أمام الناظرين، والوصيد هو فناء الكهف، أو عتبته، أو على مقربة منه، وهذا الكلب يقال إنه كليب صيد لهم فكان مثلهم، ولقد كان ما يقرب من الكرام يكرم مثلهم، فكرم كما كرموا.
(لَوِ اطَلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا) هذه مظاهرهم، ولوِ اطلعت أيها المخاطب المعرف بأمرهم، وفحصت حالهم (لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا)، أي لآثار الاستغراب في نفسك ما يبعدك عن أحياء ليس فيهم مظاهر الحياة بل فيهم رهبة وهيبة، وما يثير العجب لأنه غير مألوف أن ترى أشخاصا يمكثون مئين من السنين على حال لَا هي حياة فيها كل مظاهر الحياة من حركة وكلام، ولكنك لَا ترى إلا سكونا، ومظاهر الحياة موجودة من عيون يقظة هذه تجعل الناظرين يجعلهم يحسبون أنهم ليسوا أمواتا ولا أحياء وما لَا يألفه الإنسان يفر منه فرارا، والخلاصة أنهم لو علموا حالهم، واطلعوا على أمورهم لولوا هاربين فارين منهم يحسبون أنهم ليسوا أناسِيَّ.
(وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا) والخطاب للقارئ أو السامع بأخبارهم المعرَّف لأحوالهم، هذه حالهم التي لبثوا عليها حتى بعثهم اللَّه تعالى، ولنقرأ خبر بعثهم، قال تعالى:(9/4507)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
إن اللَّه تعالى ضرب على آذانهم فلم يسمعوا، وربط على قلوبهم عندما خاطبوا جبار عصرهم، وحماهم من البلى سنين تجاوزت ثلاثمائة أو يزيد، كما جعلهم كذلك أحياء وإن كانوا من غير حركة إلا أن يتقلبوا يمينا وشمالا حفظا لأجسامهم، كما منَّ عليهم بكل ذلك وبعثهم من رقودهم، أو كما ظهرت آياته في كل هذا بعثهم من رقودهم فهي آيات تتراءى آية بعد آية، والبعث ليس هو البعث من موت، إنما هو اليقظة من منام، وإن طال أمدا، ويقول سبحانه:(9/4507)
(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ) يجوز أن تكون اللام للتعليل، أي أننا بعثناهم لكي يتساءلوا بينهم، وليتناقشوا في مدة لبثهم، فما كانوا ليتساءلوا لو استمروا في رقودهم، وقد ضربنا على آذانهم، ولكن الأولى ما قاله الأكثرون من المفسرين أن اللام لام العاقبة كاللام في قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. . .)، فالمعنى بعثناهم لتكون العاقبة أن يتساءلوا فيما بينهم عن المدة التي لبثوها، (قَالَ قَائِلٌ منْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ)، كم من الزمن لبثتم، لقد قالت الأخبار التي لَا وجه للظن فيها أنهم ناموا غدوة يوم، وصحوا في عشية يوم آخر عندما كانت إرادة اللَّه تعالى أن يستيقظوا، (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، إذا لم يحسب الليل يكون نهارا، وقد يعد يوما، وإن حسب الليل يكون بعض يوم، ونسب هذا القول إلى كلهم، فقال: (قَالُوا)، ويظهر أنه قاله بعضهم، ورضيه كلهم ظنا منهم، ولكن الريب كان يحيط بهم فاختاروا التفويض لعلم اللَّه تعالى بدل الجزم بقول، ويظهر أن حسهم قد جعلهم يرون تغييرا فيما يحيط بهم، أو أن حرص المؤمن بقدرة اللَّه تعالى جعلهم يعتقدون أن التفويض أولى؛ ولذا قالوا: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتمْ) فوضوا أمر علم الزمن إلى اللَّه تعالى، واللَّه قادر على كل شيء ولكنهم أحسوا بالجوع، بعد هذا اللبث الذي يحتمل أن يكون طويلا، واللَّه به عليم.
ونسب القول إليهم جميعا، ويظهر أن بعضهم قاله ووافق عليه الجميع؛ لأنهم كانوا غير جازمين بزمن معين، والتسليم في هذه الحال أحوط وأسلم، وأشد إيمانا وتثبيتا، وقد أرادوا أن يتركوا الخوض فيما لَا علم لهم به، وأن يشغلوا بأنفسهم، فقال تعالى عنهم قالوا: (فَابْعَثُوا أَحَدَكم بِورِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) اجتمعوا على أن يسدوا غلة الجوع، والورق هي الفضة، والمراد النقود المسكوكة منها، و (الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إن كنتم لَا تعلمون كم لبثتم، فاشغلوا أنفسكم بأنفسكم، واطلبوا غذاء لكم.(9/4508)
هذه صلة بعث أحدهم بالورق بالمدة التي لبثوها وتناقشوا حولها، وقال بعض المفسرين: إن بعث أحدهم بالورق له صلة بالأمر الذي كانوا يناقشون فيه، إذ كان سبيلا لفحص مدة الزمان وموقته عن طريق النقود المضروب عليها صورة الملك الذي ضربت في عهده، بدليل الفاء التي تفيد ترتب ما بعدها على ما قبلها، وعلى هذا الرأي لَا تكون الفاء للإفصاح، إنما تكون لمعنى السببية.
بعثوا أحدهم ليبحث لهم عن غذاء يشتريه بهذا الورق الذي أعطوه ولينظر في غذاء طيب أزكى وأنمى لهم؛ ولذا قال تعالى: (فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)، أي ليتخير ما هو أزكى نماء وأطيب طعاما، والفاء عاطفة، وكذلك الفاء في قوله تعالى: (فَلْيَأتكُم بِرِزْقٍ مِّنْه) والرزق القدر الذي يتبلغون به أو يكفيهم، وقوله تعالى: (أَيُّهَا) الإشارة إلى المدينة، والمعنى أي شيء في المدينة (أَزْكَى طَعَامًا)، وأكثر مواد زكية نامية.
وإنه يتعرف أطيب الأطعمة، ويأتي بمقدار منها، يكون فيه سد الرمق، ويكون طيبا، (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا)، أي ليجتهد في أن يتلطف في القول، ولا يغلظ في المساومة حتى لَا تعرفوا، أو تفضحوا؛ ولذا قالوا: (وَلا يُشعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا)، أي لَا يأتي عملا من شأنه أن يجعلهم يشعرون بكم وقد فررتم خيفة من طغيانهم.
وقد عللوا عدم شعور أحد بهم بقولهم:(9/4509)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
هذه الجملة السامية مفصولة في البيان عن السابقة؛ لأنها في مقام التعليل، والتعليل بين جملتين من أسباب الفصل البياني بينهما، وإلا فهما منفصلتان في المعنى، إذ العلة متصلة بالمعلول، (إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ)، أي يطلعوا عليكم مستظهرين عليكم مستعلين بما معهم من قوة الحاكم الغاشم وجند وغيرهم،(9/4509)
(يَرْجُمُوكُمْ)، أي يقتلوكم بالحجارة، وهي أشد أنواع القتل، وأقساها، (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) في وثنيتهم، و (أَوْ) هنا في معنى (إلا)، أي يرجموكم، ولن ينجيكم من الرجم إلا أن تعودوا طوعا أو كرها إلى الوثنية التي فررتم منها فرار السليم من الجرب، وفي هذه الحال تكون الخسارة الدائمة إلى يوم القيامة، وقد قالوا في ذلك: (وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا)، و (لَن) للنفي المؤكد، ويقول الزمخشري للنفي المؤبد: ومهما يكن معنى (لَن) فإن النفي مؤبد بقوله تعالى: (أَبَدًا) وفي التعبير بـ (إِذًا) أي أن عدم الفوز سبب عن عودتكم في ملتهم، فهو حرمان اقترن به سببه، بعثهم اللَّه تعالى بأن أيقظهم منه كما يبعث الموتى وإن لم يموتوا، وقد تعوفوا العصر الذي بعثوا فيه.
* * *
أعثر الله عليهم وعددهم
قال اللَّه تعالى:
(وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
* * *(9/4510)
بعثهم اللَّه تعالى من منامهم، وما كان يعلم أحد برقودهم، ولا ببعثهم حتى عثروا عليهم فعلموا ما كان منهم وما آل إليه أمرهم، فلما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة يلتمس لهم طعاما هو أزكى وأطيب وأنمى لهم، وعرضوا ورقهم ويظهر أنه كان نقدا مضروبا على اسم ملك يومئ إلى العهد الذي أووا فيه إلى الكهف، وضرب اللَّه على آذانهم بعد أن ربط على قلوبهم أمام جبروت الطاغوت الذي كان يضطهد أتباع عيسى في عهدهم، فلما اطلع الناس على هذا الورق فيقال إنه أُخذ إلى الملك، ويقولون إن الملك كان نصرانيا مسيحيا يؤمن بالوحدانية، وبأن عيسى عبد اللَّه ورسوله، وكانت أخبار فتية الكهف كما يبدو تتوارث في الأوساط النصرانية المسيحية الموحدة، لأن أخبار اضطهاد الملوك والمضطهدين تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل، وإن أخبار أهل الكهف معروفة في الأوساط النصرانية على أنها أخبار لشهداء وصديقين، وقد رأينا ذلك في كتاب الكنز الثمين، ويقال إن الملك ذهب مع أحدهم الذي كان يشتري لهم الطعام، فأخذه إلى الكهف وذهب إلى الذين كانوا معه ولكنه لم يدخله بينهم.
بهذه الطريقة أعثر اللَّه تعالى عليهم، أي أطلعهم عفوا من غير قصد للاطلاع، ذلك أن أحدهم هو الذي عرفهم مصادفة بما معه من نقود تدل على تاريخها، والتاريخ النصراني العام عرفهم بأمرهم. قال تعالى:(9/4511)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
(وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
وقوله تعالى: (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا)، أي أن الإعثار عليهم بعد أن غيبوا وبعثوا ليعلموا بهذه الأدوار أمرين:
الأمر الأول - أن وعد اللَّه تعالى بالبعث والنشور، وأن الناس ينامون كما يموتون وأنهم يبعثون كما يستيقظون، وأنهم للجنة أبدا، أو للنار - أبدا - هو وعد حق.(9/4511)
الأمر الثاني - أن الناس لم يخلقوا سدى، وأن الساعة وهي القيامة آتية لا ريب فيها، فلا يرتاب فيها مرتاب يدرك الحياة وغايتها ونهايتها.
ويظهر أنهم لم يعيشوا طويلا، بعد أن أعثر عليهم، بل ماتوا ولم يضرب على آذانهم فقط، وأنهم من بعدهم تنازعوا في أمرهم، ماذا يصنعون لهم تكريما لشأنهم، وثباتهم في الحق والبلاء.
ولذا قال: (إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ)، (إِذْ) ظرف زمان للماضي متعلق في الظاهر بقوله تعالى: (أَعْثَرْنَا)، أي أن النزاع في أمرهم يبنون عليهم بنيانا أو مسجدا، إنما كان في وقت العثور، وهذا يدل على أنهم لم يعيشوا إلا بقدر بعثهم والعثؤر عليهم ليكونوا حجة قائمة شاهدة حسية بعلمه، وماتوا فور هذا؛ ولذا كان زمن العثور هو زمن التنازع في أمرهم مما يدل على اتحادهما أو على قربهما قربا يشبه الوحدة الزمنية.
والتنازع هنا هو الاختلاف الذي يتضمن تعصب كل صاحب رأي لرأيه، حتى وصل إلى درجة التنازع، وقد اتفق الطرفان المتنازعان على ضرورة تكريمهم بإظهار علامة تشير إلى مكانهم ليكون ذلك حافزا على الثبات في اليقين والفداء للدين، فالتكريم كان لمعنى الصبر في البلاء مع قلتهم، فإنه كلما قل النصير كان الجهاد والصبر والبلاء المبين.
تنازعوا أمرهم علِى جانبين، فريق رأى أن يكون بنيانا يقام على قبورهم، (فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بنْيَانًا) كقاب أو نحو ذلك من الأبنية المعلمة، وإذا كانوا قد تنازعوا في تكريمهم فهم ليسوا بأعلم بأمرهم من اللَّه الذي حفظ أجسامهم فيها الحياة مع السكون على مر العصور، ويظهر أن الذين اتجهوا إلى بقاء ذكرهم بالبناء كانوا ممن يتأثرون بالرومان في تخليد موتاهم بالبنيان والأحجار؛ ولذلك اعترض القرآن الكريم على كلامهم بجملة معترضة، فقال عز من قائل: (رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ)، أي أن ربهم الذي خلقهم ورباهم على التقوى والإيمان وأفرغ في قلوبهم الصبر أعلم بأمرهم من هؤلاء الذين يريدون أن يبنوا عليهم بنيانا فهو وحده العليم بما هو خليق، وليسوا يكرمون بالبنيان إنما يكرمون بالجزاء الأوفى في الآخرة.(9/4512)
(قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا)، الضمير في (أَمْرِهِمْ) يعود إلى المتنازعين، أي أن المتنازعين غلبوا على أمرهم، أن يبنوا مسجدا، وأكدوا بناء المسجد فقالوا: (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا)، أي فوق الأرض التي دفنوا فيها وأكدوا اتخاذ المسجد بلام القسم، وبالقسم، وبنون التوكيد الثقيلة، أي أنه رأى انتهوا إليه وجزموا به، وحسم النزاع عنده، واتخاذ المسجد منهي عنه إذا اتخذوا قبر النبي أو الرجل الصالح وثنا يعبد، أما إذا كان مجرد مكان للسجود، وإقامة الصلاة فذلك لَا يوجد فيه نهي قاطع.
وما عددهم؟. . قال اللَّه تعالى في عددهم:(9/4513)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
(سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
من هم الذين سيقولون عن عددهم أنه ثلاثة أو خمسة أو سبعة، قالوا إنهم النصارى الذين يعرفون أخبارا من أخبار أهل الكهف، ونستبعد ما قالوه من أن اليهود قالوا أو لم يقولوا لأنهم كانوا بعد التوراة وهم لَا يعترفون بأهل الإنجيل، والنصارى الذين كانوا معروفين عند العرب اليعقوبيين، والنساطرة، فقالوا: إن اليعقوبيين قالوا: ثلاثة رابعهم كلبهم، وقالوا: إن النسطوريين قالوا: خمسة سادسهم كلبهم، وتطرح نسبة القول إلى هؤلاء أو هؤلاء، ولكن نقول إن القول قيل من هؤلاء أو هؤلاء أو غيرهم، وقد وصف القولين ثلاثة وخمسة بأنه رجم بالغيب، أي ظن في أمر مغيب عنهم لَا يعرفون له مصدرا ولا علما، وقد شبهت حال من يقول بغير علم بحال من يرمي سهما أو حجرا في ضلال من غير هدفٍ مقصود ولا غاية منشودة، (وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم)، ويلاحظ عند ذكر السبعة ثلاثة أمور:
الأمر الأول - أنه لم يذكر السين، فلم يقل وسيقولون سبعة، وحذفت السين اكتفاء بذكرها في الأمرين السابقين، أو لعدم التخمين والحدس فيها، ولأن(9/4513)
القول فيها لم يكن كالقول في الأمرين السابقين، بل كان أقرب إلى الصدق، وإن لم يكن قطعا.
الأمر الثاني - أنه لم يذكر فيه أنه رجم بالغيب، بل هو نوع آخر، ربما كان أقرب إلى الصدق، أو على الأقل ليس فيه قطع بالكذب، ولا بالظن، وما دام لم يحكم بأنه رجم بالغيب، فاحتمال أن يكون له أساس قائم.
الأمر الثالث - أنه لم يذكر الواو في الأمرين الأولين فكان النص (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ)، فكان ذكر الكلب على أنه في العدد وصف، فهو ليس منفصلا عنهم في العدد، أما في السبعة، فقد ذكر مغايرا لهم؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، وعبارات القرآن فيها الدقة والإحكام وأن تكون حروفه وكلماته كل في موضعه قد كان لغاية مؤداة ولم يكن عبثا.
وقد استنبط من هذا بعض المفسرين أن العدد الصادق هو سبعة، ونسب ذلك الرأي لعبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه عنهما الذي كان يقال عنه إنه ترجمان القرآن فقد روي عنه، وهو العربي القرشى الهاشمى أنه قال: حين وقعت الواٍ وانتهت المدة، ولأنه في العددين السابقين كان الاقتران بقوله تعالى: (رَجْما بِالْغَيْبِ) فاستأنس بذلك المفسرون وإن قول ابن عباس لَا يجوز أن يهمل في هذا؛ لأنه ليس كغيره من الأقوال إذ هو قول صحابي، وقول الصحابي إذا كان في أمر لا يُعلم بالاجتهاد المجرد فيحتمل على أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون كالمرفوع تماما، وإن الأمر في هذا ليس للاجتهاد فيه موضع فيحتمل على أنه مرفوع.
وإنه قد جاء في كتاب " طبقات شهداء المسيحيين " أن عدتهم سبعة، ونذكر ذلك لَا لتقوية ما نقل عن ابن عباس، أو تزكيته ولكن لأنه عندهم؛ لأن علم النصارى الذين ثلثوا ليس علما متواترا، وليس له سند صحيح يعد ثقة من كل الوجوه، فضلا عن أن يكون متواترا كما ادعى بعض المفسرين في السنين الأخيرة، وأقرب الظن أنهم نقلوه من كتاب المسلمين، فبضاعتنا ردت إلينا، ويقول سبحانه آمرًا نبيه: (قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم)، أي قل يا رسولي لَا تخوضوا في هذا خوض(9/4514)
المستيقن المذعن، فاللَّه سبحانه وتعالى وحده هو الذي يعلم عدتهم بعد مرور هذه القرون على بعثهم من الكهف، وموتهم الموتة الأخيرة التي يكون بعدها البعث والقيامة، والجزاء، (مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)، أي مما كانت حالهم يعلمها عدد كبير تتناقله الأجيال تناقل جمع عن جمع حتى يبلغ حد التواتر المقطوع به، بل كانوا وجهادهم الأول عددا قليلا، وفي انبعاثهم لم يعلمهم إلا عدد قليل؛ الملك ومن يحيط به من حاشية، إن كان الملك قد علم، أو من تولوا إقامة المسجد حول قبورهم.
وإذا كان الذين تحملوا العلم بأمورهم عددا قليلا (فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا)، " الفاء " للإفصاح كما رأيت؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، المراء المجادلة برد ما يقول الخصم، والمراء منهي عنه لأنه يجر إلى قول الباطل ومجاراة الخصم، وكل مراء يجعل كل متكلم متعصبا لَا يقول؛ لأنه يستمسك برؤيته هو من غير التفات إلى رؤية غيره، وقد تكون هي الحق، فهو عماية عن النظر الكامل بمعرفة الأمر من كل وجوهه ولكن استثنى المراء الظاهر، وأميل إلى أنه استثناء منقطع، ولكن سمي مراء من قبيل المشاكلة اللفظية، ومعنى المراء الظاهر ألا يحاول تعرف مقدمات قوله، أو الأدلة عليه؛ لأن أسباب العلم غير متوافرة، فليكتف بما ذكر القرآن وهو الصادق الذي لَا ريب (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهمْ أَحَدًا)، الضمير في (مِّنْهُمْ) يعود على ما يعود إليه الضمير في قوله تعالى: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ. . .) والظاهر أنهم أهل الكتاب من نصارى نجران، وغيرهم من أهل الإنجيل.
والاستفتاء معرفة الفتوى، أو الحكم، أو القول الصادق، أي لَا تحاول معرفة أحوال أهل الكهف من هؤلاء النصارى الذين يعاصرونك؛ لأنه بعد أن حرفوا ما حرفوا، صارت أخبارهم غير موثوق بها.
وإن أحوال أهل الكهف، وأخبارهم من شأنها أن تربى الإيمان في قلوب المؤمنين؛ ولذا ناسب هذا أن يأمر اللَّه تعالى بالتفويض، وأن يعلم المؤمن أن الأمور لا تسير إلا بإرادة اللَّه تعالى ومشيئته، وأن يذكر اللَّه دائما فقال تعالى:(9/4515)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)
(وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
هذا تأديب من اللَّه تعالى، ولكيلا يفتات إنسان على اللَّه تعالى فيتوَّهم أنه قادر مسيطر على ما يفعل، وأنه يفعل ما يريد شاءه أو لم يشأه سبحانه، وهو المالك لكل شيء الذي يشاء ويختار وحده، ولا خيرة لغيرِه في أمر خيرة مطلقة، إنما هي مقيدة دائما في حدود ما يشاء اللَّه سبحانه قال: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) النهي موجه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وموجه من بعده للمؤمنين بالأولى، لأن النهي له نهي لغيره، ولأن النهي له حيث لَا يترقب منه الافتيات على اللَّه يكون نهيا لغيره بالأولى، إذ النهي عن أمر مترقب الوقوع يكون أقوى من النهي غير المتوقع، وقد أكد سبحانه النهي بنون التوكيد الثقيلة، والنهي عن القول أي الاعتزام على العمل من غير تفويض، والإصرار من غير تعليق على مشيئة اللَّه.
وذكر الغد للإشارة إلى الإصرار، لأن تعيين الزمان دليل على العزم والإصرار، فإن الغيب في علم اللَّه وقدرته، وقد يكون فيه ما لَا يمكن معه العمل، وليست إرادة اللَّه في إرادته إنما إرادته هو في إرادة اللَّه تعالى، فما لَا يريده اللَّه لَا يقع أبدا، ولذا كان لَا بد من تعليق التنفيذ على مشيئة اللَّه تعالى والتوكل عليه، ولذلك كان الاستثناء(9/4516)
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
(إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ... (24)
(أن) وما بعدها مصدر منسبك، وهو في موضع الجر بالباء، وتحذف كثيرا قبل المصدر المنسبك منها ومما بعدها، ويكون التخريج على ذلك، ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا بمشيئة اللَّه بأن تقول معلقا عزمتك على قولك إن شاء اللَّه.
وهنا أمران بيانيان:
الأمر الأول - أن اللام في قوله تعالى: (لِشَيْءٍ) معناها لعمل شيء وبعض المفسرين قال إن (اللام) بمعنى في.(9/4516)
الأمر الثاني - أن قوله تعالىْ (إِلَّا أَن يَشَاءَ) ذكر الفعل المستقبل دون الماضي للإشارة إلى أنه متعلق بالمستقبل، والمستقبل بيد اللَّه وحده وهو علام الغيوب فلا يعلم ما سيكون إنما يعلمه علام الغيوب.
وإن المؤمن يجب أن يكون ذاكرا للَّه دائما، لتستقيم حياته، ويستقيم أمره مع الناس ويكون مصدر نفع وخير لهم دائما، ولذا قال عز من قائل: (وَاذْكُرْ رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)، أي اجعل ذكر اللَّه تعالى ملء قلبك دائما، فلا تغفل عن ذكره، فإن بذكره تطمئن القلوب به، وتطب من أدوائها، ومن كان اللَّه تعالى في نفسه لا يغيب عنه لَا يضل ولا يشقى، وإذا غاب عنك أمر أو لم تتمكن من شيء فعسى أن يكون المغيب خيرا مما فات، وعسى أن المدخر له أغنى وأقنى؛ ولذا قال تعالى: (وَقلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا)، (الواو) عاطفة (قلْ) على (وَلا تَقُولَنَّ) فهو عطف الأمر على النهي، أي أنه نهاه سبحانه عن أن يعزم الأمر غدا، بل يعلقه على مشيئة اللَّه تعالى مفوضا إليه سبحانه راجيا الخير، متوقعا له، ويقوله في إرادته ورغبته.
واستثناؤه بالمشيئة رجاء أن يجعل اللَّه خيرا منه إذا فاته، فالأمور كلها بإرادته سبحانه ومشيئته العليا، ولن يكون شيء في الوجود إلا بمشيئته، فمعنى (وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي. . .) املأ نفسك رجاء بأن يحقق لك أمرا خيرا مما كنت اعتزمته من ناحيتين:
الناحية الأولى - أنه يكون أقرب منالا، وأسهل تحصيلا.
الناحية الثانية - أنه يكون خيرا رشدا وعاقبة، واللَّه تعالى عليم.
* * *(9/4517)
مدة لبثهم في الكهف
قال اللَّه تعالى:
(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
* * *
الكلام في قصة أهل الكهف موصول بنور الرحمة، وفي الآية الأولى يتكلم سبحانه وتعالى عن مدة لبثهم في الكهف قد ضرب اللَّه تعالى على آذانهم سنين عدة، ذكرها أولا مجملة، وفي هذه الآية ذكرها سبحانه مبينة بالعدد من السنين، فقال سبحانه:(9/4518)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا).
وقد قالوا إن هذه السنين كانت بالسنين التي هي أصل العدد في الإسلام وقد قدروها بثلاثمائة سنة شمسية - بين بسيطة وكبيسة - ولنا أن نقول: إنه سبحانه ذكر الثلاثمائة، ثم زاد التسعة للتفرقة بين الشمسية والقمرية، وإنك لو أحصيت على أساس أنه كل ثلاث وثلاثين سنة وثلث تقريبا يزداد العدد سنة قمرية، فإن(9/4518)
الفرق يكون تسع سنين، انظر إلى إشارات القرآن البيانية التي تدل على الإعجاز خصوصا في أمة أمية لَا تعرف الكتابة والحساب، وإن أمر اللَّه يؤكد هذا العدد، وأنه لَا يزيد ولا ينقص فقال تعالى:(9/4519)
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
(قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلم به المؤمنين، ويستوثقوا من أنه الحق الذي لَا ريب فيه، وأفعل التفضيل في قوله: (قُلِ اللَّه أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا) ليس على بابه؛ لأنه لا يوازن بين علم اللَّه تعالى وعلم أحد، فهو العلم الكامل، والمراد من أفعل التفضيل أن اللَّه تعالى يعلم ذلك علما ليس فوقه علم؛ لأنه علم اللَّه تعالى، وهو بكل شيء عليم، وإن علم الغيبيات لَا يعلمه إلا خالق لكل شيء؛ ولذا قال تعالى: (لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ) وحده الغيب في السماوات، فكل مغيب يعلمه اللَّه تعالى؛ لأنه الخالق، كما قال تعالى: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، ثم أكد سبحانه وتعالى علمه الدقيق الذي هو أعلى درجات العلم كعلم البصر، وكأعلى درجات العلم بالسمع، فقال تعالى: (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) هاتان الصيغتان من صيغ التعجب، فما مؤداهما بالنسبة للَّه تعالى؟ الجواب عن ذلك أن معناهما أن علم اللَّه تعالى بلغ أقصى درجات العلم الدقيق بالبصر، حتى إنه يرى ما لَا يراه الخلق، وأعلى درجات العلم بالسمع حتى إنه يسمع دبيب النمل الذي لَا يُسمع، وإن نتيجة ذلك علمه سبحانه بالغيب كأنه مرئي مسموع فهو سبحانه لَا تخفى عليه خافية في الأرض والسماء (مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ)، الضمير في (لَهُم) يعود إلى أهل الكهف؛ لأنهم المتحدث عنهم، و (مِن) لاستغراق النفي، والمعنى ما لهم بدله من ولي تولى أمورهم وعلم أحوالهم وحاطهم في غيهم أي ولي كان، (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا)، أي لَا يشرك سبحانه أحدا في سلطانه وملكه وحكمه.
وقبل أن ننتهي من الكلام عن أهل الكهف نذكر كلمة في مدة لبثهم في الكهف، فنقول: إن القرآن عين المدة بالسنة الشمسية، وأشار إلى الزيادة التي تزيدها السنة القمرية، وهي تسع سنين، وقد ذكرنا أنه بحساب السنين يتبين أن(9/4519)
الفرق بينهما تسع سنين على أساس أن كل ثلاث وثلاثين سنة وثلث يزاد سنة واحدة، وبهذا يكون العدد ما ذكره القرآن الكريم بعبارته وإشارته.
متى ابتدأت هذه المدة؟ المتفق عليه أنها ابتدأت بعد المسيح - عليه السلام -، وإنها ابتدأت عندما أخذ الوثنيون يضطهدون أتباع المسيح - عليه السلام -، وأن اللَّه تعالى كشف الغمة التي كان ضربها على آذانهم في عصر زال فيه الاضطهاد، أو كان الحاكم أو الجمع الذي حضر يقظتهم من رقودهم كان الاضطهاد لم يكن فيه قائما بدليل العمل على تكريمهم وبناء مسجد على مدافنهم، مع التأكد من المدة تسع وثلاثمائة، أو ثلاثمائة فقط إذا كانت شمسية، وإنه لهذا يجب أن تمضي هذه المدة بين عصر الاضطهاد، وعصر الأمان مع بقاء المسيحية على ما كانت عليه.
ولقد يقول بعض المفسرين إن اختفاءهم كان في عهد دقلديانوس، وقالت كتابات النصارى في أخبار شهداء النصرانية وفي كتاب الكنز الثمين: إن اختفاءهم في الكهف كان سنة 252 ميلادية، وظهورهم كان سنة 447، ولا شك أن القرآن يكذِّب هذا، وهو أصدق قيلا؛ لأنه في سنة 447 كانت النصرانية قد سادها التثليث، وإن لم يكن استغرق كل أهلها، بل لَا تزال منهم أمة كمقتصدة.
وقول المفسرين إن التزامهم الكهف كان في عهد دقلديانوس فيه كلام؛ لأن دقلديانوس كان في القرن الثالث في آخره، والواقعة التي أنزلها بنصارى مصر كانت سنة 284، فإذا كان الاختفاء في آخر القرن الثالث فيجب أن يكون الظهور في آخر القرن السادس وكانت قد عمت ديانة التثليث، اللهم إلا أن يكون صادف ظهورهم ملك لَا يزال على دين المسيح، ولا يؤمن إلا بأنه عبد اللَّه ورسوله، ولهذا نحن نميل إلى أن أهل الكهف كانوا على مقربة من عصر المسيح، وأنهم ظهروا قبل أن يسود النصرانية التثليث، ومهما يكن الأمر فإننا لَا نؤمن في أخبارهم إلا بالقرآن وحده؛ ولذلك لَا نتلو إلا القرآن، كما قال تعالى:(9/4520)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
(وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
قال بعض المفسرين إن هذه الآية آخر ما يتعلق بقصة أهل الكهف، وإنا وإن كنا لَا نقول إنها جزء منها، وليست متممة لها، ولكن لها صلة بها من حيث إن(9/4520)
الصدر الصادق الثابت لها هو القرآن فليس ثمة مصدر حق سواه؛ ولذا جاء بعده ما يدل على كمال صدقه وكمال العناية به، وهذه الآية تدعو رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ومن تبعه إلى مدارسته، وتلاوته والعكوف عليه وتعرف أحكامه، والأخذ بها أمرا ونهيا، وطاعته في ظاهر نفوسهم وباطنها.
قال تعالى: (وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ) منْ هنا بيانية، (وَاتْلُ) معناه اقرأه مرتلا متلوا متفهما لمعانيه متيقظا له ذكر (مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ) قبل (كتَابِ رَبِّكَ) للإشارة إلى أن السبب في هذه العناية والدراسة والتلاوة أنه أوحي إليك فهي رسالتك التي حملتها، ووجب عليك تبليغها، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. . .).
وذكر سبحانه وتعالى أن الموحى به المتلو هو (كِتَابِ رَبِّكَ)، و (مِن) كما قلنا بيانية، وأنه ثابت قائم كل ما فيه من أحكام حق وكل ما فيه من أخبار صدق (لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ)، أي لَا مغير لكلمات الله، ولا بدل لها يماثلها صدقا وحقا، فلا يوجد مبدل ولا بديل، وهي المعتصم للمؤمن، والحجة الخالدة إلى يوم القيامة، وهو معتصمك يا محمد، وحجتك، وملجؤك الذي تعتمد عليه والله مؤيدك عليه، (وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا)، أي لن تجد من غيره ملجأ أو موئلا، فهو سنادك الذي جعله اللَّه تعالى لك عمادا وملجأ وحجة تحتج بها، وهي في ذاته عماد؛ لأنه الذي اشتمل على كل الدين.
وإن ذلك يوجب أن تعتمد عليه وحده، وعلى من آمن، ولا تستبدل بهم غيرهم، ولا تطع من يحاولون أن يفصلوك عن أهل القرآن أهل الإيمان؛ ولذا قال تعالى:
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)(9/4521)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
كان المشركون يتبرمون بضعاف المؤمنين، ويقولون كما قال أسلافهم لنوح عليه السلام: (. . . وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ. . .)، وكانوا في عنجهية الشرك وطغوائهم، قالوا عن أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - من الموالي والضعفاء متقززين: إن هؤلاء تفيح منهم رائحة الضأن، فبين اللَّه تعالى فضل هؤلاء وأنهم أتباع النبيين الذين بهم يقوم عمود الدين، ويكونون العصابة الأولى التي تكون قوته، وأنه يجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحبس نفسه عليهم، ويصبر نفسه عليهم محتسبا ذلك عند اللَّه؛ ولأنهم القوة والدعامة، فقال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي)، أي احبس نفسك، واجعلها تصبر على معاشرتهم، وملازمتهم فإنهم قوة الحق وقوة الإيمان، وسيكون منهم الدعامة، والنصرة، وسيركبون بالحق على رقاب هؤلاء، كما سيكون في بدر ويركب عبد اللَّه بن مسعود على رقبة أبي جهل يحتزها.
وعبر بالموصول؛ لأن الصلة وهي قوله تعالى: (يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِي)؛ لأن هذا السبب في التزامهم وحبس نفسه عليهم؛ لأنهم بهذا هم الذين أجابوا الدعوة وهم يعبدون اللَّه بالغداة والعشي، وهم لَا يريدون جاها ولا مالا ولا سلطانا، ولكن يريدون وجه اللَّه لَا يريدون سواه، فهم قد انصرفوا إليه سبحانه، وهم بذلك قد صاروا ربانيين خالصين للَّه تعالى، ثم قال سبحانه بعد أن أمره بأن يكون قريبا منهم: (وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدنيَا)، أي لا تقتحمهم عنك، وتجاوزهم معرضا عنهم تريد الذين يتزينون بزينة الحياة الدنيا، أي تعدوهم عيناك بأسمالهم وفقرهم تريد مَن عندهم زينة الحياة الدنيا، وهذا النهي يتضمن أمرين:
الأمر الأول - الحض على تكريم هؤلاء الضعفاء ومعاونتهم وإعزازهم والاعتزاز بهم.
الأمر الثاني - أن يجعل عينيه تظهر فيها مظاهر الإكبار لَا مظاهر الازدراء، (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ).(9/4522)
إذا كان قد أمره بأن يتطامن لأولئك الذين يعبدون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وأن يقبل عليهم إقبال المقرب المدنى فقد نهاه عن الذين يغفلون عن ذكر اللَّه، نهاه عن طاعتهم بطرد الأطهار الأبرياء الذين لَا يعبدون الأوثان وقوله تعالى: (أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا)، أي أنه لغروره وفساد نفسه شغل قلبه بالدنيا وما فيه وأغفله اللَّه تعالى عن ذكره، وإذا فرغ القلب من ذكر اللَّه تعالى سكنه الشيطان؛ ولذا قال تعالى بعد إغفال ذكر اللَّه، (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)، أي غلبه هواه وصار عبدا لشهواته، ومن كان كذلك انحلت نفسه؛ ولذا وصفه سبحانه وصفا يفيد الانحلال النفسي فقال: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)، أي أنه كان أمره منحلا مضطربا لا ضابط يضبطه، ولا خلق يكبح جماحه، فهو مهمل مضيع مسرف في كل أحواله.
* * *
الحق بيِّنٌ وكلٌّ له جزاؤه
قال اللَّه تعالى:
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
* * *(9/4523)
أمر اللَّه تعالى نبيه أن يعلن أنه قد تبين الرشد من الغي، وبانَ الحق بأدلته، فلابد أن يعرف كل إنسان ما يختار لنفسه فقال:(9/4524)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
أي (وَقُلِ) يا رسول اللَّه مبلغا صادعا بالحق (وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ)، قد ثبت وقام الدليل عليه من ربكم الذي خلقكم ورباكم ويعرف ما فيه خيركم وصلاحكم، وما فيه ضلالكم وفسادكم، وقد بين الحق، وما بقي إلا أن تتبعوا أو تنحرفوا، (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن) باتباع الطريق السوي، (وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) بالابتعاد عن الطريق الأمثل، وإن اللَّه أعد لكل جزاء، ثم ذكر سبحانه وتعالى ما أعده للمشركين، فقال: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارَا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) وصفهم سبحانه بأنهم ظالمون؛ لأن الشرك ظلم للنفس وظلم للعقل، مع ظلمات متراكمة من فساد وصد عن سبيل اللَّه تعالى، و (أَعْتَدْنَا) يعني هيأنا وأعددنا (نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) شبه حال الذين يدخلون النار، وتحيط بهم من كل جانب يكونون في سرادق ويحيط بهم إحاطة الدائرة بقطرها، أو شبهت النار بسرادق أحاطهم، وكله نار لَا يخرجون من قطر إلا إلى قطر، وإنهم يكونون في شدة، والعطش يكوي بطونهم كيا، (وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ)، والمهل هو المصهور من الفلزات، فإنه شديد الحرارة، وهو (يَشْوِي الْوُجُوهَ) شيا، فهو في حرارة تبلغ درجتها الألوف من أرقام الحرارة، وروي أن منه غليظا كرديء الزيت.
هذه جهنم التي تستقبلهم بسبب مجانبتهم الحق، وانغمارهم في الباطل انغمارا، وإنها بئس المقام، وبئس شرابها شرابا؛ ولذا قال تعالى: (بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرتَفَقًا)، أي هذا شراب مذموم أشد الذم لأنه يشوي الوجوه إن سكب على الوجوه، لَا يستبرد به ولكن تشوى به، ويقطع أمعاءهم، وجهنم ساءت مرتفقا أي ما أسوأها مكانا يرتفق، فلا اطمئنان، ولكن نيران ولظى، هذا جزاء(9/4524)
العصاة عبدة الأوثان فهم حقراء الفكر في الدنيا، ويصلون النار في الآخرة، وأصل ارتفق اتكأ على المرتفق، وهو علامة الاطمئنان ولا اطمئنان أبدا.
وأما جزاء المؤمنين الذين اختاروا الحق سبيلا، فهم في روح وريحان، وقد ذكر اللَّه تعالى جزاءهم فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
بعد أن بين اللَّه تعالى جزاء العصاة عبدة الأوثان ذكر ما يستقبل المؤمنين المطيعين الذين يعملون الصالحات، فقال عز من قائل:(9/4525)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، جعل اللَّه تعالى سبب ما يستقبلهم من النعيم أمران:
الأمر الأول - إيمان صادق وإخلاص يعمر القلوب فإنه لَا ثواب من غير قلب منيب.
الأمر الثاني - عمل صالح نافع بأداء ما أمر اللَّه به واجتناب ما نهى اللَّه عنه في استقامة قلب، وكمال قصد واتجاه إلى النفع.
ويلاحظ هنا أنه أظهر في موضع الإضمار فلم يقل إنا لَا نضيع أجرهم، بذكر الضمير الذي يربط بين المبتدأ والخبر، بل أظهر بالوصول، فقال: (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، لبيان أن استحقاقه الأجر بسبب إحسان العمل وإتقانه، وقد أكد الجزاء وأنه لَا يضيع عملا، ولا يظلم الناس أشياءهم في قوله: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) أكد الكلام بـ (إن) وبإضافة الجزاء إليه جل جلاله.
هنا ذكر الجزاء مبهما، أو ذكره سلبيا، بأنه سبحانه وتعالى لَا يحرمهم من حقوقهم، ولا يضيع عليهم أجورهم، ثم ذكره سبحانه بعد ذلك إيجابيا عطاء(9/4525)
مفصلا، فقال سبحانه وتعالى ما يدل على نعيمهم من ثيابهم، واطمئنانهم، فقال:(9/4526)
أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
(أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ... (31)
(أُوْلَئِكَ) إشارة إلى هؤلاء المتصفين بهاتين الصفتين الإيمان والعمل الصالح، والإشارة إلى الموصوف تدل على أن الصفة سبب الحكم، وفي هذا تأكيد بأن العمل الصالح والإيمان سبب الجزاء، كما أشار سبحانه وتعالى في الآية السابقة، وفي هذا النص جزاءان:
الجزاء الأول - الاستقرار والإقامة الدائمة، وذلك بذكر جنات عدن.
والجزاء الثاني - طيب النظر وما يكون به ارتياح النفس، وطيب المجلس وهو أن الأنهار تجري من تحتهم في ظلال أشجارها فتجري الأنهار من تحت الأشجار الملتفة المتصلة، فتلتقي راحة النفس مع جمال المنظر ومع الاستقرار والاطمئنان، وقد أضاف اللَّه تعالى إلى هذا النعيم، نعيم الثياب الذي يكون دليلا على العز والترف لمن حرموا منه في الدنيا، فقال تعالى: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ)، وأحسب أن (مِنْ) الأولى والثانية للبيان، أي يُحَلَّون أساور هي ذهب، ويلبسون ثيابا خضرا، والثياب الخضر تكون فيها نضرة، وتطمئن لها النفس وهي لون الزروع النضرة (مِّن سُندُسٍ)، أي حرير خفيف (وَإِسْتَبْرَقٍ)، أي حرير كثيف، (مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ)، أي الفراش اللين المبثوث في حجراتهم، وقد مدح اللَّه تعالى ذلك الجزاء، فقال: (نِعْمَ الثَّوَابُ)، أي أن هذا الثواب ممدوح بالغ أقصى درجات حسن المنظر والرئى، (وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا)، أي ما أحسنها مرتفقا، والضمير في حسنت يعود إلى جنات عدن، والمرتفق أصله من الاتكاء على المرفق، وهو دليل الاطمئنان والراحة والنعيم.
ويذكر أن الجزاء في هذه الآية الذي اختص بالحلي، والثياب النضرة الحرير، رقيقها وكثيفها هو أخص متع النساء وخصوصا حلي الذهب والأساور منه، فلم يعهد ذلك حليا للرجال، ولكنه متعة للنساء في الدنيا فيكون متعة المؤمنات الصالحات في الآخرة، (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا).
* * *(9/4526)
مثل رجلين أحدهما عاص والآخر صالح
قال اللَّه تعالى:
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ(9/4527)
فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
* * *
وتلك الأمثال يضربها اللَّه تعالى لذي الألباب الذين يعتبرون ويتعظون ويدركون أنفسهم من صورة غيرهم، ويؤدبوها ويصلحوها لرؤية المحاسن وأضدادها في غيرهم.
وهذا مثل ضربه اللَّه تعالى وبينه للفاجر والبار، أعطى كل واحد خيرا ربما يقل أحدهما عن الآخر خيرا، أو لَا يقل ولكن أحدهما يستكثر ما أعطاه لا ليشكره، بل ليغتر ويحسب أنه أخذه أخذا ويذهب فرط غروره إلى أنه أخذ بفضل عقله، وأنه لن يضيع أبدا، ثم يذهب ليقمع غروره أو تنطفئ شعلة اغتراره، وتبدو له الحقيقة واضحة، وهي أنه لَا يملك من الأمر شيئا، أما الثاني صاحبه، يذكره بأصل خلقه وأنه لم يكن شيئا مذكورا، ويوجهه إلى الحمد والشكر على ما أعطى، ولنترك القول لرب العالمين فهو البليغ الذي أعجز بكتابه الناس أجمعين.
قال تعالى:
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)(9/4528)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا) بين حالا تكون فيها العبرة، وهي حال رجلين مختلفين طاعة وعصيانا (جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا)، أي جعل اللَّه لأحدهما جنتين من كروم، وأحاطهما بنخل فعل كبار الملاك الذين يجعلون مزارعهم ذات جنات وعيون ونخل يحوطها كأنه سور يطوف بها، فتكون مثمرة، ويكون سورها مثمرا لَا يكون حديدا ولا خشبا، ولا بناء بل يكون نخلا حيا مثمرا يؤتي جناه، وجعلنا بينهما زرعا، ينتج بقولا وقمحا وأرزا(9/4528)
وذرة، فحيثما نظرت إلى الجنتين وجدت طعاما طيبا، فاكهة وتمرا وبقولا وغيره، مما هو غذاء ومتعة، و(9/4529)
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
(كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا)، أي ثمرها كاملا موفورا وبانتظام لم تتخلف سنة عن أخرى بل آتت به رتيبا تباعا، ولم تظلم منه شيئا، أي لم تنقص منه شيئا (وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا)، أي شققنا خلالهما نهرا يجري فيكون السقي يسبح لَا بآلة، والماء موفور، لَا تصاب الزروع بحرمان من الماء، ولا الأرض بجفاف منه، بل كل شيء ممهد، ولم تكن كلتا الجنتين هما كل ماله، بل له مال آخر وهو مال مثمر من تجارة ونحوها، وكان لهذا المال ثمر إذ كان يثمره وينتج به كنعم ومتاجر كما ذكرنا؛ ولذا قال تعالى:(9/4529)
وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
(وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ... (34)
مع الجنات والزروع والنخيل ثمار لأموال أخرى.
وكان حقا عليه أن يشكر هذه، وأن يشعر صاحبه بأن له حق الأخوة والصحبة فيها، ولكنه تكبر وافتخر بها، وإذا دخل الفخار في نفس من أنعم اللَّه تعالى عليه بنعمة، فإن الفخار وراء الغرور والكبر، إذ الكبر بطر النعمة وغمط الناس؛ وٍ لذا كان صاحبه أول من بادره بالمفاخرة (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)، (الفاء) للعطف مع التورية والترتيب، أي قال عقب أن حالت حاله إلى هذه الحال، (أَنَا أَكْثَرُ مِنك مَالًا)، وكأنه يقول له أنا أعلى منك منزلة لأنى أكثر منك مالا، ومنازل أهل الدنيا بنيت على المال، وإنه فوق كثرة ماله يحسب أنه أعز، إذ قال: (وَأَعَزُّ نَفَرًا)، أي أنه عزيز بعزة الذين تبعوه في أمواله ولكثرة نسبه، وأكثر أولادا، يعتز بهم وبقوتهم وذهب غروره بهذه الحال التي هو عليها ولم يحسبها فانية، لأن الكافر حسي لَا يؤمن إلا بالمادة المحسوسة ومن علمت عليهم وجعلها هما، لَا يكون تفكيره إلا من الحال القائمة والأمر الوجود أو حكم الواقع كما يقال في هذا الزمان.(9/4529)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)
(وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ ... (35)
أي دخل الجنة في هذه الحال التي استولت عليه حال الغرور، وحال التعالي الكاذب وعدم المبالاة إلا بالساعة التي هو فيها، واندفع بها إلى الشرك، وهو بذلك الغرور والكبر وغمط الناس ظالم لنفسه، فظلمه لنفسه بهذا الذي هو محيط به، وقد أداه إلى الشرك كما ذكرنا وذلك ظلم عظيم، وقد أداه ذلك إلى أن يقول: (مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا)، فهو حكم بالحاضر على المستقبل، وذلك شأن المادي الذي يأسر(9/4529)
الحاضر تفكيره، حتى لَا يفكر إلا في محيطه، وقد أكد بقاءها بالنفي بـ (ما)، وبـ (أبدا)، وكأنه يحكم على اللَّه، ويتحكم في المقادير وما هو بشيء.
ثم يتطاول فينكر البعث، ويفتات في تقديره، فيقول:(9/4530)
وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
(وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ... (36)
ينفي إيمانه بالساعة، ويقول مستهينا، غير عابئ كأن الأمر لا يوجب اهتمامه (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً)، والساعة هي ساعة الحساب وهي التي تكون يوم القيامة، وإذا أطلقت الساعة في القرآن لَا يراد بها إلا ساعة الحساب والجزاء، وكأنه ليس بجدير بأن يسمى ساعة غيرها.
ويفرض أنه إذا صحت الساعة فإنه سينال ما ينال في الدنيا وأكثر منها، فيقول مغترا: (وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا) مرجعا أنقلب إليه، بدلا مما كنت فيه، وهو في هذا يقسم مطمئنا، فاللام الأولى الممهدة للقسم أو المومئة إليه، واللام الثانية جواب القسم، وقد أكد القول كما رأيت بالقسم، وبنون التوكيد في جوابه، وهو بهذا يقيس الحال المقبلة على الحال الحاضرة، وكأن جنات الدنيا ممتدة إلى الآخرة بل تزيد عليها، وإن هذا أقصى درجات الغرور، فهو يفتات على ربه أو يقسم عليه، وليس من المقربين إليه الذين إذا دلفوا بأعمالهم إليه، وأحبوا عباده، وعادوا بما آتاهم من خير على المحتاجين من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل.
وإنه يلاحظ مما قصه القرآن الكريم من حال الرجل الذي أوتي الجنتين، وكيف هذا الإيتاء تأدى به إلى الكفر والطغيان أن النفس غير المؤمنة ما تعطاه تحسبه حقا لها، ويدفعها غرورها إلى اعتقاد أنها نالته بكفايتها، أو لمزية اختصت بها، فلا تحسبه عطاء من اللَّه، وكان يمكن أن يكون لغيره بأوفر منه، ولا أن الأسباب لا تؤدي إلى نتائجها إلا بإذن اللَّه ثم يندفع بها الغرور فتحسبه من فضلها على غيرها، وحرمان غيرها من نقصانها الذي لم تبلغ مواهبها ما عندها هي ثم تسترسل في غلوائها، فتحسب أن ذلك من دواعي تفاخرها، وتطاولها على غيرها، وتسترسل في غرورها أكثر فتحسب أن ذلك دائم لَا يبيد، وأنها تنتقل من ظفر بالخير إلى مثله غير عابئة بشيء، ولا مقدرة لمستقبل، ثم تدفعها غلواؤها في(9/4530)
التقدير فتنكر البعث أو لَا تهتم به، وتظن ظنا من الإثم والبهتان على اللَّه أنه إن كان بعث فستنال من اللَّه خيرا من هذا.
وإن هذا الغرور النفسي، والطغيان على الناس هو الذي أدى إلى الكفر والإيغال فيه من غير حساب، هذه هي النفس الطاغية التي تسير في طريق الكفر.
أما النفس المؤمنة وهي التي تتمثل في الرجل الآخر الذي هو أحد الرجلين اللذين ضرب بهما المثل، فإنه يتمثل فيها الرجل المؤمن فهي تحس:
أولا - بأن اللَّه هو الخالق، وأنه خلق الإنسان من تراب وأنه الواحد الأحد.
ثانيا - وأنه هو المعطي، والمعطي يستحق الشكر.
ثالثا - والتفويض إلى اللَّه، والإحساس بأن كل شيء عطاء منه بعد اتخاذ الأسباب.
رابعا: وبأنه موضع الرجاء على أن يفوض الأمر إليه، وأن من أعطى يمنع إذا اغتر من أعطاه، ورغب عن طاعته، وأن عليه أن يتذكر المنع عند العطاء، وأن يتذكر حاله إذا فقد النصير وهذا جوابه لما حاوره صاحبه مفاخرا.(9/4531)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
هذا هو التأكيد الأول يقول له: إنك نسيت خلقك الأول أنشئت من تراب ثم من ماء مهين، ثم كانت أدوارك من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات نطفة في قرار مكين، ثم مضغة ثم عظاما ثم كسونا العظام لحما ثم صرت رجلا سويا، وخلقت ضعيفا في كل أدوارك ثم صرت رجلا غرك الغرور، أشار إلى كل هذا في كلماته الموجزة المشيرة والموضحة، ونبهه إلى أنه كفر بكل هذا في استفهام إنكاري توبيخي، لأنه لإنكار ما وقع منه من كفر بربه الذي خلقه فسواه في أحسن تقويم.
فحاله حال كفر وإنكار للنعمة، وجهل لحقيقة أمره فذكره بذلك كله وأنه بهذا الطغيان والغرور ونسيان البعث وإهماله لطاعات اللَّه تعالى قد كفر باللَّه أشد الكفر.(9/4531)
أما حاله هو، وهي حال الإيمان، فقد قال فيها:(9/4532)
لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
(لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
(لكن) تفيد الاستدراك على ما قاله صاحبه، وبيان أن حاله ليست كحاله، إنما حاله حال إذعان للَّه تعالى وحده على خلاف حال صاحبه من إشراك باللَّه، واستهانة بالبعث، ونلاحظ في المصحف أن ألفا بعد النون في (لَكِنَّا)، وهو يتحدث وحده ونحسب أن كتابته ليست عبثا، أو لغير معنى، بل إن كتابته تنبيه على بعد الحال المستدركة بين الرجلين، فبينا الأول كان طاغيا مفاخرا مغرورا، فهذا موحد متطامن شاكر للَّه تعالى أنعمه، في سرَّائه وضرَّائه فأمره كله إليه سبحانه، لَا يملك من أمره شيئا أبدا.
وقوله: (هُوَ اللَّهُ رَبِّي) تفويض مطلق لذي الجلال والإكرام؛ لأنه ربه الذي خلقه وقام عليه حتى بلغ ما بلغ بين الأحياء؛ لأنه الحي القيوم، وأكد الوحدانية بقوله: (وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا)، وهذا تعريض بالذين يؤمنون بأن اللَّه تعالى خالق السماوات والأرض وأنه لَا خالق سواه، ومع ذلك عند العبادة يشركون به، وقوله تعالى: (بِرَبِّي) يفيد مع ما سبق علة العبادة وعدم الإشراك فيها، ويقولون هو خبر لمبتدأ محذوف تقديره لكن الأمر هو اللَّه ربى ولا أشرك بربي أحدا، وينتقل إلى توبيخ صاحبه، وتنبيهه إلى وجوب الشكر فيقول كما حكاه اللَّه تعالى:
(وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)(9/4532)
وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
(لَوْلَا) للحض، والمبالغة في الإنكار بمعنى هلا، أي هلا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء اللَّه لَا قوة إلا باللَّه و (إِذْ) بمعنى وقت، المعنى هلا وقت دخولك جنتك ورؤيتك هذه النعمة قلت ما شاء اللَّه، أي هذا ما شاء اللَّه، وأنه بإرادته ومشيئته ولولا مشيئته ما نلتها، وأنه لَا قوة لك إنما القوة كلها للَّه، فهو الذي(9/4532)
أعطاك وإن حق النعمة شكرها لَا كفرها ولا التطاول بها، والمفاخرة على غيرك والاعتزاز بها من غير عزة اللَّه سبحانه وتعالى.
ثم أخذ بعد ذلك برد على مفاخرته راضيا راجيا، (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ)، (إِن تَرَنِ) حرف شرط وفعله وجوابه، (فَعَسَى) والفاء داخلة فيه، لأنه فعل طلب للرجاء، و (أَنَا) ضمير الفصل فيه تأكيد لحديث المتكلم عن نفسه، وكان التأكيد لبيان أنه أقل منه في نظره، أي إن ترني أنا في نظرك أقل منك، فإن اللَّه هو الرزاق ذو القوة المتين، لا يمنعه أحد من عطاء يشاؤه، فعسى ربي الذي خلقني وكفلني وقام على شئوني أن يؤتيني خيرا من جنتك التي تفاخر بها وتغتر بها، إني أرجو اللَّه وأرجو ما عنده مؤمنا بأنه هو الذي يعطي ويمنع فإن أعطانا شكرنا، وإن منعنا صبرنا، وهو خير لنا.
وقال: (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ)، الضمير في (عَلَيْهَا) يرِجع إلى الجنة؛ لأنها المذكورة وحدها في قوله تعالى:(9/4533)
فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)
(فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ) والحسبان هو العواصف من السماء التي يطلق عليها مرامي السماء والحسبان الصاعقة، ويطلق على العذاب، ولعل أقرب المعاني هو الصاعقة المحرقة للزرع والشجر والنخيل وغيرهما من أنواع الأشجار المثمرة وغير المثمرة، ويكون المعنى عسى أن يعطيني اللَّه منه خيرا من جنتك، ويرسل على جنتك صواعق من السماء (فَتُصْبِحَ) الجنة خالية من الأشجار (صَعِيدًا زَلَقًا)، أي صعيد أملس لا شجر فيه، ولا ينبت شجرا، ولا كلأ، و (زَلَقًا) هو الذي لَا يثبت عليه قدم وهو كناية عن أنه خال من كل نبات وشجر وهو بلقع لَا ثمر فيه.
هذا هو حسبان السماء لَا يبقي ولا يذر، وعسى أن يجف الماء فلا تنزل صاعقة ماحقة، ولكن يجف الماء، وهو مادة الحياة للنبات، ولذا قال تعالى عن الرجل المؤمن:
(أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)(9/4533)
أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
أى أن ماءها يغور في الأرض ويختفي من سطح الأرض إن كان ماء عيون وآبار، أي على أعماق بعيدة من باطن الأرض فلن تستطيع الحصول عليه، وهذا معنى قوله تعالى: (فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا)، أي يتعذر عليك طلبه ولا تجده ولا تجد عوضا عنه، لَا تجد لها سقيا ولا رعيا وحينئذ يجف لك الشجر والزرع ويصير حطاما.
وقد بين سبحانه أن ما توقعه المؤمن صدق، ونزل الدمار بالجنتين فقال تعالى:(9/4534)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
قوله تعالى: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) يقال أحاط الجيش بالعدو حتى سد عليه مسالك النجاة، ثم صارت تطلق في اللغة بمعنى الهلاك مجازا مشهورا وأصبح البعير يحاط به بمعنى تعرضه، ولقد قال تعالى في الذين يتعرضون للهلاك، (. . . إِلَّا أَن يُحَاطَ بِكُمْ. . .)، ويكون في الكلام مجاز بالاستعارة شبه
هلاك الزرع هلاكا مستغرقا لم يدع فيه شيئا قائما بذاته بإحاطة الجيش بعدوه واستئصاله بحيث لم يفلت منهم بالنجاة أحد، والجامع في المجاز هو الإحاطة والشمول، وفي هذا المجاز إشارة إلى المغرور بهذه المعاندة كأنه في حرب مع اللَّه سبحانه، وبعد هذه الإحاطة الهلكة المستغرقة لكل الزرع أخذ يعض بنان الندم، وقال اللَّه تعالى في ذلك: (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا) الفاء فاء السببية والعطف المفيد للترتيب والتعقيب، وتقليب الكف كناية عن الإحساس بالندم، وعن الإحساس بالخسارة فهو يقلب كفيه نادما، ويحس بالخسارة في النفقة التي أنفقها، وهكذا المغتر من غير مبرر للغرور يكون في ندم على غروره، وفي حسرة على ما أنفق من مال ذهب هباء منثورا، أو أدراج الرياح، ويتمنى الأماني ويقول: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا)، ليت للتمني، فهو يتمنى أن لم يكن قد أشرك، ونادى (يَا لَيْتَنِي) كأنه ينادي ليت، كأنه يقول: يا (ليت) تعالى فهذا وقتك الذي(9/4534)
أناديك فيه (لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا)، كأنه أحس بأن الشرك هو الذي ربَّى في نفسه الغرور، وأن الغرور الذي دلاه إلى هذه الحال من الهلاك.
أهذا التمني في الدنيا أم في الآخرة؟ الأقرب إلى السياق أنه في الدنيا، وأنه سبيل التوبة، وقد يكون في الآخرة كما تدل الآية الآتية، وقوله: (وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) الضمير يعود إلى الجنة، وذلك من خوت الدار خواء إذا أقعرت وتهدم بناؤها وسقطت عروشها، فخاوية على عروشها معناها ساقطة الكروم على عروشها، أي أن كل ما فيها سقط بعضها على بعضها، فالأشجار جفت، والزرع صار حطاما، وصارت كلها خواء.
كان الغرور المفتون بجنته يعتز بماله، فيقول أنا أكثر منك مالا، وكان يعتز بنفره، ويقول أنا أكثر منك مالا وولدا، وهذا مآله قد آل إلى فناء وخراب، وذهب نفره فلم يكن له نصراء ينصرونه من دون اللَّه، ولذا قال سبحانه مبينا عزلته.(9/4535)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
(وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
الفئة الجماعة المناصرة، أو العصبة التي تناصره، اعتز بها، ولقد قال: (أَنَا أَكثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) فأبعد اللَّه عنه عزة النفر عند إبعاد المال، فلم يكن هناك فئة تنصره على كل حال، بل كانوا فئة تناصر ماله، ولا تناصر شخصه فلا نصير له من دون اللَّه، وقد تخلى اللَّه تعالى عنه لعصيانه فلم يكن له نصير من غيره، ولم يكن هو منتصرا بذاته، فليس قويا في ذاته ينتصر لنفسه، وليست قوة من خارجه وما كان ممتنعا بقوة شبه ذلك، وقال قتادة ما كان مستردا بدل ما فقد منه، والفئة مشتقة من الفيء، أي يفيء إليها لتنصره، فهي العشيرة ويظهر أن ذلك يوم القيامة، ولذا قال تعالى:(9/4535)
هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
(هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
الإشارة إلى البعيد في الآخرة، ولذا كانت الإشارة بالبعيد باللام والكاف معا، وكلاهما تنبيه للبعيد، أي السلطان الكامل، كما قال تعالى: (. . . لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، (هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا) والضمير (هُوَ)(9/4535)
يعود للَّه تعالى، أي خير ثوابا في الدنيا والآخرة لمن آمن واتقى، (وَخَيْرٌ عُقْبًا)، أي خير عاقبة في الآخرة وهو النعيم المقيم، هذا وإنا نقول إن هذا كله في الدنيا والآخرة.
ولكن يجب بحث خبر المثل أهو تصوير لحال المستقيم، وحال المنحرف المغرور، وعاقبة كل، وهو تقدير، أم له واقع تاريخي، وإنه كيفما كان مصور لحال المغرور الجاهل المشرك، وحال المستقيم ويقول الزمخشري: إن المثل يصور قصة واقعة فيقول: (وقيل هما مثل لأخوين من بني مخزوم، مؤمن وهو أبو سلمة عبد اللَّه بن عبد الأشد، وكان زوج أم سلمة قبل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وكافر وهو الأسود ابن عبد الأشد).
وسواء أكان المثل تقديرا صادقا وتصويرا للنفس الكافرة، أم كان قصة وقعت فهو مبين لنفس الكافر وهي يسودها الاغترار بالعطاء، ووراء الاغترار الضلال والاستكبار، والمفاخرة ونسيان الواجب لحق النعمة، والبطر والكبر وغمط الناس وأن المؤمن من صفاته الرضا والقناعة والاتجاه إلى اللَّه تعالى وشكر النعمة (. . . لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).
* * *
مثل الدنيا والآخرة والبعث
قال اللَّه تعالى:
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى(9/4536)
الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
* * *(9/4537)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
(وَاضْرِبْ) معناه بين لهم (مَثَلَ) حال (الْحَيَاةِ الدُّنيا)، في زخرفها وبريقها، (كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ)، أي فاختلطت به بذور الأرض التي صارت نبات، وصارت ريانة به، وجرت فيها الحياة، ولكن استمرت أمدا ليس طويلا فأصبحت هشيما، أي حطبا متكسرا، يتفتت حتى تذروه الرياح، (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا). . إذ أنشأ من الماء حياة في البذور، ففلق الحب فكان نباتا قد اختلط بالماء إذ كان مادة نمائه، واستوى به على سوقه، ولكن لم يلبث إلا قليلا، حتى تكسر، ثم تفتت فكانت الرياح تحمله وتذروه من مكان إلى مكان، ثم آل بقدرته إلى ما آل إليه.
والتشبيه هو تشبيه الدنيا بالحال التي تكون من اختلاط الماء بأصول النبات والتفافه بعضه ببعضه. ثم تكسره السريع مع تفتته، فليس التشابه بين الحياة الدنيا(9/4537)
والماء، بل بين الدنيا وهذه الحالة من الماء والنبات، ثم سرعة الفناء والتكسر والتفتت العاجل القريب.
وقد صور اللَّه تعالى حال الدنيا بمثل ذلك في آيات أخر، من ذلك قوله تعالى: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاة الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِه نَبَات الأَرْضِ ممَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ. . .)، وقوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا).
هذه حال الدنيا متاع قليل، وفناء سريع، والآخرة خير وأبقى، وقد ذكر سبحانه أبرز ما في الحياة من زينة ومتاع فقال عز من قائل:(9/4538)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
(الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
بعد أن بين سبحانه وتعالى مثل الحياة الدنيا من حيث إنها متعة غير باقية، وما فيها من خير هو الفناء لَا بقاء فيه - ذكر سبحانه ما فيها من زينة وتفاخر، ومادة للتطاول فقال: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، الزينة ما يتزين به، وهي مصدر وصف به، والمصدر إذا وصف لَا يثنى ولا يجمع، ولذا وصف به المال والبنون، وكان المال والبنون الزينة، لأنه كان بهما القوة، فكان المال قوة لما يمكن صاحبه من الحصول على حاجاته، ولما يمكنه من الحصول على مآربه من أعدائه وأوليائه، والبنون لأنهم القوة في النصرة؛ ولذا كانت مفاخرة أحد الرجلين على صاحبه قوله: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) والنفر أكثر ما يكون بالولد، واللَّه تعالى يقول فيمن طغى بماله وولده، (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17).
وقد سمى اللَّه تعالى القوة بالمال والبنين زينة، لأنها موضع تفاخر وتباهٍ كالزينة، وقدم المال على البنين، لأن البنين من غير مال لَا يكونون زينة، بل(9/4538)
يكونون تكليفا، وقد يكون مرهقا. وإن أمور العقلاء تجري على سنة المنفعة، فما يكون أكثر منفعة وأبقى يطلبه العقلاء، وما يكون أقل نفعا، ولا يبقى ينفر منه العقلاء، ولا يقبلون عليه، ولذلك بين اللَّه تعالى أن زينة الدنيا وخيراتها غير باقية، إنما الباقيات الصالحات في الآخرة هي الأكثر فائدة وأملا، فقال تعالى:
(وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) الباقيات وصف لموصوف محذوف، أي والأعمال التي تبقى، ولا تفنى سريعا، وهي صالحة في ذاتها عامرة لما بين العبد وربه أولا، وبينه وبين الناس ويباركها الرب ثانيا، سواء أكانت من شأنها أن تكون ذات أثر باق في الدنيا، من عمل طيب يبقى أثره بعد الموت، أم كان يرجى خيره في الآخرة، وفي الجملة الأعمال التي تكون كثيرة النفع في ذاتها ويبقى أثرها بعدها، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له " هذا في الدنيا، أما في الآخرة فكل ما يحرثه العبد للآخرة يكون باقيا، يقول عليُّ كرم اللَّه وجهه:
" الحرث حرثان حرث الدنيا المال والبنون، وحرث الآخرة الباقيات الصالحات، وقد يجمعهن اللَّه تعالى لأقوام، وقد حكم سبحانه بأن (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا)، أي خير فائدة وعائدة وعاقبة، وتفتح باب الأمل لخير عميم، ونعيم مقيم، وجنة خالدين فيها، وكرر كلمة (خَيْرٌ)، لاختلاف نوعهما، فالأول عاجل في الدنيا، والثاني أمل ورجاء في الآخرة، وقد ذكر اللَّه تعالى الآخرة، ومقدمات البعث والقيامة فقال عز من قائل:(9/4539)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
ويوم نسير الجبال، أي نحركها من أماكنها، ونسيرها كما نسير السحاب، كما قال تعالى: (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ. . .)، و (يوْمَ) متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر يوم نسيِّر الجبال، أي يوم البعث إذ تتغير الدنيا، والأرض والسماوات، وقد خطر بخاطري أن (نُسَيِّرُ) متعلق بـ (خَيْرٌ) محذوفة دلت عليها الآية قبلها، أي الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخيرا أملا، وخير يوم نسير الجبال، وترى الأرض.(9/4539)
وتسيير الجبال تحريكها من أماكنها، وتكسيرها فتكون هذه الأوتاد الشامخة منكسرة متفتتة، كما قال تعالى: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)، وكما قال تعالى: (وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)، (وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً)، أي ترى في هذا الوقت صعيد الأرض بارزا، ليس عليه جبال كالأوتاد والأشجار وبرز ما في باطنها من أحجار وفلزات، وبرز ما فيها من القبور، كما قال تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5).
وهكذا يُنهي الكونَ بارئُه، ويذهب هذه الحياة بانيها، ومن بعد ذلك، وقد أبرز كل شيء خالق كل شيء عندئذ يكون الحشر ولا يغادر منهم أحدا؛ ولذا قال تعالى: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا)، أي حشرناهم في ذلك اليوم لَا نترك أحدا، وعبر سبحانه بالماضي لتأكد هذا الحشر، واستعمال الماضي في مقام المضارع لتأكد الوقوع، وعبر سبحانه بالفعل حشر للإشارة إلى جمعهم غير مريدين، أو مختارين، وأنهم جميعا متلاقون الضالون والمضلون، وأنهم بعد ذلك يعرضون على ربهم؛ ولذا قال تعالى:(9/4540)
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
(وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
أي أنهم في هذا المحشر الذي حشروا فيه لم يكونوا مجهولين، أو أن الازدحام جعلهم غير معروفين، بل إنهم كانوا مع هذا الجمع الحاشد معروفين مميزين عند رب العالمين الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (أَلا يَعْلَمُ منْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، بل إنهم عرضوا صفا كما يعرض الجنود صفوفا متراصة أمام قائدهم يلقي إليهم أوامر، فكذلك صفهم اللَّه تعالى صفوفا متميزة مقرا لهم بأنه يعلمهم، يذكر اللَّه لهم بلسان ملائكته أو إن حال الموقف كأنهم يخاطبون بالقول: (وَلَقَدْ جِئْتُمونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ(9/4540)
مَرَّةٍ. . .)، أكد سبحانه وتعالى مجيئهم بـ (اللام)، و (قد) وأنهم معاينون وقوله تعالى: (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) فيه إشارتان:
الإشارة الأولى - أنهم يجيئون مجردين من كل نسب وحال من أحوال الدنيا التي كانوا بها يتفاخرون من مال ونفر، وهيل وهيلمان وسلطان.
والإشارة الثانية - إشارة إلى قدرة اللَّه الكامل المسيطرة، وأنه أعادهم كما بدأهم، كما بدأكم تعودون، وقوله تعالى: (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا) الإضراب هنا بـ (بَلْ) معناه الإضراب عما كانوا عليه في الدنيا وإثبات الواقع المقرر الذي يرونه، و (زَعَمْتُمْ)، أي ظننتم بزعمكم لَا بالحقيقة الثابتة، (أن) هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، أي أنهم زعموا نفي البعث بنفي أن اللَّه تعالى جعل لهم موعدا يبعثون فيه، ويحاسبون على ما قدموا من خير وشر، وإنه سيجيء معهم كتاب أعمالهم لم يغادر صغيرة ولا كبيرة، وقال تعالى:(9/4541)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
(وَوُضِعَ الْكِتَابُ)، أي سجلت الصحف التي كتبت عليها أعمالهم، فلا نقص فيها، ولا محو، بل هي ثابتة حجة عليهم دائمة باقية لَا يناكرون فيها، فالمراد من الكتاب جنس ما يكتب ويقيد عليهم، (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) والفاء للسببية، أي بسبب وضع الكتاب ترى المجرمين الآثمين قد أدركوا آثامهم، وشقت نفوسهم فعلمتها فكانوا مشفقين خائفين مما اشتملت عليه، وأصابتهم الحسرات، وانتهوا لما فرطوا في جنب اللَّه، ونادوا الهلاك إذ لَا مفر منه، وهو نداء الحسرة والألم (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا)، أي يا هلاكنا النازل بنا، كما يقول النادم يا حسرتا، وقد كانوا ينادونها (أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ. . .)، وكان ذلك النداء لأنهم رأوا الكتاب لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة، (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا) ما لهذا الكتاب،(9/4541)
أى شيء ثبت لهذا الكتاب، واختص به لَا يترك أمرا صغيرا دقيقا، ولا كبيرا إلا أحصاه، أي أنه أحاط إحاطة كاملة بموضوع، وهو أعمالهم (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا) مهيئا ينادي بآثامهم، وإدانتهم ليتقدموا للحساب العسير الذي نهايته العقاب بالعذاب الأليم.
(وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) فلا ينقص من عامل خير، ولا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يخفى شيء من عمل، بل يجازي كل بما كسب إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وكل يجازي بمقدار ما عمل.
ْوإن ما توعد به إبليس عباد اللَّه في قوله: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، يذكر اللَّه عباده المؤمنين بهذه العداوة ليحتاطوا، وليجتنبوا وسوسته فيقول تعالى:(9/4542)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
(إِذْ) ظرف للماضي منصوب بفعل محذوف تقديره، اذكر ذلك الوقت الذي (قُلْنَا) فيه (لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ)، وذكر هذا الزمن بأحداثه وما قيل فيه استحضار لصورته، وكيف عصى إبليس ربه، وعاند في الخضوع لأمر اللَّه تعالى بالنسبة لآدم، واستحضاره استحضار لعداوته وما هدد به ذريته، وما حاول إغواءهم وكل ذلك يوجب النفرة، وقد كان من الجن وليس من الملائكة الأطهار، فكان يجب تجنبه وألا يستمعوا إلى وسوسته فإنها تؤدي إلى المعصية كما أذلت أباهم آدم للأكل من الشجرة، ولذا قال تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي)، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وقد تأخرت عن الاستفهام، لأن الاستفهام له الصدارة، والتقدير أفتتخذونه بعد أن علمتم أنه وذريته أولياء نصراء موالون من دون اللَّه وبدل، وهم أعداء ليسوا بأولياء، بئس بدلا لكم أنتم معشر الذيِن ظلموا أنفسهم، وأظهر في موضع ضمير الخطاب، فقال: (بِئْس لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)، بدل أن يقول بئس بدلا لكم، للإشارة إلى أنهم بهذا ظلموا أنفسهم، ووضعوا الأمور في غير مواضعها، وكانوا كافرين ظالمين.
* * *(9/4542)
الوجود كله خلقه الله ولم يكن أحد
قال اللَّه تعالى:
(مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
* * *
الآية السابقة تفيد تحكُّم إبليس وذريته - في الضالين المشركين، واستنكر اللَّه ذلك التحكم في نفوس الناس بقوله تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْس لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا).
والضمير يعود إلى إبليس وذريته الذين يضلونهم حتى جعلوهم يتخذون من الحجارة أوثانا يعبدونها، ويجعلونهم يحسبون لها قوة، أو تكون لها شفاعة، أو تكون لها شركة باللَّه في خلقه، حتى يجعلوها شريكة في العبادة، نفَى الله تعالى أن يكون لإبليس وذريته مشاورة أو مشاهدة في خلق السماوات والأرض وخلق الأنفس حتى يجعلوكم تشركون الأوثان في العبادة فهؤلاء مخلوقون، فكيف يشتركون في إعطاء قوى ليست لهم، فقال تعالى:(9/4543)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
(مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
والإشهاد، تمكينهم من الحضور، فمعنى (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، ما جعلتهم يشهدون، ويشاورون في خلق السماوات والأرض حتى يدَّعوا لحجر أو شخص قوة في الإنسان ليكون شريكا في الألوهية للخالق الذي أنشأ وأبدع ودبر، إن اللَّه وحده هو الذي خلق فهو وحده المعبود ولا معبود سواه، (وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ)، أي أنهم مخلوقون فعندما خلقهم اللَّه تعالى لم يكونوا شيئا مذكورا وكيف يشهد المخلوق خلق نفسه.
وهذا النص السامي يشير أولا: إلى وجوب الحذر من إغواء إبليس وذريته، وبيان أنهم لَا قوة لهم إلا بضعف نفوسكم واستخذائها، فليس لهم قوة ذاتية، إنما قوتهم من ضعفكم، ويشير ثانيا: إلى أنه لَا إرادة لهم في شيء في الوجود إلا ما تكسبه الأنفس الضالة، ويؤكد ثالثا: إلى أن الله وحده خالق كل شيء.
وقوله تعالى: (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) في التاء قراءتان الأولى: بالضم تكون تاء المتكلم، والثانية: بالفتح للخطاب.
وعلى قراءة الضم يكون التخريج وما كان من شأني أنا الخلاق العليم أن أتخذ من المضلين عضدا أعتضد به أو أستعينه وأتخذه معاونا، وكان المعنى إني لا أستعين في الخلق بأحد، ومن المستحيل أن أتخذ معينا من المضلين، ويكون المعنى رميهم بأنهم يضلون ولا يرشدون، واللَّه سبحانه لَا يستعين بضال ولا مضل ولا مهتد.
وعلى قراءة الفتح يكون الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكون المعنى وما كنت يا محمد من شأنك أن تتخذ من المضلين عضدا ونصرا فلا تطمع في نصرتهم، ولا تحاول أن تستعين بمرضاتهم، وتطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.
