخذاء ولا استهزاء، ولا تهكم على المؤمنين، ولا يستطيعون كما فعلوا من قبل (. . . وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ. . .)، والثاني بينه سبحانه وتعالى بقوله: (وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا)، أي يجعل الله تعالى من بعد الخوف المستمر من المشركين أمنا دائما مستقرا، وكان التنكير لبيان عظيم الأمن، وإنه أمن مستقر ثابت، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لَا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون " (1)، وهنا إشارة بيانية في قوله تعالى: (دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ)، أي الذي ارتضاه سبحانه واختاره لهم، ففي هذا إشارة أولا: إلى كمال نعمته عليهم بهذا الدين، وثانيا: بأنه اختاره وارتضاه لهم، وثالثا: بأنه الحق الذي لا ريب فيه.
وقال سبحانه مبينا خاصة هذا الدين الحق، وشعار الذين بدلهم سبحانه من بعد خوفهم أمنا، فقال: (يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)، أي يعبدونني وحدي في عامة أمورهم، لَا يشركون بي شيئا في عبادة ولا طاعة ولا عمل، فعبادتهم له سبحانه وطاعتهم له وحده، فلا يطيعون حاكما ويتركون طاعة الله، وإذا خيروا بين عصيان الحاكم، وعصيان الله اختاروا عصيان الحاكم، فإن استمروا على ذلك استمر لهم السلطان في الأرض.
وقوله تعالى: (وَمَن كفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، أي من كفر وخالف وعصى الله بعد التمكين والأمن والاستقرار (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، أي الخارجون الجائرون البائرون فلا يكون كفرهم مجرد جحود، بل هو الضياع لَا محالة، واعتبر
________
(1) جزء من حديث رواه البخاري: المناقب - علامات النبوة في الإسلام (3343)، أبو داود: الجهاد (2278). من رواية لخباب بن الأرت رضي الله عنه.(10/5221)
بحال المسلمين - فقد نالوا خلافة الأرض، وصار ملكهم في مشارق الأرض، ومغاربها، وصاروا المسيطرين من الصين إلى بحر الظلمات، فلما فسقوا عن أمر ربهم صاروا قوما بورا، وإنه إذا كان ضياعهم لأنهم ضلوا واتخذوا القرآن قولا مهجورا، فعودتهم إليه فيها عودة عزهم.
وهكذا قد ابتدأ نور الحق يشرق، وفجر الإسلام يملأ نوره الآفاق، والله سبحانه وتعالى هو الهادي.(10/5222)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56)
إن الطريق لإقامة الاستخلاف على أساس من العدل والاستقامة والاتصال بالله تعالى يكون بثلاثة أمور مذكورة في هذه الآية الكريمة.
الأمر الأول: إقامة الصلاة وقد أمر بها سبحانه في قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) أي صلوا صلاة مقومة تستشعر فيها جلال الله تعالى وكبرياءه، وتحس فيها أنك في حضرة الله تعالى وكأنك تراه في مثولك بين يديه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذه تربية روحية، واتصال بالله سبحانه وتعالى فيكون امرأ يألف ويؤلف.
والأمر الثاني: إيتاء الزكاة، أي إعطاؤها لولي الأمر، وهو يصرفها في مصارفها، وهذا الأمر ذكره بقوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكاةَ)، عبر سبحانه بقوله:
(وَآتُوا) دون " أدوا "، للإشارة إلى أنها عطاء يعطى، ويعطيها المزكي على أنها مغنم لا على أنها مغرم، وهي تعاون اجتماعي لَا مذلة فيه لفقير، ولا استطالة لغنى.
والأمر الثالث: طاعة الرسول في كل ما يأمر به وينهى عنه، وينظم به الدولة الإسلامية، ويقيم دعائم الحكم على أساس من العدل، وتنسيق الأمور، وهذا هو الأمر الثالث، وقد ذكره سبحانه وتعالى بقوله: (وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وطاعته في حياته باتباع أوامره في تنظيم الدولة، وتوزيع قواها كلها، بحيث يتبع في توسيد الأمور للقائمين بها، في الحرب والسلم على سواء، وبعد مماته تكون طاعته باتباع ما أثر عن سنته فهي المحجة الواضحة، والطاعة للأمير الذي ينفذ الحق والعدل، ويقيم(10/5222)
حكمه على دعائم من القرآن كأبي بكر وعمر وعثمان وعَلي، ولا يطيع الذين يخالفون الكتاب والسنة إلا في طاعة الله، حتى لَا تكون الأمور فوضى، ويضطرب ميزان الحق والعدل، وتعطل الحدود، ولا تقام الفرائض ولا تقاد الجيوش، ولا تسد الثغور، ولا يحمى الحمى.
ثم قال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، أي رجاء أن ترحموا ببقاء العزة، وألا تكونوا نهبا مقسوما بين الأمم، وألا تتداعى عليكم الأمم تداعي الأكلة على قصعتها، والرجاء هنا من الناس لَا من الله تعالى، فالله تعالى لَا يرجو، لأنه عالم الغيب وما يكنه المستقبل.
وأشار سبحانه إلى أن الذين كفروا مأواهم النار وبئس المصير، فقال عز من قائل:(10/5223)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
(لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
بين الله تعالى في الآيتين السابقتين أنه بالجهاد الدائم المستمر يكون للمؤمنين الصالحين الاستخلاف في الأرض بوعد الله المؤكد، وبإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول والأئمة العادلين من بعده، وفي هذه الآية يبين سبحانه مآل المشركين الذين يحاربون الله ورسوله والمؤمنين، وكان الفصل بين الجملتين وعدم الاتصال بالعطف لكمال الاتصال بين موضوع الآيتين، فالآيتان السابقتان فيهما بيان ما للمؤمنين من منزلة وما تحلَّوا به من طاعة للرسول، والآية الأخيرة فيها بيان المخالفة والمعاندة، وفوق ذلك الآية الأولى تبين غاية الجهاد، والثانية حال الذين يجاهدهم المؤمنون.
والنهي عن الحسبان والظن، وهو في معنى النفي، أي لَا يصح لمثلك يا رسول الحق والتوحيد أن تظن أن الذين كفروا معجزين في الأرض، بل جاهدهم وأنت الغالب، والله ناصرك، والعاقبة للمتقين الأبرار، لَا للكفار الفجار.(10/5223)
ْوالتعبير بالموصول وهو (الَّذِينَ كَفَرُوا) يشير إلى السبب في نصر المؤمنين وخذلان الكافرين، وقوله تعالى: (مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ)، أي أنهم غالبون في الأرض لَا يعجزهم شيء، فإن الكافرين يحملون في نفوسهم عوامل عجزهم؛ لأنهم تسيطر عليهم الأهواء وهم بعيدون عن الحق، فمن غالبهم يغلبهم بعون الله تعالى وتأييده، والله يؤيد من يشاء بنصر من عنده.
وإن نتيجة الحياة الدنيا لهم أن يكونوا في الآخرة في جهنم، ولذا قال تعالى: (وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) المأوى المكان الذي يأوي إليه المسافر أو العامل الكادح، فالتعبير عن النار بأنها مأوى فيه نوع من التهكم عليهم، و " بئس " لفظ يدل على الذم، والنار تذم لأنها عذاب، ولأنهم خالدون فيها، وقد أكد سبحانه الذم باللام، (وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ).
* * *
الاستئذان في دخل البيوت من الأهل
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ(10/5224)
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
* * *
ذكر اللَّه سبحانه وتعالى الاستئذان عند الدخول على بيوت غير بيوتنا فقال الله تعالى:(10/5225)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتَّى تَسْتَأنِسُوا وَتُسَلِّموا عَلَى أَهْلِهَا. . .) إلى آخر الآيات؛ ثم ذكر عفة الذين لَا يجدون نكاحا، ثم ذكر سبحانه وتعالى نور الشريعة ونور الحق، وعاد بعد ذلك إلى ما ينبغي في أدب البيوت، وفي الشئون الداخلية، فإذا كانت الآيات السابقة في بيان استئذان الذين يدخلون غير بيوتهم، فهذه الآية في بيان استئذان الذين يعيشون في دار واحدة لبعضهم من بعض، فذكر سبحانه وتعالى وجوب الاستئذان في ثلاثة أوقات، هذه الأوقات هي أوقات التجرد من الثياب وكون الناس يكونون في حال لَا يرغبون أن يراهم فيها أحد، فقال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58).
واضح من هذا أن هذه الآية وآية الاستئناس لم يردا على موضوع واحد، بل لكل واحدة موضوع؛ فالسابقة موضوعها الاستئذان للدخول في بيوت غير بيوت المستأنس، أما هذه فهي للأهل الذين يسكنون في دار واحدة، وهم مختلطون يدخل(10/5225)
بعضهم بيوت البيتوتة من غير حرج أو استئذان، فالآية تعلم الناس أدب الاختلاط، سواء أكانوا ذوي أرحام، أم لم يكونوا، فذكرت الآية الكريمة الآداب المبينة لما يحسن، وما لَا يحسن، وما يليق وما لَا يليق (لِيَسْتَأذِنكُمُ الَّذينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) ذكورا كانوا أو إناثا، فاللفظ عام (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنَكُمْ)، أي الأطفال المميزون، وذكر الذين لم يبلغوا الحلم ينبئ عن أنهم مميزون يستطيعون وصف ما يرون ويشاهدون وإذا كان هذا شأن الذين لم يبلغوا الحلم، فبالأولى لابد من استئذان من بلغوا الحلم، وقد صرحت الآية من بعد ذلك فقال تعالى:(10/5226)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
(وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأذِنُوا كمَا اسْتَأذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ).
والأوقات التي ذكرتها الآية هي الأوقات التي يظن فيها العري والتجرد من الثياب، فقال: (مِّن قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ)؛ لأنه وقت امتداد الليل وإنهائه والاستعداد للصلاة، ومظنة ذلك أن يتجرد الرجل وأهله من ثيابهما، (وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ)، أي حين تخلعون ثيابكم، من الظهيرة أي من الحرارة التي تكون في الظهيرة، فهو وقت تجرد وعرى (وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ) فهو وقت التجرد لأجل النوم، ثم قال تعالى: (ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ)، أي ثلاثة أوقات فيها تبدو عوراتكم وتكون ظاهرة، وتحبون أن تستتروا، وجعلت الأوقات عورات؛ لأن فيها تظهر هذه العورات فهي من تسمية الزمان بما فيه، فهذه الأوقات التي تكون العورات فيها مكشوفة، لَا يصح التقحم بالدخول على أصحابها من غير استئذان حتى يستتروا، ويستعدوا للقاء هذا الزائر، وأحسب أنه لو كف أهل البيت عن الدخول إلا لضرورة ملحة، ويكون معها الاستئذان لَا محالة، فإن ذلك يكون خيرا وهو الأجمل بأهل المروءة، وإنه بعد هذه الأوقات التي تكون مظنة كشف العورات (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ) لَا جناح عليكم، ولا جناح عليهم، الجناح هنا الإثم، والميل نحوه، أي لَا إثم عليكم في أن تدخلوا، ولا إثم عليهم في أن تدخلوا عليهم، وفي هذا إشارة إلى أن الإثم يلحق الذين يكشفون عوراتهم ولا يتخذون الأستار، وقاية من أن تنالها الأعين ولو كانت بريئة، وفي ذلك دعوة إلى ضرورة اتخاذ أسباب(10/5226)
الستر، ولا تكون البيوت كبيوت أهل الخنا، وقال تعالى: (بَعْدَهُنَّ)، أي بعد هذه الأوقات.
وبين سبحانه السبب في رفع الحرج في غير هذه الأوقات، فهؤلاء الذين ملكت أيمانهم، والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم يدخلون من غير استئذان؛ لأنهم طوافون مترددون في البيت، ويكون حرج شديد إذا كان الاستئذان في كل وقت، ويكون حرج على الأمهات إذا كان أطفالهن لَا يدخلون إلا باستئذان وهم غير مكلفين.
وما ملكت أيمانهم عامة: أيراد بها كل من ملكت أيمانهم رجالا ونساء. إنه بمقابلة النصوص بعضها ببعض، وتخصيص بعضها ببعض يكون المتفق مع روحها، وألفاظها، أنه لَا استئذان على الرجال مما ملكت أيمانهم من الرجال والنساء، لَا إثم في ذلك، ولا مظنة لعري، وأما بالنسبة للنساء فإنه لَا يدخل الرجال عليهن إلا بإذن، - والإماء قد رفع عنهن الإثم، لأنهن طوافات على النساء (راجع ما قلنا في تفسير آيات غض البصر) وإنه بمقتضى هذه الآيات يجب أن يكون في غير هذه الأوقات مستورا دائما ولو كان في بيته؛ لأنه إذا كان الاستئذان لمظنة ظهور العورة في الأوقات الممنوعة إلا باستئذان، فمعنى ذلك أنه لَا يصح أن يطلع على العورة إذا كشفت حتى الأطفال المميزون ما داموا لم يبلغوا الحلم، وعلى ذلك يجب ستر العورة لكي يكون الاستئذان ولا حرج.
وقال تعالى: (طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ)، بعضكم بدل من طوافون، أي بعضكم يطوف على بعض. هذه أوامر هي تعليم من الله وإرشاد، وتوجيه إلى ما ينبغي في بيوتهم، وكذلك قال تعالى: (كذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، أي كهذا البيان في ذكر ما هو لائق وما تكون عليه الأسرة يبين الله تعالى الآيات المتلوة ويوضحها لكم لتقوم الأسر على دعائم من الطهر، والمودة والرحمة، والله تعالى عليم بأحوالكم ظاهرها وباطنها، وحكيم فيما شرع ويأمر. فهو يبين لكم الأحكام، وما يليق بكل حال.(10/5227)
ْواللام في قوله تعالى (يَسْتَأذِنكُمُ) هي لام الأمر، والأمر للوجوب إلا إذا كان ثمة ما يخرجها عن معنى الوجوب من نص أو قرينة حال.
وقد نص الله تعالى على حكم الأطفال الذين بلغوا الحلم:
(وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... (59)
هذه حال الأطفال الذين يبلغون الحلم، وإنهم إذا بلغوا الحلم صاروا رجالا، وتسميتهم أطفالا باعتبار ما كان، كاليتامى في قوله تعالى: (وَآتُوا الْيَتَامى أَمْوَالَهُمْ. . .)، وكان تسميتهم أطفالا في داخل الأسرة؛ لأنهم كانوا يعاملون معاملة الأطفال، حتى طرأت هذه الحال، والرجال لَا يعدون من الطوافين، ولكن يعدون من الداخلين على البيت الذين يجب عليهم الاستئذان قبل الدخول، ولو كانوا داخلين على آبائهم وأمهاتهم، حتى أوجب النبي على الرجل أن يستأذن على أمِّه بالنص منه - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فإن الاستئذان يطلب من الرجال على كل حال، وقال الزهري المحدث: يستأذن الرجل على أمه؛ وذلك لأن الرجال ليسوا من الذين يلازمون البيت، ويكونون من الطوافين؛ لأن هذا إنما يكون للمتخصصين للبيوت لخدمتها، والقيام بواجبات كالمملوكين.
ويبين الله تعالى حال القواعد من النساء، فقال عز من قائل:(10/5228)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
(وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
القواعد جمع قاعدة بالتاء، وهي التي لَا تحيض، ولا قدرة لها على العمل، ولا تستخدم عادة في البيوت، وقال بعض اللغويين: القواعد هنا جمع قاعد من غير تاء وهي قعود الكبر، وحذفت التاء ليكون الحذف مميزًا لها عن غيرها، كما حذفت التاء في حامل في حاملة لتتميز عن الحاملة على كتفها كحاملة الحطب.
وإن الآية واردة في النساء القعود عن العمل في البيت اللاتي لَا يرجون نكاحا، أي لَا يطمعن في زواج؛ لأنهن من الكبر العاتي يجعلهن لَا يرجونه، لهذه(10/5228)
السن، ولأنهن في حال لن يقبل الناس على الزواج منهن، وهذه الأوقات التي تكشف فيها عورات غيرهن، لَا عبرة لها عندهن، ولا تعد هذه الأوقات عورات لهن، وليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن، أي يلقين عن أنفسهن ثيابهن، كالخمار ونحوه، مما يتستر به الشواب اللائي يطمع فيهن، ويرجون النكاح لأنهن في سن الزواج، وليس معنى ذلك أن للقواعد أن يتجردن من الثياب، ويكن في البيت عاريات، بل المراد أنهن يضعن بعض الثياب التي يثقل عليهن حملها، ولذا كانت قراءة ابن مسعود (أن يضعن من ثيابهن) (1) أي بعض ثيابهن، والبعضية، وإن لم تكن (من) في القراءات الأخريات ملاحظة فيها، وهي مفهومة من سياق القول.
وقد لاحظ الله تعالى في القرآن ما يكون من بعض العجزة من رغبة شديدة في الزينة ناسيات سنهن وما ينبغي لمثلهن، ولذا قال: (غَيْرَ مُتَبَرِّجَات بِزِينَةٍ) التبرج الظهور بالزينة، أي غير مظهرات الزينة، كان الإسلام تسامح معهن في الزينة، وإن لم تكن في وقتها، بيد أنه لم يرض لهن إكراما لهن بأن يظهرن بها.
وقد فرض الله فيهن الرغبة في الرجال، ولو كان وقتها قد فات، فقال: (وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ) السين والتاء للطلب، والمعنى: وأن يطلبن العفة خير لهن، وفي هذا تنبيه كريم إلى ما ينبغي لهن من غير أن يؤذي إحساسهن، وفيه تذكر بما ينبغي، وبما يليق بهن في رفق قول، وقد ختم الله تعالى الآية بقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، أي علم علما دقيقا هو علم من يسمع، وعليم، فهو محيط بكل شيء علما.
* * *
التعاون في الأسرة
قال تعالى:
________
(1) (أن يضعن من ثيابهن) ليست من العشر المتواترة.(10/5229)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا(10/5229)
مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
* * *
هذه الآية الكريمة واضحة في بيان التعاون في الأسرة في المال وما توجبه النفقات، وكأن مال الأسرة شركة بينهم، وإنها شركة يفرضها التعاون، وسد حاجة المحتاج، بحيث يعطي الغني القادر من فضل ماله ما يسد حاجة الفقير العاجز، وكأنَّه يسد حاجة نفسه، وبذلك تكون القرابة والمودة هي الرابطة بين الناس لَا النظم التي تسلب الغني ملكيته، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيب نفسه " (1)، ولا يطمع الفقير في مال لم يكسبه، فيكون أخذه إياه اغتصابا.
وهذه الآية تقرر أمرين، هما ما يؤخذ بسبب القرابة من نفقة، وما يكون إباحة من ذي مال كصديق، أو رجل فاضل أعطاه مفاتحه، وعلى ذلك نقول: إن الآية اشتملت على أمرين، أولهما: نفقة القريب، والثاني: الأخذ من مال قد أبيح
________
(1) جزء من حديث حجة الوداع كما رواه أحمد: أول مسند البصريين - حديث عم أبي حرة الرقاشي - (19774).(10/5230)
له. وشرط الأمرين أن يكون فقيرا عاجزا عن الكسب؛ ولذلك ابتدأت بذكر ما يومئ عن العجز، والفقر، وقد كان الأمر بالأخذ لَا جناح فيه ولا إثم إشارة إلى أن الإعطاء مودة ورحمة، وتبادل لها بين المعطي والآخذ، ونفي الجناح فيه إشارة إلى الاحتياج، بل الاضطرار.
قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَج حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)، أي ضيق أو إثم، وهذا فريق الفقراء العاجزين الذين يشترط فيهم مع الفقر العجز عن الكسب، ثم قال تعالى: (وَلا عَلَى أَنفسِكُمْ أَن تَأكُلُوا مِنْ بُيوتِكمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ) ولم يذكر في هذا العجز، بل ذكر مطلقا عن العجز، فهذا يدل على أن العجز ليس بشرط بالنسبة لأنفسكم، والجواب عن ذلك هو شرط بالنسبة للجميع، إلا من يعتبر ماله هو ماله كالأب وولده والأم وولدها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: " أنت ومالك لأبيك " (1)، (أَن تَاكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) ذكر البيوت مضافة إلى من يأخذ النفقة، فيه إشارة إلى تشابه بيت طالب النفقة والمطلوب منه، فهما كبيت واحد بالنسبة للمستحق للنفقة، إذ هو كبيته لما بينهما من قرابة أوجبت هذا التعاون.
(أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ) ويلاحظ هنا ملاحظتين: أولاهما: أن (أو) ليست للتخيير المجرد، إنما هي تدل على الترتيب الأقرب فالأقرب، فالأول الآباء، فإن لم يكن فالأمهات بأن كان الآباء عاجزين، وهكذا يتوالى الوجوب الأقرب فالأقرب بشرط أن يكون قادرا على الإنفاق على نفسه وغيره.
الثانية: أن هؤلاء الأقارب لوحظ أنهم أقارب ذوو رحم محرم منه تستحق النفقة، وبذلك اشترط الحنفية لاستحقاق النفقة على القريب أن يكون ذا رحم محرم منه، وعدوا الميراث مرجحا ولم يعدوه شرطا أساسيا، بحيث لو كان قريبان أحدهما
________
(1) سبق تخريجه.(10/5231)
ذو رحم محرم ووارث، يرجح على الآخر إذا كان ذا رحم محرم فقط، وإذا كان وارث كابن العم، وبنت الأخ لَا نفقة على الوارث هنا؛ لأنه ليس ذا رحم.
والحنابلة جعلوا الميراث أساس وجوب النفقة لقوله تعالى: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ. . .)، ولأن الغنم بالغرم، فإذا كان يستحق ميراثه إذا مات، فعليه نفقته إذا احتاج، وكان عاجزا.
هذه هي النفقة بين الأقارب، بقي بيان الآخذ من المال الذي يباح للعاجز، وقد ذكر سبحانه وتعالى حالين:
الأولى: (مَا مَلَكْتم مَّفَاتِحَهُ)، أي بتمكين من المالك، فإعطاؤه المفاتيح دليل على الإباحة
الثانية: الصديق، فهو يأخذ نفقة من مال صديقه.
وإن الأخذ في هاتين الحالتين لَا يكون بإلزام قضائي، إنما يكون بتبرع شخصي من المالك ذي الصلة الوثيقة، سواء أكان نائبا عنه في إدارة أمواله، أم كان صديقا بينهما خلطة تجعل المحبة بينهما مالهما مشتركا.
وقد قال تعالى في تأكيد معنى التعاون، وشركة الأسرة: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) أي تأكلون مجتمعين، أو أشتاتا جمع شت وهو التفرق، أي تأكلون جماعات وفرادى.
وإن ذلك مظنة الدخول في بيت من تكون النفقة منه، والاستئذان حينئذ واجب، ولذا قال تعالى: (فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) فالسلام هنا سلام استئذان، وقال: (عَلَى أَنفسِكَمْ)، أي أن بعضكم من بعض، فهم أنتم وأنتم هم (تَحِيَّةً) مصدر، أي يحيى بهذا السلام (تَحِيَّةً مِّن عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةَ)، وكانت (مِّنْ عِندِ اللَّهِ) لأنه أمر بها ولأنها يحفها رضا الله وبركته، وطيبهُ.(10/5232)
(كذَلِكَ يُبَيِّن اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تعْقِلُونَ)، أي كهذا البيان الواضح المبين المرشد، بين الله تعالى لكم الآيات المتلوة، أي يأتي لكم بينة واضحة هادية مرشدة (لَعَلَّكُمْ تعْقِلُونَ)، أي رجاء أن تعقلوا وتدركوا ما فيه خيركم وصلاح حالكم، وقيام جمعكم، والرجاء من العبد، أي أن الله تعالى قدم لكم ما يرجى به صلاح أموركم، واجتماع على الحق والهداية والتعاون.
* * *
الإيمان الحق
قال تعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
* * *(10/5233)
ابتدأت السورة الكريمة بقوله تعالى: (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَات لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) وأنزل سبحانه وتعالى ما يكون وقاية للأسر، من عقوبات للزناة، والذين يرمون المحصنات الأطهار، ويريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وبينت أمرأ أهم المسلمين جميعا، وهو حديث الإفك، ثم تكلمت في نور الإيمان وظلمات الكفر، ثم تكلمت على عورات الأسرة في داخلها وحماية آحادها، وانتقلت السورة من حماية الأسرة إلى حماية الجماعة المؤمنة، وحمايتها بطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيًّا، وطاعة الإمام العادل الذي يخلفه بشورى المؤمنين، واختبارهم من بعده، فقال تعالى:(10/5234)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ).
(إِنَّمَا) هنا أداة قصر، أي أن المؤمنين حقا وصدقا وحدهم دون غيرهم هم الذين يؤمنون بالله ورسوله، إيمان إذعان وتسليم، لَا إسلام تردد أو تمرد، كضعاف الإيمان المنافقين الذين في قلوبهم مرض النفاق وهو أشد أمراض القلوب، بل إنه داؤها الدوي، وأن يكون في حال تظلهم، ولا يخرجون عنها، وهذه الحال التي عبر عنها سبحانه بقوله (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ).
أي إذا كانوا مع الرسول على أمر جامع لهم كشورى في مصلحتهم المؤمنين، أو دفع ضرر يعمهم إن وقع، أو مداهمة عدو يغير عليهم، أو الخروج لغزوات اضطرت الأحوال للخروج إليها كغزوة تبوك أو نحو ذلك، يجتمعون حوله لمبادلة النظر، ثم يذهبون إليه مجتمعين على كلمة الحق وأمر الرسول، وقد عبر الله تعالى عن ذلك بقوله: (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأذِنُوهُ)، فإن هذا الكلام يتضمن اجتماعهم، كأنه مطوى كلمة اجتمعوا، ويكون سياق الكلام، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى: وإذا كانوا معه على أمر جامع ودعاهم اجتمعوا له، ولم يذهبوا حتى يستأذنوه، أي يدخلون في الأمر الجامع مجتمعين غير متفرقين، وقوله تعالى:(10/5234)
(لَمْ يَذْهَبُوا) " لَمْ " لنفي الماضي، وهذا دليل على أنهم اجتمعوا معه، فهو عطف نفي في الماضي على اجتماع قبله.
وما حدود الأمر الجامع؛ حاول أن يضبطه القرطبي فقال نقلا من بعض الأقوال:
المراد به ما للإمام من حاجة إلى جمع الناس لإذاعة مصلحة من إقامة سنة في الدين، أو لترهيب عدو باجتماعهم، وللحروب، قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ. . .)، فإذا كان أمر يشملهم نفعه وضره جمعهم للتشاور في ذلك (1).
وخلاصة هذا القول والأقوال التي ساقها من بعد أن يكون أمرا عاما يجمعهم ليتشاور فيه معهم، إذ يكون له أثر في الناس من بعد، ولعلاج حال قائمة، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك كما شاورهم في غزوة أحد، وفي غزوة الخندق وكما جمعهم لغزوة تبوك.
وكان خلفاؤه كذلك من بعده، فجمعهم أبو بكر لمقاومة الردة، وجمعهم عمر لتقسيم الأراضي بين الغزاة، أو بقائها تحت يد ولي الأمر العادل، وكما جمعهم لاستشارتهم في خروجه بشخصه إلى الحرب، إذ تكاثر الفرس على المؤمنين، فأرادوا أن يخرج إليهم، فجمعهم، ونهاه عليّ، وبرأيه أخذ المجتمعون رضي الله عنهم أجمعين، وإن الاستئذان لَا ينقص الإيمان، ولذا قال: (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) الفاء للإفصاح (لِبَعْضِ شَأنِهِمْ) بعض أحوالهم الخاصة بهم التي يجدون حرجا عليهم في أن يذهبوا مع الغزاة أو يستمروا مع المجتمعين لأمر ما: (فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) الفاء واقعة في جواب (لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) ولا يشاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والإمام العادل من بعده إلا ما هو خير ومصلحة، فيكون الإذن لمن لا يضر الإذن له، ولمن يعلم حاجته إلى التخلف، ولمن يعلم صدقه، ومن يأذن له يطلب الغفران له، ولذا قال تعالى: (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ) السين والتاء للطلب أي اطلب
________
(1) الجامع لأحكام القرآن: 12/ 320.(10/5235)
المغفرة لهم، وظاهر النص أن طلب الغفران لمن أذن لهم، وذلك يومئ إلى أنه كان الأولى بقاؤهم مع المجتمعين على أمر يصح أن نقول: إن طلب الغفران لهم جميعا، ليكونوا جميعا في رحمة الله تعالى، وقد ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى؛ (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ) غفور يغفر الذنوب جميعا مع التوبة النصوح، فهو التواب الذي يقبل من عباده التوبة، وهو رحيم، والرحمة صفة من صفاته جل وعز، رحمهم بما بين لهم من شرائع منظمة لجموعهم، وحاكمة بينهم، ورحيم بغفرانه لما يجترحون من سيئات، ويتوبون بعد من قريب.
وقد بين الله سبحانه أدب الاجتماع مع الرسول في الأمر الجامع، فقال عز من قائل:(10/5236)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
(لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
هذه الآية لبيان الحال الذي يجتمع فيه المؤمنون في (أَمْرٍ جَامِعٍ)، وصفه الزمخشري بقوله " أنه خطب جليل لابد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه من ذوي رأي وقوة يظاهرونه عليه، ويعاونونه، ويستضيء بآرائهم ومعارفهم، وتجاربهم في كفايته، (1).
وإنه في هذا الاجتماع يجب أن تلاحظ مكانة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يخاطب كما يخاطب أي شخص، والدعاء: النداء، وهو من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي لا تنادوا الرسول كما ينادي بعضكم بعضا، واعرفوا حق الاجتماع من أدب القول، واجتماع القلوب، فلا ينفر أحدكم، ولا يتجانف، واعرفوا حق الاجتماع.
ثم قال تعالى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلونَ مِنكُمْ لِوَاذًا) " قد " للتحقيق، و " قد " لَا تستعمل في القرآن إلا للتحقيق، ولا تستعمل للتقليل ولا التكثير، وخصوصا بالنسبة لعلم الله تعالى، (يَتَسَلَّلونَ)، معناها يخرجون متدرجين في الخروج واحدا بعد آخر، فهم يخرجون قليلا (لِوَاذًا)، أي يلوذ بعضهم ببعض،
________
(1) الكشاف للزمحشرى: 3/ 78.(10/5236)
حتى يتكاثر جمعهم، وأولئك هم المنافقون الذين يشق عليهم اجتماع المؤمنين، ويشتد غيظهم، كلما رأوهم يتبادلون الأمر فيما بينهم، ولذلك كان أشق الأيام عليهم يوم الجمعة، إذ يجتمع المؤمنون في المسجد يتشاورون في أمورهم الحاضرة والقابلة.
ثم قال تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) الفاء للإفصاح، وهي تومئ إلى شرط مقدر، واللام للأمر، والأمر بالحذر يوجب العمل على الوقاية من شر المخالفة، والضمير في (أَمْرِهِ) يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمعنى ليحذر الذين يخالفون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صادين عن أمره (أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) الفتنة هي اضطراب وانحلال الجماعة وتفرقها، والعذاب الأليم هو عذاب يوم القيامة، فمخالفة الرسول في الأمر الجامع تؤدى إما إلى فتنة مردية، ولا يكون ذلك في حياة الرسول، بل يحتمل أن يكون في الأئمة من بعده كما كانت الفتنة في عهد الإمام عثمان، والإمام على رضي الله عنهما، وانفلت الأمر إلى معاوية فكان ملكا عضوضا.
والعذاب الأليم للمنافقين الذين يفرقون في الجماعة، ويشيعون عدم الثقة والفساد، يستقبلهم يوم القيامة كما يستقبل كل الكفار، مع ملاحظة أن النفاق ذاته عذاب لذوي النفوس المدركة، لأن المنافق يكون مضطربا دائما بين ما يخفيه وما يظهره، وما يناله، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - في بيان حال المنافق: " مثل المنافق كمثل الشاة الحائرة بين غنمين لَا تدري إلى أيهما تذهب " وهذا عذاب نفسي أليم.
لقد ذكرهم سبحانه بسلطانه في السماوات والأرض، وأن المآل إليه فقال:(10/5237)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
(أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
أكد الله سبحانه وتعالى ملكيته لكل ما في السماوات من نجوم وكواكب، وبروج مشيدة، وغيرها، وما في الأرض من إنس وجن، وجبال ووهاد، وما في باطنها من معادن جامدة وسائلة، وفلزات، وما فيها من بحار، فيها أحياء تثير العجب من إبداع الخلق والتكوين.(10/5237)
ْوكان الله تعالى يملكها ملكية مطلقة؛ لأنه خالقها، ومبدعها، وهو يعلم كل ما خلق (أَلا يَعْلَمُ مَن خَلَقَ. . .).
(قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ) " قد " للتحقيق والتأكيد كما هي في القرآن دائما، وهذا فيه تبشير وترهيب، فهو يعلم ما أنتم عليه من خير وشر، وما تعتزمون، وما تعلنون به، فلا تخفى عليه خافية من أموركم، وهو مجازيكم بما يعلم وما تعملون.
(وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا).
الفاء في قوله تعالى كفاء جواب الشرط، وكفاء الصلة، ويوم يرجعون ينبئهم التنبيء والإخبار بالشئون الخطيرة، وأي خطر أعظم من حساب يوم القيامة عما عملوا في الدنيا وجزائهم عليه من نعيم أو جحيم.
والتنبيء بما عملوا، جعله حاضرا بين أيديهم، ويجزون عليه جزاء وفاقا، وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءعَلِيمٌ) لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
* * *(10/5238)
(سُورَةُ الْفُرْقَانِ)
تمهيد
هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات هي أرقام 68، 69، 70، وعدد آياتها سبع وسبعون آية.
سميت سورة الفرقان؛ لأنها ابتدأت بذكر تنزيل القرآن على عبده، فقال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)، ووصف ذاته العلية بأنه الذي له ملك السماوات والأرض، ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا، ثم ذكر شرك المشركين الذين اتخذوا مع اللَّه آلهة لا يَخْلُقون، وهم يُخْلَقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا، ولا موتا، ولا حياة، ولا نشورا، وأنكروا القرآن الكريم مع عجزهم عن أن يأتوا بمثله، وقالوا: (إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5).
ورد اللَّه سبحانه وتعالى بقوله: (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)، وتحدثوا في جدلهم بالنبي وأنكروا أن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - من البشر: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8).
وقد رد سبحانه افتراءاتهم فقال: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9).(10/5239)
بعد ذلك بين اللَّه سبحانه وتعالى قدرته بالنسبة لرسوله، فقال: (تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)، ويقال حينئذ (لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14).
وقد وازنت الآيات الكريمات بين نعيم المتقين، وعذاب الكافرين:
(قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16).
ثم ذكر سبحانه وتعالى حالهم يوم: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19).
وقد بين سبحانه وتعالى أن المرسلين جميعا كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق فقال عز من قائل: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20).
وقد ذكر سبحانه أنهم كانوا يريدون ملائكة: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22).
وقد بين سبحانه أن أعمالهم باطلة فقال: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
وقد ذكرهم سبحانه بما يكون يوم البعث، (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25).(10/5240)
وإنه بعد البعث السلطان ظاهرا وباطنا للَّه تعالى وحده: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29).
بعد ذلك ذكر اللَّه سبحانه وتعالى موقف الرسول من هؤلاء الكافرين (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) ويبين سبحانه أنه يجعل لكل نبي عدوا من المجرمين: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31).
ولقد كان المشركون لَا يؤمنون بالقرآن، ولكنهم يثيرون الشكوك حوله (وَقَالَ الَّذِينَ كَفرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) وقد بين أن ذلك لتثبيته في القلوب، ولإنزاله مرتلا، وتحفيظه مرتلا، ولذا قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33).
وقد ذكر سبحانه أوصافهم عند الحشر (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34).
وقد أشار سبحانه إلى بعض قصص موسى وهارون: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36).
وذكر سبحانه من قصة نوح، وإغراق الكافرين من قومه، وقال (وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)، وقد بين سبحانه بعدُ أنهم أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء، أفلم يكونوا يرونها، بل كانوا لا يرجون نشورا، وبين سبحانه سوء معاملة المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ(10/5241)
صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42).
ولقد ذكر سبحانه أن دينهم أهواءهم، فقال (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44).
وبين اللَّه تعالى من بعد مظاهر الإبداع في خلقه وتكوينه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) وبين اللَّه تعالى إنذاره لخلقه (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)، ثم بين سبحانه الإبداعِ في خلقه (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)، ثم أشار سبحانه إلى الإبداع في تناسل الإنسان، وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا.
ومع هذا الإحكام في الخلق، والإبداع فيه (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55).
وبين سبحانه مقام محمد - صلى الله عليه وسلم - في الرسالة وواجبه فقال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62).
ووصف سبحانه بعد ذلك عباد الرحمن، (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى(10/5242)
الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74).
وقد بين اللَّه جزاء منِ يتصفون بهذه الصفات (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77).
* * *(10/5243)
معاني السورة
قال تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
* * *(10/5244)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1)
(تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ) أصل (تَبَارَكَ) من البرك وهو صدر البعير، ثم صارت البركة تطلق على كل خير ملازم ثابت، ومنه البِركة بكسر الباء تطلق على الماء الثابت، والماء في ذاته بركة وخير.
وتبارك - معناها التنبيه على ما في القرآن من خير لازم مستمر، لَا تبلى جدته أبدا، فالبركة في القرآن، ونسبتها إلى اللَّه تعالى لأنه مصدرها، وموجدها، فاللَّه تعالى تسامت بركته بإنزال القرآن لعباده، وتعريفهم بما اشتمل عليه من بيان العقائد والأحكام.(10/5244)
و (عَبْدِهِ) هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، فاللَّه تعالت كلماته أنزل القرآن على عبده، ليبلغه لعباده من العالمين، وليكون نذيرا، أي منذرا مبينا، وهو بشير ونذير، ولكن ذكر النذير فقط لأن كثرة الذين تلقوه كانوا مستحقين للعذاب، إذا استمروا في غيهم وضلالهم، ولذلك ذكر الإنذار، وترك التبشير للآيات الأخرى من غير إهمال فهو الجانب الأحب في ذاته.
والفرقان هو القرآن، وسمي الفرقان لأنه فارق بين الحق والباطل، والهداية والضلال، والعدل والظلم؛ ولأنه نزل مفرقا منجما، كما قال تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ. .)، وذكر الزمخشري أن القرآن سمي فرقانا لتفرقته بين الحق والباطل، أو لأنه نزل مفرقا، وأرى أنه لَا مانع من الجمع ففيه الأمران فهو مبين للحق والشريعة، وقد نزل مفرقا، فهما ليسا وجهين مختلفين، بل فيه الأمران.
و (العالمون) العقلاء من الجن والإنس المكلفون أحكامه، والمطالبون بتنفيذها.
وبعد أن أشار سبحانه إلى بركته وخيره، ونمائه، شرّفه بمُنْزله، وهو اللَّه خالق السماوات والأرض فقال:(10/5245)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
هذا شرف للقرآن ناله، من أن منزله هو منشئ هذا الكون الذي لَا يشبه أحدا من الحوادث، ولا يشبهه شيء في الوجود، (الَذي) بدل أو عطف بيان للذي الأولى في قوله تعالى: (الَّذِي نَزَّلَ الْفرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكونَ) وذكر هذا بعد ذكر إنزال القرآن للدلالة أولا على شرف القرآن بإضافته إلى من له الملك في السماوات والأرض، ويبين أن إنزال القرآن من تدبير صاحب الملك لملكه، لإصلاح عباده وإرشادهم به.(10/5245)
والملك هو السلطان وهو مطلق للَّه تعالى لَا سلطان لغيره، وهو قَيّم السماوات والأرض، فالنجوم لَا تسير إلا بسلطانه، وكل ما فيها من شمس وقمر، ونجوم مسخرات بأمره وحده، وكذلك الأرضون، كل ما فيها من جبال ووهاد وبحار ونجاد وحيوان وجماد ومعادن وفلزات وغيرها كله مسخر بأمره.
وصف اللَّه سبحانه ذاته العلية بصفتين سلبيتين، وصفة إيجابية تدل على إثبات السلب، الأولى قوله تعالى: (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا)، وذلك رد على النصارى الذين ادعوا أن عيسى ابن اللَّه، وعلى الهنود والبوذيين الذين أخذ منهم النصارى هذه النحلة، وعلى الذين يعبدون الملائكة، ويقولون إنهم بنات اللَّه تعالى.
وقوله تعالى: (وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) أي لم يجعل له من بين خلقه مَن يتخذه عونا ونصيرا، والنفي بهذه الصفة يحمل في نفسه بطلان الاتخاذ، لأن الاتخاذ يدل على الحاجة، واللَّه تعالى لَا يحتاج لأحد من خلقه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15).
الصفة السلبية الثانية قوله تعالى: (وَلَمْ يَكُن لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) هذا نفي مطلق، لأنه لو كان له شريك في الملك ما استقام الكون، كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22).
الصفة الثالثة وهي الإيجابية، وتتضمن في معناها برهان السلب في السلبيتين، وقد بينها سبحانه بقوله تعالى (وَخَلَقَ كلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)، أي أنشأ كل شيء إنشاء مقدرا بإحكام، هو تقدير العزيز العليم، فالسماء ذات بروج، والمطر ينزل فينبت الزرع، والحيوان يكل مما تنبت الأرض، وهكذا يسير الكون بقدرة اللَّه العلي القدير، وتتفاعل الأشياء بعضها من بعض بإِرادة اللَّه تعالى العزيز الحكيم.
ومع هذا تضل العقول في معرفة اللَّه تعالى، وفي الخضوع له وفي عبادته، فقال:(10/5246)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
ومع أن اللَّه الذي خلق السماوات والأرض وصاحب السلطان المطلق، وخلق كل شيء فقدره تقديرا فَجَرَ المشركون وجحدوا واتخذوا من دونه، من غيره ما هو دون في ذاته آلهة، وسميت الأحجار آلهة على زعمهم لأنهم يعبدونها من دون اللَّه سبحانه وتعالى. والضمير في (وَاتَّخَذوا) يعود على المشركين، لأنهم حاضرون في مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومعنى اتخذوا من دونه آلهة أنهم آثروا على عبادة اللَّه عبادة آلهة عاجزة، وهذا الاتخاذ إفك مبين كقوله تعالى: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا).
فالحجارة ليست آلهة، ولكنهم خلقوا إفكا فسموها آلهة، وقد خلقوا إفكا من ناحية تسميتها آلهة، وهم يصنعونها بأيديهم، فتكون الصناعة على أنها آلهة إفك، وانتحال اسم الآلهة لها إفك أيضًا.
وقابل سبحانه بين الهداية والضلال، فالهداية عبادة اللَّه، والضلال عبادة هذه الأحجار، فذكر أن اللَّه خالق وأن هذه الآلهة لَا تخلق شيئا، وهي في ذاتها مخلوقة، فقال: (لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) وأعاد الضمير عليها بضمير ما يفعل مسايرة للذين يعبدونها افتراء على أنفسهم وفوق أن هذه الأحجار مخلوقة لَا تملك ضرا ولا نفعا، فهي لَا قدرة لها على شيء ضار أو نافع، وعبَّادها أقدر منها، وبين سبحانه وتعالى أنها على حال جامدة مستمرة لَا تحيي ولَا تميت، ولا تبعث ولا تنشر، فهي خالية من أي صفة من صفات الإله المعبود، وقال سبحانه: (وَلا يَمْلِكونَ موْتا ولا حَيَاةً وَلا نشورًا) إن هذه الآلهة لَا تستطيِع دفع ضرر، ولا جلب نفع، ولذا قال سبحانه وتعالى في وصفها (وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا).
قال سبحانه: (وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا) ولم يقل لَا تميت(10/5247)
ولا تحيي ولا تبعث؛ للإشارة إلى أنها ليست ميتة ولا حية في نفسها، ولا تبعث ولا تنشر، فهي لَا تملك الحياة لنفسها، فلا تملكها لغيرها، فهي جامدة ليست لها حياة، ولا تحيي، وهي لَا تسمى ميتة؛ لأن الموت إنما يكون لحي، ولا تملك نشورا، فلا تنشر؛ لأن البعث والنشور للأحياء الذين يحاسبون، ويلقون في الجحيم، أو يجزون بالنعيم.
هذه حال المشركين في عبادتهم وأوهامهم، وقد جاءهم القرآن بالبركة الروحية والنماء المعنوي فهل اهتدوا بهديه!(10/5248)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
وقد أظهر هنا، ولم يذكر الضمير مجردا كالآية السابقة؛ لبيان أن الصلة هي السبب في هذا القول، فالقرآن لم يكن إفكا في ذاته، فقد تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا وببعضه فعجزوا، وبأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، وحصروه في الإفك فلم يقولوا: إفك بل يحصرونه في الإفك في قولهم (إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) (إنْ) هنا نافية فهنا نفي وإيجاب، أي ما هذا إلا إفك افتراه، أي كذب قصد إلى افترائه، وقد أوغلوا في الادعاء البهات الكذب فقالوا: (وَأَعَانَه عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) والقوم الآخرون هم ناس كانوا من الروم بمكة، وقد قال تعالى في رد كلامهم: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)، وقد وصف اللَّه تعالى فعلهم بقوله: (فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا) (جاءوا) بمعنى أتوا، فيقال جئت المكان وأتيته، الفاء للإفصاح، أي فقد أتوا ظلما بهذا القول، لأنه كفر وشرك -، (. . إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، (وزورا) أي كذب يبهت السامع لأنه غريب في أنه لَا أصل له، وقد نكَر - ظلما وزورا - للإشارة إلى عظمة هذا، وكبر هذا الزور، إذ إنه غير معقول في ذاته بالنسبة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - إذ عاش بينهم أربعين سنة قبل الرسالة، واشتهر بالصدق والأمانة، حتى كان الأمين، وقد قال تعالى حكاية.(10/5248)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
(وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
الضمير يعود إلى المشركين الذين اتخذوا مع اللَّه آلهة أخرى، لأنهم حاضرون في ذهن أهل الإيمان دائما بجدالهم المستمر، وعنادهم وملاحاتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) جمع أسطورة، كما قال الزجاج، وهو أخبار السابقين التي تذكر عنهم في السمر والمجالس، وليس لها أصل صحيح، إنما تكون لتزجية الفراغ، وهذا فيه سخرية بالقرآن واستهانة به، وبث الاستهانة عند القارئين له والسامعين (اكتَتَبَهَا) هذه صيغة الافتعال من الكتابة، أي كتبها وجوَّد كتابتها، وهذا كلام يحتمله معنى اكتتبها، وقيل إن معناها أنه طلب كتابتها من غيره، لأنه أمي لَا يقرأ ولا يكتب (فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ)، أي تلقى عليه ليكتبها، أو يقرؤها عليه من يكتبها، وأصل تملى تملل قلبت اللام الثانية ياء، وعلى أي حال يملل ويملى بمعنى واحد، وهما مترادفان.
وهؤلاء الكافرون لفرط استهانتهم افتروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمور:
أولها - أنه إفك مفترى، وقد ذكره سبحانه في الآية السابقة.
والثانية - أنه أساطير الأولين، وأحاديثهم المفتراة.
والثالثة - أنها تملى عليه فيكتبها، أو تملى على النبي - صلى الله عليه وسلم - إملاء، فيحفظها.
وقبل أن ننتهي من القول في هذه الآية نقول: إن الراغب الأصفهاني في مفرداته قال: إن اكتتب تكون لكتابة ما هو مختلق لَا أصل له، فتكون في كلمة اكتتب اتهام رابع بالافتراء والاختلاق، ومعنى بكرة وأصيلا، أي في الغدوة والأصيل، أي أنه يملى عليه طول النهار في أوله وآخره، والأصيل ما يكون قبل الغروب، وبعد الظهيرة.
وقد أمر اللَّه تعالى بأن يرد قولهم بقوله:
(قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)(10/5249)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان الرد الذي أمر الله تعالى به نبيه ليس مجاراة لهم، ولكنه بيان لافترائهم بإثبات نقيض الافتراء، وهو أن الذي أنزله على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو اللَّه الذي يعلم السر في السماوات والأرض، وهذا دليل إيجابي يثبت نقيض ما يفترون من ثلاثة وجوه.
أولها - أن الذي يعلم السر في السماوات والأرض يعلم ما خفي، وما خلق وما أنشأ، وليس بغريب عليه أن ينزل قرآنا كريما فيه الدليل القاطع على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإن السر الذي في السماوات والأرض في خلق كل منهما وارتباط كل واحدة بالأخرى، وما يربط النجوم بعضها ببعض من جاذبية شديدة تجعلها بناء واحدا، وإمساك اللَّه تعالى للسماوات أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكها أحد من بعده.
ثانيها - أن من يعلم سر السماوات والأرض يستلزم أنه أوجدها، ومن أوجد السماوات والأرض ليس بغريب عليه أن ينزل قرآنا هو دليل رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومعجزته الكبرى.
ثالثها - أن الذي يعلم السر في السماوات والأرض يعلم كل شيء، فهو الذي يعلم نبيه القرآن، ولا يحتاج إلى من يملى عليه بكرة وأصيلا.
وننبه هنا إلى أمرين: أولهما - الدليل الذي يدل على أن اللَّه تعالى هو الذي أنزله، هو العجز بعد التحدي الشامخ.
الأمر الثاني - أن اللَّه تعالى الذي يعلم السر في السماوات والأرض فقال المفسرون: إنه ذكر السر، ومن يعلم السر يعلم بالأولى الظاهر البين، وذلك كلام حسن في ذاته، ولكن بدر إلينا أن معرفة السر في السماوات معناه السر في ارتباط أجزائها، وبنائها من غير عمد، وذلك وحده دليل القدرة الباهرة، وإشارة إلى التكوين العجيب في صنعه، وختم اللَّه تعالى الآية بفتح باب التوبة فقال: (إِنَهُ كَانَ غَفُورًا رّحِيمًا)، أي أنه سبحانه وتعالى يغفر للتائبين ويرحمهم.
* * *(10/5250)
الرسول من البشر
قال تعالى:
(وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
* * *
الضمير في (قالوا) يعود إلى المشركين وهم حاضرون يعاندون ويفتح على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان ضلالهم أن ظنوا أو توهموا أن النبي لَا يكون بشرا، وإن كان بشرا يكون من أعلاهم مادة وسلطانا، وهم أو من يحوطون بهم، ويلوذون بملاذهم.
قالوا مستغربين:(10/5251)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7)
(وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأكلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ) والمعنى: أي شأن لهذا الرسول يؤهله لمكانة الرسالة من اللَّه حال أنه يأكل الطعام كما نأكل، فليس ملكا من الملائكة، بل هو بشر يأكل الطعام، وليس ملكا تصل إليه حاجاته بخدمه وعبيده، بل إنه يعيش باحثا عن رزقه وحاجته ككل الناس، فلا امتياز له على أحد، فكيف يكون رسولا.(10/5251)
(لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ)، أى هلا أُنزل منضما إليه ملك (فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا)، الفاء فاء السببية التي ينصب الفعل بعدها، ومعنى السياق هلا ضم إليه
وأنزل من عند اللَّه ملك، فيكون معه منذرا.(10/5252)
أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
(أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)
تدرجوا في الادعاء من أعلى إلى أدنى فاشترطوا لاتباعه أن يكون منضما إليه ملك ليكون معه نذيرا، فيكون الملك شاهدا بصدق الرسالة، ومن قبل طلبوا أن يكون معه قرطاس، أو أن يكون الرسول ملكا، وقد رد اللَّه تعالى كلامهم، وأنهم لَا يؤمنون ويقولون هذا سحر مبين، (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ).
وقد نزلوا عن اشتراط أن يكون معه ملك إلى أمر آخر يمنع أن يمشي في الأسواق بأن يغنيه عن ذلك شأن الكبراء، بأن يلقى إليه، أي يعطى كنزا يغنيه، وصر عن إعطاء الكنز بكلمة يلقى إليه للإشارة إلى أن هذا العطاء لَا يكلف من أرسله شيئا؛ لأنه إلقاء من خزائن اللَّه تعالى، وقد كانوا يعرفون اللَّه ولا يعبدونه، فيعرفون أن معه خزائن السماوات والأرض، ويكون بهذا الكنز كملوك أهل الأرض فلا ينزل إلى الأسواق كما ينزل دهماء الناس والفقراء.
وتنزلوا من مرتبة الملوك إلى مرتبة أتباعها وحواشيهم، الذين يمنحهم الملك الحدائق والمزارع، فقالوا: (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا)، أي بستان يغنيه بثماره وغلاته، فيأكل منها بدل أن ينزل الأسواق.
وإن هذا بلا ريب نظرات ناس ماديين لَا يؤمنون بالروح، ولا بالمعاني الإنسانية العالية، إنما يؤمنون بالمادة وحدها، والعلو عندهم بالسيطرة الممكنة من لذائذ هذه الحياة، إما بملك قاهر، أو بمتع يلقيها إليهم ملوك قاهرون.
ولكنهم يرون في محمد - صلى الله عليه وسلم - ما ليس عند الملوك وحواشيهم، يرون القرآن(10/5252)
الذي عجزوا عن أن يأتوا بمثله، ورأوا أتباع محمد ينمون ولا ينقصون، ورأوا ميل بعض كفارهم إلى سماع القرآن وما يدعو إليه محمد - صلى الله عليه وسلم -.
رأوا ذلك، ولم يستطيعوا دفعه، ولكن بدل أن يذعنوا للحق إذ تبين لهم، ادعو أن ما يجيء به هو السحر، فظلموا ظلما كبيرا.
(وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا).
هنا إظهار في موضع إضمار، وذلك لوصفهم بالظلم أولا، ولبيان ظلمهم وعدم إرادتهم الحق هو الذي رفعهم إلى رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسحر، وهو يتكلم عن اللَّه تعالى: (إِنْ تَتَّبِعونَ) إن هنا نافية، أي لَا تتبعون إلا رَجُلًا مَّسْحُورًا، أي ينطق على لسانه الحق، وهذا يومئ إلى أنهم رأوا عجائب فبدل أن يقولوا إنها من عند الله قالوا: إنه مسحور ينطق على لسانه الجن والشياطين.
وفى الآية الكريمة إشارة إلى أنه كان من أهل مكة من يريدون اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد اتبعه من اتبعه.(10/5253)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، و (ضَرَبُوا) معناها بينوا، والأمثال هي الأحوال المتشابهة في زعم القائل، أن انظر كيف حاولوا أي تكون الرسالة مع ملك من السماء يكون ردءا للرسول في إنذاره، ثم كيف حاولوا أن يجعلوه كالملك الذي تجري كنوز الأرض تحت يديه، أو كحواشي الملوك الذين يقطنون الإقطاعات الواسعة، حاولوا عقد المشابهة بين هذه الأحوال والرسالة، وهذه أمور دنيوية تنأى عن معنى الرسالة، ولذا قال تعالى: (فَضَلُّوا) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي بسبب زعمهم هذه المشابهات ضلوا وبعدوا عن الحق وأوغلوا فشبهوا رسالة اللَّه برسالة الناس، وأنه يكون معها شاهد من قبل المرسل، كملك، وشبهوا الرسول بالملك الغني أو حاشيته، وكل هذه تشبيهات باطلة في أصل موضوعها وفى أوصاف الموضوع، فليس الله كأحد من خلقه، إنما معجزته هي الشاهد،(10/5253)
وليس النبي ملكا أو حاشية لملك، فضلوا بسبب تلك الأمثال، ومن ضل في الطريق يسير في ضلاله إلى أقصى مداه، ولذا قال سبحانه: (فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا) الفاء عاطفة، أي أنه يتبع هذا الضلال أن صاروا في عماية من أمرهم لا يستطيعون الهداية، ولا يستطيعون معرفة سبيل للنجاة من الضلالة التي أوقعوا فيها أنفسهم بعمايتهم وجهالتهم، وذلك لما أصابهم من غشاوة، وضلال وحيرة في الطرق.
وقد رد اللَّه تعالى عليهم أن أخذوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فقير يمشي في
الأسواق، فقال:(10/5254)
تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
(تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
تبارك أي تكاثرت وتسامت بركة اللَّه تعالى على أوليائه وعلى المرسلين من عباده، وعلى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين (إِن شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِّن ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)
علقه سبحانه وتعالى على مشيئته التي تكون على مقتضى حكمته، جعل لك خيرا مما يتباهون به، وينتقضون رسالتك، لأنها لم تكن ذات كنوز، ولا حدائق، و (خيرا) مفعول، و (جناتٍ) بدل من خير، وبادر النص بالخيرية لإثبات أن الله تعالى قادر على إعطاء محمد - صلى الله عليه وسلم - ما هو أعظم زينة، والخيرية هنا هي خير المظهر، والنعيم الدنيوي، وأما ما هو خير عند اللَّه تعالى جزاء معنويا وماديا فإنه في الآخرة.
(وَيَجْعَلْ لَكَ) معطوف على (جَعَلَ) والجزم على محل جَعَل، لأن (جَعَلَ) جواب الشرط فمحله الجزم، فيكون العطف عطف مجزوم على مجزوم، والقصور هي مساكن عطاء الدنيا التي يتباهى بجمالها، ومتانة بنيانها، وزخارفها، وطنافسها.
ولكن الله تعالى لم يشأ لأنبيائه زخارف الحياة، ولكن اختار لهم مشقة الحياة(10/5254)
وأن يعيشوا على الكفاف، لأنه حيث كان القِل من العيش كان الإخلاص والاتجاه الكامل إلى اللَّه تعالى، لَا يشغله عنه شاغل من متع هذه الحياة، ولقد كان محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما روي عنه يقول: " اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين "، ولأن الأنبياء قادة الخليقة إلى الله تعالى، فيجب أن يكونوا قريبين من أضعف الناس لَا يتجافون عنهم في مظهر، ولا عرض من أعراض الدنيا، ولأنهم يتجهون إلى معالى الأمور، ولا يتجهون إلى سفسافها.
* * *
إن تكذيب الساعة أوجد الضلال
قال تعالى:
(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
* * *(10/5255)
بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11)
(بَلْ كَذَّبوا بِالسَّاعَةِ)، بل للإضراب الانتقالي الذي يكون بانتقال الكلام من مقام إلى مقام، فكان الكلام في بيان تكذيبهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وادعائهم على القرآن أنه إفك افتراه الرسول، وقولهم إنا نريد ملكا معه يكون ردءا له، وإنه لَا يعيش عيشة الملوك وحاشيتهم، فانتقل إلى سبب ذلك كله، وهو كفرهم بالساعة، ذلك(10/5255)
أن كفرهم بالبعث والنشور هو سبب ضلالهم؛ لأنهم لم يؤمنوا بالبعث، ولم يؤمنوا بالغيب، فكانت حياتهم كلها مادية، لَا رجاء بعدها، فكان منهم الإيمان بالمادة وحدها.
والساعة هي يوم القيامة، وسميت الساعة؛ لأنها يكون فيها الفصل بين الحق والباطل، والحساب الكامل والجزاء الوفاق للعمل، بجنة النعيم، أو بنار الجحيم، وكل ذلك في ساعة، وهي الساعة الكاملة لكثرة ما يكون من أحداث تتعلق بمصير البشرية، وهي ساعة الفصل، فالألف واللام تدل على الكمال، أي أنها الساعة الجديرة بأن تسمى الساعة.
(وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا)، أي هيأنا للذين كذبوا بالساعة نارا ملتهبة كبيرة، تشتد في لهيبها تفزع وترعب من رآها، ويحترق بها من يدخلها، وأعتدنا معناها أعددنا وهيأنا، وكررت الساعة وكان الإظهار في موضع الإضمار أولا للإفزاع والنكير على من أنكر الساعة وكذب الخبر بها، ولبيان أن السبب في السعير هو التكذيب، لأنه كفر في ذاته، ولأنه أدى إلى الجحود المستمر.
وقد وصف اللَّه سبحانه هول السعير، وشدتها، فقال:(10/5256)
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
(إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
معنى (إِذَا رَأَتْهُم) على ما يقول المفسرون، وإذا كانت على مرأى منهم كأنها تراهم ويرونها، من مكان بعيد، أي وكانت الرؤية من مكان ليس بالقريب، ولكنها بعيد بالنسبة للرؤية وللسمع (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا)، أي هياجا شديدا يكاد مع البعد لهولها، والتغيظ وهو بدو الغيظ الشديد، والهياج العنيف الذي يتقلص الوجه له، والزفير تردد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه.