وأظهر في موضع الإضمار فقال: (وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا) على قراءة الضم، لبيان وصفهم الحقيقي، وهو الإضلال، إذ إبليس وذريته للإغواء، كما قال: (. . . لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، قال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ(9/4544)
زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)،
وقال أيضاً: (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)، ثم ذكَّر سبحانه بحال المضلين مع من أضلوهم يوم القيامة فقال:(9/4545)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
(وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
اليوم هو يوم القيامة، والواو متعلقة بفعل محذوف تقديره " واذكر " لهم ذلك اليوم، ودالة على وصل الجملتين، وليستا منفصلتين، والأولى تشير إلى هوانهم ابتداء عند الخلق والتكوين وأنه لَا وجود لهم في هذا الإبان، والثانية تشير إلى هوانهم يوم الحساب، وأنهم لَا ينفعون بشيء، والضمير في (يَقُولُ) يعود إلى الحق جل جلاله، ومقول القول: (نَادُوا شُرَكَائِيَ) وأضاف سبحانه وتعالى إليه الشركاء - تعالى عن ذلك - لمسايرة زعمهم، وللتهكم بهم؛ ولذا قال تعالى:
(الَّذِينَ زَعَمْتُمْ)، أي الذين كانوا شركائي في زعمكم وضلالكم، ويلاحظ أنه ذكرهم ذكر ما يعقل وهي أحجار لَا تضر ولا تنفع، ونوجه القول إما بأن نقول إنه تهكم بهم، إذ جعلوها آلهة فوق من يعقل، وإما أن نقول إن المراد إبليس وذريته لأنهم الذين أضلوكم وأوقعوكم في هذه العبادة الضالة.
وقوله تعالى: (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) الفاء الأولى هي العاطفة التي تفيد الترتيب والتسبب، والفاء الثانية كذلك، والفعل (فَدَعَوْهُمْ)، فعل ماض، أي دعاهم معاونين لهم من حف معهم من الملائكة، فالخطاب كان بالأمر لأهل النار أو هم الذين دعوهم ليتبين عجزهم إذا لم يستجيبوا لهم، (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا)، أي جعلنا بين الضالين ومن أضلوهم حاجزا مانعا، يمنع أن يعاون أحد الفريقين الآخر، والموبق الهلاك، من وبق بمعنى هلك، أي جعلنا حاجزا، هو في ذاته هلاك للفريقين.(9/4545)
وهذا كناية عن أن الهلاك يعم الفريقين، وأنه لَا منجاة لأحدهما الذين ضلوا ومن أضلوهم، وهذا كقوله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)، وقال تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ. . .)، ويقول سبحانه في حال المجرمين يوم القيامة:(9/4546)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
عاين المجرمون النار بأهوالها، وأنهم لَا طاقة لهم بها، وكأنهم رأوا أعمالهم قد استعلت بهم فكانت نارا، وأظهر في موضع الإضمار إذ إنه سبحانه بدل أن يقول: ورأوا النار وَعود الضمير ليس ببعيد، قال عز من قائل: (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ) لبيان وصفهم وهو الإجرام، وأنه سبب استحقاقهم، وأنهم يحسون باستحقاقهم لأنهم أجرموا، (فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا)، أي مخالطوها وملابسوها، فالمواقعة الملابسة التي لَا ينفصلون عنها، والفاء هي فاء الترتيب والسببية، أي بسبب حالهم من الإجرام اعتقدوا أنهم مواقعوها، والظن هنا اليقين ولكن لِمَ عبر بالظن دون العلم واليقين؟ وذلك لأنهم إذ رأوا هولها وشدتها كانوا يظنون ولا يستيقنون ليوجدوا لأنفسهم نافذة ولو كُوَّة لاحتمال النجاة، ويصور هذا المعنى قوله تعالى: (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا)، أي لم يجدوا متحولا عنها وأنها آتية لَا ريب فيها.
ولقد قال تعالى بعد أن بين حالهم التي آلوا إليها، أنه قدم لهم أسباب الهداية في إبانها، فأعرضوا عنها وأثاروا المثارات حولها، فقال تعالى:(9/4546)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
الصرف الرد من حال إلى حال، والتصريف هو التحويل من حال إلى حال، وتصريف القرآن الكريم هو ما اشتمل عليه من أساليب البيان والموعظة(9/4546)
والاعتبار وبيان الأحكام والقصص والعبر، وإيجاز وإطناب من غير فضول أو تطويل، وزجر وترغيب وترهيب، فمعنى قوله تعالى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ)، أي من كل حال من أحوال الهداية والرحمة وشفاء الصدور مما يجعل الحق واضحًا بين أيديهم، فأتى سبحانه فيه بضروب البيان والمعرفة والهداية مما لم يجعل موضعا لريبة مرتاب، أو مراء من القول، ولكن الكافرين أثاروا القول حوله فمرة قالوا: إنه سحر، وأخرى قالوا: إنه شعر، وثالثة قالوا: أساطير الأولين، ورابعة قالوا: علَّمه بشر، وهكذا كانت لهم أقوال باطلة فيه بمقدار ما تثيره أهواؤهم، ويثيره جدلهم، ولذا قال تعالى: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا)، أي أكثر شيء من شأنه أن يجادل ويماري جدلا، وهي منصوبة على التمييز كما هي في قوله تعالى: (أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)، أي أن الإنسان أكثر ذوي الألسنة والقول جدا، فهو أكثر جدلا من الملائكة وغيرهم، بل إن الملائكة لَا يجادلون.
وإن الجدل من شأنه أن يضيع الحقائق بين المتجادلين، وأن تتبعثر الحقائق على الأفواه، فلا يضبط قول، ولا يستقيم فكر؛ ولذلك كان العلماء الربانيون ينهون عن الجدل، وأشد من عرف بذلك الإمام مالك؛ لأن مثارات الجدل هي مثارات الشيطان، وإن الناس دائما يثيرون الجدل حول رسالات المرسلين، ولا يقطع جدلهم إلا أن يأتيهم الهلاك أو العذاب، ولذا قال تعالى:(9/4547)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
(النَّاسَ) هنا قيل إنهم أهل مكة، وأميل إلى أن هذا بيان لطبائع الكافرين، وأخص من ينطبق عليهم المشركون في مكة فقد أغروا بالجدل والمراءاة في الحقائق، وهم قوم خصمون، كما ذكر القرآن الكريم في أوصافهم، (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يؤْمِنوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى)، أي مما منهم الإيمان، وقد توافرت أسبابه وإذ جاءهم الهدى بالرسول أرسله اللَّه إليهم، وبالكتاب الحكيم نزَّله هاديا مرشدا، ما منعهم(9/4547)
الإيمان إلا طغيان نفوسهم، وازورارهم عن الحق والجدل حوله، فإن علاج هذه الحال أن تأتيهم سنة الأولين، أي الطريقة التي نزلت بالأولين وهي الاستئصال بجعل عالي الأرض سافلها، أو ريح صرصر عاتية، أو بغرق، أو بإمطارهم بحجارة من سجيل.
فقوله تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا)، أي عيانا ظاهرة أي انتظار
الهلاك بالاستئصال أو انتظار عذاب يوم القيامة معاينة هو الذي منعهم من الإيمان بالهدى والاستغفار من ذنوبهم، ونقول إن هذا تصوير محكم لحالهم في طغيانهم وغلوائهم كأنهم ينتظرون العذاب ولا ينتظرون الهداية فشبه سبحانه وتعالى حالهم في الشر، واستمكانه في نفوسهم واسترسالهم في الطغيان بحال من يمنعهم الهداية مجرد انتظار العذاب، وهذا تصوير لإمعانهم في الطغيان والظلم والعدوان ومجاوزة حدود العقل والفكر.
* * *
الرسل مع الأقوام
قال اللَّه تعالى:
(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ(9/4548)
الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
* * *
يبين اللَّه تعالى أن إرسال الرسل للتبشير والإنذر، وأن محاولة الذين كفروا إبطال الحق هو فرار من أن يستمعوا إلى النذير ينذرهم، والبشير يبشرهم، وما ذلك إلا من إمعانهم في الكفر والضلال، ولقد قال تعالى في ذلك:(9/4549)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
" ما " نافية، و " إلا " استثناء، فيكون في الكلام نفي وإثبات، وهذا يفيد القصر، أي ليس إرسال الرسل إلا لتبشير المؤمنين بالزلفى عند اللَّه، ودخول الجنة، وإنذار الكافرين بالبعد عن اللَّه وعن جنته، وإن ذلك كان يوجب الاعتبار، وتفهم ما جاء به الرسل، والإيمان به لأنه خيرهم ومصلحتهم وتهذيبهم، ولكنهم بدل أن يفتحوا عقولهم للتدبر وفقه الأمور، أخذوا يعملون تفكيرهم في رد الحق فهم بمنأى عن شرع اللَّه، كمن يفرض على شيء علما، فلا يتفهمه، ويكون تفكيره في رده، والتحايل على الخروج عنه؛ ولذا قال: (وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَروا بِالْبَاطِلِ)، يجادلون جدال مماراة، ولذا قال: (بِالْبَاطِلِ)، أي متلبسين في جدلهم بالباطل وتلبسهم بالباطل، لأنهم يدافعون عنه، ولأنهم يثيرون ترابا بهذا الجدل حول الحق، ولأنهم يفكرون في دائرته، وغايته إدحاض الحق؛ ولذا قال: (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)، وأصل الدحض الزلق يقال: دحضت رجله، أي زلقت، ودحضت الشمس عن كبد السماء أي زالت، فكان في الكلام مجاز بتشبيه الحق وقد ثارت حوله المثارات بجدلهم، بمن تزلق قدمه فيسقط وإن ذلك غايتهم وباعثهم، ولكنهم لا ينالونه، وهو مبتغى لَا يصلون إليه، واللام هنا لام التعليل وبيان الباعث.(9/4549)
وإن هذا الباعث الذي بعثهم على جدلهم، وهو باطل أضافوا إليه أمرا زادهم ضلالا، وإمعانا في الفساد، وقال تعالى فيه (وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا) الآيات هي المعجزات التي جاء بها الرسل للدلالة على الرسالة، وأنهم يتكلمون عن اللَّه تعالى لَا من عند أنفسهم، أخذوا يستهزئون، ففرعون استهزأ بالمعجزات وهي تسع آيات ولم يذعن لها، وعاد وثمود وقوم نوح ولوط استهزأوا بالآيات حتى دهمتهم من حيث لَا يشعرون، وأنتم معشر العرب سرتم مسار هؤلاء فاستهزأتم بالقرآن، وقد تحداكم أن تأتوا بمثله فعجزتم وما أصغيتم بعد عجزكم للحق، بل زدتم طغيانا، واستهزأوا مع الآيات، استهزأوا بما أنذروا به، وكان استهزاؤهم به بأن لم يلتفتوا إليه، وبأن تهكموا حتى أنه يروى أن أبا جهل كان يقول متهكما على النار: إن محمدا يقول لكم إنه يأتيكم بالنار ولأصحابه بجنات كجنات الأردن، وهنا ملاحظة بيانية أنه ذكر الذين يجادلون بالاسم الموصول (الَّذِينَ كَفَرُوا) لبيان أن الكفر سيق إلى قلوبهم فسدَّ مسامع الإدراك، ولبيان أن السبب في جدلهم هو الكفر، وإن هؤلاء ظالمون، ولذا قال تعالى بعد ذلك:(9/4550)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)
هذا تصوير دقيق للكافرين يبتدئون بالإنكار من غير روية وتعرف للأمر من كل وجوهه، فإذا سارع إليهم جحدوا، أو أعرضوا عن الحق وقد بدا نوره، وسدت عليهم كل منافذ الإدراك فلا تسمع آذانهم ولا تفقه قلوبهم، ولذا قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا) الاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي للنفي المؤكد مع التوبيخ للظالمين والتنديد بهم، أي لَا أحد أظلم ممن ذُكِّرَ بآيات اللَّه تعالى في الكون، ودلالتها على الخلق وأنه وحده الذي خلق كل شيء وأنه وحده هو المعبود ولا معبود سواه، ذكر هذا التذكير، فلم يتريث(9/4550)
ويتأمل، بل سارع بالإعراض، والتولي عنها، والفاء للترتيب والتعقيب، أي أنه رتب على التذكير الإعراض السريع من غير تأمل فيما ذكر به (وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)، من كفر وظلم وأكل مال الناس بالباطل، وتطفيف في الكيل والميزان، نسي هذا في مقام التذكير بآيات الله تعالى وكمال سلطانه، نسي ما قدمه من شر ولم يفتح بابا للاستغفار والإقلاع، والتعبير بما قدمت يداه، يراد به ما قدم، وعبر باليد وهي الجزء عن الكل - وذلك من المجاز المرسل - لأن ذلك الجزء له مزيد اختصاص من بين الأجزاء لأنه أكثر الشر يكون به.
وقد بين سبحانه حالهم وأنهم يصبحون غير قابلين للهداية، فقال: (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا) الأكنة الأغلفة والحجب المانعة، والوقر الثقل في الأذن، والمعنى في الإجمال جعلنا حواجز تمنع أن يصل نور الحق إلى القلوب لتفقهه وينفذ إلى إدراكها، والإذعان له، والفقه إدراك الأمر والنفوذ إلى غاياته وما يدعو إليه، وقوله: (أَن يَفْقَهُوهُ) في مقام المجرور بلام محذوفة، وكثير ما يحذف حرف الجر في أن وما بعدها، أي جعلنا الحجب المانعة من أن يفهموه.
والكلام فيه تشبيه بالاستعارة التمثيلية، شبهت حالهم في الإعراض عن الحق بحال من وضع على قلبه حجب تمنع النور أن يصل إليها، وحال من وضع على أذنه ثقل فلا يسمعه، وجرى ذلك مجرى الأمثال في القرآن الكريم، وجملة (إِنَّاجَعَلْنَا) منفصلة عن الجملة قبلها لأنها في مقام التعليل لها.
وإن النتيجة لذلك أنهم لَا يهتدون؛ ولذا قال تعالى: (وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا)، الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أي إذا كانوا على هذه الحال من أن منافذ الحق قد سدت على أسماعهم وقلوبهم، فإن تدعهم إلى الهدى (فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا)، أي ما داموا على هذه أو ما داموا في الدنيا وليس هذا تيئيسا للنبي - صلى الله عليه وسلم - من إيمانهم فلا يدعوهم، ولكنه بيان له لكي لَا يرجو إيمانهم بطرد الذين يدعون(9/4551)
ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، واليأس من إيمان قوم لَا يستدعي ترك الدعوة بل يوجب دعوة غيرهم، والاستمساك بمن آمنوا.
وقد بين سبحانه أن الشر كثير في هذه الدنيا، فقال عز من قائل:(9/4552)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
(وَرَبُّكَ) عبر بـ ربك للإشارة إلى أنه الخالق المربي القائم على عباده، القيوم على أمورهم (الْغَفورُ) الذي من شأنه المغفرة لعباده يعفو عن كثير ولا يأخذ بكل ما فعلوا، وقدمت المغفرة على الرحمة؛ لأن التخلية مقدمة على التحلية، فالتطهير مقدم على التجميل، وقوله تعالى: (ذُو الرَّحْمَةِ) و (ذو) بمعنى صاحب، فالمعنى صاحب الرحمة، أي أن الرحمة تلازم ذاته العلية وتختص بها، فلا رحمة إلا منه، وغيره لَا رحمة عنده فاللَّه وحده هو الذي يملك الرحمة، وما عند غير اللَّه لَا يعد رحمة بالنسبة لما عنده، إنما يكون أمرا نسبيا، والرحمة الحق لَا تكون إلا من عند اللَّه، فهو خالق الوجود وخالق الرحماء، فكل رحمة هي منه.
وإن من رحمته مغفرته، ومن رحمته أنه يمهل حتى تكون التوبة النصوح، وتوبة العبد أحب إليه، ومغفرته أقرب عنده؛ ولذا قال سبحانه: (لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) هذه الجملة السامية كالنتيجة لكون اللَّه تعالى غفورا ذا رحمة؛ إذ إنه لذلك لم يؤاخذهم بما كسبوا من شر مستطير وقت أن وقعوا بل أمهلهم وأعطاهم زمانا للتوبة، أو لمضاعفة ما يقترفون، ولأنها نتيجة لما قبلها كانت غير متصلة بها بالعطف، وعبر سبحانه وتعالى بالماضي في قوله تعالى: (بِمَا كَسَبُوا) للإشارة إلى أنه كثير يكفي لأشد العقاب، (لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ) وتعجيل العذاب هو العذاب الدنيوي، وهذا يشير إلى أن أهل مكة ارتكبوا من الشر بالكفر، والإيذاء والفتنة في الدين والاستهزاء بآيات اللَّه وبما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - ما يستحقون به أشد العذاب، وأن ينزل بهم ما نزل، ولكن اللَّه سبحانه أراد أن يكون محمد خاتم النبيين، وأن تكون رسالته دائمة بمن يؤمنون، فلا ينزل سبحانه وتعالى(9/4552)
عقابا يعم، ولا يصيب الذين كفروا خاصة؛ ولذا قال تعالى: (بِل لَّهُم مَّوْعِد لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا) الإضراب في (بل) هو عن نتائج الشرطية السابقة لرد ما بعدها، (لَّهُم مَّوْعِدٌ) وهو أن ينزل بهم العقاب الدنيوي بالجهاد وأن يديل منهم، ثم بعده العقاب الأخروي، وكلاهما له موعد لَا يتقدم، ولا يتأخر، ولا محيص عنه (لَن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا)، أي ملجأ فهو نازل بهم في ميقاته لَا خلاص لهم منه، وأمامهم العبر، يعتبرون بها؛ ولذا نبههم اللَّه تعالى إليها فقال:(9/4553)
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
(وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
القرى المدن الكبيرة أو الدول الكبيرة، والمراد بالقرى ليست الأماكن، إنما أهلها؛ ولذا قال: (أَهْلَكْنَاهُمْ) لضمير العقلاء (لَمَّا ظَلَمُوا)، أي عند ظلمهم، وجعلنا لمهلكهم موعدا، أي مكناهم من أن يرجعوا عن غيهم وضلالهم، (وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا)، ومَهْلِك مصدر ميمي، وبين أيدينا أخبار الرسل مع أممهم من قوم نوح إلى قوم هود وصالح، وشعيب، وإبراهيم، ولوط.
* * *
موسى - عليه السلام - والعبد الصالح
قال اللَّه تعالى:
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ(9/4553)
فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
* * *
قص اللَّه تعالى في سورة الكهف ثلاث قصص تدل على قدرة اللَّه تعالى في أن يودع الإنسان من القوي ما يكون خارقا، وما يكون دالا على أن اللَّه يبدع ما لا يعرفه الناس في أعرافهم وبمقتضى سنة الوجود الإنساني التي سنها اللَّه تعالى له في هذه الأرض.
أولى القصص الثلاث - قصة أهل الكتاب الذين ناموا لتسع سنين وثلاث مائة، وتراهم أيقاظا وهم رقود، ويقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد، وقد تلونا من قبل الآيات الخاصة بهم، وذكرنا ما أدركنا من معانيها.
والقصة الثانية - قصة عبد صالح آتاه اللَّه من لدنه رحمة، وآتاه بعض العلم بالأسباب فيما يقدره اللَّه سبحانه وتعالى وصاحب نبيا من أولي العزم من الرسل، وهو موسى - عليه السلام -، ونتلو بين يدي القارئ قصصها إن شاء اللَّه تعالى.
والقصة الثالثة - قصة رجل آتاه اللَّه علما وحكمة وإذا كان لم يؤته علم الغيب فقد آتاه اللَّه تعالى علم الأشياء وما في الأرض وبه ختمت السورة.
وإذا كانت القصة الأولى تنبئ عن قدرة اللَّه تعالى في الإحياء، وفي بقاء الحياة مع اختفاء الحركة، والقصة الثانية تنبئ عن أن لكل شيء سببا، وإن كنا لا نعلمه فآتى اللَّه عبده الصالح علم بعضه، ففي القصة كيف يمكن أن تكون الأرض وما فيها علما للإنسان يأتيه بعقله واختياره فيأتي بالعجائب، بعد هذه المقدمة القصيرة نتناول آيات العبد الصالح.
كان موسى يسير مع فتاه على سيف البحر، يبدو أنه سيف البحر الأحمر من جهة الشرق، وجد العبد الصالح أنه وفتاه يسيران حتى بلغ مجمع البحرين، وإليك الآية الأولى قبل اللقاء بالعبد الصالح:(9/4554)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
موسى - عليه السلام - هو موسى بن عمران المذكور في القرآن، لأنه لم يذكر علم اسمه موسى سوى هذا الرسول الكريم، ومن يقول إنه موسى غيره، فهي دعوى بلا دليل ولا مصدر لها إلا ممن يشكك في القرآن بخلق أشياء لَا أصل لها حول عباراته، إبعادا لمعانيه عن المراد منها، وقوله (لا أَبْرَحُ)، أي لَا أترك السير (حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا)، وهذا يفيد أن المقصد الأول له أن يبلغ مجمع البحرين أو يسير حُقُبا، أي زمنا طويلا، أي ما شاء اللَّه تعالى أن يسير، ويظهر أن ذلك كان من موسى - عليه السلام - لتعرف الأراضي والناس في مرتحله، أو ليرتاد لبني إسرائيل مقاما، وقد سبقهم للارتياد ليكفيهم مئونته أولا، ولينقلهم إليه بعد الاهتداء إليه وتعرفه، وقد وصل إلى مقصده وهو بلوغ مجمع البحرين، ولذا قال تعالى:(9/4555)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
(فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
ومجمع البحرين الذي بلغه نبي اللَّه تعالى موسى - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم - يكون في المكان الذي خرج إليه موسى من أرض مصر، وقد خرج إلى سينا، والأردن، فهذه الأرض كانت المسار الذي يسير فيه، وهنا مجمعان كانا في ذلك الزمان، فكان هنا مجمع يلتقي فيه الخليج الفارسي بالمحيط الهندي وهنا مجمع يلتقى فيه البحر الأحمر أو بحر القلزم ببحر الأردن، وهو خليج العقبة ولا يهمنا أيهما، إنما يهمنا أن موسى - عليه السلام - كان هدفه الوصول إلى مجمع البحرين أيهما في هذه المنطقة، وقد يكون قد سار إلى كل واحد منهما في نوبة من نوبات سيره، ويظهر أنهما في هذه الرحلة المتعرفة الباحثة التي يرتادها قد أعد للرحلة عدتها، فأخذ معه حوتا، يشويانه هو وفتاه في رحلتهما سدًّا للجوع، ولما بلغا مجمع البحرين تبين لهما أنهما تركا الحوت نسيانا له ولاشتغالهما بأمر الرحلة، وتعرف طرائقها المعبدة، ولذا قال تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَا مجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا) والنسيان لم يكن وقت البلوغ ولكن تبين النسيان في ذلك، لأنهما بحثا(9/4555)
عنه، فلم يجداه، ولم يكن الحوت ميتا، بل كان حيا؛ ولذا لما نسياه اتخذ طريقه فى البحر سربا، أي أنه أخذ يتقلب حتى وصل إلى البحر (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا)، والسرب المسلك، وهو من سرب بمعنى سلك، ويظهر أنه لم يقف عند مجمع البحرين، بل اجتازه.
ولذا قال تعالى:(9/4556)
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
(فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
كأنهما استمرا في سيرهما حتى جاوزا مجمع البحرين سارا برا؛ حتى وصلا إليه، ثم اجتازاه بعبوره في قارب حتى وصلا إلى البر الثاني دارسا متعرفا مرتادا.
عندئذ أحس بالنصَب، والنصب جعلهما يحسان بالجوع، والنصب هو التعب من الجهد المبذول، وأضاف اللقاء إليهما ولم يقل نزل بهما التعب؛ لأنه نصب مختار لهما ولطلبهما.
والفتى هنا هو الخادم أو التابع، والتعبير القرآني عن التابع أو الخادم بفتى، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تقل عبدي وأمَتي، بل قل فتاي وفتاتي ".
قال ذلك موسى لفتاه، ويظهر أنه قد علم غياب الحوت قبل أن يعلم موسى، ولذا هو الذي أخبر بغيابه، ولعله باشر حاله وهو يتخذ سبيله في البحر سربا، ولذلك كان يعلم من بعد مكان غيابه، وهو مكان بجوار صخرة، فقال:(9/4556)
قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
(قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
تبين أنه كان يعلم غيابه وتركه، إذ أوى موسى إلى صخرة، رقد عندها من التعب كما أرهق التعب الفتى أيضا، فترك الحوت (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا)، أي أنه تركه فالنسيان هنا بمعنى الترك والذهول، وما كان يحسب أنه سيتخذ طريقه إلى البحر بطريق (عَجَبًا)، فعجبا مفعول مطلق وصف لمصدر، فاتخذ طريقه إلى البحر اتخاذا عجبا، وما كان يحسب أنه سيفعل ذلك، إذ كان في مكتل فخرج منه وأخذ طريقه إلى البحر.(9/4556)
وقد اعتذر الفتى اعتذارا كاملا، فقال: (نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) فاعترف بأنه يتحمل خطأ ذهاب الحوت؛ لأنه ترك الاحتياط وكان يجب أن يكون يقظا.
ويظهر أن موسى - عليه السلام - كان قد علم من ربه أن العبد الصالح سيلقاه عند الصخرة، ولكنه تركها وهو مار ورقد عندها ولم يتنبه بسبب الرقود عندها أنها الملتقى، ولكن اللَّه تعالى رده إليها، بعد أن تنبه إلى أن الحوت ترك عند الصخرة فكان لَا بد من العودة؛ ولذلك قال:(9/4557)
قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
(قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
الإشارة في قوله تعالى: (ذَلِكَ) إلى العودة إلى الصخرة والرجوع إليها و (قَصَصًا)، أي يتبعان أثرهما مقتفين للطريق الذي مرا به؛ لأن الصخرة موضع اللقاء بالعبد الصالح.
* * *
اللقاء
قال اللَّه تعالى:
(فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا(9/4557)
لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
* * *
التقى موسى بالخضر عليهما السلام، وجاء في البخاري عند لقاء موسى وصحبه بالخضر. وجدا الخضر على طنْفِسة خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه قد جعل طرفه تحت رجليه وطرفه تحت رأسه، فَسَلَّم عليه موسى فكشف عن وجهه، وقال: هل بأرضك من سلام!! من أنت؟ فقال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؛ قال: نعم، قال: فما شأنك؟، قال جئت لتعلمني مما عُلِّمت رشدا (1).
وقال الثعلبي في كتاب العرائس، أنه قال عند رد السلام " وأنى بأرضنا السلام، ثم رفع رأسه واستوى قائما، ثم قال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى - عليه السلام -: وما أدراك بي؟، ومن أخبرك أني من بني إسرائيل؟ قال: الذي أدراك بي ودلك عليَّ، ثم قال: يا موسى لقد كان لك في بني إسرائيل شغل، قال موسى: إن ربي أرسلني إليك لأتَّبِعك وأتعلم من علمك.
هذا هو اللقاء، بين علم النبوة وعلم القدر الذي آتاه اللَّه بعض أسباب عمله سبحانه وهو الحكيم، وقد اعتمدنا في خبر اللقاء على المروي لأنه لَا تَزَيُّدَ فيه، ولأنه متلاق مع النص القرآني أشار إليه، ونبه عليه.
الفاء في قوله تعالى:
________
(1) القصة كاملة رواها البخاري: تفسير القرآن - قوله: (فلما بلغا مجمع بينهما)، (4357).(9/4558)
فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
(فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا) هي فاء العطف التي للتعقيب والترتيب، أي أنه عقب الوصول إلى الصخرة وجدا عبدا من عبادنا، وجعل سبحانه اللقاء مع موسى وغلامه لتسوية الصحبة وإعطاء الغلام حقه من(9/4558)
الكرامة، ووصف اللَّه العبد الصالح قال: (آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) الرحمة النعمة، والرحمة بالناس إذ يفعل ما يكون فيه صالحهم قابلا، وإن لم يعلموه عاجلا، والعلم الذي من لدن اللَّه تعالى العلم بعواقب الأمور، بالإدراك الباطني، وقد وازن بعض المفسرين بين علم موسى، وعلم العبد الصالح الخضر، فقال: علم الخضر علم معرفة بواطن قد أوحيت إليه لَا تعطى ظواهر الأحكام أفعاله بحسبها، وكان علم موسى علم الأحكام والفتيا بظاهر أقوال الناس وأفعالهم.
والحق أنه يضاف إلى ذلك أن علم الخضر علم الأسباب في بواعثها، وعلم موسى علم الأسباب في واقعها، كما سنرى ذلك في المجاوبة التي كانت بينهما.
طلب موسى - عليه السلام - من أن يأذن له باتباعه، فقال:(9/4559)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
(قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
سأل موسى - عليه السلام - الخضر سؤال التلطف المستأذن في الاتِّباع، فلم يرد أن يظهر بمظهر المقحم لنفسم المتهجم بها، وقد قال القرطبي: " هذا سؤال الملاطف، والمخاطب المستنزل المبالغ في حسن الأدب، المعنى: هل يتفق لك، ويخف عليك " وهذا بلا ريب تعليم لآداب الصحبة أنها تكون باتفاق النفوس، وتلاقي القلوب، والاستفهام لبيان إرادة الاتباع في أبلغ أدب، وبين سبب ذلك الطلب، فقال: (عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)، و (رُشْدًا) مفعول لـ (تُعَلِّمَنِ)، أي أتبعك على أن تعلمني رشدا مما علمت، و (عَلَى) تفيد الشرط، أي أن هذا الاتباع لغاية؛ ولذا كان شرطها أن تعلمني رشدا مما علمك الله تعالى، وبني الفعل للمجهول؛ لأن المجهول في اللفظ معلوم في الحقيقة، فقد سبق قوله تعالى: (وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) وتوقع الخضر - عليه السلام - ألا يصبر؛ لأنه ستقع منه أمور غريبة في ظاهرها، ولا يصبر أحمد على الغريب من غير أن يتعرفه، فقال تعالى:(9/4559)
قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)
(قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
أكد أنه لَا يستطيع صبرا على ما يقع منه؛ لأنه أوتي علم الوقائع في صورها الظاهرة، ونتائجها المعروفة، وأكد أنه لَا يستطيع الصبر، بـ " إنْ "، و " لن "، والآية بعدها:(9/4560)
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا).
وقوله: (لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)، أي في صحبتي صبرا؛ لأنك ستجد غرائب بالنسبة لك، ولا تصبر على أمر لم تحط به خبرا، الإحاطة بالخبر العلم به في واقعه ونتائجه، وأنت ستعلم الواقع. ولا تعلم نتيجة هذا الواقع التي لَا يعلمها إلا اللَّه تعالى وقد علمني بعضه سبحانه، وأحاط بالأمر، أي كان عالما به، كقوله تعالى: (. . . أَحَاطَ بِكل شَيْءٍ عِلْمًا)، وأحاط به خُبْرًا معناه أحاط متصلا به خبرا، بالاختبار والمعاينة، ومؤدى هذا الكلام أنه يقول لموسى عليهما السلام إنك لَا تعلم إلا ما تختبره وتعاينه، ولا تعلم نتائج الأعمال الظاهرة التي يقدرها اللَّه سبحانه وتعالى في علمه المكنون.
وعَدَه موسى - عليه السلام - بالصبر تعليما لكل ذي حاجة أن يكون في طاعة من يحتاج إليه إذا كان في الخير:(9/4560)
قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
(قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
السين لتأكيد ما يقع في المستقبل، وهنا نجد كلام كليم اللَّه موسى اشتمل على ثلاثة أمور: أمران فيهما الطاعة، وأمر فيه التعليق على مشيئة اللَّه:
الأمر الأول - وعده بالصبر، فقال: (سَتَجِدُنِي)، أي إني منفذ ما طلبت، وستجد ما طلبت وهو الصبر قائما، على أنه وصف مستمر، ولذا قال: (سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا).
الأمر الثاني - أنه تأدب بتأدب تعلق على المشيئة، كما أمر اللَّه نبيه محمدا فقال: (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) فهذا تأديب اللَّه تعالى لأنبيائه وعباده الصالحين.(9/4560)
الأمر الثالث - أنه قال: (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا) وذلك أدب الاتباع، فالاتباع يقتضي الطاعة، والصحبة تقتضي عدم المنافرة والمخالفة.
أخذ العبد الصالح يبين حدود الصبر، وأنه صبر على الامتناع عن السؤال عن سبب الفعل مع غرابة الفعل في ذاته، وهذه طاقة عالية في الصبر، فإن العقل طُلَعَة يريد تعرف سبب كل واقع، وسر كل مجهول، فقال:(9/4561)
قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
(قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
قال العبد الصالح لموسى وقد وعده بالصبر، والفاء للإفصاح عن الاتباع المشروط بالصبر، أي إن صبرت فاتبعتني فمقتضى ذلك ألا تسألني عن شيء تستغربه، (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) لعلته، أي لَا تسألني حتى أبادئك بالبيان، وذلك من مقتضيات الصبر، ومن آداب المتعلم أمام المعلم، والتابع للمتبوع لا يبادره حتى يبين هو ما عنده، والتعبير بالذكر يشير إلى أن ما يخبر به من بعد هو تذكير بقدرة اللَّه تعالى.
بعد هذه المواثيق بين موسى كليم اللَّه تعالى والعبد الصالح عليهما السلام أخَذَا في السير؛ ولذا قال تعالى:(9/4561)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
(فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
(الفاء) في (فَانطَلَقَا) للترتيب والتعقيب، أي أنهما عقب أخذ هذه المواثيق، انطلقا فور ذلك الاتفاق، والتعبير بـ (انطلقا) يومئ إلى أن كليهما فرح بهذه الصحبة وسارا ما شاء الله أن يسيرا إلى أن وجدا سفينة، وكان السير على سيف البحر، (حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا)، أي أنه خرقها وقت أن ركبها، وفى الصحيحين أنهما لم يدفعا أجرا، وخلع لوحا منها، لم يدرك موسى - عليه السلام - الذي أوتي علم المباح والممنوع، ولم يعط من علم الغيب شيئا، لم يدرك، فقال: (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا) اللام في (لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) لام العاقبة،(9/4561)
أي لتكون النتيجة أن يغرق أهلها، والأمر الإمر هو الأمر الخطير العظيم في ذاته من قولهم أَمِرَ الأمر إذا عظم، كما قال أبو سفيان متهكما: لقد أمِرَ أمْرُ ابن أبي كبشة، عندما رأى هرقل يهتم بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويسأل عنه.
لم يسأل موسى - عليه السلام - عن السر، ولكنه أبدى استغرابه، ولم يستطع الصبر، ولذا قال العبد الصالح:(9/4562)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)
(قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72)
الاستفهام بمعنى النفي، ونفي النفي إثبات وهو هنا يفيد الاستنكار والتوبيخ، والمعنى لقد قلت لك إنك لن تستطيع معي صبرا؛ أي في صحبتي صبرا، لأنك تسير مع ما يحكم به على الأشياء والأعمال في الحياة، والعبد الصالح يعلم علم الحقيقة، وهو نتائج الأعمال في العلم المغيب عن الناس جميعا في هذه، فهو يخالف بين العلم بالأحكام التي تحكم بين الناس، والعلم بالحقائق التي يقررها اللَّه تعالى، ونتائجها، فالفرق بين العلمين، العلم بما ينظم الناس عليه أمورهم والعلم برب الوجود، وما قدره الله تعالى.
أدرك كليم اللَّه تعالى خطأه، واستدرك أمره، فقال معتذرا:(9/4562)
قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
(قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
لا تؤاخذني بطلب رفع المؤاخذة بسبب النسيان، فـ " ما " وما بعدها مصدر، والنسيان يرفع المؤاخذة ويسقط التبعة، وما تركت من وصيتك من ألا أسألك عن شيء قبل أن تحدث أنت منه ذكرا - إلا للنسيان (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا)، أي لا تشتد على في التعنيف فيكون الإرهاق الشديد، والمعنى اللفظي لَا ترهقني عسرا من أمري فتغلظ على الصحبة التي أريدها.
ولكنهما سارا مصطحبين، فكان أمر أشد غرابة، وأعنف مظهرا من خرق السفينة، وهو قتل غلام، ولقد قال تعالى:(9/4562)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
(فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
انطلقا سائرين على سيف البحر، ولكن حدث ما أثار استغراب موسى بل استنكاره (حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ)، أي أن السير استمر إلى غاية، وهو لقاء غلام، والفاء في قوله تعالى: (فَقَتَلَهُ) للتعقيب، أي أنه قتله فور لقائه، وهذا يدل على أنه لم يرتكَب ما يسوغ القتل؛ إذ إن القتل كان فور اللقاء.
وهنا يتخالف مع علم الحلال والحرام، وعلم الحقيقة الغيبية فيكون الاستغراب، ويقول موسى الكليم مستغربا لائما (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكيَّةً)، أي طاهرة غير معتدية نامية، لأنها في باكورة حياتها، إذ التزكية التنمية، بغير مسوغ يسوغ لك هذا الفعل؛ ولذا قال بغير نفس، أي حتى يكون القتل قصاصا لَا اعتداء فيه (لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا) أي أمرا منكرا في ذاته تستنكره العقول، ويخالف كل معقول.
وقد كان الفعل شديدا، والاستنكار شديدا، وهو أيضا من التخالف بين علم الحلال والحرام، وعلم الحقيقة الغيبية، وقد وصفه كما ذكرنا بأنه شيء نكر، تنكره العقول وكل عرف إنساني، وقد كان اللوم على الاستغراب أشد.
ولقد قال تعالى في بقية القصة الصادقة:
* * *
(قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي(9/4563)
وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
* * *
كان استغراب موسى شديدا، وكان معه استنكار ووصف له بالنكر، ولذلك كان التذكير بأنه لم يستطع صبرا بأسلوب قوي فيه لوم أشد، فقال تعالى:(9/4564)
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75)
(قَالَ أَلَمْ أَقل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا).
فقد زيد (لَكَ) عن اللوم السابق الخاص بخرق السفينة، وهي تفيد مزيد اللوم، إذ إنه يذكره بأن الخطاب كان له، وفي ذلك فضل توكيد للوم، لأنه لم يكن الخطاب لغيره، بل كان له ابتداء، والاستفهام للإنكار بمعنى إنكار الوقوع مع اللوم وتحقيق القول، والمعنى لقد قلت لك إنك لن تستطيع معي صبرا، وفيه تأكيد لعدم الاستطاعة بالجملة الاسمية و " إن " الدالة على التوكيد، و " لن " المؤكدة للنفي، وتنكير الصبر، أي صبرا كان قليلا أو كثيرا.
لقد قال موسى لصاحبه في المرة الأولى: (وَلا ترْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا)، أي لَا ترهقني عسرا من أمري، فتجعلني في عسر من صحبتك بل تغاض، وسهِّل(9/4564)
الصحبة وقرِّبها، أما في هذه المرة فقد أحس بشدته هو على العبد الصالح، إذ قال إن ما فعلته نكر.
أحس موسى - كليم اللَّه تعالى - بشدة اللوم، وأحس بأنه كان منه ما أوجبه، ولذا قال في حال تشبه الاعتذار:(9/4565)
قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
(قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
اعتزم موسى - عليه السلام - ألا يسأله عن شيء بعد هذه المسألة، وفي الواقع إن ما كان منه اعتراض وليس بسؤال؛ لأن السؤال استفسار، وليس فيه حكم على الفعل بأنه خير أو شر، أو بأنه موضع ملام أم ليس بموضع، وكلام موسى - عليه السلام - كان يحمل معنى اللوم لَا الاستفسار ولكنه سماه سؤالا؛ لأنه أمره بالصبر وخالفه، وتأدبا معه في القول فأراد أن يحمل كلامه على أنه استفسار، وليس باعتراض، وقوله تعالى: (بَعْدَهَا) الضمير يعود إلى مفهوم القول، وهو المنكرة التي أنكرها على العبد الصالح؛ إذ رماها بأنها نُكْرٌ تستنكره العقول والأفهام، وفي هذا ترشيح للاعتذار عن العبد الصالح، وتمهيد لقوله تعالى: (قَدْ بَلَغْتَ مِن لَدُنِّي عُذْرًا)، أي فقد كان بلغت عذرا في لومك لي، والمعنى أعذرت لنفسك عندي، و (لَّدُنِّي) يعني عندي، ولا تكون إلا للعندية في أمر خطير، وأكثر ما تكون للعندية عند اللَّه تعالى كقوله تعالى: (. . . مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).
استمرا في سيرهما مراقبين لأعمال العباد، فقال تعالى:(9/4565)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
(فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
سارا منطلقين إلى الغاية التي أرادها موسى من العبد الصالح؛ لأن اللَّه آتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما، (حَتَى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ)، وإن الذي يسير لا يأتي أهل القرية أولا، أنما يأتي القرية أولا بمبانيها، وطرقها، ويتعرف أهلها،(9/4565)
ولكنه ذكر الأهل أولا - لأنهم لهم شأن في هذا اللقاء وهو اللؤم، وفساد النفس كما يبدو مما يأتي: (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا)، أي فور اللقاء معهم طلبوا الطعام، فالسين والتاء للطلب، طلبا الطعام، لأنهما كانا في جوع شديد، وألأم القرى الذين لا يقرون الضيف ولا يطعمون ابن السبيل الذي يكون في مكان قد انقطع عنه زاده، وإن كان غنيا في مكانه، فأجابوهما عن الاستطعام بالامتناع؛ ولذا قال تعالى: (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا) والتضَيُّف طلب الضيافة بشدة الحاجة، وردها بشدة مع ظهور الحاجة، وهل يكون ظهورا أشد من الاستطعام وكان تكرار ذكر أهلها؛ للدلالة على لؤم القوم، وفساد المروءة.
ومع ما بدا عليه أهل القرية من بخل رأى جدارا آيلا للسقوط فأقامه؛ ولذا قال تعالى: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ)، أي أن موسى والعبد الصالح وجدا جدارا قد تداعي للانهيار أو آل للسقوط فأقامه مع أهلها، وقد عبر اللَّه تعالى عن الأيلولة للسقوط بقوله سبحانه: (يُرِيدُ أَن ينقَضَّ)، أي ينهار والإرادة هنا تعبير مجازي، فقد شبه الجدار الذي مال للسقوط بإنسان له إرادة، وأراد أن يقع، وينقض تجريد للإجازة؛ لأنه وصف يناسب المشبه، ولقد أفاض الزمخشري بباعه الطويل في البلاغة في هذا المجار فقال: (يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ) استعيرت الإرادة للمداناه والمشارفة، كما استعير الهم والعزم. . . . قال حسان:
إن دهراي لف شملى بِحُمْل ... لزمان يهم بالإحسان
وسمعت من يقول: عزم السراج أن يطفأ، وقول اللَّه تعالى: (. . . قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ).
وقد ضرب على ذلك أمثلة كثيرة، لقد أخبرنا اللَّه تعالى أنه أقامه، ولكن لم يبين لنا سبحانه كيف أقامه، أهدمه ثم أقامه من جديد؛ أم أقام أعمدة سندته أم رمَّ ما فيه من ثغرات؟، لم يبين القرآن ذلك، ولا تستطيع معرفته بروايات من غير القرآن إلا أن تكون سنة نبوية ثبتت بسند صحيح، لَا مرية فيه، ولا وهن، وإن كنا(9/4566)
نميل إلى أنه هدمه وبناه، كما سيبين في أنه كان لغلامين يتيمين، وكان تحته كنز والأمر أثار استغراب كليم اللَّه تعالى موسى لأنهم أنذال، وكلف نفسه إقامة جدار أراد أن ينقض؛ ولذا قال لصاحبه: (لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا)، أي أنه عمل نافع لقوم لئام يستحق أجرة وهما في حاجة إليها، وقوله تعالى: (لَوْ شِئتَ)، أي يمكنك أن تأخذ عليه أجرا لو أردت، وهذا بلا ريب اعتراض وإن كان خفيفا؛ لأنه لم يقل أنه أَمْر إِمْر، ولا أَمْر نُكر، ومهما يكن فإنه لَا يخلو من اعتراض ولوم ورغبة في أن يأخذ أجرا، ولقد أنهى بعدها الصحبة العبد الصالح، فقال:(9/4567)
قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
(قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
الإشارة إلى الأمر الأخير، وهو قوله: (لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا)، أي أنه ترك الأجر لقوم غير كرام، بل هم لئام وذلك يدل على أن مغبة عدم الأجر ترجع إليه لأنه لم يشأ أن يطلبه.
كانه بهذا يشير إلى أن كثرة المجاوبات وعدم الصبر هو الذي كان سبب الفراق بيني وبينك، أي أن هذا هو الحد الفاصل بيتنا، ويصح أن تكون الإشارة، إلى النهي عن المصاحبة، إذا سأله فقد قال موسى: (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي).
ومهما يكن ما يشير إليه اسم الإشارة، فالمعنى أن ذلك هو الحد الفاصل الذي فرق بينهما في هذه الصحبة، فهو إيذان بانتهاء المصاحبة التي كان منها ذلك التعليم مما علمه اللَّه تعالى.
وبعد أن أنهى المكالمات بينهما، أخبره بسبب ما فعل، أو الغاية والمآل من فعله فقال: (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) الإنجاء: الإخبار بالأخبار الخطيرة والتأويل معناه معرفة المآل، والسين للإخبار المؤكد في المستقبل، وقوله(9/4567)
تعالى: (مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) قدم (عَلَيْهِ) على (صَبْرًا)؛ لأن ذلك أدعى للاهتمام.
أخذ بعد ذلك ينبه بالسفينة، ثم بقتل الغلام، ثم بإقامة الجدار، فقال تعالى:(9/4568)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
بعد ذلك أخذ في تفصيل أو تفسير ما فعل وغايته الغيبية أو المال العيني، (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ)، المساكين هنا جمع مسكين، وليس هو المسكين القسيم للفقير الذي هو أدنى حالا من الفقير، عند بعض الفقهاء، - أو أعلى حالا من الفقير على قول آخرين، إنما المراد الضعيف الذي لا قوة ولا سطوة لقلة في العدد، أو لاستخذاء أمام قوي غالب، والمراد لقوم ضعفاء، كانوا يعملون في البحر بحارة أو تجارا، ولم يكونوا ذوي قوة تغلب أو تقهر، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا وراءهم في السير، أي أنهم يسيرون ويسبقونه، ويكون هو بعد سيرهم، فهو يستقبلهم، ويغتصب سفينتهم لضعفهم واستكانتهم، وقوله تعالى: (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا) فهي مقدمة عن تأخير؛ لأن سبب إرادة عيبها أن وراءهم ملكا إلى آخره، والسبب مقدم على المسبب، ولكنه قدم هنا إرادة العيب على سببها؛ لأن إرادة العيب هي سبب لمنع الغصب قدمت عليه، إذ هذا العيب يحمى هؤلاء المساكين وسفينتهم من الغصب، إذ يراها ليست مما يرغب فيه، فيمتنع عن غصبها لَا كراهية للغصب في ذاته ولكن استحقارا لها بعد هذا العيب.
والعيب يمكن إصلاحه، والمهم إنقاذ السفينة من اغتصاب المغتصب.
وإن هذا التأويل يدل على أن ظواهر الأمور قد تكون ضارة بادي النظر، ولكنها في غايتها، خير وفير، (. . . وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لكُمْ. . .).
هذا هو تأويل خرق السفينة أو بيان مآله، أما قتل الغلام فقد قال فيه كما حكى اللَّه تعالى عنه:(9/4568)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
(وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
والغلام يطلق على الصبي المراهق الذي لم يبلغ الرشد، وقد قتله كما تلونا، واستنكر موسى - كليم اللَّه تعالى - بعلم الحلال والحرام تلك القتلة، ووصفها بأنها أمر نكر، وهذا تأويل تلك الفعلة، أي معرفة مآلها، ونتيجتها، يقول العبد الصالح الذي آتاه اللَّه تعالى علما من لدنه (وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ)، أي ولم يكن يرجو أن يكون ولدا صالحا تَقَر به أعينهما بتقواه واستقامته، بل توقع منه الشر أو علمه مما علمه اللَّه تعالى، ولذا قال: (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وكُفْرًا)، أي علمنا مما علمنا اللَّه أنه سيكون منه شر كبير، فبسبب ذلك خشينا أن يكون منه إرهاق نفسي ومادي لهما ويطغى عليهما ويكفر، فمعنى (أَن يُرْهِقَهُمَا)، أي ينزل بهما رهقا (طُغْيَانًا) يطغى به عليهما فلا يكون بارا بهما، بل يكون عاقا لهما يؤذيهما، (وكفْرًا) يكون سبة لهما، ومصدر إيذاء.
قتله لذلك، ولأنه أراد لهما ذرية طيبة طاهرة تقر به أعينهما؛ ولذا قال:(9/4569)
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
(فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
يتكلم بلغة المتكلم ومعه غيره، وهذا يسير إلى أن اللَّه معه فهي ليست إرادته وحده، إنما هي إرادة اللَّه سبحانه وتعالى، وهو لها منفذ، فلم يجعلها له وحده لأنها ليست إرادته وحده، ولم يجعلها للَّه تعالى؛ لأنه لم يجد من الأدب أن ينسب القتل للَّه تعالى.
وهنا يسأل سائل: لماذا قال في السفينة (فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا) ولم يقل بلسان المتكلم ومعه غيره؛ لأن خرق السفينة ليس في حظ القتل فصح أن ينسبه لنفسه، وإن كان بأمر اللَّه، أما القتل فأشار إلى أنه بأمر اللَّه تعالى لخطورته، وأسند التبديل إلى اللَّه؛ لأنه لَا يكون إلا منه، (الفاء) هنا تفيد السببية الظاهرة، أي أنه بسبب ما يخشاه منه من الكفر والطغيان كانت إرادة التبديل، وقوله تعالى: (أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِّنْهُ)، أي أن يجعل بدلا منه يحل محله خيرا منه زكاة، أي طاهرا ناميا، وأقرب رحما، الرُّحم بضم الراء تطلق ويراد منها الرَّحمة، وتطلق ويراد(9/4569)
منها الرَّحِم، وعلى الأول يكون المعنى خيرا منه طهارة، وأقرب رحمة، أي أدنى إلى الرحمة والبر من هذا الذي يرهقهما طغيانا وكفرا، وعلى الثاني أقرب رحما، أي أوصل لرحمه، وأحفظ لحق الأبوة، فيكون منه الطهارة والبر بهما، فلا يكون كفر وشرك، ولا طغيان عليهما، ويكون قد دبر لهما اللَّه بالولد الذي لَا يرجى منه خير من يرجى خيره وبره وصلته الرحم، ويلاحظ أن الأوصل رحما لَا يكون بره لأبويه فقط، بل يكون لأسرته كلها لهما، ولمن يتفرع منهما أو من أجدادهما.
بعد ذلك أجاب عن الجدار، ولماذا أقامه؟(9/4570)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
الغلامان كانا صغيرين كما يدل على ذلك وصفهما باليتم، فإنه لَا يُتم بعد البلوغ إلا أن تكون آفة في العقل أو النفس، واللفظ يطلق على ظاهر ما لم يقم دليل يوجب تحويله عن الحقيقة إلى المجاز، وإطلاق اليتم على البالغ مجاز، ولقد قال ابن عباس في هذا المجاز الرجل يتيم ما لم يرشد ولو بلغ الأربعين، ولكن ذلك مجاز لَا حقيقة.
(وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) الأب هو الأب القريب؛ لأنه لَا يكون يتيما إلا إذا كان قد فقد الأب القريب، ولا يكون الصلاح ممتدا إلى الأبناء كما تشير الآية إلا إذا كان الولد صبيا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له " (1) فصلاح الأبناء ينسحب خيرا للآباء، وكذلك صلاح الآباء.
وكان تحت هذا الجدار كنز لهما، وَرثَاه عن أبيهما الصالح فيما يظهر، والكنز المال الكثير المدفون في باطن الأرض بدفن الإنسان، وهذا الكنز مضيع إن
________
(1) سبق تخريجه.(9/4570)
لم يستخرج، وقد أراد الله تعالى أن يستخرج كنزهما، وهذا قوله تعالى: (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا)، والأشد هو القوة، وقد شرحنا اشتقاقه، أي أن يبلغا قوتهما في الجسم والعقل، والرشد في التعامل (وَيَسْتَخْرِجَا كنزَهُمَا)، واستخراج الكنز طلب إخراجه، والعمل على ذلك منهما أو من غيرهما ممن له صلة بهما، فالسين والتاء للطلب، وذكر إرادة اللَّه دون إرادته هو، وإن كانت إرادته تابعة لإرادة اللَّه سبحانه وتعالى؛ لأن هذه الإرادة الإلهية متعلقة بأمر في المستقبل يتصل بالتكوين وهو بلوغ الأشد، وأن يحصلا على كنزهما بعد محاولة استخراجه ببذل ما يبذل في سبيل ذلك عادة (رَحْمَةً مِن رَّبِّكَ)، أي لأجل الرحمة من ربك الذي هو الحي القيوم الذي يرب الوجود جميعا، أحياء وغير أحياء.
وهنا نجد أن إقامة الجدار كان لأجل استخراج الكنز، وإن ذلك لَا يتم فيما يظهر إلا بهدم الجدار أولا ليظهر ما تحته من كنز، ثم إقامته من جديد بعد كشف ما تحته.
ثم أشار العبد الصالح إلى أن ذلك بأمر الله وتكليفه فقال: (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)، أي ما فعلته صادرا عن أمري، بل منفذا أمر الله، وليس لأحد أن يعترض على أمر اللَّه تعالى: (ذَلِكَ تَاوِيل مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا)، أصلها ما لم تستطع صبرا عليه، حذفت التاء تخفيفا في النطق إذ يصعب النطق بالتاء التي يعقبها الطاء لتقاربهما في المخرج، ولم تحذف في (لَن تَسْتَطِيعَ)؛ لأنها متحركات بخلافها هنا فالأولى مفتوحة والثانية ساكنة، الإشارة إلى معرفة المآل في سر خرق السفينة وقتل الغلام، وإقامة الجدار، وإن ذلك من أمر اللَّه تعالى؛ لأنه يتعلق بالغيب، ولا يعلم الغيب إلا اللَّه ومن يتكلم عن الغيب إنما يأخذ من علم اللَّه الذي علمه بعض عباده الصالحين.(9/4571)
العبرة في هذه القصمة
أجمعت كل الصحاح على أن العبد الصالح هو الخضر، ويلاحظ أن القرآن الكريم ذكر أقواله ومجاوباته مع كليم الله موسى عليهما السلام ولم يذكر عن شخصه إلا أنه عبد من عباد اللَّه آتاه رحمة، وعلمه من لدنه علما، فإذا ثبت في الصحاح أن اسمه الخضر، وهو من الخضرة والنضرة نقبله غير معترضين، ولكن راضين خاضعين مذعنين، والعبرة في القصة بمعانيها، ولا مشادة في الاسم بالنسبة لها.
وإن القرآن الكريم ذكرت فيه على أنها قصة قد وقعت ومجاوبات قد قامت بين موسى، والعبد الصالح فهي واقعة صادقة، ولا مساغ لتفسيرٍ بغير أنها خبر قد وقع وثبت.
ولكن قد أثير كلام حول رؤية الخضر أكان مرئيا بالعيان كما ترى الأشخاص، أم أنه كان مرئيا فقط لموسى - عليه السلام -، وأنه لم يُر وهو يخرق السفينة إلا لموسى فقط، ولم ير وهو يقتل الغلام إلا لموسى، وكذلك عندما أقام الجدار، ولو أنه رؤي وهو يقتل الغلام لطارده الناس وما تركوه، وكذلك الجدار فإنه يحتاج إلى هدم وإقامة، وينظر الناس إليه وهو يهدم ويبني، ويظهر الكنز، وكل هذا يحتاج إلى زمن طويل يكون مرئيا فيه للناس.
وإني أميل إلى أن الرؤية كانت خاصة بموسى - عليه السلام -، كما يشاهد الأنبياء الملائكة، ومع ميلنا لهذا نقول: " إن اللقاء الأول كان مرئيا فيه لموسى ولغيره؛ لأن اللَّه يسند فيه الرؤية لموسى ولفتاه "، فيقول اللَّه تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا).
ولعل السبب في أن الفتى لم يذكر له خبر في مسألة السفينة والغلام والجدار وكان يذكر الحديث عن اثنين فقط هما موسى والخضر، ولا يهمنا أين تركه وفي أي مكان افترق عنه فتاه.(9/4572)
وإن القصة تضمن معنى جليلا، وهو أن علم الغيب هو علم اللَّه الذي اختص به سبحانه يعلِّمه من يشاء، وأن طاقة الإنسان الفكرية لَا تكون إلا في ظواهر الأعمال، والنتائج التي تكون ثمرة الأسباب الظاهرة، فعلينا أن نسير فيها على مقتضاها، ونبني أعمالنا عليها، ولكن مع ذلك نفرض أن الأسباب لَا تنتج بذاتها، إنما ينتج بإرادة اللَّه تعالى، وبمقتضى علمه المكنون الذي أحاط بكل شيء علما؛ ولذا أمرنا بعد اتخاذ الأسباب أن نتوكل على اللَّه تعالى، مفوضين الأمور إليه، ولذا يقول اللَّه تعالى: (. . . وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْت فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. . .).
وأن ما يجريه اللَّه تعالى معنا ربما لَا يتفق مع ما نرغب، ولكن قد يكون ما غيبه اللَّه تعالى خيرا لنا، كما رأينا في خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار فإنه في هذه الأمور كان خرق السفينة الذي هو عمل اللَّه تعالى سخر له عبدا صالحا من عباده خفي أمره على الناس.
ومن الفوائد التي اشتملت عليها الآيات أن رحمة اللَّه تعالى تعم دائما ولا تخص، وأن رحمته تكون على الضعفاء، فقد قدر سبحانه وتعالى أن السفينة كانت لمساكين يعملون في البحر، فقرر أن تخرق لتكون معيبة، فلا يأخذها الذي يأخذ كل سفينة غصبا، وهذه من رحمة اللَّه تعالى بالمساكين الذين يعملون في البحر صائدين أو ناقلين لما ينفع الناس.
وإن قدر اللَّه تعالى يجري على بقاء الصالح، وفناء غير الصالح، ولذا قتل الخضر الغلام الذي خشي أن يرهق أبويه الصالحين طغيانا ويبدلهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما.
وفى القصة من الآداب الإنسانية، والأخلاق العالية الكثير، فنرى أنه يجب على الإنسان أن يطلب العلم، وأن يبذل الجهد في طلبه غير مدخر في ذلك جهدا؛ فهذا موسى - عليه السلام - يسير في طلب العلم حتى يلقى النصب.(9/4573)
وفى القصة أيضا ما يجب من ألا يجعل الاستغراب أساسا للحكم على الأشياء فقد يكون الأمر المستغرب أصدق الأمور، وأقربها إلى الحق وأحسنها مآلا، كما رأينا في السفينة وفي الجدار فلا يُردّ الأمر لأنه غريب، ولكن يرد لضرره، أو لأن مآله ضر. وفيها أيضا، ما يجب من تطامن طالب العلم لمن يعلِّمه، كما رأينا في تطامن موسى - عليه السلام - للعبد الصالح.
وإن السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لوحظ فيها احتمال الضررين بدفع أخفهما، وقد لوحظ ذلك في السفينة وقتل الغلام فقد خرقت السفينة لمصلحة العاملين في البحر، ودفع الاغتصاب، وكذلك قتل الغلام لنفع أشمل، وإقامة الجدار فيه نفع كثير بتحمل ضرر قليل، وذلك أصل مقرر في الشرع يؤخذ به إذا لم يكن نص.
* * *
قصة ذي القرنين
قال اللَّه تعالى:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
* * *(9/4574)
ذكر اللَّه تعالى في هذه السورة ثلاثة أمور غريبة:
الأمر الأول - أمر أهل الكهف، وهو رؤية حسية يراها الناس كيف يجعل بعض الناس بين الموت والحياة إكراما لجهادهم، وهو تصوير لشهداء الحق كيف يكونون بين الحياة والموت، حتى ينالوا جزاءهم جزاء موفورا.
الأمر الثاني - كما ذكرنا قصة عبد صالح آتاه اللَّه بعض العلم بالغيب الذي لا يعلمه إلا اللَّه تعالى، وما يشاء أن يعطيه بعض ما يعلم من عباده الأطهار فأعطى عبده الصالح بعض ذلك، وفي ذلك بيان أن قدر اللَّه تعالى بني على الحكمة الكاملة فقد يحسبه أهل العلم بالظاهر شرا، وهو عند اللَّه تعالى له عواقب كلها خير.
الأمر الثالث - قصة رجل صالح من نوع غير نوع رجل موسى - عليه السلام -، وهو رجل خير تهيأت له الأسباب فاختار طريق الخير، وألهم العمل الصالح من غير تعليم من لدن اللَّه، بل بتوفيق اللَّه تعالى وتيسيره، وجهاده وإرادته الخير، ومثل من كان صالحا بهذا العمل الإرادى، والعبد الصالح كمثل اثنين أحدهما أوتي علما من علم القدر يسجل نتائج الأعمال، كما قدرها اللَّه مرتبة على ما فعل، والثاني أوتي قدرة بتوفيق اللَّه تعالى وإذنه على أن يقوم بعمل فيه مصلحة مؤكدة ونفع مؤكد يفعله قاصدا إليه، وهو في هذا يكافح أهواءه، ويقصد الخير قصدا واضحا بينا، والكل بفضل اللَّه وإذنه وتيسيره وتوفيقه.(9/4575)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
السائلون هم المشركون بتعليم من اليهود، أو من اليهود مباشرة، فقد جاء في كتب السيرة أن اليهود قالوا للمشركين، سلوه عن الروح وعن العبد الصالح، وعن رجل ملك وكان صالحا، وجاء أن اليهود سالوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وهو بالمدينة.
ونحن نرجح أن المشركين سألوا بتحريض من اليهود؛ لأن السورة مكية فالأقرب أن تكون المجادلة بينه وبين المشركين في مكة وهم قد يستعينون في مجادلتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأهل الكتاب.(9/4575)
ومهما يكن فالسؤال وقع، وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك الملك الصالح المعروف باسم ذي القرنين، فالسؤال كان عن شخص بعينه، وكان من أوصافه كما يدل سياق الآيات على أنه كان ممكَّنا، وأنه حكم في مشرق الأرض ومغربها، وأنه ابتدأ في حكمه بالمغرب، وأنه كان عادلا يجزي المسيء جزاء إساءته، ويجزي المحسن جزاء وفاقا لإحسانه، وأنه كان مرجع الذين يُؤذَوْنَ من بعض بني الإنسان، وأنه أقام سدا بين الأشرار ومن يتأذون منهم.
وكان من حقنا أن نكتفي بمعرفة صفاته وأفعاله ولا نحتاج في فهم ذلك إلى معرفة شخصه أو من أي قبيل هو، فإن ذلك لَا يزيد علما بالقرآن ومعانيه، كما لا يهمنا شخصية فرعون موسى، ولا في أي قرن من الزمان كان بعثه.
ولكن المفسرين تعرضوا لمعرفة شخصه، فقال قائل: إنه كان في عصر إبراهيم ولا مستند لهذا القول، وقال آخرون مستندين إلى بعض آثار منسوبة للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه الإسكندر المقدوني باني الإسكندرية حوالي سنة 300 قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وعلى هذا الرأي أكثر المفسرين الذين تصدوا لذلك، ولكن قام على هذا الرأي ثلاثة اعتراضات:
الاعتراض الأول - أن هذه الآثار لم تصح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكرها ابن جرير، وكذبها الحافظ ابن كثير.
الاعتراض الثاني - أنه كما ذكر في عبارات القرآن كان موحِّدًا، حتى ادعى أنه نبي، والإسكندر المقدوني المعروف عنه أنه كان يدين بوثنية اليونان والرومان.
الاعتراض الثالث - أنه سمي في القرآن بأنه ذو القرنين، ولم يكن المقدوني ذا قرنين، ولم يسم ذا القرنين.
وقد أجيب عن الثاني بأن كونه كان في قوم وثنيين لَا يقتضي أن يكون وثنيا، فالنجاشي كان في النصارى، وكان مؤمنا موحدا، فإذا كان القرآن ذكر ذا القرنين مشيرا إلى أنه موحد، فليس في أخبار المقدوني ما ينفي وحدانيته.(9/4576)
وكون المقدوني لم يكن ذا قرنين لَا يدعى أنه كان ذا قرنين، وإن كان اسمه كذلك، على أن المقدوني كان يجوز أن يسمى ذا القرنين، وكان يلقب بذلك، لأنه اتخذ شعارا ذا تاجين، إذ إنه عندما فتح مصر لبس تاج الشمال وتاج الجنوب رمزا لاجتماع الإقليمين تحت سلطانه، فكان شبه قرنين.
وفى الحق أنه لو صدقت الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه باني الإسكندرية ما عدلنا عن هذا القول، لأنه يكون تفسيرا للقرآن بالسنة وهي المبينة للقرآن.
وهناك قول قاله العلامة الهندي أبو الكلام زاده وهو أنه غورش الفارسي الذي أنقذ بني إسرائيل من أسرهم في بابل، فقد وصف في التوراة التي بأيدينا في سفر دنيال وغيره بأنه لقب " ذو القرنين " لعظيم قوته واتساع ملكه وقوة سلطانه.
ويقرب هذا أنه ينطبق عليه الوصف المذكور في القرآن، وأن السؤال كما جاء في القرآن الكريم منبعث من اليهود، سواء وجهه اليهود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، أم وجهوه عن طريق المشركين كما اخترنا ورجحنا، وأما ملكه فقد كان في وسط بين غرب آسيا وشرقها وأنه اتجه بسلطانه إلى الغرب، ثم اتجه من بعد ذلك إلى الشرق، كما يومئ القرآن الكريم، إذ إنه ابتدأ بذكر عمله في الغرب ثم في الشرق، وإنا لَا نختار رأيا لأننا لَا نحتاج إليه في تفسير القرآن الكريم لأنه واضح المعنى ولو لم يعرف قبيل ذي القرنين.
ْهذه هي النظرة إلى شخص ذي القرنين، وإن كانت معرفة شخصه لَا تزيد القرآن بيانا، بل العبرة في خبره ثابتة ولو لم يعلم جنسه وقبيله.
وقوله: (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا) الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - في (قُلْ)، والخطاب في (عَلَيْكُم) للمشركين السائلين، للاعتبار؛ لأف خبر رجل صالح، ممكَّن فأقام العدل، وأقام المصلحة، ونفع الناس. قوله تعالى: (سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ)، أي من خبره (ذِكْرًا)، أي خبرا يكون فيه تذكير لكم بوجوب التوحيد، وترك عبادة الأوثان، وإقامة العدل، ونفع الناس بدل إيذائهم، والتعبير(9/4577)
بـ (سَأَتْلُو)، أي سأخبركم بخبره وأقص عليكم قصصه، والتعبير بـ (أتلو) يشير إلى أنه قد نزل فيه قرآن وما أقص هو قرآن صادق لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لأنه تنزيل من حكيم حميد.(9/4578)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
أي جعلناه ممكنا في الأرض آتيناه حكما ثابت الدعائم قائما على عُمُد ثابتة ممكَّنة، وآتيناه سببا من كل شيء، السبب هو الطريق الموصل والحبل المربوط الذي يصل بين الأشياء، أي آتيناه سببا من كل شيء، بأن آتيناه علما يوصل لأي شيء يختاره، فآتيناه من السلطان أسبابا، ومن العلم أسبابا، ومن الإصلاح الزراعي والتجاري. والسبب في الأصل الحبل، فالمعنى آتيناه علما يتخذه سببا لكل ما يرى.(9/4578)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
(فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
أي أنه يردف السبب سببا لشيء آخر، وهكذا تتوارد أسباب العمل سببا يتبع سببا، أي يجيء من بعده تابعا له، وهكذا مُكِّن في الدنيا، إذ اتخذ سبيل الحق والعدل، يسلك الأسباب الموصلة بما آتاه اللَّه من العلم والإدراك فإذا كان عادلا منصفا استقر حكمه، وانتظمت الأمور، وإذا انتظمت الأمور قويت الجماعة واستقامت الأخلاق وسادت الفضيلة وانتصرت في الحروب وإذا انتصرت أنصفت، وجلبت المصالح، ودفعت المضار، وهكذا تترادف الأسباب وتستقيم الأمور، وإنه بتوافر الخير واتخاذ الأسباب المكونة لدولة قوية عادلة، سار في الأقاليم فاتحا ناشرا لواء والعدل.
ولذا سار يجوس خلال الدول فاتحا مظلا الجماعات بلواء العدل.(9/4578)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
اتجه في سيره إلى غرب بلاده أولا، لأنها الأقاليم التي تصاقبه، وإن الحاكم العادل يؤمِّن أرضه من جيرانه أولا، ثم يتجه إلى ما بعدها شيئا فشيئا حتى يصل(9/4578)
إلى أقصاها، وكذلك فعل، ولذا قال تعالى عنه: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ).
" الحمئة " أي ذات حمأة، والحمأ الطين، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَأٍ مسْنُونٍ).
أي أن الشمس تغرب لترى في عين من الماء حمئة، أي فيها طين.
وقرى (حامية)، أي أن هذه العين من الماء حارة شديدة الحرارة، أو حامية أصلها حامئة، أي كثيرة الطين وتتلاقى مع قراءة (حَمِئَةٍ) إذ اللفظ واحد في جملته وإن جرى فيه قلب.
والمراد أن الشمس ترى كأنها غاربة في عين ماء فيها طين، حمأ، وما المراد من هذه العين؛ المراد منها الماء، ولكن أهو ماء المحيط، أم البحر، أم هو ماء نهر؟ الظاهر لدي أنه ماء نهر، لَا ماء محيط، لأنه ذكر أنه عين، وماء العيون في أكثر أحواله ليس ماء ملحا، وإن كان فهو معدني إلى العذوبة أميل، ولأنه ذكر أنها عين حمئة، أي التي اختلط ماؤها بطين، وتلك تكون في الأنهار لَا في البحار.
ومهما يكن فقد كان اتجاهه ونهايته إلى الغرب من آسيا وأصقابها كبلاد البلغار، ونحوها.
هذا كان اتجاهها إلى الغرب، (وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا) وجد ناسا قد تهيأ لحكمهم فعلمه اللَّه تعالى بإلهام الحكمة نوع الحكم الذي يحكم، وردد في عقله وقلبه كيف يحكم، (قلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)، تردد في قلبه أيحكمهم بالعنف والقسوة، أو يحكمهم بالرفق، فمعنى قول اللَّه تعالى بهذا التردد أنه ردد في نفسه وعقله وقلبه بنور اللَّه تعالى أن يكون عمله أحد أمرين، إما العذاب وإما الإحسان بالتهذيب والإرشاد والتوجيه، وهذا معنى (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)، أي إحسانا بالعدل دماقامة القسطاس وسن الشرائع الهادية الموجهة وغير المردية، والحَسَن هو ضد القبيح، واتخاذ الحُسْن معناه اتخاذ ما ليس(9/4579)
بقبيح في ذاته ولا يستنكره عرف ولا عقل، وهذا هو معنى الإحسان وهو الإتقان وفضل العدل وزيادته.
بعد هذا التردد في النفس الصافية المهدية بهدى اللَّه انتهى إلى القرار العدلى الذي تهتدي إليه كل نفس بَرَّة تقية، وقد ذكره اللَّه تعالى بقوله سبحانه:
(قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
هذا قانون العدل وهو أن يجازي المسيء على إساءته، والمحسن بإحسانه، هذا ما استقر عليه أمره واعتزمه؛ ولذا قال معتزما تنفيذه:(9/4580)
قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)
(أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا)، أي عذابا شديدا بالغا أقصى أحوال الشدة حتى ينزل بهم ولم يتوقعوه وينكروه لغرابته عليهم، فالنكر هو الأمر المستنكر مما وقع عليه، وقد أكد في القول وقوعه في المستقبل بـ (سوف) الدالة على توكيد وقوع الفعل في المستقبل.
والظلم يقع على كل المنكرات؛ لأن الظلم يكون بنقص الحقوق، والتفريط فيها، ويكون بمجاوزة حد المعقول، فيقع على الشرك، وإن الشرك لظلم عظيم ويقع على كل المنهيات من المعاصي كالقتل وشرب الخمر والزنى، ورمي المحصنات، والعذاب النكر يكون بالجزاء الذي يملكه ملك عادل جزاء دنيوي.
هذا هو جزاء المسيء في قانون العدل الذي سنه ذو القرنين لنفسه، لَا يفلت المسيء، وكذلك لَا ينقص المحسن من جزاء حسن؛ ولذا قال:(9/4580)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
الحسنى مبتدأ خبره الجار والمجرور، أي فالحسنى له جزاء، فـ (جَزَاءً) تمييز محول عن الخبر، وكان التمييز متضمنا البيان بعد الإبهام أو الإجمال، وفي ذلك فضل بيان وبلاغة، وقال: (فَلَهُ) (اللام) للاختصاص، وكان من كرم اللَّه أن جعله حقا للمحسن وليس عطاء يعطي أُعطية، وكان ذلك منًّا وفضلا.(9/4580)
وإن هذا الجزاء الذي هو الحسنى في أعلى درجات الجنة؛ لأنه مؤنث أحسن، لمن قامت به حالان:
الحال الأولى - إيمان صادق تتطهر فيه النفس والعقل والقلب من شرك الجاهلية وأوهامه.
والحال الثانية - عمل صالح يزكي النفس، وينفع الجمع، ويكون فيه خير للناس.
وذكر جزاء ثانيا فوق الحسنى، وهي نِعْم الجزاء، وهو ما جاء في قوله:
(وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) القول اليسر هو هذا القول الذي ييسر الأمور ويسهلها، وذلك بأن يقربه إليه، ويسهل له أسباب الوصول والتمكين والحكم، والقول المشجع على الخير من ملك عادل يدني المصلح الصالح، ويبعد المفسد الفاسد.
ولقد أقام العدل في أقوام الغرب، وأقام ما شاء أن يقيم لتثبيت العدل ودعم أركانه، بعد إقامة بنيانه ثم اتجه المصلح العادل من ذلك إلى الشرق؛ ولذا قال تعالى:(9/4581)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)
(ثُمَّ) هنا في موضعها؛ لأنها تدل على التراخي إذ إنه حكم أمدا ليس بقصير في المغرب، وإنه أدنى منه مقاما فإن تثبيت دعائم العدل في النفوس يحتاج إلى زمن ليستقر ويبقى، ويصبح عادة طيبة في الأقوام، و (أَتْبَعَ)، أي أردف إلى الأسباب التي مكنه اللَّه تعالى بها سببا آخر، وهو الذهاب إلى مشرق الأرض، وهكذا أضاف سبحانه إلى تمكينه في الغرب تمكينه في الشرق، فسار متجها إليه، ولقد كان ما يستقبله في المغرب أصعب علاجا، وأقوى مراسا، لأن عمله يتكون من أمور ثلاثة:
الأمر الأول - إقامة العدل.(9/4581)
والأمر الثاني - دفع الفساد.
والأمر الثالث - حماية البلاد من المغيرين عليها.
ولقد قال تعالى في عمله:
* * *
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
* * *(9/4582)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
مطلع الشمس هو مكان طلوعها، فهو اسم مكان، ومطلع الشمس مكان نسبي، فهو ربما يكون موضع طلوع بالنسبة لمن يكونون في غربها، ثم هذا المطلع يكون موضع غروب لمن وراءه من المطالع، والنسبية هنا بين المغرب والمطلع بالنسبة للوسط بينهما فقد اتجه ذو القرنين إلى المغرب بالنسبة له، ثم بعد أن أقام العدل(9/4582)
بين الناس كشأن الحاكم العادل تأداه إلى المطلع بالنسبة له فأتبع سببا، واتجه إلى المطلع، حتى إذا بلغه، (وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَل لَهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْرًا)، الضمير يعود إلى الشمس، أي وجد الشمس تطلع على ناس تشرق عليهم لافحة لهم أو غير لافحة، لم يجعل اللَّه لهم من دونها مقاوما لها سترا، يسترهم عنها فلم تكن لهم ظلال تظلهم، وظاهر القول أنهم لم تكن لهم ثياب تسترهم منها في ظلها وحرورها، وهذا أنهم بدائيون ليسوا متحضرين وليست لهم أي حضارة إنسانية، بل هم على البداوة الأولى، وإن كان لهم بعض القوة أو المصادر المالية، وقد وصف هؤلاء الأقوام بوصف فيهم وفي أرضهم، أما أرضهم فهي أنها ليس فيها بناء يظل، ولا شجر يثمر، وأما أنفسهم، فهو أنهم على البداوة الأولى وقد أفادت الوصفين، الكلمة السامية (لِمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْرًا)، أي ساترا يسترهم من حر لافح أو برد قارس.