وإني أرى أن السعير شبهت بالإنسان الذي يرمى ويتغيظ ويزفر، ويحس ويشعر، إذا رأى شخصا يريد عقابه، فإنه يتغيظ ويزفر، والمعنى أن السعير تستعد وتتهيا هائجة، لمجيء العصاة إليها، ويسمعون ما يشبه التغيظ والزفير من مكان بعيد.(10/5256)
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)
(وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13)
وإذا ألقوا في النار، في مكان ضيق منها حال كونهم مقرنين، أي قد قُرئت أيديهم إلى أعناقهم مصفدين، ووصف المكان بالضيق فيه إشارة إلى الشدة، لأن الضيق يقترن بالشدة، والسعة تقترن بالفرح، و (أُلْقُوا) تفيد أنهم لم يدخلوا مختارين بل ألقوا فيها إلقاء كما تلقى الأشياء، وألقوا وهم مصفدون في الأغلال ليس لهم حركة إرادية قط و (مِنْهَا) أي من النار، و (مَكَانًا) ظرف، منصوب لـ (أُلْقُوا)، أي ألقوا في مكان ضيق من النار قد غلت أيديهم إلى أعناقهم، وهم في هذه الشديدة المرهقة، يتمنون الموت بدلها، لأن الموت إنقاذ لهم (دَعَوْا هنَالِكَ ثُبُورًا) (هُنَالِكَ) إشارة إلى البعيد، وفيه إثبات شدة ما هم فيه، والإشارة للبعيد، فقد نادوا ثبورا، أي هلاكا، أي نادوه، لأن هذا وقته، إذ بلغت الشدة قواها، فكان الهلاك إنقاذا لهم مما هم فيه، أو نادوه تحسرا على أنفسهم وعلى ما فرطوا وأساءوا، وقد بين اللَّه تعالى أن هذا الثبور الذي نادوه لاجئين إليه من عظيم الإحساس بالآلام أو متحرين مما نزل بهم، ليس ثبورا واحدا، بل هو هلاك متتال، لا قصور فيه، فقال تعالى:(10/5257)
لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
(لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
النهي عن أن يدعوا وينادوا ثبورا واحدا ينقذهم من آلامهم، أو يتحسرون به لما هم فيه، بل هو ثبور متوال عليهم وقتا بعد آخر؛ لأن أسبابه قائمة مستمرة باستمرار حالهم وهي إلقاؤهم في مكان ضيق، يلقى بضيقه وعذابه ووضع الأصفاد التي تجمع أيديهم إلى أعناقهم، فتستمر دعوة الثبور ونداؤهم ما داموا في جهنم، وهي خالدة إذ هم فيها خالدون، وكلما نضجت جلودهم بدلهم اللَّه تعالى جلودا غيرها ليذوقوا العذاب المستمر.
هذه حالهم، وهي حال هلاك مستمر ينادونه ويطلبونها تحسرا، أو إنقاذا مما هم فيه، فهي حياة هلاك متجدد آنًا بعد آنٍ، وقد ذكر سبحانه بعد ذلك حال المتقين بعد الساعة.(10/5257)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)
(قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، طلب إليه ربه تعالى بعد أن ذكر لهم ما أعده اللَّه تعالى للذين لَا يؤمنون بالبعث ويشركون بربهم، أن يبين لهم ما أعده للمتقين الأبرار الذين يؤمنون بالبعث مقابلا بينه وبين ما أعد للمشركين، فقال: أذلك السعير الذي أعد لهم، والذي ينادون فيه بالهلاك حسرة وندما خير في مآله ونهايته، أم جنة الخلد والنقاء التي أعدها للمتقين الأبرار، والمعادلة من حيث إن كلا مستعد هيأ اللَّه له ما يستحقه، فهم يستطيعون أن ينالوا الجنة إن اتقوا، كما ينال الذين أنكروا البعث ما يلقون من جهنم وسعير.
وإن الجنة استحقوها جزاء لأعمالهم، وهي مصيرهم ومآلهم الذي كان لهم نهاية، وغاية المتقين الأطهار.(10/5258)
لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
(لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
الضمير في لهم يعود إلى المتقين (مَا يَشَاءُونَ)، أي ما يحبون ويريدون من ملاذ، ومن متع أعلى مما في هذه الحياة، ففيها كل ما يحبون؛ ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت، وإن الإحساس بالقدرة على تحقيق كل رغباتهم من نعمة هو في ذاته نعمة، مع ما يتضمن من نعم أخرى ينالها، فالملاذ نعمة، والقدرة المستمرة عليها نعمة أخرى، نعمة التمكين، وهناك نعمة ثالثة تحف بهم، وهي نعمة الخلود والدوام، فهي نعم غير مقطوعة، ولا ممنوعة ساعة من زمان، وقد أكد سبحانه وتعالى وعده بها، وأنه سبحانه كتبها على نفسه بقوله: (كانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَّسْئُولًا)، أي كان ذلك الوعد الذي كتبه على نفسه مسئولا، أي حقيقا بأن يسأله ويطلب فضلا من ربك ورحمة، فقد ألزم نفسه به، ولم يلذ به غيره، تعالى اللَّه عن ذلك علوا كبيرا، فهو قد كتبه على ذاته العلية.
والتعبير بقوله تعالى: (كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا) يشير إلى أنه من فضل الربوبية ورحمة المنعم القادر على كل شيء، فالمسئولية ليست مسئولية إلزام، إنما(10/5258)
هي مسئولية إنعام نسألها، كقوله تعالى كما أمرنا (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ. .)، وكما يسأل الملائكة لعباد اللَّه المؤمنين فيقولون: (رَبَّنَا
وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَتِي وَعَدتَّهُمْ. .).
* * *
حشر الكافرين وما يعبدون
قال تعالى:
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
* * *
الكلام السامي في قوله تعالى:(10/5259)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
(وَيَوْمَ يَحْشرهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ. . .) الغيبة؛ لأنه حديث عن جلال اللَّه تعالى وعظمته وما يكون يوم القيامة من خطاب له سبحانه، وبذاته العلية لمن يشاء أن يكلمهم، وهم الأبرار الذين يسعدهم رب(10/5259)
البرية بكلامه معهم، ونظره سبحانه إليهم نظرة تقريب، وإيناس، وما لَا يشاء لا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، وما يجري يوم القيامة في هذا الحديث هو للذين ينكرون البعث ويشكون، فكانوا غير جديرين لأن يخاطبهم بذاته العلية لأنهم لَا يكلمهم ولا ينظر إليهم، فناسب ذلك ضمير الغياب، وهناك قراءة بضمير المتكلم إلقاء للهيبة في نفوسهم، وليس خطابهم إلا للوم والتأنيب، ويجوز أن يكون الخطاب من الملائكة ونسب إليه سبحانه، لأنه هو الذي أمر، والذين يعبدون يشمل العقلاء الذين عبدوهم كالملائكة، وعيسى وعزير، وكرشنة في البرهمية، وبوذا في البوذية، كما يشمل الأوثان والنار، وغيرهما مما لَا يعقل.
وقد اتجه القول يوم القيامة إلى المعبودين في الدنيا من العقلاء وغيرهم، اتجه القول إليهم: (فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ)، الفاء للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، والسياق هكذا، وإذا حشروا وما يعبدون يقول لهم. . .، والسؤال ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء، والإشارة تعود إلى الذين عبدوا غير اللَّه من يهود، ونصارى ووثنيين ورومان وعرب، هذا الشطر الأول من المعادلة، والشطر الثاني أم هم ضلوا السبيل، والسؤال أهؤلاء الذين عبدوكم أنتم أضللتموهم بالدعوة إلى عبادتكم، أم هم ضلوا الطريق الموصل إلى الحق بالأوهام التي غشت عقولهم والشهوات التي أفسدت نفوسهم، والمتع الدنيوية التي ألهتهم.
ولقد أجاب المعبود بنفي الإضلال عنهم.(10/5260)
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
(قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
غلب في القول العقلاء على غيرهم، وقيل: أنطق اللَّه الأحجار فنطقت كما نطق العقلاء، وليس ذلك بمعجز على قدرة اللَّه العلي الحكيم، ومهما يكن فقد نطق المعبودون جلهم أو كلهم، قائلين: (مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ) وفي قوله تعالى: (نَتَّخِذَ مِن دُونِكَ) قراءتان إحداهما نتخذ بالفعل المبني(10/5260)
للفاعل، وقراءة بضم النون الأولى بالبناء لغير الفاعل، ويكون المعنى على القراءة الأولى، ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من غيرك أولياء ونصراء، وإذا كان ذلك لا يسوغ لنا، فبالأولى لَا نسوِّغه لغيرنا، وكان تدل على الكينونة، أي ما كنا بوجودنا إلا عبادا لَا يكون لنا أن نتخذ أولياء غيرك فلا يجوز أن ندعو أحدا إليه.
وعلى القراءة الثانية بالبناء للمفعول ما كان ينبغي لنا أن نرضى بأن نتخذ أولياء ونصراء غيرك، وذلك كقول عيسى - عليه السلام - عندما يسأله ربه يوم القيامة (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116).
وقوله تعالى: (مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ) من الأولى معناها من غيرك، وهو دونك مكانة ومقاما، ومن الثانية تدل على الاستغراق، أي ولي نصير معبود فهي لاستغراق النفي وتأكيده.
وإنه يجيء على لسان المعبودين ما هو الحق في ذاته: (وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا)، أي أن المتعة التي متعتهم بها من سلطان وجاه، وإعطائهم المال والأولاد، والسيطرة والتمكن كما مكنت لفرعون وأشباهه، وإن المتع والأهواء والشهوات تغشى النفس بفساد من الضلال ينسون به ذكر الله، ويتركون ما هو حق في ذاته إلى ما تمليه الأهواء والأوهام فأنستهم ذكر اللَّه، وألهتهم، وصاروا قوما بورا، البور وصف لأولئك الذين ضلوا، فهم بائرون قد انحلوا من كل وثاق لأهل الإيمان، وأصل بار معناها كسد، ومن ذلك قوله تعالى (. . . تِجَارَةً لًن تَبُورَ)، والشيء الكاسد يفسد، وهؤلاء قد فسدوا بكلامهم الذي لَا أصل له، ولا دعامة يقوم عليها أو أي دليل إلا الوهم والهوى.
وقد بين سبحانه في خطابه لهم بعد كلام ما عبدوهم.(10/5261)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
(فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
قوله تعالى: (بِمَا تَقولونَ) فيها قراءتان إحداهما بالياء (يقولون) والثانية بالتاء وهي المشهورة وهي قراءة الأكثرين والمعنى على القراءة الأولى فقد كذبكم من كنتم تعبدونهم، بما يقولون من أنه ما كان ينبغي لهم أن يتخذوا من دونه من أولياء وإن ذلك ظاهر، وعلى القراءة الثانية، وهي قراءة الجمهور يكون الخطاب ابتداء للكفار، والباء بمعنى في، وتجيء كثيرا بمعنى في ويكون توجيه القول، فقد كذبوكم فيما تقولون وتعبدون به الأوثان، وتحسبون أن لكم نصرة من الذين تعبدونهم، إذا مَحَلَ بكم الدليل وشهد عليكم ما تعبدونهم، فقد تقرر العذاب عليكم، وأن تؤخذوا به أخذ عزيز مقتدر، ولذا قال مرتبا على تكذيب هؤلاء (فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا)، أي لَا تملكون صرف العذاب عنكم ولا نصرا من أحد ينصركم، لأنكم أيها الكفار قد خذلكم من كنتم تعبدونهم، وبينوا بطلان قولكم، ولا نصر من أحد، إذا كنتم ترجون النصرة منهم، وبقيتم وحدكم من غير ناصر ولا عاذر، وتقرر العقاب العتيد عليكم، ولذا قال تعالى: (وَمَن يَظْلِم مِّنكمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كبِيرًا) ومن يظلم، أي يشرك، ويفتن الناس عن دينهم، وصد عن سبيل اللَّه تعالى، وقد أفردتم عن النصير والمعين (نُذِقْهُ عَذَابًا كبِيرًا)، أي عظيما لا يحد مقداره، ولا يعلم شدته إلا علام الغيوب، والتنكير لبيان هوله، وأنه لا يقادر بقدر، ولا يغيا بغاية يعلمها البشر.
وقد عاد القرآن الكريم إلى رد قولهم مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، فقال عز من قائل:(10/5262)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
هذا بيان أن الرسل لَا يكونون إلا من البشر، وذلك ليستطيعوا أن يرشدوهم(10/5262)
ويوجهوهم، ويهديهم اللَّه تعالى بهم، ولا يمكن أن يكون ملكا، لأنه ليس من جنسهم، ولا يمكن أن يكون قدوة؛ لأن المقتدي يكون من جنس المقتدَى؛ لتتم القدوة، ولا يكون هنالك ما يكون للقدوة من خواص يختص بها، ولأن الرسول يدعو بعمله، ويتبع في أعماله، فلابد أن يكون من البشر ليتبع في أعماله، ولأن الناس قد يحال بينهم وبين مواجهته بمحاجزات من الملوك والرؤساء، فلا بد من رفع المحاجزات ليخلو وجه الناس لهم.
لا بد أن يكون الرسل من البشر، وإنهم يدعون الضعفاء والأقوياء، ولا يتبعهم ابتداء إلا الضعفاء، ولتمام الدعوة وسلامتها، لَا بد أن يعيشوا كما يعيش الضعفاء، فلا يكونون ملوكا أو من حواشي الملوك، وإذا كان بعض الأنبياء ذكر بالملك كداود وسليمان، فقد كانوا ملوكا في سلطانهم الحق، ولكن في عيشهم كانوا يعيشون كالضعفاء، فداود - عليه السلام - كان يأكل من عمل يده، ولعل ابنه سليمان لم يكن من الملوك الذين يستقلون في معيشتهم عن رعيتهم ومن المؤكد أنه لم يكن ملكا مستعليا على رعيته، ولا يعيش عيش ضعفائهم.
(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) من هنا بيانية، والمعنى ما أرسلنا قبلك من المرسلين (إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ)، إنهم لَيَأكُلُونَ الطعام إلى آخره جملة حالية (إِلَّا إِنَّهُمْ) في حال يأكلون فيها الطعام أي ما أرسلناهم إلا والحال التي تحيط بهم أنهم يأكلون الطعام، فتلك حالهم، وبعض النحويين يقررون أن في الكلام محذوفا (هذه صفته) فذكرت الصفة مغنية عن الموصوف المقدر، ويكون سياق القول، وما أرسلنا إلا رسلا إنهم ليأكلون، وأرى أن عد الجملة حالية أولى بالأخذ، لأن ما لَا يحتاج لتقدير أولى.
والخطاب في قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْض فِتْنَةً) للناس أجمعين، والفتنة أصلها ما يفتن به الفلز، ليخرج منه الذي يعلق به، وأطلق على ما تفتن به النفوس من جاه ومال ونفر، وعلو في الأرض، ومعنى (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتنَةً)، جعل الأقوياء فتنة للضعفاء بإيذائهم، والكافرين فتنة للرسل بعنادهم،(10/5263)
والأغنياء فتنة للفقراء باستعلائهم، والضعفاء فتنة للأقوياء بسبقهم إلى الإيمان والحق، وتأخرهم، وهكذا كل من أعطى خيرا دنيويا أو أخرويا يكون فتنة لمن لم يكن مثله، وإن الواجب للمفتون هو الصبر، والواجب على أهل الحق من الأنبياء والصديقين أن يصبروا؛ ولذا قال تعالى: (أَتَصْبِرُونَ) والصبر في الفتنة هو السبيل لاجتياز المحنة والخروج منها مؤمنا خالصا، فالاستفهام هو للتوجيه للصبر، والتحريض، ويلاحظ أن اللَّه تعالى أكد أن الرسل يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق بالجملة الاسمية، وبـ إن المؤكدة، وباللام في خبرها (لَيَأكُلُونَ).
(وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا) كان دالة على الدوام، وأن الناس تحت رقابة اللَّه دائما، يعلم بحال الصابرين والتمكين منهم علم السميع الذي يسمع، والبصير الذي يبصر، ويكافئ كُلًّا بحسب حاله التي علمها اللَّه تعالى إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فليعملوا عمل ما يرى ويسمع، واللَّه بكل شيء محيط.
* * *
إنكار البعث والتهديد به
قال تعالى:
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
* * *(10/5264)
الكلام موصول في بيان أحوال المشركين، وتعلاتهم في كفرهم بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ومعجزاته وخصوصا القرآن الذي هو أعظم المعجزات التي جاء بها الرسل، وهو المعجزة الباقية التي تتحدى الأجيال أن يأتوا بمثلها إلى يوم القيامة، وفي هذه الآية(10/5265)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
(وَقَالَ الَّذِينَ لَا يرْجُونَ لِقَاءَنَا. . .) يشير سبحانه إلى السبب في كفرِهم وجحودهم بكل شيء، وهو أنهم لَا يرجون لقاء اللَّه تعالى فقال سبحانه: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21).
لا يرجون لقاءنا، أي ينكرون لقاء اللَّه تعالى ولا يؤمنون، وأن لهم هذه الحياة التي يعيشونها في الدنيا، ولا يؤمنون بغيرها، وعبر سبحانه عن عدم إيمانهم باليوم الآخر ولقائه بقوله: (لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)، أي لَا يطمعون ولا يأملون في لقائنا، للإشارة إلى أن الإيمان باليوم الآخر فيه رجاء الخير، فمن يؤمن به يرجو الخير، لأنه يعلم أن هناك جزاء، وأن أعماله ليست هباء، فإذا كان متعبا في هذه شقيا فيها، كان رجاء العوض يوم البعث، فينال الخير بدل الحياة الشاقة التي يعيشها، فالمؤمن له رجاء، والكافر بالبعث حاسر، وأضاف اللقاء إليه سبحانه؛ لأنه مفرج الكروب، والمجازي سبحانه بالخير خيرا، وبالشر شرا، وفيه إيناس بأن من يرجو لقاء الله، إنما يرجو لقاء السند القوي، ومن يكفر به، يعدم ذلك السند الذي لَا يعتمد عليه غيره، سبحانه عظمت آلاؤه، والتعبير بالموصول: (الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) فيه إشارة إلى أن السبب في لجاجتهم في الكفر وإنكارهم للمعجزات، وعدم تعقلهم للحقائق هو أنهم لَا يرجون لقاء الله، ولو رجوا لقاء اللَّه، لعملوا حساب هذا اللقاء واهتدوا بدل الكفران.
(لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا).
لولا للتحريض، أي هلا أنزل علينا الملائكة، يخبرون برسالة اللَّه تعالى لهم، ولا يجيئنا واحد منا يأكل مما نأكل ويمشي في الأسواق كما نمشي، فهذا تحريض على أن يكون ملائكة، أو نرى ربنا، أو تقول لولا - حرف شرط امتناع أي(10/5265)
امتنع إيماننا لأنه لَا تنزل ملائكة أو لم نر ربنا، والأظهر أنها للتمني، أي نطلب متمنين أن ينزل علينا ملائكة أو نرى ربنا، وهذا مؤدى الحض، فهم يتمنون متعللين بهذه الأمنية الباطلة لتبرير كفرهم.
ومعنى قولهم ومؤداه أننا لَا نؤمن بانك رسول، ولو كان اللَّه يرسل رسولا لأرسله من الملائكة، ولماذا لَا يخاطبنا، وهكذا سار المشركون على ما سار اليهود من قبلهم، فقد قالوا لموسى - عليه السلام - لن نؤمن لك حتى نرى اللَّه، إن هذا الذي طلبوه يتضمن في ذات نفسه خروجا بهم عن طورهم الإنساني؛ لأن الرسول يجب أن يكون من جنس من أرسل إليهم، فهم بطلبهم هذا كطلب بني إسرائيل من قبل قد تعدوا الحدود، ولذا قال تعالى بعد ذلك (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا) السين والتاء للطلب، أي طلبوا الكبر في ذات أنفسهم وتعدوا حدودهم، وحسبوا بكبرهم الذي طلبوه أنهم فوق البشرية، وألفوا الظلم، والنّبوّ عن الحق، والخروج من دائرته، ولا سبيل إلى رجعتهم، وقد أكد اللَّه سبحانه وتعالى استكبارهم عن الحق وبعدهم بـ اللام وبـ قد، وبوصف بعد عن الحق كبير وضلال بعيد، قد أوغلوا فيه وإذا كانوا يريدون أن يروا الملائكة فسيرونهم، ولكن لَا على أنهم مبشرون ومنذرون، ورسلا في الدنيا من قبل رب العالمين، ولكن يرون مبشرين بدخول الجنة فعلا يوم القيامة، أو ملقين لهم ولأشباههم في الجحيم، ولذا قال تعالى:(10/5266)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
(يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
أي أنهم سيرون الملائكة غير نازلين لهم في الدنيا، فالرسالة من البشر، كما هي سنة اللَّه في دعوة الخلق إلى الهداية، وكما كان شأن الرسل من قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى مخاطبا نبيه (. . . قل مَا كنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ. . .)، فهم يطلبون محالا في الدنيا، وستنزل إليهم الملائكة فيرونهم عيانا، ويكون عذاب منهم إليهم، ولذا قال تعالى (لا بُشْرَى يَوْمَئِذ لِلْمُجْرِمِينَ) هذه عبارة(10/5266)
سامية فيها تهديد للمجرمين الذين أجرموا في جنب اللَّه تعالى، وفيها تبشير للمؤمنين.
فهذه الجملة السامية مع إيجازها المعجز، فيها تبشير وفيها ذكر لعذاب المجرمين، فالمجرمون لَا بشرى لهم بدخول جنة النعيم، إذ هم محرومون منها، وفيها - بالمفهوم - بشرى لغير المجرمين، ففيها جزاء المؤمنين بالنعيم المقيم وحرمان المجرمين منه، وهذا أدنى الجزاء، وهو عقوبة سلبية، والعقوبة الإيجابية وهي دخولهم في الجحيم بدل بشرى النعيم، فهي مذكورة في آيات كثيرة، وأشير إلى بشرى المؤمنين، لأنهم يرجون لقاء ربهم، فكانوا صفوفا في منازل الأبرار.
(وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا) الضمير في (يَقُولُونَ) يصح أن يعود على الملائكة، ويصح أن يعود إلى المجرمين، والحجر معناه المكان الحجور الممتنع كنقض بمعنى منقوض، ومن ذلك حجر إبراهيم، فهو مكان ممنوع، ووصفه بالمحجور تصريح بما تضمنه اللفظ، وتأكيد لمعنى المنع على غير المؤمنين.
وتخريج القول على أن الضمير يعود على الملائكة ويكون المعنى أن الملائكة يقولون لَا بشرى يومئذ للمجرمين، أي البشرى بالجنة تكون لغير المجرمين مقصورا ما يبشر به على المؤمنين، فأنتم معشر المجرمين ممنوعون منه محرومون.
وإذا كان الضمير في يقولون يعود إلى المجرمين يكون المعنى أنهم أدركوا أنه لا نصيب لهم بالبشرى في الجنة، ليقولوا متحسرين نادمين مكبوتين (حِجْرًا مَّحْجُورًا) أى مكان ممنوع علينا منعًا مؤكدا.
وإن المجرمين يكونون قد أحسنوا في الدنيا بأن فعلوا أحيانا ما توجبه المروءة والنجدة، ولكن لأنهم فقدوا الهيئة المحتسبة المخلصة للَّه تعالى لَا يكافئون عليها لأن الأعمال بالنيات، ولذا قال تعالى:(10/5267)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
2 - الهباء ذرات التراب الرقيقة التي لَا تبدو إلا في ضوء الشمس المنبثق من(10/5267)
كوة مفتوحة، وقد روي عن علي كرم اللَّه وجهه أن الهباء المنثور هو شعاع الشمس الذي يبدو من الكوة، ويراد بالهباء ذرات التراب التي لَا تظهر إلا في الضوء الساطع من الكوة لدقته، والمنثور معناه الفرق في الهواء وكأنَّه لَا وجود له، أو لا يُحس بالبصر متميزا عن غيره.
وقوله تعالى: (وَقَدِمْنَا)، أي عمدنا إلى ما عملوا من عمل يرونه برا يكافئون عليه، فجعلناه كالهباء المفرق في الهواء لَا يرى؛ ذلك لأن البر إنما يكون مع النية المحتسبة عند اللَّه، وهؤلاء ليست لهم نية محتسبة لأنهم لَا يعبدون اللَّه، بل يعبدون الأوثان، ولا يرجون سواها، فهم آثمون بعملهم لفساد نياتهم. هذه حال المشركين فيما يعملون من أعمال يحسبون أن فيها خيرا، وهي ضلال في ضلال لفساد النية، أما الذين لهم البشرَى فهم أصحاب الجنة.(10/5268)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
(أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
أصحاب الجنة هم المتقون كقوله تعالى (أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) وعبر سبحانه عن المتقين بأنهم أصحاب الجنة، أي الذين اختصوا بها ويلازمونها، كما اختصت بملازمتهم، وأفعل التفضيل ليس على بابه لأنه لَا خير لغيرهم يفاضلون به بينهم وبين أهل الجنة، إنما المعنى الظاهر أن أصحاب الجنة أتاهم في الاستقرار والبقاء خير لَا يقادر قدره، ولا علو لغيره، ولا يعلوه شيء في الوجود، والمقيل اسم مكان من قال يقيل، أي أنه استراح في القيلولة، وأفعل التفضيل على غير بابه، أي أن لهم استراحة في وقت القيلولة، ليس هناك ما يماثلها في حسنها وراحتها، وعبر عن راحة الجنة باستراحة وقت القيلولة؛ لأن الراحة في هذا الوقت تكون متعة في ذاتها، وقد شبهت راحة الجنة بهذه الراحة لحسنها، ومتعتها؛ ولأن الجنة مقابلة بالنار، فكانت كأنها الراحة في وسط القيلولة، أي أن المجرمين في وقت راحة الجنة واستمتاعهم يكونون في ستار من الجحيم، وعذاب الخلد.(10/5268)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
(وَيَوْمَ تَشقَّقُ) معطوفة على قوله تعالى: (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ) أي في هذا اليوم الذي تنزل الملائكة ويرونها، وهي تعويل لهم، يكون معه يوم آخر، وهو يوم تشقق السماء بالغمام، تشقق أصلها تتشقق حذفت إحدى التاءين تخفيفا، كقوله تعالى: (تَلَظَّى) والباء هنا للملاصقة أو الظرفية، أي تشقق السماء بتشقق الغمام، وهذا كناية عن أن السماء تضطرب، وتتقطع أجزاؤها، وهذا كقوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ)، وكقوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)، والمعنى إذا اضطرب الكون بما فيه ومن فيه يكون يوم البعث، وفي هذه الحال تنزل الملائكة فوجا بعد فوج للحساب وتقرير المصير إلى النعيم أو الجحيم، ولذا قال تعالى: (وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا) والتنزيل النزول فريقا بعد فريق، أي أنه لَا يكون حساب واحد، بل حساب بعد حساب، ومن شدد عليه الحساب عذب، وهذه الآية في معناها كقوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ. .).
وإن هذه الآية وأشباهها في سموها ومعانيها تهديد بيوم البعث الذي أنكروه، وإنه يوم يضطرب فيه الكون، ويكون فيه الهول، وإن السلطان حينئذ يكون للَّه تعالى وحده، ولذا قال عز من قائل:(10/5269)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26)
(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ)، أي السلطان الكامل، ودل على الكمال بـ (ال) الدال على كمال الاستغراق كأنه لَا ملك غيره، ولا يسمى ملكا سواه، ووصفه سبحانه وتعالى بأنه الحق، أي الثابت الذي لَا يتخلف حكمه، ولا يكون لغيره أبدا.
وهذا الملك الثابت الكامل (لِلرَّحْمَنِ) جلت رحمته، ووصف اللَّه تعالى هنا بصفة الرحمن مع أن ذلك اليوم شديد عسير على الكافرين، كما سيذكر(10/5269)
سبحانه (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا) لأن حكم اللَّه سيكون شديد الحمل عسيرا عليهم، وصف الله تعالى بالرحمة؛ للإشارة إلى أنه سيكون رحيما بالمؤمنين؛ عسيرا على الكافرين، فرحمته في ظاهر العبارة خاصة بالمؤمنين، وأما الكافرين فسيكون عسيرا عليهم، ولعل الأصوب أن نقول: إنه في بشراه بالجنة للمؤمنين، والعذاب العسير للكافرين، وهو الرحيم؛ لأن الرحمة الحقيقية تقتضي تعذيب الكافرين، وإثابة المتقين؛ لأن موجب الرحمة ألا يتساوى المسيء مع المحسن، ولا الأعمى مع البصير، وألا يستوي الذين لَا يعلمون والذين يعلمون.
* * *
حال المشركين يوم القيامة
قال تعالى:
(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
* * *(10/5270)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)
(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ) هذا معطوف على (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ)، وقوله تعالى (يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ)، هذا التعبير كناية عن تحسره(10/5270)
وغيظه وندمه على أن فاته وقت العمل، وقد ووجه بعاقبة ما أهمل، وإنكاره ليوم البعث الذي رآه رأي العين، وشاهده وهو الآن يلقى ويلاته وآلامه.
ولسان حاله يقول: (يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) ويا هنا ليست للنداء، ولكنها للتنبيه على ما يتمناه نفسه وقد فات وقت الأماني، وتمنى الأماني، وقد فات وقتها، وسجل عليه فواتها، أو نقول إن يا للنداء، وتنادى فيه الأماني التي فاتته نادما، ولات حتى يندم.
والأمنية التي كان يتمناها، وهي قوله: (اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا)، أي لم أفارقه، ولم أعانده، ولم أكذبه، وقد كان الصديق الأمين، والرسول هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، وإن البيان كمال شخصه ورسالته، ومعنى (اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا) أي سرت في مساره غير مفارق سبيله الذي اختار، وتنكير سبيلا للإشارة إلى كرم طريق الرسالة والهداية الذي فارقه، ولم يسر فيه، بل ضل عنه ضلالا بعيدا.
والظالم هو من اتصف بالظلم في عبادته فأشرك، وإن الشرك لظلم عظيم، أو آذى المؤمنين أو كان يعثوا في الأرض فسادا، فليس المراد شخصا أو أشخاصا، وإن كانت الآية قد اقترن نزولها بظلمهم.(10/5271)
يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)
(يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
ويلتا: الألف مقلوبة عن ياء المتكلم، والويلة بمعنى الهلاك، فهو ينادي هلاكه الذي نزل به، وذلك للشعور بما نزل به، فكأنه ينادي بهلاكه إيماء إلى نزوله به، وكأنَّه يناديه تحسرا، وكأنه يقول يا هلاكي أقبل فهذا وقتك، فإنك نازل لا محالة، وفيه إشعار بأنه يستحقه، ولقد كان في الآية السابقة يتمنى أن يتخذ مع الرسول السبيل الجيد المستقيم، فهنا يتمنى أنه لم يتخذ فلانا خليلا صادقا يخاله ويوده، ويقترن به ويتبعه، ليت وهل ينفع شيئا ليت، وفلان كناية عن صاحبه وأصحابه، ويتمنى أن لو كان لم يتخذهم أخلاء له، ويتحقق قوله تعالى:
(الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67).(10/5271)
وهذه الآية وان كان موضوعها في اليوم الآخر، يشير إلى سبب الفساد بين الناس في دار الابتلاء، والسبب يتلخص في أمرين: أولهما - صحبة السوء، فإن صاحب السوء أخو الشيطان يسهل للشيطان سبيله، ثانيهما - الرأي الفاسد، فإنه يكثر فيه خلان السوء ودعاة الشر، والتخذيل عن الخير، ولقد قال سبحانه في وصف خليل السوء،(10/5272)
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
(لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ... (29)
اللام واقعة في جواب
قسم مقدر، وهي والقسم المقدر تفيدان التوكيد، وقد تفيد التوكيد أيضا، و (أَضَلَّنِي) أي أبعدني وأوقعني في الضلالة منصرفا عن الذكر الذي يذكرني بربى وهو القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم -، وما اشتمل قوله - عليه السلام - من تذكير باللَّه والإيمان، فالذكر يشمل القرآن والنبي، وما اشتملت عليه الدعوة المحمدية من تذكر مستمر باللَّه تعالى، فقرين السوء أبعده عن الحق والتذكير به إبعادا تاما.
وحَدُّ وقت الذكر، وهو وقت مجيئه الذي يكون فيه الهدى والضلال، وفي ذكر هذا الوقت إيذان بأنه قد جاء المذكر، ولم يجب داعيه، وإيذان أيضا بأنه لا سبيل له إلى استعادة ما فات، وتغليظ لفساد صحبة صاحبه.
وقوله تعالى: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا) هذه الجملة السامية من كلام اللَّه تعالى وأحكامه من كلام الذي يقول: (لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فلانًا خَلِيلًا).
فإن كانت من كلام اللَّه تعالى فهو سبحانه وتعالى يقرر حقيقة ثابتة في الناس، والشيطان هنا هو الخليل، لذي يدعو إلى السوء؛ لأنه يكون كالشيطان تسري نفثاته في نفسه كما تسري نفثات الشيطان، والشيطان خذول للإنسان يخذله عن السير في طريق الخير وهدايته.
وعلى أن هذا من كلام الكافر يوم القيامة، يكون رميا لخليله الذي أضله بأنه كالشيطان أفسد قلبه وإدراكه وخذله عن أن يسلك مسلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتخذ سبيله - صلى الله عليه وسلم - الحق والذكر والمعرفة، والهداية والبعد عن الضلال، وخَذُول صيغة مبالغة من خاذل، وهو الذي يجعل الشخص المقدم على أمر يتردد فيه ولا يفعله، والمراد هنا هو التخذيل عن فعل الخير، وسلوك الطريق الأقوم، والأهدى سبيلا.(10/5272)
هذا ما يكون من أمر الظالمين في الآخرة، وقد ذكر من بعد ذلك جهاد الرسول، وقد ضلوا بإِغوائهم بعضهم بعضا، فقال:(10/5273)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
هذه حال الرسول ورسالته وإعراضهم عنها في الدنيا مما يوقعهم في حالهم التي صورها سبحانه وتعالى في الآخرة، وعبر سبحانه بالرسول للإشارة إلى حق الرسالة عليه من الاتباع والدعوة، وحقه عليهم من الاستجابة والطاعة له.
وقد نادى ربه ضارعا له أن بنصره ويؤيده فقال: يارب؛ ليشكو بثه وحزنه إليه، إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا. وعبر بقومي لإبداء الغرابة من إنكارهم، لأنهم عرفوه صادقا أمينا، وعاشروه وعرفوا أنه الأمين، ليس بالكذاب ومعه الحجة المثبتة لرسالته التي لَا تدع ارتيابا لمرتاب.
وقوله تعالى: (اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ) الإشارة إلى القرآن الذي عرف بصفاته العالية من أنه هدى ورحمة وشفاء لما في الصدور، وهو نور يهدي إلى صراط مستقيم وبلاغته تبعد عن كل قول وفيه الشريعة، اتخذوا القرآن صاحب الصفات العليا مهجورا، أي شيئا مهجورا، هجرته القلوب، وهجروه بذواتهم فكانوا يقو لون: (. . . لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، وقالوا الهجر والفحش ما يدل على فحشهم وهجر أفعالهم، وقد استغرب النبي - صلى الله عليه وسلم - من حالهم المناقضة لرشدهم. هذه شكوى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من قومه، وقد عزى اللَّه نبيه بأن الباعث على هذا هو العداوة، والعداوة من شأنها أن تؤدي إلى المهاترة، وهجر الأقوال والأفعال، وهؤلاء أعداء كما كان للرسل من قيلك أعداء.(10/5273)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
إنه منذ هبط آدم وإبليس إلى الأرض، والخير والشر في نزاع مستمر؛ تحقيقا(10/5273)
لقوله تعالى: (. . . وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)، فإذا كان من سنة اللَّه تعالى في خلقه أن يبعث النذير والداعي إلى الخير، فإنه تكون وسوسة الشيطان دائمة مستمرة، والإنسان في غلاب مستمر بين نوازغ الشر، ودواعي الخير، وبين الداعي إلى الخير ودعاة الشر دائما، ولذلك جعل اللَّه للنبيين أعداء من المجرمين، ليتحقق للنبي فضل الجهاد، وليتحقق الابتلاء الذي يبتلى به النبيون، كما قال تعالى: (. . وَنَبْلُوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. .)، ولذلك كان لكل نبي عدو من المجرمين، وإلا ما كان فضل الجهاد، وفضل الاختبار الشديد لأهل الإيمان.
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) الإشارة إلى ما قوبل به النبي - صلى الله عليه وسلم - من عداوة كبار المشركين، كأبي لهب، وأبي جهل، ولجاجتهما في العداوة والإحن مع قرب القرابة، والرحم الواصلة، والمعنى كهذه العداوة التي تلقاها من بعض المجرمين من قومك، وجعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين، وعدوا تشمل الجمع والواحد أي يكون لنبي عدو، فرادى وجماعات؛ لأن تلك سنة الحياة التي سنها اللَّه تعالى: (وَلَن تَجِدَ لِسنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا)، و (من) هنا ابتدائية، أي يكونون من المجرمين دون غيرهم.
وإذا كان ذلك شأن الوجود الإنساني أن يكون الإنسان في متنازع الخير والشر، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - غالب، لأن اللَّه تعالى ناصره ومعه، ولذا قال: (وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا) الباء لتأكيد كفاية اللَّه تعالى له، وإنه معه يغنيه عن الاستعانة بغيره، والتعبير (بِرَبِّكَ) أي كالئك وحافظك ومربيك، والقائم على شئونك، (هَادِيًا) إلى أقوم سبل الحياة الفاضلة، (وَنَصِيرًا) نصرا مؤزرا دائما، وليستخلفن في الأرض المؤمنين الصالحين.
* * *(10/5274)
تنزيل القرآن وضرب الأمثال
قال تعالى:
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
* * *
أدى جحود المشركين لمعنى النبوة والرسالة الإلهية إلى أن يتقحموا في كلام غير معقول، وأداهم تكذيبهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعجزته إلى أن يقولوا كلاما لَا موضوع له إلا أن يريدوا توهينه.(10/5275)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) (لَوْلَا) هنا للحض والتحريض على قدر ما تدركه عقولهم، وكأنَّهم في هذا يعيبون القرآن؛ لأنه نزل مفرقا، ولم ينزل دفعة واحدة، ويعيبون إعجازه، لأنه نزل أجزاء مفرقة، وكل ذلك لتسويغ أفكارهم وكفرهم، وقد رد سبحانه قولهم بقوله عز من قائل:
(كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، وقد ذكر سبحانه وتعالى حكمتين في نزوله مفرقا على أجزاء تنزل في أوقات متفرقة: أولاهما - هي إيناس النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتثبيت قلبه على الدعوة باستمرار الوحي نازلا بالقرآن لَا ينقطع، وهذه الحكمة أشار إليها سبحانه بقوله: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ) أي أنزلناه كذلك لنثبت به فؤادك فتعرف بالوحي المستمر أن اللَّه معك، الثانية - أشار إليها سبحانه بقوله:
(وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا) والترتيل هو قراءة القرآن الكريم على نسق منسق مصور للمعاني الجليلة في التلاوة، فيتلقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتلا، ثم يقرؤه لغيره من القراء من أصحابه كذلك، وبذلك يتواتر القرآن مرتلا، كما أقرأه جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكما قرأه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، فالقرآن الكريم ليس متواترا بلفظه فقط، بل بلفظه وترتيله، فقد علّم جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما جاء في قوله تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)، وقال تعالى: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْث. .).
وإن العرب كانوا أمة أمية، فما كان فيها كاتب عنده القدرة على أن يكتب القرآن كله، ولأن اللَّه تعالى تكفل أن يحفظ كتابه من غير تحريف ولا تبديل، ليحفظه إلى يوم القيامة، فكان ذلك بحفظه في الصدور، وإن ما يحفظ على قرطاس يسهل تحريفه أو تبديله أو حذف جزء منه، أما ما يحفظ في الصدور فإنه يكون في وعي لَا يغير ولا يبدل، ولما أراد اليهود في أفريقيا أن يحرفوا في كتابة المصحف كان الحفاظ وراءهم، وقد ردوا كيدهم في نحورهم.
وقد حسب المشركون لجهلهم وجحودهم أن ذلك ينال من الذكر الحكيم،(10/5276)
فبين اللَّه تعالى الحكمة واضحة نيرة موضحة مفسرة وقال:(10/5277)
وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
(وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
إنهم قد سدت عليهم المسالك كشأن كل مبطل يريد أن يثير لجاجة في القول والريب حول حقيقة ثابتة لَا مجال للريب فيها، فهم أنكروا أن يكون آية وطلبوا غيره مع عجز صارخ عن أن يأتوا بمثله، وجاءوا بعد إلى أمر شكلي حوله يريدون أن يتخذوا منه سبيلا لأن يقولوا إن محمدا اصطنعه اصطناعا بعد أن قالوا: إنه أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، قالوا لماذا لَا ينزل جملة واحدة، فبين اللَّه تعالى حكمته العليا في أنه نزل مفرقا، وقال (وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) المثل الحال والصورة، أي لَا يأتونك بحال يتوهمون أنها تلقي بريب أو شك، إلا جئناك بالأمر الثابت الذي لَا ريب فيه، فيلقمهم الحجة ويزداد الحق نصوعا وسطوعا وبيانا يقطع جهيزة كل متكلم، (وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) أفعل التفضيل ليس على بابه، لأنهم ليس لهم تفسير للحقائق حتى يكون بيان القرآن أحسن منه، إنما الظاهر أن بيان الحقائق في القرآن لَا يوجد بيان أعلى منه ولا أجمل ولا أوضح، فالتفسير البيان، وكان الله سخرهم باعتراضهم لتزداد حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - وضوحا، والله عليم حكيم، وقد ذكر سبحانه من بعد ذلك عاقبة لجاجتهم، فقال:(10/5277)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
موضع (الَّذِينَ ئحْشَرُونَ) النصب على الاختصاص، وبيان عاقبة أمرهم بعد هذا الذي يثيرونه حول الحجة الكبرى للرسالة الخالدة إلى يوم القيامة، وقد عبر سبحانه عن حشرهم يوم القيامة بصورة تجعل القارئ يدرك منها مقدار المهانة التي تلحقهم يوم الحشر، الذي كانوا ينكرونه ويبالغون في إنكاره، إذ إنهم يقلبون على وجوههم التي كانت لَا تتجه في الدنيا إلا إلى الأسفل، فهم يسحبون سحبا، ويجرون جرا على وجوههم، وهذا يشير إلى أنهم يساقون ولا يكون لهم اختيار، ويساقون على أقبح حال، فبدل ما كان يدَّعون لأنفسهم في الدنيا من سيطرة،(10/5277)
وسلطان يتحكمون به في رقاب العباد، ويفتنون الناس في عقائدهم يكونون على هذه الصورة من الذل والهوان، وأنهم يؤخذون أخذا إلى جهنم، (أُوْلَئِكَ شَر مَّكَانًا وَأَضَلُ سَبِيلًا) الإشارة إلى المشركين محملين بهذه الصفات التي كانت لهم في الدنيا من غطرسة وكبرياء واستنكار عن الحق ولجاجة في الباطل، وإلى ما آل إليه أمرهم من السحب على وجوههم إلى جهنم سحبا، و (شر) في معنى أفعل التفضيل هو ليس على بابه، كقولى تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ من ذَلِكَ. .)، والمعنى من بلغ في الشر أقصى حالاته.
لقد كان المشركون يعيرون النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن أتباعه العبيد والفقراء، وهم في نظرهم الأراذل من قومه، فبين سبحانه أنهم إذ يسحبون إلى النار على وجوههم مع صفاتهم السابقة شر مكانا، أي مكانهم الحقيقي والمعنوي شر هو الشر كله، وغيرهم كان هاديا يهدي في الدنيا، وخير مثوبة في الآخرة، (وَأَضَلُّ سَبِيلًا) أي أبعد عن السبيل الحق في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا بإنكارهم للحق، حتى وصلوا إلى درجة العمى، وبالموازنة بين ما كانوا يدعون لأنفسهم، وما آل إليه أمرهم يتبين أولا - أنهم كانوا في ضلال وهم في الدنيا، والأرذلون في زعمهم كانوا أهدى سبيلا، ويتبين لهم ثانيا - أنهم في الآخرة يسحبون على وجوههم إلى جهنم، والمتقون كانوا سائرين إلى النعيم.
* * *
من قصص الأنبياء
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
ذكر سبحانه وتعالى طغيان المشركين وضلالهم، وتحديهم وعنادهم، ثم مآلهم، ثم ذكر سبحانه بعد ذلك العبر التي سبقتهم، وما آل إليه الطغيان والكفر، مشيرا غير مفصل - التفصيل في مواضع أخرى -، وابتدأ بقصة فرعون وملئه،(10/5278)
وقومه، وقد كان أشد طاغية في عصره، لبيان أنه لَا يستعصى على اللَّه تدمير عاص مهما يكن طغيانه، وهو الذي كان يعبد، ويقول لهم (. . مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَه غَيْرِي. .)، وقال تعالى:(10/5279)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35)
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) وهو التوراة، وقد أكد سبحانه وتعالى نزوله صادقا باللام وبقد، فهذا يدل على صدق النزول، ولا يدل على صداق البقاء فقد نسوا حظا مما ذكروا به، وحرفوا الكلم عن مواضعه، وأفرد موسى بأنه أوتي الكتاب، ولم يكن معه أخوه هارون، فهو الذي تلقى الألواح العشرة، وهارون كان مؤازرا له، معينا في أداء الرسالة، والذي تلقاها كاملة هو موسى، ولذا قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَرونَ وَزِيرًا) أي مؤازرا معاونا استجابة لطلب موسى في قوله: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32).
وقد أرسلا معا إلى فرعون:(10/5279)
فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
(فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
الفاء عاطفة للترتيب في أنه عند إرادة الجعل وزيرا لموسى كلفهما بالتبليغ معا، فقال لهما، وأضاف سبحانه القول إلى ذاته العلية تشريفا لهما وتنويها بأمرهما، وقوله تعالى: (اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) الأمر بالذهاب يومئ إلى أنهما مقدمان على أمر جليل في شأنه، خطير في ذاته؛ لأنه لقوم عتاة، يسبقون إلى الكفر بدل السبق بالإيمان.
وقد وصفهم اللَّه سبحانه وتعالى بأنهم كذبوا بآيات اللَّه مع التكذيب بعد الذهاب، وبعدما آتى الله تعالى موسى تسع آيات مبينات، فكيف يكونون موصوفين بذلك عند الذهاب، والجواب عن ذلك أنه أخبر بالماضي، لبيان تأكد الدفوع منهم، كما في قوله تعالى: (أَتي أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)، وكما في قوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَق الْقَمَرُ)، عند بعض المفسرين الذين يقولون: إن انشقاق القمر يوم البعث.
والتدمير إدخال الهلاك في الشيء، أو الهلاك، والفاء أيضا للعطف(10/5279)
والترتيب والتعقيب، قد يقال كيف كان التدمير عقب الذهاب، وقد لبث موسى فيهم يدعو سنين، ونقول: إن الزمن في ذاته لم يكن طويلا، وإن كان عند الناس طويلا؛ ولأن التكذيب يتبعه لَا محالة التدمير.
وذكر القوم، ولم يذكر فرعون مع أنه الرأس الطاغي، ونقول في الجواب عن ذلك، إنه لولا حاشيته وقومه ما طغى وتجبر، وكذلك الشأن في كل طاغية جبار ملؤه هم الذين يقرونه ويشجعونه.
بعد ذلك ذكر سبحانه وتعالى قوم نوح فقال تعالى:(10/5280)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
(وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37)
(وَقَوْمَ نُوحٍ) منصوب بفعل محذوف تقديره اذكر قوم نوح، والرسل هنا يراد بهم نوح - عليه السلام - إذ إنهم كذبوه، فقد كذبوا رسالة اللَّه تعالى إلى خلقه، فكأنَّهم يكذبون الرسل جميعا الذين جاءوا قبل نوح، والذين جاءوا بعده، لأنهم كذبوا أصل الرسالة الإلهية، ولذا كان العقاب بأن استؤصلوا وأنشأ من بعدهم قوما آخرين، وكان ذلك بالإغراق الذي اجتث شأفتهم أجمعين، ولم يبق إلا من آمن بنوح، وما آمن معه إلا قليل، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً)، أي جعلناهم آية معلمة لصدق الرسالة، وهلاك المكذبين الضالين، وقدم للناس على أية إشارة إلى أنه يعتبر بهذه الآية، ومن لم يعتبر فهو لايعد من الناس؛ لضلاله وفساد إدراكه.
(وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا)، أي هيأنا للظالمين بسبب ظلمهم، الذي يشمل الشرك والفساد في الأرض، والاعتداء على الناس، (عَذَابًا أَلِيمًا) أي مؤلما، ففعيل بمعنى اسم الفاعل، كبديعٍ بمعنى البدع، وعبر بالوصف بِالظلم، ليشير إلى أنه سبب العذاب المؤلم.
(وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)(10/5280)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
(وَعَادًا) معطوفة على قوم نوح، وعاد هم قوم هود الذين كفروا، فأنزل الله بهم عذابه في الدنيا بريح فيه عذاب شديد، كما قال تعالى: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24).
وثمود هم قوم صالح أهلكوا بريح صرصر عاتية.
وأما أصحاب الرس، فقد اختلفت الروايات عن السلف في تفسيرها أو من هم، وأصل الرس كما قال الأصفهاني في مفرداته: الأثر القليل الموجود في الشيء يقال: سمعت رسا من خبر، ورس الحديث في نفسي، أي أثره، وروي أن الرس اسم لبئر، وهكذا وردت روايات كثيرة عن أصحاب الرس، وأحسن ما روي في ذلك روايتان هما أن أصحاب الرس وأصحاب الأيكة هم قوم شعيب الذين دعاهم إلى التوحيد، ومبادئ الأخلاق، وتنظيم المعاملة والعدالة في الكيل والميزان والثانية ما رواه ابن جرير واختاره، وهم أصحاب الأخدود الذين هلكوا بإلقائهم في أخاديد ألقيت فيها النيران، وأصحاب الأخدود الذين هلكوا هم الذين فعلوا بالمؤمنين ذلك كما جاء في سورة البروج في قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8).
وإن هؤلاء قد بلغوا أقصى غايات القسوة في معاملة المؤمنين، وقد أخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، وذكرهم في هذه المناسبة؛ لبيان عتوهم، وأنهم قد انتقم منهم كما انتقم من فرعون، وكما ينتقم من كل المشركين، وإنا نميل إلى الرواية الأولى، وهي أنهم قوم شعيب؛ لأن سنة القرآن الكريم في قصصه أن يعرض قصة شعيب بعد عاد وثمود، فبمقتضى هذا المنهاج القويم نميل إلى أنه سبحانه وتعالى أشار إلى قصة شعيب بهذه الإشارة.(10/5281)
الإشارة في قوله تعالى: (وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ) إلى الزمن الذي كان بين نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس، والقرن هو الجيل من الناس، أي أن أجيالا بين هؤلاء الأنبياء كثيرا كانت فيها العبر، ولكن قل المعتبر، و (كثِيرًا) وصف لمحذوف تقديره عدد، أو وصف لقرون نفسها.(10/5282)
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
(وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39)
وهذه القرون الكثيرة التي بعث لها النبيون بين نوح وموسى، حذرهم اللَّه وأنذرهم، وضرب الأمثال من قصص النبيين، وكيف هلك الأقوام، إذ كذبوا الرسل، ويبين اللَّه كيف أهلكهم وفتتهم، وأذلهم، ولذا قال تعالى: (وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ) كُلًّا، الضمير قائم مقام مضاف إليه، أي كل قرن من هذه القرون الكثيرة بينا له الأمثال من الذين سبقوه، وكذبوا رسلهم، وكيف كانوا عبرة لهم، ولكن لم يعتبروا، (وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) فسر الراغب الأصفهاني التتبير بالإهلاك، والمعنى: وَكُلًّا أهلكناهم إهلاكا، وكانوا عبرة، ولكن لم يكن اعتبار، فعم الفساد، وضلوا ضلالا بعيدا، إلا من هدى الله، وآمن واهتدى.
وقال الزمخشري وتبعه في هذا كل المفسرين الذين أخذوا أن التتبير هو التكسير والتفتيت، أي أن اللَّه تعالى كسرهم حتى صاروا فتاتا، متقطعا متجزئا.
والمعنيان متلاقيان يصح الجمع بينهما بأن أهلكهم بطريق كسرهم وتفتيتهم، حتى صاروا فتاتا مندثرا.
وإن المشركين لم يعتبروا بما بين أيديهم من آثار الذين ظلموا مثل ظلمهم، وعليهم أن يعدوا أنفسهم لمثل المآل الذي آل من سبقوهم، وإنهم يمرون على ديارهم، ولا يعتبرون بهم، ولذا قال تعالى:(10/5282)
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
(وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
القرية هي المدينة العظيمة، وهي هنا قرية قوم لوط، ومطر السوء هو(10/5282)
الحجارة، وهذا تشبيه للحجارة التي كانت مقصودة بالمطر، لأنها نزلت عليهم منهمرة انهمارا، ولكنه لم يكن مطر ماء مغيث، ولا ماء مغيث، بل مطر حجارة حاطمة، فهو سوء، أي سيئ في ذاته مؤلم، وهو سيئ في عقباه، أفلم يروها ولم يروا ما نزل بها فيعتبروا ويتدبروا، ولكنهم مروا ولم يروا روعة اعتبار.
أتوا هذه القرية أي مروا عليها في رحلاتهم إلى الشام، ولم يعتبروا، وقال أتوها، ولم يقل مروا، للإشارة إلى أنه كان يجب أن يأتوا، ويعتبروا بها، ويخشون أن ينزل بهم لما ارتكبوا من آثام مثلها، أو أشد منها، وإن لم تكن من نوعها.
(بَلْ كانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا) بل هنا للإضراب الانتقالي، أي أنه لَا يتوقع منهم اعتبار بالسابقين؛ لأنهم لَا يرجون نشورا، لَا يتوقعون أن ينشروا ويبعثوا ويحاسبوا، لأن من فقد ذلك الشعور لَا يأبه لشيء ولا يفكر في عبرة أو اعتبار، إذ يحسب أنها الحياة الدنيا وحدها ويقول: ما هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب وما نحن بمبعوثين.
* * *
النبي والمشركون
قال تعالى: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
* * *
المشركون كشأن كل ضال أن يكون مصروفا بقلبه عن الحق منصرفا عن المعاني إلى الظاهر، وعن الحقائق الثابتة إلى الأمور الحسية، لقد رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يأكل(10/5283)
كما يأكلون، ويمشي في الأسواق كما يمشون، فصرفتهم هذه المشابهات الحسية عن معانيه - صلى الله عليه وسلم - التي سمى من أجلها الأمين بينهم، فاستهزءوا لمظهر حاضره، ونسوا حقيقة ماضيه العامر بالجود والفضائل، بل نسوا معنى الرسالة ومعجزتها.
الضمير في(10/5284)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)
(رَأَوْكَ) يعود إلى المشركين، لأنهم حاضرون دائما بمجادلتهم ومهاتراتهم، وفتنتهم للمؤمنين، أي إذا رآك المشركون داعيا موجها مرشدا (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا) (إِنْ) هنا نافية، وفي الكلام معنى القصر والتخصيص، فالنفي والاستثناء يفيدان القصر، إنهم إذا رأوك لَا ينظرون إليك إلا نظر المستهزئ الساخر، فلا يفكرون في الدعوة أهي حق أم باطل، أو أهي في أخلاق الناس وإرشادهم أمر حسن أم أمر باطل، وفي دليلها، أهو ساطع قاطع، وفي تحديه لهم، أهم عاجزون أم قادرون، وفي ماضيه أهو كريم أم غير كريم، لَا يفكرون في شيء من هذا، بل يغلبهم الإعراض والاستهزاء قائلين ساخرين (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) أي أهذا الذي يعيش كما نعيش، ليس معه ملك وليس له كنز، وليس له بستان يغنيه، بعثه اللَّه رسولا، وضمير الصلة محذوف ودل عليه الكلام، والاستفهام في قوله أهذا الذي بعث اللَّه رسولا، استفهام إنكاري للتهم، يفيد نفي الرسالة، لعدم لياقته لهم في زعمهم وكذبهم على اللَّه العزيز الحكيم، وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
ويستمرون في غيهم، فيقولون:(10/5284)
إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
(إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42)
(إِنْ) مخففة من إنَّ، واسمها ضمير الشأن محذوف تقديره إن الحال والشأن أنه كاد إلى آخره، أي أنه بماضيه وظهور صدقه، وعدم الدليل على كذبه في حججه المتوالية التي كانت تجيء دليلا ردف دليل قارب أن يبعدنا عن آلهتنا، أي يبعدنا عن عبادة آلهتنا، ويجنبنا إياها، (لَوْلا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا) أي لولا أن حبسنا(10/5284)
أنفسنا عليها، فصبر هنا بمعنى حبس، كقوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ. . .).
وإن هذا النص الكريم الحاكي لأحوالهم النفسية يدل على أمرين: أولهما - أنهم كانوا في مغالطة نفسية، بين باطل اعتنقوه وحق لاح نوره بين أيديهم بحججه وأدلته الناصعة المنيرة، والثاني - أنهم لتقليدهم وتعصبهم لما كانوا عليه وما وجدوا عليه الآباء فكانوا يحاولون إبطال الحق وتأييد الباطل، فحبسوا أنفسهم على الباطل حبسا، وأنهم كانوا يتبعون الحق لولا أنهم حبسوا أنفسهم على الباطل، ولولا - شرطها صبرنا، وجوابها محذوف دل عليه ما قبلها.
وهكذا المبطل دائما يكون غير مستقر على فكرة، بل الأوهام تسيطر، وتضع على الإدراك غشاء مانعا من أن يصلوا إلى الحقائق وبؤمنوا بها، ولا تحسبن الضالين يؤمنون بشيء.
وقوله تعالى: (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا) سوف هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل، أي سيعلمون علما مؤكدا في أي جانب كان الضلال، أكان مع الهادي المرشد الأمين، أم منكم، وأنتم تعبدون أحجارا لَا تنفع ولا تضر، وقد حبستم أنفسكم عليها حبسا لَا تخرجون من دائرة سلطانه الموهوم، وإنكم ستعرفون الحق الواضح الأبلج الناصع في نوره وبياضه عندما ترون العذاب، فالنفوس الضالة لَا يهديها إلى الحق الحجة الدامغة، بل تزيدهم إصرارا على باطلهم، ويعلمون حينئذ الحق في وقته، إذ يعلمونه في وقت نزول العذاب، وهو علم ندم، ولات حين مندم.
وقوله تعالى: (مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا) استفهام لإنكار حالهم وتوبيخهم على جهلهم مع مجازاتهم على ما كان منهم في جنب النبي في الدنيا، (أَضَل سَبِيلًا) أي أبعد عن الطريق المستقيم، واللَّه بكل شيء عليم، وإن هذا القول الذي حكاه سبحانه وتعالى عنهم يدل على أنهم يختارون من الآلهة ما يتجه إليه هواهم دون عقولهم، ولذا قال سبحانه:(10/5285)
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43)
ترتب على حبسهم أنفسهم على الضلالة لَا يتجاوزونها، ولو بدا لهم الحق لائحا منيرا أنهم يريدون آلهتهم على ما يهوون ويحبون، لَا على ما يدركون بعقولهم، وتبين به الآيات الباهرة، وعظمة اللَّه تعالى القاهرة، والمعنى لقد رأيت من اتخذ إلهه هواه، وقالوا: إن المفعول الأول هواه، وأُخِّر للاهتمام بمعنى الألوهية التي لَا تكون هوى قط، وكان سياق القول، أفرأيت من اتخذ هواه إلها يعبده، والإله هو الواحد الأحد النافع الضار الذي يملك كل شيء في الوجود، ولا سلطان لأحد عليه، والاستفهام هنا للتوبيخ، لأنه إنكار لفعلهم الذي فعلوه، ويفعلونه، ويلجون فيه من غير تفكير، ولا تَعَرّف للحق.
(أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) الوكيل الحفيظ المتصرف المحامى عليه، لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على هدايتهم، كما قال تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء. .)، وقال تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكونُوا مُؤْمِنِينَ)، فهذه الآية وسابقتها تدل على أنهم يعبدون ما يحبون لا ما يعلمون ويدركون، وأنهم قد انغمروا في ضلال لَا منجاة لهم منه، ولذا قال تعالى: (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي إذا كانوا يتخذون هواهم إلها، فأنت تكون عليهم حفيظا تهديهم، وتخرجهم من الظلمات إلى النور، إن فسادهم في ذات أنفسهم، فإن حفظتهم عن أن يضلوا غيرهم، فكيف تحفظهم من ذات أنفسهم، إن ضلالهم في ذات أنفسهم، والاستفهام للتنبيه إلى ضلالهم، وقال تعالى:(10/5286)
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
أم - هي أم المنقطعة الدالة على الإضراب والاستفهام معا، أي أنها تدل على الإضراب والانتقال من أمر شديد، إلى أشد، فالأمر الأول كان يفرض أنهم(10/5286)
يستمعون، ويعقلون واختاروا الهوى إلها، أما الاستفهام في هذه الآية فهو على إنكار أنهم يسمعون.
(تَحْسَبُ) معناها تظن ونقدر أنهم يسمعون ويعقلون، وإنكار أنهم يسمعون؛ لبيان أنهم لَا يسمعون الحق ولا يهتدون ولا يتدبرون، فكانوا كمن لا يسمعون أصلا، لأن الله وهب لنا السمع لنتقي به أضرار المفاجآت، ولنكون في يقظة، فإذا لم يفد السماع إدراك الحق فهو لم يسمع، ففي الكلام مجاز، وكذلك من عنده عقل ولا يستعمله فكأنه سلبه.
وقال سبحانه: (أَكْثَرَهُمْ) لأن الله عدل في حكمه دائما، فمنهم من يؤمن، ويكون من المجاهدين، ومنهم من كان يستنكر في نفسه ما يفعله هؤلاء، فليسوا جميعا كأبي جهل وأبي لهب، وإن هؤلاء الكثرة كانوا هم المسيطرون على الجو الفكري حتى أدال الله تعالى من دولة الكفر، وكانت الكلمة العليا لله ولرسوله وللمؤمنين، فأخذ الإسلام يغزو القلوب قلبا قلبا قلبا، وفقد الهوى سلطانه إلا في بعض الأعمال دون العباد، ويئس الشيطان أن يعبد في أرض العرب، وبين سبحانه أن هذه الكثرة أضل من الأنعام فقال: (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا).