وجه اللَّه تعالى ذا القرنين إلى هؤلاء الأقوام، كما وجهه إلى المغرب لينشر العدل والأمان والاطمئنان فيهم، وإن هذا التوجه، يكون منه ما كان أولا، ويحمل متاعب؛ ولذلك قال تعالى:(9/4583)
كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
(كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
الإشارة إلى ما كان منه أولا من إقامة العدل، ووضع الموازين العادلة بينهما، والتشبيه هو بين ما قام أولا في المغرب وبين ما يقوم الآن أو ما يجب أن يقوم به الآن في المشرق، أي أنه بمقتضى ما وهبه اللَّه تعالى من مواهب القوة والقدرة على التنفيذ والشعور بالعدالة الواجبة، ووضع موازين قد كلفه مرة ثانية في المشرق أن يصلح ويدفع الفساد في المشرق، كما أصلح في المغرب، وهكذا يهب اللَّه البشرية في بعض الأزمان رجلا صالحا ينشر العدل والإصلاح ويمنع الفساد، وفي بعض الأزمان يختبر اللَّه تعالى الناس ليظهر الخبيث من الطيب ببعض رجال الفساد - أو دول الفساد - يسيطر، فيضل ويفسد كما نرى في عصرنا ولا حول ولا قوة إلا باللَّه تعالى.(9/4583)
وإن ما يستقبل ذا القرنين في مطلع الشمس أقوى وأشد مما استقبله في مغربها، وذلك لجهلهم، وعدم درايتهم وبداوتهم؛ ولذا قال تعالى: (وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا)، أي أحطنا بحاله والواجبات عليه وكفايته لها وما تستلزمه حال الأقوام من واجبات على الحاكم يقوم بها، ولا يتوانى عنها، أحطنا علما دقيقا بذلك، وهو علم الخبير العليم، وفي الكلام في مثل قوله: (. . . وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْء عِلْمًا)، و (أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا)، مجاز بالاستعارة، إذ يشبه علم الله تعالى في استقرائه للمعلوم بمن يحيط بمكان فيعرف كل ما في داخله لا يغيب شيء عن علمه بجامع الإحاطة الكاملة، وقد أحاط علمه كل ما في السماوات والأرض.
والمقصود الظاهر من النص أن اللَّه إذ كلف ذا القرنين ذلك التكليف هو محيط علما دقيقا بما لديه من قوى عقلية ونفسية وطاقة قادرة على ما كلف ومحيط بما يحتاج إليه ما كلفه من جهد في علاج هذه التكليفات.
وقد بين أنه سار في طريقه متحملا أعباء ما حمله: عبء العدالة والإصلاح، فقال تعالى:(9/4584)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)
أي أردف إلى الأمور السابقة التي كانت سببا في تحمل ما تحمل سببا آخر وسلك طريقا آخر، و (ثُمَّ) هنا للترتيب والتراخي، والتراخي كان فيما بذله من زمن في تبين حال أولئك الذين يعيشون على الفطرة لم يجعل اللَّه بينهم وبين الشمس سترا في ظل ولا حرور، وبعد مضي زمن في هذه الإصلاحات التي تجعلهم أناسا يعرفون ما لهم وما عليهم، بعد ذلك أردف سببا لواجبات أخرى، فقال:(9/4584)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
(حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
السدَّان المذكوران في الآية جبلان، قال عطاء أنهما بين أذربيجان وأرمينيا، وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه وجد بين الجبلين قوما (لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا) هذا(9/4584)
وصف لهؤلاء القوم، وهم كما يبدو أعلى درجة في الإنسانية من الذين وجدهم في مطلع الشمس الذين لم يُجعَل بينهم وبينها ستر، ومعنى (مِن دُونِهِمَا)، أي من وراء الجبلين، فهم لم يكونوا بينهم، بل كانوا وراء هذين الجبلين، أو وراء هذه البلاد التي فيها هذان الجبلان، فهم في مقام أوغر منهما، وهم إلى الشمال أبعد وأعلى.
وقد وصفهم كما أشرنا إلى أنهم (لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا)، أي يقاربون ألا يفقهوا قولا، وهذا يدل على أنهم يفقهون بعض القول ولا يفقهونه كله.
وقال بعض المفسرين: إن ذلك سببه أنهم لَا يعرفون لغة ذي القرنين ومن معه، ولا يعرف لغتهم، ولكن ذلك لَا يعبر عنه بنفي فقه القول؛ لأن فقه القول معرفة أسراره ومراميه، فلا ينفي بجهل معرفة اللغة، على أن المترجمين يغنون في ذلك غناء كبيرا، وذلك إن صح يكون عيبا فيهم، وعيبا في الذين يخاطبونهم، فلا يختصون بالوصف، والظاهر عندي أن المراد أنهم لَا يدركون مرامي الأقوال وأسرارها والأحكام التي تنظم العلاقات بينهم، وهذا الذي يتفق مع (لَا يَكَادُونَ يَفْقَهونَ)؛ لأن الفقه ليس مجرد المعرفة، إنما المعرفة التي يشق فيها غلاف الأمور لإدراك الحقائق، وما وراء الألفاظ، وذلك إلى العلم بالواجبات، وفقه الأقوال أقرب، ويكون المراد ليس عندهم علم بالعدل ونظام الحكم، وما يجب لجلب المنافع ودفع المضار.
ولكنهم مع أنهم لَا يعرفون الشرائع، ولا نظم الأحكام يرون المضار تتوالى عليهم من جيران أشد جهالة، ولا يخضعون لنظام، ولا يقرون حقوقا، ولا يخضعون لواجب، وهم يأجوج ومأجوج، وهم يسكنون في مناطق منغوليا ومنشوريا، أو هم منهم؛ ولذا لما وجدوا ذا القرنين وما يحمل معه من نظم إصلاحية مانعة من الظلم دافعة للفساد.
(قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)(9/4585)
قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
نادوا ذا القرنين بهذا اللقب مما يدل على أنه كان مشهورا بينهم، وعلى أنه كان متطامنا قريبا، وذلك أول أمارات الحاكم الصالح بأن يكون قريبا منهم يألفهم، ويألفونه لَا يكون متحجبا دونهم، حتى لَا يصعب على صاحب الحق الوصول إليه.
و (يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ) قبائل مما وراء جبال أرمينية، وهما اسمان ليسا عربيان، وقد كانوا يندفعون من وقت لآخر يفسدون الحرث، ويعبثون بكل قائم ولا يضبطهم أحد ولا قبل لأحد بدفعهم، وقد ذكر مولانا أبو الكلام زاده في رسالته عن ذي القرنين أن لهم غارات متتالية عبر التاريخ فقال بعنوان: الأدوار السبعة لخروج يأجوج ومأجوج.
سهل علينا خروج هذه القبائل إلى سبعة أدوار:
الدور الأول منها كان قبل العصر التاريخي عندما بدأت هذه القبائل تهاجر من الشمال الشرقي وتنتشر في آسيا الوسطى.
وكان الدور الثاني في فجر التاريخ فترى في ضوئه معالم عبارتين مختلفتين: حياة البداوة، وحياة الاستقرار، فتخلد القبائل المهاجرة إلى السكينة، ومباشرة الحياة الزراعية، إلا أن سيولا جديدة لَا تزال تتدفق من الشرق، ومدى هذا الدور من 1500 إلى 1000 قبل الميلاد.
ويبتدئ الدور الثالث، من سنة ألف قبل الميلاد، فتجد قوما همجا من البدو في بلاد بحر الخزر والبحر الأسود، ثم لَا تلبث أن تظهر بأسماء مختلفة من جهات مختلفة، وأخذ بعضها يظهر على مسرح التاريخ من سنة 700 قبل الميلاد. . .
أما الدور الرابع فينبغي أن نجعله في سنة 500 قبل الميلاد الزمن الذي ظهر فيه عوزوش.(9/4586)
وكان الدور الخامس في القرن الثالث قبل الميلاد، وقد تدفق فيه سيل من القبائل المنغولية، وانصب على الصين، وفي هذا العصر بني الجدار العظيم الذي اشتهر بجدار الصين، وقد بدأوا بنائه في سنة 294 ق م وأتموه في مدة عشر سنين. . وعاصر هذا الجدار حملات المغول في الشمال والغرب توجهوا إلى آسيا الوسطى من جديد.
ثم ذكر الدور السادس والسابع وكان ذلك بعد الميلاد، ولا يهمنا ذكرهما في مقامنا وإن كان ذلك يهم المؤرخ المتقصي للحقائق المتعرف للأدوار الإنسانية في عصورها المختلفة.
وإنه باستعراض هذه الأدوار نرى وجها تاريخيا، لمن قال إنه الإسكندر المقدوني:
أولا - لأنه بنى جدار الصين في القرن الثالث قبل الميلاد وهو العصر الذي ظهر فيه الإسكندر؛ إذ كانت حياته في القرن الثالث قبل الميلاد، وكون البناء منسوبا إلى ملك من ملوك الصين لَا يمنع الاستعانة بالإسكندر.
وثانيا - ما تضافر عليه المؤرخون العرب من أن باني السد اسمه إسكندر ذو القرنين، وليس ذا القرنين فقط.
وثالثا - ما جاء من آثار من أن منشئ السد هو منشئ الإسكندرية.
ورابعا - أن وصفه بذي القرنين سائغ لأنه جمع بين تاج الجنوب وتاج الشمال لما جاء إلى - مصر.
ننتهي من هذا إلى أن يأجوج ومأجوج قبائل من المغول، وأنه اشتد سيل فسادهم في القرن الثالث قبل الميلاد عصر ظهور الإسكندر المقدوني، واللَّه أعلم.
ونعود فنكرر أن معرفة شخص الإسكندر لَا يقدمنا في ذكر معاني ولا يؤخرنا، ما دامت ألفاظه واضحة في معانيها بينة في أسلوبها وبيانها.(9/4587)
لقد عرض أولئك القوم الذين كانوا بين السدين على ذي القرنين أو طلبوا منه أن يبني لهم سدًّا بعد أن شكوا له أن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض، وعرضوا عليه أن يجعلوا له خرجا على أن يبني لهم سدا (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا)، الخرج قالوا إنه ضرائب يفرضونها على أنفسهم، وعبروا عن الضرائب بالخرج لأنها تخرج من أيديهم إليه، ولأنه يكون كخراج الأرض أو الأنفس على حسب ما يراه هو، إما أن يأخذ الضرائب على النفوس أو المال أو العقار، وقد عرضوا ذلك في عبارات مقربة مُدْنية، فجعلوها على صورة استفهام، فقالوا كما حكى القرآن: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرجًا)، أي هل يسوغ أن تجعل لك خرجا، والفاء للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا مفسدين فاجعل لك خرجا على أن تبني لنا سدًّا.
ولكن ذا القرنين العادل وجد أن من قوانين الحكم العادل أن يقوم بالإصلاح ودفع الفساد من غير أجر يدفع، بل إن عمل الخير ضريبة الحكم الصالح؛ ولذا قال:(9/4588)
قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
(قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
الردم أقوى من السد، وقد قال في ذلك الزمخشري: (رَدْمًا)، أي حاجزا حصينا موثقا، والردم أكبر من السد من قولهم ثوب مردم، أي رقاع فوق رقاع، أي أني أبني لكم سدا وثيقا قويًّا.
والمعنى ما مكنِّي فيه ربي ووسع عليَّ فيه وبسط لي خير من خَرْجِكم، فلست مستعينا بخرج، ولكني مستعين بقوة منكم، فأعينوني بقوة تحتمل العمل من رجالكم، أي فلست أحتاج إلى المال، ولكن أحتاج إلى أيد عاملة تعمل، ولقد قال القرطبي في معنى هذه الآية الكريمة: " ما بسطه اللَّه لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، أي برجال وعمل منكم بالأبدان والآلة التي أبني بها الردم وهو السد ".(9/4588)
ولقد استنبط من هذا القصص عن ذي القرنين أنه لَا يجوز للملك ما دام في قدرة وسعة أن يفرض ضرائب ترهق، ويقول في ذلك: " إن الملك فرض عليه أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم، وسد فرجتهم، وإصلاح ثغورهم من أموالهم التي تفيء عليهم، وحقوقهم التي يجمعها في خزائنهم حتى لو أكلتها وأنفذتها المؤن فكان عليهم جبر ذلك من أموالهم وعليه حسن النظر وذلك بشروط ثلاثة:
الشرط الأول - ألا يستأثر عليهم بشيء.
والشرط الثاني - أن يبدأ بأهل الحاجة.
والشرط الثالث - أن يسوي في العطاء (1).
أخذ بعد ذلك ذو القرنين يبني السد محكما لَا يتفلت منه أحد إليهم.
________
(1) من الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 11/ 55.(9/4589)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
(زُبَرَ الْحَدِيدِ) قطع الحديد الكبيرة، (حَتَى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ) الصدفان: جبلان جعل السد بينهما، وبعد أن وضع الحديد من قطع كبير علا بها حتى تساوى مع أعلى الجبلين وتنضد الحديد بينهما تنضيدا، جمع الأحطاب، وأشعل فيها النار ليصهر الحديد، (قَالَ انفُخُوا)، أي في الحديد الذي ساوى فيه بين الصدفين، وساماهما، أي انفخوا في مشعل الأحطاب، (حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا) صهره واحمر انصهر، وصار نارا باحمراره بارتفاع درجة حرارته ارتفاعا شديدا، وصار لونه أحمر شديدا يتلظى بعد هذا العمل، (قَالَ آتُونِي) النداء للعمال الذين قاموا بِزَبْر الحديد وصهروها، (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا)، وهو النحاس المصهور المذاب.
ولعله جعل النحاس طبقة فوق الحديد تربط أجزاءه وتسوى جدار سطحه.(9/4589)
ونراه صار مكونا من حديد ممسوكا بالنحاس، فصار قويا سادًّا كل الثغرات، وبذلك صار مرتفعا عاليا فوق طاقتهم أن يرتفعوا إلى أعلاه، وينزلوا إلى أسفله عند الذين استغاثوا منهم؛ ولذا قال تعالى:(9/4590)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
(فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
إذا كان قد بني ذلك البناء المحكم، وبأدوات قوية لَا تنقض، وبهندسة نضدت زبر الحديد، وأسكب ذَوْبَ النحاس، فإن يأجوج ومأجوج لَا قبل لهم بالوصول إلى أرضهم يبيدون فيها الحرث والنسل.
(فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ)، أي أن يعلو إلى ظهرِه، لأنه بني مرتفعا ارتفاعا فوق طاقتهم أن يصعدوا إليه، (وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا) وما استطاعوا أن ينقبوه في جانب من جوانبه؛ لأنه حديد مصهر ثم تجمد مستقا.
وبعد أن وفق ذو القرنين ذلك التوفيق.(9/4590)
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
(قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
بعد أن عمل ذلك العمل - الذي لَا مثيل له في تاريخ البشر إلى عصر من عمله - لم ينسبه إلى نفسه، بل جعله من ربه، والإشارة في (هَذَا رَحْمَةٌ من رَّبِّي) إلى أن البناء وتدبيره، ومادته، ليس من قدرة الإنسان إنما هو من توفيق الديان وقال: إنه من رحمة اللَّه بعباده؛ لأن من رحمته تعالت قدرته أن الفساد وأهله يُدفع بأهل الخير والصلاح (. . . وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
ولم ينس اليوم الآخر، والبعث فجعل الحد لزمانه هو يوم البعث، فقال: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ)، أي يَتَدكْدَك ويجعله أرضا مستوية، لَا علو فيها، ولو كان من حديد ونحاس.
ثم أكد البعث فقال: (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) لَا يرتاب فيه عاقل، واللَّه أعلم.(9/4590)
* * *
ترك المفسدين إلى يوم الحشر
قال اللَّه تعالى:
(وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
* * *
انتهت الآيات السابقة ببناء إسكندر ذي القرنين للسد، وكان ذو القرنين صورة للحاكم المجاهد الذي يعمل لمصلحة من يحكمهم يجلب الخير لهم، ويعمل ما يصلحهم، ويدفع الفساد والمفسدين، وقد دفعه - وترك يأجوج ومأجوج يفسدون فيما بينهم.).
ولقد قال تعالى بعد أن ذكر بناء الحاكم الصالح للسد، وإحكام بنيانه:(9/4591)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
(وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا).
الضمير في (بَعْضَهُمْ) يعود إلى يأجوج ومأجوج، فانحصر شرهم، ولم يتعد فسادهم إلى غيرهم، فالجماعة الشريرة إذا لم يمكن إصلاحها يكون علاج الناس بالوقاية منها وإبعادهم عنها.(9/4591)
ويصح أن يكون الضمير في بعضهم يعود إلى الخلق على أساس أنه حاضر في العقل معنى المخلوقات، وقد ساق ذلك الرأي الزمخشري على أنه هو الظاهر المتبادر، وغيره هو غير الظاهر وغير المتبادر.
ويكون المعنى على أن الضمير يعود إلى الخلق أن اللَّه تعالى خلق الناس بغرائز قد تتعارض رغباتها، فيكون منهم المسيء ويكون المحسن وبتنازعون أو يتخالفون، أو يعتدى بعضهم على بعض حتى يكون يوم الفصل، ودعوة الجميع إلى الحشر.
وقوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ)، أي في الدنيا، حيث الاختبار، والتدافع بين الحق والباطل والخير والشر، والصلاح والفساد، وقوله: (يَمُوجُ فِي بَعْضٍ)، أي أن بعضهم يتدافع مع البعض تدافع الأمواج وهي مصطحبة فيتدافع الأخيار مع الأشرار تدافع الأمواج يدفع بعضها بعضا، وهي تعلو وتنخفض.
حتى يُدعوا جميعا إلى اللَّه تعالى، وعبر عن ذلك بقوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا)، أي ناديناهم كما ينادي القائد الجند فينفخ في الصور فيجمعهم جمعا، لَا يتخلف منهم أحد، وقد شبه في هذا إعادة الناس والبعث والنشور وخروجهم من فورهم من كل حدب ينسلون بالقائد، عندما ينفخ في البوق للجند، وفي هذا إشعار بأن البعث لَا يكون بأكثر من قول اللَّه تعالى: (. . . كُن فَيَكُونُ)، وقوله تعالى: (فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا) فيه أمران بيانيان:
الأمر الأول - أنه عبر بالماضي وهو للمستقبل، لتأكيد الوقوع.
الأمر الثاني - أنه ذكر المصدر لتأكيد أن البعث يعم الجميع، ولا يتخلف عنه أحد.
تعالى:
وإنه عقب البعث تكون القيامة وتكون الحقائق مرئية لهم بالعيان؛ ولذا قال:
(وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)(9/4592)
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)
و (يَوْمَئِذٍ) هو يوم القيامة، أي عرضنا جهنم للكافرين بسبب كفرهم عرضا، أي يرونها رأي العين من غير غشاوة تحول بينهم وبين رؤيتها، والإتيان بالمصدر لتأكيد أنهم يرون ذلك رأي العين، ولا يخفى عليهم من نتائج أعمالهم شيء من الخفاء.
وخص الكافرين بذكر العرض مع أنها تكون معلومة للجميع لأنهم أهلها، ولأنهم الذين كانوا يتغافلون، وهم الذين كانوا ينكرون البعث وما وراءه.
ولقد قال تعالى كيف كانت حالهم بالنسبة لذكر اللَّه للعذاب والثواب والبعث، فقال عز من قائل:(9/4593)
الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
(الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
الموصول بدل أو عطف بيان، وهو يشير إلى سبب اختصاصهم بالعرض؛ إذ إنهم كانوا لَا يرونها بعين الاعتقاد، ولا يستمعون إلى ذكرها بأذن الحق والإنصات إليه.
(كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي)، الذكر مضاف إلى اللَّه تعالى، أي الأمور التي تذكر باللَّه تعالى وقدرته الباهرة القاهرة على كل شيء وإلى آياته في الكون ودلائل قدرته على إعادتهم كما بدأهم، وشبه حالهم في عدم إدراكهم للحق من آيات اللَّه تعالى بحال من يكون أمام المبصرات، ولكنه وضع على عينيه غطاء يجعله لَا يرى ولا يبصر، ويكون قوله تعالى: (عَن ذِكْرِي) مقويا لمعنى التشبيه ومع أنهم كانوا لَا يرون الآيات للغطاء الذي وضعوه على أعينهم كانوا لا يستمعون إلى الداعي إلى الحق إذا دعاهم فهم قد سدت أمانيهم كل وسائل الإدراك.
فهم لَا يرون الآيات بأنفسهم فهم على أعينهم غطاء، أو كمن يكونون على أعينهم، ولا يستطيعون سماع الحق، لأن أهواءهم وشهواتهم وغرورهم بهذه الدنيا التي أغرتهم بغرورها وزخرفها وزينتها قد حالت بينهم وبينه، وشبه إعراضهم عنه(9/4593)
وعدم قبول قول رسلهم بمن أصيب بصمم، ولم يستطع سماع القول الهادي المرشد.
وقد بين اللَّه سبحانه وتعالى أنه لن يتركهم في ضلالهم من غير مرشد، وألا يتخذ لهم عمَابا، فقال تعالى:(9/4594)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
(الفاء) في (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كفَرُوا) مؤخرة عن تقديم، وهي في معنى السببية لعرض جهنم على الكافرين عرضا، والهمزة قدمت؛ لأن الاستفهام له الصدارة معناه ظنوا، أو بعبارة أدق معناها توهموا، لأن الظن يكون له وجه من الصدق، والاستفهام للتوبيخ، لأن الكافرين فعلا توهموا ذلك، وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب، وما كنا مبعوثين.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى سبب توبيخهم، (أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ)، أي أنصارا يوالونهم أو آلهة يعبدونها و (مِن دُونِي)، أي من غيري، وهنا كلام محذوف دل عليه قوله تعالى: (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزلًا)، أي يحسبون مع اتخاذهم أندادا يعبدونها أو أنصارا يقاومون بهم حكم اللَّه فيهم، ونتركهم من غير مؤاخذة أو لَا نحاسبهم على ما يفعلون، وهذا كقوله تعالى:
(أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى)، (إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا)، هذا ذكر للعذاب وبيان له وقد ذكر علته في قوله: (أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ)، وأعتدنا معناها أعددنا وهيأنا، ونزلا معناه مقاما، وفيه نوع تهكم، لأن النزل يكون عادة مكانا مريحا يثوب إليه الذي نزل فيه، ولكنه جهنم وبئس المهاد. وذِكْرُ الكافرين إظهارٌ في موضع الإضمار للإشارة إلى سبب نزولهم في(9/4594)
وقد بين سبحانه وتعالى أن الأخسرين أعمالا هم الكافرون، ذكر في ضمن البيان الحكيم سبب خسرانهم، فقال عز من قائل:(9/4595)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)
(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والاستفهام للتقرير، فكأنهم سئلوا فأجابوا مقررين بأنهم (الأخسرين أعمالا)، والأخسرون جمع أخسر، وهو أفعل تفضيل، يراد به الذين بلغوا من الخسران أقصاه، فلا خسارة فوق خسارتهم، أو أنهم بالنسبة للمؤمنين أكثر خسارة لأن المؤمنين إن خسروا في الدنيا متاعها، فأولئك خسروا ما هو أعظم وهو متاع الآخرة، وكان في ذلك موازنة بين حال المؤمنين وحال الكافرين، فالمؤمنون وإن كانوا قد فقدوا بعض متاع الدنيا ففي مقابل ذلك فقد الكافرون متاع الآخرة فكانوا الأخسرين حقا وصدقا، وخسارة المؤمنين لَا تذكر بجوار خسارتهم. وقد ذكر سبحانه ركن الخسارة وقوامها فقال عز من قائل:(9/4595)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)، أي كان عملهم ضلال في ضلال، ووصف العمل بأنه ضلال مع أن الضلال في العامل مبالغة في الضلال، كأنه بضلال النفس انتقل الضلال إلى العمل، للإشارة إلى أن العمل يكون ضلالا بضلال النفس، وفساد القصد، وقال: (سَعْيُهُمْ) ولم يقل " عملهم "، للإشارة إلى أن كل جهد يبذلونه يكون جهدا في ضلال فلا يكون فيه خيرا أبدا.
ومع هذا لَا يعتقد أنه ضلال بل يحسبه رشادا، ولذا قال: (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يحْسِنُونَ صُنْعًا)، أي أنهم بضلال الفعل وضلال الفكر، يفعلون الشر، ويظنون أنهم يفعلون الخير فانقلب تفكيرهم فحسب الشر خيرا، وذلك أشد(9/4595)
الضلال إذ يطغى الضلال على تفكيرهم، فينشئه بالباطل ويحسب الباطل حقا، والحق باطلا، وهذا أشد الضلال ويحسبون، أي يظنون أن ما يفعلونه هو الحسن، و (صُنْعًا) حال من فاعل (يَحْسَبُونَ) وهي حال مؤكدة لحسن ما يفعلون بزعمهم.
وإن هذا النص ينطبق على المشركين، لأنهم يعبدون الأوثان وَيحسبون أن عبادتها صنعُ حُسْنَى إذ يتوهمون فيها قُوى تَعبُّد، ويرون الخير في أتباع آبائهم، وينطبق على رهبان النصارى إذ ينقطعون للعبادة في زعمهم ولا يقيمون للحياة أي اعتبار، وقيل إنها تنطبق على الخوارج الذين كانوا يستبيحون دماء المؤمنين، ولكن قوله تعالى:(9/4596)
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ... (105) وإن الخوارج لَا ينطبق عليهم أنهم كفروا بربهم، لأنهم يؤمنون بربهم ولكن ضلوا مع إخوانهم المؤمنين، ولقد قال فيهم عليٌّ: لَا تقاتلوهم بعدي، فإن من طلب الحق فأخطأ ليس كمن طلب الباطل فأصابه ".
ولقد قال بعد ذلك في وصف الأخسرين:
(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
إن فساد الفكر يؤدي إلى الكفر، فهؤلاء الذين ضل فكرهم حتى ضلت أعمالهم، وزين لهم سوء أعمالهم فرأوه حسنا، هؤلاء هم الذين دفعهم غرورهم إلى أن يكذبوا بآيات ربهم الدالة على أنه الخالق الواحد القهار، المعبود بحق، ولا معبود سواه، وكذبوا بآيات ربهم الدالة على رسالة رسوله النبي الأكرم، وذلك لفرط ضلال فكرهم الذي جعلهم يعتقدون الباطل حقا، ويزعمون الحق باطلا. والإشارة إلى الموصوفين يفيد أن هذه الصفات هي السبب في الكفر بالآيات وكفروا بسبب غرورهم بالدنيا بلقاء اللَّه تعالى.(9/4596)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
(ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
الإشارة إلى غرورهم وكفرهم بآيات ربهم ولقائه، وهو مبتدأ خبره محذوف، والمعنى ذلك حالهم، وأمرهم ثم ذكر سبحانه بعد ذلك جزاءهم فقال (فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)، ثم ذكر سبحانه السبب وهو قوله (بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا) فهم ظلموا مرتين:
الأولى - بكفرهم واتخاذهم الأنداد من الأحجار.
الثانية - ظلمهم للحق وأهله ودعاته، فظلموا آيات اللَّه وكفروا واتخذوها ورسل الله هزوا وسخرية، وذلك إيغال في الكفر والضلال.
بعد ذلك ذكر حال المؤمنين يوم القيامة.
* * *
حال المؤمنين
قال اللَّه تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
* * *
ذكر سبحانه وتعالى حال الكافرين يوم القيامة وكيف كان ضلالهم في الدنيا مُرديا لهم، وأوداهم في نار جهنم، وذكر من بعد حال المؤمنين الذي صلحوا في أنفسهم فآمنوا وعملوا الصالحات فنالوا جزاءهم في الآخرة، ذكر الموصول للإشارة(9/4597)
إلى أن الصلة هي السبب في الجزاء، فالإيمان والعمل الصالح هما سبب الجزاء العظيم؛ إذ الإيمان لتطهير القلب وعزيمة النفس، والبعد عن كل أدران الشرك، والعمل الصالح يتضمن القيام بكل ما أمر اللَّه به، والانتهاء عن كل ما نهى اللَّه تعالى عنه، لَا فرق بين صغيرة وكبيرة إلا اللمم، فإن اللَّه تعالى يغفره رحمة بعبادة، ويتضمن أيضا القيام بكل عمل صالح فيه نفع للإنسان، ويتضمن الفضائل الإنسانية التي يكمل بها الإنسان.
والجزاء ذكره تعالى يقول:(9/4598)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
(كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا)، اللام للاختصاص، أي أنهم مختصون بها، وهي لهم كما لمالك في مالك وذلك يدل على تأكيد الجزاء. و (الْفِرْدَوْسِ) لفظ غير عربي يراد به الحدائق الغنَّاء، وفردوس الجنة أعلاها مكانا، وأوسطها شأنا، وجمعها للدلالة على كثرة فضلها، وتنوع خيرها وتعدده، و (نزلًا)، أي إقامة ثابتة ينزلون فيها راضين بطيب الإقامة وهدوء المثوى. وأنها إقامة هادئة طيبة، وهي مساكن، ومعنى ثابتة دائمة مستمرة؛ ولذا قال تعالى:(9/4598)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
(خَالِدِينَ فِيهَا ... (108) أي مقيمينِ فيها إقامة دائمة، ولا يجدون أفضل منها ينتقلون إليه؛ ولذا قال تعالى: (لا يبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا)، أي لَا يطلبون مريدين مبتغين عنها تحوُّلا وانتقاء، فهم ينعمون فيها بنعمة الدوام والبقاء وعدم الإزعاج بالانتقال منها، والنعمة الثانية بلوغ الغاية في الراحة والاطمئنان فلا يبغون حولا، بل ينعمون فيها بنعمة الرضا بها، وأنهم لَا يجدون خيرا منها.
وإن هذا من فضل اللَّه، وهو تقديره وعلمه المحيط، وقد وسع كل شيء علما، فهو شامل الوجود كله؛ ولذا قال تعالى:(9/4598)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
(قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
الخطاب في (قُل) للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتضمن أمر اللَّه تعالى لنبيه بأن يعلمهم إحاطة علم اللَّه تعالى بكل شيء ولا يغيب عن علمه مثقال ذرة في السماء والأرض، و (كلمات اللَّه تعالى) هي تصوير لعلمه الذي لَا يحصى ولا يحد، فهذه الآية أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يصور علمه بأنه غير متناه، فلا يحده حد، فالكلمات(9/4598)
لا تحده، ولا تحيط به، ومهما يكن مداد الكلمات ولو كانت المداد ماء البحر، و (ال) للجنس والاستغراق، أي أن البحار كلها (مِدَادًا) وهو ما يكتب به (لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي)، كقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، وإن هذا تصوير مقرِّب لعلم اللَّه الذي أحاط بكل شيء علما. فلو كان علم اللَّه يُدوَّن في مكتوب ما وجد مدادا الذي يدون كلماته، فلو كان البحر مدادا لكلماته سبحانه لنفد البحر وما انتهت كلمات اللَّه تعالى، وهذا تصوير وتقريب، وفيه تشبيه بمفردات معلومات اللَّه بالكلمات، وأنها لَا تنتهي أبدا.
وهنا أمور بيانية يجب التنبيه إليها:
الأمر الأول - ذكر كلمات اللَّه تعالى مضافة إلى ربه مرتين، وذلك بيان لشرفها وعلوها، لأن علمه كامل.
الأمر الثاني - المقابلة البيانية في قوله تعالى: (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي)، فإن كلمات اللَّه لَا تنتهي، ولكن عبر عن ذلك بالنفاد من قبيل الجناس في قوله تعالى لنفد البحر.
الأمر الثالث - أنه أظهر في موضع الإضمار فقد قال تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا).
فذكر البحر ظاهرا، وموضعه الإضمار لتأكيد سعة كلمات اللَّه تعالى؛ ولذا قال: (وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) يمده كما يمد الجيش بالجنود، هذا ما بدر لنا وما بدى بادي الرأي، ولكن وجدنا قراءة أخرى " مدادا " ويكون المعنى الذي تتلاقى معه القراءات، وهو أن المعنى، ولو جئنا بمثله مدادا، أي لو كان مثله حجما، ويصح مع ذلك أن يكون لكل من القراءتين معنى فتكون القراءة الأولى تشير إلى أن البحر الزيادة معين للبحر الأول زائد له، والثانية تفيد المماثلة، واللَّه تعالى أعلم.(9/4599)
وذكرت هذه الآية التي تفيد علم غير المنتهي، بل إنه أحاط بكل شيء ومفردات معلوماته لَا تتناهى لبيان كمال قدرته، والعلم والقدرة والإرادة صفات كمال في الخلق والتكوين يصاحب بعضها بعضا، وإنه بها وغيرها من صفات الكمال تستحق العبادة؛ ولذا جاء بعدها قوله تعالى:(9/4600)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
(قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
الأمر بالقول للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه جزء من تبليغ رسالة ربه، و (إِنَّمَا) أداة قصر أي أنه - صلى الله عليه وسلم - مقصور على البشرية وإنما يوحى إليه، فهو بشر ولا يتجاوز أنه بشر ولكن اختص من بينهم بأنه يوحى إليه فليس واحدا من الملائكة، والموحى به أن (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، فهو إعلام من اللَّه تعالى بمن هو الإله حقا، فهو اللَّه تعالى، ولا إله غيره، وإنه قد قامت مع هذا الوحي الصادق الذي قامت الدلائل على صدقه، وهو مؤيد بالآيات في الكون فإن الكون بما فيه من سماء وأرض، وكواكب هي زينة السماء وزروع وثمار ومعادن وكنوز، فيها الآيات البينات على أن الخالق واحد.
وإن الناس في تلقي هذه الرسالة من عند الله تعالى قسمان:
القسم الأول - يؤمن بالغيب، ولا يأسره الحس وتستغرقه المادة.
والقسم الثاني - استغرقته المادة، حتى لَا يؤمن إلا بما هو مادي حسي، والأول هو الذي يرجو لقاء ربه وهو الذي ينادي بفعل الخير، والإيمان بالحق؛ ولذا قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) وقال: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ)، أي يستيقن بلقاء ربه، وعبر بالرجاء بدل اليقين، لأنه يفيد اليقين مع تمني اللقاء والرغبة فيه وطلبه بالعمل؛ ولذا كان جواب الشرط (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)؛ لأنه إذا كان يرجو اللَّه(9/4600)
ولقاءه فهو لَا يعبد غيره، لأنه أخذ بالرسالة وآمن بها، والشرك في العبادة أن يجعلها للَّه وحده، فلا يشرك في العبادة وثنا ولا شخصا. وهناك شرك في العبادة بأن يعبد يرائي الناس، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك " (1)، وهذا هو الشرك الخفي والشرك الأصغر، وقد قال الزمخشري عند تفسير هذه الآية: والمراد بالنهي عن الإشراك في العبادة ألا يرائي بعمله، وألا يبتغي إلا وجه اللَّه تعالى خالصا لَا يخلط به غيره، وقيل نزلت في جندب بن زهير قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني أعمل العمل لِلَّهِ تعالى فإذا أطلع عليه سرني، فقال: " إن الله لَا يقبل ما شورك فيه "، وروي أنه قال: " لك أجران أجر السر وأجر العلانية "، وذلك إذا قصد أن يقتدى به، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: " اتقوا الشرك الأصغر "، قالوا: وما الشرك الأصغر؟، قال: " الرياء ".
* * *
________
(1) سبق تخريجه.(9/4601)
(سُورَةُ مَرْيَمَ)
تمهيد:
هذه السورة مكية، وقيل أن آيتي 58، 71 مدنيتان، وعدد آياتها ثمان وتسعون آية. وقد ابتدأت هذه السورة الكريمة بذكر معجزات خارقة للعادة في الوجود الإنساني، ذلك أن الفلسفة الأيونية كانت قائمة على أن الأسباب وعلاقتها بالمسببات لَا تخالف قط حتى بنوا نظرية الألوهية على العِلِّيَّة، وقالوا: إن العالم نشأ عن اللَّه تعالى نشوء العلة من المعلول مَن غير إرادة من الفاعل المختار، فجاءت السورة في كثير من آياتها بما هو خرق لهذه النظرية. إن من أسباب الخلق أن الشيخ الكبير لَا ينجب وأن المرأة العاقر لَا تلد فإذا أنجب الرجل الهرم من عجوز عاقر، فذلك خرق لنظرية الأسباب، إذ يوجد الولد من عاقر عجوز لَا تنجب ومن شيخ هرم لَا ينسل.
وقد ابتدأت السورة الكريمة بذكر نبي اللَّه زكريا (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6).
واللَّه تعالى يجيب دعاءه فيقول سبحانه له: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
ولكن تأثره بمجرى الأسباب العادية يثير استغرابه فيقول: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9).
ولكن الاستغراب لَا يزال يتردد في نفسه فيقول: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10).(9/4602)
أعطاه ولدا من امرأة عاقر، وكان ذلك خرقا للأب في عصر الأسباب، وقد وهبه اللَّه تعالى حبا وحنانا، وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا.
ثم جاء بالمعجزة الكبرى الخارقة لجرد الأسباب والمسببات وبيان أنها لَا تلزم الفاعل المختار وهي خلق عيسى من غير أب من عذراء بتول فقال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) ونزل إليها روح القدسِ جبريل - عليه السلام - الذي شرفه اللَّه تعالى بأن أضافه إليه.
(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21).
جاءها المخاض وألجأها إلى جذع النخلة، وجاءت الخوارق للعادة متوالية تعلن خرق نظرية الأسباب والمسببات، فتهز جذع النخلة فتساقط رطبا جنيا والماء يجري من تحتها (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
ولكنهم يجابهونها بما كانت تخشى يقولون: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)، ولكن يجيء سر خارق للعادة يشير له الجميع، وهو أن يتكلم من هو في المهد بالحكمة، (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33).
كان عيسى ابن مريم - عليه السلام - معجزة في الحمل به وفي ولادته وفي طفولته في المهد وهو مخلوق عبد لِلَّهِ تعالى، وإذا كان وجوده على غير مجرى العادات فهو بخلقه أدل على قدرة اللَّه تعالى من غيره وإذا عبده النصارى فمن جهلهم (مَا كانَ(9/4603)
أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35).
ولكن من بعده اختلفت الفرق على نِحَلٍ متباينة فويل لهم من مشهد يوم عظيم (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39).
ويجيء في السورة أخبار الأنبياء السابقين وما اقترن برسالاتهم من معجزات وما جاءوا به من شرائع، فابتدأ بقصة أبي العرب إبرهيم - عليه السلام -، وفيها تتجلى محبة الأبناء للآباء فيريد لمحبته أباه أن يجنبه عبادة الأوثان ويدعوه إلى تركها فيقول:
(يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
ويرده أبوه ردا جافيا فيضطر لاعتزاله وقلبه معلق بمحبته وطلبه الهداية له، ويذهب به فرط محبته إلى أن يستغفر له ويقول: (سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)، وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا).
ثم ذكرت قصة موسى وكيف وهب اللَّه من رحمته معه أخاه هارون نبيا، ثم ذكر أخبار إسماعيل - عليه السلام - منفردا عن أولاد إبراهيم - عليه السلام -، وفي هذا إشارة إلى أنه عمود نسب متفرع من إبراهيم - عليه السلام - وأنه سيكون منه محمد خاتم النبيين (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)
وترجع السورة في التاريخ فتشير إلى إدريس - عليه السلام - (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا)، ويشير سبحانه إلى النبيين أجمعين: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58).
وقد أشار سبحانه إلى أن الخلاف جعل منهم الصالحين، والذين أضاعوا الصلاة (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
وتفصل السورة الكريمة جزاء المتقين وعقاب الكافرين في بيان معجز ككل آيات القرآن وسوره.(9/4604)
وتجيء العبر في الآيات المختلفة الكثيرِة، فيذكر الناس بالبعث (أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73).
ويضرب الأمثال للمشركين بالذين مضوا من الذين عادوا النبيين وأهلكهم اللَّه، وهم أحسن منهم أثاثا ورئيا.
ويبين اللَّه اهتداء المهتدين وضلال الضالين: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76).
وتشرح السورة الكريمة نفس الكافر وغروره: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)،
ثم بين سبحانه أن ذلك مكتوب عليه وأنه سيرث أعقاب هذا القول، ويقول: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82).
ويبين سبحانه سيطرة الشياطين على الكافرين: (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84).
ويذكر اللَّه الناس جميعا بما يكون يوم الآخرة، (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87).(9/4605)
ويبين مقالة الكافرينِ (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95).
وختم السورة الكريمة ببيان المؤمنين، وما كتب لهم من جزاء يوم القيامة، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98).
وهكذا نجد السورة ابتدأت بأن حكمة اللَّه تعالى اقتضت أن يخلق يحيى - عليه السلام - من شيخ هرم امرأته عاقر، ويخالف بذلك الأسباب والمسببات، ثم يأتي سبحانه بخلق عيسى - عليه السلام - من غير أب ليكون وجوده - عليه السلام - معجزة، وهو عبد من عباد اللَّه ويختمها بالمعجزة الكبرى وهو القرآن، (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بلسَانكَ لتُبَشِّرَ به الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا).
* * *
معاني السورة الكريمة
قال اللَّه تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)(9/4606)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
* * *
هذا عصر كثرت فيه خوارق العادات، لأنها كانت تصحيحا للعقول. وإزالة لفكرة خاطئة وقعت فيها الفلسفة التي كانت سائدة في هذا العصر، وهي نظام الأسباب العادية، وترتيب مسبباتها عليها، وأنه هو النظام المطرد المستقر الذي لا يمكن تغييره، وهو النظام الوجود، حتى زعموا أن اللَّه خلقت عنه الأشياء، منفعلة بالعِلِّية، وأنه ليس باختيار من اللَّه تعالى وإرادة، فكل ما في الوجود، جاء منفعلا عن علة وهو علَّة لغيره، حتى يتوالى كله بنظام العِلِّية، فالأب عِلَّة لوجود ابنه، إذا كان قويا والأم علَّة لوجود ولدها إذا كانت سليمة قوية ليست عاقرا.
وكان لَا بد لتصحيح هذه الفلسفة ولبيان بطلانها أن تكون أشياء بغير أسبابها التي استقرت أفهامهم على أنها أسباب طبيعية لها، وفي هذه السورة الكريمة كان(9/4607)
أمران فيهما نقض لنظام الأسباب والمسببات يدل على أن الوجود خلق بإرادة مختار، وأن اللَّه تعالى فعال لما يريد:
الأمر الأول: ولادة عاقر وزوجها بلغ من الكبر عتيا.
والأمر الثاني: ولادة ولد من غير أب وإذا كانت الأولى فيها الولادة من أم غير صالحة للإنجاب، فالثانية ولادة من أم لم يثبت عدم صلاحيتها للإنجاب ولكن من غير أب مطلقا صالحا للإنجاب أو غير صالح.(9/4608)
كهيعص (1)
(كهيعص).
قلنا في الحروف التي تبدأ بها بعض السور: إن معناها قد اختص به علم اللَّه تعالى، ولنا أن نتعرف الحكمة في ابتداء بعض السور بها، وأشرنا إلى أنها تنبه لإعجاز القرآن، وأنه مؤلف من الحروف التي يتألف منها كلامكم ومع ذلك عجزتم أن تأتوا بمثلها، وأنها تنبه الأذهان للاستماع، وقد كان المشركون تعاهدوا على ألا يسمعوا لهذا القرآن ويلغوا فيه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، فإذا تليت عليهم تلك الحروف بغنِّها ومدها نبهتهم فيستمعون إليها، تهجم عليهم الآيات المفهومة المدركة، فيستمعون إليها راغمين غير مختارين وهي أسماء للسور، وذكر للكتاب.(9/4608)
ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
(ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
(ذِكْرُ) خبر (كهيعص) وهذا يشير إلى أنها الكتاب أو بعضه، و (عَبْدَهُ) منصوبة بالرحمة؛ لأن الرحمة مصدر بمعنى المرة من الرَّحْم، ويصح أن يجعل مفعولا لـ (ذِكْرُ)، على أن تكون إضافة الذكر إلى الرحمة من إضافة المصدر لفاعله، وإنا نرى أن ذلك بعيد ويحتاج إلى تأويل، وما لَا تحتاج لتأويل أولى مما يحتاج لتأويل.
وإن ذلك الذكر لهذه الرحمة في وقت نادى ربه بها، ولذا قال تعالى:
(إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)(9/4608)
إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
أي دعاه دعاء الضارع الخاضع المتوكل، الذي لَا يرجو إلا ربه، وعبر بالنداء لأنه طلب منه، التجأ فيه إليه، وهو طلب لشخصه ولأسرته، وقد كان هذا الطلب في ذاته دعاء وعبادة، كما قال تعالى: (. . . ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ. . .)، ودعاه في خفاء، ولذا قال سبحانه: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا)، و (خَفِيًّا) صفة مبالغة من خفي، أي أنه بالغ في إخفاء دعائه فلا يعلمه قومه، ولأنه مناجاة للَّه وضراعة إليه وهو لَا يلتجى إلا إليه وحده: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ... ). وقال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55).
وفى هذا إشارة إلى أن الدعاء تضرع وفي الجهر به اعتداء؛ لأنه يكون فيه دعوة لغير اللَّه وشكوى للناس من ربه.
وموضوع النداء، بينه بقوله تعالى عنه.(9/4609)
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
(قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
(وَهَنَ الْعَظْمُ)، أي ضعف، ووهن العظم دليل على وهن الجسم كله؛ لأنه عمود الدين وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقط سائر قوته؛ ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن منه، كذا قال القرطبي في تفسيره (1).
ذكر أولا ما دل على الضعف الحقيقي، ثم ذكر ما يدل ظاهرا على الضعف، وهو أنه يعلوه الشيب فقال: (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ) الاشتعال الانتشار، و (شَيْبًا) تمييز محول عن الفاعل، والمعنى اشتعل شيب الرأس، أي انتشر الشيب فيه، والاشتعال مع أنه بمعنى الانتشار إلا أنه غلب على انتشار النار.
وهنا نجد ثمة استعارة، فقد شبه انتشار بياض الشيب باشتعال النار، إذ يكون الشيب عند انتشاره لامعا كوهج النار، ولأن فيه إفناء الشعر الأسود، كما تحرق
_________
(1) الجامع الأحكام القرآن: 11/ 73(9/4609)
النار ما يكون حطبها، ولأنه أمارة الفناء للعمر كما تفنى النار ما تحرقه، وأسند الشيب إلى الرأس مع أنه يكون في الشعر من قبيل اسم المحال وإرادة الحالّ، إذ جلد الرأس هو منبت الشعر ويكون فيه، وإن في هذا النص من البلاغ ما يليق بالقرآن الكريم أبلغ القول في الإنسانية كلها، إذ هو كلام اللَّه تعالى الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإن نسبة الاشتعال إلى الرأس ما يثير الاهتمام فيحاول العقل تعرف اشتعال الرأس فيجيء التمييز (شَيْبًا) بما يفيد اشتعال الشعر، ولم يذكر الشعر بل اكتفى بذكر محله.
وقال اللَّه تعالى عن زكريا: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) في هذه الجملة السامية الدلالة على رجائه من اللَّه تعالى، وفيها ذاتها ضراعة، وعبر هنا بالدعاء، وفى الأولى بالنداء للدلالة على أن النداء استغاثة وتلهف ورجاء، ودعاء وعبادة وتقى، وذكر (رَبِّ) في هذه لبيان أن نعمه سبحانه وتعالى موصولة دائما منذ خلقه إلى أن يبعثه نبيا، و (شَقِيًّا) بالأمر إذا تعب فيه ولم ينل ثمرته، أو طرد من خير، والمعنى لم أكن منذ خلقتني بدعائك محروما متعبا، بل كانت نعمة واستجابة دعائي قائمة دائمة موصولة، وفي نفي الشقاء في الدعاء ماضيا تأكيد للرجاء قابلا، وأن ذلك من طرائق الاستجابة والرغبة فيها، وإن ذكر النعمة الماضية شكر لها وإيذان لشكر فاعله.
وصرح بموضوع الدعاء فقال:(9/4610)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
هذه الجملة حالية، والواو واو الحال، والمعنى أنه في الحال الذي وهن العظم واشتعل الرأس شيبا ودنا الموت (خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا)، والموالي هم الحواشي والعصبات من قرابته، وسموا موالي؛ لأنهم الذين يلونه على ما يترك من علم ونبوة والأموال التي تورث من بعده، وقوله: (مِن وَرَائِي)، إما أن يتعلق بالموالي ويكون ظاهر القول إني خفت الموالي الذين يجيئون من ورائي، وإما أن يتعلق بـ (خِفْتُ) ويكون ظاهر المعنى: إني خفت من بعد موتي الموالي الذين يجيئون، والمؤدى في التقديرين واحد. ولماذا(9/4610)
خاف الموالي؟ قيل: لأنهم لم يكونوا أمناء على تركته من بعده إذ كانوا عصاة مسرفين، أو لأنهم قلة، وعلى هذا قرئت (خَفَّت) بفتح الخاء وتشديد الفاء وسكون التاء ويكون طلب الولد لينضم إليه، وقد ورد هنا اعتراضان:
الاعتراض الأول: أنه ورد في الأثر: " إننا معشر الأنبياء لَا نورث " (1).
الاعتراض الثاني: أنه إذ يطلب الولد يرثه إنما يعترض على تقسيم اللَّه تعالى للميراث ويستكثر على الموالي ما يأخذوه.
والجواب عن الاعتراض الأول: أن هذا الأثر كان بالنسبة للنبي، وإلا فقد ورث سليمان داود - عليهما السلام - أو على أنه غالب أمرهم، أو على أن الوراثة هي وراثة العلم والنبوة ولكن ذلك بعيد.
وأما الجواب عن الاعتراض الثاني: فهو أنه لَا مضارة في الوراثة، وإنما أراد أن يضم إليهم في تحمل أعباء العلم الذي حمله زكريا، ويؤيد ذلك قراءة خَفَّت بفتحِ الخاء وتشديد الفاء، والمرأة العاقر التي لَا تلد، وقوله: (وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا)، أي ثبت عقرها ودوامه يدل عليه التعبير بـ " كان " الدالة على الدوام والاستمرار، أي أنه لَا أصل له في الولادة لكبره وعقمها، ولكن رجاؤه من اللَّه تعالى مسبب الأسباب، ولذا قال متجها إليه؛ لأنه فوق الأسباب الظاهرة (فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا) " الفاء " لبيان ترتيب ما بعدها على مع ما قبلها، فهو مترتب على رجائه في اللَّه تعالى، وترك الرجاء من جهة الأسباب العادية وكان التعبير بـ " هب "، أي أنه هبة مجردة من فضلك وإرادتك أنت الفاعل المختار، وكان قوله (مِن لَّدُنكَ) تأكيد بأنه من قِبَل الله تعالى لَا دخل للأسباب العادية فيه، بل إنه خرق لهذه الأسباب.
(وَلِيًّا)، أي يليني ويخلفني في مالي وما أوتيت من علم وحكم وحكمة.
________
(1) رواه أحمد - باقي مسند المكثرين (9593). والنسائي في الكبرى 4/ 71 (6266): " إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة ". كما رواه البخاري ومسلم بلفظ آخر.(9/4611)
ثم قال تعالى في بيان معنى الولاية:(9/4612)
يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
الوراثة مترتبة على أنه ولي أو هو معنى ولايته عنه، ولذا انفصلت عن الجملة السامية السابقة؛ لأنها مترتبة عليها أو لأنها بمنزلة السبب، وهذه بمنزلة المسبب، وما الموروث؟ قالوا: إن الوراثة تكون وراثة في الجسم والعقل والغرائز والصفات الفطرية وبعض المكتسبة؛ كي تكون الوراثة في المال والعلم والحكمة والسجايا الفطرية، وقد نفى بعض العلماء الوراثة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " نحن معشر الأنبياء لَا نورث " (1) ولكن الأكثر على أن الوراثة في المال بالنسبة لزكريا - عليه السلام - هي ثابتة، ولعل ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - غالب ما عليه الأنبياء أو خاص بالمرسلين أصحاب الشرائع منهم كموسى وعيسى ونوح وإبراهيم - عليهم السلام - وإلى هذا نميل؛ لأنه من المؤكد أنه ورث سليمان داود بنص القرآن الكريم.
وقوله تعالى: (وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)، (مِنْ) هنا تدل على الابتداء، أي يرث ميراثا من آل يعقوب.
هذا هو الطلب الأول الذي دعا ربه ضارعا إليه، أما الطلب الثاني فهو أنه خصه بأن يكون مرضيا، أي تكون سجاياه وأعماله وأخلاقه مرضية مستقيمة، ولذا قال تعالى: (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)، (رَضِيًّا) هنا فعيل بمعنى مفعول، أي اجعله مرضيا عندك، أي أن أخلاقه وأفعاله وصفاته المكتسبة موضع رضا منك، ولم يقل: وكن راضيا عنه، لأنه يطلب ما يطلب في خلق الولي وتكوينه، أي اجعله في تكوينه محاولا رضاك، وأن ترضى عنه، بحيث يتخذ الأسباب لينال رضاك أنت العليم الحكيم فلا يكون شقيا، ولا يكون عصيا بل يكون رضيا برا تقيا.
وإن الدعاء صادر من قلب خاشع ضارع، ولذا استجاب سبحانه وكان الخارق للعادة فقال تعالى:
________
(1) المرجع السابق.(9/4612)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
(يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
ابتدأ الإجابة بندائه باسمه إدناء، وعناية وإظهار الحبة واختصاصه، وتمكينا لإجابته في ندائه الضارع، وأردف ذلك النداء المقرِّب بقوله: (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ)، (نُبَشِّرُكَ) أضاف سبحانه التبشير إلى ذاته العلية ذاكرا بضمير المتكلم العظيم فوق كل عظمة الذي لَا يتقيد بأسباب الناس وعاداتهم، بل إنه الفعال لما يريد (بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى)، وتأكيدا للتبشير سماه اللَّه تعالى، فسماه يحيى، ولهذا الاسم مناسبة واضحة بالنسبة لأبويه، فأبوه شيخ فان، وكأنما رد إليه شبابه في حياة ولده فكان له إحياء، وأمه عاقر، كأنما خلق اللَّه تعالى الحياة في رحم جف فلم يربّ جنينا، فكان منه الولد، وذلك بلا ريب خرق للأسباب والمسببات العادية التي فرضها فأسفة اليونان الذين قارنوا ظهور المسيح - عليه السلام - ومريم أمه، وزكريا كافلها، و (لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا)، أي شبيها في خلاله وسجاياه، فقد كان حصورا من الصالحين وليس له سمي، فالتسمية من اللَّه، وقد سبق يحيى بها كل الأسماء التي سمي بها الرجال.
وهنا نجد نبي اللَّه زكريا، وقد وقف بين حالين: حال الإيمان باللَّه خالق الأسباب والمسببات الذي لَا تقيد إرادته عادة ولا سبب أي سبب، والحال التي تسود الناس، وهي سيطرة الأسباب والمسببات العادية على تفكيرهم، فبالأولى طلب ما طلب عالما أن اللَّه تعالى فوق الأسباب والمسببات، وبالثانية ثار عجبه؛ ولذا قال تعالى عنه:(9/4613)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
(قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
الاستفهام ليس للاستنكار؛ فكيف يستنكر نبي قدرة اللَّه تعالى على الأشياء من غير وسائط وأسباب، وهو خالق الوسائط والأسباب، وإنما كان هذا السؤال للتنبيه إلى موضع الغرابة، وليؤمن من لم يكن آمن بقدرة اللَّه تعالى، وأنه لا(9/4613)
يحتاج في خلقه إلى وسائط وليسمع الناس بيان اللَّه تعالى أنه هين عليه، وأنه ليس بغريب من اللَّه تعالى، فقد خلق الإنسان ولم يك شيئا، وأن اللَّه تعالى غني عن الوسائط والأسباب، وشكرا لنعمة اللَّه في إجابة الدعاء فقد أجاب سبحانه مع ظهور ما يبعد الإجابة، ولكن ليس على اللَّه ببعيد.
وموضع البعد أنه شيخ فانٍ قد تصلبت عظامه وصار كالحطام الذي لَا تجري فيه الحياة، فقد بلغ من الكبر عتيا، وامرأته عاقر لم تنجب ولم يكن من شأن أمثالها في العادة أن تنجب، وقوله: (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا)، أي بلغت من كبر السن حدا صرت فيه صلب العظام معروق اللحم، وقد قال الزمخشري في معنى كلمة (عتي) واشتقاقها: " أى بلغت عتيا وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود القاحل، ويقال: عتا العود من أجل الكبر والطعن في السن العالية، أو بلغت من مدارح الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا " اهـ (1).
وأصل عتي عتوو. كسر ما قبل الواو الأولى فقلبت ثم اجتمعت الواو والياء وكانت إحداهما ساكنة فقلبت ياء وأدغمت الياء في الياء، وقرئت (عِتِيًّا) بكسر العين وبضمها (2).
أجاب اللَّه تعالى زكريا بقوله:
________
(1) الكشاف للزمخشري: 2/ 503، والجساوة: الصلابة والخشونة. لسان العربَ جسا.
(2) اختلف في (عتيا)، فحمزة والكسائي وحفص: بكسر العين، وقرأها الباقون بالضم. الشيخ محمود خليل الحصري - القراءات العشر من الشاطبية والدرة - الشمرلي. مختصرا.(9/4614)
قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
(قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
(كَذَلِكَ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره مثلا الأمر كذلك، وقائل هذا هو الملك الذي تولى الوحي بين زكريا وربه، أي قال الملك: الأمر كذلك، فقد قدره اللَّه تعالى، وأحكم ما قدر، ثم نقل عن اللَّه تعالى قوله: (قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) وعبر بـ (رَبُّكَ) للإشارة إلى أنه خالقه ومربيه والقائم على كل أموره، وأنه لا غرابة في أن يكون هذا من الحي القيوم (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، الضمير (هُوَ) يعود(9/4614)
إلى (غُلامٌ) في قوله: (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) وهو يعود إلى الولد مع وجود هذه الأحوِال التي تجعله قريبا، و (هَيِّن)، أي سهل لين لَا يثير عجبا ولا استغرابا، و (هيِّنٌ) تشير إلى أنه لَا غرابة فيه، ثم ساق سبحانه بعد ذلك ما يدل على قربه، فقال سبحانه: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا)، وهذه مقدمة قياسية تزيل الغرابة وتبين أنه لَا غرابة على قدرة اللَّه تعالى، وتقديره هذه المقدمة هكذا.
وقد خلقتك من قبل هذا ولم تك شيئا؛ لأني خلقتك من عدم لَا بعد شيء، وإذا كان ذلك ممكنا وواقعا وقد وقع فبالأولى يكون الخلق من شيء، وإن كان من أب شيخ وأم عاقر فهما شيء، والخلق من شيء أقرب في الوجود من الخلق من عدم.
اطمأن زكريا الرسول إلى بشرى رب العالمين أو قوي اطمئنانه، أو زالت الغرابة من نفسه وبقي أن يوثق البشرَى:(9/4615)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
(قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
الآية هنا العلامة التي يعرف بها أن امرأته حملت، وأن الولادة آتية لا ريب، فإن الولد قرة عينه وإنه آت لَا محالة لوعد اللَّه تعالى به. وإن اللَّه لَا يخلف الميعاد (قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا)، وِقد قال تعالى في سورة آل عمران: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41).
وقد ذكر الأيام في سورة آل عمران، والليالي في سورة مريم؛ للدلالة على أن العلامة هي ألا يكلم الناس ثلاثة أيام بلياليها، وكان ذكر الليالي في هذه السورة لأنها مكية، وما كان العرب الأميون في مكة يعرفون الأيام إلا بالليالي، حيث يرون القمر فهو شهر الأميين، والأيام الثلاثة قد حبس اللَّه تعالى لسانه عن النطق، فما كان يتكلم إلا بالإشارة، كما قال تعالى في سورة آل عمران:
(. . . أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا. . .)، أي بالاشارة، وأوضح الإشارات الكتابة، وقوله تعالى: (سَوِيًّا) حال من ضمير (تُكَلِّمَ)، أي سوى الخلق سليم(9/4615)
الحواس، أي وحاستك سليمة، ولماذا كانت العلامة الدالة على وفاء اللَّه ببشراه وتنفيذها بالفعل هي حبسه عن الكلام ثلاثة أيام متتابعة، وهو سليم الحواس، تلك إرادة اللَّه تعالى ولا يعلم إرادة اللَّه إلا اللَّه سبحانه وتعالى، وقد نتلمس معرفة بعض أسرار ذلك الحبس فنقول إنه سبحانه وتعالى قد أراد به العتب، لذكر غرابة البشرَى، وقد يكون إعفاءً لزكريا وامرأته من لجاجة القول عند الفضوليين من الناس، وقد يكون للانصراف إلى العبادة والعكوف في منزله أو المسجد الأقصى، قد يكون لذلك أو لغيره، والعلم عند اللَّه العليم الخبير. ولما تأكد مجيء الولد وكان على وشك المجيء، كان التسبيح والتكبير هو شكر للَّه تعالى، وكان ذلك منه ومن قومه؛ لأنه ليكون لهم ولي لزكريا، له حنانه وعطفه ومحبته، ولذا قال تعالى:(9/4616)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
(فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
(الْمِحْرَابِ) هو المصلَّى، ويظهر أنه كان يلازمه عندما وعده ربه أو كان قربيا منه دائما، ولذا كان خروجه مبتدأ منه، وسمي المصلَّى محرابا؛ لأنه يحارب الشيطان بلزومه فهو مشتق من المحرب، أو يحارب التعب ويأنس فيه باللَّه والقرب منه، فيكون مشتقا من الحرب والتعب وجهاد النفس.
ومهما يكن اشتقاقه فهو أشرف مكان خرج على قومه منه وأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا، (فَأَوْحَى) أي أشار إليهم، وكأنه كان إلى محبوس اللسان، كما يدل على ذلك مخاطبته لفومه بالإشارة والرمز، وقد كان هو في ذكر دائم، كما قال تعالى: (. . . وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِي وَالإِبْكَارِ).
وقد دعا قومه للمشاركة في هذا بالإشارة لشكر اللَّه تعالى لما تأكد من العلامة أن اللَّه تعالى وهبه الولد الذي يكون وليا.
والتسبيح: التقديس، والتسبيح في العشي والإبكار يفيد أنه تسبيح طوال النهار وطرفا من الليل، وكانت دعوة قومه للتسبيح معه؛ لأنه ذلك الولي الذي(9/4616)
جعله رضيا سيكون مصدر خير لهم، ولأنه يكون خلفا من الإيمان بالأسباب والمسببات إلى الإيمان باللَّه الفعال لما يريد.
بعد ذلك كان يحيى نبي اللَّه، وقد صار شخصا سويا يخاطب وينادى بما أنعم اللَّه به عليه وعلى أبيه فقال تعالى مخاطبا نبيه يحيى:(9/4617)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
(يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
ناداه سبحانه بالبعيد إعلاء له وتشريفا، وناداه باسمه محبة له وتقريبا، وقد دل ذلك النداء على أنه بلغ حد الخطاب؛ ولذا تضمن معنى كبر وكمل، وعطف عليه بقوله: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)، فالواو عاطفة تحمل على ما تضمنه معنى (يَا يَحْيَى) من بلوغ الرشد، واستواء الشخصية الإنسانية وذلك أمر خارق للعادة فإن الصبي يشدو في الكمال حتى يبلغ مبلغ الرجال، فيخاطب كما يخاطب الرجال، ولكنه بلغ مبلغ الرجال، وهو مبلغ من يعطيه اللَّه تعالى الحكْم، والحُكْم هنا الحكمة، وذلك كما في كلام حكيم تميم أكثم بن صيفي " الصمت حكْم، وقليل فاعله "، أي الصمت حكمة وقليل فاعله، والكتاب الذي أخذه هو التوراة، فقد كانت التوراة شريعة النبيين الذين جاءوا من بعد موسى يقرأونها وينفذون أحكامها، ويعلمونها للناس ويحكمون بما اشتملت عليه من نظم، فداود وسليمان - عليهما السلام - كانا ينفذان في ملكهما حكم التوراة، ويقيمان ما اشتملت من حدود وقصاص من غير تفريط فيها، ومعنى (بِقُوَّةٍ)، أي خذه منفذا له بقوة لا تخشى فيه لومة لائم، ولا معذرة لأثيم.
وقد ذكر اللَّه سبحانه ما حلاه من صفات بشرية هي صفاث البشر الكامل فقال تعالى:(9/4617)
وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)
(وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)
ذكر اللَّه تعالى ثلاث صفات هي صفات الكمال لإنسان يعيش في وسط مجتمع يغذيه بماله وعاطفته، ويجنب عنه السوء.(9/4617)
الصفة الأولى: ذكرها الله تعالى بقوله: (وَحَنَانًا)، والحنان الشفقة والرأفة والرفق في معاملة الناس، والفيض عليهم من حبه، والحدب عليهم، والواو عاطفة على (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)، فذلك بدا فيه منذ كان صبيا، وهو مما أودعه اللَّه تعالى في فطرته، ولذا قال: (مِّن لَّدُنَّا)، أي أن اللَّه تعالى أعطاه تلك الصفة منه لا بتربية ولا تعليم فهو مهدي حنون شفيق بمقتض تكوينه الفطري.
والصفة الثانية: الطهارة وذكرها اللَّه تعالى بقوله: (وَزَكاةً)، أي طهارة، وهي طهارة إيجابية فهو طاهر في نفسه، ويفيض بطهارته على غيره، ولذا نقول: إن " زكاة " تتضمن طهارة النفس، والفيض على قومه بالصدقات، فتكون طهارة لذاته وطهارة لمجتمعه من الموبقات، فإن الزكاة طهارة للمجتمع.
والصفة الثالثة: التقوى وقد قال تعالى (وَكانَ تَقِيًّا)، أي كانت نفسه مملوءة بالتقوى وهي خوف الله تعالى، وخوف الشر لقومه، فكان نبيا، وكان إنسانا كاملا سوي الخلق والنفس، وتحققت فيه أمنية أبيه ولذا قال تعالى:(9/4618)
وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)
(وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)
هذان الوصفان يضافان إلى الأوصاف الثلاثة السابقة، أول الوصفين إيجابي، والثاني سلبي.
أما الوصف الأول: فهو أنه كان برا بأبويه، وهو استجابة لزكريا؛ لأنه كان يخاف الموالي من ورائه، فجاءه البر به وبأمه، والذي به تقر أعينهما، ولا يجدون شقوة في عشرته بل يصاحبهما صحبة طيبة كريمة برة.
والوصف الثاني: سلبي، وهو أنه لم يكن جبارا مستكبرا مستطيلا على الناس بقوته أو رهبته، بل كان أليفا متطامنا مطمئن النفس عادلا، لَا يُرهب، ولا يتجبر، ووصف الجبار بأنه عصي، وكل جبار عصي؛ لأن يعصي بالبعد عن الناس ويعصي بمجافاتهم، ويعصي بعداوتهم، ويعصي بالظلم، فالظلم مرتعه وخيم، ويشقى فوق ذلك بغضب اللَّه تعالى عليه، وحسب الظلم شقاء، فإنه لَا يظلم إلا(9/4618)
شقي، ولا يسعى مع ظالم إلا شقي، والعصي فعيل من عَصَى، من العصيان وهو مبالغة، وقد كرم اللَّه تعالى يحيى بتحية. كريمة له فقد حيَّاه تعالى من وقت أن ولد إلى أن مات فقال تعالى:(9/4619)
وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
(وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
السلام هو الأمن، والأمن يتضمن الأمن من عذاب اللَّه، والظفر برضاه، وهو أكبر ما يأخذه العبد، وهذا الأمن والرضا من وقت ولادته، فهو مبارك آمن يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيا.
* * *
ولادة عيسى
قال اللَّه تعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
* * *
قلنا: إن العصر الذي قارب عيسى هو عصر الإيمان بالأسباب والمسببات العادية حتى ادعى أن الكون نشأ من منشئه على نظام: العلة والمعاول.(9/4619)
وإذا كانت تلك سمة هذا العصر فكان عصر الخوارق المبطلة لذلك التفكير الضال، وقلنا إن يحيى كان حمله خارقا للعادة؛ لأنه كان من أب بلغ من الكبر عتيا وأم كانت عاقرا لَا تنجب.
وعيسى كان من غير أب، بل سبق ذلك خوارق أخرى في الحمل بأمه، وفي كفالتها ومدة حضانتها، فقد كانت وهي في حضانة زكريا تعيش في المسجد محررة له كما نذرتها أمها في أثناء الحمل بها، إذ قالت مخاطبة ربها: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38).
نرى أن خرق نظام الأسباب والمسببات ابتدأ بما كان من رزق مريم الذي أثار عجب زكريا، وقد رأى الأسباب تُطوى ولا تحول بين اللَّه تعالى وما يريد، فدعا ربه أن يهب له من لدنه ذرية طيبة.
فخرق نظام الأسباب العادية ومسبباتها كان في أم عيسى قبل أن تجيء إرهاصات ولادته، بل كانت هذه هي الإرهاصات الأولى، ولذا كان اصطفاء اللَّه مريم البتول لتكون أم المسيح، إذ قال عز من قائل (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)، كانت هذه كلها إرهاصات لما اختارها اللَّه تعالى له.(9/4620)
قال اللَّه تعالى:(9/4621)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والكتاب هو القرآن الكريم، فهو الكتاب الكامل الذي إذا ذكرت كلمة الكتاب انتهت إليه، فهو الجدير وحده بأن يسمى الكتاب؛ لأنه كامل في نسبته إلى اللَّه تعالى، إذ هو خطابه لعباده، وكامل فيما اشتمل عليه من إعجاز، وكامل فيما اشتمل عليه من شرائع وحكم ومواعظ وقصص.
(إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا) النبذ: الطرح والرمي، وانتبذ معناه نبذه نبذا شديدا، والمعنى أنها اعتزلت الناس ونبذتهم، وانفردت لعبادة اللَّه وحده، لا تأنس إلا به، ولا يعمر قلبها إلا بذكره، والمعنى انفردت من أهلها (مَكَانًا شَرْقِيًّا)، أي انفردت من أهلها في مكان شرقي بيت المقدس الذي كان فيه محرابها، ومحراب كافلها زكريا - عليه السلام -، وكان وراء هذا الانفراد أن اتخذت حجابا يحول بينهما.
ولذا قال تعالى:(9/4621)
فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
(فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا ... (17)
والفاء للترتيب والتعقيب، أي أنه صاحب الانتباذ أو أعقبه أن اتخذت حجابا من دونهم يحول بينهم وبينها، فلا يرونها في عزلتها، ولا تراهم، وذلك إحكام للعزلة التي أرادتها بإلهام من اللَّه تعالى، لتكون أما لعيسى، وقد كانت في هذه الخلوة الروحية على استعداد لتلقي أمر ربها، وقد قال تعالى في الاصطفاء في السورة آل عمران مخاطبا لها بالوحي، أو بالإلهام الروحي: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43).
في هذه الخلوة الروحية التي كان يتحدث فيها الملائكة، كان لقاء جبريل الأمين لها، ولذا قال تعالى: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا)، الروح هو جبريل، وقد عبر عنه بروح القدس، وأضيفت الروح إلى اللَّه؛ لأنه خالقها؛(9/4621)
ولأنه المختص برسالته إلى خلقه، وكذلك كان التعبير في قوله تعالى:
(. . . فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا. . .)، أي جبريل الأمين، والفاء للترتيب، أي أنه بعد أن اتخذت حجابا بينها وبين الناس منتبذة دونهم مكانا شرقيا، أرسلنا إليها في هذه الخلوة الروحية جبريل، فتمثل لها بشرا سويا، أي ظهر لها في صورة رجل سوي مستوي الخلق والتكوين حسن الصورة، وقد جاءها كذلك، لأن البشر لَا يرون الملك من الملائكة إلا على صورة البشر، قال تعالى:
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)؛ لأن البشر بحالهم البشرية لَا يستطيعون أن يروا ملكا وهو في صورته الروحية.
فوجئت البتول مريم - وهي في مكان قصي شرقي قد انتبذت الناس، واتخذت من دونهم حجابا - بصورة رجل من البشر يدخل عليها ولا تدري من أين جاءها، وقد سدت الأبواب، وقام الحجاب، وفي الفزع من المفاجأة، قال اللَّه عنها:(9/4622)
قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
(قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)
أي ألجأ إلى اللَّه تعالى منك حذرة خائفة، وذكرت اللَّه تعالى بوصف الرحمن كأنها تستغيث من الناس برحمة اللَّه تعالى، وأنها في هذه الساعة تلجأ إلى رحمة الرحمن الرحيم، ثم تتجه إلى الذي دنا منها مستنجدة بتقواه، فتقول: (إِن كُنتَ تَقِيًّا)، طاهرا متصونا مرجوا تخاف اللَّه تعالى وتخشاه، فهي تلجأ إلى الرحمن، وتحثه على أن يخافه ويتقيه، ويكون امرءا يخاف عذابه ويرجو ثوابه، هنا يتقدم الملك الذي تمثل بشرا سويا يعلن حقيقته ومهمته، وأنه ما جاء لينال منها شرا وأن ما سبق إلى وهمها ينفيه نفيا قاطعا، ويزكيها ويقوي اصطفاء اللَّه تعالى كما جاء في سورة آل عمران:(9/4622)
قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
(قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) (1)
________
(1) راجع سورة آل عمران من هذا التفسير المبارك.(9/4622)
(إِنَّمَا) أداة حصر، أي لست إلا رسول ربك، أي أنا مرسل من ربك الذي خلقك ويعلم حالت وطهارتك، وأنه اصطفاك من نساء العالمين؛ لتكوني موضع معجزته الكبيرة وهي خلق إنسان من غير أب، وقوله: (لأَهَبَ لَكِ) اللام متعلقة برسول أي رسالتي لأهب لك، لأكون أداة هبة اللَّه لك، أو طريق هبة اللَّه لك، فليس هو الذي يهب إنما يهب اللَّه تعالى، وهذا معنى القراءة الأخرى " ليهب لك " (1) بإسناد الهبة للَّه تعالى مباشرة، وعلى كلتا القراءتين الهبة من اللَّه تعالى العزيز الوهاب، والرسالة في قراءة " ليهب لك " موضوعها الرسالة وحدها.
وقوله تعالى: (غُلامًا زَكيًّا)، أي غلاما طاهرا ناميا في جسمه ونفسه وروحه، وكل ما يتصل بالنمو الإنساني الكامل.
اعتراها ما اعترى كافلها زكريا من استيلاء الأسباب والمسببات العادية فكانت مستغربة، وحكى اللَّه تعالى عنها أنها قالت:
________
(1) قراءة (ليهب لك): أبو عمرو، وروح - وصوب ابن الجزري في النشر يعقوب بكماله - وورش، وأبو نشيط عن قالون عن نافع، وقرأ الباقون (لأهب) بهمزة مفتوحة. راجع: الهمداني - غاية الاختصار - تحقيق د/ أشرف محمد فؤاد طلعت (2/ 563)، والنشر في القراءات العشر (2/ 318).(9/4623)
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
(قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
(أَنَّى) بمعنى كيف وهي للاستغراب لتأثرها بنظرية الأسباب التي كانت سائدة، ولأن هذا هو النظام الذي كانت تعرفه ويعرفه الناس، وموضع الاستغراب أن يكون لها غلام ولم يكن أحد من الرجال قد مسها، أي خالطها مخالطة جنسية بزاوج شرعي، أي أنها لم تزف إلى رجل في الحلال، ولم تك بغيا أي امرأة مبغية مقصودة من الرجال، بل كانت عفيفة نزيهة طاهرة، وبغي: قال بعض الصرفيين: إنها على وزن " فعول " دخلها الإعلال بأن اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالتسكين فَعُلَّتْ وأدغمت الياء، وعندي أنها على وزن " فعيلة " بمعنى مفعول، ولم تلحقها التاء، وذلك مثل قتيل وجريح، والمرأة المتفحشة يقال لها بغي لأنها تُبتغَى من الرجال ويطلبونها.(9/4623)
فنفت لذلك السيدة البتول بذلك الزواج، وأن تكون قد زفت لبشر، وأنها لم تكن تبتغَى من الرجال، وهذا موضع استبعادها مأسورة بحكم الأسباب العادية، وقد سيطرت النظرية التي تفرض الأسباب والمسببات في كل الوجود.
وقد رد اللَّه سبحانه وتعالى قولها بأنه سبحانه أراد ذلك، وإرادته فوق الأسباب، ولذا قال تعالى:(9/4624)
قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
(قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
(قَالَ): أي جبريل، (كَذَلِكِ) خبر لمبتدأ محذوف، أي الأمر كذلك، قد تقرر في علم اللَّه المكنون وقدره المحتوم، فلا تغيير فيه استبعدتيه أو لم تستبعديه، (قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)، أي قال ربك الذي خلقك ولم تكوني شيئا وكلأك وحماك وربَّاك واصطفاك على نساء العالمين؛ لهذه الخاصة التي منحك اللَّه تعالى إياها، هو على اللَّه هين؛ لأنه يكون أي شيء في الوجود بقوله تعالى: (. . . كن فَيَكُونُ)، فليس خلق شيء بعزيز على اللَّه خالق لَا شيء (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ) " الواو " عاطفة على فعل محذوف يفهم من الكلام (هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ) فثبتت قدرتنا الكاملة في تغير الأسباب العادية ومسبباتها، وإن إرادتنا لا يقيدها شيء، وأنه سبحانه الفعال لما يريد، (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ)، الضمير يعود على الغلام، والآية هي الدلالة على قدرة اللَّه تعالى المطلقة على خرق الأسباب والمسببات، فأي دلالة أقوى في الدلالة على أن اللَّه تعالى فعال لما يريد، لَا تتقيد بالأسباب والمسببات، كما يتوهم الفلاسفة ومن يلف لفهم ويسير في دروبهم.