هنا نفي وإثبات، وإن نافية، أي ليسوا إلا كالأنعام، في أنهم لَا يعقلون الحق ولا يدركونه، وفي الكلام مجاز، إذ شبهوا بالأنعام، لجامع الجهالة وعدم الفهم، وقد أكد الله جهلهم بقوله (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) أي أنهم أضل طريقا وهداية؛ لأن الأنعام تتبع هاديها، ومن يأخذها إلى منتجع الكلأ والماء، أما هم فلا يهتدون ولا يتبعون هاديا مرشدا، فهم جائرون بائرون، ولقد قال الزمخشري في هذا المعنى:
" إن الأنعام تنقاد لأمر من يرعاها ويتعهدها، وتعرف من يحسن إليها، ومن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها، وتتجنب ما يضرها، وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وهؤلاء لَا ينقادون لربهم، ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع، ولا يتقون العذاب الذي هو(10/5287)
أشد المضار، والمهالك، ولا يهتدون بالحق الذي هو الشرع الهني، والعذب الروي.
وهكذا كان الذين يحسبون الهداية ضلالا، والعكوف على الأوثان والتمسك بها صبرا، يحمدون عليه، وليس هوانا يحسب عليهم، واللَّه الهادي.
* * *
آيات الله في الكون
قال تعالى:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
* * *
الرؤية هنا بصرية نظرية، ذلك أنه من ينظر ببصره الظل وهو يُمَدُّ، والمد: الجر والسحب، يراه رأي العين يجر شيئا فشيئا من انبلاج الفجر، إلى طلوع الشمس يرى ذلك بالنظر، ثم يتدبر بالفكر في صانعه، ولذلك قال:(10/5288)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ) والرؤية بالبصر تكون في مد الظل شيئا فشيئا، والرؤية النظرية في سر ذلك وسببه، ولذا وجهت الرؤية إلى اللَّه خالق الأكوان والقادر على كل شيء، والرؤية(10/5288)
حينئذ رؤية علمية إلى صانع المد، وما يكون حتى مطلع الشمس، والمد كما قلنا هو السحب والجر، والظل وهو ما لَا تظهر فيه الشمس، سواء أكانت في حال إشراقها، أم في حال زوالها، وهو هنا ما قبل إشراقها، وهو يمتد شيئا فشيئا، فالفجر ينبلج، ثم يكون الإسفار متدرجا حتى تطلع الشمس فهو كقوله تعالى:
(وَالصُّبْح إِذَا تَنَفَّسَ)، إذ يمتد الظل شيئا فشيئا، ويبرز الناس إلى الحياة متدرجين في بعث الحياة في الأعمال، وكأنَّه يتنفس تنفسا.
هذا توجيه إلى تعرف بدائع الخلق، وإنه في هذه الحال، تكون الراحة النفسية، واستقبال الحياة مبشرا، وإن ذلك صنيع اللَّه تعالى خالق كل شيء ومبدعه، خلقه سبحانه بإرادته المختارة، التي ينشئ بها كل شيء في الوجود، فلا تصدر عنه صدور العلة عن معلولها، (وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا)، أي باقيا مقيما، وتكون كلمة (سَاكِنًا) وضعا من السكنى، وعندئذ لَا تبعث الراحة والسعادة والاستبشار، وقد قال تعالى في آية أخرى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. .)، فسبحان مقلب الأحوال، وسبحان مقلب القلوب.
قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا) انتقل السياق القرآني من الغيبة إلى المتكلم؛ لبيان إرادة اللَّه الواضحة، وأنه هو الفاعل المختار، ولتربية المهابة في النفوس بخطابه بذاته العلية خطابا واضحا معلما، والعطف بـ (ثُمَّ) للإشارة إلى التفاوت بين الظل والشمس الساطعة، وكانت الشمس دليلا على الظل، لأن إشراقها نهايته؛ ولأن ضوء الشمس يدخل في ظلام الليل شيئا فشيئا من انبثاق الفجر، فهو الدليل الواضح للظل، حتى يكون الصباح.
وإنه بعد الإشراق يأخذ الظل في الانقباض حتى يكون الظلام الحالك، ولذا قال تعالى:(10/5289)
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
(ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
وإنه بعد إشراق الشمس يكون الظل والحرور، ويستمر طول النهار مصطحبا مع الشمس المشرقة والنور حتى يكون في الغروب وتختفي الظلال والأضواء ويكون الظلام الدامس، والليل الذي تستكن فيه(10/5289)
النفوس، وترخى أستار الظلام، وهذا قوله: (ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا) أي نسخناه وأزلناه، وشبه زوال الظل بجوار الضياء بشيء يقبض، وأضيف القبض إليه سبحانه لأنه يكون بإرادته، وبالنظام الثابت الذي وضعه اللَّه تعالى للكون، فجعل سبحانه الأرض تدور حول الشمس، وبهذا الدوران يكون الليل والنهار، و (ثم) هنا في موضعها؛ لأن القبض مستمر طول النهار، ويتم في آخره، فالتعبير بـ (ثم) في موضعه.
والقبض اليسير هو القبض المتدرج آنًا بعد آنٍ، وساعة بعد ساعة، فالقبض للظل مستمر من شروق الشمس إلى غروبها، وهو يتناقص شيئا فشيئا حتى ينتهي النهار.
وإن هذا النص يثبت أن الأرض كروية، ويومئ إلى دوران الأرض حول الشمس.
ولقد صرح سبحانه بأنه خالق الليل والنهار بعد أن أشار إلى بعض الأسباب.(10/5290)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
في هذه الآية الكريمة يذكر ما جعله اللَّه تعالى من خواص الليل، وما جعله من خواص النهار، فجعل الليل كاللباس للناس، لأنه يستر عوراتهم، ولا يكشف، ويكونون في كِن من الظلام ساتر غير كاشف، فشبه سبحانه الليل باللباس الساتر بجامع ستره للعورات وما لَا يصح إبداؤه، وقوله تعالى (وَالنَّوْمَ سُبَاتًا) أي جعلنا النوم قاطعا عن العمل منهيا للحركة، وفي ذلك الراحة اليومية، وتجديد القوي للعود للعمل؛ وذلك لأن السبات من السبت وهو القطع، وسمي السبت سبتا لأنه قاطع عن عمل الأسبوع، ومَنْهٍ له، وإخلاد إلى الراحة من بعده، وذلك في عقيدة اليهود إذ كانوا في السبت ينقطعون عن العمل والصيد، ويستجمون، والنوم في ذاته موت للحس، وقعود عن الحركة، ولذا قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَاكم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ. .).(10/5290)
وجعل النهار نشورا، أي جعل النهار فيه النشور، أي الانتشار للحركة والعمل، وفي كلمة نشور إشارة إلى أمور ثلاثة: أولها - إبعاد إلى لباس الليل وإنهاء لسباته، وثانيها - الحركة العاملة التي بها يعمر الكون، وثالثها - الكسب في الحياة وظهور الأعمال خيرها وشرها، ولذا قال تعالى في الآية التي تلونا، (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ) أي كسبتم بالنهار، وسمى اللَّه تعالى النهار نشورا، فسمى الزمان باسم ما يقع عليه، وهذا مجاز علاقته الظرفية، وفي ذلك ما يفيد أنه زمن حركة وعمل، وليس زمن توان وكسل، وهذه دعوة إلى العمل، فالعمل حياة، والكسل موت.
وهذه الآية متصلة بما قبلها، فالآية السابقة شرحت عجائب في خلق النهار من الليل كيف يبتدئ بمد الظل، ولو شاء لجعله ساكنا، وكيف جعل الشمس مشرقة داعية إلى العمل والحياة، وكيف قبض الظل متدرجا حتى جاء الليل، وفي هده الآية: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا. . .) بين سبحانه حكمته في خلق الليل والنهار، إذ يبدأ النهار بمد الظل، ثم يقبضه متدرجا في قبضه، حتى يجيء الليل، ومن الليل النهار، وجعلهما خلفة.
بعد بيان نعمته على عباده في الليل والنهار، وبيان أن النفوس تستروح الراحة في الليل، وتنهض للعمل في النهار لطلب الرزق بين سبحانه أنه يرزق الناس بما يكون مادة عملهم، وفيه معاشهم، فقال الحكيم العليم الخلاق العظيم:(10/5291)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48)
(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
الضمير للَّه جل جلاله الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وأرسل الرياح أطلقها، كأنها مقيدة بإرادته سبحانه ثم أرسلها، والرياح جمع ريح، وهي تتلاقى في استقامتها مع الراحة، كما تتلاقى في وقائعها مع الراحة أيضا، وإن كانت المعاني ليست واحدة، أطلقها سبحانه وتعالى لتكون مبشرة للناس بنزول الماء الطهور، ولذا قال تعالى: (بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) وبشرا مخففة من بشر بضم(10/5291)
الاثنين، جمع بشور، أي مُبَشّر، والمعنى على ذلك مبشرات برحمته، وهو إنزال الماء الطهور، الذي يطهر من الأرجاس، ويسقي الزرع والغرس والحيوان، والإنسان، ويصح أن تكون جمعا لبشرى، وهي في نظرنا أظهر والمؤدى واحد، وهو أنها مبشرات، وقد تكون الرياح عواصف جدباء، وليست هذه التي تكون بشرا، بل إنه يكون نذيرا من النذر كما وقع لعاد قوم هود، ولثمود قوم صالح، وقوله تعالى: (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي أنها مقدمة لرحمته تليها الرحمة الإلهية لخلقه، وفي هذا الكلام تشبيه حسن باستعارة تمثيلية، فقد شبهت الرياح الممطرة غيثا بمن يسير وأمامه في سيره رحمة مباركة طيبة، ورشحت وقويت الاستعارة بقوله بشرا فإنها تقوي معنى المشبه به، والاستعارة إذا كانت مقواة بما يكون فيه معنى المشبه به كانت مرشحة أي مقواة. وقول (بشْرًا) قرئت بالنون، أي نشر جمع نشور، كما جمع رسل من رسول، والمعنى أنها تنتشر وتعم لتعم الرحمة، ونذهب إلى أن القراءتين المتلاقيتين في المعنى نجمع بينهما فيكون المعنى أن الرياح فيها وصفان أحدهما أنها مبشرة بالخير، والثاني أنها منتشرة وعامة.
ويكون المؤدى أن كل قراءة آية قائمة بذاتها، وهي قراءة، والجمع بينهما يكون الجمع بين آيتين، في أوجز لفظ، وبالجمع تكون الرياح مبشرات ومنتشرات، والله هو الرزاق ذو القوة المتين.
وقال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا) والسماء هنا جهة العلو، أنزلنا من السحاب الذي حملته الرياح المبشرة المنتشرة ماء طهورا، والطهور هو الطاهر في نفسه المطهر لغيره، وإن أطهر الماء هو ماء المطر؛ لأنه فوق خلوه من الأنجاس الحسية والقاذورات هو خالط خلوا تاما من جراثيم الأمراض الوبائية وغيرها، ووصفه بطهور ينبئ عن ذلك، وإنه ينزل كذلك ثم يكون تلوثه بجراثيم الأمراض بعد ذلك. بمكوثه في الأرض واستقراره بها.
وإنه في الشريعة يطهر الإنسان طهارة حسية بإِزالة الأنجاس الحسية، وطهارة(10/5292)
معنوية بالاغتسال والوضوء، وإنعاش الأجسام بالاستحمام، والاستراحة من وعثاء الأعمال، وكل هذه نعم تعَمُّ البر والفاجر.
وقد بين سبحانه غاية هذه الماء الطاهرة، أو عاقبة نزوله بإِرادة اللَّه تعالى وأمره الذي لَا معقب له، ولا راد لفضله، فقال:(10/5293)
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
اللام لام العاقبة، وليست لام التعليل في نظرنا؛ لأن أفعال اللَّه جل جلاله لا تعلل، ولكنها لام العاقبة وبيان اقتران نعمة اللَّه تعالى بهذا الخير العميم، وقد ذكر اللَّه تعالى ثلاث نعم كل نعمة تشير إلى ما وراءها.
النعمة الأولى - إحياء موات الأر. ض، وقد عبر اللَّه تعالى عن ذلك بقوله تعالت كلماته: (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) البلدة الميتة هي الخالية من الزرع والماحلة من الغرس، ولا ينتفع بها في بناء أو غيره، بل هي معدة للزرع والغرس، وإحياؤها هو سقيها، وإزالة أسباب بوارها، وزرعها أو غرسها، والماء هو حياة الزرع والغرس، وخلق اللَّه تعالى من الماء كل شيء حي، يلاحظ هنا أن كلمة " بلدة " مؤنث لفظي، وهو دال في ذاته على البقعة، فكيف يوصف بكلمة ميتا الخالية من التاء، قال علماء البيان: إنه أريد بالبلدة مكانها فميتا وصف للمكان وهو الذي يوصف بأنه محل خاو من الزرع والضرع، فكان حذف التاء، فيه إيماء إلى ما يجري فيه الإحياء وهو المكان وليس البلدة التي تتكون من البيوت والدور، وهي لَا تكون إلا حيث يحييها اللَّه تعالى بالزرع، وإن إيراد المكان بالبلدة هو الذي يتفق مع السياق، والبيان.
وقال علماء البيان أيضا: إن الوصف بميت من غير تاء فيه مبالغة في مَحْلها، وجدبها وخلوها من النبات، وما به ينبت، أي أن الجدب حال مستمرة باقية يراها الناس كذلك، وذلك وجه معقول كسابقه.
وسمى اللَّه تعالى وجود الزرع والغرس، وما يتبعها من إحياء، تشبيها بالحياة، أي أن الأرض في حال جدبها كالميت، وفي حال زرعها واستغلالها(10/5293)
كالحي، وكل بفضل من اللَّه تعالى، ذلك أنها إذا كانت الأرض ماحلة لا حياة لها بزرع أو غرس، فإنه قد يكون باطنها عامرا بالمعادن فلزات وغير فلزات كما نرى في الصحارى في بلاد الحجاز، وفي الصحراء الغربية في تخوم ليبيا والجزائر، ومصر، وفي العراق وإيران، وغيرها من أرض اللَّه تعالى العليم القدير.
النعمة الثانية - سقي الحيوان من الأنعام وغيرها، وذلك قوله تعالى: (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا) أشار في هذه الآية إلى ثلاث نعم في ضمن نعمه أولها: السقي ذاته فهو نعمة، وثانيها: أن الأنعام يسقين خلق اللَّه تعالى، وهي تكون حاملة وعاملة، وثالثها: أنها حيوان هي نعم في ذاته، ولذا سميت الأنعام.
ورابعها: سقي الأناسي، وهي جمع إنس بمعنى الإنسان، وهذه نعمة أخيرة، وهي نعمة الري، ودفع العطش القاتل، إنه هو المنعم الكبير.
* * *
التصريف في القرآن والنذر
قال تعالى:
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
* * *(10/5294)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
اللام لام قسم محذوف، وهي لتأكيد القول، وقد للتأكيد، والضمير يعود إلى القرآن، وهو حاضر في نفوس المؤمنين والكافرين، فأما المؤمنون فلأنه زاد تقواهم، وأما الكافرون فلأنه موضوع لجاجتهم وافترائهم، وقولهم على الله بغير الحق، وافترائهم عليه، وتحديهم أن يأتوا بمثله فعجزوا عن أن يأتوا، وبدل أن يخنعوا بعد هذا العجز يمارون في الحق بعد أن يتعبوا، وهذا على أن الضمير يعود إلى القرآن وهو حاضر في كل الآذان، وتصريفه تحويل بيانه من باب في الإعجاز إلى باب آخر، فمن قصص حكيم فيه عبرة لأولي الأبصار إلى بيان الشرائع وما فيها من إصلاح، إلى الكون وما فيه من بيان لقدرة الله تعالى وإبداعه، وكان هذا التصريف بينهم؛ ليبعث فيهم الذكرى، وهذا قوله تعالى: (بيْنَهُمْ لِيَذَّكرُوا) واذَّكر افتعال من الذكر، أي أعملوا عقولهم ليذكروه دائما، ولكنهم كفروا، ولم يجعلوا للذكر موضعا في قلوبهم، ولذا قال تعالى: (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا)، وهم المشركون، والفاء عاطفة وتشير إلى السببية، أي أنهم بدل أن يجعلوا القرآن سبيلا لتذكرهم وتدبرهم جعلوه سبيلا لكفرهم وبعدهم عن الحق، وأكثر الناس هم المشركون، وقد كانوا في مكة والكثرة الكاثرة، والمؤمنون كانوا القلة المستضعفة، ولكنها القوية بالحق فهو عز المؤمنين، وذل الكافرين مهما يكن عددهم.
هذا على أن الضمير يعود إلى القرآن، وإن الضمير يعود إلى الماء الطهور الذي ينزله الله تعالى ليحيي به موات الأرض، ويسقي بها الأنعام التي خلقها الله تعالى وأناسي، والعود إليه ظاهر؛ لأنه أقرب مذكور، (صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ)، أي وزعناه بينهم، فهو مرة يكون غيثا في الشرق، وأخرى في الغرب، وأحيانا في الوسط، وأحيانا في الجنوب، ورابعة في الشمال، وكل يفيض عليه رزق اللَّه تعالى، وكل يسقيه الله تعالى بقدر، وكان حقا عليهم أن يتذكروا هذه النعم ويشكروها؛ لأنه سبحانه وتعالى خلقهم، وكفل أرزاقهم، ومكنهم من أن يعملوا ويقوموا على الحرث والنسل، ويستخرجوا من الأرض خيرها، ولكن أبى أكثر الناس إلا كفورا وجحودا.(10/5295)
هذا، وإنا نميل إلى أن الضمير يعود على القرآن؛ لأنه حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي بعثه اللَّه تعالى بشيرا ونذيرا، ولقد قال سبحانه وتعالى:(10/5296)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)
(وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51)
إن اللَّه تعالى رحيم بعباده رفيق بهم، ولكنه خلق لهم أعينا يبصرون بها وآذانا يسمعون بها، وقلوبا يفقهون بها، وجعل لهم علما وإدراكا، ومكنهم من أن يصلحوا في الأرض ولا يفسدوها، وصلاحها بأن يقوموا بمكارم الأخلاق، وجعل لهم بعثا ونشورا، وحسابا وجزاء وعقابا، ولكنه علت قدرته لابد أن يعطيهم النذر مرشدة، حتى لَا يتردوا بأهوائهم في الضلال، فبعث إليهم محمدا بشيرا ونذيرا، بالنذر العامة التي تعم القرى والمدائن، ولو شاء لجعل في كل قرية نذيرا، والقرية المدينة العظيمة، أو القبيل الكبير، ولذا قال تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا)، أي منذرا يخصها، ويبين الحق بيانا كاملا، ويبين ما يعقب الكفر من عذاب الجحيم، وما يكون بعد الإيمان من جنات النعيم.
(لَوْ) حرف امتناع لامتناع، أي امتنع الجواب لامتناع الشرط، أي امتنع أن يجعل اللَّه تعالى في كل قرية نذيرا، لامتناع مشيئته سبحانه ذلك، وله سبحانه وتعالى في ذلك حكمة وارادة، وعلى أن الناس متشابهون خلقا وتكوينا وإرادة، وسيطرة الأهواء الشيطانية على بعضهم، والعقل على آخرين اصطفاهم اللَّه تعالى، وبهداه اقتدوا، فكان الإعلام بالرسالة والنذير، إعلاما لهم أجمعين، ومن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وكان إنذار محمد - صلى الله عليه وسلم - عاما للناس أجمعين، وكان التبليغ الكامل حقا عليه وعلى من تبعه من بعده، كما قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. . .).
وإذا كان إنذار الناس أجمعين حقا على النبي واجبا عليه، كان لابد من الجهاد، ولذا قال تعالى:(10/5296)
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
(فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
الفاء للإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر، وقد أمره تعالى بأمرين:
الأمر الأول - ألا تطع الكافرين؛ لأنه منذر لهم، والطاعة تكون بتخاذله في الدعوة، وممالأتهم فيما يعبدون، وذلك مستحيل أن يكون من محمد المبعوث رحمة للعالمين والذي جاء لإصلاحهم، فلا يصح أن يعود إلى مداهنتهم في الحق، وإنما ذلك أمر لأتباعه - صلى الله عليه وسلم - من بعده، ومن هم معه في حال حياته، وذكر الكافرين بالاسم الظاهر لبيان أن طاعتهم طاعة للكفر، فكان ذلك تأكيد النفي ببيان سببه.
والأمر الثاني - جهادهم، والجهاد بذل الجهد في مقاومة ضلالهم، وبيان الحق الذي يدعو إليه، والإصرار عليه، والجهاد كان في مكة بالصبر على الدعوة إلى الإيمان، والأذى في سبيلها، والاستهزاء والسخرية بها، وألا يني عن الإعلام بها لمن لم يكن يعلم، وقد حقق النبي وأصحابه ذلك في مكة، فقد صبروا وصابروا، وتعرض النبي - صلى الله عليه وسلم - للقبائل بعد أن ذهب إلى الطائف وردوه ردا منكرا، تعرض للقبائل في موسم الحج، حتى كان الأوس والخزرج من أهل يثرب، إذ وجدوا فيه منجاتهم مما هم فيه من عداء بينهم، وحرب مع اليهود، فهاجر إليهم، فكانوا له أنصارا، وكان الجهاد بالمنازلة بعد الجهاد بالمصابرة.
ووصف اللَّه تعالى المطلوب بأنه جهاد كبير، لأن المصابرة أمر عظيم، وبها قام المسلمون، وتكونت الخلية الأولى من أهل الوحدانية. وحملوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - عبء الجهاد في دوره الثاني، وكان الجهاد كبيرا؛ لأنه كان في كل أدوراه بالصبر، وقوله: (بِهِ) أي القرآن ببيانه والتمسك به، فإنه في ذاته قوة، وإنه بهذا يشير إلى وجوب الدعوة إلى الإسلام والجهاد في سبيلها والمصابرة، وهو أمر كبير إلا على الخاشعين، وإن كبر الجهاد ليس بكثرة المقتولين، وإنما كبره يكون بالصبر عليه، وإرادة اللَّه تعالى فيه، وتحمل الأذى والرضا بالأذى، ما دام يوصل إلى الغاية، وهي أن تكون كلمة اللَّه تعالى هي العليا.(10/5297)
وقد ذكر سبحانه آياته في خلقه الدالة على قدرته القاهرة، وإبداعه الباهر، فقال عز من قائل:(10/5298)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
الضمير يعود إلى اللَّه جل جلاله، و (مَرَجَ)، لها معنيان وردا في لغة العرب، المعنى الأول - خلَّى وأرسل، والمعنى الثاني - خلط من غير امتزاج، وإدخال أحدهما في الآخر، وقبل أن نخوض في معنى الكلمات والأسلوب نقرر أن هذه الآية من دلائل الإعجاز؛ لأن محمدا لم ير البحار التي تمخر عبابها السفن، فذكره سبحانه وتعالى لخواصها في القرآن دليل على أنه ليس من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي لم يرها ولم يعرفها، ودليل على أن الكلام للَّه تعالى خالق البحر واليابس، والأنهار والبحار، وهو بكل شيء عليم.
والمعنيان للمرج يستعملان في هذا المقام، فاللَّه سبحانه وتعالى خلَّى البحرين يجريان كل منهما في مجراه من غير أن يمتزج أحدهما بالآخر، وهما غير متجاورين أحيانا، وأحيانا يكونان متجاورين يختلطان ويتجاوران ولا يمتزجان، والبحران هما النهر العظيم كالدجلة والفرات والنيل وسيحون وجيحون وغيرها من الأنهار العظيمة الذي يخليها الله تعالى ويرسلها في المروج، فتنبت الزرع نباتا وغراسا، ويشرب منها الناس، ويسقون دوابهم وأنعامهم، والبحر الثاني هو البحر الملح، كبحر الروم وبحر القلزم، وبحر الهند، وبحر الظلمات وغيرها، والأول عذب فرات، والثاني ملح أجاج، أي ملح شديد الملوحة، وفيه أحيانا دفء، وفيه نعم لَا تحد، ففيه الجواهر والياقوت والمرجان، وفيه اللحم الطيب، وهواؤه فيه مواد مطهرة للصدر، فيه اليود، ومنه تنبعث الريح، وفيه تجري البواخر كالأعلام وفى هذا بيان نعمة الله تعالى في الماء العذب الفرات الذي يكون لسقي الأرض وإحياء نباتها وغرسها.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير عجائب الله تعالى في البحر الأجاج، فذكر ما(10/5298)
يكون فيه من مد وجزر تبعا للقمر، فقال رضي اللَّه تعالى عنه في تفسير (وهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ): أي مالح مرٌّ زعاق لَا يستساغ كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب والبحر المحيط.
وأخذ يضرب الأمثال حتى قال: وما يشابهها من البحار الساكنة التي لا تجري ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الرياح، ومنها ما فيه مد وجزر، ففي أول كل شهر يحصل مد وفيض فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتى ترجع إلى حالتها الأولى، فإذا استهل الهلال من الشهر الآخر شرعت في المد لليلة الرابعة عشرة، ثم شرع في النقص فأجرى اللَّه سبحانه وتعالى تلك العادة.
وإن نعم اللَّه تعالى في البحار كما ذكرنا عظيمة، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ماء البحر فقال: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته ".
وقد أشار سبحانه إلى أن كلا من البحرين العذب الفرات والملح الأجاج كلاهما محجوز عن صاحبه، بل يأخذ الإنسان من كل منهما منافعه ونعمه من غير أن يختلط أحدهما بالآخر، فيختلط الملح بالعذب الفرات، فلا ينتفع الإنسان بشربه، ولا الزرع بسقيه.
ولذا قال: (وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا) أي جعل بينهما حاجزا مانعا، وحجرا، أي حدّا، وهوِ بمعنى محجوز، كنقض بمعنى منقوض، وأكد سبحانه المنع، فقال: (وَحِجْرَا مَّحْجُورًا) أي حدا ممنوعا لَا يمكن أن يعدو أحدهما.
وقد قلنا إن (مَرَجَ) هنا بمعنى خلا وأرسل، وقد بينا معنى مرج البحرين على ذلك المعنى، وهي أيضا بمعنى خلط وجاور من غير أن يمتزج الماءان كل منهما بالآخر مع أن الماء سريع السيران، ويتم الامتزاج فيه، لكن في النوعين من الماء نجدهما يتجاوران مختلطين بالجوار غير سائل أحدهما في الآخر، فتجد في مصبات الأنهار حيث يختلط ماء النهر وتجاور ماء البحر، تجد بينهما مانعا حسيا يكون كل واحد منهما متميزا بحيزه لَا يعدوه؛ لأن ماء النهر خفيف، والماء الملح(10/5299)
ثقيل فكلاهما لَا يمتزج بالآخر، وإن كان ماء البحر على ماء النهر، ولذا قال تعالى: في هذا النوع من المرج (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21).
وبعد أن بين سبحانه ما في الكون من عجائب وبدائع بادية للعيان، ويدرك بعضها الجنان عاد بنا إلى الإنسان المخاطب بالتكليف فقال:(10/5300)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
الضمير (هُوَ) يعود إلى اللَّه جل جلاله خالق الوجود كله جليله ودقيقه، وفى هذه الآية يقول عز وجل أنه خلق من الماء بشرا، ونجد في النص تفاوتا بين الماء المخلوقة، والمخلوق منه البشر، فهذا ماء ظاهر أنه لَا حياة فيها يكون منه بشر له حياة وحس ظاهر وخفي، والماء لَا يتألم، والبشر يتألم، ومع هذا التغير الظاهر كان المخلوق والمخلوق منه موجودين في كيان واحد، وما ذلك إلا بقدرة العليم الحكيم الذي يُغير ولا يتغير، ويحول ولا يتحول، وقد خلق البشر الحي الحساس من الماء مرتين: أولاهما - أنه ككل حي متحرك ينمو كان من الماء، فالماء كان منه الزرع والثمار وغيرهما، والإنسان كان من النبات، ونما من الحيوان، كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ. .)، وخلق من الماء وهو المني، وما هو إلا ماء مهين، لَا يعبأ به النظر، وأشار سبحانه إلى أن هذا الذي كان منه الماء يتوالد، ويتلاحم البشر في الأسر والقبائل، والشعوب، ولذا قال مشيرا إلى هذا التوالد، فقال: (فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا) وهذا فيه إشارة إلى الصلات الإنسانية التي تربط الإنسان، وتكون منها المودة الراحمة الواصلة. إما بتوالد نسبي يجمعه الأصل، والنسب، وإما بسبب صهري، ولقد ذكر الزمخشري أن ذكر النسب والصهر والسبب إشارة إلى أن العلاقة الإنسانية تكون بنسب الرجال، أو بالمصاهرة التي تكون بالنساء إذ تكون بالمزاوجة، والمرأة هي السبب في علاقتها، كما قال تعالى (فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39).(10/5300)
وإن ذلك كله بقدرة اللَّه تعالى وإبداعه في هذا الوجود، ولذا ختم اللَّه تعالى الآية بقوله عز من قائل، (وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا) وكان ربك خالقك الذي أنشأك ويكلؤك ويرعاك قادرا قد علت قدرته كأقصى ما يتصور العقلاء، و (كان) هنا هي الدالة على الاستمرار. والدوام، أو الكينونة الدائمة.
ومع هذه القدرة القاهرة، والعجائب الباهرة، وكما رأيت من مد الظلال، وخلق الليل والنهار، ومرج البحرين، وخلق الإنسان من ماء، مع كل هذا تجد الذين سيطرت أوهامهم يعبدون حجارة لَا تنفع ولا تضر، ولذا قال سبحانه عقب ذلك:(10/5301)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) (وَيَعْبُدُونَ) الواو هنا واو الحال، والمعنى: هذه قدرة اللَّه القاهرة الباهرة مع أنهم لم يعتبروا ولم يدركوها، والحال أنهم يعبدون من دون اللَّه أحجارا، أو ما يشبهها لَا تنفعهم بشيء قط بحيث يعبدونها رجاء، ولا تستطيع ضررا لهم فتكون العبادة دفعا لهذا الضرر، فهي لَا حياة لها، وهي دونهم، ولكن الوهم جعلهم يعبدونها، مع هذه الحال.
وقال تعالى: (وَكانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا) روي عن مفسري السلف، أن ظهيرا معناها أن الكافر يظاهر الشيطان على اللَّه تعالى، إذ يدليه بغروره فلا يعبد اللَّه، ويعبد الحجارة، وهذه المظاهرة على اللَّه تعالى ربه الذي خلقه وأنعم عليه، وأسبغ عليه ظاهرا وباطنا، وذكر الكافر بالوصف، للإشارة إلى أن سبب ذلك هو ضلال الكفر وطمسه لبصيرة عابد الأوثان.
وفسر بعض العلماء (ظَهِيرًا) أي مهينا، والمعنى هينا على ربه لَا يضره كفره، وقالوا إن ذلك من قولهم ظهرت عليه، أي جعلته وراء ظهري، لَا ألتفت إليه، ولا أهتم به، وذلك قريب من قوله تعالى: (. . . وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا. . .)، وهذا القول قاله أبو عبيد، وهو قائم على أن ظهير بمعنى مظهور أي ملقى وراء ظهره.(10/5301)
والمعنيان متلاقيان، فالكافر حليف الشيطان هو الذي يدفعه دفعا إلى معاندة اللَّه تعالى، وهو هين على اللَّه تعالى وليس له عند اللَّه إلا مكان الهون.
* * *
الله يؤيد الرسل
قال اللَّه تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
* * *
إن المشركين أثاروا من أوهامهم أمورا حول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فزعموا أنه يريد مالا، وزعموا أنه مجنون، وأنه ساحر إلى آخر ما أوحت به أوهامهم، فبين اللَّه سبحانه أنه ما كان إلا بشرا رسولا، وقال:(10/5302)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56)
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57).(10/5302)
الجملة السامية الأولى دالة على القصر بالنفي والإثبات أي ما أرسلنا ذا سلطان، ولا ذا مال، لَا لأي عرض من أعراض الدنيا، ولكن أرسلنا مبشرا بالحق داعيا إليه منذرا من يتمسك بالباطل أو يدعو إليه، أرسلناك فقط لتبشير من يبتغون الحق بالنعيم المقيم وجنة الفردوس، ومن يصرون على الباطل لهم عذاب الجحيم.
ومعنى هذا القصر الثابت بالنفي المستغرق، والاستثناء الموضح أنه - صلى الله عليه وسلم - هاد مرشد، فلا تعبثوا بهذه الحقيقة بما تثيرون من أوهام باطلة، وتصدون عن سبيل اللَّه تعالى بهذه الترهات الفاسدة.
وأمر اللَّه تعالى نبيه أنه لَا يريد أجرا إلا الهداية واتباع الحق، فقال عز من قائل:(10/5303)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
(قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
الأمر في (قُلْ) للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أمر اللَّه تعالى نبيه أن يقول ذلك القول؛ لأنهم قالوا وأشاروا وصرحوا أنه يريد سيادة دنيوية في جاه يبتغيه، أو مال يتموله، فهو - صلى الله عليه وسلم - الذي يتولى الرد، وبيان أنه لَا يريد إلا الهداية (مَا أَسْألُكمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) من - هنا دالة على استغراق النفي، أي لَا أسئلكم على هذا الإرشاد والتوجيه الذي أدعوكم به إلى ترك الأوثان وعبادة اللَّه تعالى وحده أي أجر، وإن فائدة هذه الدعوة مغبتها عليكم إذا اهتديتم، وتعود عليكم بالعقاب إن كفرتم.
ثم قال تعالى مستثنيا من الأجر (إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا).
هذا الاستثناء يحتمل أن يكون متصلا، ويحتمل أن يكون منقطعا، وعلى أنه متصل يكون المعنى ظاهرا والمعنى لَا أسألكم أجرا تدفعونه، أو تؤدونه، إلا ابتغاء من شاء أن يتخذ إلى ربه منهاجا مستقيما، وطريقا موصلا إلى ربه، فإن ذلك هو الأجر الذي أبتغيه، وهو نعم الأجر ونعم الجزاء، فيكون الكلام دالا على مطلبه - صلى الله عليه وسلم -، ودالا على شرف الغاية التي يبتغيها، فليس يطلب مالا ولا جاها، ولكن يطلب هداية وتوفيقا وإرشادا.(10/5303)
ويكون معنى النص السامي على أن الاستثناء منقطع، لَا أسألكم عليه أجرا، لكن من شاء اتخذ إلى ربه سبيلا هو مطلبي وغايتي، وموضع دعايتي ودعوتي.
ومهما يكن من تخريج، فالمعنى أنه لَا جزاء للنبي إلا أن يتبعوا الحق، ويهتدوا به، ويوحدوا العبادة.
وفى قوله تعالى: (إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) إشارات بيانية ثلاث.
الأولى - التعبير بقوله: (مَن شَاءَ) إشارة إلى أن الثواب لَا يكون إلا بالإرادة الحرة المختار، إذ هي أساس التكليف.
الثانية - التعبير بقوله: (يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) التعبير بالرب توجيه إلى أنه الخالق المربي القائم على الخلق، ففي ذلك دعوة للاتباع المدرك، شكرا لنعمة اللَّه تعالى عليه.
الثالثة - وصف الهداية بأنها اتخاذ السبيل؛ لأنه المنهاج، وهو (سَبِيلًا)، وكان التنكير لبيان أن السبيل المطلوب هو ما كان إلى اللَّه تعالى.
وبعد أن أمر اللَّه تعالى نبيه أن يقول لهم ما قال أمره سبحانه بأن يتجه إلى الحق معتمدا عليه سبحانه وتعالى وحده فقال:(10/5304)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58)
أمر اللَّه تعالى نبيه بالتوكل عليه بعد أن يئس من المشركين، ليكون خالصا للدعوة إليه، وليكون معتمدا عليه وحده، وليكون ذلك تبشيرا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالنصر عليهم، وأن اللَّه تعالى معطيه ومن معه القوة الدافعة، والتوكل معناه اعتماد القلب على اللَّه تعالى، واتخاذ الأسباب الظاهرة، وإن لم تكن هي وحدها الناصرة إنما هي وسائط، أمر سبحانه وتعالى باتخاذها من غير اعتماد عليها وحدها، وقد ذكر(10/5304)
سبحانه وتعالى وصفين لذاته العلية يؤكدان أنه لَا يعتمد إلا عليه: الأول - أنه الحي الكامل الموجود. الثاني أنه سبحانه لَا يموت فهو الباقي، ومن يعتمد على من يموت لَا يكون له معتمد بعد موته، أما من يعتمد على الباقي فمعتمده باقٍ لا يفنى.
وبعد أن أمر سبحانه بالتوكل عليه وحده أمر بالتسبيح، وهو التنزيه بوصفه بصفات الكمال المطلق من قدرة وإرادة ووحدانية وغيرها من الصفات التي لا يشبهه فيها أحد من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، العلي الكبير.
وقوله تعالى: (بِحَمْدِهِ)، أي مصاحبا بالحمد بالثناء عليه بما هو أهله، فكان الأمر بالتنزيه، وأمرنا بالثناء عليه سبحانه بما أنعم، وشكره على ما أجزل من عطاء غير مجذوذ.
(وَكَفَى بِهِ)، أي الكفاية به سبحانه وتعالى وحده، والباء لتأكيد معنى الكفاية والاعتماد على ذاته وحده، ومن توكل عليه لَا يحتاج إلى غيره ولا يغني غناءه أحد من خلقه، وقوله تعالى: (بِذُنوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا) بذنوب، جار ومجرور متعلق بقوله تعالى: (خَبِيرًا)، والخبير هو ذو العلم الدقيق الذي لَا يعلمه غيره، وقدم الجار والمجرور (بِذُنُوبِ) على متعلقه لبيان الاهتمام بالعلم بهذه الذنوب، وأنهم مجزيون بها، فإذا كانوا قد عاندوا وضلوا وصدوا عن سبيل اللَّه تعالى فإنهم مأخوذون بذنوبهم، وخبيرا - حال من ضمير به، ومؤدى القول الكريم، وكفى به خبيرا بذنوبهم، وهي خبرة وراءها جزاؤهم عليها، وهذا تهديد شديد، وإنذار بليغ.
وذكر سبحانه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فقال عز من قائل:(10/5305)
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
(الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
بدل أو عطف من الحي، وذكر ذلك بعد هذا الوصف الجليل لبيان أن(10/5305)
التوكل على القادر المنشئ للوجود كله، وستة الأيام التي في هذه الآية التي ذكر سبحانه أنه خلق السماوات والأرض ليست هي الأيام التي نعرفها الآن بيننا، لأن أيامنا مربوطة بالشمس والأرض، ودوران الأرض حول الشمس، فيكون الليل والنهار خلفة يخلف أحدهما الآخر، وقبل السماوات والأرض لم تكن الشمس ولا الأرض، ولذلك تفسر الأيام بالأدوار الكونية التي يخلق الله بها السماوات والأرض، وقد ذكر سبحانه وتعالى في سورة فصلت، فقال عز وجل:
(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12).
وإن هذا النص السامي يدل على أن الأرض أخذت أربعة أدوار منها الدوران الأولان، والسماء قضاهن سبحانه سبع سماوات في يومين.
وإن لعلماء الكون جولات علمية في معاني هذه الآيات، وما تدل عليه من حكمة اللطيف الخبير.
بعد أن خلق سبحانه وتعالى السماوات السبع والأرض في ستة أدوار كونية، جلس سبحانه على عرش الكون؛ لأنه سبحانه وتعالى خالقه فقال: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) هذا كناية عن كمال سلطانه في خلقه يدبره كما شاء، ففي الكلام تشبيه، إذ شبه سبحانه وتعالى سلطانه على الكون يقوم عليه ويدبره، لأنه سبحانه وتعالى الحي القيوم، بمن يجلس على عرش مملكته يدبرها ويقوم على مصالحها، وللَّه المثل الأعلى.
وقال سبحانه (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ)، التعبير بـ (ثم) في موضعه، لأنه سبق ذلك أدوار كونية لَا يعلمها إلا اللَّه، ووصف سبحانه وتعالى سلطانه على العرش، فقال عز من قائل (الرَّحْمَنُ) أي أنه يدبره ويسيطر عليه(10/5306)
برحمته، فكل عمل منه سبحانه في عرش السماوات والأرض رحمة في ذاته الرحمن الرحيم.
وإن المتتبع لهذا الخلق وذلك التكوين، والقيام عليه بقدرته تعالى يرى بقلبه رحمته سبحانه، ولذا قال تعالى: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) الفاء للإفصاح عن شرط مقدر إذا أردت أن تعرف (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا)، والباء - فيما أحسب - بمعنى في، والمعنى فاسأل خبيرا أي عليما يعلم علما دقيقا، فإنه ينبئك عن جلال اللَّه تعالى في الخلق والتكوين والرحمة.
بعد ذكر هذا الخلق، وهذا التكوين العجيب، والإشارة إلى خلق اللَّه تعالى الوجود كله في أدواره المحكمة أعاد بيان حال المشركين في مكة التي يتعلقون بألفاظ يدورون حولها غير متعقلين ولا مدركين، فقال عز من قائل:(10/5307)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
لم يكونوا يذكرون اللَّه تعالى بلفظ الرحمن، فهم لَا يعرفونه إلا باسم اللَّه تعالى، فلما ذكره باسم الرحمن استنكروا هذا الاسم، وكأنَّهم لَا يقرونه، قالوا: (وَمَا الرَّحْمَنُ) الواو عاطفة على محذوف، كأنهم يقولون سمعنا قولك من قبل، وما هذا الذي تريده وتسميه الرحمن، كأنهم يحسبون أنه شيء غير اللَّه تعالى، أتريد أن نسجد لما تأمرنا، وكأنهم يقولون تأمرنا بألا نعبد إلا اللَّه، ولا نشرك به شيئا، وتريد أن تأمرنا أيضا بأن نسجد لهذا الرحمن، كأن المسألة بيننا وبينك ليس أمر التوحيد تدعو إليه، إنما أنت تعادي آلهتنا بآلهة أخرى، ومرماهم أنك تتحكم في عبادتنا، ولا تخالفنا في شركنا، (وَزَادَهُمْ نفُورًا)، أي زادهم الأمر بالسجود للرحمن نفورا، لأن من لَا يدرك يزداد نفورا بجهالته، وعدم معرفته، لأنهم ضلوا، وعقولهم الضالة تزداد نفورا، كما أن نزول السورة يزيدهم كفرا.
وقال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ) عبر بالفعل المبني للمجهول، ولم يذكر الفاعل، وقد علم من البعض، لأنهم قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - (أَنَسْجُدُ لِمَا(10/5307)
تَأمرنَا) والسجود هنا العبادة أوالصلاة من بينها؛ لأن أظهر مظاهر العبادة الخضوع وأظهر مظاهره السجود للَّه سبحانه وتعالى.
وذكر الفعل مبنيا للمجهول للإشارة إلى نفورهم من أصل تسمية اللَّه بالرحمن، وكانوا يحسبونه غير الله تعالى ويقولون رحمن اليمامة أي إله أرض أخرى.(10/5308)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
(تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61)
تبارك - أي تعالت بركته سبحانه، فالضمير يعود إلى اللَّه تعالى الذي يمتلئ الوجود كله بذكره وتسبيحه، وإن كل بركة ونفع في هذا الوجود يرجع إليه، سبحانه، ولذا تتعالى بركته في هذا الوجود الإنساني كله، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى بعض مظاهر بركته، وفيض رحمته ففال: (الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ برُوجًا) البروج جمع برج، وهو القصر العظيم، كما قال تعالى: (. . . وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيدَة. . .)، ولقد قال مجاهد: البروج في الآية الكريمة هي الكواكب العظام وكأنَّها شبهت في عظم مرآها وجمالها، وكمالها بالقصور المشيدة التي تأخذ بالأنظار تقريبا للأنفس، وليس المعنى أنها مشبهة بالقصور في تكوينها، فإن خلقها أقل من خلق الكواكب العظيمة، والمشبه به يكون أقوى من المشبه، وليس الأمر كذلك في هذا التشبيه، إنما التشبيه للتقريب لإدراكنا.
وخص سبحانه وتعالى من الكواكب بالذكر الشمس والقمر، فقال: (وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا) الضمير في فيها يعود إلى البروج، أي جعل في البروج أي في عمومها سراجا، والسراج هو الشمس كما عبر سبحانه وتعالى في آية أخرى (وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا)، وكما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16).
وهنا نقول: شبهت الشمس بالسراج تقريبا لأفهامنا على سبيل الاستعارة،(10/5308)
وذلك إشارة إلى أنها مصدر الضوء والنور لما حولها من الكواكب، ووصف القمر بأنه منير، أي أن من شأنه أن ينير في الظلام، ولكن الشمس، جعلها الله تعالى المصدر؛ لأنها سراج هذا الوجود، وقد قال في ذلك علماء الكون: إن الشمس تضيء الأرض فيكون النهار، ومن انعكاس أشعتها على الأرض يكون نور القمر، فالأصل كما خلق الله تعالى كان من الشمس، وأضاء الأرض، وبانعكاس ضوئها على القمر كان القمر منيرا.
ولهذه الصلة بين الشمس والأرض والقمر قال تعالى بعد ذكر الشمس:(10/5309)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
الضمير يعود للذات الإلهية التي يجب أن يكون ذكرها في قلب كل مؤمن، وهو الذي يسبح له الرعد بحمده، (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً)، أي يخلف كل واحد منهما الآخر، كأنه يذهب عن الوجود ليكون الثاني خليفة له في إحكام ودقة، وانتظام وتداول بينهما، فالإنسان بين ليل يغشاه، وليل يبرزه، وبين حياة هادئة ساكنة يستروح فيها راحة الحياة واستقرارها، وبين لغوب وعمل وكد وعناء، وقال تعالى: (لِمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ) يذكر أصلها ليتذكر، أي أنه في هدأة الليل يتذكر نعم الله تعالى نعمة نعمة، ويعتبر أمره عبرة بعد عبرة، وأخذ مواعظه عظة بعد عظة.
وقوله تعالى: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) اللام حرف جر متعلق بجعل، أي هذا الليل والنهار خلفة لتكون مادة اعتبار وإدراك لمن أراد أن يتذكر، ويعرف قدرة اللَّه تعالى وخلقه، وإبداعه في التكوين، فيذكر قدرة اللَّه تعالى الخلاق العليم، وأنه ليس كمثله شيء، وأنه خالق كل شيء، والمنعم على كل شيء، وأراد أن يُشكر على ما أنعم بالطاعة.
وفى هذا التعبير الحكيم إشارة إلى تبعة الإنسان في إهماله أو اعتباره، لأنه سبحانه قال (لِمَنْ أَرَادَ) فإرادته هي الموجهة له بعلم اللَّه العلي الكبير، وبهذه الإرادة يستحق الثواب ويستحق العقاب، واللَّه تعالى يهدي من أراد الهداية بالتذكر(10/5309)
وشكر النعمة، و (أو) هنا للدلالة على التردد بين أمرين: أولهما - التذكر وهي تذكرة دائما، أو الخطوة الأخرى التي تكون بعد التذكر، وهو الشكور، وهي مصدر شكَر، فمصدر شكَر الشكر، والشكور، كمصدر كفر الكفر والكفور.
واذكر أصلها تذكر، سكنت التاء وادغمت في الذال وجاءت همزة الوصل ليمكن النطق بالساكن، وإن الليل والنهار من تعاقب الشمس والقمر في الحس، وهما مستمران في دأب وتوالٍ، كما قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ)، وقال تعالى: (. . . يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا. . .)، صدق اللَّه تعالى.
* * *
صفات المؤمنين المتذكرين
قال تعالى:
(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)(10/5310)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
* * *
هذه الآيات الكريمات تصور صفات المؤمنين التي يتكون منها المؤمن الصادق، وهي تجمع بين أمور ثلاثة من الصفات:
أولها - الصفات الموجبة المكونة معنى الإيمان، والتي هي خلال أهل الإيمان الذين تعلو الإنسانية بهم، ولا يستعلون عليها، وهي من أول الآيات إلى قوله تعالى: (لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ).
وثانيها - صفات سلبية، وهي التي تبتدئ من هذه الآية الأخيرة.
وثالثها - الذين يبتغون الحياة الزوجية بالطهر والعفاف، وختم سبحانه الآية ببيان الجزاء الأوفى.(10/5311)
الصفات الإيجابية
قال تعالى:(10/5312)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63).
وصفهم الله تعالى بأنهم عباد الرحمن، وهذا الوصف يشعر بأنهم رحماء فيما بينهم، لَا يجافون، ولا يتناحرون، بل هم في اطمئنان وسلام، وروحانية، لا يجعلون للمادة من حياتهم إلا أن تكون غذاء طيبا يأخذون منه القوة للقيام بواجبهم، وهم في أوصافهم الظاهرة والباطنة يتطامنون، ولا يستكبرون، والهون مصدر هانَ يهون هونا، وهو المشى في غير عنف، ولا تجبر، وهو وصف محمود، وهو ضد الهوان الذي يذل صاحبه للقوي أو المتغطرس، ويهون عليه، وهو من عذاب، ومعنى هونا أي يمشي في سكينة ووقار وفي قصد وتؤدة، وتلك أخلاق الأنبياء والذين يقتدون بهم، فالمؤمن يسير في رفق، وقد وصف الله مشى النبي بأنه كان يمشي في هون ورفق، تبدو في مشيته قوة الماشي غير المصطنع المتخاذل، وغير المختال المرح المتعالي، وكما قال الله تعالى: (وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا)، (وَإذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ) والجاهلون هم الحمقى الذين لَا يعرفون ما أحله الشرع، (قَالُوا سَلامًا) أي سَلْما وأمنا، فهم لَا يعلون على الناس، ولكن يسالمونهم، وإذا رأوا حمقى لَا يحاورونهم، ولا يخاطبونهم على مقتضى قولهم، وإن ذلك دأب الحكماء المتقين، يهدون، ولا يجهلون، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لَا تزيده شدة الجاهل إلا حلما.
ولقد روي أن إبراهيم بن المهدي كان ناصبيا يعادي، وكان المأمون علويا معتدلا، فقال إبراهيم بن المهدي رأيت في رؤيا عليًّا فتكلم، فما رأيت في كلامه بلاغة، قال فماذا قال لك إذ خاطبته؟ قال: سلام، قال إذن فقد رأيت عليا، يشير إلى أن عليا خاطبه بما تؤدب به الآية، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وقد(10/5312)
قال تعالى في وصف المتقين في آية أخرى (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55).
الوصف الثاني من أوصاف أهل الإيمان الإيجابية:(10/5313)
وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64)
هذا عمل إيجابي، وإذا كان العمل الأول معناه التطامن للناس، وألا يكون بينهم وبينهم شغب، حتى إذا خاطبهم السفهاء بما لَا يصدر إلا عنهم، لَا يبادلونهم السفه بسفه مثله، بل يقدمون لهم السلام والأمن ويطمئنون، ولا يشاغبون. وهذا عملهم مع الناس، أما هم بالنسبة للَّه، فقد ذكر سبحانه ذلك في بيانهم، وهو السجود للَّه تعالى والقيام له، والخضوع له تعالى، فقال: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) هذا عطف على الجملة السابقة في بيان عملهم للَّه، وكذلك ما يجيء من بعده من أحوال لهم، واللام في قوله (لِرَبِّهِمْ) متعلقة بـ (سجَّدًا) أي أنهم يبيتون ساجدين لربهم خاضعين، وقائمين له، وقدم قوله تعالى (لِرَبِّهِم)؛ لبيان قصر السجود عليه، فلا يسجدون لغيره إذ لَا يعبدون غيره، ولا يسجدون لسواه.
والسجود والقيام كناية عن الصلاة، فهم يتهجدون مطيعين؛ لقوله تعالى:
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79).
وإن معنى الآية أنهم يبيتون على هذه الحال، تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم، كما قال تعالى عنهم: (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِع. . .)، وقال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ. . .).
هذه بعض أحوال عباد الرحمن: اتجاه إلى اللَّه وإغضاء عن مساوئ الناس، ويكون اللَّه تعالى في بياتهم فيكونون للَّه تعالى في مبيتهم، وفيما يجْرحُونَ من أعمال بالنهار.(10/5313)
وإن من كانت هذه أحوالهم يظنون التقصير في ذات أعمالهم، ويترقبون العقاب، ويغلب عليهم الخوف، ولذا يقولون:
(رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
لقد توقعوا النار وأيقنوا بعذابها، وعملوا ما يجنبهم إياها، ولكنهم مع ذلك أيقنوا أن أعمالهم لَا تكفي لتجنبهم، فضرعوا إلى ربهم أن يصرفها عنهم عالمين أن الجنة من فضل اللَّه، وليست بعمل عملوه ولكن برضا من اللَّه عما عملوه، قال تعالى:(10/5314)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ) والتعبير بالمضارع يفيد أن هذا حال ملازمة لهم يكررونها دائما، بالخضوع والخشوع والحذر الدائم المستمر، فهم في حذر دائم مستمر، فيكونون مع الله بحذرهم لَا يفترُون، (إِنَّ عذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) أي كان أمرا ملازما، فالغرام هو الأمر الملازم الذي يكون خسارا وشرا، ولذا فسر بعض التابعين الغرام بالشر الملازم وكل غرام يزول عن صاحبه أو يفارق صاحبه إلا غرام جهنم، وإن المؤمن الحق يؤتي اللَّه حقه، ولا يحسبه قد أوفى، ولذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ. . .).(10/5314)
إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
(إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66)
ساءت: بمعنى بئس، فهي لذم جهنم، والمستقر هو مكان الاستقرار، والمقام هو مكان الإقامة، والمعنى بئس الورود إليها على جهة الاستقرار، والإقامة فيها، والجمع بينهما للإشارة إلى أنه ليس استقرارا عارضا ولكنه إقامة دائمة.
بعد أن ذكر حال عباد اللَّه مع اللَّه، ومع الناس أخذ سبحانه وتعالى يذكر حالهم في أنفسهم، ودنياهم وأسرهم، فقال عز من قائل:(10/5314)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
الإنفاق هو الصرف فيما يقيم الأود ويدفع الجوع، والإسراف هو الإنفاق في غير الحاجة بالزيادة عليها، والإسراف المنهي عنه هو الإنفاق في غير حق للَّه أو(10/5314)
للناس أو لنفسه، ولقد قال ابن عباس: " من أنفق مائة ألف في حقه فليس بمسرف، ومن أنفق درهما في غير حقه فهو مسرف، ومن منع من حق عليه قتر ".
وظاهر الآية أن عباد الرحمن قد أخذوا بقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)، والقتر هو التضييق على النفس بحيث يكون في قدرة، ويحرم نفسه من أقل مطالب الحياة، أو يضيق فيها، والإقتار الفقر أو الضيق في المادة، كما قال تعالى: (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ. . .)، ومعنى الآية أنه ينفق في حلال بمقدار طاقته وقدرته، ولا يضيق على نفسه في الحلال، (وَكَانَ بَيْن ذَلِكَ قَوَامًا) أي عدلا بين الإسراف والقتر.
وإن النص الكريم يفهم منه أمران: أحدهما - ألا ينفق في حرام قط، وألا يضن عن حلال موجود إلا تربية للنفس وتهذيبا، وفطما لها عن الشهوات، ولذا كان عمر رضي اللَّه عنه يعد من يطلب كل ما يشتهى مسرفا، لأنه إذا حق الأمر لا يستطيع قدع نفسه عن شهواتها.
الأمر الثاني - أن الإنفاق بين الإسراف والقتر يختلف باختلاف أحوال الأشخاص، فإذا كان الرجل كسوبا عليه أن ينفق في الحلال والجهاد بمقدار كسبه وطاقته ما دام ينفق في مطلوب، وما دام كسبه واسعا، ولقد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أبي بكر كل موفور ماله لأنه تاجر كسوب، يعرف مواضع الكسب والخسارة، ولم يقبله من غيره، وقد قال تعالى: (وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ. . .)
، أي السهل اللين الذي لَا يجهد ذا المال إنفاقه ولا يصعب عليه.
هذه أحوال إيجابية هي التي صورت شخصية عباد الرحمن والتي كونت فيهم الإيمان والعمل الصالح، والجمع بين سلامة القلب، واستقامة العمل، وتكوين الإنسان النافع، وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك ما يتجنبونه لكيلا يكون ما يعوق هذه الأخلاق العالية، فقال تعالى:(10/5315)
(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
إن أولئك الأبرار الذين رضي اللَّه سبحانه وتعالى أن يضيفهم إلى ذانه العلية، فقال وعباد الرحمن، قد اتصفوا بالكمالات البشرية فهم لَا يستعلون على الناس، ويرفقون بهم، ولا يشاكسون بل تكون علاقتهم بالناس دائما أمنا وسلاما، وامتلأت قلوبهم بالتقوى والخوف من العذاب، والذين قد اتزنوا في حياتهم لا يسرفون ولا يقترون، أولئك فد اتصفوا بصفات، وهي ذاتها تحمل جزاء، فالكريم إذا اتصف بمعالي الصفات، كان جزاؤه هو هذه الصفات ذاتها، وهي نعم الجزاء، ولذا لم يذكر سبحانه وتعالى جزاءها، وإن كان لها الجزاء الأوفى.
وقد ذكر سبحانه ما اجننبوه، وهو كبريات المساوئ الإنسانية، كما أنهم تحلوا بأعلى المناهج الكمالية، فقال تعالى:(10/5316)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
(وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ).
وهذا أول معصية تحط من قدر الإنسان، وتنزل به إلى أكبر المهاوي الإنسانية (يَدْعُونَ) يعني يعبدون، لأن العبادة دعاء للَّه تعالى وضراعة إليه، وتسليم كل أمورهم في جنب اللَّه، والدعاء مخ العبادة، كما قال - صلى الله عليه وسلم -، والإنسان يهبط في درجة الإنسانية إذا عبد غير اللَّه، وأي كرامة إنسانية لمن يعبد حجرا لَا يضر ولا ينفع، أو يعبد إنسانا مثله، أو يعبد ما يصوره وهمه كالملائكة يتصور أنها تعبد، أو نارا، أو غيرها، إن هذا انهواء إنساني، ومن يعبد شيئا من هذا، إنما يعبد وهما تدفع إليه شهوة منحرفة، فقد اتخذ إلهه هواه.
هذا هو الانحراف الأول الذي تجنبه عباد الرحمن، أما الانحراف الثاني الذي تجنبوه فقد نفاه اللَّه تعالى عنهم بقوله عز من قائل: (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) وهذا وصف للعاصين، وهو المشاكسة التي تؤدي إلى القتل، فهذا مقابل للسلام في قوله تعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا)، وقوله تعالى: (إِلَّا بِالْحَقِّ) الجار والمجرور متعلق (لا يَقْتُلُونَ) الحق هو الأمر الثابت الذي يسوغ القتل من اعتداء أثيم، أو زنى أو رِدَّة بعد إيمان، وهذا النص يفيد أن(10/5316)
الأصل في النفوس الصيانة، وألا يعتدى عليها، ويحفظ أمنها، وأنه لَا تستباح الأنفس، إلا بحق كما قال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا. . .).
والأمر الثالث الذي نفاه اللَّه تعالى عن عباد الرحمن الاعتداء على النسل بالزنى، ولذا قال تعالى: (وَلا يَزْنُونَ)؛ لأن إشاعة الزنى تضيع النسل، ولا تجعل الناس في أمن ودعة، وتضعف الوحدة الإنسانية، ويكون الناس في تناحر، وتنزل بالقيمة الإنسانية إلى دركة الحيوانية، ولقد قال محمد - صلى الله عليه وسلم -: " وما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة في رحم امرأة لَا تحل له ".
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله ينهاك أن تعبد المخلوق، وتدع الخالق، وينهاك أن تقتل ولدك وتغذو كلبك، وينهاك أن تزني بحليلة جارك ".
وقد ذكر سبحانه وتعالى عقاب هذه المآثم التي هي أمهات الرذائل فقال: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) الآثام جزاء الإثم وزيادة المبني تدل على زيادة المعنى، أي أنه جزاء من نوع ما ارتكب، ولكنه جزاء كبير، وإطلاق الآثام بمعنى جزاء الإثم، وارد في اللغة العربية، فقد جاء في الكشاف هذا البيت من الشعر:
جزى الله ابن عروة حيث أمسى ... عقوقا والعقوق له أثام
وإن هذا الأثام شديد، حتى إنه ليحسب أنه مضاعف الإثم ليس مثله، ولذا قال تعالى في بيان هذا الأثام وتوضيحه:(10/5317)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
(يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... (69)
إن اللَّه تعالى عدل، يجازي السيئة بمثلها، ورحيم يجازي الحسنة بعشرة أمثالها، فكيف يجعل العقاب ضعف الذنب، أجاب عن ذلك صاحب الكشاف بأن المضاعفة لأنه عقاب الشرك، وعقاب الذنب الذي ارتكب من قتل نفس وزنى، ونقول حينئذ لَا مضاعفة.
والذي يبدو لي - غير متطاول على مقام الزمخشري - أن العذاب شديد(10/5317)
عنيف حتى إنه ليبدو لدى المعاقب، كأنه مضاعف للذنب، وإن المذنب دائما يحس بالجزاء كأنه أكثر من الذنب، فاللَّه تعالى يصور له العقاب كأنه مضاعف، ولأنه يتجدد آنًا بعد آنٍ، كلما فضجت جلودهم بدلهم اللَّه تعالى جلودا غيرها، فهو عذاب بعد عذاب، وبهذا التكرار الدائم يكون كأنه مضاعف.
وإنه عذاب دائم مستمر، ولذا قال تعالى: (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا)، أي أنه مستمر مع مهانته الشديدة الواضحة الدائمة المستمرة، وكذلك يستبدل اللَّه.