(وَرَحْمَةً مِّنَّا)، أي أن ذلك الغلام سيكون آية دالة على كمال القدرة الربانية وسيكون رحمة منا؛ إذ نبعثه بالرحمة والرأفة والتسامح الإنساني.
ويقول سبحانه في بيان أن ذلك أمر محتوم (وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) قررنا [بحتمه]، وفي حدود قدرتنا، ونفذناه بحكمتنا العالية التي لَا تعلو إليها مدارك البشر، إنه هو العليم الخبير السميع البصير.(9/4624)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
جاء في بعض الروايات أنها حملت بنفخِ جبريلِ في بعض ثيابها، فروى أن جبريل - عليه السلام - حين قال لها: (كَذَلِكِ قَالَ ربُّكِ هو عَلَيَّ هيّنٌ) نفخ في جيب درعها، وعن ابن عباس أخذ جبريل ردن قميصها (1) فنفخ فيه فحملت من ساعتها بعيسى، وإن هذا يتلاقى مع قوله في سورة الأنبياء: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا) فهو لم ينفخ في الفرج، ولكن نفخ في مريم ذاتها، وذلك بالنفخ في فتحات من قميصها، وعلى أي حال الكلام في ذلك ليس ذا جداء، فإن جبريل روح من اللَّه تعالى وليست له خواص الآدمي، بل له الخواص الروحية التي لَا تتصل بالمادة.
قيل: كان الحمل بعيسى ومريم في نحو الثالثة عشرة من عمرها، ولا يهمنا مقدار سنها، إنما يهمنا أنها كانت عذراء وأنها حملت من غير زوج مطلقا، بل جاء حملها أمرا خارقا لنظام الأسباب والمسببات الذي كان يؤمن به الفلاسفة، ولا يؤمنون بأن الله فعال لما يريد، فجاءت ولادة عيسى من غير أب أمرا خارقا لهذا النظام؛ ولذا قال الشهرستاني: بحق إن عيسى بوجوده معجزة في ذاتها.
وعندما أحست بالحمل واعتزلت الناس وانفردت عنهم، وانتبذتهم في مكان قصي بعيد وشددت في نبذهم وعدم الانغمار في جمعهم، لأنها صارت تصاحب من نفسها من يؤنسها في وحدتها، وهو الحمل الذي تسعد به كل امرأة في هذه الدنيا، ولذا قال تعالى: (فَانتَبَذَتْ بِهِ)، أي انتبذت مصاحبة له (مَكَانًا قَصِيًّا)، (مَكَانًا) ظرف، أي في مكان (قَصِيًّا) بعيد عن الناس حتى لَا يروها فيقلقوها بفضولهم، وفي الناس في كل العصور فضول، يقولون فيه ما لَا يعنيهم ولا يهمهم.
ولكن لابد من المواجهة عندما ترجع إليهم حاملة معها غلاما طاهرا زكيا ناميا.
________
(1) الردنُ، بالضم: أصْلُ الكُم، والجمع أرْدَانٌ. القاموس المحيط. وفي العين: مُقَدَّمُ كُم القميص.(9/4625)
ولم يذكر علماء الأخبار شيئا يتعلق بمدة حمله، فكان ذلك على مجرى المعتاد في الحمل وهو تسعة أشهر حتى يأخذ الجنين أدواره كلها علقة ثم مضغة فعظاما، ثم تكسى العظام لحما، وكان الأمر الخارق للعادة أنه لم تكن نطفة في قرار مكين تولدت عنها العلقة، والنفخ في القميص من روح اللَّه جبريل لَا يوجد نطفة، ولكن روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما هو إلا أن حملت فوضعت في الحال، قال القرطبي: لأن الله تعالى ذكر الانتباذ عقب الحمل، ولعله يؤيد ذلك النظر العطف بالفاء في الحمل ثم في الانتباذ ثم في مجيء المخاض، ولا مانع عندنا من قبول ذلك، ولكن لَا دليل عليه، وإن صح يكون أمرا خارقا آخر، ولم يذكر ما يدل عليه من القرآن ولا السنة المرفوعة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وكانت - عليها السلام - قد انتبذت الناس في ذلك المكان القصي، حتى اضطررت إلى الخروج منه وذلك بسبب المخاض الذي هو مقدمة الولادة، ولذا قال تعالى:
* * *
(فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
* * *(9/4626)
فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
(فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
من إخباره إلى حمله على المجيء وساقه إليه غير مختار فيه، ولذا كان معناه ألجأها المخاض وهو الطلق عند النساء أو مقدمة الولادة، وكان إلجاؤها إلى جذع النخلة؛ لأنها احتاجت إلى شيء تعتمد عليه وتتعلق به لشدة الحمل وكره الولادة(9/4626)
كما قال في الولادة وصعوبتها (. . . وَوَضَعَتْهُ كرْهًا. . .)، وهو صعوبتها واحتمالها بعسر شديد، وهو في ذاته كره، ولكن الوالدة تتحمله لمحبة الولد وشغفها فيه.
وجذع النخلة عادة يكون يابسا سواء أكانت النخلة مثمرة أم كانت غير مثمرة، وسواء أكانت في أرض زراعية أم كانت غير زراعية، والنخل يكون في الأرض غير الزراعية، و " أل " للجنس كقولك: ادخل السوق واشتر شيئا، فليس ثمة سوق معينة، ولا تكون للعهد؛ لأنه لم تذكر من قبل شجرة، ولا يكون في الذهن شجرة معينة.
وقد كانت مريم العذراء البتول في كربين:
الكرب الأول: احتملته ورضيته بحكم الفطرة وهو كره الولادة كما ذكرنا.
والكرب الثاني: العار الذي زعمته ويستقبلها، فإنها البريئة الطاهرة تستقبل اتهاما وهي البريئة وذلك عبؤه على البريء ثقيل، ولذا قالت: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا).
تنادي " ليت " الدالة على التمني، وكأنها تقول إنها تتمنى الموت، وتنادي أداة تمنى الموت قبل هذا، لأن ذلك وقت تمني الموت فرارا من عار الاتهام الظالم، وهي البريئة الطاهرة التي اصطفاها رب العالمين.
وأنها ما قالت الذي قالته تململا مما أراد رب العالمين لها من كرامة، وإنما كان ذلك استشعارًا من ضعفها وصعوبة الاحتمال، وإن كانت راضية بما قضى اللَّه وبما أمر، غير خالعة ربقة، ولا متمردة على طاعه، (وَكنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا)، المنسِيّ والنَسِيّ: الشيء المنسي، كذبح الشيء المذبوح، ونقص الشيء المنقوص، فالنسي الشيء الذي من شأنه أن ينسى؛ لأنه مهمل في ذاته، والمنسي بالفعل.
وقد قال الزمخشري في هذا الأمر الذي كانت عليه العذراء البتول - محللا الألفاظ - وهو إمام البلاغة: المنسي ما من شأنه أن ينسى ويطرح وينسى كخرقة الطامث ونحوها، كالذِّبح اسم ما شأنه أن يذبح، قال تعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبحٍ(9/4627)
عَظِيمٍ) [الصافات] وعن يونس: العرب إذ ارتحلوا عن الدار قالوا: انظروا أنساءكم أي الشيء اليسير نحو العصا والقدح.
تمنت لو كانت شيئا تافها لَا يؤبه له من شأنه وحقه أن ينسى في العادة، وقد نسي وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو من حقه، وذلك لما لحقها من فرط الحياء (أي الحال التي توجب الاستحياء) من الناس على حكم العادة البشرية لَا كراهة لحكم اللَّه، أو لشدة التكليف عليها إذ بهتوها، وهي عارفة ببراءة الساحة وبضد ما قرفت به، من اختصاص اللَّه إياها بغاية الإجلال والإكرام، لأنه مقام دحض (1) قلما تثبت فيه الأقدام: أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم، وفضل باهر تستحق به المدح، ويستوجب التعظيم، ثم تراه عند الناس لجهلهم عيبا يعاب به، أو يعنف بسببه، أو لخوفها على الناس أن يعصوا اللَّه تعالى بسببها.
في هذا الكرب الشديد الذي لَا تمرد فيه كانت تحف بها مكارم اللَّه، وخوارق العادات.
(فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
________
(1) الدَّحْضُ: الزَّلَقُ، والإِدْحاضُ: الإِزْلاقُ. لسان العرب. دحض.(9/4628)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
(فَنَادَاهَا) الفاء عاطفة، وهي تفيد الترتيب، وضمير الفاعل يعود على جبريل؛ لأنه المذكور، وهو روح اللَّه تعالى الذي أرسله الله تعالى: (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) وقالوا: (مِن تَحْتِهَا)، أنه كان قد جعله (مِن تَحْتِهَا) قابلا للغلام الطاهر عند نزوله كما تستقبل القابلة المولود، وذلك من كلاءة اللَّه تعالى وحمايته لها، إذ كانت معزولة عن النساء وهي عذراء ليس لها تجربة في الحمل والولادة من قبل، فكان من رعاية اللَّه تعالى أن يسخر لها روح القدس، ليكون القريب منها في هذه العزلة وهذا الانفراد عن المعاون والقريب، وقيل: إن ضمير الفاعل يعود على عيسى ويكون ذلك النداء خارقا للعادة ولكن نستبعد هذا، أولا: لأنه لم يكن هنا ذكر للغلام حتى يعود إليه، وثانيا: لأن اللَّه لم يذكره آية(9/4628)
خارقة لنظام الأسباب والمسببات. والنداء (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (أن) المدغمة في (لا) التفسيرية، أي كان النداء لَا تحزني (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا)، السري يطلق بمعنى الأمثل الكامل، ويقولون: السري من الرجال هو الأمثل الكامل، ولقد قال الحسن في عيسى - عليه السلام -: كان واللَّه سريا من الرجال وإن ذلك استثارة لمحبة الأمومة وعاطفتها، إذ إن بشراها بأنه سيكون له شأن أي الشأن، يسري عنها، ويذهب بحزنها، فلا يشغلها ما تنتظره من ملامة كما يكون معها من الغلام الأمثل الذي هو الفرحة التي تذهب الترحة، ويفسر بعض العلماء السري بأنه جدول ماء كان تحت الهضبة التي هي فيها، ونقول ما كان حزنها لطعام وشراب إنما كان حزنها لخشية الملام الذي تتوقعه، وهي البريئة، وتقول ذلك وإن كان ذكر الأكل والشرب قد يرشح لمعنى جدول الماء، وقد رُوى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فسر السري بجدول الماء (1).
وقال تعالى:
________
(1) انظر الحاكم في المستدرك (3460)، وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه الطبراني في الصغير عن البراء بن عازب مرفوعا، كما في مجمع الزوائد:7/ 149 (55111).(9/4629)
وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
(الواو) عاطفة، فيعد أن نهى المنادي عن الحزن أخذ يدعوها بعد الانصراف أن تأكل مستريحة مطمئنة، وأن تشرب هنيئا مريئا وتلتفت إلى حاجة الجسم الذي نهكه المخاض وتحتاج إلى تعويضه.
والباء في قوله تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَة) يقول الزمخشري أنها صلة للتأكيد كقوله تعالى: (. . . وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ. . .).
وأرى أن الباء للدلالة على تسهيل وصول الرطب إليها؛ ذلك أنها تهز في مكان هو الجذع تتساقط عليها الرطب من عَلٍ، وذلك بلا ريب تيسيرا للوصول، فلا تهز من أعلى بل تهز بمكان قريب منها، وهي النفساء والتي تتعبها الحركة الكثيرة.
وقوله (إِلَيْكِ) للإشارة إلى قرب المكان الذي تهز منه بشدة إليها، وقال الزمخشري: إن في قوله تعالى: (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) تسع قراءات، وكل يتعلق بحركات الفاء، ولا فرق كبير بين معاني هذه القراءات، ولذا لَا حاجة إلى(9/4629)
ذكرها، ولتراجع في موضعها، والرطب البلح الطيب السهل في تناوله، والجني: القريب الجني، أي أنه لم تمض عليه مدة تفسده، وجاء في الكشاف وقالوا كان من العجوة، وقيل: ما للنفساء خير من الرطب ولا للمريض خير من العسل، وقيل: إذا عسر ولادها لم يكن لها خير من الرطب.
وقد قال أكثر المفسرين: إن جذع النخلة كان جافا، وهي جافة، ولم يكن فيها ثمر فأثمرت فكان ذلك خارقا للعادة، ونقول: إن الآيات الكريمات الخاصة بالحمل بعيسى - عليه السلام - وولادته ثرية بالخوارق فلا نزيد عليها إلا ما يثبت بالنص، ولا نفرض من غير نص.
وإذا كان الطعام والشراب قد توافر فقد كان حقا عليها أن كل وتشرب، ولذا قال تعالى:(9/4630)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
(الفاء) للإفصاح؛ لأنها نفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانت البراءة متوافرة، وقد تهيأ الطعام والشراب وكان معك غلام سوي سيكون الأمثل بين الرجال، (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا)، فكلي من الرطب الجني، واشربي من الجدول السري، (وَقَرِّي عَيْنًا) بما وهبك اللَّه تعالى من غلام زكي، وقرار العين سكونها، وإن الإنسان في اضطرابه وخوفه تدور عينه ولا تستقر، فكنى بقرار العين عن السكون والاطمئنان، فقرار العين يعلن عن قرار النفس، والأمر بقرار العين وإن لم تكن تحت سلطان الإرادة أمر باطمئنان النفس وإبعاد الهواجس المخيفة، وألا تتوقع سوءا؛ لأن اللَّه معها، وقامت الخوارق الدالة على أنه سبحانه وتعالى معها، ومن كان اللَّه معه فإنه يجب أن يكون مطمئنا قرير العين والنفس.
ولقد صرح الملك بما يجب عليها لاتقاء فضول الناس قال الملك: (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) " إن " حرف شرط، و " ما " تأكيد لفعل الشرط، بدليل التوكيد بالنون الثقيلة، كتوكيد القسم، وهو توكيد لأنها سترى من البشر كثيرا ولا ترى منهم ومن فضولهم ما لَا يسرها،(9/4630)
وأومأ إليها بأن تنذر للَّه تعالى صوما عن الكلام (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) وكأنه أشار إليها أن تنذر الصوم عن القول تقربا إلى اللَّه تعالى، فالسكوت من لغو القول قربة يتقرب بها إلى اللَّه تعالى، وعبر عن اللَّه تعالى بوصفه الكريم " الرحمن "، للإشارة إلى أن ذلك الصوم من رحمة اللَّه تعالى بها وتقريبه إليها. وهي إذ تقول ذلك لقومها تؤكد بُعْدها عن لغوهم، وعن سفه سفهائهم، ولذا أكدت النفي بقولها: (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)، أي لن أكلم إنسانا قط طيبا أو فاجرا، برا أو بغيا، ولذا قالت: (إِنسِيًّا)، أي منسوبا للإنس، والعلاقة بينه وبين الإنسان أنه إنسي مجرد من غير نظر إلى حاله في تقواه أو فجوره.
التقت بهم، وعبر اللَّه تعالى عن لقائها بهم بقوله تعالى:
* * *
(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
* * *(9/4631)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
الفِرى العظيم القبح فقوله تعالى: (فَرِيًّا)، أي أمرا عظيما، وهو أنك أتيت بولد لَا نَسب له، وهو من يكون من زنى، ومن الأدب في التعبير أن يقول(9/4631)
عن ولد الزنى إنه (فَرِيًّا)، والفَرْى القَطع وهو هنا الكذب المقطوع به، وفي بيعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع النساء قوله تعالى في مبايعتهن: (. . . وَلا يَأتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ. . .)، أي لَا يأتين بزنى يفترينه فعلا وقولا.
وقد أرسلوا القول في هذا الافتراء الكاذب عليها، وقد أقرَّ اللَّه نفسها به رأت من عناية اللَّه تعالى بها وإجراء خوارق العادات لأجلها وولدها، وهي شاهدة لها ولولدها الغلام الزكي بالكرامة والإكبار.
قالوا منددين لها على حسب مداركهم:(9/4632)
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
(يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
ينفون عن أبويها الشر، فأبوها لم يكن امرأ تغلغل فيه السوء حتى صار يعرف به فلم يكن قرين سوء، (وَمَا كَانَتْ أُمّكِ بَغِيًّا) يبغونها الرجال لقضاء مآربهم، وتناسوا أنها كانت خالصة لخدمة البيت وتربت في كفالة نبي الله زكريا - عليه السلام -، وهارون في ظاهر القرآن ومتضافر الروايات هو هارون أخو موسى، وينادي الرجل برأس قبيله وأبيهم فيقال يا أخا العرب، ويا أخا قريش، ويا أخا تميم، ويا أخا همدان إلى آخر ما يجري على ألسنة الناس، ولكنها صمتت ولم ترُدَّ، وأشارت إلى من يرُدُّ وهنا ظهر ما يبهتهم ويرد غيهم.
فأشارت إشارة فهموها ليخاطبوا عيسى - عليه السلام -، وذلك بإلهام اللَّه تعالى:(9/4632)
فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
(فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
أشارت إليهم ليستمعوا إلى ما عدوه مادة الاتهام ليعرفوا أنه كان الحمل به أمرا من اللَّه، فأثار ذلك عجبهم، وقالوا مستبعدين مستنكرين إشارتها، ولعلهم جرت في نفوسهم ما هو أبعد مما اتهموا (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) الاستفهام للإنكار أو الاستغراب، أي غريب أن نكلم من كان في المهد صبيا، وذكرت كلمة (نُكَلِّمُ) للإشارة إلى موضع الاستنكار أو لتفسير معنى (فِي الْمَهْدِ)، أو للمبالغة في الاستنكار، أي أن الاستنكار لأمرين: كونه (فِي الْمَهْدِ) فهذا عجب، وكونه (صَبِيًّا)، وهذا أعجب أيضا، والمراد بـ " المهد " الحِجْر سواء(9/4632)
أكان سريرا أم وسادة أم غيرهما، ولكن استبان لهم أن هذا الصبي أحكم وأعلم منهم، وأنطق بالحق ممن استغربوا.
(قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
كان كلامه الحكيم الفيصل بين الحق والباطل وأبلغ ما يكون ردا للاتهام الذي لَا يقوم إلا بمجرى العادات، فتبين لهم أنه فوق مجرى العادات الحاكمة التي يحسبها فلاسفتهم أن الأسباب والمسببات قانون لَا يقبل التخلف، ونسوا أن خالق الأسباب والمسببات فوق كل نظام؛ لأنه خالق كل نظام وفعال لما يريد.
ونلاحظ قبل أن نتكلم في معاني هذه الآيات أنها عندما واجهت القوم لم تقل كما أمرت (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صوْمًا فَلَنْ أُكلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا)، ولكنها نفذت الأمر بالفعل فلم تتكلم معهم بل أشارت إليه أن يرد، فهي نفذت مدلول الأمر ولم تنطق به ولو نطقت لكان ذلك نقضا للصوم الذي نذرته.
وقد أثار العلماء بحثا حول نطقه صغيرا بهذا الكلام الذي لَا ينطق به إلا نبي يوحى إليه، أكان هذا الكلام نتيجة بعثه نبيا، وأنه بذلك بُعث وهو صبي في المهد، وقد أجاب الأكثرون عن ذلك بأنه تكلم في المهد ليتحقق وفاء أمه بنذرها، ولتحقق براءة أمه من اتهامها بالزنى، وهي البريئة العذراء البتول التي اصطفاها اللَّه على نساء العالمين، ثم عاد إلى ما يكون عليه الأطفال حتى بلغ المبلغ الذي ينطق فيه من يكون في سن النطق، وأثاروا بحثا حول ما جاء بقوله من أنه أوتي الكتاب، وجَعْله نبيا، وإيصائه بالصلاة والزكاة، وبره بأمه ونطقه بقوله (وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33). وأجيب عن ذلك بأن كل هذا الذي أخبر به سبق بلفظ الماضي، ومعناه للمستقبل كقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)، وذلك(9/4633)
لتأكيد الوقوع؛ ولأن الأزمان عند اللَّه واحدة، لا فرق فيها بين ماض وقابل، فكلها في علم اللَّه تعالى واحد، ولكن كون بعضها ماضيا وبعضها قابلا إنما هو بالنسبة لعلمنا نحن وحدنا، فاللَّه في علمه المكنون ألهم عيسى - عليه السلام - في المهد أن ينطق بهذه الأمور على أنها واقعة وهي ستكون لَا محالة.
أول قول لعيسى في المهد:(9/4634)
قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)
(قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) ابتدأ بإظهار العبودية للَّه سبحانه وتعالى، وكأنه - عليه السلام - يرد على الذين أخرجوه من مرتبة العبد الخالص الزكي الطاهر إلى مرتبة الألوهية، وهو لن يستنكف أن يكون عبدًا للَّه. والثاني: أنه آتاه كتابًا يدعو الناس إلى اتباعه، وهو التوراة والإنجيل فهو يدعو إلى العمل بهما، والثالث أنه جعله نبيا. وهذا الجَعْل في علم اللَّه تعالى أكَنَّه إلى أن يبلغ من ينبأ ويحمل رسالة، وهو بالنسبة لنا هذا الوقت الذي قاله إخبار بالماضي للدلالة على مؤكد في المستقبل.
والكتاب ذكر بالتعريف بـ (أل)، وقد أشرنا إلى أنه التوراة والإنجيل، فإن الإنجيل لم ينسخ التوراة، ولكن نسخ بعض أحكامها، وما يغاير فيها لَا يؤخذ به، وما لم ينص عليه فيها يؤخذ بأحكامها.
وقد بين عيسى - عليه السلام - على لسانه وهو في المهد أنه سيكون مباركا، فقال تعالى عنه:(9/4634)
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)
(وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) المبارك النافع الهادي المرشد الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والداعي إلى الحق والتنزيه، وقد كان عيسى - عليه السلام - واضح البركات: كان يخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن اللَّه ويحيي الموتى، وينادي الموتى فيخرجون من قبورهم وأنزل اللَّه تعالى على يديه المائدة من السماء، على أن تكون عيدا لأولهم وآخرهم، فأي بركة أعظم يعطاه مبارك؟!.
ثم قال: (وَأَوْصَانِي بِالصَّلاة وَالزَّكَاة مَا دُمْتُ حَيًّا)، الإيصاء: الأمر المؤكد الواجب الاتباع أوصاه اللَّه تعالي (بِالصَّلاةِ)، ويكنى بها عن إصلاح نفسه(9/4634)
وتطهيرها والتقريب من اللَّه تعالى، وأن يكون ربانيا في ذات نفسه، (وَالزَّكَاةِ) إعطاء الفقير حقه، وتطهير المجتمع من آثام الفقر فكان الإيصاء بالصلاة والزكاة إصلاحا للنفس والمجتمع، فبالصلاة صلاح النفس وتطهيرها لتألف وتؤلف، وبالزكاة يكون التعاون الاجتماعي بين الغني والفقير.
وقد قرر الغلام الطاهر أن ذلك كتب عليه ما دام حيا، لَا يترخص في ترك الصلاة ولا يسوغ تركها، ولا مسوغ لترك الزكاة إذا توافرت موجباتها.
وإن جعل هذه الأفعال بالماضي لتأكيد حصوله في المستقبل؛ ولأن الماضي والمضارع والأمر إنما هو بالأزمان التي يتفاوت العلم بها عندنا، أما بالنسبة للَّه تعالى فعلمه أزلي لَا تحده الأزمان.
والأمر الثالث ذكره سبحانه وتعالى عند بقوله:(9/4635)
وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)
(وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)
في هذا النص الكريم أمران جليلان:
الأمر الأول: إيجابي وهو بر أمه، وحسن صحبتها والإحسان إليها جزاء ما قالت بسببه فقد وضعته كرها وحملته كرها، وقالت من الأذى النفس والملام وتحملت ما تحملت في سبيل ذلك حتى برأها اللَّه تعالى بكلامه هو، ومهما يكن فقد تحملت قبل أذى كثيرا، فكانت جديرة بحسن الصحبة والإحسان، وهو البَر الطاهر الكريم، بالآدمية الروحية.
الأمر الثاني: سلبي، وهو قول تعالى: (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا)، الجبار هو الظالم المتكبر المتطاول على الناس بالحق الذي يؤذي الضعفاء ويستعلي عليهم، وقد كان من نعمة اللَّه تعالى التي أنعم اللَّه تعالى على عيسى - عليه السلام - أنه لم يجعله جبارا، وقد وصف الجبار بأنه شقي مطرود من رحمة اللَّه، وقد كتبت عليه الشقوة في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فهو أنه مبغض إلى الناس يتمنون به النازلات، ويتحينون له الفرض ليردوه، وهو يتوجس بنفسه من الناس وممن يحيطون به، فهو في شقاء دائم لنفرة الناس منه، فلا سعادة في نفسه وإن حسبه الناس سعيدا فهو(9/4635)
شقي، ولذا قال: " من مشى مع ظالم فقد أجرم " (1). ثم بين الغلام الزكي أنه يعيش في سلام، ولذا قال اللَّه عنه:
________
(1) مسند الشهاب 1/ 243 - برقم (389).(9/4636)
وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
(وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
وفي هذا تقرير لأنه يعيش في أمن وقد ولد في أمن وأنه يموت في أمن، وفي هذا إشارة إلى أنه لن يقتله ولن يصلبه أحد، بل هو ولد آمنا، وعاش آمنا ومات آمنا؛ لأن السلام هو الأمن.
ونكرر ما لاحظناه، وهو أن ما جاء على لسان الغلام الطاهر هو ما سيكون له في المستقبل بالنسبة لزمان الإنسان.
هذا هو التعريف بعيسى - عليه السلام.
* * *
قال الله تعالى:
(ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
* * *
هذا بيان لعيسى - عليه السلام -، بينت الآيات فيه كيف حملت به أمه، وبينت أن الذي نفخ فيها روح القدس، وهو مخلوق من اللَّه تعالى، فيكون ما ينفخه مخلوقا(9/4636)
أيضا، فيكون دعوى أنه اللَّه دعوى لَا أساس لها من الصحة، بل باطلة في ذاتها، وفيما اقترن بولادته فهو مخلوق كسائر المخلوقات، وإذا كان مخلوقا فهو محدَث، وليس بقديم، ولم ينشأ عن اللَّه نشوء العلة من المعلول، كما ينشأ المسبب عن السبب، بل خلقه وأبدعه مختارا مريدا، أنشأه من حيث لم يكن، لذا قال تعالى:(9/4637)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
(ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
الإشارة إلى المذكور من التبشير به على لسان جبريل - عليه السلام - ونفخه في مريم من جيب قميصها إلى ولادته ونطقه غلاما زكيا، وإن ذلك كله خارق لنظام الأسباب والمسببات الذي كان يؤمن به فلاسفة الإسكندرية التي ولدت منها ديانة التثليث. (قَوْلَ الْحَقِّ) هنا قراءتان: قراءة بضم اللام (1)، ويكون (قَوْلَ الْحَقِّ) بدلا من (عِيسَى)، أي أن عيسى هو قول الحق، والإضافة من إضافة الاسم إلى الوصف، كقولهم خاتم حديد، أي خاتم هو حديد، وكان عيسى (قَوْلَ الْحَقِّ)، لأنه نشأ بالقول، إذا قال الله تعالى: (كن) فكان كما قال تعالى: (. . . وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ. . .)، وعلى النصب (2) يكون (قَوْلَ) مفعول لفعل محذوف، ويكون حذفه لبيان اختصاصه بأنه قول الحق وتقدير الكلام أخص قولَ الحق، وأنه خلق بقوله تعالى: (كن فيكون)، كما أشرنا، وكما سيقول الله تعالى فيما يتلو ذلك من آيات بينات، وقوله تعالى: (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) الامتراء: الشك المقترن بملاحات ومجادلات بل مهاترات أحيانا.
وكذلك كان شخص عيسى - عليه السلام - موضع ملاحات وخلافات بين طوائف مسيحية، فإنه منذ انعقد مجمع نيقية سنة 325 ميلادية والمناقشات جارية حول شخص المسيح - عليه السلام -، فمن ادعاء بنوته للَّه تعالى وألوهيته وفرضها على المسيحيين الموحدين، والخلافات والملاحات تجري، فقد ضموا إلى ألوهيته ألوهية روح
________
(1) قراءة (قولَ الحق) بالنصب: ابن عامر، وعاصم، ويعقوب، وقرأ الباقون بالرفع. غاية الاختصار.
(2) انظر المرجع السابق.(9/4637)
القدس، ثم اختلفوا أهو نشأ من الله أم من المسيح أم منهما، ثم كان الخلاف في المشيئة أهي من الناسوت واللاهوت أم منهما، إلى آخر ما اختلفوا، ثم ثبت في النصرانية الأخيرة من قال: إن المسيح شخصية خرافية لَا وجود لها، اخترعتها الأفلاطونية الحديثة لتجعل مذهبها دينا من الأديان، فيسهل الإقناع بها، وذلك لتوافق النصرانية المثلثة مع هذه الفلسفة تماما.
وقد بين اللَّه تعالى الحق في المسيح عيسى - عليه السلام - وهو أنه عبد من عباد اللَّه تعالى اختاره سبحانه نبيا رسولا، وقد خُلق من غير أب، ليكون في خلقه آية، تبين أن اللَّه سبحانه وتعالى فعَّال مختار لَا يلزمه نظام الأسباب العادية ومسبباتها.
ولقد أكد سبحانه ما ذكره من أنه خَلْق من مخلوقات اللَّه تعالى، لذا قال عز من قائل:(9/4638)
مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
(مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
نفَى سبحانه وتعالى أن يكون له ولد مثبتا له سبحانه بلحن القول وبصريحه أن ذلك ليس من شأنه، ولا من صفات الكمال والجلال، اتصف سبحانه وتعالى بها مخالفا الحوادث فقال: (مَا كانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ)، أي مما ساغ، ومما استقام أن يتخذ من ولد أيّ ولد كان، عيسى أو غيره؛ لأنه منزه عن مشابهته للحوادث؛ ولأنه دليل الاحتياج، واللَّه غني حميد لَا يحتاج لأحد؛ ولأنه خالق الوجود فنسبة كل موجود إليه كنسبة المخلوق للخالق؛ ولأنه لو كان له ولد لكانت له صاحبة تلده، ولذا قال تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)، وقد صرح سبحانه بتنزيهه عن ذلك فقال تعالى: (سُبْحَانَهُ)، أي تقدست ذاته المتصفة بالكمال، والغني عن كل البشر، والذي ليس كمثله شيء - عن ذلك: (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ)، أي إذا حكم بوجود أمر أراد أن يوجد تكون إرادته وحده هي الموجدة وحدها من غير أوساط، ولا وسائط، وقد شبه حاله في ذلك(9/4638)
فى سرعة الإيجاد ومن غير وسائط بما إذا قال كن فيكون لسرعة الإيجاد، ولأنه وحده الفعال لما يريد، فلا مكان لغير إرادته سبحانه.
وإن اللَّه سبحانه هو المعبود وحده، ولذا قال تعالى:(9/4639)
وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
(وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
هذا من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره اللَّه تعالى بأن يقوله بعد أن قص ولادة عيسى - عليه السلام - وامتراء الناس في أمره، وقد ادعوا بنوته وألوهيته، فأمر نبيه أن يقرر الحق في العبادة فقال، (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ)، أي إن اللَّه تعالى خالقي وخالقكم، والقائم على شئوني وشئونكم، وإن ذلك يقتضي أن نعبده، ولذا بعد أن قرر الربوبية أمر بالعبودية له سبحانه وتعالى وحده، لأن الألوهية تلازم الربوبية، وفي ذلك إبطال لأوهام المشركين الذين يقرون للَّه تعالى بالخلق والربوبية، وأنه رب السماوات والأرض وما بينهما، ومن فيهما، وما فيهما من خلقه، ومع ذلك في العبادة يشركون به الأوثان ويتخذونها أندادا له سبحانه وتعالى عما يشركون، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد.
و" الفاء " في قوله تعالى: (فَاعْبُدُوهُ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فالعبادة مترتبة على الإقرار بالربوبية، لأنه الحق، وإن ذلك هو الصراط المستقيم، ولذا قال تعالى: (هَذَا صِرَاطٌ مسْتَقِيمٌ) الإشارة إلى عبادة اللَّه وحده وتنزهه عن أن يتخذ ولدا، وأنه لَا يليق بذاته المتصفة بالكمال، أي هذا وحده هو الصراط، أي الطريق الموصل إلى الحق، والخط المستقيم هو أقرب الخطوط للحق، ولذا قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ. . .).
وهنا قراءتان في قوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) قراءة بكسر (إِنَّ) وقراءة أخرى بفتحها (1)، وعلى القراءة الأولى كان ما قلناه في معاني
________
(1) قراءة كسر همزة (إن): ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف، وروح، وقرأ الباقون بفتح الهمزة.
غاية الاختصار - 2/ 564.(9/4639)
القرآن، أما على القراءة الثانية فإن هنا محذوفا، وهو لام الجر أي ولأن اللَّه ربِّي وربكم فاعبدوه إلى آخر النص الكريم، وتكون الفاء للتصريح بما تضمنه المحذوف.
وقد بين سبحانه وتعالى اختلاف الناس في شأن الحقيقة الثابتة، وهي طريق اللَّه تعالى المستقيم الذي ذكره سبحانه في قوله تعالى: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) فقال تعالى:(9/4640)
فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
كانت آخر الآيات السابقة لهذه الآية قوله تعالى على لسان النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم وإن لم تذكر النسبة إليه لأنه ملاحظ في كل خطاب في بيان ما يجب بيانه: (وَإنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مسْتَقِيمٌ)، قد بين سبحانه أن عبادة اللَّه تعالى وحده هي الصراط المستقيم، ومن حاد عنه زاغ وضل عن الهداية، ولكن هل تلقاه الناس بالطاعة والخضوع، فقد ضلوا في ذلك ضلالا بعيدا، فمنهم من أشرك، ومنهم من قال أنه اتخذ ولدا، واختلفوا في ذلك على فرق شتى، ولذا قال تعالى: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ)، (الفاء) عاطفة على ما قبلها في قوله تعالى: (هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) وهو عطف عملهم واعتقادهم على الاعتقاد المستقيم الذي لَا ريب فيه.
و (الأَحْزَابُ) جمع حزب، وهو الجماعة التي تنتحل نِحلة وتتميز بها وتناصرها، وتؤيدها وتنحاز بها عن غيرها، وتدافع عنها وتلاحى دونها، والكافرون أحزاب ونِحَل متباينة، فالنصارى طوائف، واليهود طوائف، والمشركون طوائف، فمنهم عبدة الأوثان، ومنهم عبدة النيران، ومنهم عبدة الشمس، ومع أن الطريق واضح هو المستقيم اختلف الكافرون ذلك الاختلاف، على نواح شتى وأهواء متباينة، فكلمة (الأَحْزَابُ) ليست مقصورة على فرق النصرانية، إنما المراد بها كل الذين أشركوا مع اللَّه سواء أكان ما أشركوه صنما أم شمسا أم نارا أم شخصا، وحزب اللَّه هم المؤمنون، كما قال تعالى: (. . . أولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ(9/4640)
حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، والمؤمنون ليسوا داخلين في هذه (الأَحْزَابُ)، وقد اختلفوا على نحو ما أشرنا، وصدق قول اللَّه تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ. . .)، فغير صراط اللَّه تعالى مثارات الشيطان ومنازله.
و (مِنْ) في قوله: (مِنْ بَيْنِهِمْ) قال كثير من المفسرين زائدة، ونحن لا نرى في القرآن حرفا زائدا، بل نقول إن (مِنْ) تؤدي معنى سليما فليس قولك " فاختلف الأحزاب بينهم "، كقول الله تعالى: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) إن (مِنْ) تدل على أن اختلاف الأحزاب صادر عنهم هم، ومن بينهم، فإن التناحر بين الأهواء والأوهام الضالة هو الذي صدر عنه الاختلاف من بينهم ومنِ مضطربهم، وقد حكم اللَّه تعالى بمآلهم في هذا الاختلاف فقال: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) " الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فالهلاك في المشهود من أوهامهم وأهوائهم، والمشهد هو اسم مصدر بمعنى شهود يوم عظيم في أنه حساب وفيه العقاب، والجزاء بجهنم.
والمعنى الذي يظهر لنا، فهلاك شديد يوم الشهود العظيم، وهو يوم القيامة وقال: (لِّلَّذِينَ كفَرُوا) فأظهر في موضع الإضمار لإثبات سبب الهلاك، وهو الكفر والحجود، وتحكم الأوهام وسيطرة الفساد الفكري والضلال المبين.
وإن كانوا يُعرضون عن ذكر البعث والنشور، ولا يبصرون العواقب، ولا يتدبرون ما وراء، وإنهم في هذا اليوم المشهود يكونون أحدّ الناس سمعا وبصرا وإدراكا لما أنكروا من قبل، ولذا قال تعالى:(9/4641)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) لفظان يستعملان للتعجب في اللغة العربية، أو لأفعل التفضيل المستفهم به، أي ما أسمعهم وما أبصرهم، فهم حديدو السمع والبصر، والمعنى أن حالهم في قوة لسمعهم للحق وقوة بصرهم وإدراكهم للحق حال(9/4641)
المتعجب منه المستغرب وليس ذلك بعجب على اللَّه ولا غريب عليه سبحانه؛ لأنه عليم بكل شيء، فليس شيء بغريب على علمه سبحانه، إنما الغرابة علينا، وهذا غير حالهم اليوم لأنهم اليوم في ضلال مبين واضح، أي حالهم يوم الشهود، فقد زالت الغفلة وزال الضلال، وزالت الأوهام التي أضلتهم، ولذا قال تعالى: (لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)، (الْيَوْمَ) المراد به الحياة الدنيا، فهم في ضلال في الحياة الدنيا بسبب الأهواء وتحكمها في مداركهم وأحاسيسهم، والأوهام وسيطرتها على عقولهم، ونقول: وضع الظاهر موضع الضمير، لإثبات أن السب في هذا الضلال هو ظلمهم لأنفسهم بعدم الإدراك الصحيح، وظلم العباد للنبيين، وفتنة المؤمنين، الاستدراك في قوله تعالى: (لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مّبِينٍ)؛ لبيان التفاوت بين حدة سمعهم وبصرهم التي توجب العجب، وحالهم في هذا اليوم في الدنيا التي كانوا فيها عمين عن الحق، ووقوعهم في الضلال المبين البين الواضح.
وإن اللَّه تعالى أمر نبيه الأمين أن ينذرهم بهذا اليوم المشهود؛ ولأنه يوم الحسرة عليهم؛ ولذا قال تعالى:(9/4642)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
(وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
(وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ)، أي أنذرهم بهذا اليوم الذي يكون حسرة (إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ)، إذ تبين أمر اللَّه تعالى الذي قضاه، بأن قدر وجوده ونفذه، و (إِذْ) ظرف متعلق بالحسرة، أي أنه الحسرة لأنه قضي الأمر وجاء التنفيذ. والحسرة، لأنهم فرطوا في أمورهم ويقولون يا حسرتنا على ما فرطنا في جنب اللَّه، والحسرة؛ لأنهم رأوا العذاب وعاينوه، والحسرة لأنهم أنكروه، وهم اليوم قد عاينوه، والحسرة لأنهم خسروا أنفسهم وكذّبوا بلقاء اللَّه.
وقد وصفهم اللَّه تعالى بوصفين أحدهما ذريعة الآخر:
الوصف الأول: أنهم في غفلة فقال تعالى: (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) الجملة حالية أي والحال أنهم في هذه الدنيا في غفلة، والتعبير بقوله: (فِي غَفْلَةٍ) يفيد أنهم قد(9/4642)
استغرقتهم الغفلة واستولت عليهم وحاطتهم كأنها ظرف لهم قد استقروا فيه، والغفلة قد جاءتهم من غرور بالحياة الدنيا، ومن استيلاء الأهواء على نفوسهم، فصاروا لَا يصدرون إلا عنها، وجاءتهم من سيطرة الأوهام عليهم، وجاءتهم من أنه لَا مرشد ولا هادي، وليس فيهم أمر بمعروف أو نهي عن منكر.
والوصف الثاني: أنهم (لا يُؤْمِنُونَ) وعبر اللَّه سبحانه عن ذلك بقوله تعالى: (لا يُؤْمِنُونَ) وهذه الجملة حالية كأختها، والحال أنهم لَا يؤمنون، وكان النفي نفيا للمضارع للإشارة على استمرارهم على الإيمان وهو نتيجة للغفلة التي أحاطتهم وسكنوها؛ لأن الإيمان بصر الحقائق وإدراك لها.
هذا، وإن الغرور المتمكن في أهل هذه الدنيا أنهم يحسبون في أعمالهم أنهم باقون، ولا يفكرون في الموت، وإن فكروا في الموت لَا يفكرون في البعث، وقد أكد سبحانه وتعالى هاتين الحقيقتين الموت والبعث فقال تعالى:(9/4643)
إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
أخبر اللَّه تعالى عن نفسه بعبارة تدل على عظمة اللَّه وجلاله، وأكد ضمير (إِنَّا) بـ (نَحْنُ)، للدلالة على أنه لَا باقي إلا اللَّه تعالى، والجميع ميت، كما قال تعالى مخاطبا نبيه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)، وقوله تعالى: (نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا)، أي نحن نرث الأرض ونرث من عليها، فموضع (وَمنْ) في قوله تعالى: (وَمَنْ عَلَيْهَا) النصب بـ (نَرِثُ)، ومعنى وراثتها أنه هو وحده الباقي بعد الأرض ومن فيها فكلها إلى نهاية، وقد شبه وجوده العزيز الجبار بأنه يكون بعدها؛ كي يكون الوارث بعد المورث، فالمورث يموت والوارث يموت بعده، ولكن اللَّه حي لا يموت، وليس المعنى أن اللَّه يرث الأرض ويرث ما ترك الناس من المال والنسب، فاللَّه غني عن المخلوقات كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، ثم قال: (وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) وهو البعث، وقدم الجار(9/4643)
والمجرور عن الفعل الذي يتعلق به؛ لبيان أن المرجع إليه وحده، وهو وحده مالك يوم الدين يوم الجزاء، يوم القيامة، يوم توفى كل نفس ما كسبت.
* * *
إبراهيم - عليه السلام - وأبوه وأولاده
قال الله تعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
* * *(9/4644)
ذلك طرف من أخبار أبي الأنبياء إبراهيم - عليه السلام -، وقد ذكرت أخبار إبراهيم في عدة مواضع من القرآن الكريم، ولا تكرار فيها قط، بل ذكر في كل موضع جزء من أخباره يخالف الآخر، ففي سورة البقرة كانت أخبار بناء الكعبة وصلة إبراهيم بخاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفي آخرها خبر إحياء الموتى، وفي سورة الأنعام كان تأمله في النجم والقمر والشمس حتى اهتدى إلى الله، وفي سورة التوبة كان وصف إبراهيم المصور لشخصه الكريم بأنه أواه حليم، وفي سورة إبراهيم كانت دعوته لذريته: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، وفي السورة نفسها كانت قصة هبة اللَّه له إسماعيل وإسحاق: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ. . .)، وفي سورة الأنبياء كانت قصة تحطيمه الأوثان وإلقائه في النار: (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) وهكذا نرى أنه لَا تكرار في القرآن وقصصه، وإذا كانت قصة إبراهيم وموسى ونوح وغيرهم قد تكرر ذكرها في القرآن فليس تكرارا لأخبار واحدة، وإنما تتناول الأجزاء نواحي مختلفة، ولا تتكرر ناحية.
قال تعالى في ابتداء قصة إبراهيم:(9/4645)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)
الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والكتاب هو القرآن، و (ال) للاستغراق، المعنى أي أنه هو الكتاب الجدير بأن يسمى كتابا، وهو الكامل والستغرق لكل صفات الكمال، والقصر فيه قصر إضافي، أي أنه لَا كتاب يوصف بالكمال المطلق سواه، وقوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) والصِّدِّيق هو البالغ أقصى درجات الصدق في القول والعمل والإذعان للحق، وهو الذي يصدق الحق إذا ألقي إليه، لَا يماري فيه ولا يمتنع عن الإقرار به والإذعان له، وأي دلالة أبلغ من التصديق والإذعان عندما رأى في المنام أنه يذبح ابنه فَهَمَّ بأن يذبحه، وقد قال تعالى في ذلك: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا(9/4645)
تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109).
وهو نبي من أولي العزم من الرسل، وَجَدُّ خاتم النبيين.
وإن هذا الجزء من قصة إبراهيم فيه علاقة الأبوة بإبراهيم واحترامها والتلطف فيها والرفق بها والمحبة لها.
قال تعالى عنه مخاطبا أباه:
(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)
ابتدأ بندائه بقوله: (يَا أَبَتِ) وهو نداء المحبة العاطفة المقربة، وذلك شأن الداعي الكامل يبتدئ بما يقرب ولا ينفر.
و(9/4646)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
(إِذْ) متعلقة بـ (اذْكُرْ)، أي اذكر حال دعوته لأبيه تلك الدعوة الرفيقة المقربة الميسرة الهادية المرشدة، وأمر اللَّه تعالى نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن يذكرها في الكتاب لتتلى على الناس ويأخذوها سُنة في الدعوة إلى الحق، وخصوصا الأقربين الأدنين لهم، والتاء في قوله تعالى: (يَا أَبَتِ) عوض عن ياء المتكلم، وذكرها بدل الياء مبالغة في التلطف والرفق، بل ربما يكون فيها من تدلل الأبناء على الآباء معنى محبب مقرب.
وابتدأ بأن قال غير موجه لوما ولكن ساق إرشاده مَساق الاستفهام المستدنى، لا مقام الآمر المستعلي سائلا له سؤال المستفهِم في سياقه، ولكن المنبه بأرفق تعبير: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)، لقد وصف معبوده وهو الصنم بثلاث صفات سلبية:
الوصف الأول: أنه لَا يسمع، وكيف يعبد من يسمع ما لَا يسمع، فهو أقل كمالا منه وهو عاجز، لأن عدم السماع عجز.(9/4646)
الوصف الثاني: أنه لَا يبصر وأنت تبصر، ومن يبصر أكمل مما لَا يبصر، فكيف تعبد هذا الذي ينقص عنك، وأنت خير وأفضل منه.
الوصف الثالث: أنه لَا يدفع عنه ضرا ولا يجلب له نفعا، وهذا قوله تعالى: (وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)، أي لَا يدفع شيئا، ومجموع هذه الصفات السلبية تفيد أنه لَا يجلب له أي نفع؛ لأنه فاقد لصفات اللَّه التي يكون بها القدرة على وقد قال الزمخشري في ذلك: " انظر حين أراد أن ينصح أباه، ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقلاء وانسلخ عن قضية التمييز من الغباوة التي ليس بعدها غباوة، كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق، وساقه أرشق مساق، مع استعمال المجاملة والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا، حدث أبو هريرة قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " أوحى الله إلى إبراهيم - عليه السلام - إنك خليلي، حَسِّنْ خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس وأدنيه جِواري " (1).
وإنه بعد أن نبه إلى أن الأوثان تتقاصر عن مقام الألوهية، بل حتى الإنسانية، بل الحيوانية أخذ يوجهه إلى الحق الكامل، فقال في رفق أيضا كما ابتدأ أولا مُصَدِّرًا القول بخطاب المحبة الراجية.
________
(1) ذكره الزمخشري في الكشاف، وجماعة من المفسرين، ورواه الطبراني في الأوسط، وفيه: مؤمل بن عبد الرحمن الثقفي، وهو ضعيف. مجمع الزوائد (26621).(9/4647)
يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)
(يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)
يقول العلماء التحلية قبل التخلية، بين أن الأوثان عاجزة في ذاتها عن جلب النفع ودفع الضرر، وذلك كافٍ للامتناع عن عبادتها، فإنما يعبد العاقل من هو أعلى منه قدرة وفهما وإدراكا، وهذه دونه في الخلق والتكوين، فمن يعبد؟! أخذ يبين له المعبود فقال بنداء المتوسل المتحبب: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ)(9/4647)
لم يرم أباه بالجهل، وقد منعه الخُلُق الودود من ذلك، بل قال له (جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ)
والمعرفة (مَا لَمْ يَأْتِكَ) فتعفف عن أن يرميه بالجهل، وتعفف عن ادعاء العلم الكامل حتى لَا يكون مستطيلا بفضل علمه على أبيه ومستعليا عليه، بل قال: (مِنَ الْعِلْمِ)، أي بعض العلم، وذلك يجعلني أدعوك إلى الحق، وذكره العلم داع لأن يتبعه؛ لأن الأب الرفيق العاطف يحب لابنه العلم، ولو كان أعلى منه، وإذا كان له بعض العلم الذي يسره، ولا يضره، فإنه يتبعه، ولذا قال: (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) " الفاء " هنا تفصح عن شرط مقدر تقديره: إذا كنت قد أوتيت هذا العلم فاتبعني أهدك، كما يتبع السائر في طريق لَا يعلمه الرائد الخريت (1) العارف.
والصراط: الطريق كما ذكرنا، والسوي: المستوي الذي لَا عوج فيه ولا أمت، وقد قال الزمخشري في هذا النداء من ذلك الابن البار بأبيه: " ثنى -عليه السلام - بدعوته إلى الحق مترفقا متلطفا، فلم يسم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف، وهبني وإياك في سير وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجيك من أن تضل وتتيه ".
وبعد أن نبه إلى أنه لَا يليق أن يعبد ما لَا يسمع ولا يبصر وأمره باتباعه؛ لأنه بين له أن هذه الضلالة وهي عبادة ما لَا ينفع ولا يضر عبادة للشيطان عدو آدم وذريته فقال:
________
(1) الخَرِّيت: الدليل الحاذق بالهداية والدلالة (فى الطريق). لسان العرب - القاموس المحيط.(9/4648)
يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)
(يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)
ناداه بالأبوة وكرره تعطيفا وتلطيفا وتقربا، وكان النهي (لا تَعْبُد الشَّيْطَانَ) وعبادة الشيطان في أنه أطاع غوايته التي توعد بها عباد اللَّه فقال: (. . . لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، فطاعته في معنى عبادته، ولأن(9/4648)
الأهواء والأوهام هي التي سهلت عبادة الأحجار وذلك كله من الشيطان، بل هو من غوايته، والشيطان عدو الله، وعدو آدم فهو عدو الإنسانية يرديها ويوقعها في أشد الضلال، ويبعد من الحق، ولذلك كان النهي، وهو في ذاته يكون بقوة لا تخلو من مساعدة، ثم وصف الشيطان بأنه عاص مبعد عن رحمة الرحمن فقال: (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا)، عَصِي على وزن فعيل من عصى، أي أنه مبالغ في العصيان، وعبر عن الذات العلية بـ (الرحمن) للإشارة إلى أن عصيان الشيطان رحمة، وطاعته نقمة، فمن عصاه فقد رحم، ومن أطاعه ألقى بنفسه في وهدة الشقوة، وبعد عن السعادة ورحمة الرحمن.
ويقول الزمخشري في ذلك أيضا: " ثم ثلث بتثبيطه ونهيه كما كان عليه بأن الشيطان الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده، وهو عدوك الذي لَا يريد بك إلا كل هلاك وخزي ونكال. وعدو أبيك آدم، وجنسك كلهم هو الذي ورطك في هذه الضلالة، وأمرك بها وزينها لك فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان، إلا أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره ولم يلتفت إلى ذكر معاداته لآدم وذريته، كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه ".
ونقول إن الشرك هو أعظم ما وسوس به إبليس وألقى به الأوهام في نفس، وما دونه قد يناله الغفران، وقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِر أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ. . .).
بعد هذا النهي الصريح القاطع عن عبادة الأوثان، وذكره أن عبادتها عبادة للشيطان، لأنه هو الذي وسوس بها ذكر ما يخاف على أبيه، وذلك استمرار في الحنان والعطف على أبيه فقال تعالى عنه:
(يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)(9/4649)
يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
ناداه أيضا نداء المتلطف المتحبب المدني ما بينهما (يَا أَبَتِ) قال مفرطا في شفقته وإن لم يكن في شفقة الابن على أبيه إفراط قط، وخصوصا في مقام الحرص على نجاته، قال: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ)، هنا إشارات بيانية، إذ الظاهر إصابته بالعذاب المقرر للمشركين، وهو أن يدخل الجحيم، ولكنه أولا عبر بالمس، وكأنه لَا يريد التهويل على نفسه وعلى أبيه بأنه سيصيبه العذاب لذلك الشرك، والشرك ظلم عظيم، هذه هي الأولى، أما الثانية أنه ذكر أن العذاب كان من الرحمن. إنه كان ممن من شأنه الرحمة، ولكنه آثر الطريق المعوج فكان العذاب، والثالثة أنه يخشى عليه من أن ينهمك في المعاصي فيكون وليا للشيطان في الدنيا، ويكون قرينا له في الآخرة، وكأنه كان مخيرا بين ولاية الرحمن ورحمته، وشقوة الشيطان وولايته فاختار ولاية الشيطان وصار وليه وساء قرينا.
وكانت عبارته في التخويف في أدب، ولم يصرح بالعقاب الشديد، وإن نبه إليه في شدة، بأنه سيكون وليّ الشيطان وقرينه، وبئس ولايته، وأن يكون له قرينا.
أجاب أبوه إجابة المحنق المغيظ لمحاولته ترك عبادة الأوثان وملته وملة آبائه، فقال كما قال تعالى عنه:(9/4650)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
(قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
(أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ)، هذا استفهام إنكاري توبيخي من ذلك الأب المخبط وكان موضوع التوبيخ هو انصرافه عن آلهته وبعد عنها، وكأنَّه كان يجب أن يكون مثله منغمرا في ضلال، وهو بذلك يضرب صفحا عن كل ما قاله، ويقول بلسان الحال: سمعنا وعصينا وينقلب عليه بالتوبيخِ عن تركه له ولملة آبائه المشركين، وقد أكد التوبيخ بالتأكيد بالضمير بقول: (أَنت) وفي ذلك تأكيد التوبيخ استصغارا لشأنه، وما كان صغيرا، بل كان الكبير بإدراكه وبدعوته إلى الوحدانية، وهو يستنكر أن يرغب عن آلهته، ولم يتعرض لما يدعو إليه ويرغب فيه، وكأنه معرض عنه وعن أدلته وآياته.(9/4650)
وقد أعقب التوبيخ بالتهديد، والإنذار الشديد، في عبارة فيها معنى القسم والتأكيد بمؤكداته (لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ) الرجم: الرمي بالرجام والحجارة واللام هي الموطئة للقسم واللام في (لأَرْجُمَنَّكَ) اللام التي تكون في جواب القسم، وقد أكد بنون التوكيد الثقيلة وهو تهديد بالقتل بأقسى أنواعه، فهو الضرب بالحجارة حتى يموت إن لم ينته عن هذه الدعوة التي أصابت إيمانه بالأوثان فخيبت رجاءه فيه، وإن كان أمرا غير محمود في نظره المنحرف الضال.
هذا إيعاد إن عاد، ثم حسم الأمر بقوله: (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) وقد تضمن التهديد التحذير، كأنه قال له فاحذرني ولذا عطف على الفعل الذي تضمنه التهديد بالرجم واهجرني مليا، فهي عطف على الفعل الذي تضمنه التهديد بالرجم.
(مَلِيًّا)، أي ملاوة من الزمن الطويل، ويدعوه أبوه إلى أن يهجره هجرا غير جميل، ولا يهتم بأمره ولا يجالسه ولا يقاربه، وهذه مبالغة في الاستنكار، وقد صم أذنيه عن الحق ولا يريد أن يسمعه.
وإنه إذ يعلن هذا النفور الجافي يعلن الابن البار الذي هو مَثَلٌ سامٍ كريم للأبناء يقول كما قال اللَّه تعالى عنه:(9/4651)
قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
(سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
هو يقابل الإساءة بالحسنة، ويعذر أباه في إساءته؛ لأنه في ضلال بعيد وإفك أثيم قد استغرق نفسه وأعمى بصيرته، وأصابه بغشاوة على قلبه (سَلامٌ عَلَيْكَ)، معناه أَمْنٌ يفيض عليك وهو تحية له وهو يفارقه ويريد له السلامة في غيبته، وأن يكون في أَمْنٍ، فهو يفارقه على مودة، وإن كان يقول مقالة القطيعة، وقد قال بعض المفسرين أن ذلك من قبيل قوله تعالى: (. . . وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا).(9/4651)
وربما نرى نحن أن سياق الآية لَا يدل على الابتعاد عنه، وليس كقوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)، لَا نرى ذلك لأنه لَا ينسجم مع وعده باستغفار الله تعالى له، كما قال: (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا).
وقد قال الزمخشري: إن استغفار إبراهيم لأبيه كان مشروطا فيه التوبة، ونحن نرى أن سياق الآية لَا يدل على اشتراط التوبة بل هو استغفار لمشرك، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114).
وهذا النص (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)، هو الموعدة التي وعد إبراهيم أباه بها، وقوله تعالى: (سَأَسْتَغْفِرُ) السين لتأكيد الاستغفار في المستقبل القريب، (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) الضمير يعود إلى (رَبِّي) الذي يكون في موضع عناية واستجابة لي، فمعنى (إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا)، أي كنت موضع رحمته وبره، وأنه لهذا يظن أنه سيجيب دعائي، ولكن تبين له من بعد أنه عدو لله فتبرأ منه.
كان لَا بد أن يخرج من بينهم نبي الله تعالى - عليه السلام -، فهو لَا يريد أن يبقى محكوما بالوثنية وأرجاسها؛ ولذا قال كما أخبر الله تعالى عنه:(9/4652)
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
(وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
" الواو " عاطفة والمعطوف عليه (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي)، أي إني أخرج عنكم سالما مستغفرا غير هاجر كما أردت، وفي الوقت أسألكم، (وَأَعْتَزِلُكُمْ)، أي أفارقكم مفارقة موادّ محب ولست هاجرا لكم ولا مجافيا، (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا(9/4652)
تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ)، أي تعبدون، أعتزلكم وعبادتكم المشركة الآثمة لاجئا إلى اللَّه تعالى، ولذا قال: (وَأدْعُو رَبِّي)، أي أعبده لأنه ربي الذي خلقني القائم على كل أموري.
وإطلاق الدعاء بمعنى العبادة؛ لأنه التجاء إلى اللَّه تعالى، وهي ضراعة إليه، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الدعاء مخ العبادة " (1)، وقد ذكر التصريح بالعبادة بعد ذلك في قوله تعالى: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) (عسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا)، أي خائبا ضائعا غير مقبول في دعائي وعبادتي، فإن ذلك هو الشقاء الأكبر، وهذا الرجاء كان لفرط إخلاصه للَّه تعالى، وخشيته من غضبه وطرده، فإن الحبيب دائما يخشى من غضب محبوبه، ويعمل على رضاه ويخشى من غضبه، وخليل اللَّه الذي اختاره اللَّه تعالى خيلا، وقال: (. . . وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيم خَلِيلًا)، كان أشد ما يخشاه غضب ربه، وأن يرد عبادته فيشقى بهذا الرد، وقال: (عَسَى) الدالة على الرجاء تواضعا للَّه واستصغارا لعبادته، وكان بهذا المخلص البر الحبيب المحبوب؛ إذ غلَّب الخوف ليصلح أمره وأنه إذ اعتزلهم حرم من أنس أهله، فوهبه البنين والذرية، ولذا قال تعالى:
________
(1) سبق تخريجه من رواية الترمذي في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه.(9/4653)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
(فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
" الفاء " عاطفة على (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ)، فاللَّه عوضه عن الغربة الأنس بالولد والأحفاد، أما الولد فإسحاق، وأما الحفيد فيعقوب، وكانوا بذلك فئته التي اعتز بعد اللَّه تعالى بها، وكان أنسه في هذا الاعتزال، (وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا)، أي جعلنا كل واحد منهما نبيا، و " كُلًّا " مفعول مقدم لـ " جعلنا "، وقدم لأهميته، وللإشارة إلى أن بدَّله من أبيه المشرك الذي نهره وهدده بالرجم ثم طرده محروما من محبته، بدله من هذا أنبياء من ذريته استأنس بهم بعد وحشة الاعتزال.(9/4653)
وقد يقال: لم يذكر سبحانه أنه وهب له إسماعيل وهو أكبر من إسحاق، ويظهر أن ذلك كان وهو مقيم وحده مع أمه هاجر في مكة، فلم يكن له أنس القرب، إلا بعد أن ذهب إليه وأخذا ببناء الكعبة كما قال تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
وقد ذكر سبحانه وتعالى كمال البيان في أسرته الموحدة، فقال تعالى:(9/4654)
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
(وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
الضمير في (لَهُم) يعود إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولم يذكر الموهوب إعلاء لشأنه ولفخامته، وحسبه أنه هبة اللَّه، وأنه من رحمته سبحانه، فكان العقل يذهب في تقديره أعلى المذاهب التي تليق بهبة اللَّه ورحمته، فهي تشمل النبوة، وتشمل الأموال، وتشمل الجاه والسلطان، وتشمل العزة والكرامة، والعلو في الأرض ووراثتها، والإمامة فيها وكل ذلك كان في ذرية إبراهيم، وفي إسحاق ويعقوب والأسباط.
النعمة الثانية التي أنعمها على إبراهيم وذريته هي قوله تعالى، (وَجَعَلْنَا لَهُمْ)، أي لإبراهيم وذريته (لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)، (لِسَانَ صِدْقٍ) من إضافة الاسم إلى وصفه، أي لسانا صادقا عليا، رافعا لهم، وليس خافضا لمآثرهم، والمراد الكلام الطيب والذكر الطيب، من قبيل إطلاق الآلة على ما يكون، فأطلق اللسان وأريد الكلام، وهذا استجابة لدعوة إبراهيم - عليه السلام - إذا قال في دعائه - عليه السلام - (وَاجْعَل لِّي لسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ). وقد آتي اللَّه إبراهيم ذلك فقال تعالى: (. . . وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرج مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ. . .)، وقال تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتًّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
* * *(9/4654)
أنبياء من ذرية إبراهيم - عليه السلام -
قال اللَّه تعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
* * *
الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أمره سبحانه أن يذكر من ذرية إسحاق ويعقوب موسى وهارون، ومن ذرية إبراهيم إسماعيل وهو أبو العرب ونبي العرب، ومن ذريته محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذكر في البشارة به على أنه من أولاد عم بني إسرائيل لأنه أخو إسحاق وهو الكبير، والكتاب هو القرآن، وإذا أطلق الكتاب انصرف إليه؛ لأن المطلق ينصرف إلى الفرد الأكمل، والأكمل بين الكتب هو القرآن، لأنه كتاب اللَّه تعالى بلفظه ومعناه (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194)، وإن الله أمر نبيه أن يذكره في القرآن؛ لأنه سجل الأنبياء ومعجزاتهم، وأخبارهم لَا تعرف بطريق متواتر من غير تغيير ولا تبديل إلا عن طريقه. وكذلك معجزاتهم، فإنها أحداث تقضت في وقتها وما عاينها من الأخلاف أحد، ولكنها سجلت في القرآن المتواتر المحفوظ بوعد اللَّه العظيم: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وإن اللَّه لَا يخلف الميعاد وذكر موسى هنا في قوله تعالى:(9/4655)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51)
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا).(9/4655)
ذكر موسى هنا لناحية معينة فيه وهي أنه من ذرية إبراهيم، وقد وعد اللَّه إبراهيم أن يؤنسه بأولاده وذريته عندما اعتزل أهله وما يعبدون فكافأه اللَّه تعالى بأنس الولد والذرية، واستجاب دعاءه أن يجعل له لسان صدق في الآخرين، وكان من هذا اللسان الصادق أن يكون له ذرية من الأنبياء فكان منهم من أولي العزم موسى وعيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم -.
وفى هذا الجزء من قصص موسى ذكر ما لم يذكر في مواضع كثيرة من قصصه، وهو صفته التي كانت من أبرز صفاته أنه كان مخلصا، قرئ (مخلِصا) بكسر اللام، و (مخلَصا) بفتحها والقراءتان متلاقيتان، فقراءة الكسر معناها أنه أخلص نفسه للَّه، وبدا ذلك في حياته، فقد نشأ في بيت فرعون رافغا بعيشه مستمكنا بسلطان، ومع ذلك نفر من دينه وملته ورضي بأن يكون من بني إسرائيل المستزلين المستضعفين في أرض مصر (. . . يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيونَ نِسَاءَكُمْ. . .)، ثم هاجر ابن النعمة الفرعونية إلى حيث يستأجر زارعا كادحا، فأي شيء يدل على الإخلاص أكثر من هذا.
وعلى القراءة الثانية، وهي قراءة فتح اللام يكون المعنى أن اللَّه تعالى أخلصه له وجعله كليمه، وذلك ثابت من حياة موسى - عليه السلام -، فقد ولدته أمه في وقت فرعون وآله يذبحون أبناءهم، فألهم سبحانه أم موسى أن تضعه في تابوت وتلقيه في اليم، ويلتقطه آل فرعون ليكون في المستقبل عدوا لهم وحزنا، وقد أرادوه قرة عين لهم (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ)، أي أخته - (. . . هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحونَ)، وبذلك رجع إلى أمه وخلص لها فتربى في مهدها وكنف فرعون، وبذلك صنع على عين اللَّه، كما قال تعالى: (. . . وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)، فكيف بعدها لَا يكون مخلصا وخالصا للَّه، واختاره أن يكون له كليما.
وكلٌّ قراءة قرآن فيكون المعنيان مرادين بمجموع القراءتين، فهو مخلص في شخصه، وأخلصه اللَّه سبحانه لذاته العلية.(9/4656)
الوصف الذي اصطفاه اللَّه تعالى به أن جعله رسولا نبيا، فقال تعالى:
(وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا)، الرسول - فيما يظهر من عبارات القرآن - من أُرسل بكتاب مشتمل على أحكام، والنبي من يُنَبَّأ بمخاطبة اللَّه له بالوحي أو يرسل رسولا، أو من وراء حجاب، وقد كان موسى كذلك، فقد أرسل بالتوراة فيها كل الشرائع المصلحة للإنسانية في رسالته وبعضها باقٍ سجله القرآن ولم ينسخه.
وقد ذكر سبحانه وتعالى المكان الذي نزل عليه الوحي ابتداء فيه، وهو في أرض مدين فقال تعالى:(9/4657)
وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
(وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
كان خطاب اللَّه تعالى لموسى بالكلام، ولذا قال تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ)، أي الجهة اليمنى من الطور، أي أن مناجاة ربه كانت من جهة الطور اليمنى، واليمين ميمون، فهذه إشارة إلى اليُمن، وما هنا مجمل مذكور مفصلا في سورة القصص، فقد قال تعالى بعد أن أنهى الإجارة مع شعيب:
(فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31).
وهذا واضح في أنه تفصيل لبيان كيف كان النداء، ولم يكن تكرارًا، بل كان بيانا لما أجمل هنالك، وبيان المجمل ليس تكرارا، هذه منزلة عالية، وهو أنه كليم اللَّه، كلمه من وراء حجاب، ولذا قال تعالى: (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا)، أي كان خطاب اللَّه تعالى تقريبا إذ ناجاه وخاطبه (نَجِيًّا)، وكأنها مُسارّة له، لأنه لم يسمع ذلك النداء غيره في ساعة هذا النداء، تعالى اللَّه سبحانه علوا كبيرا.(9/4657)
ولم يكن ذلك التشريف والتكريم فقط لموسى - عليه السلام - بل آتاه نعمة أخرى بأن أرسل معه أخاه هارون نبيا فقال تعالى:(9/4658)
وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
(وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
أحس موسى - عليه السلام - بعظم التكليف الذي كلفه، وهو أن يدعو إلى الإيمان طاغية الدنيا في عصره، وأنه مهما يكن عِظَم التكليف فهو راضٍ به قائم بحقه، ولكن طلب أن يكون معه أخوه هارون وزيرا له ومعاونا ليحمل العبء كاملا ويعاونه فإن له بيانا ليس لموسى، وقد طلب موسى ذلك فقد قال اللَّه تعالى: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)، فكان من نعمة اللَّه تعالى على موسى أن جعل له من رحمته أخاه هارون نبيا، والرحمة كانت في هبته له نبيا، ذهبا معا إلى فرعون وخاطباه قائلين: (إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47).
هؤلاء من ذرية إبراهيم الذين كانوا من إسحاق، وقد كان لإبراهيم ذرية أخرى - كان منهم خاتم النبيين - هو إسماعيل - عليه السلام -، وقد قال تعالى في ذكر إسماعيل:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)(9/4658)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)
وقد أفرد القرآن إسماعيل بالذكر؛ لأنه كان يقيم بالبلاد العربية، وأقام هو وأمه حول الكعبة، لسدانتها وحراستها، وإفراده بالذكر تشريف له وإكرام، فإذا كان أخوه إسحاق - عليه السلام - أبا أنبياء بني إسرائيل الذين قاموا بتنفيذ التوراة وتفسيرها، فإن من ذرية إسماعيل - عليه السلام - خاتم النبيين الذي جاء بالكتاب المهيمن على كل الكتب المنزلة، والذي فيه كل الأنبياء ومعجزاتهم.(9/4658)
والكتاب كما ذكر هو القرآن وهو أكمل الكتب كما نوهنا، ولأن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فالكتاب يكون هو الكتاب الذي نزل عليه وهو القرآن، وقد ذكرنا وجوه كماله، وأنه سجل الأنبياء وشرائعهم الباقية ومعجزاتهم، ولا ترى لها مصدرا متواترا صادقا سواه، كما ذكرنا.
وقد وصفه الله تعالى بأربعة أوصاف تدل على الكمال الإنساني الذي لا يعلو عليه كمال.
الوصف الأول: أنه كان (صَادِقَ الْوَعْدِ)، أي إذا وعد لَا يخيس، ولا يكذب بل ينفذه، وكل الأنبياء كذلك ولكن وصف اللَّه به إسماعيل، لأنه كان أخص أوصافه واشتهر به، فإن إبراهيم أباه عندما رأى الرؤيا بذبح إسماعيل لم يجبن إسماعيل بل قال: (. . . سَتجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّه مِنَ الصَّابِرِينَ)، وصدق وعده، فاستعد لأن يذبح، وقال اللَّه تعالى: (. . . يَا إِبْرَاهِيمُ (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا. . .)، فهو الذبيح الأول، وصدق الوعد والوفاء به والرضا بتنفيذه وعدم الحيف فيه، وقد كان إسماعيل كذلك فيما وعد وأوفى.
الوصف الثاني: أنه كان (رَسُولًا نَّبِيًّا)، كما قال تعالى: (وَكَانَ رَسُولًا نَّبيًّا) فقد جاء بشرائع ومنحه اللَّه تعالى النبوة فقد كان ينزل عليه الوحي، ويكلمه اللَّه تعالى بإحدى طرق الكلام، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسولًا. . .)، وقد يقال: إن شريعته كانت شريعة أبيه إبراهيم، ونقول إنه أرسل بها، ولا مانع من أن يخاطب بالشريعة الواحدة رسولان، وقد ذكر اللَّه تعالى أن إبراهيم كان رسولا وإسماعيل كان رسولا نبيا.
الوصف الثالث: وهو عملي لأنه(9/4659)
وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
(وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ... (55) إن إسماعيل - عليه السلام - كان حقا عليه أن يأمر قومه من العرب بالصلاة والزكاة، ولكن كان(9/4659)
عليه أن يبدأ بأهله وذوي قرابته والمتصلين به، ثم ينتقل إلى غيرهم مبتدئا بالأقرب فالأقرب، كما ابتدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعشيرته الأقربين بأمر اللَّه تعالى في قوله: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215).
ومن العلماء من قال: إن أهله الذين اتبعوه أجمعون، وذلك القول له وجهه، وقد أمر نبي اللَّه إسماعيل - عليه السلام - بأمرين: بالصلاة، وهذا رمز للتهذيب للجماعة التي يدعوها والتربية الروحية التي تكون بالصلاة، وما يشبهها في روحانياتها، وتكون الركن الأول في المقاصد الدينية، ثم يجيء الأمر الثاني وهو الأمر بالزكاة، فإنها تكون الركن الاجتماعي الذي يكون به التعاون بين الجماعة في تحقق الركن الإنساني في الصلات بين الناس، وهذا يمثل الركن الثاني من المقاصد الدينية، ولا بد للثاني من الأول فهو لَا يتحقق على وجهه الأكمل إلا بالأول، فالأول هو الرباط الروحي، والثاني رباط مادي لَا يؤدي مؤداه إلا بتربية الروح.
الوصف الرابع: وهو أعلى الأوصاف التي وصف بها إسماعيل - عليه السلام - هو رضا اللَّه تعالى، فقد قال عز من قائل: (وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) " مرضيّ " اسم مفعول من رَضِي، وقد زكى اللَّه إسماعيل بأنه مرضي (عَندَ رَبِّهِ) فهو رَضِىٌ في ذاته ومرضي عند ربه الذي خلقه وكونه وقام على وجوده، وهذا أعلى ما يصل إليه المؤمن؛ ولذا قال تعالى بعد ذكر نعيم الجنة المقيم (. . . وَرِضْوَانٌ منَ اللَّهِ أَكبَرُ. . .)، فرضوان اللَّه أكبر من كل جزاء، ولذا قال: (وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) و " كان " في كل أوصاف الله تعالى للدوام والاستمرار، اللهم أدم علينا نعمتك وامنحنا رضاك.
* * *(9/4660)
أنبياء ليسوا من ذرية إبراهيم
قال اللَّه تعالى:
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
* * *
تلك أخبار النبيين تذكر لما فيها من عبرة، ولما فيها من دعوة إلى الاقتداء بهم وسلوك طريقهم، فهم أسوة الأبرار، وطريقهم هو طريق الأخيار، وإذا كان طريق إبليس طريق الأشرار، فطريقهم هو طريق الأخيار.
وابتدأ بذكر إدريس فقال عز من قائل:(9/4661)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
الكتاب هو القرآن كما أشرنا من قبل، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإدريس قيل: إنه كان قبل نوح، ولا نجد ما يدل على ذلك من كتاب ولا سنة، وإنما هي أخبار كتاب قصص الأنبياء.
ورد في تفسير القرطبي " إدريس - عليه السلام - أول من خط بالقلم، وأول من خاط الثياب ولبس المخيط، وأول من خط في علم النجوم والحساب، وإذا صح هذا فربما يكون أقدم من نوح، ولكنا في مثل هذا نقول علمه عند اللَّه، وإنه لا يزيل إبهاما في القرآن، ولا يأتي بعلم جديد، وإنه لمن أمر. فالظن لا يغني من الحق شيئا، ويؤكد الزمخشري أنه جد أبي نوح - عليه السلام -، ويقول بعض العلماء: إنه إلياس - عليه السلام - المذكور في سورة الصافات، وقد قال عن إلياس - عليه السلام - في سورة الصافات(9/4661)
(وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129).
وإذا صح أن إدريس هو إلياس فتكون سورة الصافات قد بينت دعوته، وأن قومه أنكروا وكذبوا، وقد وصف اللَّه تعالى في هذه الآية إدريس بثلاث صفات:
الوصف الأول والثاني: (إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا)، فهو صديق لَا يقول إلا حقا، ويصدق الحق وينفذه ولا يتردد في تنفيذه ومعه الإذعان له من غير تململ، بل باطمئنان ورضا وقبول، وكان نبيا قد كلف بتبليغ رسالة ربه.
الوصف الثالث: أن اللَّه تعالى رفعه منزلة عالية، وقد عبر سبحانه وتعالى من ذلك بقوله:(9/4662)
وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
(وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
والرفعة هنا معنوية، والمكان المراد به منزلة عليا، وقد زعم بعض المفسرين أن ذكر المكان يدل على أنها رفعة مادية، ولا نرى وجها لتخصيص ذكر المكان بالرفعة الحسية، فإن ذلك تخصيص من غير مخصِّص قام الدليل عليه، وإنما نقول: إنها نعمة من اللَّه تعالى على عبده ونبيه الصدِّيق الأمين لأمر اقتضى ذلك في علمه المكنون، ولم يبينه لنا فحق علينا أن نقول ما نعلمه، ونسلم بصدق ما لم نعلمه، والله هو العليم المحيط بكل شيء علما.(9/4662)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
الإشارة إلى النبيين المذكورين في هذه السورة زكريا ويحيى وعيسى وإبراهيم وأولاده وموسى وهارون وإدريس، فهولاء جميعا قد ذكروا في هذه السورة، وكلهم من ذرية آدم، قوله: (مِّنَ النَّبِيِّينَ) " من " بيانية، وقوله: (مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ)، " من " هنا تبعيضية، فالمذكورون بعض هذه(9/4662)
الذرية، فمن بعض من حمل اللَّه تعالى في سفينة نوح - عليه السلام - إبراهيم وهود وصالح وشعيب، (وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ) إسماعيل وإسحاق ويعقوب، ومن ذرية إسرائيل موسى وداود وسليمان، وهكذا أنعم اللَّه تعالى على هؤلاء بنعمة التوحيد، ونعمة الوحي، ونعمة الاصطفاء على العالمين، ونعمة الجهاد في دعوة الحق وحرمته.
وقد ذكر اللَّه تعالى أن ممن أنعم اللَّه تعالى من هداهم اللَّه تعالى بهدْي الأنبياء والمرسلين؛ ولذا قال تعالى: (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا)، " الواو " ساطفة على قوله تعالى: (مِّنَ النَّبيّينَ) فـ " من " بيانية، واللَّه أنعم على النبيين ومن تبعهم، فقوله: (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا)، أي الذين اتبعوهم على صراط مستقيم، (وَاجْتَبَيْنَا) الذي اخترناهم لنبوة وجهاد كداود، وطالوت الذي جعله اللَّه تعالى رئيسا لبني إسرائيل قادهم إلى الحرية والعزة وإن لم يكن من أبناء كبرائهم.
وإن هؤلاء الأنبياء المصطفين الأخيار والتابعين الأبرار قد صفت نفوسهم واستقامت قلوبهم، وصغت إلى الحق أفئدتهم فكانوا إذا تليت عليهم آياته في كتبه الذي أنزلها الرحمن خروا ساجدين باكين؛ ولذا قال تعالى: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) سُجَّدًا: جمع ساجد، وبكيا جمع باك، أي أنهم لفرط تأثرهم بآيات الرحمة التي تنزل من عند الرحمن، ولذا اختير ذلك الوصف (الرَّحْمَنِ) في التعبير عن الذات، فهم يبكون لشعورهم برحمة اللَّه، ويسجدون شكرا للَّه تعالى على ما أنعم، وإن ذلك كان من شأن الصالحين، فكان أبو بكر بكَّاءً عند تلاوة القرآن الكريم، وكان الإمام الشافعي إذا صلى بالناس بكى وبكوا عند تلاوته حتى سمي القارئ البكَّاء، ومن كان من الصالحين لَا تدمع عيناه يبكي قلبه. وإن ذلك من الوعي الطيب، إذ يحمس السامع للتلاوة، بأنه يسمع اللَّه تعالى ينادي فيرتجف ويقشعر بدنه، ولقد قال الله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. . .).
قد ذكر اللَّه تعالى مَنْ خلف أولئك الأبرار من النبيين والصديقين.
* * *(9/4663)
خلف أولئك الأنبياء
قال اللَّه تعالى:
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
* * *(9/4664)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)
" الفاء " للترتيب والتعقيب، فهي تفيد أنه جاء عقب هؤلاء الأطهار من تنكبوا طريقهم، وخرجوا عن منهاجهم، وليس معنى ذلك أنه لم يكن فيهم من خالف المنهاج من أقوامهم، بل كان كل نبي من هؤلاء الأنبياء من لقي مقاومة من قومه، فمن قوم إدريس من قاومه، وقالوا: (. . . وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُم أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ. . .)، وهذا كان شأن كل المصطفين الأخيار من(9/4664)
قُووِم في عصره، فكيف يقال خلف هؤلاء مع أنهم كان أمثالهم في عصرهم، ونقول: إن أولئك الأخلاف الذين خالفوا النبيين كانوا في أقوام من أتباعهم من حرفوا أقوال النبيين، وحرفوا القول عن مواضعه كبني إسرائيل، والذين حملوا إنجيل عيسى كان منهم من تخلف عن هدايته وتنكب عن سبيله.
وصف اللَّه تعالى الأخلاف الذين انحرفوا بسبب هذا الانحراف ونتيجته، فقال عز من قائل: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)، وذكر أسباب انحرافهم فحصره في أمرين أو ذكر أن أكبر أسبابه أمران: الأمر الأول: أنهم (أَضَاعُوا الصَّلاةَ)، ومعنى إضاعة الصلاة إضاعة الدين، لأنها عمود كل دين، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، " لا دين من غير صلاة "، فهي سمة الدين وشعاره، ومعنى إضاعتها إهمالها، أو الصلاة من غير إقامتها على وجهها، أو الصلاة التي فقدت الخشوع والخضوع، وهذا لبابها، أو الإتيان بصلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، بل تلابسها.
الأمر الثاني: هو اتباع الشهوات، فإنه إذا سيطرت الشهوات على النفس، وصارت سيدا مطاعا انحرف الاعتقاد تبعا لها، وحينئذ يتخذون إلههم هواهم وكان معبودهم وسرى ذلك إلى كل أعمالهم.
وقد نبه سبحانه إلى النتيجة من ذلك فقال تعالى: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)، الغي ضد الرشاد وهو الغواية، وهي تنكب الطريق المستقيم، إن اتباع الشهوات وجعل الأهواء لها السلطان الأكمل سبيل الفساد والغواية، وبها تنكب الرشاد؛ وذلك أن الهدى والعقل نقيضان لَا يجتمعان في قلب واحد، فإذا كان سلطان الهوى ذهب العقل وقوله: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ) " سوف " هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل، وقوله تعالى: (يَلْقَوْنَ)، أي يجدون أمامهم وهو نتيجة طبيعية لترك الصلاة واتباع الشهوات.
وإن الله تعالى الكريم يستثني المتقين الأبرار؛ ولذا قال تعالى:(9/4665)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
(إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
الاستثناء هنا منقطع، وليس استثناء متصلا؛ فـ (مَن تَابَ وَآمَنَ) لا يدخل في عموم من اتبعوا الشهوات وأضاعوا الصلاة، فـ (إِلَّا) بمعنى " لكن "، وهي مقابلة بين المؤمن وغيره، فالأول يتبع الشهوات، والثاني مؤمن تواب إلى ربه راجع إليه طالب، وقوله تعالى: (إِلَّا من تَابَ) يشمل من غَوِي منهم الأهواء والشهوات ورجع إلى ربه، ومن لم يسيطر عليه هواه ابتداءً واتبع سبيل الحق، ويكون التعبير عنه بـ (تَابَ) إشارة إلى الإذعان الكامل؛ لأن المؤمن التواب وصل إلى أعلى درجات الإيمان، لأنه يستصغر أفعاله أمام اللَّه ويحسب نفسه مقصرا فلا يُدِلّ بالطاعة، بل يستشعر الخشية الدائمة ويغلب عليه الخوف ولا يغلب عليه رجاء الثواب، لأنه يستكثر خطأه، ويستقل طاعته.
(فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا)، الإشارة إلى التائبين الراجعين إلى اللَّه تعالى، والإشارة إلى الموصوفين بأوصاف تدل على أن هذه الأوصاف سبب الحكم، وهو أنهم (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) التي هي جزاء المتقين، (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا)، أي لَا ينقصون أي شيء من النقص، بل يأخذون جزاءهم جزاء وفاقا لما عملوا من طيبات، ولتجردهم من شهوات الدنيا وخلاصهم من أهوائها المردية.
وذكر اللَّه تعالى في وصف الجنة أنها التي (وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ) للإشارة إلى أنها من فضل رحمته بعباده الذين يريد منهم الرشاد، ولا يرضى لهم الكفر والانحراف عن طريق الإيمان، ولذا قال:(9/4666)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
(جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
(جَنَّاتِ عَدْنٍ): هي جنة الإقامة الدائمة، كما قال تعالى: (. . . لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مقِيمٌ)، وقد وعد الرحمن عباده بالغيب، وذكر (الرَّحْمَن) هنا إشارة إلى أن ذلك من رحمة اللَّه تعالى، إذ كان منه الغفران وهو رحمة، وكان منه(9/4666)
قبول التوبة، وهو رحمة وأن الحسنات يذهبن السيئات، وكان منه عفوه وغفرانه إلا أن يُشرك به.
وقوله تعالى: (بِالْغَيْبِ) متعلق بـ (وَعَدَ)؛ لأنه وعدهم سبحانه وهم غائبون عنه، وقد آمنوا بهذا الوعد واطمأنوا إليه، وهو غائب، فهم آمنوا بالبعث والجزاء والرحمة وهو غائب عنهم، فكانوا مؤمنين بالغيب وهو سبيل إدراك الحق، والإيمان بحقائق يوم القيامة، وقد أكد سبحانه صدق وعده وأنه لَا يخلف الميعاد بقوله تعالى: (إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) الضمير في (إِنَّهُ) يعود على (الرَّحْمَنُ)، و (مَأتِيًّا) اسم مفعول، أي أنه يجعله - سبحانه وتعالى - آتيا لَا محالة، وذلك كقوله تعالى: (. . . إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ)، وبعض المفسرين فسر الوعد بأنه جنة عدن، وهو مأتي لَا محالة لمن وعدوا به، ونرى أن الوعد هو ما يتعلق بنعيم الجنة، واللَّه تعالى يمكِّن عباده من وعده، فيكون آتيا بالنسبة له، ومأتيا منهم إذ يمكنهم سبحانه وتعالى منه، و (جَنَّاتِ) بدل أو عطف بيان من قوله تعالى: (فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ)، وهنا يرد سؤال كيف يكون البدل جمعا، والمبدل منه مفردا؛ ونقول: إن اسم الجنس وهو (الجنة) عام يدخل في عمومه الكثير من الجنات فهو بدل جمع من جمع، وهناك قراءة " جنة عدن " (1) بالإفراد واللَّه تعالى أعلم.
وقد وصف اللَّه تعالى الحياة الفاضلة في الجنة فقال عز من قائل:
________
(1) قراءة (جنة عدن)، ليست في العشر.(9/4667)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
(لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
اللغو هو الكلام الذي لَا يكون له فائدة مذكورة عند العقلاء، وهو الذي يؤدي إلى المشاحنة والمنازعة، ومبادلة القول والجدال، وكل ذلك بعيد عن الحياة الفاضلة التي تكون في الجنة؛ ولذا قال تعالى في آية أخرى: (. . . لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثيمٌ)، وإن اللغو في الدنيا ليس من دأب الفضلاء، وسماعه ليس(9/4667)
من شأن العقلاء. وقال في أوصاف الأبرار: (وَإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).
وقوله تعالى: (إِلَّا سَلَامًا) الاستثناء فيها منقطع، بمعنى لكن يسمعون سلاما، أي أمنا واطمئنانا وبعدا عن المشاحة والمنازعة والمخاصمة.
هذه هي الحياة المعنوية الطيبة الهادئة التي لَا لغو فيها ولا تأثيم، وقد ذكر سبحانه وتعالى أن الجسم فيها ينال حظه في مواقيته فقال تعالى: (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)، أي أن طعامهم يأتيهم في أوقات منتظمة مستمرة وهي تجيء في البكور، وفي العشية.
أي على عادة المتناولين لهذه الحياة من غير زهادة ولا إفراط في الأخذ منها ليترفوا فيها، وفي ذلك الاعتدال تكون استقامة الحياة من غير مرض ولا عناء.
وإن تلك الجنة الطيبة التي تحيا فيها الروح، ويحيا فيها الجسم من غير إسراف ولا تفريط تكون للمتقين؛ ولذا قال تعالى:(9/4668)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
الإشارة هنا للبعيد إعلاء لشأنها وتشويفا وتكريما لها (نُورِثُ)، أي يجعلها سبحانه وتعالى ميراثا لمن كان تقيا، وسميت ميراثا أورث اللَّه تعالى به، لأنه خلف للعمل الصالح، ولأنه ترك الأهواء والشهوات فأخذ بديلا لها تلك الجنة وهي أغلى وأدوم، وسمى سبحانه وتعالى ذلك توريثا؛ لأنها خلف، كما يملك الوارث بالخلافة بيد أن ذلك ميراث عن عمل صالح بنعيم دائم فهو دائم بدوام المال الموروث، وقد قال في هذا الزمخشري ما نصه: " نورث: استعارة أي نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث المال الموروث؛ ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة قد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية، وهي الجنة، فإذا دخلوا الجنة أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال ".(9/4668)
وقوله تعالى: (نُورِث مِنْ عِبَادنَا مَن كَانَ تَقِيًّا) (مَنْ) مفعول، و (مِنْ) للتبعيض وقوله تعالى: (كَانَ تَقِيًّا) تفيد الملازمة للتقوى لَا يتحول عنها؛ لأن (كانَ) تدل على الدوام والاستمرار.(9/4669)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
(وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
(وَمَا نَتَنَزَّلُ) هذا بيان من متكلم ما هو؟ أهو من الملائكة أم من المتقين؛ إن النص يحتملهما، وقد روي أن ذلك من الملائكة، وروى البخاري والترمذي أن الذي قال ذلك جبريل - عليه السلام -، فإنه قد روى الترمذي والبخاري عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال لجبريل - عليه السلام -: " ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا "، فنزلت هذه الآية (1)، ومعناها على ذلك، (وَمَا نَتَنَزَّلُ)، أي نتنزل نحن الملائكة (إِلَّا بِأمْرِ رَبِّكَ) الذي خلقك، فلا ننزل من تلقاء أنفسنا بل بإرادة، وروي أنه قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أنا أشوق إليك ".
وقد قيل: إن المشركين قالوا: قلاه اللَّه وودعه، وقد قال تعالى في سورة الضحى: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى) هذا تخريج تؤيده الرواية الصحيحة، ونتنزل أي ننزل وقتا بعد آخر.
وهناك تخريج آخر وهو أن قائل ذلك هم المتقون الذين نزلوا الجنة، وأدخلهم الله تعالى فيها، ويكون معنى التنزل النزول إليها مترفقين، ويكون كلامهم إعلانا لشكرهم للَّه تعالى.
ونحن نميل إلى التخريج الأول ونرجحه؛ لأنه قد ورد فيه حديث صحيح، وهو معقول في ذاته؛ ولأن التعبير بالتنزل يدل على النزول وقتا بعد آخر، وذلك يتفق مع نزول جبريل، ولا يتفق مع دخول الجنة؛ لأنه يكون دفعة واحدة، ولأنه
________
(1) رواه بهذا اللفظ البخاري: تفسير القرآن - (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) (4362)، والترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة مريم (3083). عن ابن عباس رضي الله عنهما.(9/4669)
هو الذي يناسب نفي النسيان في قوله بعد ذلك: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) " فعيل " من " نسي "، أي ناسيا نسيانا شديدا حتى يترك نبيه، وقد أرسله لبيان شريعته، والدعوة بقرآنه الحكيم الذي هو تنزيل من حكيم حميد.
وقد ذكر الملائكة قدرة اللَّه تعالى، وأنه هو الملك للملائكة والإنس والجن، فقالوا كما حكى اللَّه تعالى عنهم: (لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْن ذَلِكَ)، له ما مضى من أمرنا لَا يعلمه سواه، وله ما بين أيدينا مما هو مبهما، وما خلفنا مما تركنا، وما بين ذلك هو حاضرنا، وملكيته سبحانه لحاضرنا، وهو ما بين ملك المتصرف العالم علما محيطا.
وقد بين سبحانه وتعالى ملكه للسماوات والأرض فقال:(9/4670)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
(رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) خبر لمبتدأ محذوف تقديره هو رب السماوات والأرض الذي يملك كل شيء ما بين أيدينا وما خلفنا ويعلم كل خلقه، هو رب السماوات ورب الأرض ورب ما بينهما من فضاء، وإذا كان هو الرب الخالق لكل شيء ولا خالق سواه فإنه وحده الذي يستحق العبادة، ولذا قال تعالى: (فَاعْبُدْه وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ)، و " الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ لأنه إذا كان الخالق القائم بحق الربوبية، الحي القيوم فهو وحده المستحق للعبادة، ولكن هذه العبادة لا يستقيم لها الإنسان وسط الأهواء والأوهام، وما يألف الناس من عبادة الأحجار والأشخاص ليس الطريق الإنساني إليها معبدا، ولذلك كان المؤمن يحتاج إلى صبر فقال تعالى: (وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ) أصل اصطبر " اصتبر " قلبت تاء الافتعال طاء لقرب التاء من الطاء، ومعنى الافتعال هنا الصبر، وتحمل ما يكلفه النفس من جهود، ونبه سبحانه إلى أنه لَا مشابه له من الحوادث، فقال: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)، أي شبيها، والاستفهام للإنكار بمعنى النفي، أي لَا تعلم له شبيها فهو(9/4670)
منزه عن الحوادث كقوله تعالى: (. . . لَيْسَ كَمِثْلِهِ شيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
وهذا النفي بالاستفهام الإنكاري دليل على استحقاقه وحده للعبادة لأنه لَا شبيه له.
* * *
إنكار الإنسان للبعث
قال اللَّه تعالى:
(وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
* * *
الإنسان ينظر دائما إلى حاضره ولا ينظر إلى قابله، وينكر القابل إذا لم يتفق مع حاضره إلا أن يكون ممن هداهم اللَّه وآمنوا بالغيب إيمانهم بالشاهد، ولم يحصروا علمهم في المحسوس لَا يخرجون عنه، وقد قال تعالى:(9/4671)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
(وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
الإنسان المأسور بالحسّ الذي لَا ينفذ عقله إلى ما وراء الحس من غيب ستره اللَّه تعالى، ولا يؤمن به إلا بنقل صادق، وعلى ذلك يكون المراد بعض الإنسان لا كل آحاده، وعبر عن هذا البعض باسم الكل؛ لأن ما يقوله بعضهم مساير لإحساس الكثيرين منهم، أو لحال الإنسان قبل أن يجيئه النقل القاطع الجازم، ولأنه مشتق من طبيعة الإنسان المأسور بالحاضر المحسوس، لَا القابل المغيب.
وبعضهم يقول: إن الجنس هو المتحدث عنه، فجنس الإنسان يدرك الحس وحده، إلا من رحم ربك.
ويقول تعالى: (وَيَقُولُ الإنسَانُ) عبر بالمضارع للإشارة إلى تكراره، وأنه يذكره مرارا، وللإشارة إلى صورة قوله المتكرر (أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَج حَيًّا) الاستفهام في ظاهر اللفظ ومدلوله داخل على (لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) وتركيب القول، ولكلام اللَّه تعالى المثل الأعلى. لسوف أخرج حيا إذا ما مت، وتأخرت (لَسَوْفَ) على " إذا " الأمرين:
الأمر الأول: أن الاستفهام له الصدارة.
الأمر الثاني: أن موضع الإنكار ليس هو الإخراج إنما هو أن يكون بعد
الموت وأن يصير رميما، كقوله تعالى (. . . مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79).
والمعنى على هذا التخريج: أحقا مؤكدا سوف يخرج حيا مجتمع الأجزاء غير مفرق، و " اللام " لتأكيد الخروج، وسوف لتأكيد الوقوع في المستقبل، ولقد بين سبحانه أنه لَا غرابة في الإعادة بعد الموت فقال:(9/4672)
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
(أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
الواو عاطفة على فعل مذكور مشار إليه فيما سبق، وتقديره، أيقول ذلك ولا يذكر الإنسان. . .(9/4672)
" أو " الواو عاطفة ومقامها التقديم وأُخرت، لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الواقع، وإنكار الواقع توبيخ، أي: أيقول ذلك، ولا يذكر أنه خلق ولم يكُ شيئا، فهو توبيخ على هذا النسيان الذي ينسى أصله، وكيف تكوَّن، ولا ينسيه إلا الشيطان، وأظهر الإنسان، وكان مساق القول ألا يظهر، وذلك لانصباب التوبيخ عليه، ولتأكيد النسيان الذي هو طبيعة في الحياة الإنسانية، إذ هي تنسى ما يغيب عنها ولا تذكر، ولقد قال اللَّه تعالى في مساق التوبيخ: (أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا)، أي لَا وجود له، ولا شك أن الخلق من غير صورة وابتداء الإنشاء من طين وتصويره نطفة فعلقة فمضغة مخلقة وغير مخلقة. . أصعب من إعادته مصورا يمر على هذه الأدوار التكوينية، بل كان بمجرد قوله كن فيكون، وبمجرد النفخ في الصور، وقد قال تعالى: (. . . كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) وإن جمع الأجزاء المتناثرة أقل صعوبة من إنشائها وإبداعها، قال تعالى: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. . .).
ولقد أكد اللَّه البعث بالقسم برب الوجود مضافا إلى سيد الوجود، فقال:(9/4673)
فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
(فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
أقسم بذاته العلية الكريمة مضافا إلى نبيه، بيانا لإعزازه وإعلانه وتكريمه، وكان القسم بالذات العلية بعنوان الربوبية الكالئة الحامية المتصلة بالإنسان، وبأكرم إنسان وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذلك إشارة إلى أن البعث من الربوبية، فهو كما أنشأكم وكلأكم ورباكم يبعثكم، فهو لم يخلقكم عبثا، و " الفاء " هنا للتعقيب على التوبيخ بتأكيد الأمر الذي قرره وقدره وأنكروه بل استنكروه، و " اللام " في قوله تعالى: (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) لام القسم الواقعة في جوابه، ولذا أكد بنون التوكيد الثقيلة، و " الواو " واو المعية في قوله تعالى: (وَالشَّيَاطِينَ)، أي أنهم يحشرون معهم، وهم الذين أضلوهم، وجعلوهم بالأوهام التي بُثَّت فيهم يعبدون الأوثان.(9/4673)
ثم ذكر تعالى ما يكوِن بعد الحشر وهو إحضارهم إلى جهنم، فقال تعالى مقسما: (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا)، (ثُمَّ) عاطفة على جواب أقسم (لَنَحْشُرَنَّهُمْ) فهو سبحانه بعد أن يحشرهم مع شياطينهم الذين وسوسوا لهم بعبادة الأوثان يحضرون، وإن ذلك وإن كان خاصا بالكفرة؛ لأنهم الذين أغواهم الشياطين وأضلوهم، ولكن أضيفت إلى الجميع الأبرار والفجار؛ لأن الحشر للجميع، والجميع يرون جهنم كي تتلى الآيات من بعد.
والإحضار حول جهنم جاثين على ركبهم؛ ولذا قال تعالى: (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا)، والجثي جمع جاث، وهم الجالسون على ركبهم.
فقال تعالى: (وَتَرَى كلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً. . .)، وذلك يكون في أحوال تناقلات القول، وذلك من تجاثي أهلها على ركبهم، وذلك يكون في حال الاستفزاز والقلق، وكأنهم لهول ما يرون يتجاثون على ركبهم فزعين قد أصابهم الهلع، ويكونون حول جهنم مترقبين ما يكون من أمرهم في جزع.
والعطف بـ (ثُمَّ) يقتضي فاصلا بأمد ليس قصيرا بين الحشر والإحضار، وذلك الأمد يكون فيه الحساب ويكون ما يقرره اللَّه لأهل البر، وما يقرره للفجار، فكل يحضر حول جهنم ثم يكون الأبرار بعد ذلك للجنة إذ يرون ما آل إليه أمر الكفار، كما سنتلو قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا).
ويقول في أحوال يوم القيامة وأهواله:(9/4674)
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
(ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
(ثُمَّ) عاطفة للترتيب والتراخي، لأنه ترتيب أعمال يوم، فيكون الحشر ثم الإحضار إلى جهنم جثيا ثم نزع أشدهم عتوا من الشيع، من كل شيعة أعتاها وأجرؤها على الرحمن، وقوله تعالى: (لَنَنزِعَنَّ) " اللام " لام القسم التي تكون في جوابه وهي تنبئ عن قَسَم مقدَّر في القول، والنزع الاستخراج لَا اختيار(9/4674)
للمنزوع فيه، بل متخيَّر مأخوذ أخذا لَا اختيار له فيه، الشيعة على وزن " فِعْلة "، وهي الطائفة المتشايعة في عنادها وكبريائها وعصيانها، والنزع من كل طائفة لها هذا التعاون على الشر، وقوله تعالى: (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا) والعتي مصدر عتا يعتو عتيا بالضم وعِتيا بالكسر، وعتوا، وأشد شرا فيهم، و (أَيُّهُمْ) قد تكون في معنى الاستفهام، والجواب عنه، أي الذي يقال فيهم أيهم أشد على الرحمن، أي أجرأ في الباطل والظلم والاستكبار، وقيل: أشد على الرحمن عتيا؛ لأنه إذا كان عاتيا على الرحمن جريئا عليه، فهو ممعن في الشر إمعانا، إذ هو غير شاكر للرحمة؛ لأنه ممعن في الاستكبار على مصدرها ومرسلها، وهكذا ينزع اللَّه تعالى يوم القيامة من فئة متشايعة على الشر أشدهم عتوا وتجبرا ثم الذي يليه كل في طبقته من الشر، وهذا يشير إلى أن من دون هؤلاء عتوا وجحودا، قد يكون في موضع الغفران إذا تاب، وإن الحسنات يذهبن السيئات، وإنه بعد نزع أشدهم عتوا يكون الصليّ في نار جهنم، ولذا قال تعالى:(9/4675)
ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
(ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
أي أنه سبحانه وتعالى ينزع أشدهم عتوا من بين الأشرار فئة فئة، واللَّه تعالى أعلم بمن هم أولى بالنار صليا، و (صِلِيًّا) مصدر صلى يصلي صليا مثل مضى يمضي مضيا، وهوى يهوي هويا، ومعنى (أَوْلَى)، أي أحق بأن يصطلى هذه النار، والعطف بـ (ثُمَّ) يفيد التراخي المعنوي بين النزع من الشيع، وصليها بالنار فإنه يكون العرض، ثم يكون الإلقاء في النار إلقاءً، وهكذا يختار من الشيع المستغرقة في الشر المتشايعة فيه أعتاها، ثم يلقى أحقها بالصلي في النار، ويعفو اللَّه سبحانه عن بعض العصاة غير المشركين إذا تابوا أو كانت لهم حسنات تكافئ سيئاتهم؛ لأن اللَّه تعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ. . .)، ويقول: (. . . إِن الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَيِّئَاتِ. . .)، ويقول: (. . . وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ).(9/4675)
وإن الناس جميعا يرون النار، ليعرف الأبرار مقدار إكرام اللَّه تعالى إذا دخلوا، فيرون الفرق بين الجنة والنار، وبين النعيم المقيم وعذاب الجحيم، ولذا قال تعالى:(9/4676)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
(وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
(إن) هنا نافية، والمعنى ما منكم إلا واردها، وقد التفت سبحانه وتعالى من الغيبة إلى الخطاب؛ لمواجهة عباده بما قرر لهم وما قدره سبحانه وتعالى عليهم، والورود ليس معناه الدخول، بل إن المؤمن يرِدُها ولا يُلقى ولا يُعذب فيها، وبذلك يوفق بين قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا)، وقوله تعالى بالنسبة للمؤمنين: (. . . أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ)، أي مبعدون من عذابها ولا يلقون فيها ولا يدخلونها، وروي أن المؤمنين يوردون عليها وهي ضاورة (1)، أي خامدة بالنسبة إليهم لَا تمسهم ولا يلقون عذابها.
(كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا)، (كَانَ) ذلك الورود (عَلَى رَبِّكَ) الذي خلقك ورباك (حَتْمًا)، أي لازمًا، (مَّقْضِيًّا)، أي قضاه اللَّه تعالى وكتبه على نفسه، كما قال تعالى: (. . . كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نفْسِهِ الرَّحْمَةَ. . .)، وإن هذا الكلام لتأكيد الوقوع، وإنه سبحانه وتعالى قد كتبه على ذاته العلية، ولا إلزام عليه من أحد ولا يصح أن يستدل به الذين يقولون بوجوب الصلاح أو الأصلح، فإن هذا ليس من ذلك الباب في شيء، إنما لتأكيد الوقوع والقضاء منه، وهو الذي يقضي ويقدر وهو العزيز الحكيم.
وبعد أن يردها الجميع يصطفي اللَّه تعالى ممن وردها المؤمنين التقاة، فينجيهم منها؛ ولذا يقول تعالى:
________
(1) هكذا بالواو، والتَّضورُ: التَّضعّفُ، من قولهم: رجل ضُورَةٌ وامرأة ضُورَة، والضُّورَةُ، بالضم، من الرجال: الصغير الحقير الشأْن. قاله أبو العباس: لسان العرب - ضور. وقد تكون (ضامرة) بالراء، من الضمور وهو الهزال. وكلاهما يحتمل معنى الخمود، والله أعلم.
(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)(9/4676)
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
العطف بـ (ثُمَّ) هنا للتفاوت البعيد بين النجاة التي كتبها اللَّه للذين اتقوا، والصلي الذي كان لأولى الناس بالصلي في علم اللَّه تعالى، والنجاة تكون للذين اتقوا العذاب ولم يشركوا باللَّه شيئا فلم يعبدوا الأوثان، ولم يفتنوا أحدا في دينه، ولم يكفروا بآيات اللَّه تعالى ووحدانيته، وذكر الموصول يدل على أن الصلة وهي التقوى السبب في الإنجاء أو التنجية، والتنجية هي المبالغة في النجاة. هذا بالنسبة للمتقين، أما الكافرون فقال اللَّه تعالى فيهم: (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)، أي جاثين على ركبهم ذلا وفزعا ورعبا وألمًا، والجثي تصوير لحالهم بالحس الدال على أنهم في أشد الفزع والألم، و (وَنَذَرُ) معناها نتركهم، وعبر سبحانه وتعالى عن الكافرين بـ (الظَّالِمِينَ)؛ لأنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم وإشراكهم، وظلموا الناس بفسادهم، وظلموهم بالفتنة والصد عن سبيل اللَّه في معاملتهم للمخالفين لهم، وظلموا الحق بجحودهم مع رؤية آياته:، (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلوًّا. . .).(9/4677)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
هذه أحوالهم في الآخرة، ولكنهم عنها عمون، فقد حسبوا أن الآخرة - إن كانت في زعمهم - ستكون لهم كما أن الدنيا تكون لهم؛ ولذا كانوا يستمرئون عنهم؛ ولذا قال اللَّه عنهم (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا)، أي يتلى عليهم القرآن المنزل من اللَّه تعالى، أي تقرأ آياته مرتلة واضحة بينة في ألفاظها وعباراتها المعجزة ومعانيها الواضحة الزاجرة الواعظة المبشرة المنذرة - أعرضوا عنها واستهزءوا بقراءتها وبالمؤمنين، وقالوا للذين آمنوا في شأنهم ساخرين منهم مستهزئين بهم ومستهينين بأمرهم: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) المؤمن والكافر، والبر والفاجر (خَيْرٌ مَقَامًا) ومنزلة (وَأَحْسَنُ(9/4677)
نَدِيًّا)، أي منتدى يجتمعون فيه ويسمرون، فهذا للأقوياء الكبراء ذوو المال والجاه والسطوة. وذلك للضعفاء والأرقاء المستذلين. ومؤدى القول أن المؤمنين ضعفاء مسترذلون في ذات أنفسهم ومكانهم في هذه، والذين يخالفونهم في منتدى طيب ومال وفير وعزة في النفر، وإذا كانوا كذلك فلابد أن يكون بعد ذلك كذلك إن كان بعث ونشور، ولا يظنونه، وهذا كقول قوم نوح له: (. . . وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ. . .)، ولقد قال في شأن الكافرين: (وَقَالَ الَّذِينَ كفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ. . .)، فهم يتخذون من أن الذين آمنو ضعفاء دليلا على البطلان، وذلك لغرورهم وضلالهم، وتلك فتنة وقعوا فيها، وذلك أنهم يحكمون على الأمر بأنه باطل لضعف أتباعهم، وبأنهم على حق بقوتهم، وتلك فتنة لهم، ولذلك قال تعالى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53).
وقد رد اللَّه قولهم ببيان أن العبرة بالعاقبة، لَا بالأمر الحاضر، وإن كثيرين من القرون السابقة أهلكهم اللَّه بظلمهم، ونجا الذين استضعفوا، وكان منهم أئمة وكانوا الوارثين؛ ولذا قال تعالى:(9/4678)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
(كم) هي العددية، أي وكثير من الأمم أهلكناهم قبلكم، وكانوا أحسن أثاثا، فبيوتهم كانت مملوءة بالمتاع الطيب؛ لأن الأثاث هو متاع البيت، و (الرئى): المنظر الحسن، أي إذا كنتم تفاخرون المؤمنين بأنكم أهل نَدِي حسن فيه الطنافس (1)
والآرائك والذرابي المبثوثة، وأنهم فقراء يعيشون في شدة، وليس لهم ندي كنديكم، وأنكم بذلك أهل الحق، والمؤمنون هم أهل الباطل، فقد أنصفهم اللَّه منكم وكان هلاك اللَّه نازلا بكم، والقرن الجماعة أو الأمة من الناس التي تعيش في زمن من الأزمان، وإذا كان الهلاك لَا يكون إلا لأهل الباطل فليس الغنى
________
(1) جمع طِنْفِسَة: وهي بساط له خمل رقيق. لسان العرب - طنفس.(9/4678)
والثروة دليلا على أن الحق في جانبهما، فالحق لَا يعرف إلا بالإيمان، وآيات الله تعالى، وكذلك نجَّى الله المؤمنين الفقراء وأهلك الكفار الأغنياء.
* * *
سنة الله تعالى في الضلال والهداية
قال اللَّه تعالى:
(قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
* * *(9/4679)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
(قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
يقول تعالى ردا على المشركين في غرورهم بالمال والبنين ومتعة الجاه والسلطان: (قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) الخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - يأمره سبحانه وتعالى بأن يبين لهم الحق وسنة اللَّه تعالى في أمر الضلالة والهداية، فهو سبحانه يَمُدُّ الذين أرادوا الضلالة وسلكوا سبيلها وأخذوا في أسبابها، يمدهم فيها مدا حتى يحسبوا أن الأمر إليهم، كما قال تعالى: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، يمهلهم سبحانه ويتركهم في غيهم يعمهون، ويزيدهم بالمال ويعطيهم، حتى يفرقهم الغرور ويجعلهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وقال تعالى بلفظ الأمر: (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا) جاء الخبر على صيغة الأمر؛ لبيان أن ذلك بإرادة اللَّه وكأنه يأمره به أمرا، وهو استدراج من اللَّه تعالى لهم، كما قال تعالى: (. . . سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)، كما تلونا من قبل.
وأكد سبحانه إمهالهم واستدراجهم بالعطاء بوفرة عليهم بالمصدر (مَدًّا)، وأسند سبحانه وتعالى المد إلى الرحمن؛ وذلك لإفادة أن من رحمة اللَّه بعباده أن يمكن كُلًّا ما يحب، ثم يحاسب كُلًّا على ما فعل من خير أو شر، فيكافئ كُلًّا بما فعل إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
ويستمر الضال في غيه (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا)، ومما يوعدون هو أحد أمرين إما العذاب في الدنيا بالقتال والجهاد واستئصال الشرك، وقد رأوه في جهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد اجتث الشرك اجتثاثا، وإن لم يكن الجهاد وضرب الشرك وجعل كلمة اللَّه هي العليا، فإنها تكون الساعة تستقبلهم ويكون العذاب يوم القيامة.
وعند الوصول إلى هذه الغاية المحتومة (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا)، " الفاء " عاطفة على (مَا يُوعَدُونَ)، و " السين " لتأكيد الفعل في المستقبل(9/4680)
(مَنْ هُوَ شَرٌّ مكَانًا) يوم القيامة حيث يكون في الجحيم، وضعفاء المؤمنين في جنات النعيم، وهو رد على قولهم: (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا)، وقوله تعالى: (وَأَضْعَفُ جُندًا)، إذا كان عذابهم في الدنيا فإن أولئك الضعفاء الذين سخروا منهم سيكونون جند اللَّه تعالى ويسحقونهم سحقا، هذا شأن أهل الضلال الذين اتخذوا أسبابه والذين مدوا في ضلالتهم، وأملى لهم استدراجا، أما الذين سلكوا سبيل الهداية فقال تعالى:(9/4681)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
(وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
(وَيَزِيدُ اللَّه الَّذِينَ اهْتَدَوْا) بأن سلكوا طريق الهداية وأزالوا كل غشاوة ونفذوا إلى نور الحق (هُدًى) بأن يستمسكوا بالحق ويهتدوا بهديه. والآيات التي تنزل تزيدهم إيمانا فوق إيمانهم، وكل سورة تنزل تزيد قوة في إيمانهم، كما قال تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125).
وإن الذين اهتدوا تشرب قلوبهم حب الإيمان ويستمرئون الطاعة فيسيرون في طريقها، ويصلون إلى الغاية، وما كان من أعمالهم فهو باق له أجره وثوابه ويرد عليهم يوم القيامة، وإن كل خير يبقى، وكل شر يزول فهو كالزبد يكون له مظهر الوجود ولا يبقى، ولقد قال تعالى: (. . . فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ. . .)، والأعمال الصالحة لهذا باقية؛ ولذا قال تعالى: (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ) وهي ما تكون ثمرة للإيمان القوي المثمر (خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوابًا)، أي خير جزاء وقبولا عند اللَّه، أما غيرها من الأعمال التي لَا تكون ثمرة للإيمان فلا خير فيها ولا تبقى، ولقد قال في مثل ما ينفق الكافرون: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117).(9/4681)
فالباقيات الصالحات من أهل الإيمان تكون خير جزاء من أعمال الكافرين، و (خَيْرٌ) أفعل تفضيل، ولكنه ليس على بابه؛ لأن مقابله لَا خير فيه قط، وقوله تعالى: (وَخَيْرٌ مَّرَدًّا)، أي خير ما يرد به المؤمن يوم القيامة فهو يرجع عاريا من كل حلية إلا حلية العمل الذي يكون به الثواب ويكون لغيره العقاب، والخيرية في أفعل التفضيل ليست على بابها إذ لَا خير في غيرها إذا كان أفعل التفضيل ليس على بابه، فالمراد به أنه بلغ من الخيرية أعلى درجاته فلا خير يعلوه قط.
وإن منشأ الضلالة هو الغرور بهذه الحياة والطمع، وقد صور سبحانه وتعالى هذا الغرور في قوله:
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78).
إن المشركين مغرورون بالدنيا غرتهم بغرورها، وحسبوا أنها لَا حياة بعدها، وقدروا لأنفسم مقاديرها فهم يستمتعون بحاضرهم، ويحسبون أن قابلهم من جنس حاضرهم بل ذهب بهم فرط غرورهم إلى أن حسبوا أن البعث إن كان يكونون فيه الأعلين كما هم في الدنيا.
وقوله تعالى:(9/4682)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
" الفاء " للترتيب والتعقيب، وهي تصور كيف يمد للكافر حتى يصيبه الغرور، وهي مؤخرة عن تقديم وتقدير القول: فأريت، ولكن الاستفهام له الصدارة فقدم على الفاء، والاستفهام للإنكار، إنكار الواقع، وهو بمعنى التنديد لمن كانت حاله كذلك في غروره، وقوله تعالى: (الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا)، أي جحدها وأنكر دلالتها على وحدانية الواحد الأحد الفرد الصمد، وهذا من الاستنكار الذي أفاده الاستفهام، وقال مقسما قسما هو حانث فيه (لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا)، و " اللام " لام القسم الواقعة في جوابه، ولذا كان التوكيد بنون التوكيد الثقيلة، وما كان له أن يحلف تلك اليمين الفاجرة الآثمة بأن سيكون له مال وولد، وقال في قسمه الحانث (لأُوتَيَنَّ)، أي أنه بإرادته وقدرته الواهمة سيكون له مال قد اتخذه وأخذه(9/4682)
لنفسه، وقد قال في بيان أنه مغرور، ولا يكون الغرور صادقا:(9/4683)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
(أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
الاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع، فهو بمعنى النفي لما دخل الاستفهام عليه ومقابله، فهو لم يطلع على الغيب ولم يتخذ عند اللَّه عهدا.
قال الزمخشري في قوله: (أَطَلَعَ الْغَيْبَ) معناه أرتقى علم الغيب، من قِبَل قولهم: اطلع الجيل ارتقاه. وأرى أن قوله: اطلع تتضمن الرؤية، وهنا همزة استفهام، وهمزة الفعل، والمعنى أراى الغيب عيانا، أم اتخذ عهدا عند اللَّه تعالى، وإن شيئا من ذلك لم يحدث، فهو لم ير الغيب عيانا؛ إذ هو مطموس الفكر والنفس والقلب، وهو لَا عهد له عند اللَّه، كما قال تعالى: (. . . لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).(9/4683)
كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)
(كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)
ويذكر المحدثون جميعا أن سبب نزول هذه الآية أن خباب بن الأرت المؤمن الذي عُذب في سبيل الله كان قينا، أي حدادا فصنع للعاص بن وائل شيئا فطالبه بأجرته، فلم يعطه حتى يكفر بمحمد فقال: لَا، فقال: إنكم تقولون إنكم ستبعثون، وسيكون لي ذهب فإني معطيك منه، فنزلت هذه الآيات. وقد رد الله تعالى كلامه فقال سبحانه: (سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا) وإن ما يقوله مكتوب في علم اللَّه تعالى الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها فكيف يقال: (سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ) بالسين التي تؤكد الكتابة في المستقبل، واللَّه به عليم، وقد أجاب الزمخشري عن ذلك بأن معنى (سَنَكْتُبُ)، أي سنظهر المكتوب، وأحسب أن معنى (سَنَكْتُبُ)، أي سنكتبه في كتابه الذي يقرأ عليه والذي ينطق بسيئاته حجة عليه قائمة لَا يكون له سبيل لإنكاره، أي نسجِّله عليه في صكِّه المنشور يوم القيامة.
ونمد له في غروره مدا، وسمي ذلك عذابا؛ لأنه سبب لعذابه، فذكر المسبب وأريد السبب، وذلك جائز في المجاز المرسل واللَّه تعالى أعلم. ثم يقول تعالى:(9/4683)
وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
(وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
(وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ)، أي نجعل ما يقول خلفا يتركه في الدنيا ويأتينا يوم القيامة فردا: منفردا عن ماله وولده، (مَا يَقولُ): هو الذي تألّى أن يكون له مال وولد ليكونا زينته في الحياة الدنيا فهو يعطاهما، ولكن يخلفها من بعده ويتركهما حيث كانا في الدنيا، ويجيء منفردا، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُم أَوَّلَ مَرَّةٍ. . .)، فلا مالا ولا ولد يبقى، إنما الباقيات الصالحات كما قال تعالى. ويصح أن نقول: إن ما يقول هو دعاء الأنداد والإشراك باللَّه تعالى، وفتنة المؤمنين في دينهم، وادعاؤه أنه أولى بالنجاة من المؤمنين إن كانت، وإنكاره البدث، وقوله: (. . . أَئِذَا كنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. . .).
وهذا الذي يقوله في الدنيا من افتراء على اللَّه وكذب، وكل هذا سيكون ميراثه يوم القيامة ينال عذابه ويدخل جهنم وبئس المهاد.
وإضافة الميراث للَّه سبحانه؛ لأنه سبحانه هو الذي يقوم بعمل التوريث في الدنيا، فيورثه أخلافه، على التفسير الأول، وهو الذي يورثه العقاب الأليم على المعنى الثاني وهو الذي نختاره، واللَّه - تعالى - أعلم بمراده.
وبعد ذلك بين اللَّه أنواع الكافرين، فبعضهم يتخذ آلهة من دون الله، وبعضهم قالوا اتخذ الرحمن ولدا، فأما الأولون فقال سبحانه فيهم:(9/4684)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)
(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
هذا فريق من الكافرين، وجعل سبحانه وتعالى الضمير يعود إلى جمعهم، لأنهم جميعا اتخذوا آلهة، فقوم اتخذوا أصناما آلهة، وآخرون عبدوا النجوم، وغيرهم عبدوا الملائكة وقالوا بنات اللَّه - تعالى - وبعضهم عبدوا الأشخاص، كالهنود الذين عبدوا كرشنه، والبوذيين الذين عبدوا بوذا. وكل يرى في معبوده نصيرا ينصره، وشفيعا يشفع له، وعبدة الأصنام كانوا يعبدونهم ليقربوهم إلى اللَّه(9/4684)
زُلْفَى، وقالوا: (. . . مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. . .)، وقد رد اللَّه سبحانه وتعالى ذلك ردا زاجرا، فقال سبحانه:(9/4685)
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
(كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
(كَلَّا) حرف للردع والزجر وبيان الغفلة وسوء التقدير والجهل؛ لأنهم في الوقت الذي يحتاجون إلى نصرتهم سيكفرون بعبادتهم، والضمير في قوله تعالى: (سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِم) يعود إلى العابدين، ويكون المعنى أنهم في يوم القيامة يوم يحتاجون إلى النصير، ويعتزون بالولي يكفرون بعبادة الأوثان التي كانوا يرجون منها النصرة والعزة في الدنيا؛ إذ تتبين حالهم ويتكشف أمرهم، ويرون أنها لَا تملك من أمرها شيئا، ويظهر الصبح، وينجلي الحق (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا)، أي يكون العابدون ضدا عليهم ولا يكونون معهم.
هذا على أن الضمير يعود على العابدين الذين عبدوا آلهة من دون اللَّه
- تعالى -، بل يصل الأمر إلى أن ينكروا عبادتهم لهم، كقوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وكما قال تعالى:
(وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6).
ويصح أن يعود الضمير على الآلهة التي اتخذوها من دون اللَّه، بتنزيل الأوثان منزلة العقلاء في زعمهم، والمعنى أن الأصنام التي أرادوها عزا لهم ستكون ضدا عليهم، وتتبرأ منهم فلا يكونون عونا لهم بل يكونون عونا عليهِم، كما قال تعالى: (وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86). وقال تعالى في سورة إبراهيم: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ(9/4685)
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22).
وربما يكون من الممكن أن نقول: إن الضمير يعود إلى العابد والمعبود، فكِلا الفريقين يكفر بالآخر ويكون عليه ضدا، واللَّه أعلم بمراده، ويقول الله تعالى في إغراء الشياطين:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
هذا بيان لتمكين اللَّه الشياطين من الكافرين باستفزازهم وتهييجهم للشر،(9/4686)
أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
(أَلَمْ تَرَ) الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، وفيه تنبيه إلى تمكن الشياطين، ونفي النفي إثبات، والاستفهام الذي بمعنى النفي داخل على منفي بـ " لَم "، والمعنى قد أرسلنا الشياطين، أي مكناهم من الكافرين يغوونهم، (تَؤُزُّهُمْ)، أي تستفزهم وتهيجهم إلى الشر تهييجا شديدا، وإن ذلك يزيل عجب النبي - صلى الله عليه وسلم - من إصرار الكافرين على كفرهم واستهزائهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، واجتماعهم على الباطل ورد الحق، فاللَّه سبحانه بين أن ذلك من تسليط الشياطين عليهم تستفزهم، وتهيجهم إلى الشر ليستحقوا نقمة اللَّه كاملة وسخطه عليهم، وأنه سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد، لا يزكيهم، وأنه يَعُدُّ عليهم ما يفعلون عَدًّا، وكلما أمعنوا في شرهم كان عليهم العذاب بمقدار إمعانهم، ولذا قال تعالى:(9/4686)
فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
(فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
" الفاء " لبيان أن ما قبلها سبب لما بعدها، أي أن اللَّه تعالى أراد لهم ذلك؛ لأنهم اختاروا لأنفسم أن يكونوا عبدة الشيطان فهو يستفزهم دائما، يرتكبون شرا بعد شر حتى يصلوا إلى أقصى الغاية فيه ويبتغوه، وكله محسوب عليهم معدود عدا، (إِنَّمَا) أداة قصر، أي إنما يفعل ذلك ليعد عليهم عدا، وكلما أكثروا كان العذاب على قدر مما يرتكبون. وفهم بعض المفسرين أن عَدَّهُ عَدًّا يدل على القلة، ونحن نقول: إن القلة بالنسبة لِلَّهِ تعالى، لَا أنه قليل في ذاته، ومعنى (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) لَا تطلبهم في عجل من أمرهم إنهم آتون إليك يوم(9/4686)
القيامة أذلاء صاغرين، وفي الدنيا لَا تعجل عليهم فسيكون عذابهم على يديك وتكون كلمة اللَّه هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.(9/4687)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
(يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
(يَوْمَ) متعلق بمحذوف معناه نؤجلهم إلى يوم يكون جزاء المتقين وجزاء المجرمين. والمتقون يحشرون مجتمعين على كرم اللَّه تعالى لهم، فيكونون وفدا، أي ركبا مكرما فيكونون وافدين كرماء، كما يفد الركبان على الرؤساء الأجواد، ويحلون محل الكرامة في ساحتهم، وقوله تعالى: (إِلَى الرَّحْمنِ)، أي أن الحشر إلى الرحمن الرحيم الذي يرحم عباده المؤمنين بجنة أورثوها بعملهم الطيب، ويستقبلهم عملهم الطيب كأنه رجل له عبير وعَرف الأطهار المطمئنين، ويدخلون الجنة تجري من تحتها الأنهار، أنهار من خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، وهذا إكرام وفد الأبرار، هذا وفد المتقين.
أما المجرمون فيُساقون سَوقا إلى جهنم، وهم عطاش يردون وردا يشربون منه فلا يجدون إلا حميما وماء غساقا؛ ولذا قال تعالى في حالهم يوم البعث ثم القيامة:(9/4687)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ)، أي ندفعهم مسوقين كالبهائم مُهانين غير مكرمين، لا إلى الرحمن رب العالمين، وإنما يساقون إلى جهنم وهم عطاش وكأنهم يذهبون إلى وِرد ماء يردونه ولكن يكون السَّوْق والدفع إلى جهنم فيكون وِردهم جهنم وبئس الوِرد المورود لهم، والوِرد الذهاب إلى الماء، وفي هذا تشبيه، أي أنه شبهت جهنم لهم بالوِرد الذي يردونه على أنه ماء، فماذا هو جهنم، فهي استعارة تمثيلية.
وهم يلقون في جهنم لَا شفيع يشفع؛ ولذا قال تعالى:
(لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)(9/4687)
لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
أى أنهم يكونون منقطعين للنار مخلدين فيها لَا يشفع لهم شافع، كما قال تعالى: (. . . مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ)، وقوله تعالى: (لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ)، أي لَا يتمكنون من أن يشفع شفِيع، فلا يقبل عدل، ولا تنفعهم شفاعة، ثم قال تعالى: (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا)، الاستثناء هنا منقطع قد قوبل فيه حالهم بحال المؤمنين، ومعنى الاستثناء هنا: لكن من اتخذ عند اللَّه عهدا يشفع له، والعهد هنا هو شهادة أن لَا إله إلا الله، وعبادة اللَّه وحده وهذا العهد تكون به الشفاعة لمن يأذن اللَّه تعالى له، كما قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا)، وكما قال تعالى: (ولا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، فلا شفاعة لمن لا يشهد بالحق، والشفاعة لمن شهد بالحق لمن يأذن اللَّه تعالى له بالشفاعة، وقال تعالى: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26).
* * *
كفر من قال اتخذ الله ولدا
قال اللَّه تعالى:
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ(9/4688)
الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
* * *
هذا هو القسم الثاني من الكافرين، والأول قد ذكرناه، وهم الذين يعبدون غير اللَّه من أوثان ونار وكواكب وشمس، وبعد أن بين مالهم، وعاقبتهم يوم القيامة، ذكر الذين فجروا وكذبوا على اللَّه تعالى:(9/4689)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88).
سرى هنا إلى الذين قالوا إنا نصارى من الأفلاطونية الحديث، والأفلاطونية الحديثة أخذتها من الهند، حيث إن البراهمة قالوا: إن كرشنه ابن براهما، وبوذا ابن اللَّه، ولقد أعظم الذين قالوا إنا نصارى، أعظموا الأمر وأضلوا أنفسهم، فزعموا أن اللَّه اتخذ ولدا، أي أراد أن يكون له ولد، واتخذ ولدا؛ لاحتياجه إليه، ثم أذاعوا بهتانا عظيما، فقالوا إنه قديم بقدم اللَّه تعالى (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ. . .)، وذكر اللَّه تعالى بوصف الرحمة، لأنه سبحانه رحيم بالجميع فكيف يكون مختصا بولد أو بصاحبة، ورحمته عامة للعالين.
ولأن ذلك الكلام الذي يقوله النصارى وكفروا به كفرا عظيما قال اللَّه تعالى في وصف هذا بقوله تعالى:(9/4689)
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
(لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)
أي لقد جئتم بهذا القول شيئا إِدًّا، أي منكرا تنكره العقول، ولا يليق بذات الله العلية، ولقد قال الراجز:(9/4689)
لقد لقى الأقرانُ منِّي نُكْرًا ... داهيةً دَهْيَاءَ إِدًّا إِمْرًا
وأى منكر يكون داهية للعقول أن يقول قائل: (اتَّخَذَ الرَّحْمَن وَلَدًا).
ويلاحظ أنه انتقل الكلام الكريم من الغيبة إلى الخطاب؛ ليوجه القول الشديد إليهم وينبههم إلى عظيم ما ارتكبوا، وأنهم أتوا بأمر تطابقت العقول المدركة على إنكاره، وهو خطير في ذاته لَا يقوله إلا مأفون في غفلة عن التفكير السليم المنطقي، ولقد كنا كلما تذاكرنا مع القائلين لهذا القول يقولون: إن ذلك فوق العقول لَا تدركه، وما هو بمدرك في ذاته؛ ولذا شاع بين فلاسفة النصارى كلمة المنطق الديني في مقابل المنطق العقلي البرهان، وقالوا: إن منطق الدين لا تطبق عليه مقاييس البرهان والاستدلال، ويقولون لأنه فوق العقل، ونقول لهم: إن منطقهم الديني أمر منكر في العقول، وهو إدٌّ في العقول، وهو أمر مع أنه نكر، هائل في بطلانه، وأثره في تضليل الأفهام، وغفلة العقول:(9/4690)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)
(تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)
هذا الهول من ذلك القول الذي قاله النصارى مقلدين للفلسفة المشتقة من الديانة الوثنية عند البراهمة والبوذيين، وهو قول يحاولون إدخاله في العقول، وهو بالنسبة للمحسوس (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) التفطُّر: معناه التشقق أجزاء مختلفة متعددة متكررة، وقرئ (ينفطرن) (1) من قبيل فعل المطاوعة، وهو من فطره بمعنى شقَّه، وانشق مما يحتاج إلى معالجة، ومما يصعب فطره، فلا يقال كسرت القلم فانكسر؛ لأن كسر القلم لَا يحتاج إلى معالجة ومحاولة، ولكن يقال:
كسرت الحجر فانكسر، أو كسرت الباب فانكسر.
وما المراد من هذا التصوير السامي العالي: أيراد به بيان هول هذه الكلمة، وأنها لو نزلت على السماء والأرض لتفطرت السماء وانشقت الأرض، وهدت
________
(1) قراء (يتفطرن) في سورة مريم: بالتاء، وتشديد الطاء: نافع وابن كثير وأبو جعفر، وعلى (الكسائي) وحفص، وقرأ الباقون (ينفَطِرْن) بنون ساكنة، مع كسر الطاء المخففة. غاية الاختصار: 2/ 566.(9/4690)
الجبال هدا، فالتصوير بيان بطريق التشبيه أو الاستعارة لضخامة البطلان فيها، من حيث إنها لو كانت محسوسا يجس ونزل على السماوات لتفطرت وتقطعت أوصال نجومها، ولو نزلت على الأرض لانشقت وهدت جبالها التي هي كالأوتاد.
ثم إن هذه الكلمة كانت تسوغ تعجيل العقاب عليهم بأن تنفطر السماء عليهم، وتنشق الأرض وتهد الجبال هدا، ولكن اللَّه تعالى يمسك السماء والأرض، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)، وإن ذلك بسبب هذا الافتراء والادعاء الباطل؛ ولذا قال تعالى:
(أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)(9/4691)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
(أَن دَعَوْا) المصدر المنسبك من " أن " والفعل مجرور بلام التعليل المحذوفة، والمعنى تتفطر السماوات والأرض لادعائهم أن للرحمن ولدا، وهو ادعاء ادعوه، ودعاء لهم في عباداتهم، فقد ادعوه افتراء على الله واتخذوه إلها في ضمن آلهة ثلاثة تابعين للمصدر الذي قلدوه فيها، وهو زعمهم الأب والابن وروح القدس، و (وَلَدًا) مفعول لـ (دَعَوْا)، إذ دعوه بغير علم ولا حجة، غير عارفين لمقام الألوهية، ولا مدركين، وذكر وصف الرحمن في هذا المقام؛ لأن هذا الوصف يحمل دليل بطلان قولهم، لأن رحمة الرحمن لكل عباد اللَّه، فلا يختص ابنا مدعى ولا مفترى.
ثم بين سبحانه أنه ليس من المعقول الذي يتفق مع كمال اللَّه وجلاله أن يتخذ اللَّه ولدا، ولذا قال:(9/4691)
وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
(وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
أي ما يسوغ ولا يعقل أن يكون للرحمن ولدا، لعدم الحاجة إلى الولد أولا، ولمخالفته للحوادث ثانيا، ولأن الولد يحتاج إلى صاحبة ثالثا؛ ولأنه لَا قديم إلا اللَّه رابعا؛ لأنه يؤدي كأصله الفلسفي إلى أن الأشياء تنشأ عن اللَّه تعالى كما ينشأ المعلول عن عِلَّته، واللَّه فاعل مختار يفعل ما يريد.(9/4691)
(يَنبَغِي) فعل مطاوعة من بغى، أي طلب بشدة لحاجته، وفعل المطاوعة كما ذكرنا هو الفعل بمعالجة، ومحاولة، وذلك لَا يكون من اللَّه سبحانه وتعالى، وذكر وصف الرحمن جل جلاله، لأنه كما ذكرنا ينافي وصف الرحمة للعالمين؛ ولذا قال تعالى في وصفه بالرحمة للعالمين وأنها تعمهم، ولا يخص بعضهم، ولا يكون ولد بالولادة لأنه لَا صاحبة، ولا بالتبني لأنه ليس من جنسه:(9/4692)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)
(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي، كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ " (1)، ولذا ما كان ينبغي أن يكون للرحمن ولدا؛ لأنه تطاول على مقام الألوهية من قائليه، لأن العباد جميعا بالنسبة له على سواء، وعيسى - عليه السلام - عبد اللَّه ورسوله. وكما قال تعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. . .). و (إنْ) في قوله تعالى: (إِن كُلُّ من فِي السَّمَاوَاتِ) نافية، أي ما كل من في السماوات والأرض إلا آتيه عبدا خاضعا خانعا للَّه سبحانه وتعالى، قائما بالعبودية، فالجميع خاضع له خضوع العبيد الأحياء وغير الأحياء، (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ من فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. . .).
وقوله تعالى: (إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)، إلا آتيه مقبلا على اللَّه تعالى إقبال العبد في خضوع وخنوع، خضوع العابد للمعبود، وهو اللَّه جل جلاله. ويقول الإمام الزمخشري في تفسير هذه الآية: والمعنى ما من معبود لهم في السماوات
________
(1) رواه البخاري: تفسير القرآن - لَا ينون أحد، أي واحد (4592) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. كما رواه النسائي وأحمد.(9/4692)
والأرض من الملائكة ومن الناس إلا وهو يأتي الرحمن، أي يأوي إليه ويلتجئ إلى ربوبيته عبدا منقادا مطيعا خاضعا خاشعا راجيا كما يفعل العبيد، وكما يجب عليهم لَا يدعى لنفسه ما يدعيه له هؤلاء الضُّلال، ونحوه قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ. . .)، وكلهم منقلبون في ملكه مقهورون بقهره، وهو مهيمن عليهم، محيط بهم، ويحمل أمورهم، وتفاصيلها، وكيفيتهم، وكميتهم، ومجيئهم، لَا يفوته شيء من أحوالهم.
وقوله تعالى:(9/4693)
لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)
(لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)
فيه معنى إحاطة علم اللَّه تعالى بهم وبأحوالهم وبأشخاصهم كما نقلنا عن صاحب الكشاف، وفيه أيضا إنذار للعصاة المذنبين، بأنه سبحانه وتعالى سيحاسبهم بمقدار تلك الإحاطة الشاملة، والمعرفة المتقصية التي لَا تدع صغيرة ولا كبيرة إلا دخلت في إحصائها، ولذا قال تعالى بعد ذلك:(9/4693)
وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
(وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
أي آتي اللَّه تعالى منفردا عما كان يعتز به من مال وبنين وعشيرة، ونفر وقوة، ولا شفيع ولا نصير، ولكن يلقون اللَّه تعالى بأعمالهم مجردة، وبأشخاصهم مجردين، وإن ذلك يوم القيامة، يوم يحاسب كل واحد على ما قدمت يداه، ويؤتى كتابه فيه إحصاء ما عمل، وتنطق أيديهم وأفواههم بما كانوا يقترفون.
وبعد أن بين اللَّه تعالى حال الكافرين من عبدة الأوثان، ومن كذبوا على اللَّه وقالوا اتخذ اللَّه ولدا، بين اللَّه سبحانه وتعالى حال المؤمنين في الدنيا فقال:(9/4693)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)، فسبقوا إلى الإيمان مذعنين للَّه، وقووا إيمانهم بالعمل الصالح، فالإيمان من غير عمل صالح يزكيه وينميه مآله أن يكون خاويا فارغا،(9/4693)
وقال اللَّه تعالى في ثمرثه الاجتماعية بالنسبة لعلاقاتهم الإنسانية (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا) بضم الواو وبكسرها، وبهما كانت القراءة، فقرئ بالضم. وقرئ
بالكسر، والود المحبة من غير حمل عليها، بل بانجذاب القلوب المؤمنة، فإن الإيمان يصفي قلوبهم، وينير بصائرهم، فينجذب بعضهم لبعض من غير تحبيب، بل بمقتضى الطهر الجامع. والإخلاص الذي يؤلف القلوب، ويؤاخي بين الناس، روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن لله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانهم من الله يوم القيامة " قالوا: ومن هم يا رسول اللَّه؟ قال: " قوم تحابوا بروح من الله على غير أرحام تربطهم ولا أموال يتعاطون، والله إنهم لنور، وإنهم لعلى نور "، ثم تلا قوله تعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
وكذلك كان المؤمنون الأولون، حتى إن الرجل من الأنصار بعد المؤاخاة كان يشاطر أخاه في ماله غير ضنين، بل إن بعضهم كان ذا زوجتين فهمَّ بأن يطلق إحداهما ليتزوجها أخوه، ولذا وصف اللَّه الأنصاري بقوله تعالى: (. . . وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ. . .).
ولقد كانت المحبة الصادقة والمودة الرابطة قوة المسلمين في مكة، حيث لا قوة لهم من مال أو جاه أو سلطان، فقد كانت هذه المودة دافعة أبا بكر لأن يشتري الأرقاء من المؤمنين، ويعتقهم، وقد صاروا فيما بعد قوة المسلمين في الجهاد وذوي شأن بين أهل الإيمان، وإنه من وقت زال الود الجامع للمؤمنين زالت وحدتهم، وذهبت قوتهم، ولا أستطيع أن أقول: إنهم خرجوا عن الإيمان، ولكن المؤكد أنهم لم يعملوا عملا صالحا، بل تنابذوا وذهبت ريحهم.
ولقد ذكر اللَّه سبحانه وتعالى ما يجمع شملهم ويوحد أمرهم، ويذهب شتاتهم وهو القرآن الكريم. فقال تعالى:(9/4694)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
(فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
الضمير في (يَسَّرْنَاهُ) يعود إلى القرآن؛ لأنه حاضر في قلوب المؤمنين يملأ أجواءهم بعطره ونوره فلا يحتاج إلى ذكر معين سابقا؛ لأنه مذكور دائما حاضر في القلوب لَا يغيب عنها، و " الفاء " للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر تقديره: إذا كانت حجتك الكبرى هذا القرآن العظيم، فإنما يسرناه بلسانك العربي، وسهلناه على كل عربي يقرؤه من غير عوج ولا عُجمة فيه ولا إبهام، لتبشر به المؤمنين الذين يدخل الإيمان قلوبهم؛ لأنهم يذعنون للحق إذا جاءهم، والناس أقسام ثلاثة:
القسم الأول: قسم آمن بالحق إذ جاءهم كأولئك الذين كانوا خلية الإيمان الأولى من أمثال أبي بكر وبلال وصهيب وزيد بن حارثة.
والقسم الثاني: قسم قلبُه منفتح للحق يجيب داعيه، ويحضر ناديه، وهؤلاء ومن سبقهم هم الذين يبشرهم القرآن بالجزاء الأوفى.
والقسم الثالث: اللُّدُّ وهم الذين يجادلون بغير الحق، وهؤلاء ينذرهم القرآن الإنذار الشديد لكيلا يكون لهم عذر في كفرهم، ولتقوم الحجة عليهم، كما قال تعالى: (. . . وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِير)، وقال تعالى: (. . . وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِين حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، واللسان هو اللغة وهي هنا العربية. واللُّد جمع ألد وهو الشديد الخصومة، ومنه قوله تعالى: (. . . وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ).
وقال الشاعر العربي:
أَبيتُ نَجِيًّا للهُمومِ كأنني ... أُخَاصمُ أقوامًا ذَوِى جَدَلٍ لُدًّا
ومن شأن أهل الجدل والخصومة أن يكون عقلهم في انحياز جانبي إلى تفكير، لَا يفتحون عقولهم لما يلقى عليهم فلا يستمعون إلى الحق إذا دعوا،(9/4695)
ويسيرون طويقهم غير مدركين حقا، والإنذار يزعج حسهم، وربما يهتدون، وإلا فهم في طريق الغواية سائرون وإن هؤلاء ربما يمهلهم اللَّه إلى يوم القيامة، حيث الحساب ثم العقاب على ما اقترفوا، وقد أنذر المشركين بما عصى الذين من قبلهم فأهلكهم اللَّه تعالى، ولقد قال تعالى:(9/4696)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
القرن: الجماعة من الناس التي تعيش في عصر واحد، فالقرن الجماعة، وليس الزمن، والرِّكز هو الصوت الخفي، ومعنى ذلك أنهم أبيدوا، وصارت آثارهم تنبئ عنهم ليكونوا عبرة المعتبرين، وليكونوا المَثُلات لمن يرتكبون مثل ما فعلوا، والركز يقال لكل شيء مختف، فيقال ركز الرمح، أي اختفى في الأرض والرِّكاز المال المختفي. كذلك قال الزمخشري في الكشاف.
وإن هذا بلا ريب إنذار للمشركين في الدنيا بالهلاك والدمار، كما كان لقوم نوح إذ أغرقهم، ولقوم هود وصالح إذ جاءتهم ريح صرصر عاتية، ولقوم لوط إذ جعل سبحانه وتعالى أرضهم عاليها سافلها.
وهكذا، ولكن المشركين لم ينزل سبحانه ذلك بهم، ولكنه ذكره لبيان عاقبة الكفر أولا، وعظيم قدرته ثانيا، وما يتعرضون له ثالثا، أما مشركو مكة فلم ينزل بهم ذلك العذاب المستأصِل؛ لأنَّ محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين فلا بد أن تبقى طائفة من أمته ظاهرة على الحق داعية إليه سبحانه، وقد كان من أولئك المشركين من هداه اللَّه وكان قوة للمؤمنين وعزًّا للإسلام، وكان من ذرية العاتين من صار من نصراء المؤمنين كعكرمة بن أبي جهل، والله بكل شيء عليم.
* * *(9/4696)
(سُورَةُ طه)
تمهيد:
هذه السورة مكية وعدد آياتها 135، وكلها نزلت بمكة، وقيل إلا آية 12، 13، وقد ابتدأت بخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الله تعالى ما أنزل عليه القرآن ليشقى بتحمل أعباء الكافرين في كفرهم، وليس هو إلا مذكر، والقرآن تنزيل من قوي قاهر خلق السماوات العلا، وهو المسيطر على هذا الوجود. (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) وهو يعلم كل شيء، (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى).
وقد تحدث سبحانه بحديث موسى عليه السلام في بعثه وخطاب الله تعالى له، وقد رأى نارا (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)، وبذلك أخبره بِاختياره نبيا ونبهه إلى معجزته الأولى وهي العصا، قال: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20).
وأمره أن يأخذها ولا يخاف، وأعقبها بمعجزة أخرى فقال: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23). كلفه بعد أن رأى هاتين الآيتين أن يدعو فرعون إلى الهدى فقال سبحانه:
(اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) ولكن موسى الكليم يحس بضعفه، وأنه لا يحسن القول فيقول: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)(9/4697)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35).
ويجيبه الله (. . . قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)، ولقد أشار سبحانه إلى منته الأولى عند ولادته إذ ألهم أمه (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ. . .)، ويذكر سبحانه بعض قصصه قبل الرسالة وقتله المصري وفتنته ببني إسرائيل، ويشير سبحانه إلى قصته في أهل مدين (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41).
وقد أمره سبحانه أن يذهب هو وأخوه إلى فرعون، وأن يترفقا معه في القول (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، ولكنهما يخشيانه لسطوته وجبروته واستهانته بكل إنسان، وهكذا يبرر سكوت الناس عن الطغاة واستنكار أعمالهم بالقلوب، ولقد قال الله تعالى لهما: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
أمرهما بأن يخبراه بوحى الله تعالى: (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)، أخذ فرعون يجادلهما، وسألهما من ربكما؟ قالا: (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)، وسألهما: فما بال القرون الأولى؟ قالا: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى)، وأخذا يعرفان فرعون بكمال الله تعالى في خلقه وببيان قدرة الله تعالى في الخلق والإعادة (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55).
ولقد أراه الله تعالى على يد موسى وهارون الآيات الكبرى، وكانت كلها حسِّية ولكنه لم يؤمن، وحسب أن موسى جاء لينزع ملك فرعون، لَا ليهديه، وكذلك كان يستعين الفراعنة الذين حكموا مصر في عصور النور: (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ. . .)، وجعلوا بينه وبينهم موعدا، وقد وافق موسى على أن يكون الموعد هو يوم الزينه يوم يحشر الناس ضحى.(9/4698)
التقى موسى بالسحرة فتبين للسحرة أن موسى ليس ساحرا، وأن معجزة موسى أعجزت السحرة فآمنوا، ولكن فرعون بدل أن يؤمن قال للسحرة: (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)، وهنا تبدو قوة إيمان المصري إذا آمن: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76).
ذلك إيمان المؤمن، ولقد أخذ موسى يأتي بالآيات حتى بلغت تسع آيات، ولكن لم يؤمن فرعون وملؤه، فامره بأن يسري ببني إسرائيل ليلا (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79).
أخرج الله بني إسرائيل من فرعون وطغيانه، ومكنهم من أرض سيناء، وقال لهم تعالت حكمته وكلماته: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81).
عالج موسى أمر فرعون الطاغية وأعانه الله تعالى عليه، ثم أخذ بعد ذلك يعالج بني إسرائيل وكان علاجهم أشد من علاج فرعون؛ لأن علاج النفوس التي تطغى وتضعف، ومردت على النفاق والضعف، ومعاشرة الكافرين، وتأثر نفوسهم بالكفر والشرك، ولذا صعب أمرهم.
ذهب موسى إلى ربه ففُتن بنو إسرائيل بالعجل من بعده فقال الله تعالى:
(وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85).
أضلهم السامري بأن صنع لهم تمثال عجل من ذهب، ووضعه لهم في مهب الريح فإذا هبت صوَّت(9/4699)
بصوت يشبه الخوار (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خوَارٌ. . .)، ولتأثرهم بعبادة العجل التي كان المصريون يمارسونها قالوا: (. . . هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسى. . .)، ولكنِ إذا كان له صوت خوار فليس بحي، ولا فيه حياة (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89).
فعلوا ذلك في غيبة موسى عليه السلام، وأخذ هارون يرشدهم ويقول: (. . . يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90).
ولكنهم أصروا على عبادته وقالوا: (. . . لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى). جاء موسى فوجَّه اللوم إلى أخيه هارون عليهما السلام، ولكن اعتذر نبي الله هارون بأنه خشي أن تكون فرقة بين بني إسرائيلِ، وقال: (. . . يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)، وعلى أي حال فهارون عليه السلام لم يشاركم في عبادة العجل، كما قالت التوراة المحرفة غير الصادقة، وكان هذا من أعظم الأدلة على تحريفها، بعد أن عاتب أخاه وحسبه مقصرا اتجه إلى السامري الذي أضلهم فقال: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بمَا لَمْ يبْصُرُوا بِهِ. . .) من الصناعة، صناعة التماثيل، (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ)، أي من تعاليمه ودعوته إلى التوحيد (. . . فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)، كان هذا دليلا عمليا على أن ذلك الصنم لا يملك من أمره شيئا، ولذلك قرر ألوهية الله وحده. (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98).
هذه أطراف من قصة موسى عليه السلام، وقال تعالى في ذلك: (كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99).
وبين سبحانه عاقبة من أعرض عن ذكرِ الله تعالى، وأشار سبحانه إلى يوم القيامة (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا)، مبينا سبحانه حال الناس يوم القيامة وحال الأرض، وما فيها (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ(9/4700)
وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110).
بعد هذا بين سبحانه أن الوجوه كلها تكون عانية خاضعة، وقد خاب من حمل ظلما، بين سبحانه منزلة القرآن وأنه نزل عربيا، وصرف فيه من الوعيد ما تهلع له القلوب، فتعالى الله الملك الحق (. . . وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114).
ويقول سبحانه تذكيرا لابن آدم، وبيان عرضته للخطأ والنسيان، فيقول
سبحانه: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)، فذكر سبحانه
أبانا بأنه حذره من الشيطان وقال له: (. . . إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)،
ولكن وسوس إليه الشيطان: (. . . قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121).
وهبط آدم وزوجه وإبليس إلى الأرض بعضهم لبعض عدو، وقال لهم رب البرية: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)، وإن العذاب عذابان: عذاب الدنيا بالضلال والعمى عن الحق، وهذا عذاب لأهل العقول، وعذاب في الآخرة وهو أشق وأبقى.
يذكر الله سبحانه بعد ذلك العبر في الماضين الذين أهلكوا وكان يمكن أن ينزل مثل ذلك بالمشركين الذين كفروا بمحمد، وفتنوا المؤمنين، وضلوا، ولكن سبقت الكلمة ببقائهم ليكون من ذريتهم من يعبدون الله تعالى، وقال تعالى في ذلك: (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129).
واتجه سبحانه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمره بأصبر على ما يقولون، وأن يسبح الله تعالى (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130).(9/4701)
ولقد نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أن يمد عينيه، ويتطلع إلى ما هم متمتعون به من متع هي زهرة الحياة الدنيا، وذلك أمر لأمته، فلا تتطلع إلى ما هم فيه من متع فهي فتنة (. . . وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132).
لقد تعللوا في كفرهم بتعللات ظاهرة البطلان طلبوا آيات حسية، وقالوا:
(. . . لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133).
لقد جاءهم الرسول مبشرا ونذيرا، ولكنهم كفروا وعاندوا (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135).
* * *(9/4702)
معاني السورة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
* * *(9/4703)
طه (1)
(طه) قال أبو بكر الصديق: إنها من أسرار الله تعالى، أي أنها كغيرها من الحروف التي تبتدأ بها السور مثل (الم، المص، الر) وقد تكلمنا فيما تشير إليه في عدة سور مما سبق.
ولكن مع ذلك نسرد ما قيل في ذلك، قيل: إن (طه) اسم لله تعالى، وقيل:
إنها اسم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وربما يسوغ ذلك أن ما بعدها كان خطابا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فكأنه نودي بذلك، ثم ألقى القول والبيان المنبه إلى ما عليه في هذه الرسالة، فليس عليه أن يؤمنوا، وإنما عليه التذكرة فلهذا القول وجه من التوجيه.
وقيل: إنها فعل أمر أصله " طأ " قلبت الهمزة هاء، ويصح أن يقال: إنها قلبت ألفا ثم جاءت هاء السكت بدلا عنها، وقيل: إن معناه " يا رجل "؛ لأن طه في لغة عَكّ (1) معناها يا رجل. وقيل: هي بهذا المعنى في لغة الحبشة.
________
(1) قبيلة باليمن، قال أبو القاسم الزجاجي: سميت بـ " عَك " " حين نزولها، واشتقاقها في اللغة جائز أن يكون من العكّ وهو شدّة الحر، وقد اختلف في نسب عكّ، فقيل ينتهي نسبها إلى قحطان، وهو قول من نسبه في اليمن، وقال آخرون: هو عك بن عدنان بن أدَد أخو مَعَد بن عدنان. معجم البلدان - عك. (مختصرا).(9/4703)
وإني أراها كأخواتها من الحروف التي تبدأ بها السور، يقال: إنها أسماء للسور، وإذا كان ثمة احتمال لأن تكون بمعنى ندركه، فإنا نميل إلى أن يكون اسما للرسول - صلى الله عليه وسلم -.(9/4704)
مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
(مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
وهناك قراءة (ما نزلنا عليك القرآن)، وفي هذه القراءة إشارة إلى تنزيل القرآن منجما، ولم ينزل دفعة واحدة، بينا ذلك في مواضعه من القول، وقوله تعالى: (لِتَشْقَى) " اللام " لام التعليل، أي ما أنزلناه عليك لتتعب وتذهب نفسك عليهم حسرات إذا لم يؤمنوا، كما قال تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وقال تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ عَلَى آثَارِهمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَديثِ. . .)، وقال تعالى: (وَلا يَحْزُنكَ الًّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. . .)، فالنبي - صلى الله عليه وسلم -كان يحمل هَمَّ كفرهم، ويحسب أن ذلك قد يكون عن تقصير في دعوته، وذلك لقوة حِسِّه وشفافية روحه، ولحرصه على إيمانهم قال له ربه: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي منْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ. . .)، وقال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ)، هذا تقريب لمعنى (لِتَشْقَى)، والكمال لله وحده.