بغطرستهم الجاهلية، واعتزازهم الظالم العاتي مهانة دائمة مستمرة، وقد استثنى العادل الحكيم الذين يتوبون في الدنيا، فقال:
(إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
هذا الاستثناء من العذاب السابق ذكره في الآية السابقة، وقد ذكر سبحانه وتعالى ثلاثة أمور تخرج الشخص من دركة الكفر والطغيان إلى درجة الإحسان واستحقاق الثواب.
وأول هذه الأمور - التوبة، وثانيها - الإيمان، وثالثها - العمل الصالح فقال:(10/5318)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
(إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا).
أما أولها: وهي التوبة فهي أعلى درجات الاعتذار عن العمل السيئ، وقد قال في ذلك الراغب الأصفهاني في مفرداته: " التوبة ترك الذنب على أكمل وجوه الاعتذار، فإن الاعتذار على ثلاثة أوجه، إما أن يقول المعتذر: لم أفعل، أو يقول: فعلت لأجل كذا أو فعلت وأسات وقد أقلعت، ولا رابع لذلك، وهذا الأخير هو التوبة، والتوبة في الشرع ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزيمة على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة فمن اجتمعت له هذه الأربع فقد كمل شرائط التوبة ".
ولا شك أن من تكون له هذه الإنابة يغسل قلبه من أدران الشر، ويرحض(10/5318)
عنه كل ما كان من المآثم التي ارتكبها في حال غيه، ولذلك يغفر اللَّه ما قد سلف، ويبتدئ التائب صفحة جديدة تحل محل صفحة السوء، ويبدل مكان السيئات حسنات، ويقول اللَّه تعالى في ذلك: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ. . .).
هذا هو الأمر الأول، وهو الأساس للأمرين الآخرين، بل هو النور الهادي لهما، أما الأمر الثاني: فهو الإيمان بأن ينتقل من دركة المعصية إلى درجة الوحدانية، ومن دركة الكفر بمحمد والقرآن والعناد إلى درجة الإذعان للحق والإيمان به والجهاد في سبيله.
وأما الأمر الثالث، فهو العمل الصالح، وقد قال تعالى: (وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا) وإن ذلك العمل يؤكد الإيمان ويوثقه، لأن والعمل ثمرة الإيمان، أو هو جزء منه، كما أن ثمرة العلم العمل، والإيمان أعلى درجات العلم، إذ هو علم وتصديق وإذعان وتسليم، وقد أكد سبحانه وتعالى العلم فقال (وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا) وذلك بذكر المصدر تأكيدا لمعنى العمل، وليكون ذلك العمل بعد الإيمان مقابلا للعمل الذي كان في جاهليتهم، ولبيان أنهم يعملون عمل عباد الرحمن، الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما.
وقد بين سبحانه وتعالى جزاء هذه المثوبة الكاملة، وذلك العمل الصالح، والأيمان الكامل فقال: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) الفاء واقعة في جواب الشرط، أو ما هو في معنى الشرط، لأن الموصول في معنى الشرط، وأولئك إشارة إلى الذين كانت فيهم هذه الأحوال من توبة وإيمان وعمل صالح، والإشارة إلى الموصوف بصفات إشارة إلى هذه الصفات، وإلى أنها سبب الحكم، ولم تجد الحكم جزاء بالنعيم، وسيجيء ذلك من بعد، إنما الجزاء أن يبدل سيئاتهم حسنات، والتبديل هو التغيير، أي أنه سبحانه وتعالى يغير سيئاتهم، ويضع محلها حسنات، وإن ذلك بلا ريب واضح من التوبة، ذلك أن التوبة كما قررنا ترحض النفوس، وتزيل عنها أدرانها، وتجعلها مجلوة مصقولة، وصالحة لأن يحل محلها(10/5319)
الطهر والنقاء، والعمل الصالح المجدي، ألم تر إلى عمر بن الخطاب الذي مكث يكابر ويغلظ في عناد، ويشتد على المؤمنين بضع سنين بعد البعث المحمدي، كيف تاب وآمن وعمل عملا صالحا، ألا تراه قد زالت مآثمه من قلبه وأحل اللَّه تعالى محلها عملا صالحا، فَحَلَّت الأعمال الصالحة ذات الأثر البعيد في الإسلام محل ما كان منه في الجاهلية، ولذا قال سبحانه (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) فالتبديل على هذا هو تغيير ما كان في النفس من أدران السيئات، وإحلال طيبات الأعمال والنيات محلها.
وختم اللَّه سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (وَكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) هاتان صفتان من صفات اللَّه تعالى أنه يغفر السيئات ويسترها، ويرحم عباده بهذا الغفران، وكذلك شأنه الأعلى، شأنه سبحانه يقرب عباده بالغفران والرحمة وفتح باب التوبة لمن أراد من عباده الصالحين.
ثم قال تعالى:(10/5320)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
(وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
في هذا النص السامي يبين اللَّه تعالى أن من يؤمن تائبا، ويعمل العمل الصالح ضارعا، فإنه يعود إلى اللَّه تعالى راضيا مرضيا، ويركن إلى اللَّه تعالى، وحسبه أنه ركن إلى اللَّه تعالى القوي القهار الغالب، يأمن بجانب اللَّه تعالى شر كل مخلوق، ومتاب - أحسب أنه اسم مكان، أي أنه يعود إلى مكان التوبة وملجئها الحصين الذي لَا يذل من يلجأ إليه، ويجعله حصنه الحصين، وركنه الركين، والفاء في قوله تعالى: (فَإِنَّهُ يَتُوبُ) الفاء واقعة في جواب الموصول؛ لأنه في معنى الشرط كما ذكرنا، وإن ذلك هو الثمرة الكبرى للتوبة.
وقال سبحانه وتعالى في الأحوال النافية لعباد الرحمن:(10/5320)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
(وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
الزور: هو كل باطل مزور مزخرف بحيث يؤثر في النفس مرآه، وهو زخرف باطل، فيدخل في ذلك اللهو العابث والقول الماجن، والكذب والفحش(10/5320)
وفسوق القول، فعباد اللَّه الرحمن الذين شرفوا بالانتساب إليه لَا يحضرون هذا النوع من الباطل، لأنه من سوق الخطائين الذين تروج بضاعته بينهم، وبهذا تفسر الآية الآية، فلا يشهدون أي لَا يحضرون، فهم لَا يجلسون في مجالس الزور من الأقوال والأفعال، بل تستغرقهم مجالس العبادة، ومجالس الجد والأفعال الحميدة التي تعود بالنفع على الناس، وتدرس فيها الحقائق الكونية والمصلحية، وتروى فيها السنة النبوية، وتعرف فيها معاني الذكر الحكيم، والقرب من رب العالمين.
هذا تفسير للنص القرآني، ولقد قال الزمخشري في هذا المعنى على أنه احتمالي: " يحتمل أنهم ينفرون عن محاضر الكذابين ومجالس الخطائين، فلا يحضرونها، ولا يقربونها تحرزا عن مخالطة الشر وأهله صيانة لدينهم عما يثلمه، لأن مشاهدة الباطل شركة فيه، ولذا قيل في النظارة إلى ما لَا تسوغه الشريعة هم شركاء فاعليه في الإثم، لأن حضورهم ونظرهم دليل على الرضا به، وسبب وجوده والزيادة فيه، لأن الذي سلط على فعله هو استحسان النظارة، ورغبتهم في النظر إليه، وفي مواعظ عيسى - عليه السلام -: " إياكم ومجالسة الخطائين " وهذا نظر حسن، واتجاه سليم فإنه من المقررات أن أول الشر استحسانه، وأول الباطل حضوره.
هذا احتمال في معنى الآية وهو معنى حكيم سليم مرشد، وهو يليق بحال عباد الرحمن، وهناك احتمال آخر، وهو أنهم لَا يشهدون شهادة الزور، ويكون الكلام على حذف مضاف، فمعنى (لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) أي لَا يشهدون شهادة الزور وسميت الشهادة في هذه الحال الزور؛ لأنها كذب، وهي تكون في مجالس الظلم أو معاونة للظالم، أو معاونة على الظلم، ويصح لنا أن شهادة الزور التي يروج فيها الباطل، ويُنصر الظالم، وتؤكل أموال الناس بالباطل تكون داخلة في شهادة الزور، وحضور مجالسه.
ويقال للكذب زور لأنه مائل بالنفس عن قول الحق، وكأن طبيعة النفس ألا تقول إلا صدقا، والكذب انحراف بها وميل عن الصراط المستقيم؛ لأن القلب(10/5321)
المخلص يتجه اتجاها مستقيما، ثم ينطق نطقا مستقيما، فينطق بالصدق، ثم يسير في خط الاستقامة إلى أقصى مداه، وهو خط الحكمة والفطرة الإنسانية.
ولقد قال تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) اللغو من الكلام ما لَا يعتد به وهو الذي يورد من غير روية وفكر، ليجري مجرى اللغا، وهو صوت الطير الذي يكون له معنى محدود، وكما يقصر اللغو على القول الذي لَا يكون له قصد معقول يقره العقلاء، كذلك يطلق على الأفعال العابثة، والمقابح التي يلهو بها بعض الناس في جلوسهم على المقاهي، وأهل اللغو من شأنهم أن يعيبوا غير المعيب، ويسخروا من أهل الفضل، ولا يجاريهم إلا من يكون على شاكلتهم في الأفعال والأقوال، ويقطعون الساعات في غير عبادة مقررة، ولا عمل نافع يقصد إليه، فعباد الرحمن لَا يخوضون مع هؤلاء في قول أو فعل، ولذا قال تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) أي مروا معرضين، كما يقول اللَّه تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ. . .)، وكراما تدل أولا: على أنهم ينكرونه بقلوبهم لَا ينكرون ما يفعله أهله بألسنتهم، حتى لا يخوضوا معهم في حديث يجرهم إلى أن يجيء على مسامعهم رفث القول وفسوقه، وثانيا: يكتفون بالاستنكار السلبي، وذلك يفعل في النفوس ما لَا تفعله الأقوال، وهو موعظة واستنكار للأشخاص والأفعال، والأقوال، وثالثا: ينصرف إلى نفسه، فيهذبها عن اللغو، وذلك في ذاته دعوة إلى الجد، والابتعاد عن العبث وانصراف إلى المجد.
وسماهم في هذه الحال كراما؛ لأن الكريم يعلو بنفسه عن مواضع العبث والهذر والسخف، يقال تكرم فلان عما يشينه، وإكرم نفسه عن القبح، وفي ذلك إشعار بأن الخوض في العبث أو مشاركة أهله فيه هو مهانة كل المهانة، وحط كل الحطة.
ومن أحوال المؤمن السلبية، وإن جاء بشكل فيه مظهر إيجاب ما ذكره سبحانه وتعالى بقوله:(10/5322)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
(وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
ذكروا بآيات ربهم بأن تليت عليهم آياته إن كانت متلوة أو ذكروا بآية كونية في خلقه السماوات والأرض، وإبداعه في خلق الإنسان (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) الخرور في اللغة يطلق على السقوط الذي يكون صوتا أو النزول من أعلى إلى أسفل نسبيا بصوت، كخرور الماء فإنه نزول من مكان يعلو نسبيا إلى ما دونه، والخرور قد يكون معنويا بالسجود للَّه تعالى: (خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) وإن خرور السجود حسي معنوي، فهو ينزل ساجدا للَّه تعالى فيلتقي فيه الخرور الحسي والخرور المعنوي.
ومعنى النص السامي أنهم إذا ذُكِّروا بآيات اللَّه تعالى: (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) والصمم والعمى هنا يراد به عدم الاعتبار بالآيات، فكأنهم صم لم يسمعوا، أو عميان لم يروا، وهذه أخلاق المشركين فهم الذين يخرون كالصم والعمى لَا يعتبرون ولا يدركون، وليس المواد وصف المشركين بهذا الوصف السلبي، فقط، بل إنه وصف المؤمنين عباد الرحمن بأنهم على نقيض وصف الظالمين يخرون سجدا وبكيا، فهم ليسوا كأخلاق هؤلاء لَا يعتبرون، بل يعتبرون ويخرون للَّه في كل آية يسمعونها، وفي كل عبرة يعتبرونها، وينظرون إلى خلق اللَّه تعالى نظرة مدركة مستبصرة مستهدية طالبة الرشاد، فهذا النص يشتمل على نفي الحال التي يكون عليها المشركون، فهم لَا يخرون صما وعميانا، بل يخرون ناظرين مدركين متفهمين، كقول العرب: مثلك لَا يبخل، فالمراد به في كلام العرب: أنت لَا تبخل.
وهنا إشارة بيانية نذكرها، وهي أن اللَّه تعالى يقول: لَا يخرون صما وعميانا بنفي الخرور، وفي ذلك إشارة إلى أن الآيات التي تتلى أو توجه الأنظار في المخلوقات من شأنها أن تجعل من يتأملها ويسمعها أن تجعله يخر خرورا لوضوح إعجازها ودلالتها، لكن عباد الرحمن يخرون سجدا وبكيا، والكافرون يخرون صما وعميانا.(10/5323)
ذكر اللَّه تعالى بعد ذلك وصفا يدل على إخلاص قلوبهم لمن يجيء بعدهم من ذرياتهم، إذ يريدون أن تمتد التقوى في أعقابهم من بعدهم، فيقول سبحانه(10/5324)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
هذا النص السامي يدل على أن أخلاق عباده أن يطلبوا الولد صالحا تقيا مؤمنا صادق الإيمان لَا أن يطلبوا النعم؛ لأن عمارة هذا الوجود بالولد، ولذا طلبوا هبته، ولم يطلبوا الحرمان، كما يطلب فجرة هذا الزمان المشئوم، كرر طلب الولد الصلبي في قوله تعالى: (هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا)؛ لأن الولد المنسوب إلى الأزواج وهو جمع زوج هو الولد الصلبي، وأما الولد من الذرية فهو من بعد الولد الصلبي، والذرية الأولاد من الظهور كالابن وابن الابن وبنت الابن، وذلك على اصطلاح الفقهاء، وهو مشتق من اللغة، ونرى أن النص يومئ إلى أنه من يكون من دمه، سواء أكان من أولاد الظهور، أم من أولاد البطون، ومهما يكن الخلاف في هذا فإنه لَا جدوى فيه من موضوعنا لأنه إن اقتصر في ناحية على أولاد الظهور، فمن ناحية أخرى يطلب غيره من يكون من أولاد الظهور له، وتعم الدعوة السلالات أجمعين إذا خلصت كل النفوس، وكانوا عباد الرحمن.
كان طلب عباد اللَّه الصالحين، أن تكون لهم أعقاب صالحة، عبروا عنها في دعوتهم بقوله (قُرَّةَ أَعْيُنٍ) القرة من القرار وهو الاستقرار والثبات، ويقول الأصفهاني في مفرداته: إن الأصل فيه أنه من القر بضم الراء وهو البرد؛ لأن العين في حال تستقر، وتهدأ، إذ كانوا يرهبون الحر، لأنه عندهم يكون شديدا، وقالوا برد المتقين وغيرهم يقول حرار الإيمان، والمفهوم من قرة العين أن تكون مطمئنة بذكر اللَّه وأن يكونوا في سكينة الإيمان، وقرار العين مظهر من مظاهر سكون النفس، واطمئنان الفؤاد.
وقالوا في دعائهم: (وَاجْعَلْنَا لِلْمتَّقِينَ إِمَامًا) أي اجعلنا معشر عباد الرحمن -(10/5324)
إماما - أي يقتدى بنا ونتبع في الهداية والتوفيق، وإمام معناها أئمة؛ لأن إمام مصدر يوصف به الواحد والجمع والذكر والأنثى.
ولقد بين سبحانه وتعالى جزاء من يكونون في هذه الأحوال الموجبة والسالبة، والمشبهة، فقال عز من قائل:
(أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)
يقول المفسرون الذين يتجهون إلى الإعراب ابتداء إن قوله أولئك(10/5325)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
(أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ. . .) خبر لقوله تعالى: (وَعبَادُ الرَّحْمَنِ)، وما وليها من صفات وأحوال، وأنا أقول، إن قوله تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا) هو مبتدأ وخبره، وما جاء بعد ذلك من معطوفات على الخبر، والمؤدى واحد، فليس الاختلاف اختلافا في المعنى، إنما اختلاف في الإعراب.
والإشارة هنا إلى أصحاب هذه الأحوال والصفات، ومن المعروف أن الإشارة إلى الموصوف تومئ إلى أن هذه الأوصاف سبب الحكم، وهو هنا الجزاء فهذه الصفات سبب ذلك الجزاء، وقد قال القرطبي في عبارة جامعة لهذه الصفات: " وأَوْصَافُهُمْ مِنَ التَّحَلِّي وَالتَّخَلِّي، وَهِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ: التَّوَاضُعُ، وَالْحِلْمُ، وَالتَّهَجُّدُ، وَالْخَوْفُ، وَتَرْكُ الْإِسْرَافِ وَالْإِقْتَارِ، وَالنَّزَاهَةُ عَنِ الشِّرْكِ، وَالزِّنَى وَالْقَتْلِ، وَالتَّوْبَةُ وَتَجَنُّبُ الْكَذِبِ، وَالْعَفْوُ عَنِ الْمُسِيءِ، وَقَبُولُ الْمَوَاعِظِ، وَالِابْتِهَالُ إِلَى اللَّهِ تعالى ".
والغرفة تطلق على علية البيت، واستعيرت للجنة أو لعلية الجنة أي أعلى مكان فيها؛ لأن هذه الصفات رفعتهم إلى أعلى درجات الإنسانية، فاستحقوا أعلى جزاء وهو الجنة أو أعلاها.
وإنهم يجدون في الجنة التي تسنموا أعلاها، وكانوا في الذروة الترحاب والأنس والكمال ويجدون مع هذا كله الأمن والسلام والاطمئنان والقرار، ولذا قال تعالى: (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا) لقَى هي مضعف لقى أي يلقون في قوة(10/5325)
راحمة تحية طيبة، وهي اللقاء الطيب، مع الأنس والاحترام والإقبال، كما قال تعالى: (. . وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا)، والسلام الأمن والاطمئنان، فلا يزعجون يشيء مما يزعج به أهل الدنيا، فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب، (سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صبرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).
وهنا إشارة بيانية في قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَروا)، أي أن هذا الجزاء الموفور الذي هو أعلى درجات الجنة بما صبروا، أي بسبب صبرهم وذكر ذلك تصويرا لصبرهم الدائم المستمر، وذلك لأن هذه الطاعات تحتاج إلى إرادة قوية صابرة، فإنها قمع لشهوات التعالي في الدنيا، والغطرسة والسلطان، وغيرها من الغرائز الإنسانية، فقد قمعوا هذه الغرائز وشذبوها، وجعلوها في ناحية الخير لَا تعدوها.
وإن اللَّه سبحانه وتعالى كَضَل هذه النعمة بدوامها، وبقائها، وخلودهم فيها فقال تعالى:(10/5326)
خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)
(خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76)
إذ النعم ينقصها فناؤها، وهذه نعمة كاملة لَا تفنى ويخلد فيها أصحابها، وكما قال سبحانه وتعالى في عذاب جهنم (سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا) قال في هذه (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)، أي هذه الغرفة العالية في الجنة نعم هي مستقرا فيها حين يستقرون ونعم هي مقام طيب خالد.
قال تعالى مخاطبا الخارجين عن طاعته، وفيه التفات من عباد الرحمن إلى المشركين.(10/5326)
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
(قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليوجه إلى المشركين خطاب اللَّه تعالى، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يخاطبهم بهذا الخطاب؛ لأنه نبيهم المرسل؛ ولأنهم يعاندونه ويتحدونه، ويكفرون، فأمره سبحانه بأن يذكر لهم أن اللَّه تعالى لَا يباليهم، ولا يهتم لهم لولا تصحيح اعتقادهم.(10/5326)
و (ما) نافية، ومعنى ما يعبأ لَا يبالي، ولا يحمل عبئكم لولا دعاؤكم، أي لولا عبادتكم عبادة صحيحة تؤمنون فيها بالواحد، فالدعاء هنا العبادة، ودعاء اللَّه عبادته، أي أنه سبحانه لَا يهتم بكم إلا لأجل تصحيح عبادتكم، ويصح أن يقال إن الدعاء هنا هو دعوتهم إلى العبادة الصحيحة والمؤدى واحد، وفي الأول يكون " دعاؤكم " الدعاء منهم لِلَّهِ تعالى، وفي الثاني يكون الدعاء من اللَّه ورسوله إليهم ليعبدوه سبحانه وتعالى.
وجعل بعضهم اللفظ يحتمل هذا المعنى لولا دعاؤكم الأوثان وعبادتهم، وذلك ضلال في عقولكم، وأفن في أنفسكم، واللَّه لَا يرضى لعباده هذا الضلال، ونحسب أن التخريج بعيد في تأويله وتفسيره.
وقال تعالى: (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) الفاء للسببية، أي لَا يبالي سبحانه بكم لولا أنه يدعوكم بالحق، وبسبب تكذيبكم لَا يعبأ بكم لَا يبالي (فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) الفاء عاطفة وسوف لتأكيد الوقوع في المستقبل، واللزام مصدر لازم، فمصدر فاعل فِعال ومفاعلة، وهو ملازمة العذاب لهم، وقد قال تعالى: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129).
ومعنى النص في الآية الكريمة السامية لَا يبالي بكم ربكم لولا دعاؤكم أن نعبدوا اللَّه وحده، ولكن كذبتم دعوة الحق وأصررتم على تكذيبكم، فسوف يكون العذاب ملازما لكم وتكونون خالدين فيه.
* * *(10/5327)
(سُورَةُ الشُّعَرَاءِ)
تمهيد:
هي سورة مكية نزلت بمكة إلا آية 195، وآية 221، وعدد آياتها 227،
وسميت الشعراء؛ لأن في آخرها قوله تعالى: (وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224).
وسورة الشعراء أكثرها خصص للنبيين، والعبرة فيهم.
ابتدأت السورة بالحروف المتقطعة التي لَا يعلمها إلا اللَّه، ثم ذكرت حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إيمان المشركين من قريش (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونوا مُؤْمِنِين) وإن اللَّه تعالى خالقهم قدر لهم ماهم، فلن تغير (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)، وقد وصف سبحانه وتعالى حالهم فقال:
(وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)
فقد كذبوا قبل أن يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون، وقد نبههم سبحانه إلى أنهم كذبوا والآيات تخبرهم بإبداع الخالق ووحدانيته (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9).
وقد ذكرهم سبحانه بالذين كانوا أقوى منهم سلطانا، وابتدأ بذكر فرعون، ويلاحظ هنا أنه سبحانه لم يكرر ما ذكر في خبر هذا الموضع من أنباء موسى وفرعون، إلا ما يقتضيه السياق عما ذكر في غيره، فهنا ذكر ما كان بين فرعون وموسى في مرباه في بيته، ولم يذكر من قبل (وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17).(10/5328)
هنا يبتدئ ذكر تربية موسى، ولم يذكر من قبل: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)، هنا يعترف الرِسول بفعلته، (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)، أخذ فرعِون يسأل عن رب العالمين (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)، فأجاب موسى (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) هنا يرميه بالجنون كما قالت قريش ولكن موسى يصر على التعريف بربه فيقول:
(قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
وعند ذلك يهدد فرعون موسى
بسجنه إن اتخذ إلِها غيره (قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) بهره الأمر، ولكنه لم يذعن، وظن أنه سحر، وقال (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ)، ولم يكن غريبا ذلك، لأن السحرة كانوا علماءهم، والتفت إلى أصحابه والملأ حوله، (قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39).
وكأنه كان يتردد في جمع الناس، حتى لَا يؤثر فيهم ما يأتي به موسي، اجتمعوا والسحرة وطلب السحرة أجرا على ما يفعلون إن كانوا هم الغالبين فوعدهم بالأجر، وأكثر من الأجر، وهو أن يكونوا من المقربين إليه، لكن السحرة، خيبوا ظنه، وآمنوا برب موسى وهارون، فقال: (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49).
احتدم الخلاف، موسى يدعو إلى ربه، وفرعون يعذب، فأوحى اللَّه تعالي: (أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكم مّتَّبعونَ)، وأرسل فرعون يستنصر بقومه الذين لم يعاينوا خذلانه، وشهادة السحرة عليه (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا(10/5329)
لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)، (فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62).
وأوحى اللَّه تعالى إلى موسى (أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)، وأنجى اللَّه موسى وبني إسرائيل، وأغرق الآخرين.
بعد هذه الأحزاء من قصة موسى وفرعون، والمتأمل فيها يجد أنها ليست مكررة إلا بما يقتضي المقام ذكره، وما يذكر يجد المتأمل فيه نوع اختلاف وتوجيه، لم يذكر في غير هذا الموضع، وكل كلام اللَّه تعالى له حلاوة، وعليه طلاوة.
وجاء من بعد ذلك قصص أبي الأنبياء إبراهيم، وفيه يبتدئ إبراهيم باستنكار عبادة الأوثان، ويبين لقومه أنها لَا تصلح أن تكون معبودا، لأنها لَا تسمع ولا تنفع ولا تضر: (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73).
ويردون قوله بأنهم وجدوا آباءهم يفعلون، فينذر بهم إبراهيم ويقول إنهم عدو لي إلا رب العالمين، ويصف ربه تعالى، وأفعاله فيقول: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82).
ويتجه من بعد إلى ربه يدعوه (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91).
ثم بين سبحانه وتعالى ما يكون يوم القيامة عندما يلتقي الكافرون وما يعبدون من دون الله: (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104).(10/5330)
بعد ذلك أشار إلى قصص نوح وقومه: (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122).
ثم أشار سبحانه إلى عاد ورسولهم هود، وقد دعاهم كما دعا نوح، وكذبوه كما كذب قوم نوح، فقال لهم:
(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138).
ولقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك قصة ثمود ونبيهم صالح، (إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159).(10/5331)
ثم يذكر سبحانه مشيرا إلى قصة نبي الله لوط، وقومه الفاسقين فقد نصحهم وأرشدهم إلى عيبهم الفاسق الفاجر، (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)، وقد لجوا في طغيانهم يعمهون (قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175).
ولقد ذكر بعد ذلك قصة شعيب عليه السلام مع أصحاب الأيكة قال لهم شعيب:
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191).
وبعد هذا البيان القصصي الذي فيه عبرة ببيان أحوال من سبقوهم من أهل الكفر وتشابه أقوالهم، ذكر سبحانه القرآن الحجة الكبرى، والمعجزة الخالدة المستمر إعجازها فقال:
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201).
ثم بين سبحانه أن العذاب يجيئهم من حيث لا يشعرون، (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرونَ)، ثم يذكر سبحانه أنهم كانوا يستعجلون عذاب اللَّه، فيقول سبحانه وتعالي:
(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207).(10/5332)
وقد بين اللَّه سبحانه وتعالى أنه ما أهلك قرية إلا بعد إنذارها فقال: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212).
ويدعو اللَّه تعالى نبيه ومَن معه، ومنِ أرسل إليهم، فيقول: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220).
وبين سبحانه وتعالى من تنزل عليه الشياطين، (تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223).
وبين بعد ذلك أنه بمنأى عن الشعر والشعراء، فقال:
(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227).
* * *(10/5333)
معاني السورة
القرآن مبين، والنبي منذر ومبشِّر
قال اللَّه تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
* * *(10/5334)
طسم (1)
(طسم) هذه حروف ابتدأت بها السورة، وقد ذكر أن معناها على الحقيقة لا نعلمها، بل اختص بها علم اللَّه تعالى واللَّه بكل شيء عليم، وقد نعرف حكمتها على قدر طاقتنا، وهي الإشارة إلى أن القرآن مكون من الحروف التي تنطقون بها، ولكنكم تعجزون عن أن تأتوا بمثله؛ لأنه من عند الله، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُمي لَا يقرأ ولا يكتب، فهو يعرف الكلمات ولا يعرف الحروف، فذكرها في القرآن دليل على أنه ليس من عند ذلك الأُميّ إنما هو من العالم بكل شيء الذي لا يغيب عن علمه شيء فى السماء، ولَا في الأرض، ولأن كبار المشركين قالوا فيما بينهم (لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، فإذا ابتدأت السورة بهذه الحروف الصوتية استرعاهم صوتها، فجاءوا متلهفين للاستماع، ويذهب عنهم ما اتفقوا.(10/5334)
ولذا كانت أكثر السور المفتتحة بهذه الأحرف، يعقبها ذكر القرآن، وهنا جاء بعد هذه الحروف الصوتية قوله تعالى:(10/5335)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
(تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
- الإشارة في قوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) للسورة أو آيات مضافة إلى الكتاب، والإضافة بمعنى (من) أيَّ آيات من الكتاب، وأضيفت إلى الكتاب كأنها كل الكتاب؛ لأن كل آية من الكتاب فيها خصائصه من إعجاز، وبيان وروعة، وكانت الإشارة بـ (تلك) التي تدل على البعد لعلو منزلتها، وارتفاع قدرها، وسموّ مكانها، و (الْمُبِينِ) معناها البين في ذاته والمبين للشرائع والتوحيد، وهداية البشر، وما من شيء يتعلق بالإيمان وشرائعه إلا بينه، لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فهذا الكتاب أو بعضه واضح الدلالة على أنه من عند اللَّه تعالى بإعجازه، ولقد كان محمد الصدوق طول حياته حتى إنه ما عرفت له كذبة قط، وهو الشفيق على قومه حريص على أن يؤمنوا به، حتى لَا تفوته فضيلة التصديق، ولا يفوتهم خير الإيمان، ولذا قال تعالى:(10/5335)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
(لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3)
البخع قطع خيط العنق، أي إصابة النخاع الشوكي الذي يسير في فقرات العنق، فإن ذلك نهاية الفرج (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِين) الضمير المنسبك من أن وما بعدها فاعل باخع، أي يبخعك ويقتلك ألا يكونوا مؤمنين، وهذا كقوله تعالى في أول سورة الكهف: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)، وكقوله تعالى: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَات) وقلنا إن فاعل: باخع هو ألا يكونوا مؤمنين، بعدا عن التأويل، لأن ما لَا يحتاج إلى التأويل أولى بالأخذ مما يحتاج إلى تأويل، ولأن التأويلات فيها بعد، وفيها خروج عن معنى الآية الظاهر.
وقوله: (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) يشير إلى أن بخع نفس الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم لم يكونوا مؤمنين أي لم يؤمنوا، والضمير كينونتهم أنهم من المؤمنين، فيكونوا قوة، وهم أقرب الناس إليه، وهو عليهم شفيق.
وقد بين سبحانه وتعالى أن اللَّه أراد أن يكونوا مختارين في إيمانهم، فيؤمنوا بعد الموازنة بين حالهم، وما يدعوهم إليه النبي، فيكون التكليف بعد الاختيار والموازنة، ويكون الجزاء على الإيمان، والجزاء على الامتناع.(10/5335)
قال عز من قائل:(10/5336)
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)
(إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً)، أي معجزة من السماء قاهرة تقسرهم على الإيمان قسرا بحيث لَا يكون لديهم احتمال التكذيب أو الرد، أو التفكير، فيؤمنوا مقهورين مقسورين، غير مفكرين، وما كانت مثل هذه الآية من عند بعث أي رسول، بل كانت عقابا عاجلا في الدنيا على كفرهم على الاختيار، وبها ينتهي أمرهم وجدلهم.
والتعليق بـ (إنْ) يومئ إلى أن اللَّه لَا يغفل جلت قدرته؛ لأنه سبحانه كما تدل أعماله، يريد التكليف لَا مجرد الامتناع عن الشر والعصيان.
وقال سبحانه ما يدل على أن الآية التي لو شاء لأنزلها قاهرة مانعة من المخانعة، ولذا قال (عليهم) الدالة بكلمة (على) على القهر والقسرة، وذلك غير ما أودعه اللَّه الإنسان من علم وفكر أراد له به الخلافة في الأرض، وفضله على الخلق أجمعين، حتى على الملائكة، إن استقام وسار على الجادة.
(فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ)، أي فظلوا واستمروا لها خاضعين، وعبر عن خضوعهم بالأعناق على سبيل المجاز المرسل، إذ عبر باسم الجزء عن الكل، لأن لهذا الجزء مزية في هذا المقام عن بقية الأجزاء، إذ هو مظهر الخضوع والخنوع، وللإشارة إلى أن استكبار الكافرين هو الذي منعهم من الإيمان فعبر بهذا للدلالة على أنهم يخضعون ولأن العنق يعبر به عن الكبراء المتجبرين، فيقال عنق القوم أي كبارهم المسيطرون أو المتغطرسون، وهذه الآية كقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
وكقوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) وعبر بخاضعين التي هي وصف العقلاء بدل خاضعات التي هي مقتضى السياق للدلالة على أن المقصود من ذلك هو الأشخاص.(10/5336)
ومما يجب التنبيه إليه أنه عبر بالماضي في معنى المضارع للدلالة على تأكد خضوعهم وأنهم يظلون خاضعين غير متمردين، ولكنه أراد الاختيار تكريما لبني آدم في الأرض كما أراد أن يجعله خليفة.
وقد بين سبحانه وتعالى تلقي المشركين للقرآن، فقال عز من قائل:(10/5337)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)
(وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (6)
- الذكر هنا ليس القرآن كله، إنما هو بعض ما ينزل من مواعظ مذكرة، وقصص وأحكام تذكر، وعبَّر بلفظ، (وَمَا يَأتِيهِم مِّن ذِكرٍ) على أن ذلك قريب محدث مجرد لمعنى التذكر والتفكر لمن هو أهل لذلك، إلا كانت حالهم حال إعراض، فالاستثناء من أعم الأحوال، والجملة بعد (إلا) منصوبة في معناها على الحال. وإن هذا الذكر من الرحمة بهم؛ لأن التذكير رحمة، ولذا قال تعالى: (مَا يَأتِيهِم مِّن ذِكْرٍ منَ الرَّحْمَنِ) أي من اللَّه تعالى الذي هو مصدر الرحمة، والذي لَا يكون منه إلا ما هو رحمة، فهم يعرضون عن الذكر وهو رحمة بهم، فكل شيء منه رحمة جزاؤه رحمة، وعقابه رحمة، ومواعظه وشرائعه رحمة، و (مِن) في قوله تعالى: (مِّن ذِكرٍ) لبيان عموم الاستغراق، ومن الثانية للابتداء وبيان من صدر عنه التذكير الذي هو رحمة للعباد، وكانوا دالة على استمرارهم في الإعراض كأنه شأن من شئونهم، وحال دائمة من أحوالهم، وتقديم (عَنْهُ) عن متعلقها، وهي (معرضين) لأن التقديم يفيد معنى الاختصاص، أي كأنهم لا يعرضون إلا عن الحق، ومن فساد نفوسهم لَا يعرضون عن باطل، بل لا يعرضون إلا عن الحق لأنه يلائم فساد نفوسهم، وضلال تفكيرهم.
وقال تعالى:(10/5337)
فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6)
(فَقَدْ كَذَّبُوا ... (6)
الفاء هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي فإنه يترتب على هذا الإعراض التكذيب، أي بسبب ذلك الإعراض قد كذبوا الحق لما جاءهم، وبسبب ذلك سيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون والأنباء جمع نبأ، وهو الخبر العظيم الشأن الذي يؤثر في شأنهم، وإن المواعظ، والذكر الحكيم كان فيه إنذار بما يقع لهم في العاجلة والآجلة، ففي العاجلة يجعل اللَّه(10/5337)
كلمة الذين كفروا السفلي، وكلمة الحق هي العليا بتوالي هزائم الشرك حتى تطهر منه أرض العرب، وفي الآخرة بعذاب الجحيم، ولذا قال تعالى: (فَسَيَأتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءونَ) الفاء كما أشرنا لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها والسبب لتأكيد الوقوع في المستقبل، والأنباء هنا الوقائع التي أنبا عنها القرآن الكريم، والنبي الحكيم، فهم يرون هذه الأخبار وقائع تقرع حسهم، وتنبه غافلهم، وتوجه اليقظ إلى الحق الصريح الواضح البين.
وقوله تعالى: (أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) توبيخ لهم على استهزائهم، وقد كان له هذه الوقائع القارعة، وتقديم الجار والمجرور على يستهزئون فيه اختصاص نسبي، أي لَا يستهزئون إلا بالحق، وقلوبهم معرضة، ونفوسهم مصروفة عن الحق إلى الباطل، فلا يستهزئون له، وهذا تصوير نفسي لانحرافهم عن الجادة، والتواء تفكير، حتى لَا يكون منهم إلا الباطل وتأييده، ونصرته.
وإن هذه الآية كقوله تعالي: (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5).
مع لجاجتهم في الكفر والتكذيب والاستهزاء يذكرهم تعالى بنعمه عليهم بإيجاز فيقول:(10/5338)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
- الهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى التوبيخ، والواو عاطفة على فعل محذوف تقديره في القول افعلوا ذلك، ولم ينظروا، وهذا توبيخ على فعلهم؛ لأنهم استهزءوا بالحق، ونعم اللَّه تحوطهم وتستغرقهم (يَرَوا) معناه يرون، ولكنها هنا نظرة تأملية متتبعة وليست نظرة عاجلة خاضعة، بل ترجع البصر حينا بعد حين؛ ولذا كانت التعدية للدلالة على التتبع متبصرين إلى الأرض كيف ينبت(10/5338)
فيها النبات، ويستغلظ سوقه، ويقوى عوده حتى يصير طعاما في ذاته أو حبا متراكبا، وهكذا، ولذا قال تعالى: (كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) كم - هنا هي الخبر الدال على الكثرة، وموضعها في الإعراب النصب أي كثيرا ما أنبتنا فيها (مِن كُلِّ زَوْجٍ) من بيانية، أي أنبتنا من زوج أي شيئين متقابلين في اللون أو الذكورة والأنوثة، وغير ذلك من كل شيئين متقابلين في الألوان والطعوم، وكريم - أي كثير المنافع في الأكل والملبس، والمأوى، وإن هذه الجملة السامية فيها من دلائل الإعجاز بإيجاز القصر، الذي تكثر فيه المعاني مع قلة الألفاظ، فهذه الجملة شملت كلَ ما في معاني الإنبات، وثماره من زرع وغراس نخيل وعنب، وفواكه من كل ما تشمله الألفاظ، وتراه الأعين.(10/5339)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً ... (8)
الإشارة إلى الإنبات، أي إن في ذلك لآية، أي لعلامة تدل على قدرة القادر، ونراها كل يوم في حياتنا الخاصة والعامة، وهي حولنا تنبئنا بالعليم الخبير، القادر على كل شيء، فحولنا النخيل والأعناب، وحولنا الحب المتراكب، والزروع والحشائش التي تأكل منها أنعامنا، وتدر علينا الدر الوفير، ولكن مع هذه الآية الباهرة والدلائل القاهرة أكثرهم لَا يؤمنون، ولذا قال تعالى: (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (كان) هي الدالة على الاستمرار، أي وقد استمر أكثرهم غير مؤمنين؛ لأنهم لم تدرك عقولهم، ولم يتدبروا ولم يتفكروا.(10/5339)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
الواو عاطفة على ما ذكر من آيات بينات. والتعبير بربك للإشارة إلى معاني الخلق والربوبية والكلاءة والحفظ والرعاية والقيام على الحياة والأحياء، لأنه الحي القيوم (لَهُوَ) اللام لام التوكيد، (العزيز) أي الغالب (الرحيم) المتصف بصفة الرحمة الدائم، فهو رحيم بهذا الخلق والتكوين، ورحيم بهذه الرسائل التي أرسلها على أيدي الرسل، ورحيم بالبعث والنشور، ورحيم بكل ما ورد به الرسل من معجزات دالة على رسالاتهم، ورحيم بالعقاب والثواب، لأن ذلك حمل على الخير، وجزاء عليه.
* * *(10/5339)
من قصة موسى عليه السلام
قال تعالى:
(وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)(10/5340)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
* * *
هذه قصة موسى وفرعون، والمقاولة التي جرت بين موسى الكليم، وفرعون الجبار العنيد، وإن فيها جزءا لم يذكر في قصة موسى وهارون، وهي المجاوبة التي كانت بين كليم اللَّه ومربيه حتى بلغ رشده، وفيها عَتْب المربي ودفاع من تربى ومجابهته بالحق القوي الصريح، وجاء ما هو مذكور في غير هذا الموضع من قصة العصا، ثم قصة النجاة، التي سنذكرها في موضعها فيما يلى، وإن ذكر التربية هو الذي اختصت به القصة، وجاء ذكر المعجزة، وأعمال السحرة تابعا، ولا يعد ذلك تكرارا لأصل القصة، إن كان طاغوت فرعون يذكر فيما تشبه التكرار تنبيها على الظلم والطغيان، كما يكرر ذكر طلب التوحيد، والنهي عن الشرك.(10/5341)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
(وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11).
الواو عاطفة هذا الكلام على ما سبقه، أو دالة على الاستئناف و (إِذْ) متعلقة بمحذوف، تقديره اذكر، أي اذكر لقومك قصة موسى، والتعبير بربك إشارة إلى أنه الكالئ الحامي المدبر القيوم على كل شيء، (أن) حرف تفسير للنداء، نداء اللَّه تعالى جلت قدرته، فالنداء (ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(10/5342)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)
قَوْمَ فِرْعَوْنَ) وصفوا بالظلم؛ لأنهم هم الذين مكنوا فرعون من ظلمه، فكانوا ظالمين؛ لأنهم الذين أقاموه، وأيدوه، وطاوعوه، ومهدوا، وصاروا آلة طيعة لتنفيذ مظالمه، وإنه لا يسأل العامة عن ظلم الخاصة، حتى يروا الظلم فلا يستنكروه، وكذلك كان أهل مصر، وعبر عنهم بقوم فرعون لأنهم كانوا له تبعا، وقد فني وجودهم في وجوده، (أَلا يَتَّقُونَ) هذه جملة مستأنفة دالة على أنهم لم يتقوا، وأفرطوا في اتباع فرعون، وكان إسرافهم على أنفسهم، إذ إنهم لما لم يستنكروا أوغل هو في الطغيان بمقدار إسرافهم في الخضوع، فرد الطغاة وقاية للأنفس، واتقاء للَّه، و (ألا) دالة على التحريض والحث على التقوى، وهنا التفات من الخطاب إلى الغيبة، للدلالة على الغضب عليهم، وهناك قراءة بالخطاب ألا تتقون، ويكون النص محرضا لهم على التقوى.
وإن ذلك النص بعد فوات قرون، فيكون معناه أنهم كانوا في حال كان يجب أن يحرضوا فيها على التقوى، وأن موسى عليه السلام حرضهم عليها، ولم يتركهم لأنفسهم، وفي ذلك إشارة إلى أنه يجب أن يقمع كبراء قريش، وألا يستسلم الناس لهم، ويخنعوا لعبادة الأوثان.
وهناك قراءة بكسر نون (أَلا يَتَّقُونَ) وتكون منيبة عن ياء المتكلم، أي ألا تتقون اللَّه رب العالمين.
(قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)(10/5342)
هذا جواب موسى لربه، وقد فصلت هذه الجملة لأنها جواب عن سؤال مقدر، وكيف أجاب موسى، وصدر كلامه بالنداء لربه، للدلالة على شعوره بأنه في كلاءته، وأنه سيعمل في رعايته وحمايته،(10/5343)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12)
(إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبونِ) بكسر النون للإشعار بأن ياء المتكلم محذوف، والخوف هنا لَا يتضمن معنى النكوص عن الاستجابة لربه، إنما يتضمن معنى تقدير الموقف وإرادة الاستعداد، والشعور بعظم المهمة التي كلفه اللَّه تعالى إياها، وإنها تحتاج إلى جمع كل ما عنده من قوة، وقد أحس بموضع الضعف فيه، وهو البيان مع توقع الضيق والحرج، ولذا قال:(10/5343)
وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
(وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13)
ضيق الصدر هو من التكذيب والمباهتة في قوة من فرعون، وطغيانه، فيكون في شدة من هجوم الباطل المؤزر بالطغيان الفرعوني، مع حبسة اللسان فلا يستطيع رد إنكار أولئك الكاذبين المكذبين المزودين بطغيان عظيم، ولذا استغاث بربه قائلا:
(فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) والفاء لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، أي فإنه يترتب على هذه الحال التي أكون عليها أن أطلب إليك أن ترسل إلى أخي هارون بأن تجعل له رسالة معي، و (إلى) تدل على أن النهاية أن يكون رسولا معي، وِهذا كقوله تعالى: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35).
أجاب اللَّه تعالى طلب موسى عليه السلام، وقال في آية أخرى: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) ولكن موسى عليه السلام ذكر أن له عندهم ذنبا، وأنه يخاف أن يقتلوه فقال:(10/5343)
وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
(وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
والنون مكسورة منيبة عن ياء متكلم محذوفة، والذنب ليس إثما ذاتيا، إنما هو ذنب عندهم، فهو ذنب لهم، قد قدر موسى الكليم أن يسطوا عليه ويقتلوه، وذلك الذنب أنه قتل واحدا من المصريين، لاعتدائه على إسرائيلي من قومه، وقد قال تعالى في ذلك في سورة القصص (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ(10/5343)
هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17).
هذا هو الذنب، وسنتكلم في مقدار كونه ذنبا عندما نتكلم على هذا في سورة القصص قريبا إن شاء اللَّه تعالى.
أجابهما اللَّه تعالى على طلب هارون، وعلى بث روح العمل، ودفع الخوف، فقال:(10/5344)
قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
(كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)
(كَلَّا) حرف للرد مع ردع، أو قوة في الرد، والفاء للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كان ذلك ما تخاف فاذهبا، والخطاب بالتثنية دليل على أنه أجيب سؤله بالنسبة لهارون (فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا) أي محملين بالآيات التي تدل على الرسالة، فإنه إذا كان قويا بسلطانه، فأنتما قويان بالحق الثابت بالآيات الباهرة القاهرة التي لَا يماري فيها إلا أثيم، ثم طمأنهما على أنه لَا يؤذيهما، فقال: (إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ) وقد أكد سبحانه وتعالى نصرتهما بثلاث مؤكدات أولها - إنَّ الدالة على التوكيد، والثاني المعية، في اللَّه معهما، ومن كان اللَّه معه لَا يغلب ولا يرهب أبدا، والثالثة أنه مستمع لما يجري مرتب عليه ما يستحقه أهل الطغيان، وهذا كقوله في سورة طه (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى).(10/5344)
فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16)
(فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لأن المترتب على الأمر بالذهاب أن يأتياه ويخاطباه بأنهما رسول رب العالمين، وأفردت رسالتهما بالتعبير برسول رب العالمين للإشارة إلى أن الرسالة التي أرسلا بها واحدة، وأنهما كرسول واحد، وأن موسى يتلقى أمر ربه ويعاونه هارون في التوضيح والتبيين، فهما رسولان لرسالة واحدة، وقد ذكر أنهما رسولان في سورة طه، فقالا: (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ)،(10/5344)
على أساس أنهما رسولان، وإن كانت الرسالة واحدة، وأسندت إلى رب العالمين أي ربك ورب آبائك الأولين، ورب الناس أجمعين، فهو خطاب يوجب الخضوع للَّه تعالى من فرعون طاغية الأرض، ومن معه من قومه الذين يمالئونه، ويشجعونه.(10/5345)
أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
(أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)
أن هنا تفسيرية، أي أن تفسير القول هو هم أرسل معنا بني إسرائيل، ويلاحظ هنا أن الرسالة ليست لبني إسرائيل خاصة؛ إنما هي دعوة إلى التوحيد، ورفع الظلم، وابتدى ببني إسرائيل، لأن ظلمهم صارخ، إذ هو يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم.
هذا الكلام الذي سبق كله كان أمر اللَّه تعالى لموسى، وكان كلام موسى وهارون لفرعون، فبماذا أجاب فرعون؟.
(قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
ابتدأ الكلام بعتب، واتهام بكفر النعمة، أو كفره بألوهيته، قال فرعون(10/5345)
قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
(قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَليدًا) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. والمعنى: لقد ربيناك فينا، أي في وسطنا مكرما فينا عزيزا، أي خلطناك بأنفسنا خلطا وكأنك منا، (وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)، أي أقصت فينا مختلطا بنا سنين، الظاهر أنه بقي فيهم حتى بلغ الرشد، وصار شابا سويا، يدبر أموره، ويعرف غاياته، ومقام رب العالمين، وخصوصا أن جزءا من التربية كان مع أمه، كما قال تعالى: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا) ويقال إنه مكث في بيت فرعون إلى أن بلغ ثلاثين سنة، والراجح عندنا أنه مكث حتى صار رجلا سويا، بدليل ما آتاه اللَّه من قوة عندما استغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه.
ثم ذكر بعد المودة المقربة، ما فيه لوم له(10/5345)
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19)
(وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ... (19)
قرئت بفتح الفاء في فعلتك وكسرها، وعلى الفتح تكون للمرة وعلى الكسر تكون للهيئة،(10/5345)
والمعنى في كلتا القراءتين القتلة التي قام بها الرجل القبطي، إذ استغاثه الذي من شيعته، قال فرعون: (وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ)، أي الكافرين بألوهيته، وبأنه لم يكن ليذعن له كما يذعن الذين يعدونه إلها، ويقول لهم ليس لكم من إله غيري، وقال بعض المفسرين: المراد كفر النعمة، ولا نحسب أن فرعون يرى من كفر نعمته قتل واحد من الرعايا، ولو كان ذا صلة به كخادم أو نحوه، فموسى فيما أحسب كان أقرب إليه من كل الخدم، إذ امرأة فرعون قد اتخذته لها وله ولدا.
لم ينكر نبي اللَّه تعالى أنه فعلها كما وصف، ولكن أنكر أنه ملوم لكفره به، فقال:(10/5346)
قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
(قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20)
فعلتها إذ ذاك وأنا من الضالين، ضلالا بريئا، والضلال البرئ يكون بالجهل والنسيان والبعد عن التأني والصبر، وأخذ الأمور، والاكتفاء في الدفاع عن الحق بأقل الأضرار التي ينزلها بالمعتدي، فنبي اللَّه النقي يعترف بأنه لم يسلك طريق الجادة المستقيمة، وهذه حال موسى عليه السلام وإذاً معناها إذ ذاك، فالتنوين عوض عن المضاف إليه مرتبا الواقعة على مقدماتها من شر في القبطي أو المصري، معترفا بأنه ضال ضلالا بريئا كما ذكرنا.
ولما فعلها فَرَّ، فقال:(10/5346)
فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21)
(فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ ... (21)
الفاء عاطفة، وقد ذكر سبحانه وتعالى أسباب الفرارِ وكيف كان في سورة القصص، فقال عز من قائل (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21).
والفاء في قوله تعالى: (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) عاطفة، والحكم هو الحكمة أي التجربة، وبعد أن كان غفلا في النعمة في قصر فرعون اكتسب حكمة وتجربة، وعمل وكسب، فإن الشدة تصقل النفس، وتربي الحكمة ووزن الأمور والأفعال، ويصح أن يكون الحكم بمعنى الرسالة، والأول أولى؛ لأن التأسيس أولى من التأكيد، وجعلني رسولا من المرسلين الذين أرسلهم رب العالمين، فقد جعله اللَّه تعالى من أولي العزم من الرسل.(10/5346)
ثم بين كليم اللَّه أن النعمة التي يمنُّ بها عليه هي نعمة سببها أشد النقم؛ لأنها كانت بسبب إيذائك المطلق لبني إسرائيل مما جعل أمه تلقيه في تابوت في اليم فيكون في قصر فرعون، فلولا هذه النقمة الفاجرة ما كانت تلك النعمة الِتي تمنُّ بها، وتستطيل عليَّ بذكرها، ولذا قال:(10/5347)
وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
الإشارة إلى نعمة التربية وليدا وإنه لبث فيهم من عمره سنين (تَمُنُّهَا عَلَيَّ) أي تمنُّ بها عليَّ أنَّك عَبَّدْت بني إسرائيل، وفي هذا إشارة إلى سبب النعمة، وهو أنه عَبَّدَ بني إسرائيل وأذلهم وذبح أطفالهم، واستحيا نساءهم فاضطرت أمه إلى ما كان مؤديا بإنعام الله إلى قصره، وإشارة أيضا إلى أنه يقابل هذه النعمة إذلاله لقومه بني إسرائيل.
اتجه فرعون من بعد ذلك إلى السؤال عن رب العالمين:
(قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)
-(10/5347)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23)
الاستفهام من فرعون عن الذات العلية يتعرف ماهيتها وحقيقتها، فالاستفهام بم يدل على ذلك؟ أي ما هو؟ ما ذاته؟ قال موسى مجيبا، إجابة هادية مرشدة إلى أن الذات لَا يستفسر عنها، إنما يعرف رب العالمين بخلقه، فقال:(10/5347)
قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
ورب السماوات تتضمن أنه خالقهما وموجودهما والقائم عليهما، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزولَا) وما بينهما هو الفضاء القائم، والذي تكون فيه السحاب وينزل منه المطر، وذكر السماوات فيه إشارة إلى أن اللَّه رب الشمس التي كانوا يعبدونها باطلا باسم رع (إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ)، أي إن كنتم تريدون الحق الذي تسيرون عليه في طريق اليقين والإذعان، ولكن فرعون خشي على قومه من أن يتأثروا بقول موسى الكليم، فأراد أن ينبههم إلى سلطانه(10/5347)
قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25)
(قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) النص تحريض منه لمن حوله على الاستماع والتأمل وهو جدير بالنظر والتفكر، موهما لهم أن ذلك لَا يناقض ألوهيته ولا يعارضها، ولكنه جدير بالنظر، وقد يكون ذلك استنكارا لأن يكون لأجرام السماوات والأرض موجه غيره(10/5347)
مما جعل موسى عليه السلام يوجه للتعريف برب العالمين إلى مقام آخر، يبين عظم ربوبيته على الماضين والحاضرين وإنكم وفرعون لستم إلا طبقة من طبقات الوجود الإنساني:(10/5348)
قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26)
(قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) التفت فرعون لمن حوله كأنه ينبههم إلى إنكار موسى لألوهيته المقررة الثابتة عندهم، فنبههم موسى أولا: إلى أن اللَّه ربكم الذي خلقكم وأنشأكم، وخلق آباءكم الأولين ورباهم وكونهم، فهل فرعون خلق وقدر، وهو المخلوق الذي لا يخلق، ولا يقدر، وثانيا: إلى أن اللَّه رب آبائكم الأولين قبل أن يوجد فرعون، وثالثا: إلى أن الرب يجب أن يكون قديما باقيا، ولا يكون محدثا فانيا، كفرعون.
- كان كلام موسى عليه السلام متضمنا حجة قوية لإبطال ألوهية فرعون، وإنه بشر كسائر البشر، لَا يملك خلقا ولا إنشاء، ولذلك اتجه فرعون إلى رمى موسى بالجنون أولا، وتهديده بالسجن، فقال:(10/5348)
قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)
(قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
أول رمية رمى فرعرن بها موسى هي الجنون، كما كان المشركون يقولون ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذلك تسرية عن النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، وأكد فرعون جنون موسى بـ إنَّ، وبلام التوكيد، وبالجملة الاسمية، وذكره بوصف الرسالة تهكما وإمعانا في الإنكار والتنفير، وأنه مع جنونه المدعى أرسل إليكم، وفى ذلك تحريض على استنكار رسالته كأنه يقول: اختير لكم رسول مجنون.
ولكن موسى كليم اللَّه لم يرعه ذلك الكلام الباطل، ولم يهتز له، بل استمر فِى بيان بطلان ألوهية فرعون، فقال أن ربه رب الكون:
(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
أي أن أقصى سلطان فرعون أن يكون في مصر، ومصر ليست إلا جزءا من الأرض، والرب الخالق يكون رب الجميع من سكان الأرض، والسماوات، والشرق والغرب، فهل تستطيع أن تدعي هذا؟ بل إنك لَا يمكن أن(10/5348)
تتطاول إلا على أهل مصر، الذين تعودوا الخنوع لحكامهم في ماضيِهم وحاضرهم، فقول موسى عليه السلام لطاغوت مصر عن رب العالمين(10/5349)
قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) إبطال واضح لألوهية فرعون المدعاة، وقد التفت موسى إلى من حوله الذين ينادون بألوهيته فقال محرضا لهم على التفكير بعقولهم، فقال: (إِن كنتُمْ تَعْقِلونَ) أي إن كنتم ذوي عقل تعقلون، وتعلمون أن الألوهية ليست أجزاء مجزأة، إنما هي سلطان على الوجود كله.
عندئذ أيقن فرعون أنه ينكر ألوهيته، وأنه يحرض من حوله على إنكارها، ويدعوهم إلى إعلان بطلانها، هذا وفي ذكر المشرق والمغرب بيان لقدرة اللَّه تعالى الباهرة، وتنبيه إلى ما يشاهدونه كل يوم من شروق الشمس وغروبها في المغرب، والشمس بذلك تنتقل في مداراتها، فهل فرعون يفعل هذا، إنه ليس برب، ولا بإلهٍ.
اتجه فرعون إلى حجته التي يحسبها دامغة، وهي ذريعة الطغيان فقال:(10/5349)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
(قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
اللام هي الممهدة للقسم، وقد أكد تهديده بقول يشبه القسم، أو أقسم بما يقسم به مثله في طغوانه، واتخذت معناها: جعلت لك إلها غيري، وكأن
الألوهية أمر يجعل، وليس إذعانا لحقيقة ثابتة في الوجود يخضع لها العبد بسلطان الربوبية وبسلطان الفطرة المدركة الواعية، وذلك ضلال كل من كان الطاغوت ديدنهم الذي لَا يخالفونه، (لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) هذا تهديد لموسى عليه السلام، أي لألقين بك في السجن، حيث لَا تستطيع قولا، وتكون في ضمن المسجونين الذين لَا يسمع لهم صوت، ولا قول.
ولكن موسى كليم اللَّه لم يرعه ذلك، ولم يرهبه، بل أخذ يدير القول إلى الحجة والبرهان فقال لفرعون:(10/5349)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
(قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
كان فرعون رجلا يؤمن بالأمر المحسوس، فجاراه موسى عليه السلام فيما يؤمن فقال ما قال: (أَوَلَوْ جِئْتكَ) الواو عاطفة على فعل محذوف تقديره يناسب(10/5349)
المقام، وكأن سياق القول أتسجنني، ولو جئتك بشيء مبين، أي بحجة واضحة مبينة لرسالتي، ولبطلان ألوهيتك وعجزك، والشيء هو المعجزة الكبرى التي جاء بها موسى في ضمن تسع آيات بينات، وعبر بشيء في هذا المقام لأن العصا، وما معها شيء، ولتقريب القول إلى فرعون، ولتكون الحجة نتيجة لما يقاوله ويبطل قوله.
وفرعون يحسب أنه يعجز عن أن يأتي، فيقول:(10/5350)
قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
(قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)
أي إن كان شأنك أنك صادق في زمرة الصادقين ولست كذابا ولا بهاتا، ولا مفتريا على فرعون وألوهيته.
* * *
المعجزة
* * *(10/5350)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32)
(فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)
الفاء عاطفة تفيد الترتيب والتعقيب، أي أنه بمجرد أن طلب الدليل جاءه تباعا معقبا للطلب، وكان الجواب عملا وليس قولا، ألقى عصاه في الأرض، فإذا هي ثعبان، (إذا) للمفاجأة أي فوجئ الناظر، فوجدها ثعبانا مبينا أي واضحا بينا،(10/5350)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)
وأتبعه بمعجزة أخرى، وأخرج يده، ففوجئ أيضا بأنها بيضاء للناظرين، وكان قد أخرجها من جيبه، فإذا هي بيضاء من غير سوء، كما قال تعالى في سورة القصص (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ).
ويظهر أنه لم تكن يده في أصل خلقته بيضاء ناصعة البياض، فتغير لونها مفاجأة إلى ناصعة يعد معجزة حسية في ذاتها، وهي تومئ إلى أن يده ستكون مقدم خير على بني إسرائيل، وعلى مصر، إذ تكون قاضية على طغيان فرعون، ثانيا: حيرت المعجزة أو المعجزتان فرعون فرمى موسى بأنه ساحر ماهر عليم بالسحر، وأنه يريد بهذا السحر أن يخرج أهل مصر من أرضهم(10/5350)
قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)
(قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34)
ثم أثار نخوتهم الوطنية، أو العداوة التي كانت بينهم وبين الهكسوس، فقال:(10/5351)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)
(يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)
حمله فرعون حماية لطغيانه أمرين:
الأمر الأول: أنه بهذا لَا يريد هداية وتعليما وإرشادا وإصلاحا، ولكن يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره، والإخراج يكون بألا يكون لكم سلطان في الأرض، بل يكون الأمر لغيركم وتكونون عبيدا تعيشون على هامش الحياة فيها.
الأمر الثاني: أن يكون له سلطان عليكم، وذلك ذهاب لسلطانكم، وإخراج لكم من دياركم، وإن ذلك كله بسحره، وهذا ينبئ عن الفزع، ولكنه فزع يتصور الويل والثبور وعظائم الأمور، وإلا ما كان السحر ذاته مزيلا للملك، ومخرجا من الديار.
وإنه في هذا يستحث قومه على معاندة موسى، وألا يميلوا كل الميل له، لأنه عدو الديار، ويكل الأمر إليهم (فَمَاذَا تَأمُرُونَ) يطلب استشارتهم متطامنا خاضعا، وقد أحس أن الأمر يخرج عن سلطانه، فيقول في استشارتهم فماذا تأمرون، أي ما الذي تأمرون به، وإني أنفذه.
أجابوا عن ذلك بأنهم يستفزون الشعب كله، وكأنهم توهموا أن في سحر موسى ما يخرج من الديار.
(قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)(10/5351)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36)
(قَالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ) أي أرجئه وأخاه، وحذفت الهمزة في آخر الكلمة تخفيفا، والهاء ضمير يعود على موسى عليه السلام، والمعنى أرجئه وأرجئ أخاه أمدا، وقيل أنه حبسهما، وليس عندنا ما يدل على ذلك، إنما الذي يدل عليه القول هو أنه أجلهما أمدا معلوما ليختبر الدليل الذي قدَّماه، ولا نحسب أنه كان عنده قوة على الحبس، فقد اضطرب أمره، وتحير تدبيره، وكان في فزع قد فوجئ بأسبابه، فاختل ميزان طاغوته، هذه هي الوصية الأولى التي تقدموا بها،(10/5351)
والثانية: هي قولهم، وابعث في المدائن حاشرين. المدائن جمع مدينة، وحاشرين - جمع حاشر، أي جامع للناس يجمعهم في ميقات يوم معلوم، وسمي حاشرا للدلالة على أنه يجمع أكبر عدد ويحشرهم حشرا،(10/5352)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
(يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
(يَأْتُوكَ) جواب الأمر فهو مجزوم لذلك، وفعل الشرط، (ابعث)، و (السَّحَّار) صيغة مبالغة من السحر، أي أنهم بارعون في السحر، لَا يغلبون، علماء بأسبابه، وما يكون فيه، بحيث لَا يغيب عنهم باب من أبوابه ولا طريق من طرائقه، ولا منهاج من مناهجه.(10/5352)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)
الفاء للترتيب والتعقيب النسبي، أي
فجمع السحرة باتخاذ الطريق الذي رسموه، والمنهاج الذي حفظوه، واللام بمعنى في، وهي كاللام في قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ. .).
وهذا الميقات المعلوم كان باقتراح موسى عليه السلام، كما قالِ تعالى في سورة طه: (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59).
وإن هذا يدل على أنه لم يكن مسجونا كما ادعى بعض المفسرين:(10/5352)
وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
(وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
القائل للناس مجهول غير مذكور، فمن هو القائل أهو فرعون؟ أم هم الحاشرون الذين بعثوا ليجمعوا الناس؛ وكان هذا الاستفهام للتأكد من اجتماعهم أجمعين وأنه لم يتخلف أحد، وللدلالة على العناية بالاجتماع لخطر موضعه، ولشدة حاجة فرعون إليه.
وقال الداعي غير المذكور أو الذي جهل(10/5352)
لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
(لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)
لَعَلَّ للرجاء، وهو يدل على أنهم غير متأكدين من علمهم، كما أنه وجد أيضا أمر آخر، يدل على الشك في القلب، وهو التعبير في التعليق بإن الدالة على الشك، لَا بـ إذا الدالة على التحقيق، وفي تعبيرهم (نًتَّبِعُ السَّحَرَةَ) يشير إلى أنهم يسيرون وراءهم في حكمهم إن غلبوا.(10/5352)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41)
(فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
لم يكونوا مؤمنين بفرعون الإيمان كله، بدليل أنهم طلبوا منه أجرا على عملهم، وكان عدولا في طلبهم؛ لأن حدودا الأجر بالوصول إلى الغاية كالطبيب الذي يطالب بالأجر على الشفاء لَا على العلاج والعمل، ولذا قالوا مؤكدين في حال الغلب (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ) فأكدوا الأجر في حال الغلب بعدة مؤكدات أولها (كُنَّا)، لأن كان تدل على الكينونة الثابتة المستمرة التي تكون بعد المعركة والمغالبة، وثانيها - نحن - فهي تأكيد للضمير في (كُنَّا)، وثالثها - ذكر الغالبين بالوصف والتعريف، أي ولم ننهزم أمام موسى، بل غلبناهم، وهكذا ابتدءوا.
أجابهم فرعون بقوله:(10/5353)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
(قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)
أقر طلبهم أولا،
بقوله (نعم) الدالة على استحقاقهم، وعدالة طلبهم، وقرر جزاءين:
الجزاء الأول: الأجر، وقال: إن لكم لأجرا مؤكدا الأجر بأنه لهم.
واستحقاقهم، وإنه أجر كبير لتنكير أجرا، أي أجرا عظيما لَا يقادر قدره.
والجزاء الثاني: الذي يعد جزاء كبيرا عند الملوك والطغاة، وهو أن يكونوا مقربين، وهذا التقريب إليه، يتضمن مزايا معنوية في نظرهم، وهو الرضا السامي، كما كنا نسمع من عبارات الثناء على المقربين عند الملوك والذين كانوا يقلدون فرعون في طغوانه، وإن كانوا في معاملة الرعية شرا منه، ويتضمن مزايا أخرى بأنهم ينالون جزاء مما يسلط على العباد بتسليطهم، ويتضمن مكاسب مادية من السعاية والإفساد، وقد أكد قربهم منه بمؤكدات أولها: إنَّ، وثانيها: اللام، وثالثها: الحكم بأنهم يكونون من ذوي الزلفى المحيطين به، فيكونون في ظلامه وظلمه، وبين أن ذلك نتيجة عملهم وذلك بالتعبير بـ (إذن) أي أنه نتيجة عملكم، حثا لهم على الجد والعناية.
* * *(10/5353)
اللقاء
قال الله تعالى:
(قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
* * *
التقى السحرة بموسى، وقال لهم:(10/5354)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43)
(أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) فهو يعطيهم حق الابتداء ليأتوا بكل ما عندهم، ومكنهم من أن يكون بدء الرمي لهم ليسترهبوا الناس الحاشدين المجتمعين، ويكتسبوا من ذلك حماسة وقوة اندفاع، وهو يعلم أن اللَّه معه، وهو غالبهم بنصر اللَّه تعالى وقوة الحق الذي لَا يمكن اللَّه تعالى - الباطل منه أبدا.(10/5354)
فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44)
(فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ... (44)
الفاء للعطف والتعقيب، أي أنهم سارعوا بإلقاء حبالهم وعصيهم، وكان لهم أثر شديد في نفوس المجتمعين كما جاء في سورة(10/5354)
الأعراف (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116).
وقالوا وهم يلقون الحبال والعصي التي سحروا بها أعين الناس (وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ) أي متيمنين مقسمين بعزة فرعون مؤكدين بذلك أن الغلب لهم وأكدوا عليه أولا بـ أن، وباللام، وبـ نحن المؤكدة للضمير تأكيدا لفظيا. وبقصر الغلب عليهم بتعريف الطرفين أي أنهم وحدهم الغالبون دون غيرهم، ولن يغلب موسى وقد قالوا ذلك بعد التأكد من الأجر الكبير والتقريب.(10/5355)
فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)
(فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45)
والفاء أيضا للعطف والتعقيب أي سارع موسى عليه السلام معتمدا على اللَّه تعالى، وعلى عزته، وقدرته سبحانه القاهرة، وقوله تعالى: (فَإِذَا هِيَ) هي للمفاجأة، أي أنه كانت المفاجأة الكبرى لهم وللحشد المجتمع، تبتلع ما يأفكون، أي تلقف الحبال والعصي التي كانوا يكذبون بها ويصرفون عن المعجزة بسحر أعين الناس واسترهابهم، والإفك بتضمن معنى الكذب والصرف عن الحق الواضح الجلي، وهنا تبدو المعجزة جلية بينة لأهل الخبرة في السحر، ويعلمون أن ما جاء به موسى ليس من نوع السحر، بك هو إعجاز اللَّه تعالى، ولذا قال تعالى عنهم:(10/5355)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46)
(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
والفاء كما قلنا لترتيب والتعقيب أي أنهم فور ما رأوا أن العصا تلقف ما يأفكون، فتبتلع مادة سحرهم التي تسحر العيون، ووجدوا حقيقة لَا تخييلا ولا وهما، فكان الحق فأسرعوا بالسجود، وقوله تعالى (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ)، مبني للمفعول إشارة إلى أن إيمانهم وإذعانهم للحق هو الذي ألقاهم ساجدين، وكأنهم غير مختارين ولا مريدين، فالسجود كان مساوقا للعلم الذي أوتوه من معجزة موسى عليه السلام، و(10/5355)
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47)
(قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) لأنه المنشئ القاهر القدير الكالئ الحامي.(10/5355)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
(رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
وإن هذا يدل على صفاء نفوس هؤلاء، وقد أشرنا في الآيات السابقة إلى أنهم لم يكونوا مذعنين لما يدعيه فرعون، كما يبدو من لحن أقوالهم.(10/5355)
وإن أولئك آمنوا حقا وصدقا، إذ إنهم تركوا الأجر، وكان كبيرا، وتركوا الازدلاف إلى فرعون والقرب منه والتحكم باسمه، ورضوا بأن يُقطعوا ويصلبوا وذلك هو الإيمان حقا وصدقا.
طغى طغيان فرعون، وظهر حمقه، فبدل أن يذعن للحكم الذي اختاره ثار عليهم وقال:(10/5356)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
(قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
داهية نزلت بألوهية فرعون، وتأثيره في قومه، وبطلان حجته في رد موسى أمام حشد مجتمع، من مدائن مصر كلها ليشهدوا نصرته، فشهدوا بطلان حجته، وهزيمته، فاستخدم الطغيان ليحول الأذهان، ولتكون رهبته محل حجته (آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) إذا جعلنا همزة أستفهام، في القول، وإذا لم يكن استفهام يكون ذكر الإيمان قبل الإذن منه، هو الاستنكار، كأنه ملك قلوبهم وأجسادهم وخواطرهم ونوازع نفوسهم، وهذا شأن كل جبار متحكم، كأنه ملك الأفئدة والعقول والنفوس؛ لأن الذين حوله يوعزون له بذلك، وبأن هذا حق الله فرضته الطاعة، ثم الألوهية الباطلة، وقوله تعالى - له - أي مذعنين خاضعين له.
ولم يفرض أنه الحق بموجب علمهم، وتفريقهم بين باطل السحر، ومعجزة الحق، بل فرض أنه كبيرهم الذي علمهم السحر ليموِّه على الناس، فقال إنه لكبيركم الذي علمكم السحر، فأنتم تتبعون معلمكم ولا تتبعوني.
ثم انتقل من التضليل إلى التهديد كشأن الطغاة دائما إذا ما حل بهم الدليل يسترون عجزهم بالتهديد، فيقول: (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، واللام تفيد توكيد التهديد، وسوف - لبيان تأكيد العلم في المستقبل، وهو علم معاينة لَا علم إخبار، ولذا ذكر مما هدد به نافذا واقعا (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ) أي: يد من جانب، ورجل من جانب، (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) إن التصليب يكون مقارنا للقتل، فكأنه هددهم بأمور ثلاثة أولها(10/5356)
التعذيب بقطع الأيدي والأرجل من خلاف، وثانيها - القتل، وثالثها - التصليب؛ ليكونوا عبرة لغيرهم، إذ هم أول من شقوا عصا الطاعة، ونبذوا ألوهيته وراء ظهورهم.
هذا صوت التهديد الفرعوني فلنسمع صوت الإيمان، فقد أجابه المؤمنون بقولهم:(10/5357)
قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50)
(قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
الضَّير: المضار وإيقاع الضرر، أي لَا تملك أن تضارنا، فإنا قد عرفنا ما عندك، وقدرة ربنا، وأن ما عندك أمر ضئيل إلى زمن محدود، وما عند اللَّه باق لا ينتهي، وضررك ضرر عاجل موقوت ندفعه ويدفعه اللَّه عنا بخير دائم غير موقوت، وكأنَّهم لقوة إيمانهم يقولون: ما أنت، وما عذابك؟ إنه أذى ساعة، وما عند اللَّه خير دائم: (إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) انقلب إليه، أي ترك ما هو فيه راجعا إلى الخير العظيم، و (إِلَى رَبِّنَا) متعلق بمنقلبون، وكان تقديمه لبيان الاختصاص وأنهم يرجعون إلى ربهم، لَا إلى غيره من أشباه فرعون.(10/5357)
إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
(إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
إيمان قوي وصبر على البلاء، ورجاء ما عند اللَّه العزيز الحكيم، وذكروا طمعهم في غفرانه، ولم يذكروا تأكدهم منه؛ لأن شأن المؤمن الذي يذكر سيئاته أن يرجو ولا يطمع، ويخاف ولا يتأكد، ولتذكرهم لما أخطئوا به في جنب اللَّه لم يذكروا في طمعهم إلا أن يغفر لهم خطاياهم، والخطايا جمع خطيئة، وهو الإثم الذي استغرق النفس حتى امتلأ بالباطل، وكذلك كانوا في عهد الرحمن، وأي خطيئة أعظم من أن يعبدوا فرعون وهو الجبار حتى طمع فيهم وأذلهم، وأذل أرض مصر ومن فيها.
وقد قالوا في الخير الذي فعلوه مقابلين به الطمع في الغفران (أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) من أهل مصر قوم فرعون، وأن وما بعدها مصدر في موضع جر باللام المحذوفة. وتقدير القول، لأن كنا أول المؤمنين أي لكوننا أول المؤمنين.
* * *(10/5357)
النجاة
قال تعالى:
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
* * *
الواو استئنافية، وهي استئناف لبقية القصة الصادقة قصة موسى وفرعون الصادقة المصورة لوقوف الحق أمام جبروت أطغى الطغاة، وفي هذا الجزء من القصة خبر النجاة للمظلومين أمام الظالم وملئه.(10/5358)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ) الإسراء هو السير ليلا، وقد صرح بالليل في القصة في بعض السور، وعبادي جمع عبد، والمراد بهم(10/5358)
بنو إسرائيل الذين كان فرعون يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، والتعبير بعبادي فيه إشارة إلى أن اللَّه عامل على إنقاذهم من فرعون وقومه، وأنه سبحانه وتعالى منقذهم كما شاء سبحانه.
ساروا متجهين إلى البحر، وأدرك فرعون أنهم عاملون على الإنقاذ، فخاف، وتوقع الأذى من بعد ما كان منه لموسى وهارون، وللسحرة الذين عاندوه، وقاوموا طغيانه ورفضوا ألوهيته، ولجئوا إلى اللَّه تعالى، وظهر خوفه وتوقعه الضرر، فأرسل رسله، كما قال تعالى، وعلل سبحانه السير ليلا بقوله:
(إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52)(10/5359)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53)
الفاء للترتيب والتعقيب والمعنى سارع فور انفصالهم وأرسل - حاشرين - أي جامعين للناس من كل مدائن مصر، وذلك ليلاحقهم بالأذى والقتل، وبرر دعوتهم لحربهم أو بالأحرى لقتلهم وسهل أمرهم بقوله:(10/5359)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
(إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) الشرذمة الجماعة المنقطعة التي لَا ناصر لها، وقد وصفهم بالقلة، فقال قليلون، وبذلك ذكر فيهم وصفين لاستضعافهم:
أولهما - أنهم منقطعون عن قومهم، ونصرائهم.
الثاني - قليلون، وذلك ليشجع قومه على اتباعهم وإهلاكهم، ويبين خوفه منهم، وإن حالهم مع انقطاعهم، وإنهم قليلون، وذكر غيظه منهم قائلا:(10/5359)
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55)
(وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وأنهم قليلون يتوجب الحذر منهم، فقال:(10/5359)
وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
(وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)
أي نخشى شرهم ونتوقعه، وذلك كما بدا من ضعفه أمامهم، فإن الحق يرهب أقوى الأقوياء ولو كان فرعون ذا الأوتاد، وقد أكد حذره وحذر من معه بعدة مؤكدات منها (إنَّ) الدالة على التحقيق، والتأكيد بجميع - والثالث - اللام.
ورابعها - التعبير بالجملة الاسمية الدالة على الاستمرار، كان إيذانا، لنخوفهم، وضياع الأمر من أيديهم، وإن أمر مصر يتساقط من جموحهم؛ ولذا قال تعالى:
(فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)(10/5359)
فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58)
الفاء للعطف مع الترتيب والتعقيب، أي أنه سبحانه بعد هذا الفزع بين مآل أمرهم، وقد يقال: يكون إغراقهم معقبا لقول فرعون مع أن بينهما حوادث، والجواب عن ذلك الإشارة إلى أن اللَّه تعالى قدر ذلك واقعا وتكوينا، عندما أخذ فرعون الطاغي ومعه ذلك الذعر، فكأنه وقع عقبه، لتأكد وقوعه.
الجنات - هي مصدر ذاتها، فكأنها لعموم زرعها وثمارها، وأنها في وسط الصحارى من حولها شرفا وغربا، كأنها جنات في أعلاها وأدناها، وعيون، جمع عين، وهي الماء الثر النابع من جوف الأرض، وفي ذلك إشارة إلى نيلها السعيد الذي يجري من أعلاها لأدناها، وقد كانت الآبار بين مصر وليبيا، تجري فيها عيون الماء، فتخصبها، وكانت الأرض بينها وبين تونس، وكانت تسمى أفريقيا، وكانت أرضها مملوءة في باطنها بالمعادن والفلزات، وكنوز من سبقوهم من الفراعنة، كما لَا تزال آثار من قبل فرعون موسى، مملوءة بالآثار الدالة على قوة سلطانهم وثرائهم، والكنوز، الآثار أو كل ما استبطنته الأرض من معادن وكنوز - ومقام كريم - أي المقام اسم مكان من قام يقوم، أي مقام طيب حسن مع الاحترام والإجلال، وهي المنازل المشيدة.
ولمن تكون هذه المنازل بعدهم قال تعالى:(10/5360)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
(كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
أي أخرجناهم ذلك الإخراج من الجنات والعيون والكنوز، والمقام الكريم لنورثها بني إسرائيل، فنجعلهم ورثتهم، وقد كانوا يستضعفونهم، ويذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، وكان ذلك ظلما، فأورث اللَّه المظلوم ظالمه، وهذا كقوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5).(10/5360)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
لم يحس قوم فرعون بهم إلا في الصباح، (فَأَتْبَعُوهُمْ) أي ساروا وراءهم ولحقوهم، يقال اتبعه أي لحقه، وسار سيرا مسرعا وراءه، و (مُشْرِقِينَ)، أي وقت الشروق متجهين شرقا وراءهم، فقد اتجهوا إلى ناحية البحر الأحمر، حيث المعجزة الظاهرة الباهرة، وهو فلق البحر كل فرق كالطود العظيم، وقد جد جيش فرعون الذي دعا فيه بالنفير العام حتى تراءى لهم ففزع بنو إسرائبل منهم؛ لأن سابق الأذى خلع قلوبهم خلعا، ولذلك كان الخوف الشديد وقال تعالى:
(فَلَمَّا تَرَاءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)(10/5360)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)
الفاء فاء الإفصاح عن شرط مقدر، تقديره نحو فإذا تقاربا، وتراءى الجمعان أي صار كل واحد منهما على مرأى الآخر؛ لأن الترائي تفاعل الرؤية من الجانبين، بحيث صار كل واحد منهما يرى الآخر، قال بنو إسرائيل من فرط جزعهم (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) وقد أكدوا أنهم مدركوهم بـ إن وباللام، وبالجملة الاسمية، وهي جملة خبرية في ظاهرها، وفي حقيقتها كشف عن هلعهم وفزعهم، وكان على موسى أن ينبئهم بما يذهب عنهم الخوف، فقال اللَّه تعالى عنه:(10/5361)
قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
(قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62)
قال موسى عليه السلام ردا ومنعا: (كَلَّا) وهذه نفي لأن يدركوهم أو نفي لما يترتب على لحاقهم بهم، وقوله: (إِنَّ مَعِيَ ربِّي سَيَهْدِينِ) هي لإذهاب الخوف من نفوسهم، فإذا كانوا يرهبون بعزة فرعون الموهومة، فنحن في كلاءة اللَّه تعالى، ورعايته، اللَّه تعالى ربي الذي أنشأني وحاطني بحمايته وكلاءته، وهو الحي القيوم رب السماوات والأرض، ويهديني إلى طريق النجاة منهم، والسين لتأكيد هداية اللَّه لطريق النجاة في المستقبل وكانت النجاة.(10/5361)
فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
(فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)
الفاء للترتيب والتعقيب، أي كان عقب طلب الاستهداء كان الإيحاء استجابة لموسى عليه السلام، كان الإيحاء لموسى أن اضرب بعصاك، أن تفسيرية، ضرب موسى بعصاه البحر، (فَانفَلَقَ فَكَانَ كُل فِرْق كَالطَّوْدِ الْعَظِيم)، الفلق هو شق الشيء حتى ينفصل بعضه عن بعضه، ويصير كل قسم منفصلا عن الآخر في كيانه، والفرق القسم المفروق عن الآخر، والطود هو الجبل العالي ووصفه بالعظيم لضخامته ومتانته وقوته، وهذا إعجاز حسي يجعل كل قلب يؤمن بالحق، ولو كان قلب فرعون طاغية الأرض، وكان هذا هاديا موسى أن يتقدم بني إسرائيل، فيدخلون في البحر، وهو يبس لَا يعوق سائرا وهو طريق معَبَّد، يسيرون فيه بيسر وسهولة.
اللَّه سبحانه وتعالى جرَّ الآخرين بتقليدهم أن يسيروا وراءهم، ولذا قال عز من قائل:
(وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)(10/5361)
وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
وأزلفنا، أي قربنا إليهم الآخرين، وهم فرعون وقومه، قربوا حاسبين أنهم ناجون كما نجا بنو إسرائيل، وحسبوها نعمة لهم و (ثَمَّ)، ظرف بمعنى مكان، الآخرون هم قوم فرعون، ووصفوا كذلك لأنهم متأخرون في اعتقادهم وعملهم وجاءوا متأخرين في سيرهم.(10/5362)
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
(وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)
أنجى اللَّه موسى ومن معه من بني إسرائيل، وربما من قد آمن معهم من أهل مصر، كما آمن السحرة، ولذا أكد سبحانه وتعالى بما يفيد إغراقهم جميعا.
وكأن التعبير يتم للدلالة على فرق ما بين النجاة والإغراق والرشاد والضلالة، والعدالة والطغيان.
وإن هذه آية حسية عظيمة، ولذا قال تعالى:(10/5362)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)
أي آية دالة على رسالة موسى عليه السلام، وعلى قدرة اللَّه تعالى القوي القهار، وأنه وحده القادر على كل شيء، وأن الكون كله قبضة يمينه، و (آية) جيء بها نكرة لعظمها، وأنه لَا يقادر قدرها، ولا يعاظم أمرها، ولكن هل آمن كلهم، أو جلهم، قال تعالى:
(وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ)
هذه الجملة تدل بظاهر اللفظ أن الأكثرين لم يؤمنوا، فلم تأخذهم هذه الآية الباهرة إلى الإيمان واليقين، وتدل بمطويها أن من المصريين من آمن واتبع موسى عليه السلام.(10/5362)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
استأنف اللَّه تعالى القول ببيان قدرته الظاهرة، وحكمته الباهرة، فقال: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) أي إن الله تعالى الذي خلقك وقام بربوبيته لحمايتك، وهو الحي القيوم، لهو العزيز، الغالب، الرحيم، فيما يعمل مما يسوء الظالمين ويكافئ المحسنين، وقد أكد اللَّه تعالى عزته ورحمته بعدة مؤكدات هي إنَّ، وذكر الربوبية، وباللام، وبضمير الفصل، وإن رحمته بادية في نظام هذا(10/5362)
الوجود، وبادية في عدم تسويته بين المحسن، ومن لَا يحسن، ومن يعلم، ومن لا يعلم ومن يعدل ومن يظلم، واللَّه رءوف بالعباد.
- يلاحظ هنا أربعة أمور:
الأمر الأول - أن ما يتعلق بذكر التربية على لسان فرعون عاتبا أو لائما قد انفردت بذكره هذه السورة، وكذلك ما يتعلق بالإشارة إلى قتله رجلا من المصريين، واستحقاقه العقوبة عليه؛ لأنه كان ظالما.
الأمر الثاني - بيانه لرب العالمين، وسؤال فرعون عنه متهما، أو مستنكرا، لم يذكر بهذا التفصيل مرة أخرى وفي ذلك البيان تنبيه وإنكار لألوهية فرعون المزعومة الباطلة، وكذلك التهديد بالسجن إذا اتخذ إلها غيره، فإنه لم يذكر بهذا التأكيد في موضع آخر.
الأمر الثالث - أنه ذكرت معجزة العصا، وما ترتب عليها من إيمان السحرة، ثم إنذارهم بأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، قد ذكر في آيات أخرى مع اختلاف في العبارات والسياق، وحذف في بعضها، ولكن مذكورة، ولا يعد الاختلاف في التعبير والتصوير مع زيادة أو نقص، لَا يعد تكرارا، وهذه المعجزة الحسية الباهرة ذكرها ضروري لبيان أن المعجزات الحسية التي يطلب المشركون من محمد - صلى الله عليه وسلم - مثلها لَا تجدي ما دام القلب جاحدا، وما دام الكفر يسبق الإيمان في قلوب الجاحدين.
الأمر الرابع - أنه ذكر فلق البحر الذي صار كالطود العظيم، وهي معجزة، وهو في ذات الوقت أمرها شديد، ونذير للكافرين، وذكر مع اختلاف العبارات، وهو ضروري لبيان أن مآل المشركين كمآل فرعون أو أشد.
* * *(10/5363)
قصة إبراهيم أبي الأنبياء
قال تعالى:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
* * *(10/5364)
جاءت في هذه السورة قصة إبراهيم بعد قصة من قصص موسى عليه السلام، لأن قصة موسى تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - بهلاك فرعون في طغيانه، وكيف غرق فرعون ومن معه من المعاونين الممالئين؛ لكي يكون ذلك بشارة بنصره على قريش، مهما يكن طغيانهم، فلن يكونوا كفرعون ذي الأوتاد.
وفى قصة أبي الأنبياء إبراهيم بيان لهم بما كان عليه أبو العرب الذي يفخرون بالانتساب إليه، وإنه محتدهم، وإنهم ضئضئ إبراهيم وذريته.(10/5365)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69)
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ).
الواو في معنى العاطفة، إذ فيها عطف قصة على قصة، والنبأ الخبر الخطير ذو الشأن العظيم، واتل أي اقصص عليهم قصة إبراهيم متلوة يتلو بعضها بعضا مرتبة منسقة ليروا فيها العبرة التي يعتبرون بها إن كانوا فرحين، جاء إبراهيم فرآهم يعبدون الأصنام فقال لهم مستنكرا لائما:(10/5365)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)
(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)
و (إِذْ) متعلقة بـ (اتل)، أي اتل عليهم ماذا كان في ذلك الوقت، وقرب أبيه لقومه لبيان أن أباه في قرن معهم مساو لهم في الدعوة، وإذا كان قد طلب الغفران له ثم تاب عن ذلك، فهو معهم في الدعوة على سواء، والاستفهام إنكاري أو للتنبيه وطلب الإجابة؛ ونقول: إن الأول هو الأظهر والأبين.
أجابوه بقولهم:(10/5365)
قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
(قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71)
لقد أجابوه، لأنهم لم يفهموا وجه استنكاره أو ظنوا أنه لَا وجه للاستنكار، والأصنام هي الحجارة التي نحتت تماثيل ليعبدوها، وقد جاءت بعض الروايات تقول: إن أباه كان يصنعها، ولعل ذلك وجه من ذِكْر أبيه مع قومه ابتداء.
والفاء في قوله تعالى: (فَنَظَلُّ) فاء الإفصاحِ، لأنها تفصح عن شرط محذوف، ونظل هنا بمعنى ندوم على عبادتها (عَاكفِين) أي مستمرين في عبادتها لا نني عن ذلك ليلا ولا نهارا، لَا في وقت معين.
وهنا نجد إبراهيم يبين لهم بطلان هذه العبادة، لأن المعبود يجب أن يكون أعلى من العابد كيانا، وأنفع وأضر، فقال لهم خليل اللَّه تعالى:
(قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)(10/5365)
قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)
أول سؤال إنكاري وجهه إليهم: (قَالَ هَلْ يَسمَعُونَكُمْ) وتنادونهم عابدين، و (إذ) ظرف دال على الماضي، وتتعلق بيسمعونكم، وكان الظرف ماضيا دالا على مضارع لتصوير جهالتهم، إذ يدعون ما لا يستطيعون جوابا، وما لَا يستطيع أقل في الكون والوجود ممن يدعوه، إذ الداعي سميع مبصر، وهذه لَا تسمع ولا تبصر، ويصح أن نقول إن (تَدْعُونَ) معناها تعبدون، وكأنهم يعبدون ما لَا يسمع، ووجودهم أقل، إذ هم أحياء يسمعون، وهؤلاء جماد لَا حياة فيه.(10/5366)
أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
(أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) أو عاطفة، أي هل ينفعونكم أو يضرون؛ هل يملكون نفعا أو ضررا، وكأنه يقول لهم إن المعبود يكون موجودا، أو يكون نافعا أو ضارا يعبد رجاء نفعه أو اتقاء ضرره، ولا شيء من ذلك فكيف تعبدونهم؛ إنه ضلال العقل.
أجابوا متخلصين من الجدل الكاشف لجهلهم إنهم ما درسوا نفعهم ولا ضررهم، ولكن تبعوا آباءهم الأولين، فقالوا:(10/5366)
قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
(قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74)
بل، للإضراب الانتقالي من أسئلة إبراهيم، وإحراجهم وتقرير ما عندهم من حال سوء: (وجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُون) لم يسموا ما أخذوه عن آبائهم عبادة، وكأنَّهم لَا يفهمون معنى العبادة، ولا يدركون مرمى أفعالهم، كذلك، الإشارة إلى فعلهم الذي فعلوه، أي وجدنا آباءنا يفعلون مثل فعلنا، كقول العرب في عبادة الأوثان، (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170).(10/5366)
قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)
(قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)
الفاء فاء الإفصاح وهي مؤخرة عن تقديم؛ لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام للتنبيه، والمعنى فيما يفهم من كلام الله تعالى، أفرأيتم أي أشاهدتم ما تعبدون أنتم وآباؤكم الأولون إنه ضلال لَا أوافق عليه ولا أرضاه، ولذا(10/5366)
فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
(فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي بسبب ذلك الضلال، والضمير في أنهم ضمير الحال. أي أن أنتم وهذه الحال التي هي(10/5366)
عبادة الأوثان، وتقليد الآباء عدو لي أناهضها وأقاومها إلا عبادة رب العالمين.
فمعنى (إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ) على حذف مضاف إلا عبادة رب العالمين، وقد ذكر عليه السلام صفات رب العالمين التي أوجبت عبادته والإذعان له، فقال:(10/5367)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
بعد أن ذكر لهم أن العاقل يعادي عبادة الأوثان، ولا يرضى إلا بعبادة الديان، أخذ إبراهيم يصف ربوبية اللَّه تعالى له في حياته من خلقه إلى موته، ثم بعثه، وأنها منبه دائم إلى استحقاقه وحده العبادة، وأنه لَا إله إلا هو، وفي ذلك توجيه للعرب سلالة إبراهيم عليه السلام إلى نعمه تعالى التي تغمرهم في حياتهم اليومية، والمستمرة، ما داموا في قيد الحياة، فذكر أول نعمة، وهي الخلق والهداية، (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) النون مكسورة إشارة إلى أن ياء المتكلم مطوية في الكلام طيا، والفاء لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، فالهداية مترتبة على الخلق والتكوين، وقد يقول قائل، كيف يكون ذلك، والناس منهم شقي ضال، وسعيد مهدي، ولو كانت الهداية مترتبة على الخلق لكان الناس جميعا في هداية غير مقطوعة ولا ممنوعة؟ والجواب عن ذلك إن اللَّه تعالى خلق الناس مختارين يريدون، ويفعلون ويتحملون تبعات أعمالهم، إن شرا فشر، وإن خيرا فخير، ولكنه هيأ فيهم أسباب الهداية ودعأم إليها، فقال:
(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)، وقال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ).
نجد الخير ونجد الشر، وإذا كان سبحانه قد خلق في النفس المسلكين بالاستعداد لهما، فإنها إذا سلكت طريق الهداية فالهادي هو اللَّه سبحانه وتعالى
بما خلق من أسباب الهداية، ولذا قال تعالى: (وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)، ومن يضل يسلك مختارا طريق الضلالة.
وإذا كان إبراهيم الرسول خليل اللَّه فإنه سلك طريق الهداية فاللَّه تعالى أرسله هاديا مرشدا، وجعله من أولي العزم من الرسل.(10/5367)
والنعمة الثانية ذكرها إبراهيم بقوله تعالى كما حكى اللَّه تعالى عنه،(10/5368)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
(وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79)
هذه نعمة أخرى من مظاهر الربوبية العالية، وهي أنه يطعم عباده، أي أنه سبحانه وتعالى هيأ لهم أسباب الطعام وأسباب الشراب، فطعام الإنسان لحم شهي، أو سمك طري، أو خبز، أو ثمر جني، وكل ذلك من اللَّه، فهو الذي أنبت النبات، وأثمر الغراس، وتغذى من النبات الأنعام، وهو سبحانه الذي خلق الأنهار والبحار التي تعيش فيها الأسماك، وهو الذي ينزل الأمطار فيشرب منها الإنسان والحيوان، وهكذا هو الذي يطعم ويسقي، بتضافر الأسباب سببا بعد سبب.
والنعمة الثالثة نعمة الشفاء من المرض، وحكى اللَّه تعالى فيها قول إبراهيم(10/5368)
وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
(وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
وقد ذكر المرض وشفاء اللَّه تعالى منه بعد الطعام والسقي للإشارة إلى أن بعض الأمراض سببها الإفراط في الطعام، كما ورد في بعض الآثار: المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء. ومهما يكن من الطب والعلاج فالشفاء دائما من اللَّه واهب القوى، والقادر على كل شيء، وكثيرا ما يقول الطبيب وقد عجز: إن الشفاء بمعجزة، ويفوض الأمر إلى اللَّه تعالى القادر على كل شيء.
الأمر الرابع الذي تبدو فيه ربوبية اللَّه تعالى الكاملة(10/5368)
وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81)
هذا شعور قوى بكمال الربوبية من خليل اللَّه تعالى إبراهيم عليه السلام، فهو وحده الذي يميت، ولو كان الإنسان في بروج مشيدة، وللناس آجال، فإذا جاء أجلهم لَا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وإنه بعد الموت البعث، وهو الحياة الأخرى الجديرة بأن تكون الحياة حقا وصدقا، كما قال تعالى: (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، وعطف بـ (ثُمَّ) في موضعها، لأن البعث لَا يكون عقب الموت، بل يكون بينهما تراخ في الزمن حسا ومعنى، أما الحس فظاهر، وأما المعنوي فهو التفاوت بين حياة لاغية مكدودة، وحياة بالنسبة لمثل خليل اللَّه تعالى حياة هادئة لَا لغوب فيها، بل هي جنات النعيم.(10/5368)
الحال الخامسة هو ما يرجوه إبراهيم الذي كان في حياته أُمَّةً، كما يقول تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) وهو(10/5369)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
أي أنه يطمع ويسمى طلبه طمعا، استصغارا لحسناته، واستكبارا لسيئاته كشأن أهل الورع الذين يتقون ويخافون، وتستشعر نفوسهم الخوف دائما، كما كانت حال محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كان لعظيم مكانته يطلب رحمة اللَّه بالمغفرة لَا بالجزاء.
والخطيئة هي الذنب الذي يستغرق النفس، ويستولي عليها، وقد كان إبراهيم كسائر النبيين يحسب ذنبه كبيرا، وحسناته صغيرة، ويوم الدين هو يوم الحساب والجزاء.
ويتجه إبراهيم إلى ربه راجيا داعيا ضارعا قائلا:
(رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
ضرع إبراهيم إلى ربه فدعاه بما يدعو به الرجل الصالح الذي يريد أن يعاونه اللَّه تعالى في الخط المستقيم الذي يسلكه، فقال:(10/5369)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
(رَبِّ هبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحقْنِي بِالصَّالِحِينَ).
اتجه إلى ربه جل جلاله مناديا بالربوبية لأنها هي التي توجه وتربى النفوس، وتجعل الرجل ربانيا، وأول ما طلبه هو الحكم، وهو الحكمة الضابطة المانعة للنفوس من التردي في مهاوي الهوى، ومنازع الشيطان، والحكيم هو الذي يمنع نفسه ويحكم عليها بالتزام الجادة وسواء السبيل، ولقد قال أكثم بن صيفي: الصمت حكم وقليل فاعله، ونسب بعض الناس ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن الرجل المستقيم مبتدئ بنفسه فيروضها على الحكمة النافعة المهذبة، فإذا امتلأ قلبه بها اتجه اتجاها مستقيما، ونطق بالحق، وسلك طريق الحق، فكان الخلق المستقيم، وكانت المعاملات المستقيمة، وكانت الاستقامة في كل حياته، وقد دعا إبراهيم أن يهبه اللَّه حكما، يكون أولا على نفسه، وقال: (وَأَلْحقْنِي بِالصَّالحينَ) أي وفقني لكل أسباب الكمال، والعلو في النفس والخلق لألحقَ بأهل الكَمال والصلاح وأُعَدَّ في زمرة الأبرار.(10/5369)
والدعوة الثانية هي دعوة بالعاقبة، وهي قوله ضارعا إلى ربه:(10/5370)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
(وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)
الآخرين أي الذين يجيئون بعده، و (لِسَانَ صِدْقٍ) فيه إضافة اللسان للصدق أي بأن يكون الصدق مستغرقا له، بحيث لَا يقال عنه إلا ما هو صدق، وأن يكون اللسان صادقا دائما، وأن يمتد الصدق منه وفيه إلى ما بعده، وإن لسان الصدق يكون بعده يكون بأمور، منها أن يكون ذكره حسنا صادقا من بعده، بأن يكون أثرا محمودا من بعده، ويكون نافعا بعد مماته كما كان نافعا في حياته، ومنها أن تكون دعوته إلى الحق باقية من بعده يرددها الناس، ويدعون إليها، ومنها أن تكون له محبة ومودة بين الناس من بعده، كما كانوا يودونه فيِ حياته، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96).
هذا، وإن النص الكريم يدل على أن حب المحمدة بين الناس ليس أمرا غير صالح ما دام يقصد إليها النفع والخير، وعموم الإصلاح وما دام لَا يتعالى ولا يستطيل على الناس.
والدعوة الثالثة، هي ما ذكرنا بقوله:(10/5370)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
(وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
أي اجعلني في جنة النعيم، وعبر بهذا التعبير للإشارة إلى أن جنة النعيمَ تكون ميراثا للعمل الصالح، وطلبها من اللَّه تعالى مع أنه عمل عملا صالحا، للإشارة إلى أن عمله لَا يعطيه ذلك الحق إنما هبة من اللَّه تعالى ومنَّة وفضلًا، فلا يستحق عامل بعمله إلا أن يتغمده اللَّه برحمته.
بعد ذلك اتجه إلى ربه بالدعاء يصلح به نفسه، اتجه إلى ربه في شأن أبيه وقد وعده بأن يدعو له، كما جاء في سورة مريم: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)، أنجز خليل اللَّه وعده، وقال ضارعا إلى ربه:(10/5370)
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
(وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
طلب ذلك من اللَّه، ولكنه لم يصر عليه، وإن كان قد أنجز وعده، ولكن تبرأ من هذا الاستغفار، كما قال في آية أخرى، (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114).
هذه الدعوات كلها مطالب من إبراهيم الخليل المخلص إلى ربه، وهي مطالب إيجابية، اتجه بعد ذلك إلى مطالب سلبية مانعة، فقال عليه السلام:(10/5370)
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)
(وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
الواو عاطفة، والجملة التماس من اللَّه تعالى ألا يخزيه يوم البعث، وذات البعث لَا خزيان فيه، إنما الخزي يوم الحساب ويوم تشهد عليهم أعضاؤهم بما فعلوا، وتنطق أعمالهم بما ارتكبوا، ولا ننسى أن الدعاء من خليل اللَّه، وكيف يتصور أن يخزيه اللَّه تعالى وهو رسوله، ولكن لفرط إحساسه بحق اللَّه تعالى يظن في نفسه القصور، ومعه الخزي، فإن دقة الإحساس تجعله يستصغر حسناته في جنب اللَّه تعالى العزيز الحكيم، وكلما قرب الإنسان من اللَّه تعالى أحس بقصوره، ولا يحس بعظمة ما فعل، ويحسب أنه من المقصرين، لَا من المقربين الصادقين.
وبين سبحانه وتعالى على لسان خليله الصافي نفسه وقلبه، فقال:(10/5371)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)
(يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)
يوم، بدل أو عطف بيان من يوم يبعثون، أي أنه في هذا اليوم لا ينفع المال ولا البنون اللذان هما عز هذه الحياة الدنيا وزينتها، كما قال اللَّه تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ. . .)، فالمال والبنون هما الزينة التي أعدت للفخر بها من أهل الدنيا.(10/5371)
إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
(إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
القلب السليم هو القلب الخالي من أوشاب الوهم والشهوة والضلال، والاستثناء هنا يصح أن يكون متصلا بأن يكون من عموم نفي النفع بالمال والبنين إلا من كان ذا مال وبنين، وأعطى المال حقه، وربى البنين وأحسن تربيتهم فكانوا له عملا صالحا دائما؛ لأنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له. فمع المال والولد ينفع الإنسان إذا أتى اللَّه بقلب سليم من كل المفاسد في الدنيا، ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا بمعنى لكن، ويكون المعنى لَا ينفع مال ولا بنون، ولكن من أتى اللَّه بقلب سليم من مطامع المال وغطرسة البنين، لَا يعتز إلا باللَّه، وقد سلم قلبه وكل أحاسيسه له سبحانه.(10/5371)
ْقال تعالى:
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
أزلفت، أي قربت إلى الزلفة وهي الحظوة الحسنة، فمعنى(10/5372)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)
(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ) أي قربوا إلى موضع حظوتهم وجزائهم على الحسنى حسنى مثلها أو أكبر منها، وقوله تعالى: (لِلْمُتَّقِينَ)، أي للذين عرفوا اللَّه تعالى واتقوه وخافوا عذابه، ورجوا رحمته، وهذه الجنة هي جزاؤهم جزاء موفورا.
وإذا كان هذا جزاء المؤمنين قد قرب إليهم زلفة وحظوة، فقد برزت الجحيم، وهي نار اللَّه الموقدة للكافرين، ولذا قال عز من قائل:(10/5372)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91)
أي ظهرت واضحة، لأن برز معناها: ظهرت وقربت منهم، والتفعيل مبالغة في الظهور أي رأوا الجحيم رؤيا العيان فعلموا مآلهم ونهايتهم بالعيان، والغاوون هم الضالون الكافرون.
بعد ذلك البيان في قصة إبراهيم، وما فيها هنا لم يذكر في سور أخرى إلا بعض ما يتعلق بعبادة الأصنام ذكر سبحانه بعض ما يكون يوم القيامة.
* * *
قال تعالى:
(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
* * *(10/5372)
هذه النصوص السامية مصورة لحال الكافرين وما أضلوهم في يوم القيامة وأول اتجاه إلى مجاوبتهم، وقد كانوا يتخذونها شفعاء تقربهم إلى اللَّه زلفى، أن يسألوا عن هذا الادعاء أهو ظاهر فيها اليوم فيقال لهم:(10/5373)
وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
(وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
أين الأصنام أو الأشخاص التي حكم أوهامكم أن تعبدوها من دوني هل أمدتكم بنصر أو شفاعة أو تقريب زلفة أو حظوة، (أَوْ يَنتَصِرُونَ) أو هنا لمعنى الإضراب، فليست قائمة مقام - أم - والمعنى فيها الإضراب عن أن ينصروكم، أهم ينتصرون، بأن تحمي نفسها من عذاب واقع أو متوقع، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، فهو للتوبيخ، إذ كانوا يحسبون أن لها قوة تنصر، فتبين أنها لا تنصر غيرها، ولا تنتصر لنفسها.(10/5373)
فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94)
(فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
الكب إلقاء الشيء على أعلاه أو على وجهه، والكبكبة، تساقط الشيء في هوة بتدهور، ويقول الزمخشري: الكبكبة توالي الكب، فهو يكب ثم يكب أخرى، ويتوالى الكب، وهكذا حتى يصل إلى القاع.
والفاء هنا للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا لا ينصرون، ولا ينتصرون، فإنهم كبكبوا فيها هم، والغاوي - الواقع في الغواية والضلالة، أي أنه يكب فيها ما كانت تعبد، هي والذين ضلوا، وهذا التعبير كناية عن أن من كانوا يحسبونه شفيعا لَا قدرة له، وإنه يلقى في النار ولو كان لا يحس ولا يشعر.(10/5373)
وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
(وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95)
الجند هو مما يستعان به في القتال، أو مادته، وإبليس قال لربه. (لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ إِلَّا عبَادَكَ مِنْهُمُ الْمخْلَصينَ)، وجنود إبليس أشخاص من الإنس، قَد أشربوا فَى أنفسهم شره، فَكانوا له جندا، ويصح أن يكون من جنوده المطامع والأهواء والشهوات والأوهام، فكل هؤلاء يكبكبون في النار، وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك تأكيدا لفظيا بقوله تعالى: (أَجْمَعونَ) فالنار لَا يتخلف عنها عاص ولا تذره.
(قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)(10/5373)
قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96)
كان الاختصام بين المعبود الباطل والعابد في جهنم، وكأنما وهب الحجارة أن تتكلم وتبين، أو هو بيان للحال التي كانوا عليها وقد تكشفت الأمور، وزال زيغ الباطل، والضمير يعود إلى الكافرين الذين أزلهم الشيطان، وقوله تعالى: (وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ) جملة حالية، أي قال المشركون، وهم يختصمون مع ما عبدوهم،(10/5374)
تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)
(إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97)
(إِنْ) هنا هي المخففة من إنَّ الثقيلة واسمها ضمير الشأن، أي إنه الحال والشأن كنا لفي ضلال مبين، اللام للتوكيد، وقد أكدوا ضلالهم بها، وبأن الضلال استغرقهم كما يستغرق الظرف ما فيه، أي احتواهم، وصاروا يسارعون في أرجائه من ضلال إلى ضلال، وهو بين واضح يدركه العقلاء، ولكن ضاعت ألبابهم في وسط ذلك التيه من الضلال، وقد قرروا الحق الآن، فقال:(10/5374)
إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
(إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98)
(إِذْ)، ظرف متعلق بـ (كُنَّا)، وإذ ظرف دال على الماضي وذكر مع المضارع لتصوير حالهم في الماضي، والتسوية بين آلهتهم ورب العالمين. موضع استنكارهم في ذلك اليوم لأنهم أدركوا أن هذه حجارة لا تعبد، بل يرمى بها، وهذا رب العالمين الذي خلق العقلاء جميعا، وقام على ربوبيتهم، فهو الحي القيوم اللطيف الخبير، ثم أقروا بمن كانوا خاضعين لهم، قالوا:(10/5374)
وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)
(وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99)
(مَا) نافية، أي ما أضلنا إلا المجرمون الذين اتبعناهم، وفي الواقع، إن الجو كله كان جوا إجراميا، فهم يترامون بالإجرام، وكان الإجرام فيهم جميعا؛ لأنهم اشتركوا جميعا في تكوين رأي عام فاسد، يروج فيه الباطل، ويختفي فيه الحق الصادع، فكانوا في ضلال يترامون به، ولا يخلص منه واحد منهم.(10/5374)
فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101)
(فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
الفاء فاء الإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، وتقدير القول، إذا كان الذين صاحبونا وشجعونا مجرمين، فما لنا من شفيع يشفع لنا، ويضم صوته إلى صوتنا، ولا صديق حميم يتألم معنا، ويرفع عنا مقت ربنا، أو يشاركنا، فينقص منا ما يصيبنا من مقت وسوء عاقبة، ويتمنون نادمين، ولات حتى مندم، وعدد الشافعين، لأنهم في الشدة يكونون كثيرين، وذكر الصدق مفردا لأن الصديق الحميم يكون قليلا، وليس كثيرا.(10/5374)
فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
(فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102)
الفاء أيضا للإفصاح لأنها سدت عليهم كل منافذ النجاة، فتمنوا رجعة إلى الدنيا كرة أخرى يؤمنون فيها، ويدركون الحق ويذعنون له، (لو) هنا للتمني، وهو تمني أن يعودوا إلى الدنيا كرة أخرى، والفاء فاء السببية، وأن مضمرة بعدها، أي فنكون بسبب ذلك من المؤمنين المذعنين للحق الذين لَا يمارون فيه.
كان الكلام في يوم الآخرة عندما قال عليه السلام يوم لَا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى اللَّه بقلب سليم، ولقد أشار سبحانه من بعد ذلك إلى تتمة القصة، فقال سبحانه:(10/5375)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
الإشارة إلى قصص إبراهيم، وما جاء فيها على لسان إبراهيم من بيان فضل الربوبية، والإذعان لحقها، وقد جاء في البيضاوي تلك العبارات المدركة في بيان معنى (لآية) لحجة وعظة لمن أراد أن يستبصر بها ويعتبر، فإنها جاءت على أنظم ترتيب وأحسن تقرير، ويتبعه المتأمل فيها لغزارة علمه، لما فيها من الإشارة إلى أصول العلوم الدينية والتنبيه على دلائلها، وحسن دعوته للقوم، وحسن مخالفته معهم وكمال إشفاقه عليهم، وتصور الأمر في نفسه وإطلاق الوعد، والوعيد على سبيل الحكاية؛ تعريضا وإيقاظا لهم ليكون أدعى للاستماع والقبول.
ومع هذه الحجة الباهرة، والوصايا التي تقنع بذاتها، وتلزم بحقيقتها، كان أكثرهم غير مؤمنين، ولذا قال: (وَمَا كَانَ أَكثَرُهُم) وإذا كان الأكثرون غير مؤمنين، فمعنى ذلك أن المؤمنين كانوا الأقل عددا؛ وذلك لأن الشيطان يتحكم في الكثرة، ويعاون أهل الشر بعضهم بعضا.(10/5375)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
الغالب الرحيم مع أنه القادر القاهر على كل شيء هو الرحيم وكان رحيما بهم في أنه لم يعجل بالعذاب، بل أمهل أهل الشر حتى يكون اليوم، وكان رحيما بهم في أنه لم يسو الصحيح بالسقيم والمحسن بالمسيء، وكان رحيما بهم في أن وضع عذابا للمجرمين، لكيلا يوغلوا في إجرامهم، ففي هذا الوصف بالرحمة إنذار وتبشير؛ لأن العالم لَا يقوم على المساواة بين الخير والشر، ولكل موضعه.
* * *(10/5375)
من قصص قوم نوح
قال تعالى:
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
* * *
جاءت قصة إبراهيم بعد قصة موسى؛ لأن موسى قاوم أشد طواغيت الدنيا وأهلكه اللَّه تعالى بعد المعركة، وذلك فيه إيذان بأن محمدًا سيهزم الجمع من المشركين، ويولون الدبر، وجاء بعده قصص من إبراهيم تأديبا للعرب، لأنه أبوهم الذي يشرفون بمحتده ويحتمون بمسجده أول بيت وضع للناس، ولعلهم يهتدون بهديه، ويطيعون بطاعته، ويتأدبون بأدبه.(10/5376)
وجاء من بعد بقصص من قصص نوح الأب الثاني للخليقة، وفيه ذكر شذوذ الكافرين من العرب، ولذلك ابتدأ سبحانه القصص بتكذيبهم، ولم يبتدئه برسالة نوح عليه السلام، فقال تعالى:
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108).(10/5377)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)
(كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) ابتدأ القول الكريم بتكذيب قوم نوح للمرسلين، أي أن طبعهم، وما آل إليه أمرهم أنهم يكذبون الرسالة الإلهية على لسان رسول يبشر وينذر، فهم لَا يكذبون نوحا وحده، وإنما يكذبون أصل الرسالة الإلهية لأنهم ماديون لَا يؤمنون إلا بالمادة، ولا يؤمنون بالغيب، ولب الإيمان هو الإيمان بالغيب، فلا إيمان لمن لَا يؤمن بالغيب.(10/5377)
إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)
(إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106)
إذ ظرف للماضي متعلق بقوله:
(كَذَّبَتْ قَومُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) كأنهم جابهوا نوحا عليه السلام، وهو يقول لهم (أَلَا تَتَّقُونَ) بإنكار أصل الرسالة، وكأنهم يقولون: ما لنا ورسالتك، ورسالة غيرك وقوله: (أَلَا تَتَّقُونَ) ألا للتحريض والحث علي التقوى، وما أجدر كل منكر جبار، أن يطالب بالتقوى، واتخاذ وقاية لأنه يكون مغرورا، وكل من يتدلى بالغرور، يطالب باتخاذ وقاية ليمتلئ بالتقوى ووراء التقوى الإيمان.(10/5377)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107)
أكد رسالته لهم بـ إن المؤكدة، وتقديم الجار والمجرور (لَكُمْ) أي لكم خاصة، ووصف نفسه بالأمانة، والأمانة تقتضي ألا يكذب على اللَّه، فيدعى عليه الرسالة، وهو لم يرسله، وتقتضي الأمانة فيما يخبرهم، ومع الأمانة الرعاية والمحبة والإخلاص لهم، والبر بهم.
ولأنه رسولهم الذي أرسل إليهم طالبهم بتقوى اللَّه والطاعة فقال:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)
أي أطيعونى لأن هنا ياء المتكلم مقدرة في القول بدليل كسر النون المنبئ عنها، طالبهم بأمرين: تقوى اللَّه، لأن قلوبهم جامدة جافية عن ربها، إذ ليس فيهم إيمان بشيء، ولا خوف من حاضر ولا غائب، ولا علاج للنفس اللاهية الجافية إلا بالتقوى، أو الدعوة إليها، والأمر الثاني طاعة الرسول، ولا سبيل لطاعته إلا أن تمتلئ نفوسهم بالتقوى، ومهابة اللَّه والخضوع له.(10/5377)
والفاء في قوله تعالى:(10/5378)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)
(فَاتَّقُوا اللَّهَ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي بسبب أن الرسول أمين لكم اتقوا اللَّه وأطيعون.(10/5378)
وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109)
(وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ ... (109)
(مِنْ) لاستغراق النفي، أي لَا أسألكم على هذا التبليغ أي أجر مما يتعلق بالدنيا، لَا أسألكم جاها، ولا رياسة، ولا سلطانا، ولا غاية، ولا مالا، ولا أي عرض من أعراض الدنيا، (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) إن نافية، أي ليس لي أجر إلا عند اللَّه تعالى، وعبر بـ على للإشارة إلى علو هذا الأجر وهو يعلو عليكم، ولا يمكن أن تتساموا إليه؛ لأنه من رب العالمين الذي يدين له العالمون أجمعون بالربوبية والطاعة والخضوع.
وإذا كنت لَا أجدْ منكم جزاء ولا شكورا(10/5378)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ) الفاء للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر كأنه هو: إذا كنت أمينا لكم ولا أريد عرضا من أعراض الدنيا، فاتقوا اللَّه، وأطيعوني، لفضل الإخلاص والأمانة - أجابه قومه على هذه الدعوة المخلصة إلى الحق بالتمرد.(10/5378)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
(قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111)
الأرذلون جمع أرذل أي الذي بلغ أقصى المهانة في نظرهم، وهم الفقراء والضعفاء والعبيد، وكأنَّهم يتخذون قوة الحق من قوة معتنقيه، وحالهم، ولأنهم لَا يريدون أن يتساووا بهم، ودعوة الرسل المساواة بين القوي والضعيف. والغني والفقير، والاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع، أي لَا يقع منا اتباع لك، بحيث نتساوى مع الأرذلين الذين اتبعوك، وكذلك فعلت قريش مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، لقد ذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - ونهى اللَّه نبيه أن يلتفت إليهم (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)، وفي قراءة وأتباعك جمع تبع أي ليس معك إلا الأرذلون.(10/5378)
أجابهم نوح على امتناعهم عن الإيمان بسبب إيمان الضعفاء والفقراء والعبيد، وهذا من سخف تفكيرهم، وتفكيرهم المادي الذي بنوا فيه تقدير الناس على أساس قوتهم المادية الجسمية، وأموالهم، أجاب عليه السلام بقوله:(10/5379)
قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112)
(قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) الاستفهام هنا للتنبيه إلى أنه لَا يعلم ما كانوا يعملون لنيل رزقهم، وأنه لا يهتم به، إنما يهمه فقط إجابة دعوته، وما يحرضهم عليه من تقوى وهداية، أي أنه عليه السلام لَا يهتم بالذي كانوا يعملونه وهم مستمرون على عمله سواء كانوا يمتهنون صناعات صغيرة، أو صناعات كبيرة، إن ذلك لَا يعنيه،(10/5379)
إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)
(إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) أي ما حسابهم إلا على ربي لو شعرتم بالحق وأدركتموه.(10/5379)
وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
(وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)
نفى عن نفسه أن يكون من شأنه أن يطرد من استجاب وآمن بالحق واستجاب دعوته، أي أنه ما أرسل لتوزيع الأعمال على الناس، إنما أرسل لدعوة الحق والإيمان، وترى أن النفي لوصفه بطرد المؤمنين، فهو نفي عن شأنه بوصف كونه رسولا داعيا إلى الحق، لَا يهمه إلا استجابة دعوته.(10/5379)
إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
(إِنْ) نافية، أي ما أنا إلا نذير مبين، أي إلا منذر مبين، فلا يهمني إلا بيان ما فيه الإنذار، وبيان ما فيه من تبشير، ويلاحظ أن قول نوح عليه السلام فيه تهديد لهم، ولذا اقتصر على ذكر الإنذار، ولم يذكر التبشير، مع أن أصل الرسالة للأمرين.
وقد أمر اللَّه تعالى محمدا - صلى الله عليه وسلم - وقد جوبه من المشركين بما جوبه به نوح عليه السلام، وقال اللَّه تعالى له:
(وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52).
وهكذا توافقت أقوال المشركين من عهد نوح الأب الثاني للخليقة إلى عهد قوم محمد خاتم النبيين، وكان الجواب واحدا أحرج قوم نوح والمبطل إذا أحرج هدد وأنذر.(10/5379)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
(قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
يئسوا من رده، وهو يحجهم بالحجة تلو الحجة، فانتقلوا من الجدل العقيم منهم إلى التهديد بالرجم بالحجارة، وقد فقدوا كل عناصر الود، وأعلنوا القطيعة وقالوا مصرين على الكفر: (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) اللام هي الدالة على القسم، بأنه إذا لم ينته يكون الرجم جزاءه، وطريق معاملته، وينتقلون من حال الرجم بالقول إلى حال الرجم بالحجارة، (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) هذا جواب القسم، واللام واقعة فيه مؤكدة، والتوكيد أيضا بنون التوكيد الثقيلة، وبذلك بلغوا أقصى حدود التكذيب مع التهديد العنيف. عندئذ اتجه إلى ربه قائلا:(10/5380)
قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)
(قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117)
بكسر النون للإيماء إلى ياء المتكلم المحذوفة، وصدر القول بالنداء إلى ربه للإشارة بالنداء إلى طلب النصر والعون، والمدد الكريم منه جلت قدرته، وهو الذي أظلهم بنعمة الربوبية، وقوله: (إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ) فيه إيماء إلى أنهم كذبوه، في حال كان يرجو إيمانهم؛ لأنهم أولا قومه، وعرفوا صدقه، وخوفه عليهم، ورفقه بهم، ورغبته لخيرهم، ومع كل هذا كذبوه وقطعوا صلته وأعلنوا عداوته، وهددوه بالرجم، وإن لم يذكره لربه، لأنه عليم بهم يرى ويسمع.
اتجه إلى ربه يدعوه إلى أن يفصل بينه وبينهم:(10/5380)
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
(فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
وقد كان تهديدهم له بالرجم خطا فاصلا بينه وبينهم، وأخبره اللَّه تعالى بقوله تعالى: (لَن يُؤْمِن مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ)، والفاء للإفصاح، وتقدير القول إذا كانوا كذبوكَ ولا يؤمن إلا من قد آمن فلا تبتئس.
والفتح معناه الحكم والفصل بـ ألا يمكنهم منه، وممن آمن معه وما آمن معه إلا قليل.
وقد أجابه اللَّه تعالى إلى مطلبه فور دعائه إليه.
(فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)(10/5380)
الفاء عاطفة للترتيب والتعقيب، أي أنه فور دعائه أجابه،(10/5381)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)
(فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ) أي الذين معه في الإيمان والإذعان والتصديق وناصروه، وإن كانوا قليلا، وقوله تعالى: (الْمَشْحُونِ) الذي حمل فيه كل ما يحتاجون حتى تستوى على بر السلامة، وهذا قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40).
هذه عاقبة نوح، ومعه أهل الإيمان من قومه، والطائعين له من أهله، أما الباقون فقد قال تعالى فيهم:(10/5381)
ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)
(ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120)
والعطف بـ (ثُمَّ) في موضعه؛ لأن التفاوت بين الحالين ثابت، إذ هو بعد وتفاوت بين الإنجاء والإهلاك، ولأنه تفاوت بين غضب اللَّه على الباقين، ورضاه على المؤمنين، وقوله - بعد - فيها إشارة إلى أن الغرق كان بعد صناعة الفلك، وركوبه، ومجيء السيول المغرقة التي كان الموج فيها كالجبال، وغير ذلك مما هو مذكور بتفصيل في سورة هود.