وقال:(9/4704)
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
(إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
الاستثناء منقطع بمعنى " لكن "، والمعنى ليس عليك أن تهديهم، وإنما عليك أن تذكر من يخشى ويتقي الله تعالى، ولكن لماذا خص من يخشى بالتذكرة مع أن التذكرة تكون لمن يخشى ولمن يعصى، فهو بشير ونذير، وذلك لبيان أنه يجب أن يرجو إيمان الذين يخشون، لَا الذين يعصون، فكان حذف إنذار العصاة لبيان أنه لَا ينبغي أن ينتظر منهم إيمانا. و (تَذْكِرَةً) مفعول لأجله، ويكون المعنى ولكن أنزلناه لأجل تذكرة من يخشى وحسبك هؤلاء أن يكونوا مؤمنين.
وكان المؤدى النهائي للآيتين: لَا تحزن، وحسبك من اتبعك من المؤمنين.
وقد بين سبحانه وتعالى شرف القرآن الإضافي قال:(9/4704)
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)
(تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
هذا بيان الشرف الإضافي(9/4704)
للقرآن، وذلك فوق شرفه الذاتي بما اشتمل عليه من أسباب الإعجاز، وما اشتمل عليه من علوم، ولأنه سجل النبيين ومعجزاتهم، وقوله تعالى: (تَنزِيلًا) مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره، ونزل تنزيلا، ويلا حظ هنا أمران بيانيان:
أولهما: أنه ذكر " تنزيل " وفعله " نزَّل "، وهو التنزيل المقرر مجيء القرآن منجما آية بعد آية، أو سورة بعد سورة، حتى يمكن حفظه مرتلا محفوظا في الصدور، فلا يُحرَّف ولا يُنسى على مدى الأجيال، بينما قال سبحانه وتعالى: (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لتَشْقَى) فذكر بفعل الإنزال لَا التنزيل؛ لأنه كانت العبرة في أنه أنزله كله لينذرَ به ويبشر، لَا ليشقى، فكان التعبير بالإنزال في موضعه من النزول في جملته لَا في تفضيله، أما هنا فإنه يحكي الواقع، وهو التنزيل شيئا فشيئا.
الأمر الثاني: أن في الكلام التفاتا من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب، وذلك لتصريف القول؛ ولأنه من قبيل الرفق بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي يكون منه التكليف، فكأنه سبحانه يقول، ولكلامه المثل الأعلى، ما أنزلت القرآن وكلفتك ما فيه لتشقى، فهوِّن عليك، ولا تأس على القوم الكافرين، وأما في هذه الآية فهو يبين صفاته سبحانه وأفعاله، فيناسبها حديث الغائب.
وإن الله سبحانه بين علم ميزة القرآن وقدرته، وأنه جاء مناسبا لمن بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم فمهما تكن لهم من قوة فالله غالب عليهم، وهو القاهر فِوق عباده، وقد ابتدأ سبحانه بالأرض فقال عز من قائل: (. . . مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْض. . .) لأنه سبحانه في أكثر آي القرآن يقدم في الخلق السماوات على الأرض؛ لأنها أعظم خلقا، ولكن هنا قدم الأرض لأنها التي يدَّعي المشركون وغيرهم من الطغاة السلطان فيها، فبين الله تعالى أنه خالقها فهو لها أَملك، وسلطانه عليها، ثم ذكر سبحانه السماوات بصورة عالية في الفخامة، وهو سبحانه خالقها، وليس لهم أي مكان للسلطان فيها.
ثم قال تعالى:(9/4705)
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
العرش: هو المكان الذي يتجلى فيه سلطان الله، ولقد نسب لعلماء السلف أنهم قالوا: إن لله عرشا لَا يعرف كيفه، والله تعالى يستوي عليه، وهو أعلم باستوائه ولكنه غير مجسم، ولا مشابهة فيه للحوادث، وقد يقال: إن ذلك دليل على كمال سلطانه وإن الخالق الذي(9/4705)
لا يخرج شيء مما خلق عن سلطانه، كما يقال: وضع الأمير يده على المدينة، وربما يكون مقطوع اليدين، وكما يقال عن البخيل: يده مغلولة، وعن الكريم: يده مبسوطة، وربما لَا يكون له يد بل تكون مقطوعة، والله سبحانه وتعالى أعلم، وليس الخوض في هذا مما يمكن الوصول فيه إلى حق جلي، ولذا روي عن الإمام مالك أنه قال: " الخوض فيه بدعة ".
بعد ذلك بين سبحانه وتعالى كمال سلطانه بكمال ملكه، فقال عز من قائل:(9/4706)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
(لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
في الآية السابقة بين سبحانه أن الرحمن هو الذي استوى على العرش، وعبر عن الذات العلية بالرحمن الذي هو اسم بالذات، وهو يوحي إلى أنه سبحانه وتعالى مدبر عرشه بمقتضى الرحمة التي تعم الوجود كله، فكل ما يكون هو الرحمة، حتى عذاب العصاة يكون رحمة ليستقيم ميزان الوجود كله فإنه في شريعة الخلاق العليم، لا يستوي الخير والشر، ولا يستوي الظل ولا الحرور.
وقد ذكر سبحانه أن له السماوات بأبراجها ونجومها، وكلها مسخرات بأمره وله الأرض بما فيها من نجاد له ووهاد، وجبال شامخات وبحار وما فيها من أسماك وسفن جاريات تمخر عبابه، وما بينهما من فضاء قد سُخِّر للإنسان، ثم قال تعالى: (وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) من معادن وفلزات وغير فلزات وجواهر، وهذا كله من نعم الله على عباده يستخرجون من بحارها وترابها زينة، وهو العليم القدير.
وإذا كانت هذه الآية الكريمة قد بينت ملكه العظيم الذي لَا يخرج عنه شيء - بيَّن سبحانه علمه العظيم الذي لَا تخفى عليه خافية في السماء أو في الأرض، وخصوصا الإنسان فقال تعالى مخاطبا نبيه:(9/4706)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن مضمونه يعم الناس أجمعين فهو سبحانه يعلم الجهر، ويعلم السر وهو ما يسره وينطق به في خفت، وما هو أخفى من السر، وهو ما تتحدث به الأنفس، يعلم الله تعالى كل ذلك، وقد يسأل سائل: ما مناسبة هذا في هذا الموضع؟ ونجيب عن ذلك، بأنه بيان لعموم علمه ودقته، وهو بعض نتائج ما تقدم (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، وهو يناسب الحديث مع النبي الهادي الأمين، يبين له سبحانه أنه يعلم ما(9/4706)
يجهر به من دعوته ويعلم ما يتمناه، ويعلم ما ينطق به سرا من غير إعلان، وهذا يشعره بأنه يعلم دعوته وجهاده في الدعوة، ويعلم ما يتمناه من إسلام قومه حتى يكاد يشقى بهذه التمنيات.
ثم بين صفات الكمال والجلال فقال سبحانه:(9/4707)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
(اللَّهُ) بالرفع خبر لمبتدأ محذوف، وصدَّر القول بلفظ الجلالة؛ لأنه يربِي المهابة في النفوس فيملؤها خشوعا وخضوعا لله تعالى، وقال: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ)، لأنه خالق كل شيء ومالك كل شيء وهو العليم الخبير، وهو اللطيف بعباده، ولا يملك غيره نفعا ولا ضرا: (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) التي كلها أحسن ما في الأسماء، ولقد كان المشركون يحسبون أن الرحمن إله غيرهم، فقال الله تعالى:
(قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى. . .)، وكل ما ذكر في القرآن الكريم من صفات للذات العلية هي أسماء له سبحانه، وهو سبحانه وتعالى واحد، وأسماؤه كثيرة.
* * *
من قصة موسى
(وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
* * *(9/4707)
هذه قصة موسى كما جاءت في هذه السورة، وقد فصَّل فيها ما لم يفصِّله في السور الأخرى، وأجمل فيها ما فصله في السور الأخرى من غير تكرار في القرآن، كما يدل على ذلك الاستقراء والتتبع، فالمقصد مما يذكر في كل موضع يختلف عن المقصود في الموضع الآخر، والعبرة تختلف في موضع عن الآخر، والتفصيل يتبع العبرة، والإجمال يكون فيما يجيء تابعا لذلك.
قوله تعالى:(9/4708)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9)
(وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى) الاستفهام للتنبيه إلى الخبر الخطير الذي يقصه عن موسى عليه السلام، وكيف كلمه ربه، و (الحديث) ما يتحدث به، والمراد بـ (حَدِيتُ موسى) ما يتحدث به عن موسى، فالإضافة لأدنى ملابسة، والاستفهام كما قلنا للتنبيه إلى أمر خطير، وكان الاستفهام عن علمه - صلى الله عليه وسلم -، وإذا لم يكن على علم به فإنه سبحانه سيُعلمه. والحديث في الوقت الذي كان يطلب فيه نارا رآها يشير إلى ضوئها في ليلة قارة شديدة البرودة والظلام، وكان في ظلام حالك:(9/4708)
إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
(فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا ... (10)
أي اثبتوا في أماكنكم، (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا)، أي رأيتها واستأنست بها في وحشة ذلك الظلام الحالك وذلك الليل البهيم (لَّعَلِّي آتِيكُم) في مكثكم وسعيي لها (بِقَبَسٍ) أي جذوة أو شعلة تصطلون بها من قركم وتشعلون بها مشعلا يضيء لكم، ويكشف لكم الظلمة الحالكة (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) (عَلَى) بمعنى " عند "، والمعنى أو أجد عند النار هدى أعلم معالم الطريق، ونسير على هدى هذه النار، وهناك من قال: إن الهدى هو الهداية، لأن طالب الحق يكون في شاغل من أمره بطلب الهداية، وخصوصا مثل الكليم الذي ثار على ظلم فرعون. ولقد ذكرت القصة في سورة القصص بتفصيل في ذلك، فقد جاء في سورة القصص (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)، وهذه مشاق تحملها موسى كليم الله تعالى، وقد تربى منعما مرفها في بيت فرعون، ولكنه آثر حياة الجد على حياة اللهو والترف فلم يُرِد أن يكون من المترفين فكان من النبيين.(9/4708)
ذهب عليه السلام إلى النار فلم يجد الهداية إلى الطريق الحسي، ولا الخبر الذي يتعلق بعيشه في هذه الأرض، بل وجد الطريق إلى الهداية والحق، وجد ربه:(9/4709)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)
(فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
أي فلما أتى النار نودي، والنداء كان (يَا موسَى)، وكان النداء بـ " يا " التي تكون نداء للبعيد، البعد بين صاحب النداء جل جلاله، وعبد من عباده هو موسى عليه السلام، وقد شرفه الله تعالى بهذا النداء الكريم من رب البرية، وشرفه بأن ذكر اسمه وفيه من المحبة، إذ هو نداء الله الرحمن الرحيم إلى حبيب من أصفيائه المخلصين(9/4709)
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
(إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ... (12)
قرئ بفتح الهمزة في (إِنِّي) وقرئ بالكسر (1)، ويكون بالفتح تفسيرًا للنداء أي النداء أنا ربك، وعلى قراءة الكسر يكون النداء متضمنا معنى القول، و " إن " تكسر بعد القول.
وقد أكد ضمير المتكلم، وهو ياء المتكلم بتأكيدين أولهما: " إنَّ " المؤكدة، وثانيهما الضمير الظاهر (أَنَا) المؤكِّد لياء المتكلم، وكان التأكيد لغرابة المؤكَّد في ذاته، ولغرابته على موسى عليه السلام، أما الغرابة في ذاتها فهو أنه من أغرب الغرائب أن يكلم اللَّه أحدا من عباده، فقد يوحى إليه، أما أن يكلمه فذلك أمر غريب لم يكن به عهد حتى عند الأنبياء، وأما الغرابة بالنسبة لموسى فهو أنه خرج من مصر هاربا من مظالم فرعون وقهره، وفرضه على الناس عبادته حتى يقول لهم ما لكم من إله غيري، وقد خرج محتاجا يقول: (. . . رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خيرٍ فَقِيرٌ)، ثم مأجور يزرع ويرعى الغنم، ولكنه يفاجأ بأن يخاطبه ربه من وراء حجاب، ولذا كان التأكيد في موضعه ليأنس بربه وتذهب عنه وحشة الاغتراب، و (رَبُّكَ) معناه الذي خلقك، وربك، وأقامك، وقام على رعايتك والعناية بك. (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) " الفاء " فاء الإفصاح، وهي تفصح عن شرط مقدر، أو هي تفيد أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، فإنه يترتب على أنه في الحضرة
________
(1) بفتح الهمزة: ابن كثير وأبو عمر، وأبو جعفر المدني عن يزيد، وقرأ الباقون بكسر الهمزة. غاية الاختصار: 2/ 567.(9/4709)
القدسية، أن يكون الأمر بخلع نعليه، وذلك الخلع للخشوع والخضوع، إذ هو في الحضرة الربانية، وهو بواد مقدس طاهر، وإن الناس إذا كانوا في حضرة ملوك الأرض خلعوا نعالهم، فكيف إذا كان موسى في حضرة ذي الجلال والإكرام وأضل والإنعام، وإن في هذا الفعل الحسي إشعار للنفس بأن تتفرغ لله تعالى، وأن يكون الله وحده هو شاغلها، فلا يشغلها شيء سواه، وقال تعالى: (إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ) المطهر من الأرجاس الحسية والمعنوية، وهو (طُوًى)، وهو اسم لواد في هذه الأرض المقدسة، وحسبه شرفا أنه قد تجلى الحق فيه وكلم موسى تكليما.
يقول تعالى مخاطبا نبيه موسى عليه السلام:(9/4710)
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ... (13)
كرر الضمير تأكيدا لخطابه سبحانه وتعالى، ولإيناسه، وإزالة الاستغراب و (اخْتَرْتُكَ) معناه أنه اختاره لرسالته، كما قال تعالى في آية أخرى. . . (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144).
وقوله تعالى: (فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) الفاء للعطف وللترتيب والتعقيب، فالاستماع لما يوحى الأمر به مترتب على الاختيار له، أو هو موضوع الاختيار ذاته، وما يوحى إليه هو التوراة وما فيها من شرائع وأحكام وأساسها عقيدة صحيحة مستقيمة هي ما تضمنه قوله تعالى:(9/4710)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
(إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
لهذه الجملة السامية بيان لمعنى ما يوحى الله به مما يجب الاستماع له والأخذ به وتبليغه، وأن يخاطب به فرعون، وما ذكره في هذا المقام، هو لب التدين، فلبُّ التدين هو عبادة الله وحده وإقامة الصلاة لذكر الله تعالى، والخشوع والركوع والسجود، فالصلاة كلها ذكر لله تعالى، وهي شرعت لتمتلئ القلوب بالله، ولتكون مطمئنة لذكر الله تعالى: (. . . أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، وذكر الله تعالى هو الذي ينقي القلوب من أدران الهوى، والقلوب التي تذكر الله تعالى لَا يدخلها الشيطان، ولا يسكن الشيطان إلا القلوب الفارغة من ذكر الله تعالى، ولقد قال الزمخشري في معنى (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكرِي)، " لذكري: أي(9/4710)
لتذكرني فإن ذكري أن أعبد وليصلي لي، أو لتذكري فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار. . . أو لذكري خاصة لَا تشوبه بذكر غيري أو لإخلاص ذكري، وطلب وجهي لَا ترائي بها، ولا تقصد بها غرضا آخر، أو لتكون لي ذاكرا غير ناسٍ، فعل المخلصين في جعلهم ذكر ربهم على بال منهم وتوكيل هممهم وأفكارهم به، كما قال تعالى: (. . . لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكرِ اللَّهِ. . .). هذه معان متوافقة غير متضاربة لكلمة (لِذِكْرِي) ولتوافقها صح أن تكون كلها داخلة في معنى هذه الكلمة السامية (لِذِكرِي).
بعد ذلك ذكر سبحانه لموسى عليه السلام الإيمان بالقيامة والبعث، وما يتصل بالآخرة، وإن هذا فيصل التفرقة بين الإيمان والزندقة، فالإيمان بالبعث وما يعقبه هو قوام الشخصية المؤمنة وهو الإذعان، وبه يكون السير إلى الله، ولذا جعل من أركان الإيمان مع التوحيد والصلاة لامتلاء النفس بذكر الله تعالى.(9/4711)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ... (15)
أي أنه سبحانه وتعالى أخفاها لأنه لَا يبين للناس متى تكون، ولم يعط علمها لنبي، ولا لأحد من الناس، مع تأكيد وقوعها من غير تعيين لزمانها، فكانه أخفاها، أخفى زمانها وأكد وقوعها، فهو لم يخفها، ولو كان أعلم الناس بها علمًا كاملا لأعلم متى تكون، ولكنه أكد مجيئها.
وقوله تعالى: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْس بِمَا تَسْعَى) " اللام " متعلقة بـ (آتِيَة)، أي أن مجيئها للجزاء فيجزى من عمل عملا صالحا جزاء صالحا، ومن عمل عملا سيئا يجزى جزاء وفاقا لما ارتكب، وهكذا يكون كل مجزيا بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. فما خلق الإنسان سدى يفعل ما يشاء من غيرِ حساب على ما فعل وجزاء للخير الذي أراده ونواه وفعله، وقوله تعالى: (بِمَا تَسعى)، أي تجزى جزاء بالذي تسعى، " الباء " للمقابلة أي مقابل ما تسعى، أو تجزى بذات ما تسعى وذلك لمساواة السعي مع الجزاء فكأنه هو هو.
ولقد أشار الله سبحانه لنبيه وكليمه موسى إلى أنه سيلقى عنتا من الذين لا يؤمنون بالبعث، وقد نهاه سبحانه عن مطاوعتهم وهو لكل أتباعه، فقال تعالى:(9/4711)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
(فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
" الفاء " للإفصاح، إذ تفصح عن شرط مقدر تقديره: إذا كانت آتية، وإن كان زمانها خافيا، فبين للناس وجوب الإيمان بها، ولا يصدنك عنها من لَا يؤمن بها فلا يؤمن بالبعث، ويقول: إن هي إلاحياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، والسبب في عدم إيمانهم بالبعث هو سيطرة أهوائهم عليهم، ولذا قرن بعدم الإيمان باليوم الآخر اتباع الهوى.
وقوله تعالى: (فَتَرْدَى) الخطاب لموسى عليه السلام، والفاء للسببية، أي الصد عنها سبب الوقوع في الرَّدى، والنهي في " لا يصدنك "، نهى عن قبول أسباب الصد، وهو محاولة الكافرين، منع الإيمان باليوم الآخر، أي نهى عن تمكينهم من الإغراء به، فكن صلبا في بث روح الإيمان باليوم الآخر حتى لَا يطمع أحد من الكافرين في أن تصد عنه، والنهي عن ذلك بالنسبة لنبي الله تعالى ليس لاحتمال أن يقع، بل إن ذلك لمكان الإيمان بالبعث من الإيمان والله أعلم.
* * *
معجزته
(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
* * *
خاطب الله موسى عليه السلام بأنه اختاره رسولا نبيا، واصطفاه بكلامه، ولكن يظهر أنه كان يخاطب بكلام الله تعالى من وراء حجاب، وأنه كان يوحى إليه بتعليماته وأحكامه، ولذا قال له وهو يكلمه، فاستمع لما يوحى، فكان خطاب الله(9/4712)
تعالى بكلامه من وراء حجاب، وخطابه له بالوحي كغيره من الرسل، خاطبه الله تعالى بالمعجزة وأعطاه ما يدل على صدقه، وهو العصا، وضم يده إلى جناحه وإخراجها من غير سوء، مع آيات أخرى كانت تجيء كل آية في مناسبتها.
قال تعالى لنبيه وكليمه:(9/4713)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) الاستفهام للتنبيه إلى حالها التي عليها من أنها خشب شجر، أو نحوها، وإلى ما ستئول إليه بعد ذلك من أنها حية تسعى، و (بِيَمِينِكَ) صلة لموصول محذوف وقامت الصلة مشيرة إليه، أي: وما تلك التي بيمينك، وكان التنبيه والإشارة إلى كونها، ولكن موسى عدل عن بيان ما هي عليه، وعن مادتها إلى بيان ما يستخدمها، واكتفى في بيان ماهيتها بقوله (هِيَ عَصَايَ ... (18) والياء ياء المتكلم فُتِحَت لوقوعها بعد ألف " عصا "، وقرئ بكسرها تخلصا من التقاء الساكنين بالكسر، وهو الأصل في التخلص من التفاء الساكنين.
وخلاصة القول، أن الاستفهام توجيه لذهن موسى عليه السلام إلى أن ينظر في حقيقتها لكي يدرك من بعد وجه الإعجاز إذا رأى حالها بعد ذلك في الحال التي تتحول إليها.
وقد أجاب موسى عليه السلام إلى المنفعة التي ينتفع بها فيها وذكر أمرين وأمر ثالث فيه شتى المنافع، الأمر الأول مما ذكره عبر عنه عليه السلام بقوله:(9/4713)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
(أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا)، أي أعتمد عليها في متابعتي للغنم، ومراقبتي لها عندما يحل بنا التعب، أو أعتمد عليها في كل الأحوال في مراقبتي لها، والأمر الثاني ذكره بقوله: (وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي)، أي أخبط على رأسه خبطا خفيفا، لأبعده عن مواطن تضره، وذلك من هش الورق إذا خبطه خبطا يسيرا لينظمه، وفي ذلك دلالة على الرفق بهذا الحيوان الضعيف وتوجيهه بأقل ما يكون من توجيه من غير ضرب ولا زجر، ولذا كان النببون يُعَوَّدون الرفق برعاية الغنم، فهذا نبي الله موسى قبل أن يبعثه الله رسولا نزعه من قصور فرعون إلى رعاية الغنم، وهو القوي الذي وكز الرجل من آل فرعون فقضى عليه، فكان لابد أن يذوق الفقر ويتعود الرفق في رعي الغنم. والأمر(9/4713)
الثالث الذي أشار إليه هو قوله (وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى) والمآرب جمع مأربة بضم الراء وكسرها وفتحها، وهي الحوائج والمنافع، وقال (أُخْرَى)؛ لأن جمع ما لا يعقل يكون بالمفرد المؤنث كقوله تعالى: (. . . يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ. . .)، فقد خوطبت الجبال بالمفرد المؤنث، وقد روي عن ابن عباس أنه عدَّ هذه المآرب فقال: " إذا انتهيت إلى رأس بئر فقصُر الرشا وَصَلْتُه بالعصا، وإذا أصابني حر الشمس غرزتها في الأرض، وألقيت عليها ما يظلني، وإذا خفت شيئا من هوام الأرض قتلته بها، وإذا مشيت ألقيتها على عاتقي، وعلقت عليها القوس والكنانة والمخلاة، وأقاتل بها السباع عن الغنم ".
وقد أفاض الرسول في الرد بعض الإفاضة باتجاهه إلى بيان منافعها فبدل أن يقول في ماهيتها: عود من شجرة، ليستأنس بكلام ربه فهو كلام العلي الأعلى.
وكانت هذه العصا بعد ذلك أداة ظاهرة للمعجزات فبها ضرب البحر فافترق، وكان كل فرق كالطود العظيم، وضرب الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا.
ذكر موسى لربه ما ينتفع به من العصا، فصَّل ما فصَّل، وأجمل ما أجمل، وقد نبهه الله تعالى إلى منفعة للعصا فوق كل ما ذكر؛ لأنها تكون ليست لغيره، وقد نبهه ربه إلى الإعجاز فيها فقال:(9/4714)
قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19)
(أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19)
الضمير يعود إلى العصا أي ألق ذات العصا التي بيدك، وهي العود من الخشب، فانظر كيف ينقلب ذلك العود إلى مخلوق آخر، وفي ندائه عند الإلقاء بكلمة (يَا مُوسى) إدناء إليه وتحبب له وتقريب،(9/4714)
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)
(فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) الضمير في قوله تعالى: (فَأَلْقَاهَا) يعود إلى العصا التي هي عود من شجر والتي كانت منها المنافع التي ذكرها عليه السلام، ولها تلك الخواص الخشبية تنقلب حية تسعى، أي تكون من لحم يتلوى يمينا وشمالا بعد أن كانت خشبا يتوكأ عليه وله فيها مآرب أخرى وحاجات تكون من الخشب لا من حَية، و " الفاء " و " إذا " للمفاجأة، وكانت المفاجأة في أنها تحولت من خشب جامد إلى حي متحرك، والحية هي الثعبان، ولكن لَا يقال لها ثعبان إلا إذا كانت كبيرة، ويقال لها جانٌّ، وهو الرفيع السريع الحركة من الحيات، وقد جاء في عبارة(9/4714)
القرآن عن حية موسى التعبيرات الثلاثة، فقال تعالى: (فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مبِين)، وقال تعالى:. . . (فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ. . .)، ويظهر أنها كانت تكون على حسب المقامات، فعندما التقى بسحرة فرعون كانت ثعبانا كبيرا يلقف ما يأفكون، ويظهر أن المفاجأة التي اعترت موسى عليه السلام إنما هي من انقلاب الخشب الجامد إلى حية تسعى، والسعي هو المشي السريع، ومن ذلك السعي بين الصفا والمروة، فكانت المفاجأة من الانقلاب حية، وأنها تسير سيرا سريعا شديدا، ويظهر أنه من فرط المفاجأة ولى مدبرا ولم يعقب، كما قال تعالى في آية أخرى قد تلوناها من قبل، وقد ناداه ربه (. . . يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ. . .)، وهنا قال له تعالى:(9/4715)
قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
(قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
ما كان لموسى وهو مضطرب بسبب المفاجأة، لهذا الانقلاب أن يمد يده إليها ليأخذها إلا بعد الاطمئنان، وقرار النفس، ولذا قرن سبحانه وتعالى الأمر بأخذها بالنهي عن الخوف لتقر نفسه وتطمئن، وبين له أن ما أزعجك من الانقلاب زائل، ولذا قال عز من قائل: (سَنُعِيدُهَا سِيرتَهَا الأُولَى)، حيث كنت تستخدمها في التوكؤ عليها والهش على غنمك والمآرب الأخرى التي كنت تنتفع بها، والسيرة اسم هيئة على وزن " فِعْلَة " بكسر الفاء، أي سنعيدها على الهيئة التي كنت تستخدمها فيها قارا مطمئنا، وقد ذكر الزمخشري ثلاثة وجوه " سيرة " أولها أنها ظرف، وثانيها أنها مفعول ثانٍ لـ " أعاد "، لأن عاد أصلها متعدية بنفسها من قولهم عاد المريض يعوده، فإذا جاءت همزة التعدية صار يتعدى لمفعولين، والثالث وهو الذي رجحه وقد ذكره بقوله: " ووجه ثالث حسن وهو أن (سَنعِيدُهَا)، مستقلا بنفسه غير متعلق بـ (سِيرَتَهَا) بمعنى أنها أنشئت أول ما أنشئت عصى، ثم ذهبت وبطلت بالقلب حية فسنعيدها بعد ذهابها كما أنشئت أولا، ونصب (سِيرَتَهَا) بفعل مضمر أي تسير سيرتها الأولى "، جملة هذا ما قاله الزمخشري وما كان لنا أن نسير في هذا التوجيه الإعرابي، ولتمام القول فيه أنه على هذا الإعراب الأخير تكون (سِيرَتَهَا) مع الفعل المحذوف جملة حالية، وقبل أن نترك القول في الآية الكريمة نقول: إن " سيرة " فعل(9/4715)
هيئة من سار، وهي تطلق ابتداء على السير الحسي وهو هنا قريب من ذلك، ثم أطلقت على المعنويات فقيل: سيرة فلان. أي: مسلكه في الحياة، وقيل: سيرة النبيين، ثم أطلقت على المذهب والطريقة.
سلح الله - تعالى - رسوله وكليمه موسى بالأسلحة التي يدّرع بها لإقناع طاغية الدنيا في عصره بنبوّته، فأتى له بآية أخرى إيناسا لموسى وليطمئن في لقائه بهذا الطاغية بأن الله تعالى معه، فلا يخاف، ولا يضطرب عند لقائه؛ ولذا قال تعالى:(9/4716)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)
(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
" الجناح " هنا الجانب، وهو تشبيه جانبي الإنسان بجناح الطير لأنهما محسوسان في جانبيه، وسمي جناحي الطائر بذلك لأنهما يطويان عند الطير، ويميلان على جنبيه، والجناح الميل، وضم اليدين إلى الجانبين معناه وضع اليدين تحت الإبطين، وقوله تعالى:. (تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) والفعل مجزوم على جواب الأمر، وهما لَا يخرجان من تلقاء أنفسهما، بل يخرجهما موسى بإرادة الله تعالى، فليس الضم سبب الخروج، ولكنه شرطه. والسوء ما يسوء الإنسان عند النظر إليه، ولذا أطلق على العورة السوءة، قال الله تعالى عندما أكل آدم وحواء من الشجرة: (. . . فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ. . .).
وقالوا: كنى بهذا عن البرص، أي تخرج اليدان بيضاوان من غير ذلك المرض الذي يسوء النظر إليه، ويقول الزمخشري في ذلك: إن قوله تعالى: (مِنْ غَيْرِ سوء) كناية عن البَرَص، كما كنى عن العورة بالسوءة، والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة، وأسماعهم لاسمه مَجَّاجة، فكان جديرا بأن يكنى عنه، ولا نرى أحسن ولا ألطف، ولا أحرى للمفاصل من كناية القرآن وآدابه.
وإن ذلك كلام قيم في ذاته، ولكن ذكر البرص في القرآن الكريم، فلقد ذكر سبحانه وتعالى في معجزات عيسى فقال تعالى: (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ)، ولقد قال تعالى: (تَخْرجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) لتبين أن البياض(9/4716)
إشراق وضياء منزهة عن أي مرض، فهو مدح للبياض، وهذه آية أخرى غير آية العصا، ولذا قال تعالى: (آيَةً أُخْرَى) والنصب لفعل محذوف مناسب للنص تقديره مثلا: أعطيناك آية أخرى لتذهب إلى من تُرسل إليه مسلحا بالحجة بحيث لَا يماري فيها إلا جاهل أو متجاهل ممن يستيقنون بالآيات، ولكن يجحدونها، وسترى فرعون من هذا النوع.
وإن الله تعالى قد أعطاه في لقائه الأول آيتين حسيتين قاطعتين في إثبات خطاب الله تعالى، وأشار سبحانه وتعالى إلى أنه سيزوده بكل آية ليتمكن من الوقوف أمام فرعون غير هيَّاب، ومتحملا لكل ما ينزل به من شدائد أمام طاغوته وجبروته، ولذا قال سبحانه:(9/4717)
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
(لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
" اللام " لام التعليل، وهي متعلقة بفعل محذوف تقديره مثلا: جعلنا لك هاتين الآيتين لنريك من آياتنا الكبرى، و (مِن) للتبعيض، أي لنريك بعض آياتنا الكبرى التي تجابه بها فرعون الطاغي، وإن الله تعالى ممدك بعون من عنده ومزودك بكل الآيات التي تقيم بها الحق على فرعون، وكان ذلك تأييدا، ولإعطاء موسى الكليم قوة يحتمل بها طاغوت فرعون، ويكون حمولا صابرا يتلقى أذاه بقلب الصابر الحليم المُحِسّ إحساسا كاملا بأن الله مؤيده، ومعه الحجة والبرهان، وهما سلطان الأنبياء، بعد ذلك التأييد والإشعار بأن الله من ورائه، وسلطانه فوق سلطان الجبابرة، قال له ربه:(9/4717)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
(اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24)
وإن ما سبق من الآيات كان مقدمة، وهذا التكليف نتيجته اذهب إلى فرعون داعيا هاديا مرشدا مقاوما لظلمه بالحجة والبرهان، ولم يذكر ما يدعوه إليه، اكتفاء بوصفه الذي وصفه تعالى به.
(إِنَّهُ طَغَى) أي أنه تجاوز الحد، وهذا يتضمن أنه ظلم الناس فقال لهم: ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، وذلك حَجر على العقول أن تفكر وترى، وطغى فظلم العباد وأكل أموالهم وحقوقهم، وطغى فلم يحسب للناس وجودًا إلا بوجوده، وطغى وبغى فحسب نفسه إلها، وأمر المصريين أن يعبدوه فعبدوه، وقال لهم، ليس لكم من الله غيري، وطغى وبغى فحسب أن البلاد ملكه، وقال طاغيا:(9/4717)
(أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي) أرسل الله تعالى إليه موسى فكان العبء كبيرا.
* * *
موسى وهارون
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
* * *
استجاب موسى لله الذي أكرمه بالكلام معه، ولكنه أحس بالعبء الذي سيحمله، وإذا كان الله العزيز الكريم قد أمده بالآيات الدالة على الرسالة فهو في نفسه طلب من الله تعالى أن يمده في شخصه بالمعونة، وبأن يعطيه من ينصره ويؤيده، وإن العاقل الصافي النفس يعرف عيوبه من غير أن يعرِّفه غيره، ولقد أحس موسى عليه السلام بأنه يضيق صدره أحيانا وبأن الأمر الذي بعثه الله به خطير عسير ليس بيسير، وأنه ليس فصيح اللسان بحيث يفقه الناس قوله، وبأنه يحتاج إلى من يؤازره، ولذا طلب أمورا أربعة ليسهل عليه التكليف الذي كلفه الله تعالى إياه، فطلب أمورا أربعة:
أولها - قوله:(9/4718)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)
(قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) شرح الصدر توسعته حسا، وما طلب توسعته حسا، إنما طلب أن يكون عنده قدرة على احتمال الرأي الذي يخالفه، وألا يكون صدره ضيقا حرجا بمن يخالفه، بل تكون عنده أناة الصابرين،(9/4718)
وإن موسى كان يضيق ذرعا بكل من يخالفه: ولعل ذلك لأنه نشأ ونما في قوم مقهورين يُقتل أبناؤهم، وتُستحيا نساؤهم، ومن التربية الأولى في بيت فرعون، ولأنه كان يحس بأنه وقومه مظلومون، (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19).
ونفس موسى الكليم الشفافة أدركت عيوبها فطلب من ربه أن يبرئه منها عالما أنه سيلقى من فرعون عنتا، ولابد أن يلقاه بقلب قوي غير ضجر، ولا سائم، ليتحمل ما حمله، فطلب أن يشرح صدره بجعله قادرا على احتمال المخالفة، بل المعاندة والمهاترة فقال: (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي).
الأمر الثاني - أنه أحس بأنه مقدم على أمر خطير جسيم ليس هيِّنا لينا، هو مجابهة فرعون جبار الدنيا، وطاغية عصره، فطلب أن يسهل أمره معه فقال:(9/4719)
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
(وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
أي اجعل الأمور ميسرة أمامي، وإضافة الأمر إليه أي الأمر الذي كلفتنيه، وهو لقاء فرعون فإن كان الطلب الأول خاصا بشخصه، فالثاني خاص برسالته التي حملها، وكلفه الله إياها. وقد اتجه من بعد ذلك إلى الأداة التي يكون بها التبليغ، هو اللسان، ولذا كان الطلب الثالث وهو الذي عبر عنه بقوله:(9/4719)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)
(وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
العقدة ألا ينطلق اللسان بالقول الفصيح الصحيح، ويقول أكثر المفسرين إنه كان في لسان موسى رتَّه، وقد وصفه فرعون مستهينا به مستنكرا أن يكون هو الرسول عن الله تعالى: (وَلَا يَكَادُ يُبِينُ)، وقد طلب موسى طلبا يسيرا أن يحل عقدة قائمة من لسانه،(9/4719)
وفى هذا الكلام تشبيه لحال من لَا يحسن القول بحال من يكون فيه عقدة تمنعه من الانطلاق، وقوله تعالى عنه:(9/4720)
يَفْقَهُوا قَوْلِي (28)
(يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) أي يعلموه ويفهموه فهما دقيقا، يصل إلى لبابه ومقصده ومرماه وغايته، يقال: فقه القول أي أدركه إدراكا مستقيما، و (يَفْقَهُوا قَوْلِي) مجزوم في جواب الأمر، أي أن حل العقدة لغاية وهو أن يفقهوا قولي ويدركوا معناه.
المطلب الرابع الذي طالب به ربه أن يكون معه أخوه هارون ردءا له ليكونا معا أمام فرعون جبار الأرض في زمانه، وقد قال في ذلك:(9/4720)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)
(وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)
الوزير: المعاون، وهو من الوزر بمعنى أنه يحمل أوزار الأمر معه، أو من الوَزَر - بفتح الواو والزاي - بمعنى الملجأ، وهو بمعنى أنه يلجأ إليه في المُلِمَّات، أو من المؤازرة بمعنى المعاونة، والوزير الصادق المخلص فيه هذه المعاني كلها فهو يحمل التبعات، وهو ملجأ في الملمات، وهو معاون عندما تشتد الأمور وتدلهمّ، يعين برأيه وتدبيره.(9/4720)
هَارُونَ أَخِي (30)
وقد ذكر أن يكون الوزير من أهله، وعين وزيره بالذات وهو أخوه هارون، وقد ابتدأ بذكر الوزير مطلقا، ثم خصه أن يكون من أهله، ثم خصصه أخيرا بأن عينه بالذات، ولقد قال في سورة القصص: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35).(9/4720)
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)
وقد طلب موسى عليه السلام فيما يتعلق بأخيه أمرين، أولهما: أنه يشد أزره وهو الظهر، وهو كناية عن أنه يكون قوة له، كما قال في آية القصص يكون ردءا، وثانيهما: قوله: (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) أي اجعله شريكا لي في حمل أعباء الرسالة وواجباتها ولنلتقي بفرعون مجتمعين غير منفردين، ولعله طالب بأن يكون(9/4720)
معه أخوه هارون، لأنه ليس لفرعون يد عليه، أما موسى فقد ربَّاه فرعون وعيره بذلك، فقال: (. . . أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِين)، وأنه وإن كان ذلك لَا يمس مقام الرسالة فإن هارون ليس لفرعون عليه حق التربية الذي ادعاه فرعون.(9/4721)
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34)
وإن هذا التآزر الذي دعا موسى ربه أن يجيبه ذكر نتيجته وأولى ثمراته، وهو كثرة التسبيح لله تعالى وذكره، أي نسبحك ونقدسك تقديسا كثيرا ونذكرك في أنفسنا كثيرا، إذ نكون قوة تجهر بتقديسك وذكرك، ويكون معنا من بني إسرائيل من يسبحك كثيرا، ويذكرك ذكرا كثيرا ويشيع ذكرك في أرض الفراعنة الذين استبد بهم فرعون فمنع كل الناس من أن يذكروا غير اسمه، وإنك أنت علام الغيوب وأعلم بنا من أنفسنا، ولذا قال عليه السلام:(9/4721)
إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
(إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
أي عالما علم من يبصر لَا يخفى عليك شيء في الأرض ولا في السماء، أجاب الله مطالب موسى الأربعة وقال تعالى:(9/4721)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
(قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
قال الله تعالى مخاطبا نبيه وكليمه: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) السؤل بمعنى المسئول، كالخبز بمعنى المخبوز، والأكُل بمعنى المأكول، و (أُوتِيتَ) معناه أعطيته، وصار بين يدك ما طلبت، وذلك في نظرنا أبلغ من أُجِبْت؟ لأن الإجابة قد تكون بالقول، ويتحقق مدلولها بعد، إذ الإجابة لَا تقتضي التحقق، بل إنها ربما تكون بينها وبين التحقيق زمن، والمجيب ليس بمخلفه، وإنه بندائه سبحانه بالاسم تقريب وإدناء، وإلقاء بالمودة التي لم يحرم منها كليم الله طول حياته، ولئلا يقصى عليه أمر بني إسرائيل أمده الله تعالى بكل أسباب الصلاح، ولكنهم كانوا قد مردوا على الذل، ومرضت قلوبهم بالنفاق كما رباهم فرعون على الخنوع الذليل، ولم يجد فيهم من يجيئهم بالرشاد والموعظة الحسنة والولاية الهادية الرشيدة.
* * *(9/4721)
ولادته وكفالته
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
* * *
كلام لموسى عليه السلام، وكانت تلك المجاوبة الرحيمة من الله والمحبوبة لموسى من وقت أن آنس من جانب الطور نارا وذهب إليها ليأتي لأهله منها بقبس أو يجد على النار هدى، وقد من الله على موسى بأن آتاه سؤله، وذكَّر موسى بأنه كانت كلاءته الكريمة من وقت أن وُلدَ، ولذا قال له:(9/4722)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى) فليست هذه أول ما مننا به عليك، فقد من عليك - بمننٍ كثيرة من قبل، وإذا كانت هذة منة تسهيل الرسالة، وتبليغها عليك، فقد مننت عليك بالكفالة والمحبة من وقت ولادتك إلى أن لقيتني عند الشجرة، ونبتدئ فنلخص هذه المنن الكريمة:
أولاها: عند ولادتك فإن أمك الرءوم (1) خشيت عليك من فرعون الطاغية الذي كان يذبح أبناء بني إسرائيل، ويستحيي نساءهم ليكونوا خدما في البيوت أو
________
(1) الرءوم: المحبة، من رأم: رَئِمَتِ الناقةُ ولدَها رِئْمانًا، إذا أحبتْه. الصحاح للجوهري - فصل الراء.(9/4722)
إماء، وقد قال تعالى في إنجائه:(9/4723)
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)
(إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
منن كثيرة في منة واحدة، وهي إنقاذه من سكين فرعون الظالم القاسي الذي حاول الظالمون القساة أن يقلدوه في ظلمه لمخالفيه، وطغيانه عليهم من غير رحمة أو رأفة إنسانية، وقد رأينا ذلك وعايناه في طاغية كان دون فرعون شأنا ولكنه كان أشد منه غلظة فما رأيناه من فرعون في معاملته لبني إسرائيل بحسبان أنهم ليسوا من بني جلدته، وغلطة هذا أشد في أنه كان يفعله مع بني جلدته، وهو ظلم وفحش فيه في الحالين، وإن كانت إحداهما أشد وأغلظ. (إِذْ أَوْحَيْنَا إَلَن أُمِّكَ مَا يُوحَى) " إذ " ظرف للزمن الماضي، وهي متعلقة بـ (مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى)، و (أَوْحَيْنَا) أي بالإلهام أو بالمنام بالرؤيا الصادقة، وهي جزء من ستة وأربعين جزءا من الوحي وقوله: (مَا يوحَى) أي الأمر الذي من شأنه ألا يعلم إلا بالوحي؛ لأنه من الغيب الذي لَا يعلم إلا من قبل الله تعالى. كما قال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ. . .)، وقد تعلقت بهذا الوحي مصلحة دينية، وعدل أرضيّ، أما المصلحة الدينية فهي نجاة من كتب الله تعالى في غيبه المكنون أن يكون نبيا وكليما ومن المصطفين الأخيار، وأما إقامة العدل الأرضيّ فهو كف فرعون عن بني إسرائيل الذي كان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، وإن الله يرسل في الأرض من ينجي عباده من ظلم الظالمين، وفساد والمفسدين.(9/4723)
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
(أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ... (39)
هذا بيان لما أوحى الله تعالى به إلى أمِّ موسى، ويلاحظ أنه سبحانه وتعالى قال (أُمِّكَ) أي أمك الرءوم الشفيقة الرءوفة التي هي أشفق إنسان عليك، ولقوة الإلهام تركتك لَا بغضا لك، ولكن محبة، وتركتك لَا لتهلك، ولكن لتحيا. وإن في قوله: (أَنِ اقْذِفِيه فِي التَّابُوتِ) أي كان مما أوحى به الأمر بقذفه، والقذف هو الإلقاء، كما قال تعالى (. . . وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْب. . .)، ولا شك أن التعبير(9/4723)
بالقذف يفيد معنى الشدة في الإلقاء وذلك للمعاناة النفسية التي كانت تعتلج في قلب الأم الرءوم فكان التردد الشديد، ثم انتهى التردد بالإلقاء، وكأنها تقذف قطعة منها في تابوت مغلق لَا تدري بالحس ما الله فاعل به.
ألقته في التابوت بمعاناة نفسية، ثم ألقت التابوت الذي فيه موسى - قطعة نفسها - في اليم وهي في ألم مرير، والضمير في قوله تعالى: (اقذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ) يعود على موسى بلا ريب وأما في قوله: (فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ) يحتمل أن يكون لموسى وأن يكون للتابوت، وفي كلتا الحالين هي تقذفه وقلبها معلق به، والأوضح أن يكون لموسى، لقوله تعالى: (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) العداوة ليست للتابوت، وإنما هي لشخص الرسول الكليم.
ويلاحظ أن العطف كله بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب من غير تراخ زمني؛ ذلك لأن الأم الرءوم تريد المسارعة بنجاة ولدها الحبيب من الذبح، والإلقاء هو السبيل الوحيد أمامها، والله سبحانه وتعالى الذي ألهمها بإلهامه الذي هو وحي، ينقذه قبل أن يموت جوعا أو تتقاذفه الرياح، يعجل سبحانه وتعالى بالنجاة فألقاه في الساحل وقوله تعالى: (يَأخُذْهُ عَدُو لِّي وَعَدُو لَّهُ) (يَاخُذهُ) مجزوم في جواب الأمر، وعداوة فرعون لله تعالى واضحة وقت الإلقاء على الساحل، أما عداوة موسى لفرعون فستكون من القابل.
وقد عبر عن وجوده على الساحل بالإلقاء دون القذف؛ لأن القذف يكون من أعلى لأسفل ولأن الإلقاء لم يكن بمعاناة من الأم، بل كان برحمة من الله تعالى.
نجا موسى صغيرا من الذبح الذي كان يتزقب كل مولود ذكر من بني إسرائيل، ثم كانت الثانية وهي حفظه وكفالة أمه له، وأن يكون بين أحضانها وهذا هو المظهر الثاني لمنة الله تعالى فقد ألقى عليه تعالى محبة، فقال تعالت كلماته: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي) ألقى الله تعالى عليه محبة منه سبحانه، والمحبة التي ألقاها تعالى ذات عناصر، أولها: أن الله تعالى أحبه، ومن أحبه الله تعالى كان(9/4724)
كريما على الناس، وثانيها: أن الناس بتوفيق الله وتوجيهه أحبوه، فكان محببا منهم إذ زرع في قلوبهم محبته، وثالثها: أن الله تعالى فتح له القلوب المغلقة، ففتح له قلب فرعون المغلق، وفتح له قلب امرأته، فقالت: (. . . قُرَّتُ عَيْنٍ لي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا. . .)، وكما قال تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آل فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا. . .)، أي في المآل لَا وقت الالتقاط، إذ إنهم في وقت الالتقاط التقطوه ليكون قرة عين لفرعون وامرأته: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (لِتُصْنَعَ) أي تتربى تحت رقابتي وملاحظتي فلا تقهر، ولا تذل بل تكون عزيزا كريما، ولتضمن التربية أن تكون تحت رقابة الله تعالى تعدت بـ " على "؛ لأن معنى هذه التعدية أن الله وقد مكن فرعون من تربيته والقيام على شئونه أشار سبحانه إلى أنه على رقابة له.
وإن في الكلام استعارة تمثيلية، إذ شبه سبحانه وتعالى حال الرقابة على تربيته وصيانته بحال من يصنع شيئا على مرآه ونظره، وبعض المفسرين قال: إن " على " هنا بمعنى " الباء "، والله أعلم.
وقوله تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)، " الواو " عاطفة على فعل محذوف تقديره لتنعم بمحبة الله والناس، ولتصنع على عين الله تعالى، وتحت رقابته ومحبته ورعايته سبحانه وتعالى. والمظهر الثالث لمنته الأخرى هو عودته إلى أمه ليتربى في حضانتها رحمة به وبها؛ لأن أمه ما طابت نفسها بفراقه إلا لنجاته، ولأنها تريده لنفسها، كما تريد كل أم رءوم مُحبة، فرتب الله تعالى لها أن يعود إليها محفوظا مصونا فحرم الله تعالى عليه المراضع، وقد احتار من في بيت فرعون في أمره، وقد صار ملء قلوبهم جميعهم، ولكن الله تعَالى أرسل إليهم.(9/4725)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ ... (40)
أي من يقوم بحضانته ورضاعه لكم فتغذيه بلبن الرضاعة، ومن يحمل هم تربيته وخدمته، وبهذه الرعاية الربانية عاد إلى أمه كي تقر عينها برؤيته، ويذهب اضطراب نفسها على غيبته عنها، ويذهب اضطرابها وخوفها عليه.(9/4725)
وإنه في سورة القصص تفصيل لما أجمل هنا من غير تكرار، فقد ذكر سبحانه حال أمه بعد أن ألقته في البحر فقال تعالى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14).
وبذلك ترى أن ما أجمل هنا أو أشير إليه إشارة من غير بيان قد وضح هنالك في سورة القصص من غير تكرار، بل جزء سيق في موضعه من غير تكرار لفظ أو معنى.
المظهر للمنة الأخرى ذكره سبحانه وتعالى بقوله عز من قائل: (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا) أن الله تعالى قد نجاه من الغم الذي أصابه من قتله نفسا و (الْغَمِّ) الحزن الذي يغمر النفس ويصيبها بما يشبه الغُمَّة، وهنا نجد أن الله ذكر النفس ولم يذكر من أي قبيل هو، وفي ذلك إشارة إلى سبب الغم، وهو أنه قتل نفسا، وحسب ذلك موجبا للغم الذي يصيب بكرب شديد من نفس كنفس موسى الطاهرة التي صنعت على عين الله، ولقد قال موسى عندما قتلها: (. . . قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17).
هذا هو الغم الذي أصابه بعد قتل النفس، وقد نجاه الله تعالى منه بأن غفر له سبحانه، وكانت هذه نعمة أنعم الله بها عليه، وعاهد الله تعالى ألا يكون ظهيرا للمجرمين.
وبعض المفسرين أو جلهم يقول: إن الغم الذي أصابه هو الخوف من القصاص، وربما يؤيد هذا قول الله تعالى عن موسى: (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفَا(9/4726)
يَتَرَقَبُ. . . .). وقد نقول: إن الغم كان من الأمرين، عن نفسه اللوامة التي أوجدت كمدا وغما، ومن الخوف من فرعون، أو من الناس وقد قتل منهم واحدا.
المظهر الخامس من منة الله على موسى الكليم عليه السلام عبَّر الله تعالى عنه بقوله تعالى: (وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا)، أي اختبرناك اختبارا شديدا، و " فتون " مصدر " شكور "، ويكون مصدر التوكيد الفتنة التي فق الله تعالى موسى، ويضح أن تكون جمع فتن، أما أن الله تعالى أصابه بأنواع من الفتن، ففتنة الاحتياج، وفتنة الغربة، وفتنة العمل، وهو الذي كان مرفَّهًا مترفًا في بيت فرعون.
ولكن كيف يكون فتنة الله تعالى له فتنونًا أو بأصناف الفتن مظهر المنة، أو منة؛ ونقول في جوابنا عن ذلك: إن موسى عليه السلام تربى في بيت فرعون، فاكها في نعيمه، وإن ذلك لَا يكون منه نبي، بل لابد أن يعرك الحياة وتعركه، ويعيش بين من يستمع إلى أنينهم، ولابد أن يبتلى ليصل إلى مقام النبوة أو الإرهاص لها، وذلك بأن يفتن بالفتن ويختبر بالحرمان، وقد أدى موسى ذلك ونجح في الاختبار، ولذلك عُدَّ مظهرا من مظاهر المنة وأي منَّة أعظم من أن يهيئه الله تعالى للنبوة، ويخرج من دار فرعون ليجيء إليه نبيا رسولا ينذره بالنذر، ويقدم له الآيات تَتْرى آية بعد آية.
ثم قال تعالى مبينا نتائج هذا الاختبار أنه سبحانه نقله من بيت فرعون إلى بيت رجل صالح، ومن أنه كان يأكل من ترف فرعون في عيشة رخوة غير راضية، فانتقل إلى حياة عاملة كادحة باجَلٍ من جهد مستمر مع شعيب، وقال تعالى:
(فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) وهي من أرض سيناء على بعد ثماني مراحل من مصر.
(الفاء) في قوله تعالى: (فَلَبِثْتَ) عاطفة وهي للترتيب والتعقيب مع الإشارة إلى السببية في الفاءات الثلاث، فكان قتل النفس سببا للغمِّ، فنجَّاه الله تعالى منه ثم اختبره الله تعالى ليعدَّه للنبوة، ثم استقر به المقام في آل مدين عاملا كادحا، وصار ذا زوج طاهرة وبيت وأولاد يحمل أعباءهم. وبذلك قامت أصهار نبوته،(9/4727)
وكلام الله تعالى له: (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى) العطف بـ " ثم " للدلالة على انتقاله من مكان إلى أعلى مكانة، وهي مكانة النبوة في أعلى درجاتها، إذ كلمه الله تكليما، والقدر هو ما قدره الله تعالى لأن يكون رسولا نبيا كليما.
ولقد صرح الله تعالى بعظيم منزلته فقال تعالى:(9/4728)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
أي اخترتك لتكون لنفسي، والاصطناع افتعال من الصنع، وهو اختياره بالصنع مشددا في اختباره وهذا موضح بقوله: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)، يقال: اصطنع الرجل فلانا لنفسه: جعله في موضع التكريم عنده، وهذا فيه استعارة، إذ شبه اختيار الله تعالى له نبيا كليما بحال من يصطنعه الأمير لنفسه من الناس ليكون في موضع الكرامة والشرف، وأي شرف أعلى من أن يكون كليمه، وأن يكلمه تكليما.
بعد هذا الاصطناع لموسى أمره سبحانه وأخاه بأن يقوما بالعمل العظيم الخطير فقال:(9/4728)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
كان أول ما كلفا به أن يذهبا إلى فرعون يدعوانه إلى التوحيد، وعبادة الله تعالى وحده، ولقد زودهما بأمرين ذكرهما:
أولهما: الآيات الدالة على أن الله تعالى بعثهما، وذكر الآيات الدالة على أن الله وحده خالق السماوات والأرض، وسنرى أنهما ذكرا الآيات الدالة على وجود الله تعالى وخلقه.
والثاني: أن يذكرا صفات الله تعالى الدالة على أنه وحده الإله الذي يعبد دون سواه، وهذا معنى قوله تعالى: (وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي)، أي لَا تفترا ولا تقصرا في ذكرى بصفات الكمال والجلال.
وقوله تعالى: (بِآيَاتِي)، أي تصحبكما آياتي، أو معكما آياتي، والعناية بذكر الله تعالى لفرعون؛ لأن فرعون وقومه ما كانوا يعرفون الله كالعرب الذين بعث فيهم محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنهم كانوا يعرفون الله وأنه خالق السماوات والأرض والذي يلجأ إليه في الشدائد ويستغيثون به في الحال التي توجب الاستغاثة.(9/4728)
أما قوم فرعون فما كانوا يعرفون، وكانوا يعبدون الشمس ومظاهر الحياة، فاحتاجوا إلى التعريف بالله سبحانه وتعالى.
* * *
الرسالة والتبليغ
(اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
* * *
أمرهما الله تعالى بالأمر القاطع، بأن يذهبا إلى فرعون، كما أمر محمدًا - صلى الله عليه وسلم - من بعد أن يصدع بأمر ربه فقال له: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94).(9/4729)
فقال لهما سبحانه:(9/4730)
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)
(اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) وقد أشرنا إلى نواحي طغيانه في قوله لموسى منفردا (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ. . .) وفي هذه الآية خاطبه وأخاه هارون إجابة لطلبه، فقال: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى)، وقد طلب منهما أن يترفقا في القول معه، فقال سبحانه:(9/4730)
فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
(فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
والقول اللين لَا يكون بالملق أو الإدهان أو المواراة، فإن هذه أمور تتجافى مع الحق إلا بالقول الحق، وما كانت رسالة موسى وأخيه إلا الحق وطلب الحق، ولا يطلب الحق إلا بالقول الحق، وإنما لين القول يكون باللين والرفق، حتى لا يُصدم في أمره بالجفوة، وبيان أن الحق يزكي نفسه، ويرفع نفسه فوق ما هي فيه، كأن يقولا له: هل لك إلى أن تزكى؛ لأن ظاهر القول التساؤل والاستفهام، وأن يتبع الأمر باختياره لَا بطلب من أحد، ومن القول اللين ألا يجافيه وأن يخاطبه بما لا يمسّ سلطانه، فإن طواغيت الدنيا لَا يجدون شيئا أعز عليهم من سلطانهم في الأرض، فيُصابون في حسهم إذا مُسَّ ولو من بعيد، وإن قول موسى قولا لينا لفرعون يتفق مع أصل التبليغِ الصحيح الذي يقتضي اللين في القول، كما قال تعالى مخاطبا محمدا - صلى الله عليه وسلم -: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. . .)، وإن اللطف في الدعوة من موسى لفرعون يقتضي الرفق في القول؛ لأنه ربَّاه صغيرا ورعاه، وكانت له به محبة فكان له مثل حق الأبوة، وقد عتب فرعون على موسى حتى هذه الدعوة الرقيقة، وقال له: (. . . أَلَمْ نُربِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ).
وقال تعالى: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)، أي أن أقول يكون معه رجاء الإجابة، فالرجاء منهما لَا من الله تعالى، وإن القول اللين ينساب في النفس كما ينساب النمير العذب فيحيي مواتها، وتثمر ثمراتها، والقول الجافي يصُدُّها صدًّا، وإن القول اللين يتبعه التأمل والتفكر، ولذا قال: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ)، أي يبعث في الفطرة السليمة الخالية من عنجهية الحكم وطغيانه فيتذكر ضعف الإنسان مهما يكن طغيانه، أمام(9/4730)
قدرة الله تعالى القهار، أو لعل القول اللين يجعله يحس بضعفه أمام قدرة الله تعالى فيخشى بطش الجبار الذي فوق بطشه، وقدرته فوق قدرته، وقهره فوق قهره.
بعد هذا الأمر الصادع الذي لَا مثنوية فيه استجابا ولكن الحذر لَا يفتر بقوته، ولذا قال الله عنهما:(9/4731)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
(قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) ابتدءا كلامهما بالالتجاء إلى الله الذي فوق كل جبار في الأرض، ولو كان فرعون، قائلين (ربَّنَا) أي الذي خلقنا ورئنا ويعرف ما عندنا من قدرة، وما عنده من طغيان ومدى ما نستطيعه معه، ومدى مسارعته إلى الشر، وعدم تردده (إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى) والفرط التقدم بالأذى والمسارعة إليه، فالفارط المتقدم السباق، ويقال فرس فارط، أي سابق الأفراس المسابقة، وبذلك يعاجلنا بالإهلاك أو الأذى قبل أن نرشده إلى رسالتك بلين القول أو جفائه (أَوْ أَن يَطْغَى) إذا سمع ولم يعجل بالإهلاك فيقول في طغوائه ما لَا يليق بمقامه الأعلى، أو يذهب به جبروته إلى منعنا من الدعوة وتضييق سبلها، أو ينزل بنا عقابا لَا يمكننا من الاستمرار في الدعوة، وفي الجملة يتبع معنا طرائق طغيانه من تعذيب وإيذاء مستمر، فطغيانه لَا حدَّ له، كما تعلم: قال الله تعالى لهما:(9/4731)
قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)
(قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)
خاطبهما الله تعالى بعزته وجلاله مشيرا إلى أنهما في حمايته وكلاءته، وأنه يسمع ويبصر، فكيف يكون نهى عن الخوف، والنهي عن الخوف كيف يكون وهو فزع من الأمر المخوف إذ هو أمر نفسي لَا يقع تحت قبضة الخائف؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إن المراد الأمر بالاطمئنان وقرار النفس، وأن يشعرا بجلال الله تعالى، وأنه معهما، ولذلك أعقب سبحانه وتعالى النهي عن الخوف بأنهما في معية الله تعالى فقال: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) أي إنني في صحبتكما أسمع قوله إذا هدد وأنذر، وأبصر فعله إن حاول سوءا أو أنزل بكما أذى، وإن هذا تبشير بأنه إن حاول أن يبطش بهما نزلت به البطشة الكبرى من رب العالمين.(9/4731)
ولقد كان من موجبات الفطرة أن يعتريهما الخوف، فقد كان جبارا في الأرض ليس فوقه في قومه من يرد كيده، ويزيل طغيانه.
اطمأنا إلى قول الله تعالى، وما كان لهما إلا أن يطمئنا بنصرته وتدبيره، ونجاتهما من فرط فرعون وطغيانه، ولذا قال:(9/4732)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
(فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
" الفاء " هنا " فاء الإفصاح " تفصح عن شرط مقدَّر تقديره: إن ذهب الخوف، واطمأننتما إلى الله (فَأْتِيَاهُ) فاذهبا إليه، والتعبير بإتيانه يفيد أنهما مدرعان بقوة الله التي ترهب كل مخلوق، ولو كان فرعون طاغية الأرض (فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ) ذكرت رسالتهما معا مكاثرة عليه ومغالبة، ولأنهما رسولا رب العالمين أحدهما بالأصالة والثاني بالمؤازرة والمعاونة، لقد أعطاهما الله تعالى قوة بعد ضعف وأمنا بعد خوف فأمراه ونهياه، وهو الذي كان يقول أنا ربكم الأعلى، أمراه فقالا: (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ) والأمر والنهي يتعلق بسلطانه وقوته وبطشه فهو يمسّ صميم جبروته (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) وتخلَّ عن حكمهم وأخرجهم عن طاعتك وجبروتك وطغيانك (وَلا تُعَذِّبْهُمْ) وكان - عليه اللعنة - يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ويكلفهم بأشقّ الأعمال من حفر الترع وحمل الطوب والآجرّ والأحجار في بناء الأبنية الكبيرة مع الإذلال والاستهانة والعنت الشديد، فجمع لهم عذاب الأجسام وإرهاقها، وعذاب الأنفس بإذلالها، وإذاقتهم عذاب الهوان، فكان كلامهما محاربة لطغيانه، ومواجهة له في قوته وجبروته.
و" الفاء " في قوله: (فَقُولا) عاطفة للترتيب والتعقيب من غير تراخ، فبمجرد أن أتياه جابهاه بالقول المر الذي لم يسمعه أبدا، ولكنهما أسمعاه له بقوة الله تعالى وقدرته، وبما ألقاه تعالى في قلوبهما من قوة الحق الذي جهرا به، ولقد رجعا إلى الله تعالى في آياته البينة التي تدل على رسالتهما، فقالا: (قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ من رَّبِّكَ) وهنا انتقل الموقف بهما من خائفين إلى مرهبين، وقوله تعالى: (قَدْ جِئْنَاكَ)، أي جئناك مجابهين مسلحين بآية (مِّن رَّبِّكَ) الذي خلقك ورباك وأعطاك هذا السلطان(9/4732)
والجبروت اختبارا لنفسك، وكل فعل وقول محتسما عليك، وختما قولهما بإلقاء الأمن بعد الإرهاب المفزع له، ولو كان فرعون مصر، فقالا: (وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى)، أي إن الأمن والاطمئنان والدعة وعدم الانزعاج يكون لمن اتبع الهدى، فإن لم تتبع الهدى فلا أمن ولا اطمئنان، بل انزعاج وعدم استقرار، وإرهاب من الله، ولو كنت فرعون، ووحَّدا الآية وهما اثنتان؛ لأن المراد ما به البرهان على الرسالة وواحدة كافية.
أخذا يخاطبانه بالرسالة التي بعثا بها، فقالا:(9/4733)
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
(إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
أي أن الرسالة التي بعثنا بها وأُوحي إلينا من الله معناها ولبها (أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وتَوَلَّى) وأعرض موليا الداعي بوجهه نائيا بجانبه عنه، وهنا إشارتان: إحداهما أن موسى عليه السلام كان ربه يكلمه ويوحى إليه، والثانية: أنهما ابتدءا الدعوة بالجزء المخوف منها، وهو العذاب لمن تولى وأعرض ونأى بجانبه عن الدعوة؛ وذلك لأن الجبابرة يرهبهم الأمر المغيب عنهم ويفزعهم فيحاولون من بعد إرهابهم الاستماع إلى القول، وإن كانت عاقبة الاستماع في الاستجابة غير محققة، فالشر ينازع نفوسهم، ويقاوم الخير، فأيهما غلب كانت العاقبة له.
وقد أكد سبحانه الوحي وموضوعه بـ " قد "، و " أنَّ ". ولقد كان ذلك الترهيب له أثره فقد اتجه إلى الاستفهام والتعرف. . .(9/4733)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
(قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
كان الخطاب لهما ولكن اختص موسى بالذكر؛ لأنه المتكلم باسمهما، فما كانا يتكلمان معا، بل كان يتكلم موسى ويوافقه هارون، لأن هذا وزير، وذاك الرسول المبعوث، ولأنه كان يأنس موسى، لأنه تربى في كفالته، ورعايته، وهو قريب إلى نفسه مع ما بينهما من بعد بالهداية في موسى، والكبرياء الضال في فرعون، وقال الزمخشري: لأنه كان يعلم رُتَّة لسانه ويريد أن يحرجه في البيان، ويستدل على ذلك بقوله عندما احتدم الخلاف: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ منْ(9/4733)
هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ)، على أي حال مهما يكن السبب اختص موسى بالنداء وعمم خطابهما.
قال: (فَمَن رَّبكُمَا يَا مُوسَى)، أي إذا لم أكن ربكما الأعلى فمن ربكما، فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر.
أجَابه موسى لأن النداء وجه إليه فتعين أن يكون المجيب:(9/4734)
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
(قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
(رَبُّنَا) الذي خلقنا ورَبُّنَا الذي قام على شئوننا، وسيَّر أمورنا هو (الَّذِي أَعْطَى كلَّ شيْء خَلْقَهُ)، أي صورته وحاله التي تناسب ما عهد به إليه فهو أعطى كل شيء وجوده وهيأه لما أنشأه لأجله، ولقد قال في ذلك الإمام الزمخشري: " أى أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، والأذن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك الأنف واليد، والرجل واللسان كل واحد مطابق لما علق به من المنفعة غير نابٍ عنه، أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة ". والمعنى أنه أعطى كل موجود الصورة التي اختارها سبحانه وتعالى له، وهيأ كل ما فيه من قوى لما أعده الله سبحانه وتعالى له، فكل قوى الإنسان والحيوان صوَّره الله سبحانه لكي يؤدي عمله الذي خلقه الله تعالى له، ثم بعد هذا الخلق تكون الهداية العامة في الحياة وفي الخير وفي الشر، فقال تعالى: (ثُمَّ هَدَى) وكان العطف بـ " ثم " فيه دلالة على البعد بين أصل الخلق والتصوير، وأداء كل عضو مهمته في الحياة وإدراك معانيها، و (هَدَى) أي هدى كل عضو صورة لأداء المنفعة التي خلق لها فهديت العين إلى معرفة الأشياء بالبصر، وهديت الأذن لمعرفة كل ما يعلم عن طريق السماع، وهدى العقل الإنساني إلى إدراك الخيرِ والشر، كما قال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجدَينِ)، وكما قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8).
اتجه فرعون إلى سؤال آخر فقال:(9/4734)
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)
(قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)
فأجابه موسى الحكيم الكليم: (قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52).(9/4734)
قال فرعون: (فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى)، أي حالها ومآلها، وما صنع بها، و " الفاء " هنا للإفصاح، والسؤال قال بعض المفسرين: ليصرفه عن الحديث عن الله تعالى، وهو لَا يريد السماع عن إله غيره. وإني أرى أن السؤال كان عن أمر ديني عند المصريين القدماء، إذ إن الديانة المصرية كانت تؤمن بالبعث، ولذا عنوا بالتحنيط لتبقى الأجسام كما هي، وتبعث كما هي، ولهم في ذلك أقوال بينة، حتى إن الكتاب المقدَّس لديهم هو " كتاب الموتى " يضعونه في قبر الميت الذي يموت، وهو كتاب يشتمل على فضائل الأخلاق، وعلى ما تلقنه الروح لتحسن الإجابة أمام محكمة الحساب في اليوم الآخر عندهم، وهو يعدّ الكتاب الأعلى عند قدماء المصريين، ويتعبدون بقراءته أحياء ويوضع في قبورهم عند موتهم.
وعلى ذلك إن سؤال فرعون لموسى عن حال القرون أي الأجيال، سؤال نابع من مذهبهم في الموتى، وإذا كان العرب يفضُلون المصريين بأنهم في جاهليتهم كانوا يعرفون الله الخالق المنزه عن المشابهة للحوادث، ولكنهم يعبدون الأوثان معه، فالمصريون القدماء عرفوا البعث والحساب، الأمر الذي كان يجهله العرب ويقولون: (. . . أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيد. . .).
أجاب فرعونَ إجابة المفوض أموره لله تعالى:(9/4735)
قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
(قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
أي إن علم حال الأموات بعد موتهم مسجل في كتاب، وهذا تشبيه علم الله تعالى الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها بالعلم المسجل في كتاب، وإذا كان كالعلم المسجل فإنه (لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى) أي لَا يخطئ ولا ينسى؛ لأن المسجل لَا يمكن أن يكون فيه خطأ ولا يمكن أن يعروه النسيان. تعجل فرعون بعد أن ذكرا له أن العذاب على من كذب وتولى، فأخذ يسأل متعرفا بعد أن كان لَا ينزل إلى التعرف حاسبا أنه الإله الأعلى كما عبر عن نفسه، فسأل (فَمَن رَّبُّكمَا يَا موسَى) فأجابه إجابة مختصرة مفيدة؛ لأنها جامعة لمعنى الخلق فاعترض بقوله: (فَمَا بَالُ الْقرونِ الأولَى) صارفا القول، أو متعجلا في تعرف حال(9/4735)
الأموات الذين كان أمرهم يهم المصريين لإيمانهم بأنهم يبعثون كما أشرنا، فكان ذلك الاعتراض شاغلا موسى عن أن يُتِمَّ التعريف بربه، ثم استأنف ذلك التعريف، فقال كما حكى الله تعالى عنه:(9/4736)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) وقد ذكر موسى الكليم من قدرة الله تعالى ما يتصل بفرعون وأرض مصر، فأرض مصر منبسط هو واد بين جبلين، وعيشها ميسور سهل، وهي أرض زراعية يجري نيلها مبسوطا في ديارها من جنوبها إلى شمالها ممهدة ليست وعرة، فقال بوحي من ربه: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا)، أي ممهدة لينة سهلة ليست وعرة متعثرة بالأحجار، فهي لأهلها الذين يعيشون فكهين في نعيمها، كما يعيش الطفل في مهده، وهذا كناية عن الراحة والاستقرار، ثم بين سبحانه تسهيل الانتقال فيها من مكان إلى مكان في عيشة راضية (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا) والمعنى خطها خطوطا، وأنشأ فيها سبلا، أي طرقا مختلفة مسلوكة، ونظير هذا قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)، وقوله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)، وإن مصر كذلك مبسوطة الأرض فيها الطرق والوديان حتى الصحراء نجد فيها وسط كثبان الرمال المسالك الصحراوية والواحات التي تعد كالجنات في وسط الصحارى المجدبة (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)، أي أنزل من السحاب الذي يتكاثف
ليعتريه البَرَد، فينزل ماء مدرارا، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43)
وماء النيل ينزل من السماء مطرا مدرارا، ثم يتجمع فيجري من جبال الحبشة حتى يصل إلى مصر لَا يعوقها عنها عائق.
وقوله: (وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) هو من حديث موسى عن ربه قطعا معرفا له لمن لَا يعرفه، وإن كانت فطرته تناديه معرفة، ولكنه يتجاهلها، ويصم أذنيه عن(9/4736)
صوتها. ثم قال الله تعالى: (فَأخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى) انتقال من الغيبة إلى المتكلم، ويحتمل أن يكون ضمير المتكلم لموسى، وهو بعيد؛ لأنه ضمير جماعة، وليس ضمير مفرد ويحتمل أن يكون لله تعالى وهو الواضح؛ لأن الله تعالى هو الذي يخرج النبات، وإن كان الزارع هو الذي يحرث، ويلقي البذور بعد الحرث، ويرجو الثمار من الربِّ، وكان الالتفات إلى المتكلم لأنه تحول القول من موسى إلى ربه الذي يتحدث عنه، والفعل ثابت له، فهو يخرج الحب والنوى وهو الذي أخرج كل شيء، وقوله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا بهِ)، أي بالماء فهو الذي أمدها بالحياة، كما قال تعالى: (. . . وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلًّ شَيْءٍ حَيٍّ)، وقوله تعالى: (أَزْوَاجًا) يقول المفسرون: أي أصنافًا، وأرى أن أزواجا ليست من الازدواج بمعنى الأصناف، بل من الزوجية، أي أنه من كل نبات زوجان كما أن في الحيوان من كلٍّ روجين، ففي النبات زوجان ذكر وأنثى يجري التلاقح بينهما وإن كان ربما لَا نراه ولكن يجري بمقدار.
(مِن نَّباتٍ شَتَّى)، أي مختلف متنوع فهذا حب متراكب، وهذا في سنابل وهذا للإنسان وذاك للحيوان، وهذا نخيل باسق وهذا كروم، وهذه فاكهة ورمان، و (شَتَّى) جمع شتيت كمرضى جمع مريض، وهو على ما قلنا صفة للنبات.
بعد أن ذكر سبحانه أنه الذي أخرج كل شيء من الزرع في بلد الزرع، وأنه هو الذي أنزل الماء من السماء في بلد النيل، بعد ذلك ذكر نعمته المباشرة في هذا فقال عز من قائل:(9/4737)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
وهذا التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطبين؛ لبيان النعم التي أنعم بها عليهم، إذ إن هذا النبات فيه طعام لكم ولأنعامكم " والأنعام " جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم، لأنها نعم أنعم بها عليكم في ركوبها، وفي أكلها، وفي أخذ أنواع المنافع منها، من أصوافها، وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين.
وقوله: (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ) الأمر فيها للإباحة لَا للوجوب، والأمر بالأكل للإنسان واضح ولا يكون إلا بعد الإعداد من طحين ونخل وعجن وخبز، وبعضها(9/4737)
يؤكل مباشرة كبعض الخضر، وقال بالنسبة للأنعام (وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ) ولم يقل " لتأكل أنعامكم "، والجواب عن ذلك أن الماشية، لَا تخاطب، والنعمة ليست لها، إن النعمة لمالكها، ولذا جعل خطاب الإباحة موجها إليهم بقوله جلت عزته: (وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ)؛ لأن الرعي ذاته نعمة أنعم بها عليهم؛ إذ ربما تكون لهم أنعام ولا يجدون مرعاها، فلا يمكنهم أن ينتفعوا بها، ومعنى: (وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ) مكنوها من الكلأ، والعشب الذي خلقه تعالى، ومعنى رعيها أن يقوم على شئونها، ويتتبع بها مواطن الماء والكلأ، وينتقل بها من مكان إلى مكان لسقيها وأكلها، فالمقصود الظاهر هو أكلها، وهو تعبير عن السبب وإرادة المسبب، أو الفعل وإرادة المآل، وذلك مجاز مرسل جائز في أساليب البيان.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لأُوْلِي النُّهَى) الإشارة إلى المذكور من آيات الله من خلق الأرض وجعلها ممهدة، وخط السبل فيها، وإنزال الماء من السماء إلى الأرض، وإخراج النبات أزواج في صنوف شتى متفرقة متعددة المنافع متنوعة الأجناس، إن في ذلك كله لآيات بينات تدل على قدرة الواحد الأحد، ولكن لَا يدركها إلا أولو النُّهى، أي أولو العقول، وسمي العقل " نُهية "؛ لأنه ينهى عن قبائح الأفعال، كما سمي العقل عقلا؛ لأنه يعقل النفوس عن الزلل والوقوع في الأخطاء والخطايا إن استعمل فيما خلقه الله تعالى له، ولم يشطط، ولم يفسد، وفي كل هذا كما أشرنا وحدانية الله؛ لأنه وحده الخالق الوهاب.
* * *
العناد والمواجهة بالآية
(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ(9/4738)
فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
* * *
استعلى فرعون على الخلق، واختبر الله به أهل مصر اختبارا شديدا حتى إنه فرض عليهم أن يجعلوه إلها فجعلوه، وفرض عليهم عبادة العجل فعبدوه، وأوجب عليهم أن يلغوا عقولهم في عقله، ورأيهم في رأيه، حتى إنه ليقول لهم مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ، فبين الله تعالى أنه من الأرض، ويعود إلى الأرض، ثم يكون الحساب الشديد على ما قدم من عمل، ولذا قال تعالى:(9/4739)
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى).
فعظامه ولحمه نبت من تراب، فآدم أبوه، وأبو الخليقة خلق من طين، ثم كان غذاء ذريته من نبات الأرض الذي ينبت في الطين، ومن حيوان الأرض الذي يتغذى من نباتها، وهكذا كان لحمه، ولقد كان خطاب الله تعالى لفرعون الذي استكبر واستعلى ليخفف من غلوائه.
وما أن تنتهي حياته في الدنيا حتى يعود إلى الأرض التي نبت منها، وصوره الله من طينها، ولذا قال تعالى: (وَفِيهَا نُعِيدُكمْ) بأن تدفنوا فيها، وعبر سبحانه وتعالى بقوله: (وَفِيهَا نُعِيدُكمْ) فعدى بـ " في " دون " إلى "؛ للإشارة إلى أنه لم يخرج من محيط الأرض فمنها خلق وفيها يحيى فهو مستمر فيها حيًّا وميتًّا.(9/4739)
وإنه سيخرج بعد ذلك بتجميع أجزائه المتفرقة، ولذا قال سبحانه: (وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) لكن هذا الإخراج ليس خلقا جديدا كما خلقكم منها، بل هو إعادة بجمع المتفرق في أجزائها، كما قال تعالى: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. . .).
تلك موعظة الله لفرعون، وتلك آياته، ولقد قال تعالى بعد ذلك إنه أبى فقال تعالى:(9/4740)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
(وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) آتى الله تعالى موسى تسع آيات بينات، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ. . .)، وذلك لرسوخ الكفر في نفس فرعون وقومه، فكان لابد من قوارع جسيمة تقرع حِسَّهم لتخرجهم من كفرهم الذي كثفته السنون المتوالية، وتكثف بالحضارة المستمكنة، والعلم المادي الذي كانوا عليه، ولقد بدأهم موسى بالعصا واليد البيضاء من غير سوء، ثم توالت الآيات: الجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، والرجز، وكل ذلك لم يُجدِ في القلب الجاسي المتصلب، والقلوب الخائفة التي تحسب أن الخنوع للفراعنة دين يتبع، ولذا قال:
(وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كلَّهَا) وهذا النص يفيد أن الآيات كلها خوطب بها كل واحدة في ميقاتها، وعند الحاجة إليها، والوعد بالإيمان إذا رفعها الله، كما وَعَدوا بالإيمان إذا رفع الله الرجز عنهم، ولكنه رفعه، (فبغوا) وقبل أن نتكلم في أمر المعجزة الأولى وهي العصا نذكر أمرين، أولهما: أنه سبحانه وتعالى أكد أنه أبي وقد أعطاه الآيات كلها مبينا لها، واحدة بعد الأخرى مع أنه لم يبين هنا إلا آية واحدة وهي العصا، والجواب عن ذلك أن هذا النص الحكيم حكم عام على إبائه وتجبره واستكباره، وقد جاءته الآيات كلها، والإباء ختام لما قدمه موسى، فقد أكد الله تعالى أنه بين له الآيات كلها بـ " اللام " و " قد "، والتأكيد بكل ذلك حق لَا ريب فيه، ولكنه اختص أولى الآيات؛ لأنها التي كانت بها الصدمة الأولى.(9/4740)
الأمر الثاني: لماذا اختص الله سبحانه وتعالى فرعون بالذكر ولم يذكر قومه إلا تابعين، ففي قصة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يذكر المشركون ويشار إلى زعمائهم، أما هنا فيذكر فرعون بالأصالة، وربما يذكر قومه بالإشارة، عندما يكون رجز يعم ولا يخص؟ والجواب عن ذلك أن قريشا كانوا أحرارا في تفكيرهم ولو باطلا، فلم يكن فيهم ملك أو طاغية يفرض رأيه ويقول لهم (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى)، وأما أهل مصر فقد رضوا أن تندغم إرادتهم في إرادته حتى ساغ له أن يقول: أنا مصر ومصر أنا وتلك خاصته فيهم، وقد رأينا بعضها الآن في عهد طاغية مضى:
عندما قدم موسى أول آية ومعها الحجج الذي أفحمت فرعون، ونقول أرهبت الجبار عندما ذكر له أن العذاب على من كذب وتولى، وذكر آيته الباهرة في الخلق والتكوين، وخص بالذكر ما يتعلق بالزراعة والنيل، عندئذ تقرر أنه إذا كانت فكرة الإيمان قد راودته، ففكرة السلطان قد عاودته، ولا يتخلى ملك ولو كان غير فرعون عن سلطانه طوعا واختيارا فلابد من مقاومته، وقد خشي أن يتسرب الفكر من المؤمن إلى قومه فجاء المصريين من ناحية ما يحرصون عليه، وهو حرصهم على سلامة أرضهم، وأن يكون الحاكم فيهم منهم، ولو كان فرعون، فقال:(9/4741)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57)
(قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) أتاهم من ناحية ما يحرصون عليه، وهو أرضهم، وأدخل قومه ليثير حميتهم، وقد خشي من موسى عندما انفرد بالقول معه، قد أفزعه بذكر ربه القوي القهار، الذي يُزيل ملك فرعون ونفسه بكلمة إن أرادها، ولقد قال في ذلك الزمخشري كلمة مصورة حاله: " إن فرائصه كانت ترتعد خوفا مما جاء به موسى عليه السلام، وإيقانه أنه على الحق، وأن المحق لو أراد قود الجبال لانقادت، وأن مثله لَا يخذل ولا يقل أنصاره، وأنه غالب على ملكه "، وذلك ما كان، فقد أزاله وملكه، وغرق في البحر هو وجنوده الذي تحكم بهم في رقاب المصريين، قال تعالى: (أَجِئْتَنَا) هذا استفهام للتنبيه، وحث الهمم على المقاومة والمحاربة لإنكار الذي جاء به خوفا من أن يتسرب(9/4741)
إلى نفوسهم، كما تسرب لنفسه بالفزع والإرهاب والتخويف، ولكيلا يسري إلى نفوسهم كما سرى إلى نفسه الفرعونية، وإن كانوا دونه حرصا؛ لأن ما يملكونه قليل يتفضل به عليهم، وقال: (لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ) لتخرجنا من أرضنا يعترف بأنها أرضهم وأرضه، وأنه لَا ينفرد بملكيتها، وهو القائل لهم: (. . . أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي. . .)، ويقول (بِسِحْرِكَ) كأنه لفزعه وخوفه حسب أن السحر يخرج من الأرض، ولعله كان يعتقد ذلك؛ لأن السحر كان عندهم علما يغير ويبدل، ولكنه كان يستحث قومه على المقاومة، ولذلك قال(9/4742)
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)
(فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ ... (58)
وهنا يجب الالتفات إلى كلمة قالها في هذه الحَومة من الجدل، فلقد نادى موسى قائلا (يَا مُوسَى) استدرارا لمحبته، وتذكيرا له بسابق تربيته بينهم، إذ قال من قبل (. . . أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ)، وهذا يدل على فزعه واضطرابه وتلمس الأمن من أي جانب يكون فيه أمن واطمئنان، ولقد أقسم بما يقسم به عندهم، موثقا قوله عليهم مطمئنا إليهم (فَلَنَأتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مثْلِهِ) " الفاء " للسببية، أي بسبب سحرك لنأتينك بسحر يماثل سحرك، أقسم على قومهم استحثاثا لهممهم واستدرارًا لمعونتهم في هذا الكرب النفسي، وأكد قوله بـ " نون " التوكيد، وبـ " لام " القسم، وقال (مِثْلِهِ) شعورًا بالضعف، وأنه لَا يزيد عليهم فهو ليس عنده طاقة بالزيادة، ولذلك أراد اللقاء في معركة، ولم يجرؤ على أن يعين هو مكانها وزمانها وترك لموسى أن يعد الأمر ويبين الموعد، فقال: (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا سُوًى)، تلطف فرعون الجبار مع موسى الكليم ففوض إليه أن يختار هو الزمان والمكان الذي تكون فيه المغالبة بين سحرهم وعصى موسى، ولا شك أن هذا التلطف كان يمكن أن يكون مطمعا للإيمان، لولا الملك وطغيانه، وأن مصر بلد السِّحر، وأن سحرتها كانوا علماءها، وقوله: (موْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا سُوًى) (مَوْعِدًا) مفعول بـ (فَاجْعَلْ) وكذلك (مَكَانًا) وسُوًى) أي مكانا عدلا ووسطا بين الفريقين لَا يشق علينا ولا عليك، وهو صالح(9/4742)
لأن يجتمع فيه الناس. وقوله على لسان فرعون (لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ)، أي لا نخلف فيه الوعد، وقدم نفسه ومن معه في عدمِ الإخلاف تطامنا، وتلطفا في القول، ثم تحدث عن موسى تلطفا معه، فقال (ولا أَنتَ). و (مَوْعِدًا) مصدر ميمي بدليل (لَا نُخْلِفُهُ) فالوعد هو الذي لَا يُخلف، والإخلاف عدم الالتزام، فالتزام فرعون بالموعد الذي يعينه موسى، والموعد يتضمن التعريف بزمان اللقاء ومكانه، وقد أجاب موسى عليه السلام بقوله:(9/4743)
قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
(قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
أجابه موسى عليه السلام مبينا الزمان والمكان، فالزمان هو ضحى يوم الزينة، والمكان هو مكان الاحتفال بيوم الزينة الذي يجتمع فيه الناس لهذا الاحتفال، و " الحشر " هو الجمع، كما قال تعالى في آية أخرى: (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْن فِي الْمَدَائنِ حَاشِرِينَ).
و (مَوْعِدُكُمْ) اسم زمان بدليل أنها محمول وموضوعها يوم الزينة فلابد أن يتفق المحمول والموضوع في الماهية، فلا يكون المحمول مكانا، والموضوع زمانا.
وما يوم الزينة؛ لم يبين القرآن ما هو ذلك اليوم، ولم يصح عن السنة ما يدل عليه، فقال بعض التابعين: يوم عاشوراء، وقيل يوم سوق عظيم يتزين فيه الشعب، وأقرب الأقوال إلى العقول، أنه يوم وفاء النيل، - فمصر من قديم الزمان تحتفل فيه وتتزين سرورا باطمئنانها على السقي والرعي، ولعل كليم الله موسى اختار ذلك اليوم لأنه يكون فيه جمع حاشد، وفيه تذكير برحمة الله تعالى على مصر بهذا النيل السعيد، الذي يفيض رحمة من الله، فيكون الفصل في قضية الإيمان في زمان ومكان يكون نعمة الله سابغة على مصر الزراعية.
بعد الاتفاق على الموعد وزمانه لَا باليوم فقط بل بجزء من اليوم وهو ضحى يوم الزينة، واختار الضحى ليكون الجمع أحشد، والشهود أكثر، فتكون المقاضاة على الحق أمام أكبر عدد ممكن، وتكون الدعوة والتبليغ لأوفر عدد، بعد هذا الاتفاق(9/4743)
انصرف فرعون وأخذ يتجادل في الرأي مع أحد شوراه، وأهل الرأي والنظر الذين يستنصر بهم، ولذا قال تعالى:(9/4744)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
(فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) " الفاء " عاطفة، أي بعد هذا الاتفاق على اللقاء ومكانه مباشرة انصرف فرعون، وأخذ يجمع أهل الرأي، ويتعرف الرأي الجامع منهم، وهذا هو التدبير الذي دبره، وسماه الله تعالى كيده، لأنه كان يدبر للغلب، يتعرف من يرسل إليه ومن يجيئون، ويتعرف بذلك أخلص الناس له، وأخذ هذا التدبير وقتا طويلا، ولذا قال بعده (ثُمَّ أَتَى) فكان العطف بـ " ثم " التي تدل على التراخي، وهذا يدل على أن جمع الكيد والتدبير أخذ وقتا طويلا.
أتى إلى الموعد، وموسى كليم الله تعالى قد أتى، وفد ابتدأ كليم الله - عليه السلام - بإرهابهم بقوة الله تعالى؛ لأنهم مقهورون بقوة فرعون وطاغوته وجبروته، فذكر أن قوة الله أعظم، وسلطانه أكبر فقال:(9/4744)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
(قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
اتجه إليهم ببيان قدرة الله تعالى وأنها تستأصل، ليزيل برهبة الله تعالى القادر - رهبة فرعون الذي لَا يملك من أمره شيئا وإنما قوته تخيل ووهم، وهو في ذاته ضعيف كغيره من الناس.
ومعنى قوله تعالى عن موسى: (لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) معناه: لا تقطعوا كذبا ولا تقولوه في مقام الحق، وصدَّر النهي بقوله: (وَيْلَكُمْ) أي الهلاك النازل بكم إن غيرتم الحق وبدلتموه وآثرتم الباطل عليه مرضاة لفرعون وقومه ممالئين في الحق وتقولون الباطل، ثم أكد وقوع الهلاك عليهم فقال الله عن موسى:
(فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى) الإسحات: الاستئصال، وألا تبقى منهم (باقية)، ومع هذا الاستئصال الخيبة؛ لأن الافتراء أشد الخيبة وأفحشها ولا يلجأ إليه إلا الخائبون في ذات أنفسهم، يعني أنكم إن كذبتم وافنريتم فإن الهلاك نازل بكم لا محالة، ولا تكونون قد نجحتم في هذا السباق الذي يكون فيه الاتجاه إلى طلب الحق.(9/4744)
أثرت هذه الكلمات الصادرة عن كليم الله تعالى في نفوسهم تأثيرا قويا، كما أثرت لقاءات موسى مع فرعون في نفسه فجعلته يتطامن في القول، ويبهره الحق الواضح، ولتأثير هذه الكلمات في أنفسهم أخذوا يتجادلون فيما بينهم، وقال تعالى عنهم:(9/4745)
فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
(فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62)
الفاء للسببية، أي بسبب ذلك القول الرهيب الذي أرهبهم تنازعوا أمرهم أي تجادلوا مختلفين غير متفقين في موقفهم من فرعون الذي كلفهم، وموسى الذي أفزعهم إن حادوا عن الصواب وجانبوا الحق، وعبر سبحانه عن تجادلهم بأنهم تنازعوا القول فكان فريق في جانب، وآخر في جانب، وتجادلوا وكل مجادلة بين متناقضين في النظر نزال وتصارع في الأمر، ولكنهم من بعد غلب عليهم أنهم يريدون السلامة لأنفسهم، وأسروا القول، ولم يريدوا اطلاع الناس على أحاسيسهم وفزعهم، ولذا قال في وصف حالهم: (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) أي بالغوا في إسرار مناجاتهم؛ لأن المناجاة ذاتها إسرار، ومعنى إسرارها المبالغة فيها بحيث لَا يستطيع أحد أن يطلع عليهم، ولا يعرف ما أسروه وتناجوا به.
* * *
المنازلة
(قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ(9/4745)
أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
* * *
إنهم اختلفوا عندما بين لهم كليم الله موسى - عليه السلام - عاقبة الأمر وتناجوا فيما بينهم وأسروا النجوى مبالغين في الإنكار، وانتهوا إلى أن أعلنوا رأى فرعون اتقاء للشر وتعرفا للأمر بعد وقوعه.
(إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) فيها ثلاث قراءات أولاها وأشهرها بـ (إِنَّ) المشددة والألف في الاسم والخبر، والقراءة الثانية (إِنَّ هذين لساحران) بـ (إِنَّ) المشددة والياء في (هذين)، والقراءة الثالثة (إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) بـ " إنْ " المخففة لَا المشددة. وإن القراءة الوسطى (الثانية) سائرة على الإعراب المشهور وهو أن (هذين) اسم " إنَّ " منصوب بالياء.
وأما القراءة الأولى فقالوا إنها على اللغة التي تلزم المثنى الألف في الرفع والنصب والجر كما هي في الأسماء الخمسة، كما قال القائل:
إن أباها وأبا أباها ... قد بلغا في المجدِ غايتاها
وأما القراءة الثالثة التي تقرأ بتخفيف " إنْ " فنقول: إن (إنْ) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن ويكون التقدير إنه الأمر المقرر الثابت هذان لساحران، وتكون اللام لام التوكيد، وتؤذن بأن تكون " إنْ " مخففة من الثقيلة، هذه لفتة إلى الإعراب، قد ضل بعض الناس فادعى أنه روي عن عثمان أن في المصحف لحنا تصححه ألسنة العرب، وهذا الضلال كان هنا في المقام، اللهم إن هذا بهتان عظيم على جامع القرآن ذي النورين رضي الله عنه وعفا عنه وجزاه عن الإسلام خيرا (1).
________
(1) قرأ المدنيان، وابن عامر، ويعقوب، والكوفيون إلا حفصا بتشديد (إن)، و (هذان) بالألف، وتخفيف النون.
وابن كثير بتخفيف (إن)، و (هذان) بالألف، وتشديد النون، وحفص كذلك، إلا أنه بتخفيف النون، وقرأ أبو عمرو بتشديد (إنَّ)، و (هذين) بالياء، مع تخفيف النون. الشيخ محمود خليل الحصري - القراءات العشر من الشاطبية والدرة - ص هـ 22.(9/4746)
ونعود على عَجَل إلى الكلام في معنى الآية الكريمة، إن السحرة بعد أن أفزعتهم مقولة موسى، وبيان عاقبة قولهم إن حادوا عن الحق وآثروا أن ينطقوا على هوى فرعون حتى يتبين لهم الحق،(9/4747)
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
(قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63).
ضربوا على نغمة فرعون ابتداء منجاة بأنفسهم من بطشه، والنفس الإنسانية دائما مأسورة بالأمر الحاضر مؤجلة القابل إلى ميقاته، وكذلك كان هؤلاء (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى)، " الباء " هنا للتعدية والمعنى ليذهبا طريقتكم، وجيء بالباء لتقوية التعدية أي ليذهبا أي إذهاب بطريقتكم المثلى، أي دينكم الأمثل وكل معتقد يعتقد في دينه أنه الأمثل في الأديان، وإن كان ضلالا في ضلال.
ويظهر أنه كان الخلاف مستحكما ولكن أخفوه، ولذا قالوا.(9/4747)
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
الفاء للسببية، أي بسبب أنهم أرادوا بسحرهم أن يخرجاكم من أرضكم، ويذهبا بطريقتكم المثلى، وهو أمر جامع متفق عليه، فأجمعوا كيدكم أي اعتزموه، وأقدموا مجتمعين غير متفرقين، وائتوا إلى موسى صفا لَا خلل فيه ولا افْتراق ولا تنازع، واتفقوا على أمور ثلاثة:
أولها: إجماع كيدهم، وهو تدبيرهم، ادخلوا الحومة مجمعين على تدبير واحد غير متفرقين فإن الإجماع وحده قوة، والفرقة ضعف وعجز، ولا تنازعوا فتفشلوا.
وثانيها: أن يأتوا موسى صفا واحدا لَا ثلمة فيه ولا افتراق، فإن ذلك يزرع في نفسه الهيبة منكم، قالوا ذلك وكأنهم مقدمون على ميدان قتال.
والأمر الثالث: أنهم اتفقوا راغبين في الاستعلاء وأخذ الأجر من فرعون والاستعلاء بعزته الفرعونية وكبريائه الغاشمة، ولذا قالوا: (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ منِ استَعْلَى)، أي فاز برضا فرعون من استعلى على خصمه، والسين والتاء للطلب، أي(9/4747)
طلب العلو فعلا، وهذا حث على أن يشمروا عن ساعد الجد ليفوزوا برضا فرعون، ويستعلوا عنده باستعلائهم بالانتصار في هذا الميدان السحري، اتجهوا بعد ذلك إلى موسى وقالوا له: (. . . يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) بادروه باسمه توددا له كما تودد من قبل فرعون، ولأنه كان عندهم من بيت فرعون من قبل، فله مكانته في نفوسهم الفرعونية، وحسن أدب منهم، لأنه قد شارفت نفوسهم الحقيقة وإن لم تدخلها، ولذا تنازعوا فيها، خاطبوه بأدب فقالوا(9/4748)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)
(. . . يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإمَّا أَن نَّكونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى)، أي اختر لنفسك أحد الأمرين، إما أن تلقي أنت عصاك التي في يدك، وإما أن نكون أول من ألقى، قابل موسى الكليم أذبهم بكرمه وقد لمح من كلامهم بإشارة القول أنهم يريدون أن يبدءوا، إذ قالوا في تخييره (وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى) فنفذ رغبتهم المطوية في عباراتهم، ولأنه يريد أن يعرف ما عندهم قبل أن يعرفوا ما عنده؛ ولأن الترتيب الذي ألهمه الله تعالى به، أنها ستلقف ما يلقون، فكان الترتيب الطبيعي أن يلقوا هم أولا، فقال موسى(9/4748)
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
(. . . بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
استنفذوا كل جهدهم وطاقتهم، وقد سحروا بفعلهم أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، وخُيِّل إلى موسى من سحرهم أن عصيهم تسعى، وما انقلبت حيات تسعى، بل هي على حقيقتها حبال وعصي، ولكن الأعين هي التي سحرت، ولذا قال تعالى في تأثير ذلك على موسى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسعى) ولقد كان ذلك التخيل مفاجأة لموسى، ولذا عبر بـ (إذا) التي للمفاجأة، والمفاجأة ما كانت في تحول العِصِيّ إلى حيات، إنما كانت المفاجأة التي خيل إليه من سحرهم أنها تسعى، وكان موسى عليه السلام تتمثل فيه الطبيعة البشرية، والتخيل يؤثر في البشر وإن كان عنده الحق المبين، ولكن لَا تزول المفاجأة إلا بتأييد من الله، والله معه:(9/4748)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67)
(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا (فَأَوْجَسَ) معناها أضمر أو أحس أو خاف، وذلك لأنه فوجئ بأمر لم يكن قد ألفه واعتاده، وهو أن يرى تخيلا عصيا وحبالا(9/4748)
تتحول إلى حيات تسعى، ثم يرى الجماد يسعى ويتحرك يمينًا وشمالا، وأمامًا ووراءً، فهذا التحول المفاجئ للحس يرهب، و (خِيفَةً) " فِعْلة " من الخوف، قلبت الواو ياء لكسر ما قبلها وسكونها، أي صار في حال خوف وهيبة من المفاجأة، ولأنه خشي أن يؤثر ذلك في الجماهير الحاشدة، فتصدق هذا الإفك، ولقد كان الله معه، وعليما بحاله، فقال له مطمئنا: (لا تَخَفْ) ولذا قال تعالى:(9/4749)
قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)
(قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68)
أي أذهب عنك الهواجس التي اعترتك من المفاجأة لأننا معك، والعاقبة لك (إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى) في هذه المبارزة، وأفعل التفضيل ليس على بابه؛ لأنهم لَا علو عندهم، وإنما المراد أنك أنت الغالب على فرعون وملئه، وأنت المسيطر في الجولة، ومعك سلاح الغلب والسلطان، وهو المعجزة التي، في يمينك، ولذا قال له عز من قائل ينبهه إلى معجزته الأولى التي بجست الحجر وفلقت البحر، وما كان غافلا، بل إن الدهشة التي أوجس منها خيفة جعلته يحتاج إلى أن ينبهه الله تعالى فقال:(9/4749)
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
(وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ... (69)
وقالوا: إنما أبهم ولم يذكر أنها العصا تعظيما لأمرها؛ ولأنها هي عود صغير من شجر تأخذ كل هذه الحبال والعصي ولا تُبقي شيئًا يتخيل، أو لَا يتخيل، وأرى أن قوله (مَا فِي يَمِينِكَ) تنبيه إلى أن في يده ما يدفع وهمهم، فكيف يوجس خيفة، وهو في يده، وقوله تعالى: (تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا) بالجزم جوابا للأمر، أي ألقِ ما في يمينك - وهو العصا - وقوله تعالى:
(تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا)، أي تأخذه بسرعة وتبتلعه ولا يكون له أثر. (تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا) الضمير يعود إلى العصا، ولذا صدَّر المضارع بالتاء، فكأنه إبهام ثم بيان فقال (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ) فلم يذكر أنه العصا، ثم بينها بعود الضمير على لفظ العصا بالتاء، وقد علل الله تعالى لقف العصي والحبال، فقال:
(. . . إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى).
" ما " هنا اسم موصول بمعنى " الذي " وهي اسم " إنَّ " وقوله تعالى (كَيْدُ سَاحِرٍ) خبر (إن) وأفرد ساحر مع أنهم كانوا كثرة كاثرة حتى ادُّعي في الأساطير(9/4749)
أنهم كانوا سبعين ألفا والله أعلم بعددهم، وعلى أي حال كانوا عددا غير قليل، أفرد لأن المقصود وصف ساحر؛ ولأن التدبير لَا يمكن أن يكون من الجميع، إنما هو من واحد وأقره الجميع عليه، ونُكر لأنه واحد من جمعهم لَا يهم معرفة شخصه، وعبر سبحانه بـ (كيْذ سَاحِرٍ)؛ لأنه تدبيره فهو ليس قلبا للحقائق، فلم يقلب الجامد إلى حي يسعى، وإنما خُيل للأعين فقط، فهو تدبير ماكر، يكيد للحق، وليس قلبا للحقائق قط.
وقال تعالى: (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) كان التعريف بـ " ال " التي للجنس، ويكون المعنى ولا يفلح من كانا عمله السحر في أي مكان أتى، فكلمة (حَيْث أَتَى) حيث: ظرف مكان، أي من إى مكان أتى، وإلى أي مكان سار، فهو لا فوز له أبدا، ولكن ضلال وتمويه، وتخيل للأعين واسترهاب للنفوس.
عندما استعان فرعون بالسحر والسحرة استعان بهم ليغلبوا، ولكنهم كانوا المميزين بين السحر والمعجزة فأدركوا أن عصا موسى ليست من السحر، ولكنها معجزة الله تعالى أعطاها موسى فآمنوا، قال تعالى:(9/4750)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
يقول الزمخشري في عبرة هذه الوقائع: " سبحان الله ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم، ثم ألقوا رءوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين " اهـ. ونقول: ما أعظم الفرق بين الباطل والحق. وبين الاستجابة للباطل واستجابة للحق جل جلاله.
" الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وكان ما قبلها هو إلقاء العصا ولقفها كل ما ألقوا وكان شيئًا كثيرا إذ امتلأ المكان بالحبال والعصي التي تسعى، حتى كأنَّ الوادي صار أفاعي وحيات في نظر الرائي، فكان عجبا أن تبتلعها عصا يتوكأ عليها، ويهش بها على غنمه، فكان الإيمان بالمعجزة، وهم أهل الخبرة في معرفة ما هو سحر وما ليس بسحر فآمنوا بالمعجزة وخروا ساجدين.(9/4750)
(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا) (سُجَّدًا) جمع ساجد، كـ " صُوَّم " جمع صائم، وقوله: (فَأُلْقِيَ) بالبناء للمجهول للإشارة إلى أنهم ألقوا سجدا لوضوح الحق
وظهوره، (قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَموسَى) آمنوا بالله واكتفوا من التعريف بأن يكون
رب هذين الصادقين، وخبر الصادق صادق.
* * *
فرعون والسحن بعد إيمانهم
(قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
* * *
أحس فرعون بأن الأرض تميد من تحت أقدامه فلبس الجلد الفرعوني، وأخذ يهدد وينذر وينفذ ما قام به من شر؛ لأنه رأى بوادر المخالفة لأمره والمنازعة لرأيه، ولذلك بطش، وانتقل من الاستدراج إليه إلى القهر، وعاد إلى الطغيان.(9/4751)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
(قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ) أي أسلمتم له وأذعنتم له، ويتضمن معنى المسايرة لموسى والمعاندة له، يقال ءامنتم له وءامنتم به، " وتتضمن التعدية باللام التسليم له والإذعان له، وتتضمن التعدية بالباء الإيمان بالحق الذي جاء به، وقد جاءت التعديات في هذا المقام، فهنا التعدية باللام، وفي سورة الأعراف كانت التعدية بالباء فقد قال تعالى:
(قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ).
وفى هذا الاستفهام إنكار للواقع، فهو ينكر إيمانهم الذي وقع، ويوبخهم عليه، وموضع التوبيخ أنهم آمنوا قبل أن يأذن لهم وهو بذلك يصل بهم إلى أعلى درجات العنت والطغيان، فهو يعلن بهذا أن حكمه يصل إلى فكرهم وقلوبهم، ويحقق فيهم قوله (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).
كان فرعون على رأس طريق أخذ يسلكه السحرة، فلم يقل الحق ويذعن، ويسلك سبيل الرشاد، بل أخذ يموِّه الحق بتمويه من الباطل، فرآهم تبعوا موسى فما أذعن للحق الذي تقاضى مع موسى فيه، بل أخذ يماري، ولا يقول إنه غلبهم، لأنه على الحق، بل لأنه أكبر منهم قدرة وطاقة، وأنه منهم بمنزلة المعلم الذي علمهم، فقال: (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكمُ السِّحْرَ)، فهو أسحر منهم وأعلم، وهم منه بمنزلة التلميذ من المعلم، فلم يغلبهم لأنه المحق وهم المبطلون، وإنما غلبهم لأنه أسحر منهم وأعلم، وهكذا كانت المعاندة لآيات الله وقد برزت.
ولأنهم على رأس طريق جديد وهو الخروج على طاعته ومقاومة جبروته، والاستعلاء بربهم على طغيانه - وضع العقبات وأنزل بهم العذاب الشديد، فقال: (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ) " الفاء " للسببية، أي بسب ما فعلتم لَأُقَطِّعَنَّ أيديكم.
في هذا الكلام قسم بما يُقسم به عنده، و " اللام " لام القسم، ولذا كانت " نون " التوكيد الثقيلة، التي تلازم القسم في اللغة، والتقطيع للأيدي والأرجل بصيغة التفعيل يدل على كثرة القطع، لكثرة من قطعمت أيديهم وأرجلهم، وقوله (مِّنْ خِلافٍ) أي تختلف جهة القطع، فإذا قطعت اليد اليمنى، تقطع الرجل اليسرى،(9/4752)
وهكذا، وقال مقسما أيضا بما يُقسم به عندهم (وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوع النَّخْلِ) وقالوا: إن (فِي) هنا بمعنى " على "، وعبر بـ " في " لبيان تمكن الصلب استقرارهم على جذوع النخل، وهذا الصلب على الجذوع يومئ إلى بقائهم على الصلب حتى يموتوا فهو قتل وتقطيع، ثم قال مقالة الجهالة والطغيان: (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى).
أقسم الجهول في قوله هذا بما يُقسم به عندهم، و (أَيُّنَا) استفهام، وهي تفيد التنبيه في زعمه إلى أنه أشد عذابا وأقسى من موسى، وأبقى أثرا في عذابه من موسى، وهو جهل طاغ لأن موسى لَا يعذِّب، ولكن يرشد ويهدي، إنما الذي يعذب هو الله ربَّ موسى وهارون، وعذابه أليم هو جهنم يخلد فيها فرعون ومن يتبعه.
من دخل الإيمان قلبه يعمره الله بنوره ويستهين بالحياة والأحياء ولو كانوا فرعون وقبيله، ولذا أجابوا عن تهديده الذي ثفذه بقولهم كما حكى الله تعالى عنهم:(9/4753)
قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
(قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إجابة حاسمة قاطعة تقطع أمله في رجوعهم، والإيمان إذا دخل القلب وأشرب حبه كان أثبت من الرواسي، وهو إيمان بحجة وبينة وبرهان (لَن نُّؤثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا)، أي لن نتركه لأجلك أيها الطاغي الباغي، وهذا معنى مؤكد، لأن " لن " تفيد النفي المؤكَّد، حتى ادعى الزمخشري أنها تفيد تأبيد النفي، فلا تطمع في رجوعنا عن الحق والإيثار والتفضيل، أي لن نفضلك على البينات، أي الدلالات الواضحات التي جاءتنا، وفي هذا إشارة إلى أن ما عنده باطل وأوهام، وكيف نفضل الأوهام على الدليل والبرهان؟! وقوله تعالى: (وَالَّذِي فَطَرَنَا) عطف على (مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَات)، والذي فطرنا هو الله، يعني لن نؤثرك على الحق الواضح، ولن نؤترك على الله تعالى جل جلاله فهو القادر على كل شيء، فلن نؤثر الضعيف الظاهر على الله القادر العادل القهار، ويجوز أن يكون(9/4753)
قوله: (وَالَّذِي فَطَرَنَا)، أي أنشأنا ولم نكن شيئا، الواو للقسم لا للعطف، والمعنى لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والله الذي أنشأنا من عدم، فمن تكون أنت أيها المخلوق الضعيف، ولو كنت فرعون الطاغي المتجبر بصلفك وعتوِّك؟! وقد رتبوا على عزمتهم النابعة من قلوب مؤمنة تفويضهم الأمور إلى ربهم والاستهانة بفرعون وبتهديده فقالوا (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ) " ما " إن كانت موصولا حرفيا يكون المعنى فاقض قضاءك، لأنه قضاء الحياة الدنيا وهي فانية، والآخرة هي الباقية، ويصح أن تكون موصولا اسميا بمعنى فاقض الذي أنت قاض، ويكون الرابط في الصلة ضمير فاقض ما أنت قاضيه.
وقالوا ما يدل على الاستهانة بحكمه القاصر (إِنما تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) هذه الحياة الدنيا ظرف، فتقدم في الكلام، والمعنى: إن قضاءك هو في هذه الحياة الدنيا، وما موصول حرفي، وإذا قضاؤك هو في هذه الحياة، فهو قضاء تنفيذه وقت قصير ومن بعده خير طويل، فإنما الحياة الدنيا متاع قليل والآخرة خير وأبقى، وإن هذا يدل على كمال الإيمان بالله، والاستهانة بفرعون وعذابه.
أول أمارات الإيمان الراسخ الإحساس بالتقصير والإذعان لله تعالى، وهذا أمر أولئك المؤمنين الذين كانوا من قبل ساحرين، قالوا مؤكدين إيمانهم ومؤنبين فرعون وشيعته:(9/4754)
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
قالوا مؤكدين إيمانهم بـ (إن) أولا، وبالجملة الاسمية ثانيا، وبقولهم (بِرَبِّنَا)، أي الذي خلقنا وأنشأنا إنشاء، فكأنهم يوثقون إيمانهم بأنه إيمان بمن خلق وصور لا بمن يظهر قدرته في العذاب والإيذاء لَا في الخلق والإنشاء.
وذكروا ما يرجون من وراء إيمانهم فقالوا: (لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا) و " اللام " هنا لام العاقبة، أي لتكون عاقبة إيماننا بربنا أن يغفر لنا خطايانا، والخطايا جمع خطيئة، والخطيئة هي الذنب الذي يحيط بالنفس ويستولي عليه، حتى يصير كأنه صفة من صفات النفس يصدر عنه من غير تدبر ولا تفكر، ولذا قال تعالى: (بَلَى مَن كَسَبَ(9/4754)
سَيئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)؛ وذلك أن الإنسان إذا أذنب ذنبا نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا تكررت، تكررت هذه النكت حتى يربادّ فيمتلئ بالخطايا وتصدر عنه أفعالها كأنه غير قاصد لها، وهي للضالّ تشبه الخطأ من الصالح في ذات نفسه ومن تقع منه يسمى خاطئا أي آثما.
وقد ذكر رجاء الغفران من خطاياهم، أي آثامهم، التي كانت منهم، وهم في ديانة القدماء من المصريين، وقد اعترفوا أنهم كانوا يفعلون هذه الخطايا مختارين، والأمر الثاني الذي اعترفوا به هو السحر، وهو إثم، ولكنهم ذكروا في هذا أن فرعون كان يكرههم، ولذا قالوا (ومَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ).
وإذا كنت يذهب غرورك بأن تقول: (. . . وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) فنحن نقول الحق: (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)، فالله هو الدائم، وهو الخير كله، فلا يكون عنه إلا خير ولا يرضى لنا إلا كل خير.
ولقد بينوا رجاءهم في الله، وعاقبة المجرمين فقال الله تعالى:(9/4755)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
الضمير ضمير الشأن أي أنه الحال والشأن المقرر الثابت (مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا)، أي مرتكبا الآثام كاسبا لها، قد سيطرت عليه آثامه واستغرقت نفسه، (فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى).
وهذا القول يحتمل أن يكون من كلام السحرة الذين آمنوا وذلك ظاهر السياق؛ لأن الكلام فيما ردوا به على فرعون، ويحتمل أن يكون وصفا لما يجري على الأشقياء بحكم الله تعالى وقضائه، ويرشح لهذا ما جاء بعد ذلك من ثواب المتقين، وقوله تعالى لمن يدخل جهنم: (لا يَمُوت فِيهَا وَلَا يَحْيَى) وهذا وصف عميق للذين يخلدون في النار فهم لَا يموتون ليستريحوا راحة الموت، إذ يفقدون الحس شقاء أو نعيما، ولا يحيون حياة كريمة فيها متعة الأحياء، ولكنها عذاب وآلام، فهم لَا يموتون فهها ولا يحيون؛ إذ هي حياة الألم المرير المستمر الذي لَا ينقطع.(9/4755)
وقد جاء النص من بعد ذلك:(9/4756)
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)
(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75)
الضمير في (يَأْتِهِ) يعود إلى ربه، ويتضمن معنى الإقرار بالربوبية، والخلق وإنشاء الإنسان، وفي ذلك رد فرعون واستهانة به، وهو الذي كان يقول أنا ربكم الأعلى. و (مُؤْمِنًا) أي مذعنا خاضعا للحق مستقيم النفس والعمل، ولذا قال من بعد (قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ)، والصالحات الأعمال الصالحة التي تنشر العدل والحق وتقيم النفع وتدفع الفساد في الأرض، وتحفظ للإنسان كرامته، وتدفع عنه المهانة وتسوي بينه وبين الناس، وقد ذكر سبحانه وتعالى جزاءهم فقال: (فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى) " الفاء " في جواب الشرط، والإشارة إلى هؤلاء متصفين بالإيمان والصلاح، والقصد إلى الأعمال الصالحة النافعة غير المفسدة، (لَهُمُ الدَّرَجَاتُ)، وهي الارتقاء في السمو والارتفاع، و (الْعُلَى) جمع " عُلْيَا " وهي مؤنث " أعلى "، أي الدرجات المرتفعة التي ما فوقها ارتفاع، فلا يرفع المؤمنين أن يرضى عنهم فرعون، وهو بشر دونهم؛ لأنهم أطهار وهو مجرم آثم ظالم غشيه الشر وأرداه، فلعنه الله ومن يتشبه به وإن كانوا دونه قوة واقتدارا، ولكنها الغطرسة الحمقاء.
وقد بين سبحانه هذه الدرجات العُلى، فقال سبحانه:(9/4756)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
(جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
(جَنَّاتُ عَدْنٍ) أي إقامة، وهي إقامة مريحة (فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)، وفي ذلك تبكيت لفرعون بأنهم ينالون بعملهم الصالح خيرا مما فيه، وإذا كان يقول معتزا بغير الله تعالى: (. . . أَلَيْسَ لِي مُلْك مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَار تَجْرِي مِن تحْتِي. . .)، فأولئك البررة الأتقياء تجري من تحتهم الأنهار في جنات عدن، وإن هذه الجنات يخلدون فيها ويستمرون، وفيها النعم غير مقطوعة ولا ممنوعة (وَذَلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى)، الإشارة إلى هذا النعيم المقيم جزاء من تطهر من الظلم والمعاصي، ولم يَسِرْ وراء الأوهام الفاسدة.(9/4756)
ولقد سرنا على أساس أن الآيتين (إِنَّهُ مَن يَأتِ رَبَّه مُجْرِمًا. . .) و (ومَن يَأتِهِ مُؤْمِنًا. . .) هو من كلام الله تعالى لَا من كلام السحرة؛ لأنه معطي النعيم، وهو المعاقب والمثيب فهو أليق به، وإن كان ثمة احتمال أن يكون من كلام السحرة، وإذا كان السياق يسوغه ابتداء فإن ثمة التفاتا من الحديث عنهم إلى أن يتكلم الله تعالى عن نفسه، فهو مالك يوم الدين.
* * *
نجاة بني إسرائيل وغرق فرعون
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
* * *
لم يذكر سبحانه وتعالى إنزال الرجز عليهم، وآيات أخرى، ومجادلات لفرعون وملئه وادعائهم التطير بموسى ومن معه، ويلاحظ أنه لم يحاول الفتك بموسى وأخيه هارون، وقد ذكرت هذه الأحوال في سورة الأعراف، وهكذا تتبع قصة موسى مع فرعون وبني إسرإئيل يبدو بادي الرأي أنها مكررة، وبالتأمل تجدها(9/4757)
غير مكررة، وما يذكر في مكان يترك في مكان آخر، وفي كل مكان كانت عبرة قائمة بذاتها يذكر لها جزء من القصة، لتفرد كل عبرة في موضع، فيكون التجدد والتنبيه المستمر والعبرة، استعداد موسى للقاء فرعون، واللقاء بين نبي اختصه الله تعالى بأن كلَّمه تكليما، وأكبر الطغاة الذي تشبه به كل طاغية في الأرض، وآخرهم من رأينا في مصر، الذي أجرى الله مراحيض مصر على جثمانه النجس، ويصور هذا الجزء استدرار الطغاة لعاطفة مخالفيهم، ثم استبداده من بعد أن يغلب كما رأينا في معاملته للسحرة، الذين قال لهم: (قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ. . .) وقطع أيديهم وأرجلهم.
بعد ذلك ترك المجادلات واتجه القرآن الكريم إلى نهاية الطاغوت في الأرض وإغراق صاحبه:(9/4758)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
(وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا).
أوحى الله تعالى إلى نبيه موسى (أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي)، " أنْ " هنا تفسيرية، أي أن الإيحاء كان هو قوله: أَسْرِ بِعِبَادِي، الإسراء: السير ليلا، وكأنَّهم خرجوا على استخفاء من فرعون خشية أن يبادرهم بالإيذاء، ولكنه علم بهم، فلحقهم بجنوده، وأمر الله تعالى موسى أن يخط لهم طريقا يبسا جافا من الماء؛ ولأن خط هذا الطريق كان بالضرب بالعصي التي بيده دائما - عبَّر عن الأمر بالتخطيط بالضرب، وقد جاء في سورة الشعراء (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66).
وفي هذه الآية أكد سبحانه وحيه لموسى بـ " اللام " و " قد "، وقولِهِ تعالى: (يَبَسًا) مصدر هو وصف للطريق الذي أمر موسى به، وهو مصدر من يبس.
وقد طمأن الله موسى ومن معه من بني إسرائيل الذين سماهم عباده؛ لأنه لخصهم من فرعون وأهواله، طمأنهم بقوله تعالى: (لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى)(9/4758)
والدَّرَك: اللحاق، أي لَا تخاف أن يلحقوك، والدرك بالسكون والفتح الإدراك الحسي، وهو الوصول إليك واللحاق بك، ولا تخشى بأسه، فأنت في أمن الله تعالى الذي لَا يُدرك، مَن هو في أمنه و " لا " هنا للنفي لَا للنهي، فالمعنى ليس من شأنك أن تخاف اللحاق بك، ولا تخشى بعد اليوم بطش فرعون وقومه، والجملتان حاليتان، وإن من يكون في أمان الله لَا يخاف أحدا ولا يخشاه، ولقد بين الله تعالى أن فرعون منعهم وحاول اللحاق بهم، ولكنه لقي حتفه في هذا اللحاق، ولذا قال تعالى:(9/4759)
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)
(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)
يقال تبع وأتبع بمعنى تبع كما في لحق، وألحق، والمعنى وتبعهم فرعون مصاحبا جنوده وقد أرسل إليهم يدعوهم معه قائلا: إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وأنهم لنا لغائظون - اجتمع بكل ما عنده من جند قوي تجبر بهم وعاند، فتبع موسى الذي جمع بني إسرائيل فكان جمع الأقوياء، وراء جمع الضعفاء، ولكن كان الله مع الضعفاء، فرعون وجنده وراء موسى وبني إسرائيل، ويحسب المغرور أن البحر حاجزهم، ولكن رب السماوات والأرض، ورب البحار والأنهار، شق البحر لهم، فضرب موسى البحر بعصاه فانفلق، وكان كل فرق كالطود العظيم، كان البحر الذي يكون الناس فيه كدود على عود اثني عشر فرقا كان لكل جماعة طريقا، وتبع كل أناس إمامهم، فرأى المغرور الطريق بين يديه يبسا كما هو بين أيدي بني إسرائيل، وقد ضل هو وجنده، حتى إذا تم دخولهم انطبق عليهم البحر، وهذا معنى قوله تعالى: (فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيهُمْ) أي غطاهم من البحر ما غطاهم، وهذا من الإيجاز المعجز، وصاروا في البحر، فلما أدركه الغرق قال: (. . . آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ. . .)، والإبهام هنا لتذهب فيه النفس بالخيال كل مذهب، وكل خيال فيه دون الحقيقة لأن جندا بأكمله، كان يتجبر به فرعون ويستعلي ويغتر وقد جمعه كله بإرادته، قد ألقاه فرعون في البحر إلقاء، ولذا قال تعالى من بعد:(9/4759)
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
أوقع فرعون في نفوس جنده أنه مدركهم، وأنهم قاتلوهم، إذ هم عُزَّلٌ من السلاح وهم شرذمة قليلون كما قال، وما علم هو وهم أن معهم الله تعالى على كل شيء، وكان بهذا إضلالهم إضلالا حسيا، ظهرت عاقبته فيه وفيهم بإغراقهم، وإن هذه صورة جلية حسِّية من إضلالهم العقلي والديني، فقد أضلهم فجعل نفسه إلها فيهم وأضلهم فأرغمهم في نفسه، وصاروا ليس له معهم وجود إنساني، ثم قال تعالى: (وَمَا هدَى) وهو الذي كان يقول لهم: (. . . مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، فكان اندغامهم في فكره إبعادا للهداية وإمعانا في الغواية.
* * *
موسى وينو إسرائيل
عاش موسى المجاهد في الحق أربعة أدوار: أولها أنه عاش في بيت فرعون تكلؤه المحبة من زوج فرعون، وربما فرعون نفسه الذي لم يكن له ولد، فكان في بيته بمثابة ولده، حتى إذا بلغ أشده وأدرك المجتمع الذي يعيش فيه كان الدور الثاني، فأدرك من هو في مصر ومن قومه، فما ارتضى الظلم في ذاته، ولا ظلم قومه، فكان ربيب نعمة فرعون من شيعة المظلومين المضطهدين، وعندئذ خرج من مصر حرّا كريما رضي بشظف العيش، وجفوة الصحراء وخلص لله، وقال مناجيا ربه:
( ... إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)، وعاش كادحا وتزوج من إحدى ابنتي شعيب، واستمر يرعى الأغنام متمتعا بحرية الصحراء ونسيمها غير الوبيء، وإذا كان قد حُرِمَ رافغ (1) العيش في بيت فرعون، فقد منح حرية النفس وسلامة الاعتقاد، ونعمة الكفاح، وذَوْق متاعب الحياة بجوار نعيمها، فاكتملت بذلك إنسانيته، وعندئذ جاء الدور الرابع من حياته.
وهذا الدور الرابع كان في حقيقته دورين: أولهما: لقاؤه هو وأخوه بفرعون، وقد انتهى بغرق فرعون، ونجاة بني إسرائيل، ويبتدئ الدور الثاني، وهو دوره مع بني إسرائيل ومحاولة تربيته لهم، لقد رُبوا على الاستخذاء والضعف والاستكانة،
________
(1) الرفاغِيةُ: سَعة العَيش والخصْبُ والسَّعةُ. وعيش أرْفَغ ورافِغ ورفِيغٌ: خصِيبٌ وسِعٌ طيِّب. ورفُغَ عيشه، بالضم، رفاغة: اتَسَعَ. َ لسان العرب - رفغ.(9/4760)
فلابد أن يربى فيهم العزة والكرامة، ورُبوا في أحضان الوثنية فلابد أن تزرع فيهم الوحدانية، وربوا على الختل والاستهانة، فلابد أن تربى فيهم العناية والخلق الكريم، وهذا أشق الأدوار في حياة موسى.
بعد أن نجا هو وبنو إسرائيل من فرعون، وألقاه الله تعالى في اليم، قال الله
تعالى مخاطبا لهم:(9/4761)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
ناداهم الله تعالى مقربا مدنيا مؤنسا لهم ذاكرا سبحانه نعمته عليهم؛ ليعرفوا حقها عليهم من الشكر فلا يكفروها، (قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ) الذي تحكم فيكم وأسامكم سوء العذاب، وإن هذه كانت مظاهر العداوة من ذلك الظالم الغاشم (وَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيمنَ) أي الإتيان في جانب الطور الأيمن، فالكلام على حذف مضاف، وحُذِف لأن المقصود هو ذات الجزء الجانب الأيمن، والإشادة به لأنه الجانب الذي لقي فيه ربه، وأنزلت عليه الألواح العشرة فيه، فهو المكان الذي كانت ذكريات نبوة موسى عليه السلام، وهو من أولي العزم من الرسل، والتوراة من الكتب المقدسة التي تشتمل على الشرائع الخالدة إلا ما نسخه القرآن الكريم.
وقد قال تعالى: (وَاعَدْنَاكمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ) وهنا ملاحظتان: إحداهما أن الله تعالى جعلهم طرفا في المواعدة وهي مفاعلة تكون من جانبين، جعلهم الله سبحانه وتعالى طرفا مقابلا لذاته، وذلك تكريم لهم، ورفع لنفوسهم التي استخدمت بإذلال فرعون، فأعلاهم رب العالمين ورفع كبوتهم وأزال عنهم خسيسة الذل.
والثانية أن المواعدة كانت مع موسى رسولهم، لَا معهم كلهم، ولكن موسى يجيء بهذه الشرائع إليهم، وقد قال تعالى في هذه المواعدة (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. . .)؛ ولأن موسى وهو رسولهم الذي أرسل إليهم كانت المواعدة معه مواعدة لهم. ولأن موسى اختار منهم من سيلونهم في هذا اللقاء، فإد قال تعالى: (وَاخْتَارَمُوْسَى قَوْمَهُ سبْعِينَ رَجُلًا(9/4761)
لِّمِيقَاتِنَا. . .)، فكان اختيار " لهذا الموعد فيه معنى أنهم كانوا مواعدين، وخصوصا أنهم كانوا يمثلون بني إسرائيل، ولذا قال تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً. . .)، أي أنهم كأنهم قوم موسى جميعهم، كان ذلك كله تشريفا وتكريما، ورفعا لهم مما كانوا فيه من كبوة.
وقد ذكر سبحانه وتعالى طعامهم في هذه الصحراء الجرداء، فبدلهم الله بطعام مصر طعامًا أشهى وأمرأ وأجدى وهو المن الذي أنزله الله في الأشجار، والسلوى ذلك اللحم الطري؛ ولذا قال تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) وقال: (وَنَزَّلْنَا) ولم يقل " أنزلنا "؛ لأن المن والسلوى لم ينزل عليهم دفعة واحدة، فيغمرهم فيحتاجون إلى وسائل لادخاره وحفظه، بل كان يعرض لهم على حسب حاجتهم شيئا فشيئا غير مقطوع فلا يحتاجون إلى الادخار، ولا يقطع عنهم فيكون الجوع، بل يجيء إليهم غير مقطوع ولا ممنوع، بل مستمر رحمة من الله تعالى.
هذا رزق الله تعالى لبني إسرائيل في هذه الصحراء الجرداء، وقد نهاهم الله عن الطغيان في الرزق، فقال عز من قائل:(9/4762)
كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
(كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
ذكر الله تعالى رزق بني إسرائيل بالمن والسلوى في سيناء فناسب أن يبين - سبحانه - شكر الرزق، وفساد النعمة بالطغيان، فقال: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكمْ) وهذا الأمر لبيان إباحة الطيبات، وهو في معناه يتضمن الطلب؛ لأن الأكل مباح ومطلوب، أما إباحته فلتخير ألوانه الطيبة، وأما طلبه فلمنع الإنسان نفسه من الأكل فيهلك، والطيبات لَا بد لها من أمرين: أن تكون كسبا حلالا طيبا لا خبث من طريق الحصول عليه، وأن يكون غير مستقذر كالميتة ولحم الخنزير، والدم المسفوح، وغير ذلك من المحرمات التي حرمت لأنها رجس مستقذر؛ ونهى سبحانه عن الطغيان في الرزق، فقال سبحانه: (وَلا تَطْغَوْا)، أي لَا تتجاوزوا الحدود فيه، وتجاوز الحدود فيه يكون بضروب شتى، منها: أن يطلبه من غير حلِّه، ومنها: أن يأكل السحت والربا، ومنها: أن يمنع الفقير من حقه، ومنها: أن يسرف(9/4762)
فيه إسرافا، وأن ينفقه في غير موضعه، ومنها الشح والبخل بأن يكون عبد الدينار والدرهم، فكل هذه مجاوزة للحد، وطغيان، وإن الذي يترتب على الطغيان في الرزق وعدم شكره غضب الله تعالى فقال: (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) " الفاء " فاء السببية، أي بسبب الطغيان ينزل بكم غضبي، وهو أعظم ما يفقد الإنسان معاني العلو، فغضب الله يبعد الشخص من سماء الرفعة، ويهوي في مكان سحيق من المقت، والبعد عن الله تعالى، ولذا قال تعالى: (وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) أي فقد نزل إلى الهاوية السحيقة البعيدة الغور، ومن سقط في الهاوية فإنه يهلك لا محالة، ولذا قالوا: إن (هَوَى) معناها (هلك)، ولذلك فسر الزجاج (فَقَدْ هَوَى) بمعنى: فقد هلك.
وإن الله تعالى يقرن رحمته بعذابه، ومغفرته بعقابه، ولذا قال تعالى:(9/4763)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
(تَابَ) عما يرتكب من كبائر وهفوات، فالتوبة ضراعة إلى الله، ورجوع إليه، وهي ذاتها عبادة، وإن الله يقبل التوبة من عباده، والتوبة تجبّ ما قبلها من معاصٍ، كما أن الإيمان يجبُّ الكفر، و (آمَنَ) معناها ملأ الإيمان بجلال قلبه، بأن قرن توبته بإِذعان مطلق لله تعالى، وكان عمله كقلبه، ولذا قال: (وَعَمِلَ صَالِحًا) بأن قام بالعبادة مخلصا محتسبا، وعمل النافع للناس، وكان يحب الشيء لَا يحبه إلا لله.
(ثُمَّ اهْتَدَى) الاهتداء أن يعلو إلى درجة المهتدين الذين يخلصون عن الداني في عقولهم ونفوسهم، ويكونون ربانيين لَا يعرفون إلا ربهم، ويطرحون كل أمور الحياة وراء ظهورهم إلا أن يكون خيرا أمرهم به، وإن الوصول إلى هذه الدرجة وصول إلى مرتقى عالٍ، ولذا كان العطف بـ " ثم " التي تدل على البُعد، وهذا كقوِله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا).
* * *(9/4763)
عبدوا العجل!!
(وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
* * *
إن هذا هو الدور الأخير من رسالة موسى عليه السلام وهو رعايته لبني إسرائيل، لقد قيل في الروايات: إن عددهم كان ستمائة ألف، ولكن تربيتهم على العقيدة السليمة عقيدة الوحدانية أخذت جهدا كبيرا، ثم إزالة ما عَلَق برءوسهم من(9/4764)
أوهام المصريين أخذ أمدا طويلا. وتربيتهم على النخوة والقوة والعزة كان فوق طاقة موسى عليه السلام، ولذا جعلهم الله يتيهون في الأرض أربعين سنة، ليتربوا فيها على النخوة والبأس والعزة، إن كان فيهم استعداد لها ولتكاليفها، وقال الله تعالى لكليمه موسى مواسيا: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26).
أول صدمة لموسى الكليم فتنة العجل، ذهب موسى إلى جانب الطور الأيمن، كما وعده ربه ليتلقى التوراة، وذهب فرحًا عَجِلًا؛ لأنه على شوق لمخاطبة ربه، ولأن المسارعة إلى وعد الحبيب ترضيه، وترضي نفسه، وفي غيبة موسى عن قومه لم يكن وقتا طويلا، فتن بنو إسرائيل بعبادة العجل، وربما يكون موضع عتب بهذه المسارعة، لما اقترن بغيبته، وكل شيء بإرادة الله، ولكن على المرشد الهادي أن يراقب النفوس وموضع ضعفها، وموضع الضعف عند الإسرائيليين هو معاشرتهم لأهل فرعون، هو اتباعهم طريق هؤلاء في أوهامهم وعاداتهم وتقاليدهم.
قال الله تعالى لكليمه، وقد جاء مسارعا إليه في موعده:(9/4765)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)
(وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84).
" الواو " وصلت ما بعدها بما قبلها لكمال السياق، ولبيان أن الفتنة جاءت بعد الإنعام بالإنجاء، وتنزيل المن والسلوى، والمواعدة على خطاب الله تعالى لموسى، وهذا فيه تقريب لما يقع منهم من بعد، إذ قرنوا تلك النعم السامية بالكفر لا بالشك، وبذلك يتصور القارئ ما سيكون منهم.
كان موسى عليه السلام قد خرج من قومه بمن يمثلونهم، وهم السبعون المختارون الذين يمثلون أسباطهم، ولكنه ككل رئيس قد يسبق من معه يتعرف أمر اللقاء؛ ولأنه في شوق للأنس بكلام ربه؛ ولأنه يرى أن الله تعالى سيخاطبه بشرائع قد بعث بها.(9/4765)
سبقهم إلى الموعد، ولكن الله تعالى قدر ميقاتا محدّد الابتداء والانتهاء لمصلحة قدرها ولم يكن تقديره لغير أمر قدره سبحانه، وإن لبث موسى في قومه قد قدر الله فيه دفع ضرر، والله لَا يخلف الميعاد، وكل شيء بقضاء الله، وبتقديره، وفى علمه المكنون فهو سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما سيكون.
عتب الله تعالى على كليمه المختار تعجله في ذاته، وعتب عليه أن سبق قومه وتركهم، وهم يحتاجون إلى رعايته ومراقبة خواطرهم ببصيرته وهم قريبو عهد بمعاشرة الفاسقين.
عتب الله تعالى على كليمه هذا، وكان على موسى أن يعتذر عما كان منه، والله عليم بذات الصدور:(9/4766)
قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
(قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي ... (84)
أشار إليهم، ولم يأت بـ (كاف) الخطاب تأدبا مع الله (1)، ولأنه سبحانه العليم، فلا يحتاج إلى تنبيه بها إذ هو يخاطب العليم الخبير، ومعنى (أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي) أنهم على مقربة مني، ولا يضلون الطريق؛ لأنهم ورائي، ثم قال معتذرًا عن تعجله: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)، أي كان الدافع على عجلي إليك محاولتي إرضاءك حاسبا أن المسارعة إليك ترضيك، وقال كلمتين تقربا إليه سبحانه ومشيرا بهما إلى رغبة في ذلك التعجيل وهو أنسا بكلامه معه.
الكلمة الأولى هي (إِلَيْكَ)، أي عجلتي كانت إليك، وأنت القريب إلى نفسي آنس بكلامك، والكلمة الثانية هي (رَبِّ) أي القائم على نفسي، ومن صنعتني على عينك فإني أسارع إلى من صنعني على عينه جل جلاله.
وقد نبهه سبحانه إلى مغبَّة تعجله فقال عز من قائل:
________
(1) أي لم يقل: هم أولئك، ولكن قال: (أولاء).(9/4766)
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
(قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
فاعل " قال " هو الضمير العائد على الله جلت قدرته، والفاء للسببية، أي بسبب غيبتك وعدم قيامك بحق الرقابة النفسية عليهم التي مكناك منها، (قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) أي اختبرناهم لتتبين مقدار إراداتهم وعقولهم ومداركهم وأضاف(9/4766)
الاختبار الذي سماه " فتنة " إلى نفسه، وهو العليم بكل شيء قبل وقوعه، وبعد وقوعه، فالأزمان تكون بالنسبة للناس لَا بالنسبة للذات العلية.
وعبر سبحانه فقال: (قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) أضاف القوم إليه استحثاثا لهمته، وقوة في عتابه، أي أنهم قومه الذي جاء لإخراجهم من طغواء فرعون، ولكن لم يزل الأثر المسمى في عقولهم فطغى بتعاليمه عليهم نفسيا، وإن خلعوا الربقة، وأزالوا رق الأجساد، فلم يزيلوا رق النفوس، ولقد قال تعالى: (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ)، أي أوقعهم في الضلال، والسامري شخص انتقل معهم من مصر، كان يجيد النحت والتصوير، ولم ينص على أنه من الإسرائيليين أو أهل مصر الأصليين، ويغلب على الظن أنه إسرائيلي اندمج مع المصريين وعرف صناعاتهم، وقيل: إنه كان هنديا يعبد البقر، ثم اعتنق ديانة بني إسرائيل.(9/4767)
فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
(فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
" الفاء " تفيد الترتيب والتعقيب، ففور أن بين الله تعالى ما كان بقومه رجع إليهم في حال غضب وحزن، ولذا قال تعالى: (فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا) والقوم هنا هم الإسرائيليون جميعا الذين كان منهم الذين عبدوا العجل ولم يكونوا عددا قليلا، بل كانوا كثيرين، وإن لم يكونوا الأكثرين، والغضب هو الثورة النفسية للمفاجأة بأمر مؤلم لم يكن يتوقعه، والأسف: الحزن الذي يسكن النفس بسبب أمر غير مقبول، ولا يوجد له أي مبرر، والحزن من شأنه أن يوجد في النفس كآبة، وهمًّا وغمًّا، وكذلك كانت حال موسى عليه السلام عندما علم من ربه أن قومه عبدوا العجل، ولكن الحكمة النبوية توجب ألا يسترسل في الكآبة والغم، والانفعال، بل لابد أن يعالج الوقف باستنكار شديد وحزم الشر واجتثاثه من أصله، وكذلك فعل، فقال لائما مستنكرا:
(يَا قَوْمِ) هذا نداء مقرِّب بأنه منهم يؤلمه ما يضلهم، ويفرحه ما يكون خيرا لهم (أَلَمْ يَعِدْكمْ رَبُكمْ وَعْدًا حَسَنًا) أي ألم يعدكم ربكم بخيري الدنيا والآخرة، وهو(9/4767)
وعد حسن يطمئنكم في حاضركم وقابلكم، ولم يذكرهم بحاضرهم الذي هم فيه، وما كانوا عليه في الماضي، وحتى لَا يصل اللوم إلى المجافاة، ولأن ذلك إنعام عليه وعليهم، ومنزل النعم وهو الله تعالى هو الذي يذكرهم بذلك.
وقوله تعالى: (أَلَمْ يَعِدْكمْ رَبُّكُمْ) استفهام إنكاري، أي لقد وعدكم ربكم وعدا حسنا مع التنديد الحفي، وعبر بـ (رَبُّكُمْ) للإشارة إلى أنه وعد محقق لا محالة. لأنه وعد من الله ربكم الذي خلقكم، وهو القيوم على كل أموركم ومالكم نسيتم هذا الوعد (أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) العهد أي الزمن، و " الفاء " هنا سببية، والمعنى أفطال عليكم الزمن فنسيتم الوعد الذي وعده الله، والمعنى أبسبب طول الأمد نسيتم وعد ربكم؛ وهو توبيخ شديد، فإن الزمن لم يطُل، بل كانت الأحداث متلاحقة لَا تراخي فيها حتى يكون النسيان، فقد أنجاكم ربكم، وأغرق فرعون، ثم كان الوعد من الله باللقاء، وكانت فتنة العجل على قرب من ذلك.
ثم كانت الجملة الاستفهامية المعادلة (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) نزل بهم، رفقا بهم من المعاندة لله تعالى، وهي مرتقى صعب لا يريد أن يكونوا فيه، إلى المعاندة له هو، وسارع فتبين أنها هي الأخرى، مغاضبة لله تعالى؛ لأنه عليه السلام لَا يتكلم إلا عن الله، (أَمْ) استفهامية للمعادلة، و (أَرَدتُّمْ) هنا ليست متجهة إلى أن يحل بهم غضب من ربهم، إنما إرادتهم منصب على السبب الذي يفضي إلى حلول غضب الله تعالى عليهم. وفي هذا إشارة ليست خفية إلى أن ما ارتكبوه من عبادة العجل إغضاب لله تعالى، وكفر به، وإن ذلك يؤدي لَا محالة إلى أن يحل بهم غضب الله تعالى، وعبر عن الذات العلية بقوله: (مِّن رَّبِكمْ) إشارة إلى أنه هو الذي نجاهم من فرعون وأغرقه، وكلأهم بكلاءته ونزل عليهم المن والسلوى.
وقال عن غضب الله بأنه يحل عليهم، والمعنى آثاره من إصابتهم بالبلاء من قتل وذبح وصَغَار في الأرض، وقد ذاقوه وتمرسوا عليه في حياتهم في مصر، وهذا حث على طلب رضا الله تعالى، بدل أن يسيروا فيما يوجب أن يحل بهم عضبه.(9/4768)
وقد رتب الله تعالى حلول غضب الله على إخلافهم موعده فقال: (فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي) الموعد هنا مصدر ميمي بمعنى الوعد، وإخلاف الوعد ألا يقوموا بموجبه، وقد وعدوا موسى بالاستقامة والإيمان بالله وحده وترك الأوهام الباطلة التي سيطرت عليهم بسبب مقامهم في أرض فرعون.
وإن هذا الموعد بلا ريب يؤدي إلى إغضاب الله تعالى؛ لأنه يكون إشراكا وتفريطا في جنب الله، فلابد أن يحل عليهم غضب الله تعالى وأن يعاد إليهم ما ذاقوه من قبل وعرفوه، أجابوا معتذرين عن فعلتهم الكبرى.(9/4769)
قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
(قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
نفوا أنهم أخلفوا موعدهم مختارين مريدين، بل كانوا تحت تأثير إغراء شديد وتضليل كبير، وعبروا عن فقدهم لإرادتهم الحرة الخالية من الإغراء بقول (بِمَلْكِنَا) قرئت بفتح الميم وبكسرها وبضمها (1)، والمراد أنهم ما أخلفوا وعدك في الوحدانية واستقامة النفس والفكر بإرادتهم الحرة المختارة، ولكن بإغراء.
وفى هذا اعتراف بالجريمة، واعتراف آخر بأنهم ارتكبوها وإرادتهم مسلوبة بإغراء شديد، ولو كانوا أمام قاضٍ من قضاة الدنيا لأخذهم باعترافهم، واعتذارهم بأنهم كانوا مغرورين ومخدوعين لَا يخليهم من العقاب بل يقرره عليهم ويثبته، فالعبرة في الجريمة بالاختيار، وقد كان الاختيار من غير إكراه ولا يُعد الغرور إكراها. وخصوصا أنهم هم الذين قدموا سبب التضليل، وقالوا: (وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ).
الاستدراك هنا استدراك من اعترافهم يتضمن الاعتذار عن ضعف إرادتهم، وضلال نفوسهم، وهو اعتذار سخيف كشأن بني إسرائيل في كل الأزمان (حُمِّلْنَا) هذا فعل مبني للمجهول لم يذكروا من الذي حملهم هذه الأوزار، إنما هم الذين
________
(1) قرأها بفتح الميم: نافع وأبو جعفر، وعاصم غير جبلة، وبضمها: حمزة والكسائي، وخلف وجبلة، وقرأ الباقون بكسر اللام. غاية الاختصار: 2/ 571.(9/4769)
حمَّلوها أنفسهم، وهناك قراءة (حَمَلنا) (1)، والأوزار جمع وزر، وهو الحمل الثقيل، ويصح أن يكون حمل بعضنا بعضا ما في عهدته من زينة القوم أي من ذهبهم، وكون الأوزار أحمالا ثقيلة لَا تخلو من إثم؛ لأن الوزر يطلق على الإثمِ باعتباره حملا ثقيلا على النفوس، كما قال تعالى: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ)، وهذه الأحمال كان فيها آثام؛ لأنها من زينة بني مصر كانوا استعاروها منهم، فما كانوا يملكون مثلها لإيذاء فرعون لهم، وإذلالهم فأخذوا يكثرون من الاستعارة عندما أذن لهم بالرحيل، وقؤله (فَقَذَفْنَاهَا) أي ألقيناها، ولذا قالوا (فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ)، وتدل الروايات على أن قذفهم لها كان في النار لتصهر، وفعل السامري مثلهم، وقد كان دبَّر ذلك معهم، ويروى أنه قال لهم: إن موسى يلومنا على ما أخذنا من زينة القوم فلنلقها في النار لتصهر ولا يراها.
وإن هذا يدل على أنه كانت إرادة، وإنه كان إصرار على الجريمة، وأنهم سلكوا الطريق إلى أسبابها من أوله إلى آخره.
ْوإذا كانت الجريمة عبادة العجل، فقد وضعوا السبب الأول لصناعته، وتولى كبر الصناعة السامري ودعاهم إلى عبادته فعبدوه.
وقد ذكر سبحانه ما صنعه السامري فقال عز من قائل عنه:
________
(1) قراءة (حملنا) بالبناء للفاعل، وتخفيف الميم: أبو عمر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف - غير حفص ورويس - وقرأ الباقون بالبناء للمجهول، وتشديد الميم. غاية الاختصار 2/ 571.(9/4770)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
عندما ألقيت زينة القوم من الذهب، وكانت أحمالا ثقالا، وارتكبوا أوزارا كبارا لأنها كانت عاريات اغتصبوها، وأموالا سرقوها؛ لأن جحود العواري يعدّ من السرقات. يقول المفسرون إلا من أدركوا العصر الحاضر، وعلموا أخبار المصريين وصناعتهم، قالوا: إن السامري رأى الأمين جبريل بعد أن صنع العجل، أخذ قبضة من الأرض التي سار عليها جبريل أو فرسه فألقاها في المصنوع فصار يخور كما يخور العجل، وسرى في جسمه ماء الحياة، فصار جسدا له خوار.(9/4770)
ذلك كلامهم وروجوه بأمرين: بأنه جسد أو له جسد، والجسد لَا يكون إلا للجسم الحي، فلا يقال عن الحجر إنه جسد، كما لَا يقال عن أي جماد إنه جسد، والأمر الثاني: قوله تعالى: (لَّهُ خُوَارٌ) والخوار لَا يكون إلا لعجل حي، فما الحيلة في هذا، لقد أعملوا تفكيرهم مستعينين بالإسرائيليات التي حشرت في كتب التفسير فانتهوا إلى هذا القول.
ونحن نرى أن ذلك القول غير معقول، فإن ملائكة الله تعالى لَا تسير في صورة حي إلا بأمر من الله، وإلا لنبي، وما كان السامري نبيا، وما كان ثمة دليل منقول يقرر ذلك القول، وما ادعاه السامري عندما ناقشه موسى في هذا البهتان، وإنه عدَّ ذلك الإفك من تسويل النفس وتزيينها الباطل، فكيف يكون تزيينا للباطل، ويكون بتتبع آثار جبريل، وأيضا فإن الحياة تكون بإذن من الله تعالى، ومع ذلك يقول السامري (. . . وَكذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي).
وإن الأمر المعقول أن نقول: إن السامري كما ذكر ألقى الذهب هو ومن معه ذهب من زينة القوم من بني إسرائيل ألقوها في النار فصهرت حتى صارت سائلا، وبما تعلمه من الصناعات المصرية صنعه على شكل عجل، ووضعه في مهب الرياح فدخل الهواء في خروقه بصوت الريح في أجوافه - فصار له خوار كخوار الثور، وما زلنا نرى في لعب الأطفال مثل هذه الأصوات في اللعب.
وما إن رأى الإسرائيليون هذا حتى قالوا يخاطب بعضهم بعضا (هَذَا إلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ)، أي السامري، (فَنَسِيَ) هنا معناها ترك، فأطلق النسيان وأريد تركه، ونسب النسيان إليه مع أن عباد العجل جميعا تركوا أو نسوا عبادة الله وحده، ونسوا الحق؛ وذلك لأنه هو الذي أخرجه بصناعته، وفي التعبير بـ (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا) ما يشير إلى أنه صنعه صناعة. بقي أن نرد على من فهم أن الجسد لَا يكون إلا جسما حيا يجري فيه الدم فنقول: إن الجسد والجسم لهما معنى يشتركان فيه، ومعنى يختص به الجسم، فالجسم يقال على كل الأشياء ما يتجسد ويصور، وما لَا يتجسد ولا يصور فيقال:(9/4771)
إن الماء جسم ولكن لا يقال له جسد، وقد ذكر ذلك الراغب في مؤلفاته، فقد جاء فيه في مادة جسد ما نصه:
" الجسد كالجسم لكنه أخص، قال الخليل: لَا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، وأيضا فإن الجسد ما له لون، والجسم يقال لما لَا يبين له لون كالماء والهواء، وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ. . .).
يشهد لما قال الخليل. وقال: (عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ) وقال تعالى:
(وَأَلْقَيْنَا عَلَى كرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَاب)، وباعتبار اللون يقال للزعفران جساد وثوب مجسد بالجساد ".
وأظن هذا واضحا في أن الجسد يستعمل كالجسم، والجسم أعم من الجسد.
فقوله تعالى: (جَسَدًا لَّه خوَارٌ) لَا يمنع أنه جسم لَا حياة فيه، وربما كان التعبير بالجسد مناسبا لقوله تعالى (لَهُ خُوَارٌ) ولكنه جسم لَا حياة فيه.
ولذا قال تعالى في بيان أنه ليس فيه حياة قط:(9/4772)
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
(أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
الفاء للإفصاح، أي أنهم قالوا (هَذَا إِلَهُكَمْ وَإِلَهُ مُوسَى) ولس له من صفات الألوهية شيء، (أَفَلا يَرَوْنَ) و " الفاء " مؤخرة عن تقديم لأن الاستفهام له الصدارة، والتقدير فأَلا يَرَوْنَ أنه لَا يرجع لهم قولا، أي يرد لهم قولا ولا يجيبهم في قول، و " أن " هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الحال والشأن، ورَجع القول إجابته فهو لَا يرد إجابة سائق يسوقه، ولا قائد يقوده، ولا يعرف قولا كما يعرف الحيوان، فليس فيه أمر يدل على حياته حتى يعد حيا في أحياء الحيوان، وإذا كان فإنه لَا يمكن أن يكون إلها، وإذا كان حيا فلا يمكن أيضا أن يكون إلها، لَا يمكن أن يكون إلها لأنه لَا ينفع، فهم أخطئوا لأنهم عدّوه حيا، وكفروا لأنهم عبدوه إلها، فضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
* * *(9/4772)
موسى وهارون وينو إسرائيل والسامري
(وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
* * *
كان موقف هارون وهم يتدلون من مرتبة التوحيد الذي أخرجهم به موسى من ربق الاستعباد والذل إلى مرتبة الوثنية المصرية لتأثرهم بها مدة إقامتهم الطويلة في مصر ضعفاء مستكينين، والضعيف - كما قال ابن خلدون - شغوف دائما بتقليد القوي لحسبانه أن ما فيه من قوة سببه ما عنده من أفكار وآراء، ولو كانت باطلة في ذاتها. كان هارون الذي خلف موسى في قومه موقف المرشد الهادي لَا موقف الساكت الممالئ، قال لهم عند تدليهم:(9/4773)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
(يَا قَوْمِ إِنَّمَا فتِنتُم بِهِ) قال لهم بمجرد أن رأى منهم عبادة العجل قبل أن يحضر موسى إليهم، وقبل أن يعرف لموسى أمر فتنتهم (إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ) أي اختبر إيمانكم بهذه الصورة صورة العجل، والضمير في (بِهِ) يعود إلى العجل الذي هو موضع الحديث، سلبا وإيجابا شدّا إلى التوحيد، وجذبا(9/4773)
إلى الكفر، وإنما في قوله تعالى (إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ)، أي أنه ليس له حقيقة أي حقيقة حتى تجعلوه إلها يعبد، ولكنها فتنة نفوسكم التي أثرت فيها إقامتكم في أرض الفراعنة.
قال لهم نبي الله هارون عليه السلام ذلك في إبانه، فما قصر في إرشاد، ولكن لم يؤثر فيهم ذلك القول، كما لو كان من موسى عليه السلام؛ لأن موسى الأصيل في الرسالة، وهارون ردء له، فلم يكن له تأثيره، وكأنَّهم لَا يقرون برياسة إلا لموسى، ومع أنه قرر حقيقة بدهية، وهي أن ربهم الرحمن، وطالبهم بأن يتبعوه ولا يخالفوه في أمر، مع ذلك أعلنوا ما يفيد أنهم لَا يعترفون إلا بموسى رئيسا مطاعا، وقبل أن ننقل قولهم الذي أفاد إصرارهم نقول أولا: إن هارون ناداهم بما يقربهم إليه ويؤنسهم به، فقال: (يَا قَوْمِ) فهذا إشعار بالرباط الذي يربطهم به نسبا، ويدنيهم إليه. ويقول ثانيا مؤكدا الفتنة التي يجب أن يتركوها، والمفتون تزول فتنته عند أول تنبيه إليها، ومع ذلك لم يتركوها ويعودوا إلى الصواب الذي يوافق العقول، ويذكر ثالثا وينتقل من هذا الإرشاد إلى الأمر الذي يجب أن يأخذوا فيقول: (فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) وكان يجب أن يطيعوه لأنه رسول مع موسى وردؤه، ومخالفته مخالفة لموسى، ولكن رجس الوثنية قد ثبت في نفوسهم، ولا ينخلع منه، و " الفاء " في قوله (فَاتَّبِعُونِي) هي لترتيب هذا الأمر على أن عبادة هذا الصنم فتنة وأن ربكم الرحمن وحده، وعبارة (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ) تفيد القصر أي لا معبود غيره لأنه الرب الخالق المدبر لشئونكم الحي القيوم.(9/4774)
قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
(قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
العكوف الإقامة للعبادة
في معبد أو مسجد أو غيره، و (لَن نَّبْرَحَ) من الأفعال التي تفيد الاستمرار على الحال التي هم عليها، ولابد أن يسبقها حرف النفي، مثل أخواتها: " ما انفك، وما فتئ، وما زال "، والنفي بـ " لن " لتأكيد بقائهم على ما هم عليه من ضلال، فإذا كان هارون قد بلغ أقصى الغاية في إرشادهم فقد بذلوا أقصى الغاية في المعاندة، وقولهم (عَلَيْهِ عَاكفِينَ) أي مقيمين على عبادته. وتقديم الجار والمجرور لإفادة الاقتصار على(9/4774)
عبادته وحده، فلا يعبدون معه غيره، ولو كان الله الرحمن الرحيم، متأثرين في ذلك بقول السامري لهم: إن هذا إلهكم وإله موسى.