ثم قال تعالى:(10/5381)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121)
أي لمعجزة قاهرة دالة على رسالة نوح عليه السلام، وعلى قوة صبره، وعلى إيمانه بربه، ومع ذلك ما كان أكثرهم مؤمنين، بل ما آمن معه إلا عدد قليل، وهذا دليل على أن المعجزة الحسية التي كانوا يطالبون بها وقتا بعد آخر، ليس من شأنهما أن تحملهم على الإيمان حملا، إذا لم تكن النفوس راضية مرضية، متجهة إلى الايمان من غير معوق من سلطان أو مال، أو غرور مبين وقوة دنيوية.(10/5381)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
أي الغالب، والرحيم، الذي يرحم عباده باختبارهم، وعقاب المسيء وثواب المحسن، وإمهالهم حتى لَا يكون أمل في رجوعهم إلى ربهم، وإنابتهم إلى خالقهم.
* * *(10/5381)
عاد وهود
قال تعالى:
(كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
* * *
إن هذه الآيات الكريمات(10/5382)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124)
(كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127).(10/5382)
هى التي قدمت بها قصة نوح عليه السلام، وذكرها هنا ليس تكرارا من غير معانٍ واضحة بينة، وهي تدل أولا على أن الكافرين بالرسل لَا يعارضون الآيات، وينكرونها، إنما هم لجحودهم ينكرون أصل الرسالة الإلهية إلى البشر، فهم لا يؤمنون باللَّه تعالى، إذ لَا يؤمنون بالغيب، وإنما يؤمنون بالأمور المحسوسة فقط، والإيمان بالغيب هو التدين، كما قال تعالى في أوصاف المؤمنين الذين يؤمنون بالغيب.
وتدل ثانيا - على أن الرسل أمناء اللَّه تعالى على خلقه، وإرشادهم وتقويمهم، كما كان يقول كل رسول:(10/5383)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125)
(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125)
وهم يكونون من المعروفين بالأمانة في أقوالهم، لتكون شهرتهم بالأمانة دليلا على صدقهم ابتداء، فلا يفاجئون بما يتوهم كذبه.
وتدل ثالثا - على أن رسل اللَّه لَا مطمع لهم في أمر دنيوي، إنما يريدون الهداية والتقوى والإيمان، وأنهم لَا يرجون أجرا إلا من رب العالمين يوم تجزى كل نفس ما كسبت.
وتدل رابعا - على أن التقوى مطلب النبيين أجمعين؛ ولذلك قال كل منهم في مبدأ دعوته(10/5383)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126)
(فَاتَّقُوا اللَّهَ).
وتدل خامسا - على أن طاعة الرسول واجبة لأنها طاعة للَّه تعالي، وكما قال الله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، وإن ذلك ليس تكرارا، ولكنه تأكيد بيان طبائع المشركين وبيان هداية الرسل.
ويظهر أن عادًا كانوا يعنون بالبناء والتشييد، ولذا قال لهم نبيهم:
(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)(10/5383)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128)
الاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، إذ إنهم بنوا فعلا، والريع، اسم جنس جمعي لريعة، وهو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء المربوطة، أو ياء النسبة، والريع ما ارتفع من الأرض، وقيل: أبراج الحمام، لأنها تبنى على مرتفع وتكون(10/5383)
مرتفعة، وآية معناها علامة، وليس المراد منها آية الكون أو الكتاب، بل المراد مطلق علامة. ومعناها هنا أنهم اتخذوا علامات للطرقات في الجبال أو فجاج الجبال، وكانوا يتخذونها ليهتدوا في البر وفي السير، فيتعرفوا بها الطرقات حيث ساروا.
ووجه العبث في بنائها أنهم يغالون في الارتفاع بها مفاخرة، فهم يعيثون، ولا يكتفون بقدر الحاجة، وكل ما يزيد عن قدر الحاجة يكون عبثا، وكل ما يدفع إلى البطر فهو عبث، أيا كان نوعه.
وذكر الزمخشري أن العبث فيها أنه لَا حاجة إلى هذه العلامات، لأن تهديهم إلى الطرق، وكان لهم بها علم، وقد قال تعالى: (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ).(10/5384)
وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
(وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129)
أي تبنون أماكن وقصورا مشيدة مصنوعة صناعة محكومة تبقى على الأزمان وتناطح الدهر، لعلكم تخلدون، أي ترجون لها أن تخلدوا فيها، والمصانع جمع مصنع، وهو مكان الصنع الجيد، والصنع إتقان العمل، ويقال للحاذق المجيد صَنَعٌ بفتحتين، وللحاذقة المجيدة صناع، ويقال صنَّاع، فالمصانع، القصور المجود بناؤها، المزخرف طلاؤها، وكأنهم يرجون أن تكون جنتهم التي يخلدون فيها.
وقد بين سبحانه، أنهم يبنون، ويستعلون عابثين، ويبنون القصور المشيدة لعلهم يخلدون، وذلك لتكون لهم السلطة والقهر والغلب، ولذا قال في وصفهم عز من قائل:(10/5384)
وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
(وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130)
الخطاب لعاد قوم هود، وهو وصف لحالهم وهو أنهم جبابرة في طغيانهم، والتجبر، يدفع إلى الأذى والسيطرة بالباطل، والتدابر والتقاطع وإن هذه حالهم، القوي فيهم يأكل الضعفاء، فالحقوق مهضومة، والباطل رافع رأسه فيهم،(10/5384)
وخاطبهم، بذلك نبيهم هود عليه السلام عن ربه العليم الحكيم. والبطش السطو، والعسف قتلا بالسيوف، أو ضربا بالسياط، والجبار المتسلط العاتي، وقد نفى اللَّه تعالى عن نبيه أن يكون جبارا فقال: (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ)، ومعنى ْالنص أنكم يا عاد طغاة جبارون إذا بطشتم عاسفين كان بطشكم بطش جبارين يسومون الضعفاء الذل والهوان.
ويجب أن تتخلفوا عن هذا الوصف الذميم، وترفقوا بأنفسكم، ولذا قال لهم هود ذاكرا عن ربه:(10/5385)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)
الفاء للإفصاح، أي إذا كنتم كذلك غير مترفقين (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) أي اجعلوا بينكم وبين غضب اللَّه وقاية، واجعلوا التقوى شعاركم يذهب غروركم بالقوة، وأطيعون فيما أنقل لكم من شرع الله تعالى والنظام المحكم.
ولقد أخذ هود عليه السلام يذكرهم بنعم الله عليهم، وأنها توجب أن يملئوا أنفسهم بتقواه خوفا من عذابه، وشكرا لنعمته
(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)(10/5385)
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132)
الواو عاطفة، وقد أمرهم بالتقوى عامة، وبالطاعة كذلك، وهنا يأمرهم بتقوى صاحب النعمة التي أنعمها عليهم، والذي أمدهم بالنعم التي كانت بها قوتهم في الأرض وقدرتهم على البطش كالجبارين، والأمر بالتقوى يتحقق بان تمتلئ نفوسهم بتقواه وللحمل على الوقاية، وأن تكون قلوبهم خاشعة مملوءة بمهابته، ومخافته، لَا أن يكون أمرهم بورا، ولا يرهبون، ولا يقدرون، وقوله تعالى: (بِمَا تَعْلَمُونَ) علما محسوسا ترونه، وتتبحبحون فيه، وما اتخذتموه قوة للبطش والظلم، ولم تتخذوه قوة للعدل وإقامة القسطاس المستقيم.(10/5385)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)
(أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133)
أي أمدكم بكل أسباب القوة، أمدكم بالأنعام، وهي رمز لقوة المال، وفيها رغد العيش، ومتعة النفوس، كما قال تعالى في سورة(10/5385)
النحل (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) والبنون هم قوة النفر، وبها يكون السلطان القوي، وبالمال وبالبنين تكتمل زينة الحياة الدنيا، كما قال تعالى: (المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. . .).
فإذا كنتم تبطشون بهذا الخير الذي أمدكم، فاذكروا في أوقات بطشكم من أعطاكم ما اتخذتموه سببا، واجعلوه سببا للتقوى وشكر النعمة.(10/5386)
وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
(وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134)
والجنات جمع جنة، وهي تشمل النخيل والكروم، والعيون عيون الماء التي يكون بها سقيهم ورعيهم، ونباتهم وكلؤهم التي ترعى فيها أنعامهم، فكل هذه نعم توجب الشكر، وتوجب امتلاء القلوب بتقوى من أمدهم بها، ومكنهم بمعايش في الأرض جعلت لهم قوة، فلا يصح أن يبطشوا، بل يشكرونها، وتمتلئ بخوف معطيها، لأن من يمنح يمنع، ولأنه يريد السعادة للناس، ولذا قال لهم:(10/5386)
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
وقد ذكرهم بنعمه أولا، وأشار إلى أنهم اتخذوا هذه النعم ذريعة ليكونوا أقوياء باطشين، لَا أن يكونوا شاكرين، وقد أنذرهم بعد بعذاب اللَّه تعالى التي ينزل بمن يظلمون ويفسدون في الأرض، فإنه لَا يفسد الأرض غير الظلم والطغيان، قال الرسول الشفيق بقومه: (إِنِّي أَخَافُ) مشفقا عليكم منذرا لكم (عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم) وهو يوم القيامة، يوم لَا ينفعهم مال ولا بنون إلا من أتى اللَّه بقلب سليم، وقد أكد العذاب وإن، وبوصف العذاب بأنه عظيم لَا يقادر قدره، وكان تنكيره لبيان كبره وشدته، وأنه فوق التقدير والوصف.
ذكرهم بالنعمة، ثم أنذرهم بالجزاء، ولكن لم يرعووا، ولم يستيقظوا، وكانوا في عمياء ضالة، ولذا رأوا هذا وقالوا:
(قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)(10/5386)
الوعظ يجمع بين معنى التذكير بالخير، وإثارة النفس إلى الخير، والزجر المقترن بالتخويف، وقد جمع كلام نبي اللَّه هود على المعنيين، فهو أولا ذكرهم بالنعم التي هي خير محض، ثم أنذرهم بالعذاب الشديد، فقالوا مصرين على ما هم عليه(10/5387)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)
(قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ)، أي تساوى عندنا حالك إذا كنت الواعظ المذكر بالنعم، والمنذر بالنقم، أم لم تكن من الواعظين، بأن تركتنا في أمورنا، وحالنا.
ولم يكتفوا بذلك بل تهجموا على ما يدعو إليه، وقالوا:(10/5387)
إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
(إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
و (إِنْ) نافية، أي ما هذا إلا خلق الأولين، وفي النص الكريم قراءتان:
إحداهما - بضم الخاء واللام، والمعنى على هذا يتضمن أولا أن ما هم عليه من شرك، وقد اتبعوا فيه آباءهم، كما قال المشركون ة وجدنا عليه آباءنا، ويتضمن ثانيا أن ما هم عليه من بطش جعلهم جبارين هو خلق الأولين من قومهم، ولذا عبروا بخلق بدل دين ليشملهما معا.
والقراءة الثانية هي (خَلْقُ) بفتح الخاء وسكون اللام، ويكون المعنى إن هذا الوعظ إلا ما اختلقه الأولون وافتراؤهم، كما قال المشركون عن القرآن الكريم، (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ).
ولشدة غرورهم وعظم تكذيبهم قالوا:(10/5387)
وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)
(وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138)
الباء لتأكيد نفي التعذيب، وإن ذلك النفي يتضمن ثلاثة أمور: أولها - أنهم لغرور يقررون أنهم لَا يعذبون، وليس من شأنهم أن يعذبوا، ويتضمن ثانيا إنكار البعث وتلك خلة الكافرين، ويتضمن ثالثا، أنه إن كان بعث فلن يكون العذاب نصيبهم، بل تكون حالهم في الآخرة هي حالهم في الدنيا، ذلك ما يأفكون به، وهم الضالون.
ولقد كان الهلاك هو نهايتهم، ولذا قال تعالى:(10/5387)
(فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
-(10/5388)
فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي ترتب على ما قالوا الحكم بتكذيبهم، والفاء الثانية عاطفة للترتيب والتعقيب، أي عقب تكذيبهم، فأهلكوا بريح صرصر عاتية، كما قال تعالى: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ)، وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً)، أي إن في هلاكهم بعد التكذيب، ونفيهم للتعذيب والبعث، وبطشهم وقوتهم وغرورهم لآية دالة على قدرة اللَّه تعالى، وأنه يأخذ الظالمين في قدرتهم، ولا يعجزون الله، فما كانوا معجزين.
ثم حكم اللَّه تعالى عليهم باستمرار كفر أكثرهم، وكانوا بذلك مستحقين لما نزل بهم، ولذا قال تعالى: (وَمَا كانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ) فما كان الهلاك للمؤمنين بل كان للكثوة الكافرة، وما أغنى عنهم طغيانهم وبطشهم.(10/5388)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
(وَإِنَّ رَبَّكَ)، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - لهو العزيز الغالب الذي هو فوق كل شيء، الرحيم في أحكامه، وإمهاله، ومن رحمته ألا يتساوى المحسن مع المسيء، ولا الأعمى والبصير، والله هو العليم الحكيم، وقد أكد سبحانه وتعالى عزته ورحمتة بـ إنَّ المؤكدة، وباللام، وبضمير الفصل، وبأنه وحده المختص بالعزة والرحمة.
وقد كان سبحانه يعقب قصة كل نبي بهاتين الآيتين.
* * *(10/5388)
صالح وثمود
قال اللَّه تعالى:
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
* * *
ابتدأ اللَّه تعالى قصة صالح مع ثمود بما ابتدأ به قصة نوح وإبراهيم، وعاد قوم هود، من بيان أنهم يكذبون المرسلين، وكأنهم لَا يؤمنون برسالة اللَّه تعالى إلى أهل الأرض، وبأن الرسول أخوهم ومنهم كشأن الرسل دائما يرسلون إلى أقوامهم، وإنهم يعرفون بالأمانة والصبر بينهم، وإن أول مطلب لهم منهم(10/5389)
يقربهم إلى اللَّه زلفى هو أن يملئوا نفوسهم بالتقوى، حتى يعمر قلبهم بالإيمان به، ويبتعدوا عن التمرد، وينتقلوا من طريق الشر إلى طريق الخير، فيأمرهم بتقوى اللَّه وطاعته، لأن طاعته طاعة للَّه تعالى، وقد أشرنا إلى ذلك في معاني الآيات الأولى لقصة هود وعاد، وهذا هو معنى الآيات الخمس الأولى من قصة صالح وثمود، وهي قوله تعالى:(10/5390)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145).
ابتدأ سبحانه وتعالى بأن خاطبهم أخوهم صالح، يذكر لهم أنهم قد أوتوا نعما، فلا يمكن أن يتركوا هملا من غير مسئولية على ما حملوا من نعم، فبقدر النعمة تكون النقمة، كما قال تعالِى: (أَفَحَسِبْتمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)، فقال لهم(10/5390)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146)
(أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
أتتركون - الهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى نفي الوقوع، أي لَا تتركون فيما هاهنا، أي في هذا المكان آمنين، أي لَا تتركون في هذا المكان آمنين من الموت والحساب والعقاب أو الثواب إن حبستم أنفسكم، ولكن الموت حق عليكم وهو يأتيكم بكل الأسباب، وذلك يستدعي أن تفكروا في عواقب أموركم، ولا تحسبوا أثها نعمة لَا حساب عليها، ولا عواقب تعقبها، إن خيرا فالنعيم بعدها، وإن شرا فالعذاب الأليم من ورائها.(10/5390)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)
(فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)
الجار والمجرور متعلق بـ تتركون، أو بـ آمنين، والجنات جمع جنة والعيون عيون الماء المثمرة كما أشرنا من قبل، والجنات الأشجار الباسقة من كروم، وتفاح ورمان وغيرها، وزروع، جمع زرع وهو النبات الذي يكون منه الحب المتراكب ويتغذى منه الإنسان، والذي يكون منه السنابل من قمح وأرز وغير ذلك من النعم التي أنعم بها على الإنسان في غذائه، ويشمل النبات والحشائش التي تكون كلأ الأنعام، وخص النخل بالذكر، لأنه كان غذاء العرب،(10/5390)
حتى سمى العرب أمة التمر واللبن، وكان ذكره بعد النبات لبيان إنعام اللَّه تعالى على الإنسان بالغذاء بكل أنواعه، فأهل المدر غذاؤهم من النبات ذي الحب المتراكب، وفرى السنابل، وأهل الوبر غذاؤهم من النخل في أكثره، واللَّه هو المنعم للفريقين.
والضمير في قوله تعالى:(10/5391)
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
(طَلْعُهَا هَضِيمٌ) يعود على النخل؛ لأن النخل أنثى، أو لأنه جمع ما لَا يعقل، إذ النخل اسم جنس جمعي للنخلة، ويفرق بين المفرد والجمع بالتاء أو ياء النسب، وقد فرق بينهما هنا بالتاء.
والطلع، ما يطلع من جوف النخل كنصل السيف، والهضيم اللطيف المنضم المتلاصق في وعائه في الجوف قبل أن يظهر، وهو اليانع النضيج، وهذه الأوصاف تكون بحسب الحال، وبحسب المآل إذ يكون منه البلح الرطب، وأجود التمر.
بعد ذلك ذكر نعمة عليهم، ولهم فيها عمل بتهيئة الأسباب، فقال تعالي:(10/5391)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149)
في فارهين هذه القراءة، وفيها قراءة أخرى فَرِهين، وكلاهما بمعنى واحد، ولا اختلاف في المعنى بين القراءتين، أي يبنون في الجبال بيوتا، لَا بلبنات ينقلونها، بل بنحت فيه تسوية وبرد، وإذهاب أجزاء وإبقاء أجزاء، (فَارِهِينَ) حال ومعناها حاذقين متحصنين بها معجبين متجبرين.
وهذا الكلام من اللَّه سبحانه وتعالى يفيد أنهم في نعم بما في الأرض من جنات وعيون، وزروع ونخل طيب وبيوت تنحتونها وتسوونها من الجبال، ويحسبون أنهم متروكون ويأكلون ويشربون، ويتلهون متجبرين عابثين.(10/5391)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150)
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
الفاء هنا للإفصاح، أي إذا كنتم على هذه الحال من النعم التي أحاطت بكم، فاتقوا اللَّه، أي فاملئوا أنفسكم بتقوى اللَّه ومهابته شكرا للنعمة، وتوقعا(10/5391)
للحساب الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأطيعوني فيما أنقل إليكم من شرائع ربكم التي فيها استقامة أموركم، وصلاح أحوالكم.
وإن الناس هم الذين يفسدون الناس، ويخلقون في الأرض أجواء فاسدة، وأولئك هم المسرفون، ولذا قال بعد هذا(10/5392)
وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)
(وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151)
والمسرفون هم الذين يخرجون بطبيعتهم البشرية عن حد الاعتدال، إلى حد الإسراف، فيسرفون في شهواتهم حتى يصيروا عبيدا للشهوات، ويسرفون في أوهامهم، فيحسبون ما تدفع إليه الأوهام حقيقة، وليست إلا وهما باطلا، ويسرفون في طلب السلطان فلا يحسبون أنه لإقامة العدل والقسطاس المستقيم، ويسرفون في القوة فلا يحسبونها لحماية الضعفاء، بل يظنونها للاستعلاء والاستكبار عليهم، وليجعلوهم عبيدا أذلاء.
وهكذا كان المسرفون مفسدين لنفوسهم ولمجتمعهم؛ ولذا قال تعالى في وضعهم العام:(10/5392)
الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
(الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
وصف اللَّه تعالى المسرفين في ذات أنفسهم أنهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ذلك بأنهم بإسرافهم على أنفسهم في شهواتهم، وقواتهم، وغرائزهم يميلون إلى الأثرة فيجعلون كل ما وهبهم اللَّه لأنفسهم، وليس لغيرهم حق من الحقوق، فيكون الاعتداء الظالم، ويكون التغالب لسيطرة الباطل، وهضم الحقوق، وأي فساد للناس أكثر من أن يكون قانون الغابة هو الحكم بين الناس، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251).
فالمسرفون يفسدون دائما ولا يصلحون، قرر اللَّه لهم وصفين: إيجابي، وهو الفساد المترتب على إسرافهم، والوصف الثاني سلبي فقال: (وَلا يُصْلِحُونَ) أي لَا يمكن أن يكون منهم إصلاح كالذي يدعيه الطغاة من الحكام، والأقوياء من الأمراء من أنهم يصلحون بين الناس، وإن الوجود في حاجة إليهم، ولا نشعر، فهذا النص السامي يرد كلامهم في أعناقهم، إلا أن يخرجوا عن إسرافهم في نفوسهم، وعلى مجتمعهم.(10/5392)
وقوله: (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ) بدل من المسرفين، أو عطف.
ونلاحظ ملاحظة بيانية، وهي أنه تعالى عبَّر عن الإسراف بالوصف للإشارة إلى أن الإسراف إذا استمكن في النفس ترتب عليه ذلك الفساد وعدم الإصلاح.
وبماذا أجاب المشركون تلك الموعظة الهادية الزاجرة
(قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
يظهر أن هذا القول الطيب سرى في نفوسهم، ولكنهم بدل أن ينطقوا بالحق ويذعنوا له نطقوا بالباطل،(10/5393)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153)
(قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسحَّرِينَ) المسحر هو الذي أوتي علم السحر، فكانت له قدرة على الإتيان بالقول الخادع الذي يوجد تخييلات الحق وليس بحق، وإنك بهذا التسحير الذي علمته تصرف الأنظار عن الحق، فتسحر فكر الناس كما يسحر الساحر أعين الناس ويسترهبهم بفعله، وقولهم هدا فيه قصر له على أنه من المسحرين، وذلك لأن (إنما) من أدوات الحصر، ولقد رمى المشركون كتاب اللَّه تعالى، فقالوا إنه قول ساحر.
وأكد ذلك بقولهم من بعد كما أكدوا جحودهم بقولهم:(10/5393)
مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
(مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154)
أي لَا يمكن أن تكون رسولا، لأنك لست إلا بشرا مثلنا، وكذلك قال المشركون لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ).
أي أنه لَا يكفي لإثبات رسالتك ما قلت ما دمت بشرا مثلنا فأت بآية، أي دليل يدل على أنك رسول من قبل رب العالمين إن كنت من الصادقين، ويظهر أنهم كانوا زراعا، ذوي أنعام وإبل، فجاءت المعجزة من قبل ما يألفون، ويربون، وهو أنه أتى لهم بناقة هي ناقة اللَّه، وقد كان على علم بالجمال وخواصها، وخصوصا إناثها كما كان قوم فرعون على علم بالسحر، يعلمون ما هو سحر، وما ليس بسحر، كذلك هؤلاء يعلمون ناقة اللَّه من بين نوق البشر، قال لهم صالح.
(قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)(10/5393)
قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)
الشِّرْب الحظ من الماء المشروب، وهذا هو حق الشرب، والشِّرْب في اصطلاح الفقهاء حظ الزرع من الماء، والمراد قدر شرب الناقة، وقوله: (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْم مَّعْلُوم) أي أن لهذه الناقة المخصوصة شرب يوم معلوم ولكم شرب يوم معلوم.
وهذه الناقة ناقة مولودة كسائر النوق، أم أن الله تعالى أتى لهم بناقة خاصة لم تولد مثل سائر النوق؟، ظاهر الآية أنها ناقة ولدت كسائر النوق، ولكن كان لها خواص معلومة، ففي شربها تشتف شربها ولا تبقى منه شيئا وتدر في آخر النهار لبنا خالصا سائغا للشاربين، والإعجاز، في هذا، ولكن روي عن ابن عباس أن اللَّه تعالى جعل لهم ناقة خرجت من الجبل حمراء عشراء قد مضى لحملها عشرة أشهر ترد الماء فتشربه، وتأتي بقدره تماما لبنا، وهو كلام مقبول إذا ورد عن المبعوث محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو مبين القرآن وموضحه (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، وإني أميل إلى أن أترك النص على عمومه، ولكن لا بد أن نفرض أن لهذه الناقة خواص وصفات فيها ما يبهر العقول، وبوجه الأنظار إلى قدرة اللَّه تعالى، وليكن من خواصها أن تشرب الماء في الغداة وفي العشي تعطي لبنا بقدره، وهذا دال على قدرة اللَّه تعالى، وعلى أنها آية من آياته لها دلالتها وإعجازها وإثبات رسالة صالح عليه السلام.
وإذا كانت ناقة لها صفة المعجزة وأنها دليل الرسالة، فإنه يجب إشعارها بصفة خاصة بها، ولذا قال تعالى:(10/5394)
وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
(وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156)
نهوا عن أن يمسوها بأي سوء أو أذى، لأن الله حارسها وحاميها، وهي معجزة نبيه، ولأن النفس الطيبة لَا تؤذي الطيب. وهذه ناقة تشرب الماء فتحوله إلى لبن بقدرة اللَّه تعالى وعلمه لإظهار معجزة نبيه، وآية نبوته، ولكن الوسواس الخناس يجري في الدم البشري. واليوم العظيم - ووصفه بالعظيم لعظم العذاب فيه، وهو يوم في الدنيا بهلاكهم بسببه، وفي الآخرة بالعذاب المقيم لعصيانه، إذ يلقون في الجحيم.(10/5394)
فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157)
(فَعَقَرُوهَا ... (157)
أي نحروها، وذلك لوسوسة الشيطان لهم؛ ولأن النفس تحاول معرفة الغريب من الأشياء، وهي مولعة بالغريب من الأمور، ولقد كان وجودها بينهم فوق أنها دلالة النبوة، ومعجزة النبي مثيرة لاستغرابهم، وحملهم على الضبط، فلما عقروها، وقدروا خواصها (فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ) على فعلتهم، لما فاتهم من خيرها، ولأنهم رأوا خواصها، ولأنهم توقعوا العقاب الأليم بعدها، ولذا قال تعالى فيهم: (فَآصْبَخوا نَادِمِينَ)، أي أن الندم استغرقهم، وصار حالا دائمة لهم.
والعاقر بلا ريب بعضهم، ولكنه برضاهم؛ لأنهم لم ينهوه، فنسب الفعل إليهم، لأنهم لم يتناهوا عن هذا المنكر الذي نبهوا بالنهي عنه تنبيها شديدا وأنذروا بعذاب يوم عظيم.
ولم يمنع الندم العذاب عنهم(10/5395)
فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158)
(فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ ... (158)
أي أن العذاب سيطر عليهم كأنه أخذهم إليه أخذا. وقال الحافظ ابن كثير في هذا العذاب: هو أن أرضهم زلزلت زلزالا شديدا، وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب من محالها، وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون وأصبحوا في ديارهم جاثمين.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) الإشارة إلى الناقة وهي معجزة، وعقرها، ونزول العذاب بعده، وهذه كلها آيات بينات على نبوة صالح، وعلى قدرة اللَّه الباهرة، وعلى فرض الضلالة الظاهرة.
ومع هذه الآيات (مَا كَانَ أَكثَرُهُم مُؤْمِنِينَ) بل كان المؤمنون هم القلة الظاهرة، لأن إبليس يجري في نفوس أتباعه مجرى الدم، والله بكل شيء عليم.(10/5395)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
الخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ليسليه بهذا القصص الحكيم المشتمل على العبر ليصبر كما صبر قبله النبيون، وليعلم أن المعجزات الحسية لَا تتبعها الهداية الحتمية، والقرآن هو المعجزة الكبرى، وإن لم تكن في إعجازها حسية، والعزيز هو الغالب القوي العليم بالنفوس وشقوتها وسعادتها، وهدايتها وضلالها.
* * *(10/5395)
قصة لوط وقومه
قال تعالى:
(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
* * *
الآيات الخمس في قوله تعالى:(10/5396)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)
(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164).
قد ذكرنا أن هذه الآيات الخمس الحكيمة تنبئ أولا - عن أن الضالين يسارعون إلى التكذيب، وينكرون رسالة اللَّه إلى أهل الأرض، يدل على ذلك (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) وكذلك قوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط.(10/5396)
وتدل ثانيا، على أن الرسول يكون من بينهم، ولذلك عبر عنه بأنه أخوهم وقبل ذلك في نوح وهود وصالح، ويقال في لوط أيضا.
وتدل ثالثا، على أمانة من أرسل إليهم، وأنهم عرفوا بين أقوامهم بذلك، وتدل رابعا، على أنهم لَا يطلبون أجرا من جاه أو من مال إنما يطلبون الأجر من عند اللَّه وحده.
وقد أشرنا إلى ذلك من قبل، وقد خاطب بعد ذلك نبي اللَّه لوط قومه مستنكرا شنيع أفعالهم، فقال عليه السلام فيما حكاه اللَّه عنه من(10/5397)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
(أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165)
الذكران جمع ذكر كذكور، ولكن جاء النص كذلك ليكون تشنيعا أشد، وأحسب أنه لَا يكون ذكرانا جمعا إلا لذكور الإنسان، وفي التعبير (أَتَأتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ) كناية لطيفة، والاستفهام لاستنكار الواقع بمعنى التوبيخ وبيان شناعة العمل، لأنه ضد الفطرة، وعبر بالإتيان كإتيان الرجل المرأة، ولكنه في دبره، فهو إفساد للفطرة، وأحسن من عبَّر عنه بالشذوذ الجنسي؛ لأنه دليل على فساد الفطرة وشناعة الفعل في ذاته، وقوله تعالى (مِنَ الْعَالَمِينَ) أي من أهل المعرفة والعلم، ولا يرضى بذلك إلا من هو أشد فسادا من الفاعلين، وإن ذلك يشيع ويكثر كلما فسدت الفطر، وقد كثر في الماضي في قوم لوط، وكثر في الحاضر في أهل أوربا وأمريكا، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.
وإنهم ليتركون الفطرة، ولذا قال تعالى:(10/5397)
وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
(وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166)
تذرون، فعلها الماضي لَا يُذْكَرُ، ولكن الزمخشري ذكره في كتابه أساس البلاغة ونص على أنه يقال: ذروا هذا الأمر، فيقولون (وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم) تدل على الترك والإهمال، وتلك إحدى الكبر، كأنهم يرتكبون أمرين: أولا الفعل مع الذكران، وإهمال الأزواج، ولذلك قالوا إن التعبير بـ (تَذَرُونَ) أبلغ من تتركون، والآية تدل على أن الفطرة(10/5397)
هي ما يكون مع الأزواج، والآخر ضد الفطرة، ثم صرح اللَّه تعالى بأنهم ظالمون وعادون، فقال عز من قائل: (بَلْ أَنتمْ قَوْمٌ عَادُونَ) بل للإضراب الانتقالي بأن انتقل من وصف عملهم الآثم، إلى وصف أشخاصهم، و (عادون) جمع عاد، وهو الظالم المعتدي الذي تجاوز الحد، فقد تجاوزوا حد الفطرة، وخرجوا عليها، وشذوا عن الإنسانية.
بعد هذه الموعظة الزاجرة، أجابوه إجابة الغواية الفاجرة، هددوه بالرجم (كما ورد في آية أخرى) أو الإخراج من البلد والنفي في مكان بعيد، كما في هذه الآية.
(قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
قالوا مصممين موثقين قولهم باليمين،(10/5398)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) اللام هي اليمينية، أي أقسموا بما يقسمون به إذا لم تنته، وكان النداء لتأكيد أن الخطاب له، ولم تكن لمودة بجمعهم، إنما هو لنفرة شديدة لتفرقهم، لأنه يحول بينهم وما يشتهون من خروج على الفطرة والطبع الإنساني، والمقسم به لتكونن من المخرجين؛ أو المرجومين، واللام واقعة في جواب القسم، وقد أكدوا الإخراج أو الرجم بها، وبأن يصير في عداد المرجومين أي أنه يرجم ويقبر، ويكون في عداد الأموات الذين يموتون بالرمي بالحجارة، حتى ماتوا، وأكدوا الرجم أيضا بنون التوكيد الثقيلة وكذلك التأكيد على إخراجه فيكون بعيدا عنهم ويرتاحوا من مواعظه.
وكانوا في فجورهم الذي لجوا فيه واستمرءوه، وهو لَا يستمرأ إلا عند ذوي الطباع الشاذة الخارجة عن الفطرة وهم فاسقون أقوياء جبارون، فلم يسع نبي اللَّه إلا أن يعلن استنكاره لفعلهم الذي يجافى الفطرة الإنسانية.(10/5398)
قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
(قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168)
عملهم هو هذا الفجور الذي أصروا عليه ولم يتركوه، وأرادوا قتل النبي الذي بيَّن قبحه لهم بأقبح وأفجر قتلة وهو الرجم، أعلن النبي الأمين بغضه الشديد له عساهم يرتدعون، أو يقلعون عنه إن كان فيه بقية من الإنسانية قال(10/5398)
لهم: (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ) أي المبغضين له بغضا شديدا، يقال قلى فلان الأمر أبغضه بغضا شديدا وعافه وقدم الجار والمجرور لعظيم النفرة من عملهم، وقد أشار إلى أن الناس جميعا يبغضون ذلك؛ لأنه مناف للفطرة، بقوله: (مِنَ الْقَالِينَ) أي المبغضين له بغضا شديدا، أي اجعلني في تعداد الناس الذين استقبحوه ونفروا منه.
ولقد علم عقبى فعلهم، والأثر السيئ الذي يعقبه، فقال:(10/5399)
رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)
(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي ... (169)
اتجه إلى ربه ضارعا أي مناديا (رَبِّ) أي كالئي ومن يحميني، ومن أنعم على بربوبيته وكلاءته، نجني وأهلي مما يعملون، أي من أثر ما يفعلون من معصية تخر لها الجبال الشواهق، فإنه قد نجاه فعلا من هذه الفعلة الفاجرة، لأنه قلاها وأبغضها، إنما الذي يضرع إليه، أن ينجو من آثار هذه الفعلة الشنعاء، وقد أجابه اللَّه تعالى إلى دعائه فقال:
((10/5399)
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171)
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173)
فنجاه اللَّه تعالى من أثر هذه الجريمة الفاجرة، وعقوبتها الصارمة هو وأهله أجمعين إلا امرأة عجوزا كانت في الغابرين وهي امرأة لوط، فقد كانت فيها ممالئة لهم،(10/5399)
ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
(ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
أي الذين ردغوا في حمأة الرذيلة، وقد أمطر اللَّه عليهم مطرا من الحجارة، فساء، أي ما أسوأ من هؤلاء المنذرين، وقد ذكر سبحانه العقاب تفصيلا في سورة هود فقال عز من قائل في لقاء الملائكة وأعقابه.
(وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ(10/5399)
مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83).
هذه كانت آيات اللَّه تعالى لآل لوط، وما آمن أكثرهم، ولذا قال تعالى:(10/5400)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
أي إن في ذلك الإهلاك الذي أهلكهم به، وما كان لهم من مواعظ زاجرة لآية منبهة مرشدة لهم وللمشركين من بعدهم ممن يعاصرونكم، وبيان لأن الفساد والطغيان مرتعه هلاك لَا ريب فيه، وما كان أكثرهم عند هلاكهم مؤمنين، فاللَّه لا يهلك المؤمنين بجزاء من عنده، ولكن يهلكون باعتداء البشر إن لم يتخذوا الأسباب واللَّه ناصرهم ومؤيدهم.
وختم آيات قصة قوم لوط بما ختم به قصة إبراهيم ونوح وهود وثمود ببيان عزته ورحمته وربوبيته فقال:(10/5400)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
أكد عزته ورحمته بذكر أن ذلك من مقتضى الربوبية، وأنه غالب، وأنه رحيم في إمهاله، وأن يفرق بين المحسن والمسيء كما يكون الفرق بين الأعمى والبصير، والظلمات والنور.
* * *
شعيب وأصحاب الأيكة
(كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)(10/5400)
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
* * *(10/5401)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)
الأيك الشجر الملتف واحده أيكة، والمراد أصحاب الشجر الملتف الذي صار أيكة يعاش في ظلها، ونرى سيدنا شعيبا نبي اللَّه أحيانا يذكر أنه بعث إلى مدين قومه، وأحيانا يذكر أنه بعث لأصحاب الأيكة، ويظهر أن المؤدى واحد، لأن مدين كانت تسكن حول هذه الأشجار الملتفة، فهي منتفع بها، وذكرت الأيكة دون مدين لأنها موضع نعمتهم، وقال بعض المفسرين إنه بعث إلى أمتين مدين وأصحاب الأيكة، وإني أميل إلى الأول، وهو الأوضح الذي يسبق إلى الذهن.
والآيات الخمس من قوله تعالي: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180).
قلنا من قبل إن هذه الآيات تصور وحدة الشرك في أنه لَا يؤمن بالرسالة الإلهية، وأنهم ينكرون أن يكون الرسول بشرًا، كما يبدو من جحودهم، وأن الرسول يكون منهم، وأنه معروف فيهم بالأمانة والصدق، وأنه كان محل صدق عندهم، لَا يكذبونه، وأنه بهذه الأمانة والثقة والإرسال من اللَّه تعالى يدعوهم، وأنه لَا يطلب جاها ولا مالا، ولا ملكا، وإنما يطلب الجزاء والرضا من اللَّه(10/5401)
تعالى: (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي ليس أجرا إلا ما يكون من الله تعالى، بثواب من عنده، ورضا من لدنه، وهو أكبر من كل جزاء.
ابتدأ شعيب دعوته في قومه بعد ذكر الأمانة التي توجب التصديق، فقال:
* * *
(أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
* * *
يظهر أن مدين أو أصحاب الأيكة كانوا قوما تجارا، وإن الشرائع السماوية جاءت لمنع الاعتداء على المال، وعلى الأنفس، وإذا كانوا تجارا، كاهل مكة فإن أخص ما يدعون به ألا يطففوا الكيل والميزان، ولذا كانت أخص دعوة شعيب بعد التوحيد ألا يطففوا الكيل والميزان حتى لَا ينالهم الويل الذي هدد به في قوله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3).
قال شعيب لقومه:(10/5402)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181)
(أوْفُوا الْكيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ).
أوفوا الكيل، أعطوه في معاملتكم وافيا، كامل الوفاء غير منقوص، (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) المخسر هو الذي ينقص المكيال، فيدفع معامله إلى الخسران، بألا يخسره ولا يعطيه حقه، وقوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) أبلغ في الدلالة من ولا تخسروا، لأن معنى لَا تكونوا من الطائفة التي اعتادت الإخسار، لَا تكونوا في صفوفهم فتصاب تجارتكم بالكساد، لأن الناس لَا يقبلون على الشراء، إلا ممن استقام في طريقته، وأعطى المتعاملين حقوقهم، ولأن الإخسار أكل مال الناس بالباطل، ولأنه ظلم، والظلم نتيجته وخيمة دائما.(10/5402)
وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)
(وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182)
القسطاس، الميزان الذي يوزن به، ومعنى (وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ)، أي زنوا بالميزان المستقيم الذي لَا يظلم في ميزانه، بل يكون في اعتدال واضح، وهو(10/5402)
يتضمن نوعين من النهي: أولهما - ألا يكون الميزان غير منتظم في رفعه وخفضه، والثاني - ألا يتعمد الخلل فيه، فيخفضه ويرفعه كما يريد كما يكتال ظالما، وكما يكيل ظالما، وإن ذلك إفساد للثقة التي هي أساس التعامل العادل، وأكل لمال الناس بالباطل، وظلم مبين، وإفساد للعلاقات الإنسانية التي تربط الناس بعضهم ببعض.(10/5403)
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
(وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183)
الأموال من حيث تقديرها تنقسم إلى قسمين: أموال مثلية وحداتها متحدة في القيمة إذا توافر اتحاد الجنس والنوع والصفة في جودة أو رداءة، وهذه تقدر بالكيل أو الوزن، وقد نهى سبحانه على لسان نبيه شعيب عليه السلام من التطفيف فيها.
والقسم الثاني أموال قيمية لَا يحد قيمتها الكيل والوزن، ولكن يحد قيمتها تقويم المقومين، وهنا يجري فيها البخس والشطط، ولقد نهى سبحانه في هذا النص عن البخس بأن تقوَّم بأقل من قيمتها، وكل نقص في القيمة هو نقص في المالية فيكون فيه الظلم، وأكل أموال الناس، ولذا قال اللَّه تعالى على لسان (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ)
أي لَا تنقصوا قيمة ما عند الناس، والمعنى الظاهر لَا تبخسوا أشياء الناس، ولكن عبر ذلك التعبير القرآني السامي العميق لفائدتين جليلتين - أولاها - أن بخس قيم الأشياء بخس للناس أنفسهم، فمن بخس تقدير القيم، فقد ظلم، وأعظم الجريمة. الفائدة الثانية - أن في ذلك إبهاما ثم بيانا، فيكون ذلك توكيدا للمعنى فضل توكيد.
وبعد أن نهى عن تطفيف الكيل والميزان، وبخس قيم الأشياء. نهى عن الاعتداء بشكل عام، فقال عز من قائل:
(وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ)(10/5403)
وذلك يشمل إفساد زرع غيره، أو منع الماء عنه، أو إتلافه، أو ألا يعطيه حقه من الماء، أو ما يجري بين المختلطين من مساحة، والعثى أو العثو، الفساد النفسي أو المادي، ونميل إلى العثى النفسي، والمعنى القصد إلى العثو مفسدين حال مؤكدة لمعنى العثو، لأن العثو يؤدي إلى الفساد في الجماعة، فيتقاطعون، ويتدابرون.(10/5404)
وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
الواو عاطفة، أي خلقكم وخلق الجبلة الأولين، والجبلة الجماعات المجبولة على سير وأخلاق سبقوا إليها، سواء أكانت خيرا أم كانت شرا، والسياق يقول اتقوا الله، واملئوا قلوبكم بالخوف منه، أنتم والذين سبقوكم، وجبلوا على ما سلكوه واتبعوه، والأمر بالتقوى لهم، ولمن جبلوا عليه، ليصادرهم في دعواهم، إنهم يتبعون ما كان يعبد آباؤهم، فالتقوى مطلوبة منكم، وممن سبقوكم، وإن كانوا يجأرون بالشرك فإنهم مطالبون بالتقوى كما تطالبون.
دعاوى واضحة في إقامة العدل في المعاملات الإنسانية التي تقوم عليها المعيشة ليستقيم أمر الناس في هذه الحياة العاملة الكادحة، والتي يقرها أهل العقول جميعا، ولكن قومه يقولون متمردين:(10/5404)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
(قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)
الْمُسَحَّر - الذي سحر أي صار مسحورا بقوة، والتضعيف لتشديد وقوعه تحت السحر، كما قال تعالى عن بعض الرسل (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا).
وقيل: المسحَّر الذي يملأ سحرته وهي الرئة، وبذلك يشيرون إلى أنه محتاج إلى طعام يأكله، ولذا كانت كل أوامره في الكيل والوزن.
والأول هو الواضح الأوضح، وأكثر الأنبياء لقوة نفوسهم، وسيطرتهم على العامة من أقوامهم رموا بالسحر، وقد رمي به محمد - صلى الله عليه وسلم -، (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا).(10/5404)
وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186)
(وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا ... (186)
أي لست أنت إلا بشرا مثلنا، وكيف تكون من بيننا رسولا ونبيا، أي أنه في نظرهم لَا يكون الرسول منهم أو مثلهم يأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون، وذكروا النتيجة، وهي أنه ما دام منهم أو مثلهم فليس نبيا، ولذا قالوا بعد ذلك (وَإِن نَّظنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِين) إن هنا هي المخففة من الثقيلة، واسمها هو ضمير الشأن والحال أي إنه الحال والشأن نظنك لمن الكاذبين، والدليل على أنها مخففة من الثقيلة اللام في قوله تعالى لمن الكاذبين، وقد أكدوا رميهم له بالكذب بـ إنْ وباللام، وبعده في صفوف الكاذبين البهاتين.
والظن هنا معناه العلم القطعي، ولكن عبروا بالظن أو باقي القول، وإن أرادوا العلم، وكان من أدب العرب في القول أن يؤثروا الظن على القطع، وإن كانوا ظالمين.
وطلبوا معجزة، فقالوا:(10/5405)
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187)
(فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)
الكسف، جمع كِسْفَة أي قطع من السماء، فلم يطلبوا رسالة مع ملك أو نحو ذلك، بل كانوا قساة من طبعهم ماديين، طلبوا أن ينزل عليهم قطعا من السماء، وقد أشبههم في هذه من بعدهم كفار قريش، فقالوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)، وإن ذلك أشد الحمق وأفحشه، فكانوا مثلهم.
أجابهم اللَّه تعالى بعذاب شديد من جنس ما طلبوا وهو سحابة كانت من ورائها صيحة شديدة، فكانوا في ديارهم جاثمين، ولقد قال لهم نبي الله مفوضا الأمر إلى ربه(10/5405)
قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)
(قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188)
وهذه الجملة السامية فيها تفويض وتهديد، أما التفويض فهو أنه قال: ربي أعلم بما تعملون، فهو يفوض الأمر للَّه سبحانه.
وأما التهديد فهو أيضا في هذه الجملة السامية من حيث إنه يعلم وحده بكافة ما تعملون من تطفيف في الكيل والميزان، وبخس للناس أشياءهم وعثو في(10/5405)
الأرض فسادا بالاعتداء على حقوق العباد وأموالهم في زرع يزرعونه، وغرس يغرسونه، وماء يسقون به زرعهم، ما يعثون فيه بفسادهم وظلمهم وضلالهم. وقد جعل اللَّه تعالى عقابهم من جنس ما طلبوا، إذ طلبوا كسفا من السماء.
والفاء في قوله تعالى: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا) للإفصاح، أي إذا كانت مرسلا وأنت بشر مثلنا، (فَأَسْقِطْ) وهو طلب دال على الاستهانة بالرسالة.
أنزل اللَّه العذاب من جنس ما طلبوه، فقال:(10/5406)
فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
الظُّلَّة: السحابة التي تكون مظلة لما تحتها، وقد تكون ذات حرارة شديدة، كقوله تعالى: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) وإن السحابة إذا كانت حارة فيها نار يكون العذاب شديدا، والألم مريرا، لأنه تكون النار حيث يرجى الظل لَا الحرور، وقالوا إنه في يوم الظلة أحسوا بالحر، فلجئوا إلى ظل سحابة، فكانت الظلة القاتلة، ووراءها الدمار، فأصبحوا في عذاب وبذلك كان العذاب الساحق الماحق من جنس ما طلبوا، وهو كسفا من السماء.
وكانت هذه آية من اللَّه مرشدة هادية لمن يعيشون مثل عيشهم ظلما وعدوانا، وأكلا لمال الناس بالباطل والعدوان، والعثو في الأرض فسادا، وهي دالة على أن شعيبا كان يدعوهم بالحق، وهم المبطلون.
وإذا أنزل عليهم هذه الساحقة ما أنزلها على كثرة مؤمنة، بل أنزلها على كثرة فاسقة ضالة ظالمة، ولذا قال: (وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ).
وإن ربك الكالئ الحافظ القائم على خلقه بربوبيته هو العزيز الغالب القوي الرحيم الذي يرحم عباده، ولا يسوى بين المحسن والمسيء، وقد أكد سبحانه عزته ورحمته بـ إِنَّ، وباللام وبضمير الفصل.
* * *(10/5406)
القرآن عربي مبين
قال تعالى:
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)
* * *
كان هذا القصص الكريم الذي شمل بعضا من قصة موسى الكليم وإبراهيم الخليل، وقوم نوح، وعاد، وثمود، وأصحاب الأيكة مصورا لطبائع المفسدين ومقاومة النبمنِن، وطلب المعجزات المادية واستجابة اللَّه تعالى لهم في معجزاتهم، وكفر أكثرهم من غير ارتداع، أخذ يبين سبحانه من بعد ذلك المعجزة الكبرى الخالدة، وهي القرآن الكريم، فقال:(10/5407)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192)
(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
الضمير في قوله تعالى: (إِنَّهُ) يعود على القرآن الكريم؛ لأنه وإن لم يكن له ذكر في اللفظ هو مذكور في نفوس المؤمنين والمشركين، أما ذكره في قلوب المؤمنين، فلأنها عامرة به سامعة لتلاوته وتقشعر أبدانهم لسماعه، ويطمئنون بتلاوته، وأما ذكر الجاحدين له فلأنهم في حيرة من بلاغته، وأصابت قلوبهم(10/5407)
فصاحته، وهم في ردهم له يخالط نفوسهم بحلاوته وجلاله فهو مذكور عند المؤمن به، والجاحد له.
وقد وصفه اللَّه سبحانه وتعالى بثلاث صفات معلية له مشرفة بنسبته فوق شرفه الذاتي من بلاغة وشمول الشرع.
الأولى - أنه تنزيل من رب العالمين، والتنزيل النزول جزءا بعد جزء منجما مقطعا، ليسهل حفظه، وليرتل ترتيلا، وليعلم النبي قراءته وتلاوته، ويتعلَّمها منه أصحابه، وبذلك تكون تلاوة القرآن مرتلا متواترة، كما قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وقد أشرنا إلى ذلك في عدة مواضع عند ذكر معاني الذكر الحكيم.(10/5408)
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193)
الثانية - أنه نزل بالوحي نزل به الروح الأمين على قلبك، الروح الأمين هو جبريل، وهو روح القدس، نزل بهذا القرآن،(10/5408)
عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)
وكان نزوله على قلبك، فاتصل به ووعاه، وحفظه مرتلا (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) لأنك تعلمت علمه وأوتيت حكمته، وعلمت شريعته لتكون من المنذرين أهل الضلالة عن غوايتهم، ودعوتهم إلى التوحيد، ولما ذكر المنذر دون المبشر، وهو بشير ونذير، لأن هداية المشركين تكون أولا بالإنذار، والتبشير يكون بالإقلاع عن الشرك، ولذلك كان أول دعوته بالإنذار، إذ قال: (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)، عندما استجاب لقوله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: أنا النذير العريان.
الثالثة - أنه باللغة العربية، ولذا قال عز من قائل:(10/5408)
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
(بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
اللسان هنا اللغة، لأنها تكون باللسان، وهو متميزها، وأداتها، وأطلق اللسان وأريد المسبب له وهو اللغة، وكل لغة تخص لسانا في أدائها ونغمتها وصوتها. وأداؤها في القرآن الكريم كان باللغة العربية فليس بقرآن ما لا يكون باللغة العربية، فترجمة القرآن إن كانت ممكنة (وهى ليست ممكنة) ليست قرآنا، وقوله: (مُّبِينٍ) أي واضح في تميزه ومعانيه، ومقاصده، ومعانيه وهي في أعلى درجات الإعجاز بهذا البيان، ولغيره مما اشتمل عليه.(10/5408)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)
الرابعة - أن أكثر ما فيه من معانٍ وقصص، وشرائع في زبر الأولين، أي أن القرآن الكريم بعضه في كتب الأولين، والزبر جمع زبور، وهو الكتاب، وإن ذلك يكون على أن الضمير يعود إلى الكتاب ومقتضى السياق، ويكون المعنى على هذا إن هذا الكتاب مشار إليه في الكتب السابقة، وهو مهيمن عليها مبين للصحيح، كما في قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ).
ويصح أن يكون الضمير عائدا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه مبشر به في التوراة والإنجيل، كما قال تعالي: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157).
(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)(10/5409)
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)
الواو عاطفة على فعل، وسياق القول الحكيم أينكرون، ولم يكن لهم آية تدل على الصدق أن يعلمه علماء بني إسرائيل وهم أهل علم بالكتاب، والضمير يعود إلى القرآن في (يَعْلَمَهُ) أي إذا كنتم مدعين جهلكم أو لم تكن عند دلالة على الصدق أن يعلم خبره علماء بني إسرائيل، وما كفروا به إلا عنادا وطغيانا، أو نقول كما قال بعض التابعين: المراد من علماء بني إسرائيل العدول الذين آمنوا واهتدوا كعبد الله بن سلام، وقيل: وسلمان الفارسي، وابن عباس اختار التعميم حتى يشمل من آمن، ومن لم يؤمن، وقد قال تعالى في بني إسرائيل: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا(10/5409)
أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90).
فهم كانوا يعلمون القرآن ومحمدا، وكانوا يستفتحون به جيرانهم من أهل المدينة الذين كانوا يشركون.
وقيل أن الضمير في (أن يَعْلَمَهُ) يعود على محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الأظهر هو ما قررنا.
أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197)(10/5410)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199).
الضمير يعود على القرآن الكريم، لو نزله الله على بعض الأعجمين الذين لا يعرفون العربية لكان أعجميا بغير العربية، فقرأه عليهم بالأعجمية ما فهموه وما آمنوا به، واستمر عدم إيمانهم به، وتقديم الجار والمجرور (به) على متعلقه لبيان أهمية عدم الإيمان، وإن عدم الإيمان لسببين: أولهما أنه جاء من رجل أجنبي عنهم، ومن نعم اللَّه أن كان الرسول منهم، كما قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128).
الثاني أنه لَا ينزل عليهم بالعربية فلا يفهموِن كما قال تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44).(10/5410)
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)
(كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)
المشبه هو ما عليه الشرك من تكذيب وجحود، وسلكناه أي أدخلناه، والظاهر، أن المعنى، كهذا الجحود والكفر والتكذيب أدخلنا القرآن في قلوب المجرمين، فهم لَا ينظرون إليه نظرة هداية واسترشاد وتعرف للحقيقة وأوجه إعجاز، بل ينظرون إليه نظرا فيه عور لَا يعرفون حقيقته، ولا يدركون الغاية، ولا يعرفون الحق لاعوجاج نظرهم.
ومن كان هذا نظرهم لَا يمكن أن يؤمنوا، ولذا قال تعالى في أمرهم.
(لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)(10/5410)
قال تعالى:(10/5411)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201)
(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) أي إن ذلك شأنهم، ولذلك كان النفي داخلا على المضارع، لأن فيه تصويرا لعدم إيمانهم، إذ هم ماديون حسيون لَا يؤمنون إلا بالحس، وما يشبهه، هذا معنى قوله: (حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) المؤلم الشديد في إيلامه؛ أي لَا يؤمنون إلا بما يحسون، وكذلك شأن الكافرين لَا يؤمنون بالغيب، بل يؤمنون بما يرون ويحسون فقط، والفرق بين الإيمان والكفر هو الإيمان بالغيب، فالكافر لَا يؤمن إلا بالحس والتجربة المحسة.
قوله تعالى:(10/5411)
فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)
(فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202)
الفاء فاء السببية، أي يترتب ما بعدها على ما قبلها، وهي عاطفة على يروا، أي أنهم في جهالتهم عمون عن الحق لَا يدركونه، ولا يتوقعونه، (فَيَأتِيَهُم) والضمير يعود إلى الساعة؛ لأنها في أذهانهم جميعا مؤمنين بها أو جاحدين لها، فهي مستولية عليهم إيمانا أو استغرابا، فتأتيهم مباغتة لهم حيث يستمرئون الحياة الدنيا وما فيها من متع غافلة غير شاعرة، وقد ألهتهم لواهيها، وتكاثرها.
وإنهم إذ يكونون في الآخرة يحسون بطلب العودة، وقال تعالى في حالهم
* * *
قال تعالى:
(فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
* * *(10/5411)
يأتيهم العذاب من حيث لَا يشعرون، ولقد كانوا وهم في غرور الدنيا ولهوها يكذبون النبي الذي يخوفهم بعذاب الله ويتحدونه، فيستعجلونه، كما قال تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ)، ولكنهم في الآخرة وقد رأوه عيانا يطلبون التأجيل، ويعجبون من الاستعجال، فيقولون:(10/5412)
فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)
(فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
الاستفهام هنا يدل على التمني، أي يتمنون أن يكونوا منظرين، أي مؤجلين، وقد كانوا يهددون ويخوفون في الدنيا أن يكون ما يرون تهديدا وتخويفا، وينظرون فيه حتى يكون منهم أحر، ويستدركون ما فاتهم، ولكن لات حين مناص، ويترتب على رجائهم الانتظار والتاجيل التعجيل بالعذاب، فيقولون(10/5412)
أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
(أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204)
والفاء دالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهي مؤخرة عن تقدم، وتقدير القول فأبعذابنا يستعجلون أي يترتب عن تمني الانتظار التعجب من الاستعجال، والاستفهام الثاني لاستنكار التعجيل، وبعذابنا تتعلق بالاستعجال، وتقدم عليه، لأنه يخيل إليهم أن الاستعجال خاص بعذابهم وحدهم، ونسوا ما فعلوا من ظلم، وما اجترحوا من سيئات.
وإن ذلك العذاب منطقي، فقد متعوا سنين وأوعدوا، وذكر لهم ما يوعدون، وهذا وقت الجزاء، ولذا قال:(10/5412)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205)
(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)
يذكر سبحانه العجب من حالهم، وإنكارهم ما ذكروا به في تمتعهم سنين، والفاء مؤخرة عن تقديم الاستفهام، لأن الاستفهام له الصدارة دائما، والاستفهام للتعجب، والمعنى فأريتهم كيف متعناهم بزخارف الدنيا سنين مهما تكثر فهي معدودة محدودة، وإذا تحقق ما يوعدون من عذاب يطلبون التأجيل، ويعجبون من التعجيل أو الاستعجال، ولا استعجال أبدا بل كل شيء في وقته المحدود وأمده المعلوم، وقوله تعالى:(10/5412)
ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)
(ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206)
العطف بـ (ثُمَّ) له معناه فإن ما بين البعث والتمتع سنين محدودة كبير في نظرهم، والتفاوت بين المتعة والعذاب يسوغ التفاوت والبعد بـ (ثُمَّ)، ونحوها؛ لأنه ثمة فارق وتفاوت بين المتعة وما ينزل لهم من عذاب دائم مقيم.(10/5412)
وإن المتعة التي يعقبها عذاب أليم لَا تجدي ولا تنفع ولا ترفع، ولقد كانوا يتوهمون أن ما هم فيه من تمتع يكفيهم، ولكن(10/5413)
مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
(مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)
(مَا) هنا موصول حرف، وليست موصولا اسميا بمعنى الذي، لأن الصلة في الموصول الاسمى يجب أن تشتمل على ما يربطها بالاسم من ضمير، أو نحوه، ولا ضمير يربطها، فهي إذن موصول حرفي يكون وما بعده مصدرا منسبكا، وتقديره: وما كان تمتعهم هذه السنين طالت أو قصرت مغنيا عنهم في الآخرة رافعا عذابهم الشديد النازل بهم، كما كانوا يتوهمون أنه لَا بعث، وأنه إن كان بعث فليس بمعقول أن يعاقبوا، وأن يكون أولئك الضعفاء المرذولون والعبيد المهينون هم المثوبين، وكانوا دائما معتمدين على دوام تمتعهم في السنين المحدودة والأمد المعلوم.
وأنهم قد أنذروا، فالملام في عقوبتهم عليهم هم وحدهم، ولذا قال عز من قائل:(10/5413)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208)
(وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
أي ما أهلكنا أي قرية، والقرية المدينة العظيمة أو القبيل، ومن دالة على عموم النفي واستغراقه، إلا كان لها منذرون بالعذاب الشديد من رسلِ اللَّه تعالى الذين يتكلمون عن اللَّه تعالى، وقد قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وقال تعالى: (وَإِن مِّنْ أُمَّة إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ). وإن الرسول يذكرهم دائما، وتبقى في رءوس المعتبِرين منهم ذكرى دائمة باقية حتى يجنبهم ما أنذروا به، ولذا قال تعالى:(10/5413)
ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
(ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
أي أن ذلك الإنذار على ألسنة الرسل تذكير لهم أن اعتبروا واخشوا وخافوا، وأكد سبحانه أنه لَا يظلِمهم، فيأتيهم بالعذاب من غير إنذار، فقال تعالى: (وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ) (كان) هنا دالة على النفي الدائم، أو نفي الشأن، أي وما كان من شأننا الظلم، كما قال تعالى في آية أخرى، (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)، ولقد قال في إنذارهم (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44).(10/5413)
ولقد كانوا يتوهمون أن القرآن قول كاهن، ولم ينزل من الله، ولكن نزل من الشياطين، كما ينزلون على الكهان، وذلك زعم باطل في أصله، وفي تطبيقه على القرآن الكريم، ونفى اللَّه ذلك نفيا مؤكدا فقال:(10/5414)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210)
(وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
لقد ادعوا أن القرآن قول كاهن، وأقوال الكهان تتنزل بها الشياطين، وهي جمع شيطان وهم إخوان إبليس أو أتباعه وزمرته، وقد نفى اللَّه تعالى ذلك بثلاثة أمور.
أولها - أنه ما ينبغي لهم؛ لأنهم محرضون على الفساد، والقرآن هاد مرشد، وذلك احتجاج عليهم بحقيقة القرآن، فلا يمكن أن يتلاقى مع وساوس الشياطين ومفاسدهم، فما يصح أن يكون منهم.
والثاني - أنهم لَا يستطيعونه، لأنه معجز، وهو يعجز الجن والإنس كما قال اللَّه تعالي: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88).
والثالث - أنهم لَا يمكن أن ينقلوه أو يسرقوه، ويتنزلوا به على أهل
الكهانة، لأنهم معزولون عن ذلك، وهذا قوله تعالى: (إِنَّهمْ عَنِ السَّمْع لَمَعْزُولُونَ)، وقد أكد سبحانه وتعالى عزلهم بـ إن الدالة على التوكيد، وباللام، وبالجملة الاسمية.
ولقد تكلم الحافظ ابن كثير في هذه الأمور الثلاثة المانعة من أن تتنزل به الشياطين، فقال رضي اللَّه عنه " ذكر سبحانه أنه يمتنع عنهم ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ما ينبغي لهم، أي ليس هو من بغيتهم ولا من طلبتهم، لأن من سجاياهم الفساد، وإضلال العباد، وهذا فيه الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر ونور وهدى وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة، ولهذا قال تعالى:
(وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ ... (211)(10/5414)
وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211)
وقوله تعالى: (وَمَا يَسْتَطِيعُونَ)، أي ولو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك. قال تعالى: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)، ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته ما وصلوا إلى ذلك؛ لأنهم بمعزل حين استماع القرآن حال نزوله؛ لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا في مدة نزول القرآن على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد، ولم يجد منه لئلا يشتبه الأمر، وهذا من رحمته بعباده وحفظه لشرعه، وتأييده لكتابه ولرسوله، ولذا قال تعالى:(10/5415)
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
(إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
وكل هذا على أن الضمير في (به) من قوله تعالى: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ) يعود على القرآن، وهو في النفوس المؤمنة يملؤها، والمشركة يساورها، ولا احتمال سواه.
* * *
التوحيد لب الإيمان
قال تعالى:
(فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
* * *(10/5415)
الفاء للإفصاح عن شرط وتقديره إذا كان القرآن هو الحق، وهو يدعو إلى التوحيد،(10/5416)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)
فلا تدع مع اللَّه إلها آخر، والدعاء هنا الالتجاء إليه والعبادة أي لا تعبد مع اللَّه إلها آخر، وتلجأ إليه (فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ)، أي فتكون بسبب ذلك من المعذبين، الفاء للسببية، ولذا نصب الفعل بعدها، ولقد كان النهي موجها إلى نبي الوحدانية، ليقتدي به غيره، وليعلم كل إنسان أن العذاب لاحق بمن يعبد مع اللَّه إلها آخر، فقلب العبادة: الوحدانية، ولب الإيمان ألا يكون مع اللَّه إله آخر.
بعد ذلك أمر سبحانه وتعالى أمرين متعلقين بالدعوة، فقال:(10/5416)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)
(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
العشير القرابة القريبة، والأقربين جمع أقرب، وهو الأشد قرابة، وقد جاء في مفردات الراغب ما نصه:
والعشير أهل الرجل الذين يتكثر بهم، أي يصيرون له بمنزلة العدد الكامل، وذلك أن العشرة هي العدد الكامل، والمعنى أن العشير الأقارب الذين يعتز بهم، ويحس بأنه منهم، وأنهم منه، أنه - صلى الله عليه وسلم - قد جاء في كتب السيرة وكتب السنة أنه عندما نزلت هذه الآية داعية إنذار عشيرته صار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الصفا، ودعا قريشا، ومنهم من حضر بشخصه، ومن لم يحضر بشخصه وبعث من يسمع عنه وقال لهم: " يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي: أرأيتم لو أخبرتكم بأن عيرا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
دعاهم عليه السلام هذه الدعوة، وهي أولى الدعوات، وكانت الدعوات قبل ذلك دعوات خاصة للزوجة والأهل والأصدقاء، فهذه أول دعوة عامة، أو شبه عامة وعمومها جزئي على أي حال.
هذه دعوة من لم يكن مؤمنا، وقد أرشده سبحانه إلى الرفق بالمؤمنين، لأنهم قوام ألدعوة، وعماد الحق، وقد تعرضوا للأذى باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له(10/5416)
لتعينهم على الإيمان ويروا الرحمة بجوار الأذى والعذاب(10/5417)
وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) مِنْ: هنا بيانية، والمعنى اخفض جناحك لمن اتبعك، وهم المؤمنون، وخفض الجناح فيه استعارة فيها تشبيه، فشبه الحاني العطوف على من معه من المؤمنين بالطائر الذي يخفض جناحه ويحوط به فراخه، حتى ينضجوا ويستغنوا عن كلاءته، وحمايته.
هذا شأن من أطاعه من عشيرته ومن معه من المؤمنين، وقال فيمن عصاه:(10/5417)
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
(فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216)
الفاء: للإفصاح، والضمير في عصوك يعود إلى الأقربين، وإلى المؤمنين، وربما نميل إلى أن تكون على المؤمنين فقط، لأنه أقرب مذكور، ولأن خفض الجناح لهم مشروط بأنهم مؤمنون لَا يعصون، فإن عصوك أيها الرسول فتبرأ منهم، فإنك تخفض الجناح لتربيتهم وتهذيبهم، وإبقائهم على الحق لَا يخرجون عنه، فإن خرجوا فتبرأ منهم، وقل (إِنِّي بَرِيءٌ ممَّا تَعْمَلُون)، ويكون فيه عصيان لي، ولا يعتمد عليهم في هذا العصيان، والاعتماد كله يكون على الله، ولذا قال من بعد.(10/5417)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
التوكل هو تفويض الأمر للَّه تعالى بعد أخذ الأسباب، فلا يظن أن الأسباب وحدها كافية، بل إنه لابد من الاعتماد على اللَّه تعالى بعد الأخذ في الأسباب، والعناية بها، والتوكل هو على اللَّه العزيز القوي الذي لَا يغلب، الرحيم بعباده في شدتهم والذي يجيب مطالبهم العادلة بفضل رحمته سبحانه، وقد وصف اللَّه تعالى بثلاث صفات، تبين أن الاعتماد عليه هو اعتماد على المحيط بكل شيء علما، فوصفه بثلاث صفات تفيد كمال العلم والعزة، وكمال السلطان والقهر. الصفة الأولى: أشار سبحانه وتعالى بقوله:(10/5417)
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)
(الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)
من منامك متجها إلى اللَّه تعبده، وإلى الناس تنفعهم وإلى نفسك تهذبها، وإلى صلاتك تقيمها.(10/5417)
والصفة الثانية - أنه يعلم تقلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذا قال:(10/5418)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
(وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)
أي خرورك ساجدا لرب العالمين متقلبا من القيام إلى السجود، أي أنه يعلم أحوالك في صلاتك، فهو سبحانه ونعالى يعلمك في كل أحوالك، من وقت قيامك إلى سجودك في صلاتك.
الثالثة -(10/5418)
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
أي الذي يعلم كل شيء منك علم من قد أحاط بكل شيء علما.
* * *
نبذات الشياطين
قال تعالى:
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
* * *
ادعى المشركون أن القرآن الكريم تنزلت به الشياطين، كما يزعمون أنها تتنزل على الكهان وأشباههم، فنفى اللَّه تعالى ذلك، وأخذ يبين صفات من تنزل عليهم الشياطين، وذكر أصنافا من هؤلاء الذين تنزل عليهم الشياطين فقال سبحانه وتعالى:(10/5418)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221)
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ) الاستفهام للتنبيه، والتنبيء الإخبار بما له شأن، وللنفس به اهتمام، والتنزل النزول، ولا يقال عن اللَّه تعالى، وإنما يقال عن الملائكة فيقال تنزل كما قال تعالى: (تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)، وهو(10/5418)
ما يبث في النفوس من البشرى والاطمئنان، والشياطين لَا يقال في المفتري أو الآثم إلا التنزل، وقد جاء في المفردات للراغب الأصفهاني " لا يقال في المفترى والكذب وما كان من الشيطان إلا التنزل وعلى من تنزل الشياطين إلى آخر الآية والتنزل من الشياطين، هو ما يوسوسون به، ويوجهونها نحو الشر والإثم البين، ويلاحظ أن تنزل محذوفة التاء، وأصلها تتنزل.
ثم قال تعالى:(10/5419)
تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
(تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)
الأفاك هو المفترِي الكاذب الذي
يصرف عن الحق، ويضل النفس ويذهب بالاطمئنان، والأثيم الذي تمرست نفسه بالإثم، وصار عنده استعداد للاستماع إلى الإفك الصارف والكذب البين.
والوصف الثاني لمن تنزل عليهم الشياطين هو ما بينه سبحانه بقوله(10/5419)
يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
(يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
يقال ألقى السمع إليه، أصغى إليه وجعل سمعه كله إليه لَا يسمع سواه والضمير في (يُلْقُونَ) يعود إلى كل أفاك أثيم، أي من صفة هؤلاء أنهم يصغون إليه، ويضعون سمعهم يلقونه إليه، وأكثرهم كاذبون، أي من صفات الكثرة الكاثرة منهم الكذب، فهم يستملون الشياطين ويروجونه بين الناس مبالغين في كذبهم.
وإن من هؤلاء: الشعراء الذين يقولون الكذب ويفترونه، ويتخيلونه، وليسوا كلهم بدليل هذا الاستثناء الذي سيجيء، ومن الشعراء الذين استثنوا في الجاهلية زهير بن أبي سلمى، وفي الإسلام حسان بن ثابت الذي كان يدعوه النبي للرد على المشركين، ووصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن روح القدس يؤيده.
قال تعالى:(10/5419)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
(وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224)
الغاوون: جمع غاو وهو الصالح، وأولئك الذين يهيمون في ذكر النساء، وتصور وقائع كاذبة قد تنزل بها الشياطين عليهم حتى كانوا يقولون لكل شاعر شيطان، وقد أيد اللَّه تعالى تنزل الشياطين عليهم بقوله تعالى:(10/5419)
أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225)
(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226)
الاستفهام هنا لإنكار الوقوع فنفي النفي إثبات، والمعنى قد رأيتهم في كل واد من أودية القول يهيمون، أي يقولون، فقالوا في الغزل، والتشبب بالنساء وذكرهن وما يخفى من أجسامهن، وما يكون بينها وبين الرجل مما يجب ستره، والكلام فيه موقوف فيقول، كما ترى في معلقة امرئ القيس، وكما ترى في قصائد الفرزدق الذي كان يحاكى منهاجه، ويتفحش في القول، ولقد كانوا يتخيلون المآثم، ولا يفعلونها، كما كنت ترى من بعد في شعر عمر بن أبي ربيعة من غزل، وهكذا. وإن ذلك كله من تنزل الشيطان على الشعراء.
وإذا كان من كبار التابعين من كان يذكر في درسه بالمسجد الحرام شيئا من هذا الشعر كابن عباس فيما يروى عنه رضي اللَّه عنهما - فإنما كان ذلك لكي تستمر رواية شعر العرب.
وإن الشعر العربي فيه خير كثير، وفيه شر كبير، فلا يذم كله، ولا يمدح كله، وإنه ككل كلام عربي جيد في مبناه بليغ في ذاته يحمد لسنه، ويذم واسده في المعنى.
ويلاحظ أن ذكر الشعر بأنه تنزل به الشياطين لإبعاده عن القرآن، فالقرآن وحي اللَّه تعالى الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - بلسان عربي مبين.
وقد استثنى سبحانه وتعالى من الشعراء الذين يتبعهم الغاوون الذين آمنوا، أو استثنى الذين آمنوا من الغاوين الضالين الذين يتبعون الشعراء فقال عز من قائل:(10/5420)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
ظاهر اللفظ أن الاستثناء من الشعراء، ويكون الاستثناء متصلا، والمعنى أن الشعراء يتبعهم الضالون، لأنهم في كل واد يهيمون، ويقولون ما لَا يفعلون(10/5420)
فيستثنى من هؤلاء الشعراء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وامتلأت قلوبهم بذكر الله، وذكروا الله كثيرا، كعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت، وكعب بن زهير، وأولئك انتصروا للحق وناصروه، وكانوا يدفعون الهجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنهم من قاد الجيوش، واستشهد أمام الروم في غزوة مؤتة، وهو عبد الله بن رواحة.
ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا، ومستثنى من الضالين، ويكون معنى (إلا) لكن، والمعنى: والشعراء يتبعهم الغاوون إلى آخره، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا بأن امتلأت قلوبهم بذكره، وانتصروا أي انتصفوا من المشركين من بعد ظلموا فإنهم يتبعون الحق ويتبعهم أهل الحق.
وقوله تعالى (مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا)، (ما) مصدر حرفي أي من بعد ظلمهم، وإرهاقهم في أمرهم، وكل هذا كان بيانا لنصرة الله تعالى من بعد الأذى في مكة، وإشارة إلى وعد الله تعالى بالنصر المبين، وانتصر معناها انتصف بنيله النصر، بعد جهاد في سبيل الله تعالى.
وقوله تعالى: (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).
السين هنا لتأكيد الفعل في المستقبل، والعلم الذي سيعلمونه هو علم المعاينة، إذ سيرون العذاب، وسيحسونه نازلا بهم، إذ يكونون في جهنم، وبئس المهاد، والتعبير بالموصول لبيان أن الصلة هي سبب ما ينزل بهم من عذاب شديد، لَا يعرفونه الآن، وسيعرفونه من بعد، وقد ظلموا أولا بالشرك، وثانيا بتكذيب الرسل، وثالثا بإنكارهم للقرآن، ورميهم له بأنه تنزل به الشياطين، وأنه كأقوال الكهان، وغير ذلك مما ظلمت به العقيدة، والحقائق، وقد أضافوا إلى ذلك ظلم العباد، والصد عن سبيل الله تعالى، والمنقلب هو انقلابهم من الطغيان إلى المهانة، ومن رغد العيش إلى شدته، وقد أبهم هذا المنقلب، تأكيدا للتهديد، والإنذار الشديد.
* * *(10/5421)
(سُورَةُ النَّمْلِ)
تمهيد:
هذه سورة مكية نزلت بمكة. وسميت النمل؛ لأن قصة سليمان مع النَّمْلِ أخذت حيزا كبيرا منها، وعدد آياتها 93 آية.
وقد ابتدأ سبحانه بحروف مفردة هي الطاء والسين، وقد ذكرنا حكمة ذكرها في سورة الشعراء وما سبقها، وقد كانت أول آية تتعلق بالقرآن، كشأن الأكثر في السور المبتدأة بحروف مفردة، تلك آيات القرآن الكريم، وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، وهم بالآخرة هم يوقنون.
ثم بين سبحانه أحوال الذين لَا يؤمنون بالآخرة، وأنه تزين لهم أعمالهم، وأنهم في أعمالهم يعمهون، وأنهم هم الذين لهم سوء العذاب، وأنهم في الآخرة هم الأخسرون.
وقد بين مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6).
وقد ذكر سبحانه بعد ذلك جزءا من قصة موسى في مدين: إذ ذهب يبحث لأهله عن نار، (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)، وكان أن كلمه ربه، (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)(10/5422)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13).
وإنهم راعتهم المعجزة، (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14).
ولقد كان ذلك الجزء الصغير من قصة موسى عليه السلام تمهيدا لقصة داوود وسليمان، وخصوصا سليمان فإنهما نبيان من أنبياء بني إسرائيل جاءا لإحياء شريعة التوراة فيمن جاء لذلك من الرسل.
ولقد قال تعالى في ذلك (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16).
وقد أوتي سليمان ملكا لم يكن لأحد من بعده (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
كما أوتي علم منطق الطير، فقد أوتي أيضا علم منطق كل شيء (حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21).
ولكنه بعد ذلك أتى بخبر غريب كان له ما يفيد في سياسة سليمان (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26).(10/5423)
سمع سليمان الملك الحكيم الخبر فلم يصدقه بادئ ذي بدء ولم يكذبه، بل أخذ يتفحصه قائلا: سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين، وكلفه أن يذهب بكتابه إليهم.
ذهب الكتاب إليها، فجمعت ملأها (قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33).
فردت قائلة:
(قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35).
جاء الرد والهدية إلى سليمان الملك العظيم قال: (أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37).
وقبل أن يذهب إليهم بجنده أراد أن يعرف عرشها وسلطانها، (قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40).
جاءت الملكة إليه: (قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا(10/5424)
ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44).
وبعد ذلك ذكر سبحانه بعضا من قصة ثمود وصالح، ودعاهم إلى عبادة اللَّه تعالى وحده، ولقد استعجلوا العذاب إذ دعاهم فقال لهم (يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقد تقاسموا مع المفسدين على أن يهلكوه وأهله، ويقولوا لولجه (مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50). وقد ذكر سبحانه عاقبة الأمر على ثمود قوم صالح.
ثم ذكر سبحانه قصة لوط، وذكر لهم لوط ما عندهم من فواحش خرجوا بها عن الفطرة، قائلا لهم: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59).
بعد ذلك بين اللَّه سبحانه وتعالى الدلائل الكونية الدالة على وحدانية الخالق، وأنه ليس كمثله شيء، فقال سبحان: (أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا. .).
ثم بعد أن بين هذه الحقيقة سألهم مستنكرا فعلهم (. . أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ).
ثم نبههم سبحانه إلى الأرض، وما في خلقها من عجائب، ووجه الأنظار(10/5425)
إلى عجائبها، وقرارها وأنهارها وجبالها، وأنه جعل بين البحرين حاجزا، ثم استفهم منكرا موبخا (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ). وذكر بعد ذلك تفضله سبحانه عليهم بإجابة المضطر إذا دعاه وكشفه السوء، وجعل الإنسان خليفة في الأرض، ويسأل سبحانه مستنكرا حالهم من الشرك (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) ويذكرهم سبحانه بهدايته لهم في ظلمات البر والبحر وإرساله الرياح مبشرات بين يدي رحمته، ويسالهم من بعد (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
ويذكر سبحانه بذاته العلية، إذ يبدأ الخلق ثم يعيده، ويرزقه سبحانه وتعالى من السماء والأرض، ثم يسالهم مستنكرا حالهم (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ).
ويأمر نبيه الكريم بأن ينبههم إلى أنه لَا يعلم من في السماء والأرض غيره، وشعورهم عندما يبعثون وإنهم يتداركون جهلهم عندما يبعثون، ويعلمون ما لم يكونوا علموه من قبل بالعيان، لَا بالأفهام. ويأمرهم سبحانه وتعالى أن يسيروا في الأرض ليعلموا مكانهم فيها، والعبر من أهلها، إذ طغوا وأكثروا فيها الفساد.
ويذكر لنبيه أنه ليس عليه إيمانهم، إنما عليه تبليغهم:
(وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70).
وذكر سبحانه بعد ذلك، استعجالهم لما يوعدون به من عذاب (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73).
ويذكر سبحانه بعد - ذلك عموم علمه في السماء والأرض، ويقول عز من قائل: (وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75).
ويذكر من بعد مقام القرآن الكريم، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ(10/5426)
أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78).
ومما عليك من حسابهم من شيء.
(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81).
وبعد ذلك يذكر سبحانه ما يكون قرب البعث، وما يكون بعده:
(وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82).
ويبين سبحانه بالإشارة الواضحة حال الناس يوم الحشر وحالهم وهم يقدمون على العذاب.
ثم يذكرهم سبحانه بغفلتهم عن آياته: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86).
ويذكر سبحانه يوم الهول العظيم يوم البعث، ثم يذكر الحساب والثواب والعقاب: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90).
وإن عبادة اللَّه وحده هي الغاية الأولى: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93).
* * *(10/5427)
ذكر معاني السورة
قال اللَّه تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
* * *(10/5428)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
ابتدأت السورة بالحروف الهجائية المفردة، ولا يعرف لها معنى معين ولكن لوجودها حكمة يقررها المدركون، وقد أشرنا إلى أن منها الإعجاز ليشير لهم بأن القرآن مكون من الحروف التي يتكون منها كلامكم في شعركم وخطبكم وخطاباتكم، ومع ذلك كان معجزا يتحداكم ذلك التحدي الشامل، وتقفون وتسكتون ومنها أنهم قد تفاهموا على ألا يستمعوا لهذا القرآن، وأن يلغوا فيه، فإذا ابتدئ بترتيل هذه الحروف الصوتية أصغوا إليه غير مختارين، ثم يهجم عليهم القرآن بمعانيه وعباراته، وما فيها من بلاغة وفصاحة تحير عقولهم، وفوق ذلك فإن النبي كان أميا لَا يقرأ ولا يكتب، فكيف ينطق بهذه البلاغة التي لَا ينطق بها إلا كاتب قارئ. (تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ) الإشارة إلى ما جاء في السورة من آيات متلوة، وفي ذلك بيان أن هذه الحروف يحتمل أن تكون اسما للسورة، وقد ذكر للقرآن وصفان:(10/5428)
أحدهما أنه كتاب مقروء متلو، يتلى، وتلاوته عبادة، وقد علمنا سبحانه وتعالى كيف نتلوه، وعلم نبينا تلاوته ليعلمها للناس أجمعين، فهو متواتر بلفظه، ومتواتر بتلاوته، كما قال تعالى (وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، وكما قال تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)، وكما قال تعالى: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ).
والوصف الثاني أنه كتاب مبين أي بين في ذاته، ومبين لكل ما اشتمل عليه من دلائل التوحيد، ودلائل النبؤة وأحكام شرعية، وهداية للناس، كما قال تعِالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57).
وقد ذكر سبحانه وصفا ثالثا ورابعا، فقال تعالى:(10/5429)
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
(هُدًى وَبُشْرَى ... (2)
أي أنه هو ذاته يهدي فهو بإعجازه وبلاغته وعباراته المحكمة، يهدي النفوس الطالبة للحق المهتدية التي تتجه إلى الحق، كما تتجه إبرة البوصلة إلى قطبها، فهو في ذاته هداية، وهو أيضا مشتمل على الهداية، ففيه دعائم التوحيد، وصور الكون الهادية، وآيات اللَّه البينات في الأحكام الشرعية، والمواعظ والعبر، وقصص الماضين من الأنبياء، وإن في قصصهم لعبرة لأولي الأبصار. والقرآن نور لَا يرى نوره إلا المبصر، وغذاء للأرواح، ولكن لَا يتغذى به إلا الأصحاء، وشفاء، ولكن لا يشفى به إلا من كان قابلا للشفاء، ولذا قال فيمن ينتفعون ببشراه، وهي الوصف الثاني الذي معناه أنه يبشر المؤمنين بالجنة والنعيم فقال: للمؤمنين.
وقد قال - عز من قائل - من بعد ذلك في التعريف بالمؤمنين.(10/5429)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
ذكر للمؤمنين أمورا ثلاثة هي:
الصفة الأولى: أنهم يقيمون الصلاة، أي يؤدونها، مستوفية أركانها الحسية والروحية، والمصلي يستشعر عظمة اللَّه تعالى وجلاله، ويحس أنه في حضرة اللَّه تعالى، وذلك كله يتضمنه معنى الإقامة؛ لأن الإقامة إقامة الشيء مستويا مستقيما(10/5429)
لا عوج فيه، ولا اضطراب، بل يتجه إلى أعلى اتجاها مسمتقيما، وفي ذكر إقامة الصلاة إشارة إلى المعاني الروحية في العبادات الإسلامية من صلاة وصوم وحج، فهو ابتداء تطهير للنفوس من أدرانها، وإقامة للعلاقات الإنسانية على هذه الطهارة من أدران الأحقاد والأضغان.
والصفة الثانية: أنهم يؤتون الزكاة، وهي الفريضة المادية الروحية، والتي يقوم عليها التعاون الاجتماعي بين الغني والفقير، ولذا سميت الزكاة بالماعون، أي ما يكون به العون، كما قال تعالى في وصف الضالين: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7).
والماعون هو الزكاة التي هي أساس للتعاون الإنساني.
والصفة الثالثة: وهي الأصل للأوليين، وهي الإيمان باليومِ الآخر، فهو لب الدين، وهو توجيه الإنسان إلى حقيقة معناه فقال سبحانه (وهُم بالآخرَة هُمْ يُوقِنُونَ).
بالآخرة - تتعلق بالفعل يوقنون، أي يؤمنون مذعنين غير مترددين؛ لأن العلم اليقيني يدفع الإنسان إلى عمل الخير، ولو كان تناله المشقة منه في الحياة، فإن ذلك يكون دافعا إلى الاستمرار مؤمنا بأن جزاءه يستقبله، وكلما زادت المشقة فيه، زاد الأجر، وما عند اللَّه خير وأبقى.
ولقوة هذه الخصلة الكريمة للمؤمنين وكونها لب الإيمان أكد اللَّه تعالى إيمان المؤمنين باليوم الآخر بعدة مؤكدات، أولها بتقديم الجار والمجرور، وثانيها بالجملة الاسمية، وذكر ضمير الفصل مرتين في صدر الجملة. وآخرها.
وقد ذكر سبحانه ببد ذلك حال الذين لَا يؤمنون بالآخرة، فقال سبحانه وتعالت كلماته:(10/5430)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
(إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
أكد سبحانه أن الذين لَا يؤمنون بالآخرة لهم في الدنيا أمران أحدهما سبب للآخر، ولهم في الآخرة سوء العذاب، وهم في الآخرة هم الأخسرون.(10/5430)
ولنتكلم مستشرفين لمعاني القرآن الكريم في الأمرين في الدنيا والآخرة، وقبل أن نخوض فيها خوضا نقرر أنه كما أن اليقين باليوم الآخر خلة المؤمن الدافعة إلى الخير، والتي تجعله يتحمل متاعب هذه الحياة راجيا ما وراءها فإن فقد الإيمان باليوم الآخر ينسى الإنسان نفسه فيعتقد أن هذه الحياة هي وحدها الحياة، ولا حياة بعدها، ويحسب أنه خلق عبثا، ولذا قال سبحانه: (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ)، أي حَسَّن اللَّه لهم أعمالهم، فحسبوها وحدها الخير، ولا يحسبون أن أعمالهم كلها زينة وأمر حسن، فهم دائما ممن زين لهم أعمالهم فرأوه حسنا، فكل أعمالهم لا ينظرون إليها إلا من وراء نفوسهم غير المستقيمة، ولا يعترفون بإرشاد مرشد، ولا هداية هاد؛ واعظ أو زاجر، فهم في لهو دائم عن الحق، وإن من كانت حاله كذلك، قد ضرب على آذانه، فلا يسمع الحق، ولا يهتدي بهديه، قد أهمل عقله وتفكيره، وما أعطاه اللَّه تعالى من مواهب، وفطرة مستقيمة، ولذا قال تعالى: (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) الفاء: لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، أي ترتب على هذا التزيين لكل الأعمال التي يعملون، ويحسبونها زينة يترتب على ذلك أنهم يعمهون.
والعمه: التردد والحيرة، أي ترتب على أن أعمالهم زينتها لهم نفوسهم، أن صاروا في حيرتهم لفطرتهم السليمة التي تريهم الحق حقا، والباطل باطلا، وتزين نفوسهم للباطل حقا، وللحق باطلا، فتكون الحيرة بين الفطرة الهادية والشر المتحكم، والضلال المظلم.
وقد أكد اللَّه سبحانه وتعالى هذه الحال بمؤكدات: أولها بـ إن المؤكدة، وبإضافة التزيين إليه سبحانه، وأن ما يريده الله لَا يتخلف، ولا يمكن أن يتخلف، ولكن التزيين ابتدأ من أنفسهم، وتمكن الشيطان منهم وإغوائهم، وقد ذكر سبحانه بعد وصف حالهم في الدنيا، وهو أن الدنيا تكون لهم مضطربا فسيحا، فإن من الحيرة والاضطراب حالهم في الآخرة، فذكر أمرين أولهما سوء العذاب، وثانيهما أنهم وحدهم الأخسرون، فقال:(10/5431)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)
(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ(10/5431)
الْعَذَاب ... (5)
الإشارة إلى المتصفين بعدم الإيمان باليوم الآخر، وتزيين العمل السيئ لهم، فحسبوه حسنا، وما هو بحسن، وهذه الأحوال هي سبب العذاب لأن ذكر الإشارة إلى الصفات يومئ إلى أن هذه الصفات هي سبب الحكم، وسوء العذاب هو العذاب الذي يسوء النفوس، ويشوي الوجوه، وهو النار الدائمة، والعذاب المقيم الدائم ما شاء الله تعالى أن تدوم، خالدين فيها أبدا. وقال اللَّه تعالى في بيان حالهم: (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) الأخسرون جمع أخسر، وهو أفعل تفضيل على غير بابه، أي هم الذين خسروا خسارة ليس فوقها خسارة أبدا، وفيه تأكيد للقول الكريم، وقد أكد ثانيا بـ (هم) التي تكررت، وأكد ثالثا بالقصر لتعريف الطرفين، أي هم وحدهم الأخسرون، ولا يخسر أحد سواهم.
بعد ذلك بين اللَّه تعالى معدن الهداية، وهو القرآن الكريم فقال:(10/5432)
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
(وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
وتلقى معناها يلقى إليك بقوة فتلقاه راضيا بقوة متحملا ما يوجبه تحمله وتلقيه من صبر دائم، وجهاد مستمر ومصابرة لأعدائه، وتلقيه هو من عند اللَّه تعالى الحكيم الذي يعطي كلاما هو صالح، وهو عليم بالنفوس يطب لأدرانها بما يزيل أسقامها.
وهو وصف للقرآن الكريم باحكم الصفات وأعمقها في معناها.
فهو أولا من عند اللَّه، ولا يجيء من عند اللَّه إلا ما هو خير، وقد شرفه اللَّه تعالى بذلك الذي لَا يقدر قدره، وهو الحكيم الذي يشرع للناس ما يصلحهم في معادهم ومعاشهم، وما يجمع ويصلح، ولا يفرق ويشتت، وهو العليم بكل شيء، قد أحاط بكل شيء علما.
وقد أكد اللَّه تعالى القول، بخطاب النبي، وحمله عبء القرآن الكريم.
* * *(10/5432)
إشارة إلى بعض قصة موسى عليه السلام
قال تعالى:
(إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
* * *(10/5433)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7)
إذ: ظرف دال على الزمان، وهو متعلق بـ (تُلَقَّى) في الآية السابقة، أي أنك تتلقى القرآن من خكيم عليم صادق في الوقت الذي جرت فيه أحداث قصة موسى وفرعون، فهي قصة صادقة من لدن حكيم عليم، هو اللَّه سبحانه الذي أحاط بكل شيء علما.
ونجد أن قصة موسى هنا في جملتها ليست مكررة مع غيرها، وقد فصلت جزءا لم يفصل في موضع آخر، فصل فيه بعض حياته مع أهله، وفصل فيه لقاءه(10/5433)
بربه، والكلام الذي كان بينهما، وذكر ارتباطه بالرسالة، ودليلها وهو العصا وإخراج اليد من الجيب بيضاء من غير سوء، وكونها في تسع آيات قدمها لفرعون برهانا على الرسالة، وإذا كانت بعض الأمور ذكرت مكررة كالعصا؛ فلأن المقام اقتضاها، وليست ثابتة بالقصد الأول، بل هي جاءت تابعة لإثبات الرسالة لموسى نفسه، لَا لإثباتها لغيره، وهو فرعون وقومه، أي لإثبات أن الذي يخاطبه من وراء الشجرة ربه، لَا أحد غيره.
كان موسى وأهله في ليلة ليلاء قرور شديد بردها، يلتمسون ما يستدفئون من نار، فنظر في الجو، فحسب أنه رأى نارا فقال لأهله: إني آنست نارا أي رأيت نارا قال وهو يتمناها، ويرعاها، كقوله تعالى: (فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)، (سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَاب قَبَسٍ) أي إني ذاهب إليها لعلِّي آتيكم منها بخبر نستفيد منه علم ما لم نكن نعلم، أو شهاب، والشهاب هو الشعلة المشتعلة من نجم أو نار أو نحوها - وقبس بدل أو عطف بيان، والقبس هو القطعة من جذوة النار، أي آتيكم بقطعة من النار شديدة الاشتعال فنلقيها حول أحطاب نستدفئ منها، وهذا معنى (لعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي تستدفنون بها، فيقال من صلى قلبت التاء طاء؛ لأنها من حروف الإطباق أي رجاء أن تستدفئوا، ومؤدى ذلك أنهم كانوا في برد شديد، وهكذا عاش من تربى في بيت فرعون فهو يذوق الحر والبرد في صحراء، في هذا الوقت، وفي هذه
الشديدة، بعث موسى عليه السلام.(10/5434)
فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
(فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
(مَن) هنا للعاقل، فالبركة ليست في شيء يتعلق بما يلهبها، إنما البركة والنماء والزيادة فيمن هو ذاهب إلى النار، ويوشك أن يكون فيها، وهو كليم اللَّه تعالى موسى عليه السلام؛ ولأنها بقعة مباركة فيها الملائكة، واختار اللَّه تعالى أن يخاطب نبيه الكليم الأمين فيها، عليه وعلى نبينا أزكى السلام.(10/5434)
ومن حولها من ملائكة أطهار، فهي أرض طاهرة مقدسة منها كانت رسالة موسى، كما كانت رسالة عيسى عليه السلام من ساعير، ورسالة محمد عليه السلام في فاران. وهي، كما ترى ذلك في التوراة حتى بعد تحريفها في هذه الأيام، وهذه البقعة المباركة. كما صرح سبحانه بذلك في سورة القصص (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30).
والبركة نماء الخير وزيادته، وجعلت البركة في النار؛ لأن النار سبب مجيء موسى إليها، فهو جاء على أنها نار، وليست شجرة مباركة خضراء، ولذا فسر بعض المفسرين النار بأنها النور، وكذلك كانت تلك الشجرة الخضراء نورا إذ بعث فيها رسول من أولي العزم من الرسل، وهو موسى عليه السلام.
وختم اللَّه سبحانه وتعالى الآية الكريمة بتسبيح اللَّه الواجب على عباده، فقال (وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي التسبيح الخالص للَّه رب العالمين الخالق والمنعم عليهم بربوبيته الكاملة سبحان، ولا يدركها إلا العالمون العقلاء المدركون إن استقامت مداركهم، واتجهوا إلى الحق وحده غير مضطربين، ولا معوجين، وأن في قوله (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا) هي تفسير للنداء من الحق جل جلاله، فالنداء هو ذكر اللَّه تعالى لهذه البركة النامية المتجددة في كل حين.(10/5435)
يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
(يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
النداء المتكرر من اللَّه تعالى لكليمه موسى عليه السلام ليؤنسه بذاته العلية، وليشعر بنصرته له أمام من سيرسل إليه، وهو فرعون طاغية الأرض في عصره، ومن تأله، وملك أخصب أرض اللَّه تعالى، وكان يقول أليس لي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من حولي.
الضمير في (إِنَّه) ضمير الشأن (أَنَا اللَّه) تدل على قصر الألوهية على ذاته العلية، وذلك بتعريف الطرفين، فليس فرعون الذي تذهب إليه إلها أو شبه(10/5435)
إله، كما يدعى لنفسه بين المصريين، ويقول مستخفا لهم (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، ووصف ذاته العلية بقوله: (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، أي القوي الغالب على كل شيء، الحكيم الذي يدبر الوجود كله على مقتضى علمه الذي أحاط بكل شيء علما، وفي ذلك إشعار بأن فرعون الطاغية لن يرهبه، ولن يفزعه، إذا احتدم الأمر.
ولكن موسى يود أن يطمئن إلى أن اللَّه تعالى هو الذي يخاطبه ويمنحه ذلك الشرف، ولذا أمره بأن يلقى عصاه حجة تدل على أن اللَّه تعالى هو الذي يخاطبه، فقال:(10/5436)
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
(وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)
كان موسى في حال من يكون في حيرة من أمره، يخاطبه اللَّه، فاللَّه جل جلاله أزال عنه هذه الخشية، بدليل قاطع يدل على أن اللَّه تعالى يخاطبه، وأنه رسول من عنده، بالعصا - ألقاها، فتحولت العصا إلى شيء يهتز ويضطرِب كأنه حية تسعى، والجان هنا حية تهتز وتتحرك، فلما رآها كذلك (وَلَّى مُدْبِرًا)، أي سائرا إلى الخلف، وظهره كأنه وجهه ولم يعقب، أي لم يرجع، كالجندي الذي يقاتل يرتد إلى الوراء ليحسن الهجوم، فيعقب على خصمه يضربه، ولكن رجوع موسى عليه السلام كان رجوع الخائف الفزع الوجل، ليس من شأنه أن يقدم بعد إحجامه، بل يحجم لغير غاية، ولذا قال تعالى عالما بخوفه: (لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) أمره سبحانه بألا يخاف تأنيا له وتقريبا، وبيانا له بأنه كالئه وحاميه، ولا يخاف من اللَّه ناصره، وقال تعالى ما هو بمنزلة السبب للنهي (إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) إني لَا يمكن أن يخاف عندي المرسلون؛ لأني مانع كل شر عنهم، ولا يمكن أن ينالهم عندي إلا الأمان الذي لَا يكون بعده أمان، فكيف تخاف، وأنت في حضرة المولى جل جلاله، ثم فوق ذلك أنت مرسل من قبلي
للدعوة إلى الهداية، وكيف يخاف مرسل أرسله مع المرسلين.(10/5436)
ولكن موسى عليه السلام كان قد قتل مصريا مناصرة لإسرائيلي، وقال شاعرا بخطئه: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكونَ ظَهِيرًا لِّلْمجْرِمِين)، وإن هذه الفعلة هي التي ألجأته إلى مدين، بين اللَّه تعالى أنه غافرها، ما دام قد عمل حسنا بعدها، فقال:(10/5437)
إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
(إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11)
الاستثناء هنا استثناء منقطع، فما كان ثمة في الآية السابقة رمي بسوء حتى يكون الاستثناء، فيتعين أن يكون منقطعا بمعنى لكن من ظلم، بقتله نفسا بغير حق، ولكن كانت ظالمة عاتية، ثم تاب عما ارتكب، ولم يكتف بالتوبة المجردة، بل اتجه إلى الخير مستقيما مدركا، وبدل حسنا بعد سوء، أي وضع في تصرفاته مكان السوء حسنا فإن اللَّه يغفر له لأنه غفور من شأنه المغفرة الدائمة لمن تاب، رحيم دائم الرحمة بأناس ومن شأن الرحيم أن يتقدم عباده لعباده بفعل الخير رحمة بالناس لكي يسود الخير بينهم.
والفاء في قوله تعالى: (فَإِنِّي غَفورٌ) واقعة في جواب مَنْ؛ لأنها شرط أو في معنى الشرط، و (ثم) للتراخي، لأنه ثمة تراخ بين الظلم والغفران.
وذكر سبحانه معجزة أخرى لموسى
ْ(10/5437)
وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
(وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12)
هذه آية أخرى ليأنس موسى ربه، وأنه الذي خاطبه، وأنه رسول من رب العالمين إلى الناس، وهي أن يدخل يده في جيب قميصه بلونها الطبيعي الظاهر، المتوافق مع سائر جسمه، ويخرجها من الجيب فيراها بيضاء ناصعة البياض من غير سوء من بهق أو نحوه، وتلك آية أخرى هي واحدة من تسع آيات إلى فرعون وقومه، ثم ذكر ما يدل على العناية بهم في الاستدلال بتسع، إنهم كانوا قوما فاسقين، و (كانوا) تدل على استمرارهم في التوغل في الفسق، وهو الخروج عن كل معقول، ورفض كل مقبول، وأنهم قوم لَا يفقهون حديثا.(10/5437)
وفى ذكر هذه الآيات عند بعثه إلى فرعون وقومه دلالة على أنه يذهب إليه مزودا بآيات تترى آية بعد آية وكل آية حجة عليهم، ودليل قاطع، ولكنهم أصروا على كفرهم حتى أغرقوا.
(فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)(10/5438)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13)
الفاء: للإفصاح، أي أنهم لما جاءت الآيات التسع مبصرة موضحة مبينة كأنها الأبصار التي تبصر، وهي ذاتها بصائر بينة واضحة، قالوا هذا سحر مبين، ومبين معناها واضح بين، وذلك لقصر مداركهم، وقد كانوا يظنون العصا سحرا، وجمع السحرة في المدائن حاشرين، وأيقنوا أنها آية اللَّه وليست بسحر، ثم كان اختبارهم بالقمل والضفادع، والدم آيات مفصلات، فهل كانت سحرا، لعلهم لغلبة الأوهام عليهم، ولعدم إيمانهم ولعدم إدراكهم الفرق بين الحق والباطل قالوا أيضا: إنها سحر، فقد كان غالبا على تفكيرهم، ويعدون السحرة علماء لهم.
وهم في هذا الادعاء كانوا ضالين يدركون الحقائق، وتذعن أفهام لها، ولكنهم يجحدونها، وهي بينة واضحة يذعن لها أهل الحق، ولذا قال تعالى في حالهم(10/5438)
وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ... (14)
والجحود نفي ما يثبت في العقل، وإثبات ما ينفي في العقل، فهؤلاء يجحدون الحق بعقولهم وأقوالهم، ولكن نفوسهم مستيقنة لأنها لَا سبيل لها لأن تنكر وتجحد، فهم بتوارد الأدلة المختلفة، وتكاثرها؛ ولأن نفوسهم فطرية يستيقنون ويذعنون ولكن يعارضهم جو عام وبيء، فنفوسهم مستيقنة بالحق، وتذعن له لولا مقاومة التيارات الفاسدة التي تدفعهم إلى الجحود دفعا.
وقد بين سبحانه وتعالى ذلك مشيرا إليه بأنه الظلم، فقال: (ظُلْمًا وَعُلُوًّا)، وهما مفعول لأجله، من فعل (وجحدوا)، أي جحدوا وأنكروا، وخالفوا نفوسهم، وفطرتهم، لأجل الظلم، أي استمرارهم في الظلم والطغيان، ومعاضدتهم لفرعون في ظلمه وعدوانه وإرادتهم العلو في الأرض، وقد أدى ذلك(10/5438)
الطغيان الآثم، والعلو الباطل إلى فساد الأرض، وإلى غرضهم، ولذا قال تعالى (فَانظُرْ كيْفَ كانَ عَاقِبَة الْمُفْسِدِين)؛ أي انظر كيف كان مآل الفساد، وهو الخراب والغرق، والفساد كان في الظلم، وإرادة العلو بالباطل، إنه لَا يفسد الجماعات إلا الظلم أولا، والتعالي بالباطل ثانيا، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهو الغرق والهلاك، وهو عاقبة الجحود الظالم المستعلي المفسد.
* * *
من قصة سليمان
قال تعالى:
(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ(10/5439)
أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)(10/5440)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
* * *
أتينا بما ذكر القرآن الكريم من قصة سليمان في سورة النمل، وقد ذكرناها كلها جملة واحدة، وقد ذكر سبحانه قصة سليمان وأشار إلى قصة أبيه داوود عليهما السلام، وكانا ملكين قد أعطاهما اللَّه تعالى سلطانا وعلما، ليعلم ما يجب أن يكون عليه الحكام من أخلاق، قال تعالى:(10/5441)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15)
الواو لاستئناف قصة نبيين من الأنبياء امتازا بتمكين اللَّه تعالى لهما في الأرض بما لم يكن مثله لأحد من الأنبياء قبلهما، فقد كان إبراهيم وأبناؤه من الأنبياء يقاومون الملوك الظالمين، وقد رأينا فيما قصه اللَّه تعالى علينا من قصة موسى كيف كان يقاوم فرعون، وأتاه بتسع آيات بينات فما ارتدع وآمن، حتى أغرقه الله، فقال عند الغرق الآن آمنت برب هارون وموسى وبني إسرائيل، وليست هذه توبة (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18).
أما داوود وسليمان فقد كانا ملكين، وإذا كانت الملوك الذين بعثا فيهم الأنبياء صورة للعصاة المنحرفين عن الحق فقد كان داوود وسليمان صورة عالية للملك الذي يخاطبه الوحي ويهديه ويرشده، كما قال تعالى لداوود: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ).
وقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا) أكد اللَّه سبحانه أنه أعطى داوود وابنه سليمان علما، باللام وبـ قد فإنها تدل على التحقيق، ونكَر سبحانه (عِلْمًا) للإشارة إلى أنه علم عظيم لَا يقدر قدره، فقد أعطى داوود علم القيادة، وعلم إدارة الدولة، وعلم صناعة أدوات كما قال تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ صنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكمْ لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأسِكُمْ)، وأعطى سليمان علم منطق الطير، كما ستشير الآيات لذلك، وعلم الابن ثمرته تعود على الأب، فهو شخصه ممتد، وكسبه كَسْبٌ له كما هو مقرر بحكمِ الفطرة، ولذلك حمدا اللَّه على ما آتاهما من فضله: (وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) وكان التفضيل أولا بالعلم، وثانيا بالسلطان والحكم، وهذا يستوجب الحمد والشكر لَا الظلم والطغيان، ونقول إن اللَّه أعطاهما الذي أعطاه، وهو نعمة، وتكليف، فالمؤمن يحسب النعمة تكليفا، والتكليف بالنسبة للحكام العدل، وقد قص سبحانه وتعالى(10/5442)
قصص سليمان الذي ورث ملك داوود بالموارثة الملكية فقال:(10/5443)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
(وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16)
ذكر اللَّه تعالى وراثة سليمان لأبيه في ملكه، فقد ورث هذا السلطان، ولم يرث الرعية، فالرعية لَا تورث ولا يمكن أن تورث، وهذا خطأ بعض الذين تولوا الملك بالوراثة، فحسبوا أن الرعية شيء يورث، إنما الذي يورث هو الحكم ولا يكون إلا بوراثة يقرها الشرع، كوراثة سليمان لداوود، وقد أباحها الحكم الرباني ليجتمع شمل بني إسرائيل أمام من ظلموهم، وأرهقوهم من أمرهم عسرا.
أخذ سليمان يبين لقومه ما أعطاه اللَّه تعالى من مؤهلات الحكم، وما اختصه فقال: (يَا أَيُّهَا النّاس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ)، أي علم لغة الطير، وعرف ما تدل عليه أصواتها من معان تقصدها وتريدها، وذلك يدل على مقدار تمكين اللَّه تعالى له في ملكه وفي سلطانه عليهم، وأن الطير والدواب أمم أمثالنا لها لغة ولها منطق وعبارات مفهومة، كما قال تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38).
وقد ذكر الضمير ضمير الجمع لبيان مكانته من السلطان، وما أعطاه اللَّه من قوة، وذكر أنه لم يؤته اللَّه تعالى منطق الطير فقط، بل آتاه من كل شيء ولذا قال اللَّه تعالى عنه: (وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ) أي من كل شيء علما، فعلمنا منطق النمل، ومنطق الأحياء كلها، وأوتينا علم القيادة، وعلم الحكم العادل، والضمير ضمير الجمع لبيان سيطرة السلطان العادل، وقيل الضمير له ولأبيه، ولكن لم يرد في القرآن ما يدل على معرفة داوود منطق الطير، والنمل، وغيرهما من الأحياء، واللَّه ذو الفضل العظيم، ولذا قال: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) أي أن هذا العلم لهو الفضل الواضح المبين للحق والسلطان، وقد أكد سبحانه فضل اللَّه تعالى عليه، وعلى أبيه من قبله بـ أن، وباللام، وبضمير الفصل.
جمع سليمان جنده، وقال تعالى في هذا الجمع:(10/5443)
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
(وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
حشر: أي جمع لسليمان جنوده، ولم يكونوا من الإنس فقط، بل كانوا من الجن والإنس، والجن هم من العالم الذي لَا يرى في الظاهر، ولا غرابة في ذلك فإن الذي علمه منطق الطير، يمده بالجن والإنس، وقد يقال: إن المراد بالجن طوائف من الناس ليسوا في أرضه، ولكنهم جاءوا إليه مناصرين له، فهم يوزعون، الفاء: للإفصاح التي تفصح عن شرط مقدر، أي إذا اجتمعوا فهم لم يكونوا مفرقين غير محكومين ولا مضبوطين، بل كانوا مدفوعين، إلى التجمع المنظم طوائف، بل كانوا متحرفين للقتال: جاء في مفردات الراغب الأصفهاني في كلمة وزع: قال وزعته عن كذا كففته عنه قال تعالى: (وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ) إلى قوله تعالى: (فَهُمْ يُوزَعُونَ) فقوله (يُوزَعُونَ) إشارة إلى أنهم مع كثرتهم وتفاوتهم لم يكونوا مهملين، ومبعدين، كما يكون الجيش الكثير المتأذى بمعرفتهم، بل كانوا مسومين ومقموعين، وقيل في قوله يوزعون أي حبس أولهم على آخرهم.
والمعنى الجملي لهذا أن هذا الجيش الذي جمع القريب والبعيد والمؤتلف والمختلف قد كان مسوسا، ملسِّما بقيادة حكيم، وقد سار الجيش سيرا حثيثا، وأحس به النمل، فتكلم ليرتب أمره، فقال تعالى عنهما.(10/5444)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18)
(حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
أتوا: بمعنى أقبلوا على وادي النمل، ولذا كان التعدي بـ على، وقالوا إنه واد بالشام، ونقول: إن كل أرضي فيها النمل، ويتخذ له مكانا يقيم فيه، ويكون كالوادي له، وحطم معناها كسر، ومعنى (لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وجُنُودُهُ)، أي ليسير من فوقكم، فيحطم عظامكم، وقد أكدت النملة القول بما يشبه القسم، ولذا كانت اللام وكانت نون التوكيد الثقيلة، وأسندت الحطم أولا لسليمان باعتباره قائد(10/5444)
الجند، والجند جنده، فهو الذي يسند إليه الحطم أولا وبالذات، ولغيره بالتبع، وهم لَا يشعرون بما يمرون عليهم من نمل.
سمع سليمان كلامها:(10/5445)
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
(فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا ... (19)
و (ضَاحِكًا) حال مؤكدة لمعنى القسم، وهو يتضمن معنى التعجب من حرصها واهتدائها إلى النتيجة لمرور الجيش عليها، وعلى صواحبها، وإن ذلك دفعه لأن يتجه إلى ربه الذي أعطاه وأباه ما أعطى فقال: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ).
لم يغتر، ولم يفخر، ولم يفاخر، بل عرف حق النعمة واتجه إلى شكرها، ودعا ربه ثلاثا.
أولا: ضرع إلى ربه أن يدفعه، فقال أوزعني أي ادفعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت بها على، وعلى والديَّ، فإن هذه نعمة تحتاج إلى الالتجاء إليك لأتمكن من شكرها، وهي عليَّ، وعلى والديَّ فقد كان نبيا آتيته ما آتيت ولده سليمان، فكان ما أنا فيه نعمة عليَّ وعليه.
ثانيا: دعا ربه أن يوفقه للخير فقال: (وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ)، أي أن أعمل عملا هو صالح في ذاته وأن ترضاه بأن يكون خاليا من كل غرض غير رضاك سبحانك، إنك أنت المعطي، والمانع.
ثالثا: أن يكون في ضمن عباد الله الصالحين، فقال: (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ)، أي أن الدخول في الصالحين من عباده سبحانه هو برحمته سبحانه، لَا بعمل قدمه، فكل عمل هو من فضله، وكل جزاء هو من رحمته.
رأى من النملة ما رأى، وكان بعد ذلك الطير.
(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
يظهر أنه كان عند طائفة من الطير يتعهدها، ويسألها عن مآل أمرها،(10/5445)
فتفقدها بتعرف حالها، فلم يجد من بينها الهدهد وسأل عنه، وهذا قوله تعالى عنه:(10/5446)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
(وَتَفَقَّدَ الطيْرَ) أي تعهدها، وتعرفها وتعرف حالها، فلم يجد الهدهد، فقال متعجبا (مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ)، وكان حفيا يأن يعرف، ويسأل ما لي لَا أرى الهدهد أهو غائب عن عيني متخف بين إخواته من الطير (أَمْ كانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) بأن كان غائبا عن جماعة الطير التي كانت في حوزته، وتحت قبضته، وإن له عقابا،(10/5446)
لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
(لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأتِيَنِّي بِسُلْطَان مُّبِينٍ) فـ (أو) لبيان تنوع المعاملة بتنوع الحال مثل قوله تعالى لذي القرنين، (إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)، فإذا كان قد غاب مستهينا مستهترا فإني أعذبه عذابا شديدا، وإن كان متمردا فإني أذبحه، وأكد العذاب والتذبيح بما يشبه القسم وباللام وبنون التوكيد الثقيلة، وإن كان غائبا لحاجة، فليأتيني بسلطان مبين أي بحجة بينة مبينة لأمر جديد.
والفاء في قوله تعالى: (فَقَالَ) هي فاء الإفصاح، أي إذ تعهد الطير لم يجد الهدهد وإذ لم يجده فقال:
ولكن الهدهد كان ماكثا في مكان غير بعيد.
(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)(10/5446)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ)، الفاء: عاطفة ما بعدها على ما قبلها، أي فمكث غير بعيد أو زمانا غير بعيد، أي لم يقض وقتا طويلا مديدا في مكثه، بل جاء فور التهديد الذي هدد به نبي اللَّه سليمان عليه السلام، وجاء إليه يقول له: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي علمت علم إحاطة ومعاينة، لأمر لم تحط به، ولم تعلم به علم معاينة، وهكذا كان حظ الطير الضعيف أن يخاطب العظيم الذي أوتي كل شيء بالحرية وبالحق، ليعلم الحكام الجهلة، أن من واجبهم أن يواجهوا الحاكم بكل ما يعلمون وفيه مصلحة الدولة، وأن عليهم أن يتقبلوا شديد القول كما يتقبلون لينه (جِئْتكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ).(10/5446)
النبأ: هو الخبر العظيم الشأن البعيد الأثر، وهو يقين في علمه، إذ علمه عن عيان ومشاهدة، وحضور، والنبأ الخطير الشأن العظيم، هو أنه وجد امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء، أي أن قومها آتوها من كل أسباب الحكم بالخضوع والطاعة، والاستسلام ما جعلها ملكة عليهم، ولها في هذا الملك عرش عظيم ذو أبهة ورونق، وإشعار بعظم السلطان، وهذا قوله تعالى في كلام الهدهد(10/5447)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
(إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)
وقد أكد كلامه باللام وقد، وقال إنها تملكهم للإشارة إلى أن خضوعهم لها كخضوع العبيد لمن يملكهم، وبني للمجهول إيتاؤها كل شيء، وهذا يفيد أن قومها آتوها أمرهم، ووضعوا رقابهم تحت سلطانها. وسبأ من خير أرض اللَّه تعالى وأمكنها بخيراته، وقد قال تعالى فيها وفيهم: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)، ويقول الحافظ ابن كثير: وسبأ هم حمير وفيهم ملوك اليمن والمرأة التي كانت تحكمهم. هي بلقيس بنت شرحبيل وكانت ملكة لسبأ.
وقال الهدهد الخبير الصادق الأمين:
(وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)(10/5447)
وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
كان في هذا العصر أقوام عظموا الشمس لما فيها من دفء، ومن أشعة تحيي زرعهم، ولذلك شاعت عبادة الشمس في أهل مصر، لأنهم أهل زرع، وفي سبأ؛ لأنهم أيضا أهل زرع وأهل حدائق غلب، فشاعت فيهم عبادة الشمس ضلالا(10/5447)
لعقولهم، وفسادا لتفكيرهم، واستجابة لدعاة السوء بينهم، وفعلوا هذه العبادة من دون اللَّه، أي إنهم عبدوها دون أن يعبدوا خالقها الذي خلقها، وخلق كل ما يكون مما جعلها اللَّه تعالى سببا لنمائه، وهو وحده الخلاق العليم.
وذلك لاستيلاء الشيطان على قلوبهم، ولذا قال عز من قائل: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ).
إنه من الحقائق النفسية الثابتة أن أول الشر استحسانه، فالشيطان يزين أعمال السوء للفاعل ويحسنها له، ويظن أنها الخير وحدها، وأن ما عداها باطل، وفرق بين المهتدي وغير المهتدي، أن من هداه اللَّه يميز الخبيث من الطيب، فلا يتردى في باطل، وإن تردى فيه سرعان ما يعود إلى الحق، ولا يقبل وسوسة الشيطان بالشر، وليس قلبه موضع لتزيينه، ثم قال (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)، أي أنهم بسبب تزيين الشيطان لهم قد مكنوه من أنفسهم، فصدهم عن السبيل، أي لعلهم يعرضون عن الطريق المستقيم في ابتدائه، ومن ضل في أول الطريق سار في ضلال إلى آخره، ولذا قال مرتبا على ذلك: فهم لَا يهتدون، أي فهم يسيرون في ضلال غير مهتدين إلى الحق إلى النهاية، حتى يكون الحساب والعقاب:
(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
يصح أن نقول إن قوله تعالى:(10/5448)
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
(أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ) حرف جر محذوف، وحذفه كثير قبل أن وما بعدها.
والمعنى كان ذلك التزيين والصد وعدم الاهتداء في ذاته لأن لَا يهتدوا إلى عبادة الخالق الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض.
ويصح أن نقول: إنه متعلق بـ (زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) أي أنه حسن ذلك في قلوبهم ليصرفهم عن السبيل، ويكون التركيب هكذا زين لهم ألا يهتدوا إلى عبادة اللَّه تعالى الذي يخرج الخبء. . إلى آخره.(10/5448)
و (الخبء) ما ستره اللَّه تعالى حتى يخرجه للناس، فخبء السماوات مطرها، حتى يحين حينه، ويدرك إبانه، وكل شيء عند ربك بمقدار. . عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
وصف اللَّه تعالى المعبود بحق بثلاث صفات هي أعلى الصفات لواجب الوجود، وكل صفاته عليا.
الصفة الأولى: أنه هو الذي يخرج خبء السماوات بالمطر الذي ينبت الزرع والنخيل والأعناب، ويخرج به خبء الأرض، بفلق الحب والنوى، وإخراج المتراكب الذي يكون به غذاء الأحياء.
الصفة الثانية: أنه يعلم ما يسر وما يعلن الإنسان، فهو عليم بحاله في حركاته وسكناته، وما يفعل من خير وشر، ومجازيه على كل ما يفعل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وفيها تبشير بالجزاء، وإنذار بالعقاب.
الصفة الثالثة: أنه لَا إله إلا هو، فهو وحده المتصف بصفات الكمال التي توجب عبادته، وهو صاحب السلطان رب العرش العظيم. . صاحب السلطان الكامل في هذا الوجود.
سمع سليمان الملك العظيم الذي آتاه اللَّه تعالى علم منطق الطير والنمل، وسائر الأحياء كما يبدو من عظم حكمه، وتكميل اللَّه تعالى لسلطانه، فلم يحكم بمجرد السماع، بل قال كما حكى اللَّه تعالى عنه:(10/5449)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27)
(قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
كان سليمان ملكا حكيما لا يجعل علمه قيما يقضى فيه من سمعه فقط، فإن ذلك أضل الملوك، وهو الذي يوصف بأنه أُذُنٌ فتكون الحاشية وليه الذي يسيطر عليه، ولذا قال للهدهد: سننظر أي أننا نؤكد أننا سننظر في حقيقة ما جئت به إلينا، أصدقت أم كنت من الكاذبين. الاستفهام فيه إيماء إلى تغليب(10/5449)
الكذب؛ لأنه في معادلة الكذب تكلم بما يوهم أنه ربما يكون كاذبا، فقال (أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِين)، فقد ذكر احتمال الكذب بما يفيد قربه، فأكده بالوصف بالكذب، وبـ كان الدالة على الدوام، وبكونه أن يكون من صفوف الكاذبين.
وانتقل نبي الله الملك، إلى مقام التيقن فقال له:(10/5450)
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
(اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
كما كان الهدهد هو المخبر بحالهم جعله حاملا رسالته إليهم قال له: (اذْهَب بِكتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) والجار والمجرور متعلق بمحذوف تقدير القول فيه، فَأَلْقِهْ موصلا له إليهم.
ولم يتعرض القرآن لبيان طريق توصيل كتاب سليمان إليهم، وقد قيل إنه أوصله من الكوة التي تشرق عليها الشمس منها لتعبدها فيها، وقيل: إنه جاء إلى جمعهم، وألقى الكتاب المختوم بخادم الملك لسليمان، فألقاه عليهم وهم يجتمعون، واللَّه تعالى وحده العليم كيف أوصل إليهم الكتاب، ولا نتعرض لبيانه، لأنه لو لم يعلمنا به اللَّه فحق علينا التوقف، كما قال تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ به عِلْمٌ)، ثم قال تعالى: (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) العطف بـ (ثم) في موضعه، أي ألقه متأكدا، وصوله إليهم، وبعد تأكد ذلك تول عنهم وانصرف غير بعيد لتكون مترقبا ماذا يرجعون، أي ماذا يرجعون أو يردون ذلك الخطاب، والواقع أنهم لَا يرجعون الكتاب، إنما يرجعون ما تضمنه الكتاب من دعوة لعبادة اللَّه وحده، والاستسلام لسليمان والخضوع لحكمه كما يبين مضمون هذا الكتاب عند استفتاء قومها.
وصل إليها الكتاب، فعرضته على قومها:(10/5450)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)
(قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
جمعت قومها تستفتيهم في الأمر الذي جد وكانت حكيمة إذ جمعتهم وفوضت الأمر إليهم ليروا فيه ما يرون، عرضت عليهم صيغته ووصفته بأنه كتاب(10/5450)
كريم، فقدمت القول الحسن، الاحترام والتجلة، ووصفت الكتاب بأنه كريم طيب داع إلى خير لَا فساد، وتلت عليهم الكتاب وهذا نصه:(10/5451)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)
(إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ابتدأ بذكر المرسل واكتفى باسمه، ويظهر أنه كان معروفا بين ملوك الأرض، لأنه أقواهم، وأعظمهم قدرا وأوسعهم سلطانا، وعلما وصرفة، وهل هناك علم أعلى من أنه يعرف منطق الطير، ومنطق الأحياء، وإنه أوتي من كل شيء قوة وعلما، قوله:(10/5451)
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
(أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) أن: هنا مخففة من الثقيلة، أي أنه الحال والشأن لَا تعلوا عليَّ وتستكبروا وتتعاظموا على حين تكون مغالبة، وائتوني مسلمين، وفي كلمة مسلمين إيراد الإيمان باللَّه وإسلام وجوههم للَّه تعالى، قال بعض المفسرين ذلك، وقال بعض المفسرين: المراد أن يستسلموا له ويخنعوا له، وبعد ذلك تكون دعوة الإيمان والإسلام، وأميل إلى هذا، لأنه المناسب لقوله: (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ).
وقد استرسلت الملكة العاقلة فقالت:(10/5451)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
(قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32)
جمعت قومها، واتخذت خطابها مع أشرافهم وذوي الرأي فيهم الذين يولون ويعزلون، وقالت لهم: (أَفْتُونِي فِي أَمْرِي). وأضافت الأمر إليها، إذ هي المسئولة عنهم، والمخاطبة بأمر القوم عنهم، وأخبرتهم أنهم لَا تبتُّ في أمر وتقطع فيه برأيها منفردة دونهم ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون، حتى تشهدوا الأمر وتعاينوه، ونكون معا، والنون نون الوقاية، وياء المتكلم محذوفة أي حتى تشهدوني، أي حتى تحضروا معي وأتبادل الأمر معكم لنعرف ما يكون فيه خيركم. أجابوها بما يقوي عزمها ويشد أزرها ويطمئن حكمها كشأن حاشية الملوك، ومدبري الأمر معهم قالوا:(10/5451)
قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
(نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33)
أجابوا بثلاثة أمور مطمئنة ملقية في نفسها روح الاطمئنان على حكمها وسلطانها.(10/5451)
أول هذه الأمور الثلاثة (نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ)، أى أصحاب قوة في استعدادنا من حيث العدد والذخيرة، وكل ما يحتاج إليه الجند القوي المستعد، وثاني هذه الأمور أنهم (وَأُولُو بَأْسٍ)، أي أهل همة ونجدة وشجاعة لَا نفرط في الدفاع أو الجهاد إذا دعا داعيه، وإن بأسنا شديد، لَا نتخاذل في حرب.
الأمر الثالث: أن القيادة كلها (الأمر إليها)، ولذا قالوا: (وَالأَمْرُ إِلَيْكِ)، أي نحن نتعاون طائعون فالأمر إليك، (فَانْظُرِي مَاذَا تَأمُرِينَ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي إذا كان الأمر إليك فانظري ماذا تأمرين، أي انظري في نفسك الذي تأمرين به؛ لأن الاستعداد كامل تنفيذ الذي تأمرين به كاملا غير منقوص.
قالت لهم بعد أن دبرت أمرها، وتعرفت مآل أمرها، وحالها.(10/5452)
قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
(قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
قدرت ودبرت ورأت المسالمة بدل المقاومة رهبا في الملك، ورغبا في موادته، قالت محذرة من غلوائهم ومقدرة أمرها وأمرهم: (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا) والقرية هي المدينة العظيمة التي تكون مكونة من جموع كثيرة متكاثفة، ودخولهم القرية العظيمة يكون بحرب جائحة تأكل الأخضر واليابس، وهذا هو الفساد والخراب، فلو أمكن، وفي شر ذلك ما قد يكون خيرا، وذكرت أمرا آخر يفعله الملوك، وهو أن يجعلوا أعزة أهلها أذلة، إنما يقلبون الأوضاع فيها فيجعلون من هم في موطن العزة والسلطان، هم الذين يكونون في موطن الذلة والهوان وإنها في ذلك تشير إلى خوفها على نفسها من أنها في السنام منهم قد تكون غير ذلك، وأنهم لهاميم قومهم قد يكونون في غير مواضعهم، وسجلت أن ذلك حال الملوك دائما وهو شأنهم، ولذا قالت: (وَكذَلِكَ يَفْعلُونَ)، أي ذلك شأنهم دائما. وكان التعبير بالفعل المضارع لتصور حالهم المستمرة الدائمة كأنها شأن من شئونهم، وغاية لهم.(10/5452)
اتجهت بعد ذلك إلى الملاينة والمسالمة بالإهداء، والإهداء من المحبة، ويؤدي إليها إذا لم يكن من ترسل إليه الهدية ملكا ولذا قالت لملئها:(10/5453)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
(وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ... (35)
ذكرتهم بصيغة الجمع، لأن الملك يكون معه جيش وأقوام، وهي ترسل إليهم جميعا بهدية، ويظهر أنها لَا تتوقع الأمان المطلق، بل كانت تتوجس منهم خيفة، ولذا قالت: (فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) والفاء عاطفة، ناظرة بمعنى منتظرة مترقبة الأمر الذي يرجع به المرسلون، أسلام وأمان، أم حرب ودمار.(10/5453)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
(فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
هذا وقع الهدية في نفس نبي اللَّه وملك الأرض الذي علمه اللَّه تعالى منطق الطير، وجاء لسليمان أي جاء الوفد وقابل سليمان، ومعه الهدية التي أرسلتها الملكة، خاطب نبي اللَّه وملك الأرض الوفد مستحقرا الهدية، ومستهينا بتفكير مرسليها (أَتمِدُّونَنِ بِمَالٍ)، أي أتجعلون المدد الواصل بيني وبينكم مالا والمال هين على وهو عندي بل عندي ما هو خير منه، (فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ) آتاني الملك العظيم القوي، وآتاني العلم بكل شيء ومن شئون الدنيا آتاني علم منطق الطير والأحياء، وآتاني من كل شيء، (بَلْ أَنتم بِهَدِيَّتِكمْ تَفْرَحُونَ)، بل للإضراب الانتقال ورد للهدية، أنتم تفرحون بهديتكم، ولا تفرحون بغيرها، لأنكم ماديون، لَا تفرحون إلا بالمادة وما يتصل بها من أمثالها. وتقديم الجار والمجرور بهديتكم - للقصر والاختصاص، أي لَا تفرحون إلا بها، ثم هددهم نبي اللَّه بالجيوش الجرارة، فقال:(10/5453)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
(ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
كان الخطاب بالمفرد؛ لأنه الوفد الذي يخبرهم بأمر سليمان، وما استعد به لهم، (فلنأتينهم) الفاء: عاطفة دالة على الترتيب والتعقيب أي فور رجوعهم لنأتينهم، وقد أكد غزو الشرك بالقسم، ولام القسم، ونون التوكيد الثقيلة، وقد أكد إرسال(10/5453)
الجيش، وأكد نتيجته، بقوله: (لَنُخْرِجَنَّهُم) والإخراج يصح أن يكون المعنى إبعادهم عن سلطان الحكم، فلا يكون لهم رأي ولا إرادة، وكأنَّهم المخرجون، وأذلة أي كونهم أذلاء صاغرين أي منحطين إلى المنزل الدون راضين بذلك؛ لأنه لا قدرة عندهم على تغيير حالهم، والتفكير في أمرهم، كان هذا رد الملك النبي، وما كان ليسكت عن قوم يعبدون الشمس ومشركين، فهو ملك نبي ونبوته لا تتأخر، بل هي العامل الأول المسير لملكه دائما.
بعد ذلك أخذ يفكر في تعرف حالهم، وإظهار القدرة التي منَّ اللَّه بها
عليه، فاراد أن يختبر ذكاءها قال:(10/5454)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
(قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
العرش: كرسي السلطان، وقد سبق أن وصف الهدهد ذلك العرش بأنه عرش عظيم، قد أوتي من الأبهة والزخرفة الكثير، وإنه دليل على كمال السيطرة، وكمال الثروة، وما الذي يطلبه نبي اللَّه الملك من الملأ من قومه أهو أن يأتوه به ذاته، ذلك ظاهر القول، ولو يوجد ما ينفي الظاهر، ونحن نأخذ بظاهر القول ما لم يوجد من الاستحالة العقلية ما يخرجنا من الظاهر إلى غيره، فالأمر كله لا غرابة فيه، فالنمل يتكلم، ويسمع كلامه ويفهم، والطير يتكلم ويفهم، ويرسل في رسائل وكتب إذن فلا غرابة في أن يأتي بعض الملأ بذات العرش.
وقد قال بعض الذين يتكلمون في معاني الذكر الحكيم. إن الذي طلبه نبي اللَّه تعالى هو أن يأتوه بصورة العرش لَا ذاته، ونحن نرى أن هذا التأويل وإن كان محتملا لَا نرضاه؛ لأنه غير ظاهر اللفظ، وظاهر اللفظ يسير في مؤداه ما دام لا يستحيل، وقوله قبل أن يأتوني مسلمين يقول إن الإسلام هنا هو الخضوع، ويصح أن يكون المعنى الإسلام الحقيقي، وهو شهادة أن لَا إله إلا اللَّه، وإنا نميل إلى الأول؛ لأنَّ الإسلام بشهادة الحق جاء بعد ذلك عندما قالت بلقيس: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44). أخذ الملأ ممن حول سليمان يعملون على إجابة طلبه.(10/5454)
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
(قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
العفريت، قال ابن قتيبة إنه الموثق الخلق أي القوي في بنيانه، وقد كان الجن من جيش سليمان، ونسير بالكلام على ظاهره من غير محاولة تأويل، لأنه ليس عندنا مسوغاته، ولا نعمل الفكر فيما لَا يسوغ فيه، قال القوي من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك أي من مجلسك هذا، (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ)، وقد أكد قوته وأمانته بعدة مؤكدات، أولها بـ أن والثاني باللام، والثالث بكلمة عليم، وفيها إشارة إلى أنه في قبضة يده.
ولم تبين الآية كيف يكون ذلك، ولنسلم بظاهر الآية، غير متكلفين، فاللَّه تعالى أمر بعدم التكلف فقال (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).
ولكن الملك نبي الله عليه السلام استطال هذه المدة، فتقدم عليه بعض الذين أوتوا علم الكتاب.(10/5455)
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
(قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
وصف الذي أتاه قبل أن يرتد إليه طرفه بأن عنده علم الكتاب، فما هو هذا الكتاب، أهو السجل المحفوظ، أم كتاب من كتب العلم والمعرفة، ومن أي جنس، أهو من الإنس أم من الملائكة، لم يبين القرآن قبيله ولا كتابه، فكان حقا علينا ألا نتعرف ما لم يعرفنا الله به، إذ لَا سبيل لذلك، ولم يرد عن السنة ما يوضح ذلك بخبر صحيح يمكن الاعتماد عليه.
وإن هذه سمعيات يجب التصديق بها والإذعان لها، وكثير من قصة سليمان أمور غيبية توجب الإذعان ويكتفى بالإيمان بظواهرها، غير متأولين، ولا قافين ما(10/5455)
لا نعلم، وقد نقول إن علم الكتاب علم رباني يؤتيه الله من فضله من يشاء من عباده إنه عليم خبير.
وارتداد الطرف أن ينظر إلى أمر بتحديق عين، ثم يرد إليه بعد النظر المتحدق، وهو لَا يتسع لزمن قل أو كثر؛ ولذا قال بعد (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ) الفاء: للعطف والتعقيب، أي أنه عقب قول صاحب علم الكتاب رآه مستقرا عنده، أي موجودا قالرا ثابتا عنده، لَا يتصور بعده عنه بعد ذلك، كانت هذه نعمة على سليمان تستوجب الشكر، ولذا قال معلنا أن ذلك اختبار من اللَّه، قال: (هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِبَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكفُرُ) يقرر في هذه الجملة السابقة - ما يقرره النبي الملك، يقرر أولا أنه فضل من اللَّه ليس إلا نعمة أعطاها عطاء ومنًّا من غير سابق طلب، ويقردر ثانيا أنه يعامله معاملة من يختبره أيكون من الشاكرين للنعمة القائمين بحقها، أم الكافرين الذين يجحدون، ويغترون ويعاندون ويحسبون أن ذلك استحقاق وليس عطاء ثم يقول: (مَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ)، أي فإن شكره يكون عائدا على نفسه، لأنه يفعل الخير، ويثابر عليه وثمرة ذلك تعود عليه، ولأن من يشكر النعمة يزيده اللَّه منها، كما قال تعالى: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، أي ومن يكفر ليغتر ويجحد ويعاند، فإنه يضر نفسه، ولكن لَا يقطع بفضل اللَّه ولا منه وفضله وكرمه، فاللَّه غني لَا يحتاج شكر عباده، وكريم يعطي دائما والحساب في الآخرة.
يظهر أنهم قد حاولوا أن يكونوا قريبين من سليمان، أو أن يحضروا مستسلمين، أو أنها أعلنت المجيء إليه مستسلمة، ولذا قال اللَّه عن سليمان:(10/5456)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
(قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
التنكير جعل العرش في وضع أو حال بحيث لَا يعرف، ولذا قيل: إنه وضع في وسط أمتعة متفرقة مختلفة بحيث يصعب تعرفه في وسطها، وروى ابن(10/5456)
عباس ومن أخذ عنه أنهم غيروا في ألوانه، وأخذوا بعض ما فيه من جواهر، ونرى أنهم لم يغيروه، ولكن نكروه، ننظر جواب الأمر أي لننظر أتهتدي أم تكون من الذين لَا يهتدون، أي لننظر فاحصين ذاتها، ألها نظرات ثاقبة، تصل من ورائها إلى الحقيقة محصين مدركين واصلين، أم هي من أهل الغفلة الذين لا يهتدون، ولا يمحصون ولا يدركون.
وقد تبين من الاختبار أنها واعية مدركة، وأن النساء يدركن دائما ما يتعلق بالفراش وزينة الحياة الدنيا، ولذا علمت، وإذا كان قد اعتراها نوع تشكك، فلغرابة أن يجيء إلى نبي اللَّه سليمان قبل مجيئها.(10/5457)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
(قَالَتْ كأَنَّهُ هُوَ ... (42)
لم تقل إنه هو من قبيل الحرص؛ لأنها رأته بعينها ولكن كانت الغرابة في أنه جاء قبلها فتساءلت في ذات نفسها، كيف جاء، وبأي طريق وصل، هذا هو الذي تحترس من أن تقول هو هو - بل قالت كأنه، وقال سليمان مؤكدا أنه هو: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا) أي أوتينا العلم به المستيقن المحسوس من قبل مجيئها، وقد يعلل بهذا من قال: " إنها صورة العرش لَا ذاته " وما كان لنا أن نترك الظاهر الذي يبين اليقين بعبارة موهمة غير قاطعة ثم قال: سليمان: (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) أي مذعنين للحق ببيناته. وإن هذه الأحوال كلها خوارق للعادات مثبتة نبوة سليمان، وفي الحق أن سلطان سليمان قد قام كله على خوارق للعادات، وكان الزمن زمن المادة والأسباب، والمسببات، فكان هذا الملك قرعا لأسماع الماديين المتعلقين بالأسباب والمسببات العادية، ويحسبون مخطئين أنها قانون الوجود.
وذكر سبحانه وتعالى حالها فقال:(10/5457)
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
(وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
وهنا نجد كتاب الله تعالى الذي ينصف في كل أحكامه، لَا تجد فيه عوجا ولا أمتا، فاللَّه سبحانه يبين على لسان نبيه الملك أنه صدها عن سبيل اللَّه ما كانت(10/5457)
تعبده من دون اللَّه تعالى من الشمس التي هي من خلق اللَّه تعالى الدالة على كمال قدرته سبحانه، وقال: (إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْم كَافِرِينَ) وهذه الجملة السامية في مقام التعليل: الشيطان يصدها عن السبيل القويم أي أنها كانت في بيئة كفر؛ لأن قومها وأجدادها قد توارثوا الكفر، فكانوا أبعد الناس عن إيمان، فمرنت على الكفر، واعتنقته، وعبدت ما يعبدون من دون الله.
بين اللَّه من بعد ذلك على لسان سليمان ما يرغب أمثالها من النساء، وهو أن الملك يملك من زخارف الحياة ما ليس عندها، وما يبتهر فقال:(10/5458)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
الصرح، القصر العالي المزخرف، ودخلت الصرح، فدخلت صحنه، وهو ممرد أي مملس ملمسه ناعم وله بريق بسبب تمريده، وإزالة كل خشونة فيه حتى يحسبه الرائي لتنسيقه، وكأنَّه لجة من الماء، فحسبته ماء في صحن الصرح وخشيت على ثيابها المزخرفة فرفعتها، وكشفت عن ساقيها، فنبهها سليمان إلى أنه ليس بماء وإنما هو صرح ممرد من زجاج يبدو بادي الرأي كأنه لجة ماء وما هو بماء، فقال لها - إنه صرح ممرد من قوارير، أي من زجاج تكون منه القوارير، وهي جمع أدركت السيدة بلقيس، وهي تروعها الزخارف كما تروع كل النساء، فكرت في ماضيها إذ كانت تعبد الشمس، وسليمان يعبد الله تعالى، وقد آتاه الله من النعم ما لَا يمكن أن يكون لأحد غيره، فاهتزت، وعلمت أنها كانت على باطل، وأنها ظلمت نفسها بما كانت عليه، قالت: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، أقرت بأنها ظلمت نفسها بعبادتها الشمس، فالشرك(10/5458)
ظلم للنفس وطمس للقلب، وأي طمس للعقل أكبر من أن يعبد الشمس. وهي مخلوقة للَّه تعالى، ويترك الخالق وهو اللَّه سبحانه وتعالى ونادت اللَّه تعالى بلفظ الرب إيمانا بالربوبية الكاملة. وأكدت ظلمها للنفس بـ إن الدالة على التأكيد، وجعل الظلم واقعا على نفسها، وإذا كانت قد علمت أن الشرك ظلم عظيم للنفس، فقد خلصت للَّه تعالى، ولذا قالت: (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، أي سلَّمت نفسي مع سليمان للَّه رب العالمين، وذكر معيتها مع سليمان؛ لأنه هو الذي دعاها وأرشدها، وذكر الله تعالى موصوفا بأنه رب العالمين، أي الخالق القائم على العالمين بالتدبير الحكيم.
* * *
من قصة صالح وثمود
قال اللَّه تعالى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)(10/5459)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
* * *
بعد ذكر قصة سليمان ملك الأنبياء، وكيف كانت حياته وملكه ونبواته معجزات متوالية، وكل شيء كان يجري بأمر خالد، ذكر سبحانه قصص بعض الأنبياء، وابتدأ من بعده بصالح، وهو صورة لنبي لم يكن ملكا بل كان من الشعب، هئمَ قومه أن يقتلوه.
وليس في قصة صالح وثمود تكرارا، بل ذكر فيه ما لم يذكر في غير هذا الموضع، ولم يذكر فيه ما ذكر في غيره، لم تذكر المعجزة وهي الناقة، وما كان منهم من اعتداء عليها، وذكر هنا الائتمار على قتل صالح وامرأته، ولم ينجه منهم إلا إنزال العذاب بهم، وما ترك العذاب فيهم من عبر.(10/5460)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45)
الواو استئنافية أكد اللَّه تعالى الإرسال حيث دعت دواعيه، وأكده باللام، وقد، وإضافة الإرسال إلى ذاته العلية، وذكر سبحانه أن الإرسال كان بإرسال أخيهم أي أنه واحد منهم يعرف أمرهم وحالهم، وهو رءوف عليهم شفيق بهم قد عرفوا صدقه وأمانته وحبه لهم، وإلفهم به، وكانت الرسالة هي عبادة اللَّه تعالى وحده؛ ولذا دال: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) أن تبشير لمعنى الرسالة، وعبادة اللَّه لَا تتحقق إلا بأن تكون العبادة للَّه تعالى وحده، لَا يشرك به شيئا، فإذا عبد مع اللَّه غيره فقد أشرك ولم يعبد اللَّه تعالى، لقد كانوا يعبدون الأوثان فلم يكونوا يعبدون اللَّه فكان أمرهم بعبادة اللَّه وحده متضمنا لنهيهم عن عبادة غيره من الأوثان وغيرها،(10/5460)
وإن الشرك أمر تنكره العقول المستقيمة، وتعافه النفوس القويمة، ولذا كانت المفاجأة ألا يختلفوا في عبادة اللَّه فمنهِم من اهتدى ومنهم من حقت عليه الضلالة، ولذا قال تعالى: (فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يخْتَصِمُونَ)، الفاء وإذا للمفاجأة الفاء واقعة لترتيب ما بعدها على نقيض ما قبلها، ولذا كانت المفاجأة بها وبإذا بعدها، فريقان: فريق أطاع واهتدى، وفريق ضل وغوى، وهم يختصمون أي يختلفون ويكون كل فريق خصما للآخر يجادله لإثبات الحق والدعوة إلى الحق، ويستمسك الباقون على شركهم بما كان عليه آباؤهم.
وقد أنذر صالح الضالين بالعذاب الشديد، وأن اللَّه تعالى آخذ بالنواصي، فقالوا كما في آيات أخرى: ائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين، ولكنه يرجو لهم الهداية بدل العذاب.(10/5461)
قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
(قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46)
قال لهم صالح رأفة بهم، وإن كانوا يرأفون بأنفسهم، (يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ)، ابتدأ بالأمر الذي يربطه بهم، ويوجب محبتهم والحدب عليهم، وهو أنهم قومه الذين يرتبط نسبه بنسبهم، تنبيها لهم إلى ما فيه رحمتهم (لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ)، أي تطلبون في استعجال الأمر الذي يسوء وهو العذاب الأليم الذي تهددون به، وهو العذاب الذي يسوء، وتقدمون ما يسوء على الحسنة، وهو الإيمان الذي هو حسن في ذاته، وحسن لكم إذ من ورائه الثواب بدل العذاب، والاستفهام هنا للاستغراب، وللتوبيخ، ولبيان أنهم يطلبون ما فيه الأذى بدل ما فيه الإكرام والثواب، وينبههم إلى ما يجب أن يطلبوه، وهو مغفرة الله والإيمان به، فهو طريق الخير، فيقول: (لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمونَ) و (لولا) هنا للحض على طلب المغفرة، أي هلا تطلبون مغفرة اللَّه رجاء منكم أن ترحموا بالإيمان باللَّه وحده، وترك الشرك، والإذعان للَّه تعالى، ففي هذا رحمتكم، وأن توقوا عذاب الجحيم، ولكنهم يلجون في الكفر، ويتهمون نبيهم بأن دعوته شؤم عليهم.(10/5461)
قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
(قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
التطير تعرف مستقبل الأمر عن طريق بأن تثار الطير من وكناتها، وباتجاهها يتفاءلون أو يتشاءمون، وهو هنا التشاؤم، أي أنك يا صالح كنت أنت ومن معك من المؤمنين سببا لتشاؤمنا منكم بوجودكم، كأنهم يقولون لهم أنتم نحْس علينا، فلا يصح أن تدعونا إلى ما تدعوننا إليه، فرد عليهم صالح بأن تعرفهم الغيب بالطيرة أمر باطل إنما علم الغيب الذي تتعرفونه بالطير هو عند اللَّه تعالى وحده فلا يعلم الغيب إلا اللَّه وحده، ولا يعلم أحد إلا بإعلامه، فمعنى طائركم عند اللَّه، علمِ الطائر الذي تدعونه لأنفسكم عند اللَّه وحده علام الغيوب، (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتنُونَ)، أي تمتحنون بتلك الأوهام عليكم فتحتسبون التطير يسعدكم أو يشقيكم، وأنتم تمتحنون وتعذبون بالسير في طريق العذاب الذي يستقبلكم، فالفتنة هنا معناها الاختبار وتسلط الأوهام عليكم، وسيؤدي هذا الامتحان حتما إلى العذاب الأليم، عذاب الدنيا والآخرة.
استمر صالح في دعوته تبليغا لرسالة ربه، ومعه الفريق المؤمن الذي يخاصمه الفريق الكافر إلى أن تململوا به، وبمن معه، وأرادوا قتله، وأن يتوزع دمه، وهذا قوله تعالى.(10/5462)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)
(وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
الرهط الجماعة من الناس، والإضافة بيانية، والمعنى وكان في المدينة التي كانت مبعث صالح تسعة رهط أي جماعة متحدة المشاعر والأحاسيس يجمعها العداوة للرسالة، والتآمر عليها، وهذه الجماعة من أوصافها أنها تفسد ولا تصلح، وقد كانت الرسالة الإلهية لإصلاح هؤلاء، ومنع لإفسادهم عن الجماعة، ولا يهمنا أكانوا من الكبراء أم كانوا من الأصغرين بيد أن عملهم يكشف عن فسادهم،(10/5462)
قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
(قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ... (49) قالوا تقاسموا، أي أن قولهم هو(10/5462)
التقاسم على موته وأهله، فهما بدل ومبدل منه أو الثاني عطف بيان للأول، ومعنى تقاسموا أن كل واحد منهم تبادل القسم مع الباقين، والقسم باللَّه، ولا غرابة في ذلك فقد كانوا يعرفون الله وأنه خالق كل شيء ولا خالق غيره، ولكنهم يعبدون الأوثان لتكون زلفى إليه سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
وموضوع القسم (لَنُبَيِّتَنَهُ وَأَهْلَهُ) أي لنجيئنهما بياتا وهم نائمون، ويقتلونهم، ويهلكونهم، ويجيئون بيمين كاذبة يقولون ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون. يقولون لولي دمه من أهل وعشيرة، ويدعون أنهم صادقون، وإنهم لكاذبون وهم بذلك يدبرون جريمة، ولكنَّ اللَّهَ رادٌّ كيدهم في نحرهم، وهو محيط بهم، ولذلك قال تعالى:(10/5463)
وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
(وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50)
دبروا هذا التدبير الآثم وسماه اللَّه تعالى مكرا، وقد أحكموا التدبير، وأحاطوه بما يضمن التنفيذ بإحكام، ولذا أكدوه بالمفعول المطلق مكرا، واللَّه من ورائهم محيط، ولذا دبر لعبده، وسمى تدبيره الحكيم مكرا من قبيل المشاكلة اللفظية؛ ولأن المكر هو التدبير، ويكون في الخير والوقاية من الشر، كما يكون في تدبير السوء كما كان منهم، ومكر اللَّه تعالى لإحباط تدبيرهم الخبيث، وهو القضاء على الفساد والمفسدين، وهم لَا يشعرون أن الله محبط عملهم، ومبطل تدبيرهم وذلك بالقضاء عليهم قبل أن ينفذوا.
أصابتهم صيحة خربت ديارهم، وأفسدت تدبيرهم، ولذا قال سبحانه:(10/5463)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)
(فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51)
الفاء: للإفصاح، أي إذا كان اللَّه قد دبر لرسوله كما دبروا آثمين، فانظر كيف كان عاقبة مكرهم، وأن ما أنزله الله تعالى من عذاب مدمر كان بسبب اعتزامهم قتل صالح وأهله، وما كان اللَّه تعالى ليذر رسوله نهبا لهم يغتالونه، بل إنه سبحانه لهم بالمرصاد، قتلهم قبل أن يقتلوه، فجاءتهم الصيحة، فأصبحوا في(10/5463)
دارهم جاثمين، (دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ)، وصار الذين كانوا يهددون هم مساقط الأحجار، وموطى المارين.(10/5464)
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52)
(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
الفاء: أيضا للإفصاح، أي إذا كانوا قد مكروا ودبرنا لحماية الحق فتلك بيوتهم خاوية، والإشارة إلى البقاع التي كانت لثمود، وقد أهلكهم الله تعالى بالصيحة، وخاوية: أي فارغة لَا ساكن فيها، ولا أحد يجيء إليها، وبكون من خوى إذا فرغ، وخلا ويكون تشبيها لأرضهم في خلوها من أهل، بالبطن إذا خلت من الطعام، وكان المآل الهلاك والبوار، فإن المكان الخالي من السكان مآله البعد، وأما إن خوى بمعنى سقط، فهي ساقطة متهدمة، من قولهم خوى النجم إذا سقط تهدم.
ولقد استغلظت قريش في معاملتها للمؤمنين الذين كانوا الخلية الأولى للإيمان، واستهانوا بهم، وحسبوا أنفسهم الأقوياء على الرسول، وهذا الذي فعله سبحانه مع ثمود آية لهم دالة على أن هلاكهم يسير إذا أراد اللَّه، ولذا قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْم يَعْلَمُونَ)، أي لآية دالة، ما يعقب الكفر والاعتداء لقوم يعقلون، وهذا دعوة لقريش ليعقلوا ويتدبروا عاقبة أمرهم.
هذا هلاك الكافرين المعتدين أما الذين آمنوا فقد نجاهم اللَّه فقال:(10/5464)
وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
أي الذين أذعنوا للحق وآمنوا به، وهدموا الأوثان، وكان من شأنهم التقوى وخوف اللَّه تعالى ووقاية أنفسهم من غضب اللَّه، ورجاء رحمته، وعبر بالمضارع لتصوير حالهم في تقواهم.
* * *(10/5464)
من قصة لوط
قال تعالى:
(وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
* * *(10/5465)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
الواو عاطفة وتكون كلمة لوطا معطوفة على صالحا، ويكون المعنى ولقد أرسلنا لوطا إلى قومه، وإذ متعلقة بالفعل المنوي ذكره لعطف النسق، أي أرسلنا لوطا إذ قال لقومه، أتأتون الفاحشة أي الفعلة الفاحشة البينة الزائدة عن أن تدرك في أي عقل، والحال أنكم تبصرون مدركين فحشها عالمين قبحها، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، فهو توبيخ على وقوع فعلهم، وقوله تعالى: (وَأَنتُم تُبْصِرُونَ) فيه إشارة إلى أن البصر يكفي لإثبات قبحه فهو قبيح حسا وطبعا وعقلا، إذ هو بالحس وضع للشيء في غير موضعه، واستعمال للمكان في غير ما خصص له بمقتضى الفطرة السليمة، وقد وضح لوط عليه السلام لهم قبح فعلهم بالتوضيح الواضح، بعد التلويح اللائح، فقال:(10/5465)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
(أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55)
الاستفهام داخل على أمر مؤكد وقوعه، فالاستفهام ليس لشك في وقوع(10/5465)
الأمر بل لغرابة في الوقوع المؤكد، فالاستفهام بلا ريب يفيد استغراب هذا الواقع المؤكد، وهو إتيان الرجال شهوة من دون النساء، ووجه الغرابة: أولا أنهم يجعلون الرجال في موضع النساء، وذلك فساد في الفطرة أي فساد، ووجه الغرابة ثانيا، أن الإتيان لأجل الولد، وهذا ليس موضع الحرث المنتج، ووجه الغرابة ثالثا، أنه فاحشة في ذاته، إذ هو فساد، وقال سبحانه بعد ذلك: (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).
بل للإضراب الانتقالي، وكأنَّه إضراب عن بيان غرابة أفعالهم، لأنه لا غرابة ممن شأنه أن يجهل ولا يتحري الصواب في أفعاله، بل إنه حائر بائر، لا يفعل إلا ما يجهل، ولذا عبر بالمضارع المصور لحال الجهل الذي لَا تصدر عنه أفعالهم إلا وهم يجهلون، وسجل سبحانه وتعالى عليهم أنهم لَا يفعلون إلا ما هو مجهول عند أهل العقول السليمة، أولا بالجملة الاسمية وبالخطاب المواجه المصور الموبخ، وبالتعبير بالمضارع الدال على تصوير الجهل المستمر الذي يدل على أن الجهل حال دائمة لَا تنفصل عنهم.
وإن الباطل ينفر من الحق، ولا يستطيع أن يواجهه، ولذا اتجهوا إلى إخراج لوط ومن معه من الأطهار من بينهم.(10/5466)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
(فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56)
الفاء: للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا ما كانوا على هذه الحال من سيطرة الجهل، فإن الجهل لَا يطيق الطهارة والتطهر، ولذا كان جوابهم، وإن قالوا مصرين أخرجوا آل لوط من مدينتكم العظيمة؛ لأنه لَا تجتمع الطهارة العفيفة مع الدناسة الجاهلة، وقد عللوا ذلك بقولهم: (إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرونَ)، أي من شأنهم الطهارة والبعد عن هذا الدنس المخالف للفطرة، والطبع السليم، وقد صور سبحانه بما جاء على ألسنتهم يتطهرون أي أن لوطا ومن معه من شأنهم الطهارة المستمرة، وعبر بفعل المضارع للدلالة على تصوير حال الطهارة المستمرة فيهم، كان عذاب اللَّه(10/5466)
تعالى لابد أن ينزل بهم لكي لَا يستمر فسادهم؛ ولأنهم يقلبون الفطرة، كما نرى الآن في إنجلترا وأمريكا، إذ تفاقم الشر، وفحشت الفواحش، ومسخت الطبائع، فكان لابد من النازلة، جعل اللَّه عالي أرضهم سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل مسومة منضودة.
ولقد بين سبحانه نجاة لوط ومن معه إلا امرأته، فقال:
(فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)(10/5467)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57)
الفاء: للترتيب والتعقيب، أي أنه سبحانه قرر هلاكهم وقرر النجاة للوط وآله، فكان معقبا أو مقارنا لتقرير الهلاك، وهو أقرب من التعقيب، وإليك خبر الهلاك، وطلب النجاة فقد جاء في سورة هود من مخاطبة الملائكة للوط عليه السلام: (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81).
أنجى اللَّه تعالى لوطا وأهله بأن أمرهم بأن يسروا من البلد ليلا، واستثنى امرأته لأنها من الغابرين من الماضين، وظاهر أن ما كان منها هو الشرك، وعدم إنكارها لأفعالهم الخبيثة، فعدم الإنكار لجريمة بشعة معلنة قد جاهروا رضا بها، فهي معهم في الشرك أو الرضا، بتلك الفاحشة الفحشاء، ولذا قال قدرناها من الغابرين، أي عددناها منهم.
وبعد هلاك القرية، وجعل عاليها سافلها، أمطر عليهم سبحانه مطرا وهو حجارة حاطمة رءوسهم مهلكة، ولذا قال تعالى:(10/5467)
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
(وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
أي أنزلنا عليهم من السماء حجارة هي أشبه بالمطر في وابله وتراكمه، ولقد بين أنه أسوأ مطر " فساء مطر المنذرين " أي ما أسوأ مطر المنذرين الذين أنذرهم.(10/5467)
وقد بين سبحانه في آيات أخر أنه مطر حجارة لَا مطر ماء، فقال في سورة هوِد: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83). هذه أقوام أشركت، وبين اللَّه تعالى عاقبة إشراكها، إذ همت بالاعتداء على نبيها، ولم يكن له قبل بها، والآيات قائمة والأدلة معلمة، وقد ذكر سبحانه وتعالى بعض هذه الآيات.
* * *
من آيات الله على الوحدانية
قال تعالى:
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ(10/5468)
رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
* * *
بعد أن ذكر سبحانه من أخبار الرسل، ما لم يكن مكررا في أخبار سبقت، فمثلا أولئك الرهط التسعة الذين ائتمروا بقتل صالح عليه السلام لم يذكروا من قبل، وهكذا، تجد في كل قصة تجدد ذكرها شيئا لم يذكر من قبل. بعد هذا القصص قال اللَّه لنبيه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم الحمد للَّه.(10/5469)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
قل لهم يا محمد الحمد للَّه، أقدم القول بحمد اللَّه تعالى والثناء عليه بما هو أهله أن أمدني بهذا القصص الصادق، وإني ما كنت بدعا من الرسل، وإني ما جئتكم بأمر من عندي، وأن المثلات قد سبقت لقومي بما أدى إليه كفرهم، وتحية سلام للذين اصطفاهم اللَّه تعالى واختارهم، وأرسلهم تترى وتلقوا الصدمات من أقوامهم صدمة بعد صدمة وصبروا حتى بدل من بعد خوفهم أمنا ومن غطرسة أقوامهم هلاكا، وهأنذا أتلقى الصدمة واللَّه مبدل خوفي أمنا إن شاء اللَّه تعالى والقضية التي كان حولها الإيذاء والتعنت والدعوة الحق، (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يشْرِكونَ)، أي أن الذي كان حوله النزاع بين الحق والباطل عبادة اللَّه وحده خير أم الذي يشركون به، وجعلت الصيغة الموازنة بين ذات الخالق الباري المنشئ من العدم خير، أم الأوثان التي يجعلونها شريكة في عبادته، وهي موازنة ظاهرة(10/5469)
البطلان أو كيف يوازن بالخالق والمخلوق، والمنشأ ومن أنشاه. تعالى الله عما يشركون، ولا يستويان فلا يستوي الخالق والأوثان. ثم ذكر سبحانه من بعد ذلك أدلة الوحدانية وأن اللَّه تعالى هو المعبود وحده فقال عز من قائل:(10/5470)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
(أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة (آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ)، بالاستفهام، وهو نفي للمعادلة، وفي هذه الآية يوضح بطلان الموازنة بين خالق السماوات والأرض، والموازن معه محذوف مع تقديره في القول، وحذف استهانة به مع ذكر مدلوله في الجملة، والمقصود الأول التعريف بالذات العلية جل جلاله، والمعنى أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وأنزل لكم من السماء ماء خير أما تشركون، وذكرت النتيجة أإله مع اللَّه.
وأم في قوله أمن خلق السماوات منقطعة، فهي للإضراب الانتقالي، وهو يدل على التوبيخ والتبكيت، وفي قوله أم ما تشركون قراءة بالتاء وتكون للخطاب، وقراءة بالياء وتكون للغائب، والمعنى ظاهر في القراءتين، وهو آية أمن خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء. . . كأنها تكون تبكيتا صريحا، بعد أن كان في الآية السابقة تبكيتا ضمنا، وتصريح بسبب العبادة وموجب الإذعان والخضوع، ومَنْ مبتدأ، والإضراب الانتقالي فيه معنى الاستفهام، والمعنى ننتقل إلى أمر واضح: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وأنزل من السماء ماء، خير أم ما تعبدونهم. وجاء بجملة تحل محل نفس المساواة في المعادلة فقال أإله مع اللَّه.
وقال سبحانه: خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء، فيه تعميم لبيان أن خالق الوجود كله: السماوات والأرض وما فيها، ثم تخصيص النعم القريبة بالذكر، وهي التقاء السماء بما فيها والأرض بما فيها من خير للإنسان والحيوان. وتكلم عنها بالغيبة، لأن الإخبار، والإعلام به، وهو واضح بين؛ لأن الخلق، وإنزال الماء إلى الأرض، وهو من التزاوج بين السماء والأرض، ولكن عند(10/5470)
نبات الزرع والشجر، كان إسناد الإنبات إليه سبحانه، لكيلا يظن أحد أن ذلك الإنبات من الأخذ بالأسباب والمسببات، وأنه فعل طبائع الأشياء، وبين اللَّه تعالى أن ذلك الإنبات منه، وهو فوق الأسباب والمسببات، سبحانه بديع السماوات والأرض، والخالق لكل شيء على غير مثال سبق، وقال بعد ذلك سبحانه: أإله مع اللَّه، أي يتساوى الخالق والمخلوق بل أدنى مخلوق، واللَّه خير من أوثانهم، ودل على عدم التساوي بتوبيخهم على أن يجعلوا مع اللَّه إلها آخر، مع هذا التفارق، وأنه لَا يكون المخلوق كالخالق أبدا، ثم قال تعالى: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) أي يعدلون عن حكم العقل، وحكم المنطق، والطريق المستقيم، وكان التعبير بالمضارع لتصوير عدولهم عن الحق إلى الباطل، ومن العقل إلى الهوى، ألا ساء ما يقولون، وما يفعلون.
وقوله بالنسبة لإنبات الحدائق فيه إشارتان بيانيتان.
الأولى: أنه عبر بالإنبات للأشجار مع أنه في آيات أخريات كان يضيف الإنبات إلى الزرع ويعبر عن خلق الأشجار، بقوله تعالى: (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى)، وذكر الإنبات هنا بالنسبة للحدائق ذات الأشجار الوارفة الظلال؛ لبيان عظيم قدرته في أنه ينبت هذه الدوحات والأشجار العظام، ويتعهد من حال النبات، حتى يصير فيحاء ذات بهجة وزينة، ويسر الناظرين مرآها، ويسر الناظرين ثمرها اليانع، وقطوفها الدانية.
الثانية: هي قوله تعالى: (مَا كانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا) كان هي كان الناقصة، ونفيها معناها نفي الكينونة، أي ليس في وجود ولا كيان، أن لكم، أي في قدرتهم، أن تنبتوا شجرها، إنما ينبتها العزيز الرحيم، والخلاق العظيم.(10/5471)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
أم: للإضراب الانتقالي، ودالة على الاستفهام المتضمن معنى المعادلة والموازنة، بين اللَّه تعالى خالق الكون وما فيه ومن فيه، وأوثانهم التي يعبدونها.(10/5471)
وإن الإضراب الانتقالي مؤداه أنه انتقال من لوم وتوبيخ إلى لون آخر فيه أشد تأنيبا، وأبعد استنكارا وكلمة (جَعَلَ الْأَرْضَ)، أي خلق الأرض، ومهدها تمهيدا، بحيث جعلها ذات قرار وإقامة، واستمكانا للأحياء يمكنون فيها ويتخذون مساكن، من البناء أو الأخبية، وجعل من خلالها أنهارا أي في أوساطها وأجزاء منها أنهارا مياها عذبة تكون ذات مناظر بهيجة، وتلطف حرارتها، وترطبها، وتذهب بجفافها، وتكون منها المياه العذبة، منها إنبات الزرع وفلق الحب والنوى، والكلأ الذي يأكل منه الحيوان، وتتغذون به، وتكون منه إبلكم التي فيها جمال حتى تريحون، وحين تسرحون.
(وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ) أي جبالا رواسي ثابتة تثبت الأرض، وهي لها كالأوتاد، وتنحتون فيها بيوتا، ويكون فيها مزارع وأشجار ونخيل، بل غابات تحمي الأنفس، كما نرى في جبال الجزائر وجبال الشامات، وفيها جبال جرد وغرابيب سود، أي أن فيها متعة ومنعة، وقوة بأس.
وما في الأرض اجتماع المياه العذبة والمياه التي فيها ملح أجاج، وتجاورهما من غير أن يختلط أحدهما بالآخر، بل يكون العذب الفرات بجوار الملح الأجاج، ومع تجاورهما لَا يختلطان كأن بينهما بقدرة اللَّه القادر القهار، حاجزا يحجز أحدهما ذا الثقل وهو الملح عن الأخر الخفيف، ولذا قال تعالى: (وَجَعَلَ بَيْن الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا) أي جعل بين بحر العذب الفرات والبحر الأجاج حاجزا ربانيا لا يجعل أحدهما يختلط بالآخر، كما قال تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20).
هل يستوي خالق هذا، ومبدع الأرض ذلك الإبداع مع أوثان لَا تضر ولا تنفع، ولذا قال تعالى نافيا عنها الألوهية (أَإِلَهٌ معَ اللَّهِ) الاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع، والمعنى لَا إله مع اللَّه، بل هم قوم لَا يعلمون، ومن للإضراب الانتقال وهم لَا يعلمون، أي لَا علم لهم، ويتجدد جهلهم بتجدد أفعالهم، ولذلك كان التعبير بالمضارع الدال على التصوير، وتجدد الفعل بتجدد أفعالهم وإنكارهم.(10/5472)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
أم: أيضا للإضراب الانتقالي، وفيها معنى الاستفهام، والمضطر افتعال من الضرر، والافتعال دال على شدة الضرر، والمعنى من يقع في الضرر الملجئ للالتجاء إلى اللَّه تعالى ولا يجد منقذا للمستصرخ سواه. أمن يجيب المضطر إذا دعاه، ولجأ إليه ضارعا مستغيثا به داعيا له، وإذا دعاه كشف عنه الأمر الذي يسوءه (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ)، أي أنه ينعم عليكم بنعمتين أولاهما كشف الضر، والثانية يجعلكم الورثة لهذه الأرض ترثون سكانها وزرعها وثمارها، وسلطانها، فتكونون من المحكمين المسلطين فيها، وهذه نعمة عليكم إن شكرتموها، فقمتم في حقها بالعدل والقسطاس المستقيم، وهي نقمة اللَّه تعالى إن ظلمتم، وأفسدتم وأقمتم الباطل بدل الحق، أيكون من مكنكم ذلك التمكن خيرا، أم الأوثان، وقد دل على الحق بقوله سبحانه أإله مع اللَّه، أي لَا إله مع الله، ولكنكم لَا تتذكرون الحق، ولا تعتبرون، ولذا قال: (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) والتأكيد قلة التذكر، أي قليلا أي قلة تتذكرون وتعتبرون وتدركون فضل العقل على الهوى، والفكر على الإهمال.(10/5473)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
أم: أيضا للإضراب الانتقالي، ومن دالة على الاستفهام مع تضمن أمْ له، ومعنى الهداية في ظلمات البر والبحر أن النجوم المسخرة في السماء تكون هادية مرشدة في البر والبحر، ففي البرّ تهديكم وأنتم في مراكب الصحراء، التي تعد كسفن فيها، وفي البحر تهدي السفن الماخرة في عباب البحر الجارية على سطح الماء. قوله تعالى: (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)، أي أن اللَّه هو الذي يرسل الرياح من الشرق والغرب مبشرة بالماء الطاهر الذي يكون من المطر، الذي يخرج الخبء، وتبنت به النبات بإذن اللَّه تعالى، وإن ذلك كله بعمل اللَّه سبحانه(10/5473)
وتعالى، وإذا كان بخار الماء يتصاعد، ويعلو حتى يكون سحابة مملوءة بالماء، فيرسلها اللَّه تعالى إلى حيث أراد فذلك بفضله ونعمته على عباده، يرسلها من أرض إلى أرض، (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذي خَبُثَ لَا يخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا. .)، وقوله تعالى (بَيْنَ يدَيْ رَحْمَتِهِ)، مجاز مشهور، أي أن اللَّه تعالى يجعل تبشير الرياح بالماء مقدمة لرحمته مهيئة لها كما يهيئ من بين يديه الرحمة المتمكن منها، والتي في قبضته سبحانه وتعالى، وهو القابض الباسط، الرزاق ذو القوة المتين (أَإِلَهٌ معَ اللَّهِ) الاستفهام لإنكار الوقوع أي لَا إله مع اللَّه تعالى، (تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)، أي تقدست ذاته، وتعالى علوا كبيرا عما يشركون أي عن شركهم، فهم بهذا الشرك معتدون ظالمون، وإن الشرك لظلم عظيم.(10/5474)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
(أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
أم: للإضراب، ومَنْ للاستفهام، أي أن الإضراب انتقالي، انتقل من السؤال عن أصل خلق الكون وما اشتمل وما توالى عليه من نعم الماء، والإنبات وتصريف الرياح لتكون مبشرة بين يدي رحمته، بعد ذلك سألهم عن أصل خلقهم، وعن مآلهم، وهو أمر متعلق أشد التعلق، والمعنى من الذي خلقكم ابتداء، وجعل لكم أجلا مسمى، وتكفل برزقكم في الدنيا، وعبر سبحانه عن بدء الخلق بقوله (أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ)، مع أنه بدأه وخلقه في الماضي، فهو قد ذكر المضارع دون الماضي لأمرين: أولهما. تصوير البدء واستمراره، فالمضارع يدل على ذلك، والثاني أن البدء في الخلق مستمر فهو في الحاضر والقابل كما كان في الماضي، وقوله تعالى: (ثُمَّ يُعِيدُهُ) التعبير بـ (ثُمَّ) في موضعه؛ لأن بين الإعادة والبدء أعمار الناس، وليس ذلك زمنا قصيرا، وذكر البدء في هذا المقام إنذار لهم وتذكير، والحياة عابثة إذ لم يكن بها تذكير باليوم الآخر، وإنما مستمر، وسبحانه وتعالى يذكره دائما لكي لا ينسوه، وفيه إنذار لهم وتبشير.(10/5474)
وإنه مع أن البعث جاء لَا محالة تكفل سبحانه وتعالى، برزقهم في الفترة التي يعيشونها، فرحمة اللَّه سابغة دائما، ولذا قال تعالى: (وَمَن يرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) أي يرزقكم من السماء بنجومها المسخرات التي تهديكم في ظلمات البر والبحر، والشمس بأشعتها الواقية والهادية، والقمر بنوره الذي ينير لكم في جوف الليل البهيم، والمطر الذي ينزل من السحاب فنحيي الأرض، ويرزقكم من الأرض بمعدنها وأفلاذها، ونباتها، وحدائقها ذات البهجة والجمال.
لا يستوي اللَّه الخالق المبدع مع الأوثان، ثم قال تعالى: (أَإِلَهٌ معَ اللَّهِ) أي لا إله مع اللَّه، وقد انتقل القرآن من بيان ما يوجب عبادة اللَّه تعالى إلى مطالبتهم بأن يأتوا بدليل يسوغ عبادة الأوثان، آمرا نبيه بأن يطالبهم بدليل يسوغ حالهم التي هم فيها من عبادة غيره. (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتمْ صَادِقِينَ) البرهان هو الدليل العقلي المنطقى، أي هاتوا دليلا فعليا منطقيا يسوغ لكم عبادتها إن كنتم صادقين في استحقاقها للعبادة.
طالبهم القرآن الكريم بالبرهان العقلي، ولكنهم لَا يمكن أن يأتوا به، لأنه لا يمكن أن يكون ثمة دليل علمي منطقي يسوغ عبادة أحجار لَا تملك نفعا، ولا ضررا، وهي في ذاتها أقل في وجودها ممن يعبدونها، ولكنه ضلال الأوهام.(10/5475)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
(قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
علم الإنسان حسي حاضر غير مغيب، لأنه لم يؤت علم الغيب إلا اللَّه تعالى، ومن يشاء سبحانه أن يعطيه أحدا من عباده والعلم بالغيب هو العلم مما أكنه اللَّه تعالى في الوجود في قابل الأمور، لَا في ماضيها، فالماضي يعرف بالكتابة أو القراءة أو نحو ذلك، وقد أمر اللَّه تعالى نبيه بأن يبين لقومه أنه لَا يعلم الأمور الغيبية إلا اللَّه، فقال: (قُل)، أي يا رسولي: (لَّا يَعْلَمُ من فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)، و (مَن) هنا للعاقل، وإذا انتفى الغيب عن العقلاء فهو عن غيرهم أنفَى، والغيب مفعول به ومن هنا تشمل العقلاء جميعا من يكونون في(10/5475)
السماوات والأرض فيدخل في العموم الملائكة، والجن والإنس، والاستثناء متصل فهو ليس منقطعا، بمعنى لكن، وإن كان قد ادعى بعض المفسرين ذلك، وإن علم الإنسان في محيط وجوده وهو يحسب أن علمه هو ما يشعر به وحده ولا أحد غيره، حتى إن الأعمى، ما كان ليشعر بعلم المبصرين لولا تضافر الناس على نقص علمه، وكذلك الأصم، ولذا قال تعالى: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعثُونَ)، أي في أي وقت يبعثون، لَا يشعرون في أي وقت يبعثون، والشعور علم يقارب الحس المتلمس، أي ما يحسون في أي وقت يبعثون، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. .). وإنه يستفاد من هذا أن علم الغيب هو العلم بما يقع في المستقبل لَا بما هو واقع في الماضي أو الحاضر.
يروى في ذلك أنه دخل على الحجاج بن يوسف الثقفي منجم فاعتقله، فأخذ حصوات فعدها، ثم قال: كم في يدي من حصاة، فحسب المنجم، ثم قال: كذا، فأصاب، ثم اعتقله فأخذ حصوات لم يعدهن ثم قال: كم في يدي، فحسب وأخطأ، ثم قال أيها الأمير أظنك لَا تعرف عددها، وقال: لَا، قال فإني لا أجيد العد. قال فما الفرق؛ قال إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب، وهذا لم تحصه فهو غيب، ولا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا اللَّه.
ولقد أخرج مسلم عن عائشة أنها قالت: " من زعم أن محمدا يعلم ما في غد، فقد أعظم الفرية على اللَّه تعالى، يقول (قُل لَا يَعْلَمُ مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ) ".(10/5476)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
فيها عدة قراءات في لفظ (ادَّارَكَ) فقرئت من غير مد (أدَّرك) وقرئت (أدرك)، وكلها قراءات يتقارب معناها، ولا يتباعد، ولنا أن (ادَّارَكَ) أصلها تدارك قلبت التاء دالا وأدغمت الدال في الدال وأتى بهمزة الوصل ليمكن الابتداء بالساكن، ومعنى ادارك تلاحق وتضافر العلم، ولنا فيها تخريجان، وكلاهما معقول:(10/5476)
أولهما أن تلاحق العلم في الدنيا، فقد تلاحقت الأدلة على إمكان البعث، والحياة في الآخرة مثل قوله تعالى (. . كمَا بَدَأَكمْ تَعودُونَ)، وِقوله تعالى: (. . مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ. .)، وقوله تعالي: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. .).
وهكذا كثير من الآيات الكريمات التي تبين قرب العودة، وأنها غير مستحيلة، بل إنها واجبة؛ لأن اللَّه ما خلقِ الإنسانية عبثا، كما قال تعالى: (أَفَحَسِبْتمْ أَنَّمَا خَلَقاكمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجعونَ)، إنها واجبة.
التخريج الثاني أن يكون ذلك العلم المتدارك المتلاحق في الآخرة، إذ يكون الحس بالبعث، ويكون الحساب والثواب والعقاب، وتشهد عليهم ألسنتهم وسائر جوارحهم، ويكون العلم اليقيني في الآخرة، ويرشح لهذا قوله تعالى في الآخرة لأنه يفيد أن ذلك التلاحق العلمي في الآخرة.
وبل: للإضراب الانتقالي، وهو الانتقال من موضوع إلى موضوع، أو الانتقال من عدم الشعور بالبعث إلى العلم به علم يقين، وبل الثانية للإضراب الانتقال، وهو الانتقال من العلم المتلاحق الذي سيكون الآن أو من الآن إلا أنهم في حال شك من الإيمان، لَا اليقين، ولذا قال تعالى: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ منْهَا)، أي أنه مع هذا العلم المتوافر المثبت لليقين بالبعث كانوا في شك منه، وقد أكد سبحانه الشك في قوله: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ منْهَا) وكان التوكيد بـ بل المفيدة للإضراب، وبالضمير، وبأن الشك أحاط بهم كما تحيط الدائرة بقطرها، فهم سيغرقون فيه لَا يخرجون عنه، ولا يتركونه إلى يقين أيضا، والضمير يعود إلى الآخرة التي يرتابون فيها (بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُون) جمع عم أي أنهم عمي عن الآخرة، أي أنها واقعة لَا ريب، ولكنهم عمون عن حقائقها، وما يكون فيها، فالحقائق ثابتة بأدلتها السمعية والنقلية، ولكنهم عمون عنها غافلون، وليس العيب في حقائق يوم القيامة، إنما العيب في عماهم عنها.
وتقدم الجار والمجرور لمعنى الاختصاص، أي أنهم عمون عن الحياة الآخرة وليسوا عمين عن غيرها، وهي أعراض الدنيا، وما فيها من لهو ولعب، وملاذ، وشهوات، وأكد الحكم بالإضراب وبالضمير، وبالجملة الاسمية.
* * *(10/5477)
أقوال الكفار المنكرين
قال تعالى:
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
* * *
بعد أن بين حقيقة البعث، وأن الأدلة قائمة عليه، وأن العقل يثبت إمكانه والنقل يثبت وجوده، ذكر سبحانه وتعالى قول الذين كفروا فيه، فقال:(10/5478)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67)
(وَقَالَ الَّذِين كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ) يذكرون في تفكير الحسي الذي يؤمنون فيه بالمادة وحدها مانعين حسيين في زعمهم الباطل، والمانع الأول هو الموت، وهو في زعمهم مانع حسي كيف يعود الميت حيا، وهم لم يألفوه، ولم يروه فهو وحده كاف للمنع، وقد أضيف المانع الثاني، وهو أنهم يصيرون ترابا، وكان هنا بمعنى صار، وكنا ترابا أي صرنا ترابا، وتحللت الأجزاء الحية من أجسامنا، وأبعدت عنا الحياة بحقيقتها ومظاهرها، كيف تبصر بعد ذلك أن نحيا(10/5478)
بعد أن ندفن، ولذا قال تعالى عنهم: (أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ)، أي أننا نخرج من القبور، بعد أن دفنا فيها، وصرنا في ضمن أجزائها، ولا منفصل عنها، فكيف يتميز خلقنا عن خلقها، وقد أكدوا عدم الخروج بتكرار الاستفهام، كأنه في ذاته أمر غريب، وزكوا الاستفهام المانع باللام والوصف، أي أنكون مخرجين حقا وصدقا، وخروجا مؤكدا.
وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) كان الإظهار في موضع الإضمار، فلم يقل وقالوا؛ وذلك لأن الصلة وهي الجحود والكفر هما الإنكار، واستغراق المادة لهم، حتى إنهم لَا يفكرون قط في أمر معنوي، ولا أمر غيبي فقد استغرقتهم المادة حتى صاروا لَا يؤمنون إلا بها.(10/5479)
لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
(لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68)
هذه الآية تدل على أن المشركين في مكة كانت عندهم بقايا من الديانات، وخصوصا ملة إبراهيم، ولكن نفوسهم مرنت على الإنكار واستمرأت الجحود، واستغرقتهم المادة، فلا يؤمنون إلا بما يوائمها ويوافقها، وذلك بقولهم (لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِن قَبْلُ)، أي قبل أن يجيء محمد، وأكد الوعد باللام، وبـ قد، وينتقلون من الإنكار المطلق إلى ادعاء كذب هذا الوعد، وكان من أبيهم مكان شرفهم الذي يعتزون، به ويقولون (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (إنْ) نافية، والمعنى ما هذا إلا أساطير الأولين اكتتبها، فهي تملى عليه بكرة وأصيلا.
وهكذا يشتطون في القول حتى ليصلوا إلى اتهام إبراهيم مناط شرفهم وعزتهم بأنه يأتي بأساطير. بقي أن يذكرهم سبحانه بما نزل بمن كانوا على إنكارهم فقال عز من قائل:(10/5479)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أمر للتذكير بالعذاب الذي نزل بإخوانهم، وقريب منهم آثار عاد وثمود وأصحاب الأيكة، وقوم لوط وغيرهم.(10/5479)
والسير في أراضي هؤلاء للاعتبار والعظة، والعلم بما أنزله اللَّه تعالى بهم، ولذا قال تعالى: (فَانظُرُوا) نظرات عظة واعتبار ومعرفة بأنه سينزل بهم مثل ما نزل بهؤلاء لأنه إذا تساوت الأسباب فالنتيجة واحدة.
وقوله (فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)، الفاء: عاطفة للترتيب والتعقيب أي أن نتيجة السير أن تنظر نظرات اعتبار إلى عاقبة المجرمين، وما آل إليه أمرهم بعد أن طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، وعبر بالمجرمين لبيان آثار إجرامهم في الأرض ونهايته، ولبيان أن المؤمنين مهما يكونون ضعفاء لَا يمكن أن يكونوا مجرمين.(10/5480)
وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
(وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
إذا كانوا يسيرون في الأرض ليريهم عاقبة المجرمين فذلك إعلام لهم بأنهم مثلهم وسينزل بهم مثل ما نزل بغيرهم، ولأنهم ضالون مثلهم، ولا شك أن ذلك يحزن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قال تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)؛ ولذا نهى النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ هم قومه وعشراؤه، إذ قال تعالى: (ولا تحزن عليهم) قيل أي لَا تحزن، على كونهم، وإني أرى أن الحزن عليهم هم لأنهم قومه، وقد قال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128).
(وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) الضيق الحرج الشديد، ومما يمكرون أي يدبر التدبير الخبيث من إيذاء المؤمنين والاستهزاء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتدبير المكائد من مثل مقاطعتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعزل المؤمنين الموالين لمحمد صلى اللَّه تعالى عليه وسلم في شِعْب قريش ونحو ذلك، وهذا كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. .).
إن اللَّه عاصمك مهما تمالئوا عليك.
(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)(10/5480)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71)
الضمير يعود إلى الكفار وهو يدل على تعنتهم، وإعناتهم لأنفسهم، ويتحدون اللَّه ورسوله، أن ينزلوا بهم ما وعدهم من عذاب ويستفهمون قائلين، متى هذا الوعد؛ والاستفهام لَا يخلو من استنكار وتهكم على الوعد، إن كنتم صادقين في إيعادكم، وشككوا في صدقهم ولذا كان التعليق بـ إن التي لَا تدل على تحقق الشرط، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرجو الإيمان من أصلابهم، ومن غير العقول أن ينزل اللَّه بهم عذابا دنيويا ساحقا، والنبي بينهم، كما قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأَنتَ فِيهِمْ. .).
وقد ذكر سبحانه أنه سينالهم عذاب شديد، ليس من قبيل السحق والإبادة، بل يكون من قبيل المنازلة، ولذا قال سبحانه:(10/5481)
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
(قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
أي قل لهم يا محمد: لَا تستعجلوا العذاب، وعسى أن يكون ردف لكم، أي دنا منكم، وصار ردفا لكم قريبا منكم بعض الذي تسعجلون. وذكر بعض الذي يستعجلونه دون العذاب الساحق الماحق، كما كان لعاد وثمود وأصحاب الأيكة؛ لأن اللَّه تعالى يتولى تأديبهم في الحياة الدنيا، بالغزوات المؤدبة لهم كغزوة بدر، والخندق، والحديبية وفتح مكة، لأنه سبحانه يريد أن يجعل من ذريتهم من يعبد اللَّه ويجاهد في سبيله كما كان خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل وغيرهما.
والتعبير بـ عسى، ولعل، ونحو ذلك من العبارات يراد به توكيد الوقوع كما تجري عبارات الرؤساء والأقوياء، وأهل السلطان، وقد بين سبحانه أن نزول بعض ما تستعجلون من فضله ورحمته، فقال:(10/5481)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73)
أي أن نزول بعض ما يستعجلون هو من فضل اللَّه على الناس من المشركين من أهل مكة، ورحمة بهم ليكون في لاحقهم إن تعذر أن يكون في بعض حاضرهم، ولكن أكثر الناس لَا يشكرون تلك النعمة المزجاة إليهم، ولا يعرفون حقها، واللَّه من ورائهم محيط
(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)(10/5481)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74)
أكد سبحانه علم الله وفضله في هذه الآية الكريمة كما أكد فضله في الآية السابقة بـ إن وبالتعبير بربك القائم عليك بفضل الربوبية واللام فيها، فإنها تؤكد موضعها فضل توكيد. (مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) هو ما أكنوه من أسرار يخفونها ولا يبدونها، ومن تدبر وفكر، واتجاه إلى المكر السيئ، (وَمَا يُعْلِنُونَ) من عداوة صريحة واستهزاء بالمؤمنين، وصد عن سبيل الله وهذا تهديد لهم بأن الله تعالى محاسبهم عليه، وإن ربك بالمرصاد لهم.
* * *(10/5482)