وقد ذكروا النهاية التي إليها ينتهي ضلالهم: (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسَى).
هكذا كان هارون موحدا غير ممالئ، وما كان لنبي أن يعتنق غير التوحيد، ولا أن يمالئ المشركين، ولكنها التوراة التي في أيدي اليهود جميعا لعنهم الله تقرر أنه مالأهم وعبده كما عبدوه، وتلك فرية على نبي الله تليق بقوم مفترين، ولا تليق بكتاب منسوب لله تعالى، ولكن النصارى واليهود يؤمنون بذلك.
جاء موسى غضبان أسفا، ووجه اللوم ابتداء إلى أخيه يحسب أنه قصر في التوجيه والإرشاد، وما قصَّر، وكان كما يظهر من قوله أنه كان يرى أن يتبعه إلى المكان الذي ذهب إليه، ورأى هارون أن يبقى معهم، ويكرر إرشادهم، ويرقب حالهم:(9/4775)
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92)
(قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) خاطب موسى ردءه وأخاه هارون بتعاطف، فناداه باسمه نداء الأخوة المحبة الأليفة، (مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) لهذا الضلال المأفون الأحمق، و " إذ " للظرف الماضي أي: ما منعك وقت ضلالهم(9/4775)
أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
(أَلَّا تَتَبِعَنِ)، قالوا: " لا " زائدة، ونحن لَا نرى في القرآن حرفا زائدًا، فهو كلام الله تعالى المنزه عن الزيادة، بل كل كلمة في موضعها، ونقول: إن المنع بمعنى الحماية، ومنه مكان منيع وحصن منيع. وفلان ذا منعة، أي حماية.
وبتخريج النص السامي على هذا المعنى يكون كلام موسى لأخيه: ما منعك ألا تتبعني، ما الذي جعلك ذا منعة وحماية على ألا تتبعني، ويكون المعنى العام للنص ما النصير لك جعلك منيعا على ألا تتبعني، كأنه يقول له: إنك معاوني وناصري، فلماذا لَا تتبعني؛ أصرت ذا قوة تحميك وتمنعك، وتجعلك منفصلا عني، وأنت لي ردء ومعاون غير ممانع، ولذا أردف هذا بقوله: (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) " الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي فباعتمادك وحمايتك من غيري عصيت أمري، وقد قال الأصفهاني في مفرداته: ويقال المنع في الحماية، ومنه مكان منيع، وفلان(9/4775)
ذو منعة أي عزيز ممتنع على من يرومه قال: (. . . ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ)، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)، (. . . مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ. . .)، أي حملك، وقيل ما الذي حملك وحدك على ترك ذلك.
وهذا قريب مما ذكرنا في قوله: (. . . يَا هَارونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) والله أعلم بمراده.
وإنه في هذه الآية يبدو متعاطفا مع أخيه أو غير منافر له، ولا غاضب عليه، وفى سورة الأعراف بدا غاضبا شديد الغضب على أخيه، فقد قال الله تعالى:
(. . . بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151).
هذا ما جاء في سورة طه، وذلك ما جاء في سورة الأعراف، والتوفيق أن أخذ رأس أخيه يجره كان في فورة الغضب، والرفق والتعاطف بعد سورة الغضب وحدته، وقد هدأ وسكن وعلم أن هذه نفوس بني إسرائيل.
ولقد أجاب هارون أخاه موسى بعد أن هدأ واطمأن، وذهبت عنه حال المفاجأة التي فاجأه بها قومه:(9/4776)
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
(قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
في هذا إشارة إلى أنه أخذ بلحيته، كما ذكر في سورة الأعراف وقت فورة الغضب، وكان ذكرها على لسان هارون نوعا من عتب رفيق لطيف في مودة واصلة غير مفرقة.(9/4776)
كان النداء لأخيه (يَبْنَؤُمَّ) وفهم من هذا بعض المفسرين أنهما كانا أخوين لأم، وإلا قال: يا بن أبي، وإنا لَا نحسب أن هذا يدل على ما قالا، وإنما يدل على كمال الحنو، وكمال العطف والمودة والرحمة الغافرة الراضية، فإن هذا يشير إلى أنهما اجتمعا على ثدي واحدة ودرّ عليهما غذاء واحد، وجمعهما عطف أموي واحد وأنهما تغذيا عاطفيا بغذاء واحد، فإذا كانا قد انفصلا أحياء، فإن كليهما قطعتان من أم واحدة، وأحسب أن ذكر الأب الواحد لَا يتضمن كل هذه المعاني، ولذا قال النبي في لرجل سأله قائلا: يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: " أمك "، قالها ثلاثا، وفي كل مرة يقول: " أمك "، حتى إذا قال الرابعة: قال: " أبوك " (1).
(لا تَأخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) هذا نهي ليس للزجر، ولكن للمحبة وللحق، وللبراءة من الاتهام والمؤاخذة، وقوله (وَلا بِرَأْسِي) يحتمل أنه كان قد أخذه في غضبه من شعر رأسه، ويحتمل أنه ذكر رأسه كناية عن تفكيره وعمله، ويكون بذلك كنَّى عن عمله وقوله برأسه التي يفكر بها ويرى ويبصر. وعلَّل سكوته بعد إرشادهم وعدم اللحاق به أو استعمال العنف فيهم بقوله: (إِنِّي خَشِيت أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) أي إني لم أعنف معهم، ولم ألحق بك بل أخذتهم بالرفق خشية أن يتفرقوا، وخشيت أن تقول لي إني أوقعت فرقة بينهم، وفي الفرقة يكون التلافي والمقاومة، فيقاوم كل فريق الآخر في قوله، فتكون المجادلة، ثم المحادَّة، ويضل فريق، ويهتدي فريق، وإنهم بلا شك قد انقسموا: فريق ضل، وفريق هداه الله، فلو قاومت الضالين، لكانت الحدة والمنازعة والمهاترة، فتركتهم حتى تجيء أنت من لقاء الله تعالى، فيكون معك نوره، فتكون الهداية.
وخشيت أن تقول (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) أي لم تلاحظ قولي اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين، وإنه بلا ريب لو تفرقوا وكنت سببا في هذا التفرق لكنت من المفسدين، فالتفرق في ذاته فساد وضلال، وإذا كانوا قد ضل بعضهم فهدايته ممكنة وعودته إلى الحق قريبة، ولكن عند التفرق يكون التعصُّب، وتكون
________
(1) سبق تخريجه.(9/4777)
الفتنة بينهم في جموعهم، وهي تزيد فتنة العبادة حدَّة، فلا يمكن حينئذٍ أن يجتمعوا، إذ تتسع هوَّة الافتراق.
وبعد أن تعاتب الأخوان وتراضيا، وطلب موسى أن يغفر الله له ولأخيه اتجه إلى مصدر الداء، فقال له:
(قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
قال موسى متجها إلى السامري الذي أحدث هذه الفتنة الطحناء، وأوجد ذلك الخطب الخطير في قوم يعبدون الله تعالى، وقد رأوا آياته فيهم أنفسهم، فكانوا أحق الناس بتوحيد الله سبحانه وتعالى.(9/4778)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)
(فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ) " الفاء " للإفصاح، أي إذا كان هذا هارون الرسول معي، فما شأنك الخطير الذي كان في ذاته خطبا، وناداه باسمه ليفيض بنفسه بين يديه، ولا يرهبه ولا يفزع، فلا يكشف كل ما في نفسه.(9/4778)
قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
(قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ ... (96)
أي فطنت لما لم يفطنوا، فإن الإبصار يكون بالعين المبصرة، والبصر الذي هو مصدر يبصر يكون بالقلب والعقل والفكر، وقد كان السامري فطنا يعلم صناعة التماثيل، وكان له في ذلك مهارة فائقة كالمتخصصين في هذه الصناعة، وقد قيل إنه صنع من قبل تمثالين من شمع أحدهما لثور، والآخر لثورة، ولعله صنعهما أمام موسى ليعلم موسى مقدار ما بصر به من صناعة التماثيل.
وقوله تعالى: (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) والأثر ليس هو أثر جبريل، ولا فرس جبريل، ولكنه أثر معنوي، والرسول ليس هو جبريل، فلم يجئ ذكر لجبريل في هذا الموضوع حتى يراد بالمعرف بـ " أل "، إنما الرسول الذي تكرر ذكره بالرسالة هو موسى كليم الله، وأثر موسى كليم الله تعالى هو دعوته إلى التوحيد، وإلى عبادة الله تعالى وحده لَا شريك له، فذلك هو أثر موسى وهو أثر كل رسول(9/4778)
برسالة سماوية من الله تعالى (فَنَبَذْتُهَا)، أي ألقاها في مهب الريح، كما تلقى النواة وترمى، واستبدل بالتوحيد الشرك والكفر، وأن يكون على دين من يعبدون البقر لعنهم الله تعالى، وقد بين بعد ذلك أن هذا من هوى النفس وليس قائما على منطق من عقل، ولذا قال: (وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي)، أي كذلك الذي رأيتم من فتنة بني إسرائيل بهذا التضليل زينت لي نفسي، ومعنى التسويل أنه تردد في هذا الأمر بتساؤل نفسي حتى أختار ما أختار وزينته وحسنته. كان لابد له من عقاب يكون به عبرة في الدنيا، وعقاب الآخرة ثابت له.
ولذا ذكره موسى الكليم بعقاب في الدنيا، وترك عقاب الآخرة لربه الأعلى.(9/4779)
قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
(قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
" الفاء " كما ذكرنا للإفصاح عن شرط مقدر تقديره: إذا كان هذا ما صنعت، فاذهب إلى آخره، وقد ذكر له عقابين كما أشرنا عقاب الدنيا وعقاب الآخرة، فأما الدنيا، فقد قال فيه:
(فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقولَ لَا مِسَاسَ) أي فإن الذي يبقى لك فيه أن ينفر الناس منك، وأن تكون في حال من يمسك فيها يؤلمك أشد الإيلام، فإذا لقيت الناس قلت: لَا مساس، أي لَا تمسوني، وإن ذلك يدل دلالة قاطعة على أن المساس يؤلمه، فهو مرض يصاب به، ويكون عبرة بين الناس بآفته.
وأقوال الزمخشري تتجه إلى أن قوله لَا مساس منع من مخالطة الناس، حتى لا يجرهم إلى الضلال والفتنة، وقال في ذلك: عوقب في الدنيا بعقوبة لَا شيء أطمَّ منها وأوحش، وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعا كليا، وحرم عليه ملاقاتهم، ومكالمتهم، ومبايعتهم، ومواجهتهم، وكل ما يعايش به الناس بعضهم بعضًا، واذا اتفق أن يماسّ أحدا رجلا أو امرأة حم المماس والممسوس، فتحامى الناس وتحاموه، وكان يصيح: لَا مساس، وعاد في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم، ومن الوحش النافر في البرية، هذا هو عقاب السامري في الدنيا نفرة من الناس، ونفرة منه لمرض ألَمَّ به، ومنع من الناس، ونرى الأول كما أشرنا.(9/4779)
وأما العقاب الأخروي فقد ترك أمره لله تعالى، وقال له موسى (وَإنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ) أي أنه جاءٍ لَا محالة، وهو يوم البعث.
واتجه موسى إلى مادة الجريمة بعد أن اتجه إلى المجرم، وهو صورة العجل، أو تمثاله فقال: (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا) أمره موسى أن ينظر إليه لبيان أنه ليس شيئا يعبد، فإن المعبود باق يدوم ولا يفنى، وأمره بالنظر إليه مع التعبير بأنه إلهه الذي يعبده تهكما به، وبمن اتخذه إلها (الَذي ظَلْتَ) مخفف من (ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكفًا)، أي ظللت مقيما عابدا لله وحده (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا) يقال حرَّق الشيء إذا برده بالمبرد، حتى صار ذرات تنسف، ومن ذلك قولهم: يحرق الأُرَّم، وإنه بعد بَرْده ينسف في البحر نسفا أي يلقى في البحر ذرات غير متجمعة ولا مجموعة، ومن الخطأ أن يفسر (لَّنُحَرِّقَ) بمعنى الإحراق بالنار؛ لأن النار تذيب الذهب وتصهره، ولا تجعله ذرات تنسف، ولأن اللغة تفسر التحريق بالبرد بالمبرد، وهو المعقول المناسب للمقام، والمتفق مع السياق وكلمة النسف.
* * *
الواحد الأحد، وعاقبة جحوده
(إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ(9/4780)
فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
بين الله سبحانه بعد أن كشف موسى لبني إسرائيل بطلان عبادتهم تمثال العجل الذي عبدوه، وما نزل بمن ابتدع عبادته، ومآل ذلك التمثيل، أخذ يبين المعبود الحق، والإله الذي توافرت فيه أسباب الألوهية مخاطبا الناس أجمعين قريشا وغيرهم من الخليقة وبني إسرائيل وسواهم، فقال عز من قائل:(9/4781)
إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
(إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ) أكد سبحانه وحدانية الألوهية في الله جل جلاله بثلاثة مؤكدات أولها: (إِنَّمَا) فإنها تدل على الحصر، أي أنها تدل على أنه لَا إله غيره، والثاني: بتعريف الطرفين (إِلَهُكُمُ اللَّهُ) جل جلاله فإلهكم معرفة، والله جل جلاله معرفة. والثالث بقوله: (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) هذا التأكيد كان من مقتضى الحال؛ لأنه تعقيب على قول ناس ضلوا ضلالا بعيدا، حتى بلغ بهم الوهم أن صنعوا تمثالا بأيديهم، وعبدوه، فكان فعلهم بهتانا عظيما بهتوا به العقول والمدارك، وعندما يشتد قول الباطل يكون من مقتضى الحال أن يؤكد بيان الحق ليمحو الأوهام.
ولقد ذكر سبحانه بعد ذلك السبب في أن الله وحده هو الإله، فقال: (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)، أي وسع علمه كل شيء فهو سبحانه وتعالى يعلم الوجود كله من مبتدئه إلى منتهاه ومآله ولا يكون ذلك إلا للخالق المدبر سبحانه وتعالى، فالله تعالى كان الإله وحده؛ لأنه خلق كل شيء وحده، فلا بشاركه في خلقه أحد، وهو بهذا ليس من نوع ما خلق، بل هو مخالف لكل الحوادث التي أنشاها، وغيره منها، فهو بمقتضى حكم العقل المعبودُ وحده، ولا معبود سواه؛ لأن ما عداه حجرا أو شخصا أو تمثالا ناقص محتاج إلى غيره، ولا يعبد إلا الكامل واجب الوجود المطلق.(9/4781)
وقوله تعالى: (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) (عِلْمًا) فيه تمييز محول من فاعل، أي وسع علمه كل شيء، وكان ذلك التحويل من فاعل إلى تمييز لتمكين نسبة العلم إليه سبحانه إذ إن في الإبهام في (وَسِعَ) وبعده البيان تمكين فضل.
ويشير سبحانه وتعالى إلى حكمة القصص وعبرته فيقول عز من قائل:(9/4782)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)
(كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)
الإشارة إلى القصص الذي قصه الله تعالى من أخبار موسى وفرعون وبني إسرائيل وكيف سيطرت الأوهام ودافعت العقول حتى حلت في العقول، وكيف طغى فرعون وتجبر وذبح واستضعف، وكيف نجى الله بني إسرائيل من عذابهم، ثم كيف غلب الوهم القديم فدخل العقول بعد فضل الله عليهم.
و (كَذَلِكَ) في قوله تعالى: (كذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ) الجار والمجرور متعلق بـ (نَقُصُّ) والتخريج يكون هكذا: ونقص عليك من أنباء ما قد سبق مثل ذلك القصص الكاشف المبين لمنابت الضلال عند من يضلون، وينابيع الهداية التي يستقون منها الحقائق سقيا.
ْوالأنباء جمع نبأ، وهو الخبر الخطير ذو الشأن العظيم، وأي نبأ أعلى من العبرة من أنباء فرعون ذي الأوتاد، وموسى كليم الله، وبني إسرائيل الذين كانوا المثل في طرق الهداية والتمرد عليها، والانفلات منها بأوهامهم التي يتوهمونها.
وقال سبحانه: (مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ) " من " للتبعيض، أي بعض أنباء ما قد سبق، وأكد الله تعالى سبقهم بـ " قد " ليتعلم أهل مكة منها، وأنهم ضلوا كما ضل هؤلاء وستكون العقبى عندهم كالعاقبة التي حلت بهم، وأنه ينزل بهم ما نزل بغيرهم، وبين سبحانه الكتاب المنزل الذي ذكرت فيه هذه العبر، فقال تعالى: (وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَدُنَّا ذِكْرًا) الذكر هنا هو القرآن الكريم؛ لأنه المذكِّر، وهو رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد عظَّم الله سبحانه وتعالى القرآن بعبارات سامية، أولا: بأنه عطاء الله(9/4782)
لنبيه - صلى الله عليه وسلم - وبينته الكبرى، وذكر أنه من لدنه أي من عنده، ووصفه بأنه مذكِّر، فهو ذكر القلوب ودواؤها وطبُّها.
ثم قال تعالى في جزاء من يعرض عنه أو يجحد:(9/4783)
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)
(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)
القرآن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحجته ومعجزته الكبرى، فمن يعرض عنه فقد أعرض عن رسالة ربه، وعن آياته، وعصى الله، وعصى نبيه، وبذلك يرتكب وزرًا أي إثما كبيرا ثقيلا تنوء بحمله القوي الإنسانية، ويذهب يوم القيامة وهو حامل ذلك الإثم، ومن ذهب يوم القيامة موزورا آثما، فإنه يكون في عذاب شديد.
وقال سبحانه وتعالى (أَعْرَضَ) ولم يقل " كفر "؛ لأن الإعراض عن فهم معانيه، وتبصرها وإدراك بلاغته، ووجوه إعجازه يؤدي إلى الجحود، لما اشتمل عليه من خيرى الدنيا والآخرة، فعبر سبحانه بالإعراض الذي هو سبب الجحود، وأراد الجحود بذكر سببه، وذلك لتعظيم شأن الإعراض وخطره، وما يؤدي إليه من أضرار، ونقول إنه أراد بالوزر - بمعنى الإثم - عقابه لأنه يكون ثقيلا.
ونكر سبحانه وتعالى (وزرًا) للتهويل وبيان أنه وزر خطير، وإثم عظيم، وعذابه أليم. وقد وصف سبحانه هذا الوزر فقال:(9/4783)
خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
(خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
الضمير في (فِيهِ) يعود إلى الوزر، وأثره الخطير، وهو العذاب الدائم، فأراد بالوزر عذابه كما أشرنا، وهو الجحيم، وذكر الوزر وأريد عذابه؛ لأنه يكون على قدره من الثقل، والخطر العظيم الشأن بمقداره، فكأنه هو للتساوي بينهما فهو جزاء وفاق له: وهو بهذا حمل سيئ شديد السوء حتى يتعجب منه عند الناس، ولذا قال تعالى: وسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا)، أي ما أسوأه حملا، لسوء مغبته، ولأنه يورث السوء، يورث نار جهنم وحسبها من سوء.
وإذا الوزر وهو الحمل الثقيل يتساوى مع نار جهنم، وهي بئس المصير، فهو وزر ثقيل سيئ، وهو يثير التعجب في مآله، وقد حسبوه (هَيِّنًا)، وهو في ذاته أمر عظيم.(9/4783)
وقد بين الله تعالى مقدمات يوم القيامة فقال تعالى:(9/4784)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
(يَوْمَ) عطف بيان على قوله (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وإن يوم نفخِ الصور هو يوم البعث الذي يقدم بعده يوم القيامة، وهنا ثلاث قراءات في (يُنفخُ) فقرئ بالياء المضمومة والبناء للمجهول، وقرئ (ننفخ) وضمير المتكلم لله سبحانه وتعالى؛ لأن النفخ يكون بأمره، والآمر بأمر يعد فاعله، وقرئ (ينفخ) بفتح الباء بالبناء للفاعل، والضمير يعود على الله تعالى؛ لأنه الآمر، والفعل الآمر به كما ذكرنا. و (الصُّورِ) هو البوق، وقد قال الراغب الأصفهاني في المفردات: " قيل هو مثل قرن ينفخ فيه، فيجعل الله سبحانه ذلك سببا لعود الصُّور والأرواح إلى أجسادها، وروى في الأثر أن الصور فيه صُوَر الناس كلهم.
وعلى ذلك يكون للنفخ في الصور معنيان أحدهما: أنه بوق يجمع الله تعالى بالنفخ فيه الأجزاء المتفتتة في الأرض فتعود صورها وأرواحها، والثاني: أن صور الأجساد المتفتتة فيه ينفخ فيها فتكون أجسادا حية فيها أرواحها.
وعندي أن قوله تعالى: (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ) تصوير لجمع الأموات وبعثهم بأنه لَا يتجاوز النداء كقوله (كن فيكون) كالقائد ينفخ في البوق فيجتمع الجند بل إنه أسرع من لمح البصر، إذ يكفي النداء من رب العزة فيجتمع الجميع، وإذا اجتمع الجميع اختص الله المجرمين بالذكر، فقال عز من قائل: (وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئذٍ زُرْقًا)، لأنهم الذين كفروا وعاندوا فكان اليوم عليهم، وعاندوأا واستكبروا، وقد قال تعالى: (نَحْشُرُ) أي نجمعهم مكدسين كالأشياء لَا كرامة لهم بل مهانين غير محترمين، وقال تعالى في لسوء حالهم (زُرْقًا)، وزرقا أي أن أعينهم عميت لأن العين إذا عميت كان سواد حبتها أزرق، وذلك تشويه لها وتشويه للوجه وطمس للعين، ويقول البيضاوي تابعا للزمخشري: زرق العيون، وصفوا بذلك؛ لأن الزرقة(9/4784)
أسوأ ألوان العين وأبغضها إلى العرب؛ لأن الروم كانوا أعدى أعدائهم وهم زرق العيون، ولذلك قالوا في صفة العدو أسود الكبد، أزرق العين.
ولعل وصف الزرق بالعمى أقرب من ذلك القول، ولا نحسب أن وصفهم بزرق العيون ذما جيدا في ذاته.
ونحن نقول إن القرآن الكريم لم يجعل (زرْقًا) وصفا للعيون، ولكنه وصف لأجسامهم، ولا شك أن وصفهم بأنهم زرق في أجسامهم ووجوههم وصف لهم بالهلع والفزع، وهو المقصود، فهم هلعون فزعون من هول ذلك اليوم الشديد، والزرقة أقرب إلى السواد، فهي أدلّ على الفزع، ومعناه أنهم يجيئون سودا، ويتحقق قوله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. . .).
ويقول سبحانه:(9/4785)
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
(يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
الخفت: خفض الصوت، و (يَتَخَافَتونَ): يتبادلون الصوت الخافت الذي يكون بين الجهر والإسرار والنجوى، فهو ليس إسرارا ولا نجوى، ولكنه إعلان في خفت، وهذا التخافت من الهلع والفزع، فإن المفزوع الخائف الهالع يكون كلامه خفيضا من شدة فزعه؛ إذ لَا يستطيع أعلى منه، ولأنه يحسب أنه محسوب عليه قوله.
واللبث المتحدث عنه في أي حال هو، أهو اللبث في الحياة الدنيا، أم اللبث في القبور بين الموت والبعث؛ اتجه كثيرون من المفسرين إلى أنه اللبث في الحياة الدنيا مستمتعين بلذائذها وزينتها وزخارفها، فإنهم يحسبونه زمنا قليلا ويجتمع عليهم ألمان: ألم بشعور قلة متاعهم في الدنيا، والألم الثاني طول عذابهم في الآخرة، أي أنهم يدركون أن الدنيا متاع قليل بجوار عذاب الآخرة الطويل، ومهما تكن حالهم فإنهم يستقلون متعتهم التي يحاسبون فيها بجوار الشقاء الذي يلقونه في دار الجحيم التي يخلدون فيها، ويزكي هذا قوله تعالى: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113).(9/4785)
ويتجه بعض المفسرين إلى أن اللبث في القبور إلى وقت البعث، وذلك أنهم يحسبون أنهم لبثوا وقتًا قصيرا ثم استيقظوا بالبعث.
وإني أميل إلى ذلك الرأي، فإنهم وقت البعث لَا يحسبون أنهم قضوا وقتا طويلا في القبور، وذلك من قدرة الله وضعف الإنسان، والعشر هي عشر ليال بدليل حذف التاء، والشهر العربي يعرف بالليالي، وهو لغة القرآن الكريم.
هذا ما يقدره بعض الناس، ويقدره آخرون بيوم واحد، وهو أمثلهم طريِقة، ولقد قال تعالى:(9/4786)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
المتحدث هو الله تعالى بضمير التعظيم، فهو وحده العظيم الكبير، وقوله: (أَعْلَمُ) أفعل التفضيل ليس على بابه بل معناه العليم علما ليس مثله علم، ولا فوقه علم، وقوله تعالى: (بِمَا يَقُولُونَ) أي مع تخافتهم وقولهم في خفت، بصوت غير مسموع إلا لأنفسهم ليس لأحد غيرهم، وقال تعالى: (إِذْ يَقُول أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) والأمثل هو الأعدل في القول وفي الإدراك و (طَرِيقَةً)، أي طريقة التفكير، واتجاه إلى الطريق المستقيم (إِن لَبِثْتُمْ إِلَّا يوْمًا) " إن " نافية، أي: ما لبثتم إلا يوما أي يومًا واحدا.
والله سبحانه تعالى أخبر عن تخافتهم في وقت الفزع الأكبر، وأنهم في هولهم يستقلون ما مضى عليهم في الحياة بجوار ما يستقبلون من أيام شداد غلاظ، أو لوجودهم في قبورهم غير شاعرين لَا يعرفون الزمن الحقيقي الذي لبثوه في القبور، وذلك دليل قدرة الله - سبحانه وتعالى - على البعث وحكمته في خلق الإنسان.
* * *(9/4786)
حال الأرض والسماء والناس بعد البعث
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
* * *
كان الإحياء في نظر السائلين سهل بالنسبة للجبال التي هي أوتاد الأرض، فقال تعالى في بيان أنها هينة عند الله لَا تحتاج إلى معاناة بل(9/4787)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105)
(يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا)، والنسف يقتضي أن يفتتها ذرات تنسف، ويؤكد سبحانه نسفها، وفي تأكيد النسف تأكيد للتفتيت أيضا.(9/4787)
فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)
(فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
" الفاء " عاطفة، والضمير يعود إلى الجبال أو إلى الأرض على أنها استحضرت في الذهن عند ذكر الجبال، وقد يعود الضمير على مطوي في الذكر مستحضرا في الذهن، كقوله تعالى: (. . . مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة. . .)، و " القاع " الأرض المستوية، و " الصفصف " الأرض التي لَا نبات فيها، أي أن يوم البعث تكون الأرض مستوية لنسف جبالها وملساء لَا زرع فيها، أي تزول جبالها ووهادها وزرعها البهيج،(9/4787)
وتكون قاعا صفصفا، ووضح سبحانه وتعالى(9/4788)
لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
(لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) التعوج. والأمْتُ: التلال الصغيرة، أي تصير الأرض بعد نسف جبالها مستوية لا انخفاض فيها ولا ارتفاع، ويفسر ابن عباس العوج بالميل، والأمت الأثر، وروي عنه أنه قال العوج الوادي والأمت الرابية، وكلها معانٍ متقاربة، وتنتهي جميعها إلى أن الأرض تصير مستوية على نسق واحد، لَا تعرف فيها واديا ولا رابية، ولا جبلا ولا تلا، فكل ما كان من فروق تفرق بين أجزائها تزول وتبقى شيئا واحدا، وذلك تمهيد لزوال كل الفروق الذي تكون بين الأشخاص إلا أن يكون عملا صالحا، فإنه يعلي صاحبه، أو عملا سيئًا فإنه يحطه ويرديه.
ويجب أن ننبه هنا إلى أمر ذكره الزمخشري فإنه قرر أن (العِوَج) بكسر العين يكون في المعنويات أو ما لَا يعرف إلا بالنظر والمقايسات، و " العَوج " بفتح العين ما يكون في الحسيات، ولكنه عبر هنا بما يدل على المعنويات؛ وذلك ليكون النفي شاملا لكل ما يكون علوا، ولو كان العلو لَا يعرف بالنظر المجرد، بل يعرف بالقياس وميزان الماء، فهذا العوج وإن كان في الحسيات لم يعرف بالمقاييس والموازين العقلية.
قال تعالى:(9/4788)
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
أي يومئذ وقت نسف الجبال وأن تكون الأرض قد استوت، ليس بها بناء، ولا ديار ولا حجر ولا مدر، ولا قيعان ملساء، ولا نبات ولا شجر ولا عوج ولا أمت، في هذا اليوم وفي ذلك الوقت يدعو الداعي فتكون الإجابة من غير اعوجاج كما أن الدعوة لَا اعوجاج فيها، فالضمير في (لَهُ) يعود إلى الداعي، والداعي هو مَلَك وُكلَ إليه أمر دعوة الخلق التي يكون بها البعث ويستجيب لها الجميع من غير تلكؤ مسارعين مستجيبين، ونفي العوج عن الداعي باعتبار أن دعوته مستقيمة لَا استثناء فيه، وعن المدعوين أيضا باعتبار أن استجابتهم مستقيمة، لَا عوج فيها ويستجيبون سائرين في خط مستقيم لَا التواء فيه، فالدعوة حاسمة والاستجابة لا عصيان فيها، (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ) أي خضعت وبدت فيها الاستكانة والخضوع(9/4788)
لله تعالى فكل صوت انخفض، وكل جهارة في القول، والخضوع (لِلرَّحْمَنِ)، وهو القهار في ذلك اليوم، ووصف بالرحمة لأنه يوم العدل، والعدل هو الرحمة، فكل يأخذ حقه، ويؤدي ما عليه، ويحاسب على ما قدمت يداه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، إذا كان ذلك الخشوع خشية من الرحمن العادل (فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا)، إلا صوتا خفيًّا، وقالوا: إنه صوت وقع الأقدام فلا حديث ولا كلام هلعا وفزعا.
وكل إنسان مقدم على أمر أحس بخطورته، وقد اعترته هيبة اللقاء، وأحس بالحساب ولا يدري ما الله فاعل به، فالأبرار يستقلون حسناتهم، ويَعُدون أخطاءهم كبائر، والأشرار يعروهم الإحساس بآثامهم وعظم ما ارتكبوا، ويجدون عملهم محضرا، ويعانون ما أنكروه من قبل، وهو البعث والحساب.(9/4789)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
(يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
" إذ " في (يَوْمَئِذٍ) تشير إلى يوم ينفخ في الصور، ويكون البعث المراد يوم الحساب، يجيء كل إنسان ومعه أعماله مسجلة عليه في كتابه قد سجلت حسناته، وسجلت سيئاته، وجوارحه تنطق بما اكتسبت من آثام وتحوطه السيئات ويحاسب على ما عمل، ولا شفيع يشفغ ولا فدية تدفع (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا)، وهذه الشفاعة تكريما للشافع وليست استنزالا لعقاب، أو زيادة في ثواب، فالله سبحانه يعلم الجزاء حق العلم وإنما هي إظهار لكرامة الكرماء عند الله العزيز الحكيم، الذي علم كل شيء فقدره تقديرا وما قدره في علمه واقع لَا محالة، فإن كان بشفاعة شفيع وقع ما كتب على أنه استجابة لشفاعة اختص بها كريما مكرما.
فالشفاعة بالإذن، ويقال للشفيع اشفع تشفع، فهي لَا تكون إلا بإذن من الله ولا تكون إلا لمن (وِرَضِيَ لَهُ قَوْلًا)، كما قال في آية أخرى، (. . . إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيرْضَى).
وقوله تعالى: (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) كأنه لابد من شرطين لقبول الشفاعة وهو إذن الله تعالى، ولا يكون الإذن إلا من مرضي القول مقبول، لأنه تكريم من الله عز وجل لأجل الاستقامة، والعدالة في القول، فلا يشفع لأثيم،(9/4789)
وقلنا: إن هذا يكون تكريما للشفيع ولرحمة العباد، وهو مقدَّر في علمه المكنون، فالشفاعة لَا تغير مقدورا، ولكن تنفذ المقدور، وقوله تعالى: (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) التنكير هنا لتعميم القول لَا لتخصيصه، أي رضي الله سبحانه وتعالى له قولا أيَّ قول، أي كان الصادق الأمين عند الله تعالى، ولا يكون ذلك إلا لرسول من المقربين المصطفين الأخيار.(9/4790)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي ما هو أمامهم ويستقبلهم، (وَمَا خَلْفَهُمْ)، أي ما خلفوه وقاموا به من أعمال، هذا تعبير قرآني يعبر عن الأمور الحاضرة والمستقبلة بأنها بين الأيدي، وكان في الكلام استعارة شبه الأمور التي تقع في الحاضر أو المستقبل بما يكون مهيأ بين أيديهم يفعلونه، والأمور الماضية التي عملوها في الماضي بما خلفهم؛ لأنهم تركوه فكان في أعقابهم فالله علم أعمالهم، وما تستحق من جزاء، وما قدره من عقاب، وثواب وغفران ورحمة من عنده إنه هو الغفور الرحيم الودود السميع البصير.
(وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) الضمير في (بِهِ) يصح أن نقول إنه يعود على (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) فالله سبحانه وتعالى يعلمه، وهم لَا يحيطون بشيء من علم هذا، فالقابل مغيَّب عنهم لَا يعلمونه، والحاضر لَا يعلمونه علم إحاطة، بل علم الإحاطة عند الله وحده، وكذلك ما خلفهم لَا يعلمونه علم إحاطة، والمراد بعلم الإحاطة علم البواعث والغايات والنافع والضار، ونتائج الأفعال وثمراتها وحقائقها وكنهها وما تسره الأنفس وما تعلنه، وقوله تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا) هو كقوله تعالى: (. . . وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّن عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ. . .).
ويصح أن نقول: إن الضمير يعود على ذي الجلالة،؛ لأن الله أعلى من أن نعرف ذاته، إلا بما يعرفنا به من صفات، والاحتمال الأول أقرب، وبه نقول، والله أعلم.
* * *(9/4790)
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
(عَنَت) من عنا يعنو إذا خضع، وخشع وخنع، ومنه قولهم عن الأسير أنه المعاني، أي الخاضع وهذا الخنوع هل هو في الدنيا، أم في اليوم الآخر؛ إنه بلا شك في اليوم الآخر؛ لأن الله سبحانه هو مالك يوم الدين، وهو مالكه، ففيه لَا يكون إرادة إلا إرادة الواحد القهار، وقيل إن هذا في الدنيا، فإن الله تعالى في قبضته السماوات والأرض فكل الوجود خانع عانٍ له سبحانه.
وأرى أن ذلك في الدنيا والآخرة: (الْوُجُوهُ) المراد به الذوات كلها، فالوجه يعبر به عن الذوات؛ لأن به المواجهة، وقوله تعالى: (لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)، أي الذي يبقى ولا يموت أبدا، فهو الحي الباقي الذي تذل له كل الوجوه، والقيوم هو القائم على الخلق يدبرهم، وهو القائم عليهم يحصي حسناتهم وسيئاتهم، وهو الدائم الباقي ملك الناس في الدنيا والآخرة.
ولقد قال سبحانه: (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا).
الواو واو الحال، والخيبة: الخسران والفشل والعجز، فهي تشمل في معناها كل هذه المعاني، وسجل سبحانه وتعالى الخيبة على من حمل ظلما، وعبر سبحانه وتعالى عن حمل الظلم أو كسبه بقوله تعالى: (منْ حَملَ ظُلْمًا) إشارة إلى أنه وزر كبير ينوء به من يحمله، وإنه يحسبه هينا، وهو حمل ثقيل، وهو تنبيه لمن يظلمون مستهِينين بالناس مستخفين بأنهم يحملون ثقلا ينوء به الناس أمام الله، وقد نكَّر (ظُلْمًا) للإشارة إلى أن عموم الظلم عبء كبير، والمعنى حمل ظلما أي ظلم.
وفى الحديث الصحيح: " يقول الله عز وجل: " وعزتي وجلالي لَا يجاوز اليوم ظلم ظالم " (1) وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إياكم والظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة " (2)
والخيبة كل الخيبة لمن لقي الله تعالى وهو به مشرك فإن الله يقول: (إِن الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، والظلم قلَّ أو كثر خيبة كل الخيبة، لأن من ينال حقه بظلم خائبٌ أمام الله والناس والحق في ذاته، وناقص في إنسانيته، والله أعلم.
* * *
________
(1) وعَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " يُقْبِلُ الْجَبَّارُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَثْنِي رِجْلَهُ عَلَى الْجِسْرِ، فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي، وَجَلَالِي لَا يُجَاوِزُنِي ظَالِمٌ، فَيَنْصِفُ الْخَلْقَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَنْصِفُ الشَّاةَ الْجَمَّاءَ، مِنَ الْعَضْبَاءِ بِنَطْحَةٍ نَطَحَها ". رواه الطبراني، وراجع مجمع الزوائد:
(81481)
(2) بهذا اللفظ: رواه الدارمي: السير - في النهي عن الظلم (2404)، وهو جزء من حديث رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن عمرو بن العاص (6542).(9/4791)
الجزاء في الأخرة وعلم القرآن في الدنيا
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
* * *
بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى جزاء الأشرار وحالهم عندما يظهر لهم البعث ويرونه عيانا، وقد أنكروه من قبل وشددوا في إنكاره حتى حسبوه غير معقول، ذكر لهم حال الذين آمنوا به وصدقوه:(9/4792)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَات)، أي من يقوم بالعمل الصالح في علاقته بربه، فلا يخضع إلا له، ويقوم بالعبادة التي كلفه إياها، وبنفع الناس استجابة لأمر ربه ويحب نفعهم، ويكون كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن يحب الشيء لَا يحبه إلا لله " (1)
فيكون في عبادة دائمة حتى في مأكله ومشربه وملبسه وفي بضعه إذ يفعل ذلك استجابة لله تعالى، وقال تعالى: (وَهُو مُؤْمِنٌ) " الواو " واو الحال، أي والحال أنه مؤمن، فالعمل الصالح لَا يعطى حقه من الجزاء إلا مع الإيمان، لأن معطي الجزاء هو الله تعالى، والإيمان هو الإيمان بالله وكيف يثاب من الله تعالى من لَا يؤمن بالله تعالى، إنه حائر بائر ليس له مقصد في عمله، ولا نية يرتجى الخير بها، وقد قال في الذين كفروا وفعلوا بعض الأمورِ النافعة في الدين: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117).
_________
(1) سبق تخريجه.(9/4792)
وقوله تعالى: (فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا)، هذا جواب الشرط، ومعناه يعطون أجرهم موفورا غير منقوص (فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا) الظلم النقص من العمل أو ثوابه، والهضم معناه الكسر، وقد خاض المفسرون في الفرق بينهما، وحيثما اجتمعا وجب ذكر الفرق؛ لأنه يجب أن يكون لكل معنى خاصا به مؤسسا عليه والتأسيس أولى من التأكيد.
ونقرب الفرق بينهما فنقول: إن الظلم هنا هو النقص من الأعمال التي يستحق عليها الثواب، والزيادة من السيئات انتقاص من الأعمال الصالحة، وأما الهضم فهو ألا تعطى الأعمال حقها فتكسر، كما يكسر الطعام في قلب الهضيم، والله أعلم.
بعد ذلك ذكر الله تعالى القرآن الكريم في مقام بيان الحق والهداية في الحياة الدنيا وكيف بقي محفوظا إلى يوم الدين.
قال تعالى:(9/4793)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
(وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرآنًا عَرَبِيًّا)، أي كهذا الإنزال الذي عاينته ونزل على قلبك قرآنا عربيا، والإشارة لبيان شأنه، والمشبه هو ما قدره الله لك معجزة، والمشبه به هو هذا الذي تذكر به، وهنا نلاحظ ملاحظتين: أولاهما - أنه هنا عبر بـ (أَنزَلْنَاهُ)، وفي أكثر الآيات كان التعبير بـ نزلنا، وينزل، فما الفرق ولم كان الاختيار بـ أنزلناه؛ ونتلمس الحكمة فنقول: إن المراد به القرآن كمعجزة في ذاته سواء أنزل دفعة واحدة أم منجما، فكان التعبير بـ أنزلنا، وعندما كان ينزل لبيان الشرع ولحفظ آية آية كان التعبير بـ نزلنا، وهنا بيان أنه معجزة وأنه جاء مبشرا ومنذرا ينتفع به المتقون ويذكر به غيرهم ليكون لهم نذيرا.
الثانية: أنه قال (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) وهذه حال مِنْ (أَنْزَلْنَاهُ) وفيه وصفان أحدهما أنه قرآن والثاني أنه عربي، ووصف قرآن يفيد أنه مقروء متلو يتعبد بتلاوته، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقاه عن جبريل بقراءاته وتلاوته، وأنه متواتر بتلاوته وطرق قراءاته، وهو محفوظ بقراءاته وتلاوته، وأن العناية تتجه إلى قراءاته لَا إلى تسطيره فهو يحفظ بتواتره جيلا بعد جيل محفوظا في الصدور، وليس متواترا فقط بكتابته في السطور.(9/4793)
والوصف الثاني أنه عربي فلا يعد قرآنا ما ليس بعربي، فترجمة القرآن لَا تعد قرآنا بل إنه لَا يمكن ترجمته قط كما قرر العلماء، وكما هو الحق في ذاته، وإذا كان قد رُوي عن أبي حنيفة أنه أجاز قراءة الفاتحة بالفارسية فذلك على أنها دعاء لَا على أن الترجمة قرآن، ولذا لَا تجب سجدة التلاوة بقراءة الترجمة، ومع ذلك فالرواية الصحيحة أنه رجح ذلك، والله أعلم.
وقال تعالى في شأن القرآن وصفا ثالثا، وهو تصريف الوعيد فيه، من ذكر القصص الذي فيه المثلاث، وما نزل بالعصاة، وفيه ذكر يوم القيامة، وما يكون فيه من عقاب وحساب، وفي ذكر الحق في ذاته، وبيان كماله، وكمال من يتحلى به.
و (الْوَعِيدِ) هو الإنذار، وتصريف الإنذار الإتيان به بأساليب مختلفة، كما أشرنا من بيان هول يوم القيامة، أو قصص الماضين، وفيه عبرة لأولي الأبصار، وهول القيامة، والتنبيه للآيات المختلفة الدالة على قدرة الله العلي.
وقال تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكرًا)، أي صرفنا من الوعيد بطرق البيان المختلفة الصادقة ليكونوا في حال من يرجى تقواهم وإذعانهم للحق، وتصديقهم له، ويتقون بذلك عذاب جهنم وإغضاب الله تعالى. وينالون رضوانه وهو أعظم الثواب، أو يحدث هذا التصريف لهم ذكرا يذكرهم بعذاب العاصين، ويكون لهم نذيرا، وقد أسندت التقوى إليهم؛ لأنها أمر نفسي يتجهون إليه بعد قيام الدليل، وأما من لم يتعظ فالقرآن يحدث لهم ذكرا وإنذارا ولقد قال تعالى:(9/4794)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
(فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
قال تعالى: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ)، الفاء للإفصاح عن شرط مقدر تقديره: إذا كان قد أنزل القرآن وصرف من الوعيد ليتقي من يتقي ولينذر من لم يتعظ، فإن هذا يدل على علوه وكمال حكمته. (تعالى) معناها بلغ في العلو أعلاه، وقد تعالى في ذاته وصفاته فليس كمثله شيء، وهو منزه عن الحوادث ومتصف بصفات الجلال والكمال، وهو الملك النافذ الأمر في خلقه، والمبدع لهذا الوجود(9/4794)
الذي لَا سلطان لأحد سواه، وكل سلطان لأحد في الأرض مضطرب ينتهي إلى زوال، ومحاسب عما يفعل، ومجزي على عمله، وتدبيره وفكره العملي، فالله هو الملك الحق الثابت الذي لَا يكون فوقه أحد، وهو العدل الذي يقدر كل شيء حق قدره.
هذا هو الله خالق السماوات والأرض وما بينهما، وهو الذي يملك ميزان هذا الوجود: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ).
ولقد ذكر سبحانه نزول القرآن فقال عز من قائل: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وحْيهُ).
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يساوق الأمين جبريل في قراءته عندما يوحى إليه بالقرآن فنهاه
الله تعالى عن ذلك، وقال هذا النص السامي له تعليما عند تلقي القرآن الكريم، وقوله تعالى: (مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُه)، أي من قبل أن ينتهي وحيه إليك ويحكم بترتيله وتلاوته، حتى ينقله إلى أمته مرتلا فيتوارثوه مرتلا، وذلك كقوله تعالى: في سورة القيامة: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)، وقرءاته الثانية معناها تلاوته وترتيله، كما قال تعالى: (. . . وَرَتِّلِ الْقُرانَ تَرْتِيلًا)، وكما قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32).
هذا تعليم من الله تعالى لنبيه في أمر يتعلق بمعجزته الكبرى ليتحقق حفظ الله تعالى كما وعد، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، وقد نبه سبحانه نبيه إلى ذلك العلم، وأمره بأن يطلب الزيادة في العلم؛ لأن كمال الإنسان في العلم وطلب الزيادة فيه فقال: (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يطلب الزيادة في العلم بالضراعة إليه سبحانه، وبالسعي في طلبه، قال الزمخشري في هذا المقام: " هذا الأمر متضمن للتواضع لله تعالى، والشكر له عندما علم من ترتيب(9/4795)
التعليم أي علمتني يا رب الطيفة في بابالتعليم، وأدبا جميلا ما كان عندي فزدني علما إلى علم، فإن لك في كل شيء حكمة وعلما، قيل: ما أمر الله تعالى رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم ".
* * *
نسيان آدم وعزمه
(وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
* * *
هذا وصف الله للطبيعة الإنسانية أنها تنسى، وأنها إذا لم تذكَّر بشرع من الله يقوي الإرادة برجاء الثواب وخوف العقاب، لَا تكون للإنسان عزيمة، وآدم أبو(9/4796)
البشرية في هذا الوقت الذي نسب الله تعالى إليه أنه نسي، ولم يجد له عزما، كان وهو على الفطرة الأولى التي لم يكن فيها شرائع مدونة قد جاء بها رسل، ولم يكن قد تسلط عليه إبليس اللعين، وتسلط على ذريته، وكل هذا التسلط منه على ذرية آدم بعد أن هبط من الجنة إلى الأرض.(9/4797)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
(وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ مِن قَبْلُ)، أي من قبل الشرائع والرسل، أي من قبل أن يقع، والمعنى عهد الله تعالى لآدم قبل أن يوسوس إليه الشيطان، وهذا العهد هو أمر الله وتكليفه، وإن لم يكن في دار تكليف، وكل أمر من الله تعالى هو عهد بين العبد وربه، وذلك العهد هو قوله تعالى: (. . . وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، ولقد بين الله تعالى أن ذلك عهد مؤكد، وقد أكده سبحانه بـ (اللام)، وبـ (قد)، وبإضافة العهد إليه سبحانه وتعالى، وأنه وثق على آدم أشد توثيق، ولقد ذكر سبحانه وتعالى وصفين لآدم أحدهما إيجابي، والثاني سلبي، أما الأول فهو النسيان فقد قال: (فَنَسِيَ) (الفاء) للعطف.
ونسي منصبة على العهد، أي فنسي العهد، ووقع في المحظور الذي حذره منه، وليس ذلك ما يكون غضاضة على آدم، لأن الله تعالى يصف الطبع الإنساني، وأنه يعرض له النسيان وتعرض له الغفلة، وما يقع في ما ينهى عنه إلا وهو ناسٍ غافل، الأمر الثاني، وهو السلبي ذكره سبحانه وتعالى بقوله: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا)، أي عزيمة صادقة تحزم أموره وتقطعها، وعبر سبحانه بهذا القول: (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) في الأمر الواقع، والله تعالى يعلم به من قبل أن يقع، فقد قدر الله تعالى كل ذلك. وعلم ما وقع قبل وقوعه فكيف يقول: (وَلَمْ نجِدْ لَهُ عَزْمًا) وهو الذي خلقه وصوره وقدره، ونقول: إنه وجده واقعا، وهو يعلم علما أزليا لأنه هو الذي خلق وصور.
وإن إبليس وذريته يجيئون إلى ذرية آدم، من نسيانهم وغفلتهم، ونقص عزيمتهم، كما جاء إبليس اللعين إلى أبي الإنسانية من جهة نسيانه، وأنه لم يكن له عزم مانع، فليحذر الناس بعد أن جاءتهم الشرائع من وسوسة إبليس وذريته.(9/4797)
ولقد ابتدأ الله سبحانه وتعالى جزءا من قصة آدم يصور كيف بدت عداوة إبليس ونسيها آدم.(9/4798)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)
و (إِذْ) مفعول لفعل محذوف تقديره اذكر، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلن لأمته فتستعصم بالحذر من إبليس، كيلا يقعوا في إغوائه الذي توعدهم إذ قال في إصرار: (لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين).
و (قُلْنَا) ضمير المتكلم لله تعالى، والأمر للملائكة، ويظهر أنه كان داخلا في عموم هذا الأمر سواء أكان منهم أم لم يكن فهو داخل في عموم الأمر، ولذا كان الاستثناء، فسجدوا طائعين مع معارضتهم ابتداء لخلافته في الأرض، فلما رأوا أن ربهم فضله عليهم بأن علمه الأسماء كلها ولم يعرفوها هم سجدوا، أما إبليس فقد أبى السجود معارضا لرب العالمين، وهنا ذكر أنه (أَبَى) ولم يذكر سبب إبائه، وذكره في آيات أخر، وهو قوله خلقتني من نار وخلقته من طين، ونسي أن الله الخالق، وكان في استطاعته أن يكون العكس، ولكن الله تعالى فعال لما يريد، (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).
وقد أخذ يبين الله تعالى العهد وسياقه، فقال عز من قائل:(9/4798)
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
(فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
" الفاء " فاء السببية؛ لأن ما قبلها سبب لما بعدها، فالحكم بأنه عدو لآدم وزوجه مترتب على امتناعه عن السجود وما سوغ له الامتناع، وهو توهمه أنه خير منه، وأنه يحسده على منزلته عند ربه، وأي عداوة أقوى من ذلك، وإذا كانت العداوة قد بدت فتوقَّع الشر، والإيذاء يقترن بها لَا محالة، ولذا أكد الله هذه العداوة، فقال: (إِنَّ هَذَا عَدُو لَّكَ وَلِزَوْجِكَ) وأكد العداوة بـ " إنَّ، المفيدة للتوكيد، وبالجملة الاسمية، وبالإشارة؛ لأن الإشارة متجهة نحو ما بدا منه وهو كلامه وامتناعه عن السجود، فالإشارة تشير إلى سبب العداوة، وإذا ثبتت العداوة فلابد أن يتوقع آدم نتائجها، وهي محاولة إخراجه من المكان الذي كرم فيه وكان السجود والخضوع فيه، ولذا قال تعالى (فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) " لا " ناهية، والنهي(9/4798)
سببه العداوة، وقد أكد النهي بنون التوكيد الثقيلة، وبأن الخروج من الجنة، وأنه يترتب عليه الشقاء، وهنا ملاحظة بيانية، وهو أن النهي كان لهما، ولكن ذكر الشقاء لآدم، ونقول إن الشقاء أيضا لهما، ولكن ذكر آدم وحده، لأن آدم يشقى شقاءين، شقاؤه هو الذي يقع فيه، وشقاؤه إذ يشقى به؛ لأن الرجال يتحملون التبعات عن أنفسهم وعن النساء؛ لأنهم قوامون عليهم، فأوجدت هذا القوامة تبعات عليهم أكثر، وفي طبيعة النساء اليوم تحميل الرجال التبعة حتى على أخطائهن وحدهن.
بين له تعالى المتعة في الجنة، وهو أنه لَا يتحمل تبعات أي أمر، ولا تكليف، فقال تعالى:(9/4799)
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
(إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
بين الله سبحانه وتعالى بهاتين الآيتين أن في الجنة كل ما يطمع فيه الإنسان من حياة هينة فيها كل مرافق قوامه الآدمي من أكل وكسوة، وشرب، وإقامة، وفي ذلك إشارة إلى ما يجب أن يطلبه الإنسان، فإذا كُفيَ هذا فقد أوتي الدنيا بحذافيرها، فإن وراء المطامع الأخرى من جاه وسلطان وتحكم المصارع، كما قال على كرم الله وجهه: مصارع الرجال تحت بروق المطامع.
وقوله تعالى: (وَلَا تَضْحَى) أي لَا تبرز، وقد ورد عن ابن عمر أنه رأى رجلا مستظلا عن الشمس قال: اضْحَ لمن أحرمت له (1)، فضحى بمعنى برز للشمس، ولا يضحى بمعنى لَا يبرز لهَا بأن يسكن في كن لَا يبرز فيها له، أي في مسكن، والمعنى على ذلك أنك تجد كفايتك في الحياة فتجد الطعام الذي تأكله، واللباس الذي يقيك العري، والماء الذي تشربه، والسكن الذي يؤويك وحسبك ذلك وكفى، وقد قال البيضاوي في هذا النص القرآني الكريم: إنه بيان وتذكير لما له في الجنة من أسباب الكفاية، وأقطاب الكفاف التي هي الشبع والري والكسوة والسكن، مستغنيا عن اكتسابها، والسعي في تحصيل أغراض ما عسى ينقطع ويزول منها بذكر نقائضها ليطرق بأصناف الشقوة الحذر عنها.
_________
(1) ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 11/ 252.(9/4799)
أي أنه ذكر هذه الكفاية، وهي الطعام والكسوة والشراب والمسكن بصيغة النفي؛ لأن عدمها هو موضع التحذير والمنع، ولأن عدمها هو الشقاء في الجنة، وقد نفى بذلك أنه لَا يشقى في الجنة إنما الشقاء في غيرها، وابليس العدو يعمل على شقائكما وكدحكما، إذ أخرجكما من الجنة فلا تطيعاه، وقد أشرنا إلى أن هذه الأمور يجب أن تكون مطلبك يا آدم، وإن في طلب غيرها التناحر على البقاء، ومعه الشقاء، وهذه موعظة لمن أراد جنة الدنيا دون شقائها.
وفى الآيتين من أساليب البيان، فذكر المطلب الأساسى الإنساني (إِنَّ لَكَ) مؤكدا أن له الأكل والكسوة والشراب والمأوى، هذا لك وحده ليس لك غيره، وفي الجنة، ويجب الاقتصار عليها في الحياة التي تستقبلك.
ولقد جاء إبليس إليهما من وراء هذه الأمور، وهو الخلد.(9/4800)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
كان نعيم الجنة نعيما هادئا آمنا، ولكن لم يذكر أنه خالد، ومن كان في عيشة راضية تمنى أن تكون باقية، فجاء إبليس من ناحية هذه الأمنية، وقال لآدم: هل أدلك على شجرة الخلد، وملك لَا يبلى، وسوس إليهما بقول خفي يشبه وسوسة الذهب (1)، وأثار التمني في نفسه بقوله: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ) الاستفهام هنا للتنبيه أي أن هذه الشجرة التي نهى عن الأكل منها هي شجرة الخلد من أكل منها نال الخلود والبقاء والسلطان والسيطرة، وهذا هو المعنى المذكور في آية أخرى، إذ قال الله تعالى عنه: (. . . مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20).
وما زال بهما يغريهما بالأكل حتى أكلا، ولقد قال تعالى: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ. . .)، فكان التدلي بالغرور أن أكلا منها، وكانت العاقبة ليست الحسنى، ولذا قال تعالى:
________
(1) الوَسْوَسَة والوَسواس: الصوت الخفي من ريح. والوَسْواس: صوت الحلي. لسان العرب - وسس.
(فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)(9/4800)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
" الفاء " عاطفة، أي بعد هذه الوسوسة المستمرة غير المنقطعة أكلا منها، ويلاحظ أنه في هذه الآية ذكر فيها آدم فقط وفي آية أخرى كانت الوسوسة لهما معا، إذ قاسمهما الشيطان إنه لهما من الناصحين، والآية التي ذكر فيها آدم فقط لا تمنع أن حواء كانت تستمع معه، وأن الإغراء كان لهما؛ لأحدهما بالخطاب وللآخر بالاستماع مع المشاركة في الخطاب.
(فَأَكَلا منْهَا) أي من الشجرة التي حرمت عليهما في قوله تعالى في الآيات، (. . . ولا تَقْرَبَاً هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)، وبمجرد أن أكلا منها بدت لهما سوءاتهما أي عوراتهما، فالعورة يسوء النظر إليها، وليس النظر إليها سارا عند أهل الطبائع المستقيمة، وكشف السوءتين في هذا الموضع فُهِم منه بعض القارئين للقرآن الكريم أن الشجرة الممنوعة تتعلق بالجنس، ولكن الله تعالى لم يبين ورسوله لم يفسر، فحق علينا ألا نَقْف ما ليس لنا به علم.
وقد قال: إنه عقب بدوّ السوءتين لهما أنهما أخذا يخصفان عليهما الأوراق فقال تعالى: (طَفِقَا) أخذا واستمرا، من جرَّاء كشف عوراتهما واستحيائهما من انكشافها (يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ).
ومهما يكن من حالهما التي انكشفت، فإن آدم الكريم عصى ربه الذي خلقه وأمر الملائكة أن يسجدوا له، ولم يكن في طاعة تقيه ذلك الانكشاف، وتجنبه إبليس ووسوسته (فَغَوَى) أي ضل ووقع في الغواية والضلال.
وفى هذا الكلام ما يشير، أولا: إلى أن الإنسان يؤتى من ناحية ما يتمنى، وإبليس وذريته يأتون من ناحية أمانيه، وتشير ثانيا: إلى أن الإرادة القوية هي العزم الصادق، وهي التي تمنع أو تقاوم وسوسة الشيطان.
وتشير ثالثا: إلى أن فتنة الجنس أشد الفتن، وقد أُثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر: أنه ما ترك فتنة أشد من فتنة النساء للرجال (1).
بعد هذا العصيان من أبينا آدم لم يعد له هو وإبليس مقام في جنة الله، بل لابد أن ينزلا إلى المعترك في الأرض، ولكن قبل أن ينزل من جنة الله التي
________
(1) عَنْ أسَامَةَ بْنِ زَيْد رَضيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنْ النبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا تَرَكت بَعْدي فتْنَة أضَرَّ عَلَى الرجال منْ النَّساء "، رراه البخاري: النكاح - ما يتقى من شَؤم المرأة (4706)، ومسلمَ: الَذكر والدعاء والتوبةَ أكثر أهلَ الجنة الفقراء (4923).(9/4801)
لا تكليف فيها إلى أرض التكليف لابد أن يطهره الله من المعصية التي زل فيها يوسوسة الشيطان.(9/4802)
ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
(ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
التعبير بـ " ثم " العاطفة للترتيب والتراخي، للإشارة إلى البعد بين المرتبتين مرتبة العصيان والغواية ومرتبة الاجتباء والهداية.
والاجتباء الاختيار والاصطفاء، وقد اجتباه ابتداء بأن جعله أول خلقه، واجتباه ثانيا بأن اختاره للاختبار، وتاب عليه من هذه المعصية التي عصاها، فرجع الله تعالى إليه بالمغفرة؛ إذ تاب هو بالشعور بالخطأ، وعاد الله تعالى عليه بالمغفرة، ثم بالهداية بعد ذلك.
وهذا المعنى يشير إلى أن الخطأ في طبيعة الإنسان، والتوبة خلق المهديين والله تعالى غفور رحيم.(9/4802)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
(قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
القائل هو الله جل جلاله، وقد قدر لهما، أن يكونا مع إبليس في الأرض حيث التكليف والابتلاء، على أن ينزلا إلى الأرض، وقد طهرهما الله تعالى بعد اختبار، واختار لهما الهداية بعد هذا العصيان وغفر لهما العصيان؛ لأن الجنة لم تكن دار تكليف، قال الله لهما (اهْبطَا منْهَا جَميعًا) الهبوط النزول من مكان عال إلى منخفض، ولا شك أن ترك الجنة التَى لَا تكلَيف فيها إلى حيث التكليف، فيكون الخير ومعه الثواب، والشر ومعه العقاب، ولا شك أن ذلك هبوط، ولكنه هو سبيل الرفعة مرة أخرى، فالتكليف كما هو نزول، هو طريق للتدرج إلى الرفعة بجهاد التنازع بين العلاقة الروحية والطبيعة الأرضية، فإذا علا بعد هذا الجهاد فقد وصل إلى السماك (1) الأعزل من قوة الإيمان، والهبوط أيضا ذريعة إلى انهواء عميق سحيق في المعصية، وقد صرح سبحانه وتعالى بأمور ثلاثة بعضها يحتاج إلى توضيح:
_________
(1) السماكانِ نجمان نَيِّرانِ أحدهما السِّماك الأعْزَل، والآخر السُّماكُ الرامِحُ، وسمي أعزلَ لأنه لا شيء بين يديه من الكواكب، كالأعْزَل الذي لَا رمح معه، والرامح وليس هو من المنازل. لسان العرب - سمك.(9/4802)
أولها: قوله تعالى (جَمِيعًا) فإنها توكيد، والتوكيد يكون لرفع احتمال، ونقول: إن (جَمِيعًا) تشير إلى وجود إبليس معهما، وتدل على هذا قوله تعالى: (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُو) فما كانت العداوة بين آدم وزوجه، إلا أن تكون الفتنة بين الرجال والنساء، وإنما العداوة هي بين آدم وإبليس، كما قال تعالى: (إِنَّ هَذَا عَدُو لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى).
الأمر الثاني: هو الاختبار والتكليف وبيان عاقبة العصيان، ولذا قال تعالى:
(فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) و " إما " هي " إنْ " الشرطية و " ما " المؤكِّدة لمعنى الاشتراط في فعل الشرط، وأكدته أيضا نون التوكيد الثقيلة، أي أن إتيان الهدى الهادي مؤكد لَا مجال للريب فيه، والهدى يجيء على لسان هادٍ هو رسول من رب العالمين، وهو مبشر لمن اتبع الحق منذر لمن ضل عن سبيله، وإن هذا هو موجب التكليف؛ إذ لَا تكليف إلا إذا وجد بيان، كما قال تعالى: (. . . (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
الأمر الثالث: أن من اتبع هدى الله تعالى فإنه لَا يضل ولا يشقى، وكان الشقاء مقترنا بالضلال؛ لأن الضلال يجعل المؤمن في حيرة لَا يدرك فيها حقا، ولا يهتدي، وإن ذلك شقاء أي شقاء، وشقاء الإنسان في حيرته، وفوق ذلك فإن الضلال يؤدي إلى الشقاء لَا محالة في اليوم الآخر حيث الحساب والعقاب، وإن ثمرة الضلال لَا محالة هو العقاب.
ويلاحظ أنه قد ذكر في هذه الآية الاختبار مجملا، وذكر مفصلا في سورة البقرة بعض التفصيل، فقال تعالى: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38).
* * *(9/4803)
حال العصاة
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
* * *
بيَّن الله تعالى حال الذي هداه الله واهتدى بالهادي الذي أرسله حيث لا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن سماع الهدى فإنه يكون له معيشة ضنكا، يحس فيها بالضيق الشديد الدائم الذي يجعله في لهج دائم بالحياة أو بنوع منها، وهذا قوله تعالى:(9/4804)
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) الضنك: الضيق، يقال: منزل ضنك أي ضيق، وعيش ضنك، ومعيشة ضنك أي ضيقة، ويستوي فيه الذكر والأنثى والجمع والمثنى فهو وصف لَا يتغير بتغير الموصوف.
وهنا أمران يحتاجان إلى بعض البيان، أولهما: أنه عبر هنا عن المرشد بـ (ذِكْرِي) والجواب أن هذا من إضافة المصدر لفاعله فهو تذكير من الله لعبيده، أو باعتبار أن الرسول مبشر ومذكر ومنذر فقط، وأن من ذكر بالهدى له ثوابه إن اهتدى، وإن لم يهتد فعليه إثمه.(9/4804)
ثانيهما: كيف توصف معيشة العاصي في الحياة بأنها معيشة ضنك، مع أنه قد يكون في بحبوحة من العيش وفي رغد دنيوي يفاخر به، ويقول مفاخرا: (. . . (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا)، فكيف يوصف بأنه في معيشة ضنك؟ والجواب عن ذلك أن الضيق لَا يكون من قلَّة المال فقط، بل يكون في غير ذلك؛ لأن من أعرض عن الهدى، وعن ذكر الله لا يكون في قناعة راضية، بل يكون في طمع مستمر، إذا كان عنده مال وفير استقله فلهب في كثيره، ويزيد وجاهة الدنيا وسلطان الحياة، فيكون في ضيق بحياته، فإن حرم ظنها الكارثة، وهكذا هو يحس بالطلب الدائم، ووراء الطلب الإحساس بالضيق. وتعجبني في ذلك كلمة قرأتها في تفسير القرطبي، فقد قال: " ومعنى ذلك أن الله تعالى جعل مع الدين التسليم والقناعة، والتوكل عليه، فصاحبه ينفق مما رزقه الله عز وجل بسماح وسهولة ويعيش عيشا رافغا، كما قال تعالى: (. . . فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً. . .)، والمُعرض عن الدين مستولٍ عليه الحرص، الذي لَا يزال يطمع به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق فعيشه ضنك، وحاله مظلمة، كما قال بعضهم: لَا يعرض أحد عن ذكر الله إلا أظلم وقته، وتشوش عليه رزقه ".
وفوق أن الإعراض عن ذكر الله تعالى تكون النفس فارغة وحيث فرغت النفوس عن ذكر الله كان الظلم، وحيث كان الظلم كان اضطراب الحياة، وتوقع الشر والانتقام فتكون العيشة ضنكا وتكون الحياة ضيقة لمن يعرف العواقب. هذا عذاب الإعراض عن ذكر الله في الدنيا، أما في الآخرة، فقد قال تعالى فيه: (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) والمراد أنه لَا يملك حجة ولا برهانا يبرر به ما فعل وما وقع منه، وفي هذا استعارة تمثيلية، فشبهت حال من تقوم عليه الحجة ولا يحير جوابا، بحال الأعمى الذي لَا يبصر الطريق أين تكون النجاة، بجامع الوقوع في الهوة، وعدم البصر بطريق للخلاص أبدا، وإذا كان من في الدنيا أعمى، فهذا الذي حُشر بين أهل الضلال في الآخرة أعمى البصيرة وهو أشد ضلالا.
قال وقد رأى نفسه قد عمى عليه الدليل، وضلت عليه السبيل.(9/4805)
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)
(قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)
يسأل ربه لم حشرتني أعمى، عاجزا عن الدفاع، وقد عميت عن الدليل، ولم أعرف وجهه مع أنني كنت في الدنيا أبصر القول ومراميه، وأجادل، - وأخاصم، وأنازل وأقاوم، والآن أنا مستسلم لمن يقودني كالأعمى، ونادى بـ (رَبِّ) معترفا بأنه خالقه وبارئه، وقد كان من قبل يشرك بربه في العبادة، ويضل ضلالا بعيدا.
فيرِد الله تعالى بلسان الملائكة أو بإلهام الله تعالى الحق له:(9/4806)
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
(كَذَلكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكَذَلِكَ الْيَوْمَ تنسَى (126)
كهذا الإيتاء والحشر أعمى لَا تستطيع القيام بحجة في وقت حاجتك إليها - أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا، أي أنه في مقابل نسيانك آيات الله تعالى، وتركك إياها كانت غشية العمى عليك وعجزك عن الحجة، وكذلك الذي تركت به آيات الله تنسى أنت في شخصك وتهمل وتلقى فيما تستحق من عذاب أليم.
وقال تعالى:(9/4806)
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
(وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
ذكر الله تعالى عقوبتين لمن أعرض عن ذكر ربه أي عن الداعي لذكر ربه، أولاهما: المعيشة الضنك، أي الضيقة التي تضيق فيها النفوس وتطوع للمطامع التي لَا تنال، وإن نيلت طلبت غيرها، وقد بين ابن كثير في تفسيره كيف كان الخلو من اليقين يجعل المعيشة ضنكا، قال ابن كثير في معنى الضنك: " أى ضنكا في الدنيا فلا طمأنينة ولا انشراح صدر بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء فإن قلبه لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك فلا يزال في ريبة يتردد، فهذا من ضنك المعيشة ".
هذه هي العقوبة الأولى وقد أشرنا إليها من قبل، أما العقوبة الثانية، فقد أشار سبحانه وتعالى إليها بقوله عز من قائل: (وَنَحْشرهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) وذكرنا أن العجز هو عن الحجة والبرهان، حيث يجب الإدلاء بها، فهو عجز في موضع(9/4806)
الحاجة، ذانكم عقابان أحدهما في الدنيا، وهو مشتق من ذات الجريمة فهو عقاب من ذات الفعل، والآخر وهو على ما لم يستعد له من الحساب وقد جاء من إنكار البعث، ولو كان قد آمن به لاستعد له، وما فوجئ به وارتج قلبه، فكان هذا عذابا شديدا؛ لأن اللسان يقف حيث الحاجة أشد ما تكون إليه، والبصر يكون عليه غطاء عند إرادة الإبصار.
هاتان العقوبتان قبل عذاب الآخرة الذي يكون بعد الحساب، وتقدير الجزاء، وهذان العقابان ينالان من أسرف في أمره، وانغمر في الشهوات، ولذلك قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ).
كهذا العقاب الدنيوي من إحساس بضنك العيش والضيق فيه والتبرم بحياته والإحساس بفقد الاطمئنان لأي شيء، والإسراف على نفسه باللذات، وبالإحساس بالحرمان المتجدد الذي لَا يشبع من لذة، ثم يستكبر الأمور، ولذا تجده يكثر الانتحار وبخع النفس عند المسرفين في المعاصي، والمسرفين على أنفسهم بقلقهم، وعدم اطمئنانهم ومع ذلك يكون إحساسهم بسد الطرق في وجوههم.
فالإشارة في قوله تعالى: (وَكذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ) وهي إلى المعيشة الضنك، والحشر أعمى (وَكَذَلِكَ) مفعول لـ (نَجْزِي)، والتعبير بالموصول (مَنْ) للإشارة إلى أن الصلة، وهي الإسراف، سبب لذلك الجزاء.
وقد بين سبحانه أن وراء هذا العذاب عذابا أشد وأبقى، فقال عز من قائل:
(وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَذ وَأَبْقَى) وهو الذي يكون بعد الحساب، وتقرير أن الجزاء أشد لأنه بالنار، وهو أبقى أي إنهم يكونون في جهنم خالدين فيها وبئس المهاد.
ولقد ذكر الله تعالى لمشركي مكة ما جاءهم من عبر، وما ساقه من قصص هاد مرشد فقال عز من قائل:
(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)(9/4807)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
الكلام في هذه الآية يتعلق بمشركي مكة، و " الفاء " عاطفة على فعل محذوف تقديره مثلا: أيستمرون في عبادة الأوثان مع قيام العبر الدالة على ضلالهم فلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون.
" هدى " تتعدى بنفسها من غير " لام " فيقال هداه ويهديه، واللام لتقوية التعدية والتنبيه، وبيان الهداية لهم أولا وبالذات، أو نقول إن " يهدي " هنا متضمنة معنى " يتبين "، والمعنى أو لم يتبين لهم كم أهلكنا، والاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الواقع، والمعنى لم يعتبروا بمن أهلكناهم في عددهم الكثير، وهم يشاهدون آثارهم، ويمشون في مساكنهم، يمرون عليها في رحلاتهم إلى الشام والعودة منه، ولقد مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمساكن ثمود وهو مار في غزوة تبوك (1).
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى) إن في هذه العبر عن القرون الماضية، وهي الجماعات السالفة لعبرة لمن عنده اعتبار، وقال تعالى (لأُوْلِي النُّهَى) والنُّهى جمع نُهْيَة، وهي العقل الذي ينهى عن مساوئ الأفكار ويحث على محاسنها، وكان حقا أن يعتبروا، ولكن ضعفت العقول، وقلَّ الاعتبار.
ولقد كان المشركون لفرط إعراضهم، وصدهم عن سبيل الله يستعجلون العذاب تحديا أو جهلا، كما قال تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ. . .)، ولكن الله تعالى بين أَنه قادر عليهم، ولكن لحكمة أخرهم، فقال:
________
(1) عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: مَرَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحِجْرِ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ حَذَرًا، أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ» ثُمَّ زَجَرَ فَأَسْرَعَ حَتَّى خَلَّفَهَا ". رواه مسلم: الزهدَ والرقائق - لَا تدخلوا
مساكن ... (5293)، والبخاري مختصرا: الصلاة (415).(9/4808)
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
(وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
(لَوْلَا) يقول النحويون: إنها حرف امتناع لوجود، والمعنى على هذا امتنع أن يكون العذاب ملازما للجريمة أي مقترنا بها في الوقوع كما كان بالنسبة للأمم السابقة أو لبعضها، فإنها إذ كفرت بأنعم الله تعالى، وكفرت بنبيها أنزل الله بها عقابه للزوم المسبب للسبب. امتنعت هذه الملازمة بين إثم الكفر وعقابه، لوجود كلمة سبقت من ربك، ولأجل مسمى حدده الله تعالى لحكمة، وهو الحكيم العليم، وتلك الكلمة(9/4808)
التي وعد الله بها هي أن النبي محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين وأن رسالته باقية، وليس هؤلاء وحدهم المخاطبين، بل من بعدهم أجيالهم وكان محمد - صلى الله عليه وسلم - يرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله، وقد أجاب الله تعالى رجاء محمد رسوله الكريم فجعل من أصلابهم مجاهدين، فكان منهم خالد بن الوليد، ومن صلب أبي جهل عكرمة، وقد جاهد في سبيل الله وحارب المرتدين، هذه كلمة الله (وَأَجَلٌ مسَمًّى) معطوف على (كلِمَةٌ)، واللزام الملازمة بملازمة العقاب لإثم الكفر، واقترانه به اقتران المسبب بالسبب.
ولهذا التأجيل الذي رجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره بالصبر فقال تعالى:
* * *
(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
* * *(9/4809)
بعد هذا الإنذار للمشركين بما كان من هلاك الأمم، وأن الله تعالى أجله للمشركين مع استهزائهم بك وسخريتهم بالمؤمنين، وإيذائهم وقولهم عنك ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون، وإنه سبحانه وتعالى ممهلهم غير مهملهم:(9/4810)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
(فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ)، و " الفاء " للسببية، أي بسبب أن الله تعالى قد أجلهم ولا يمهلهم، اصبر على ما يقولون، أي تحمل ما يقولون، ولا تُلق بالا، ولا تحسبن أن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم لأجل غير بعيد، وهو محقق الوقوع، وما هو محقق الوقوع قريب غير بعيد، ولقد بين الله أن تربية النفس على الصبر تكون بالاتجاه إليه واستذكاره في كل الأوقات، ولذلك قال بعد ذلك: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي نزِّهه.
و" الباء " للدلالة على مصاحبة الحمد للتنزيه، أي نزه ربك عن أن يتركهم، حامدا ربك على أنه أعطاك القوة وهو لهم قاهر، وتفاءل ولا تتشاءم، واعلم أن الله معك غير متخلٍّ عنك.
والتسبيح يراد به التنزيه المطلق المصحوب بالحمد، وذلك مطلوب في كل وقت أم المراد الصلاة، ولعلها كانت قد فرضت وأن تلك الآيات نزلت بعد المعراج، وهو الوقت الذي فرضت فيه الصلوات الخمس.
إن الآية يمكن أن تخرج على الأمرين، فيصح أن يكون المطلوب بها أن يلجأ الرسول بعد الصبر مستعينا به على اطمئنان النفس وتنزيهه وحده، في الصباح قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، ومن آناء الليل وساعاته، وفي أطراف النهار، قبل الزوال وبعده، أي يعمم أوقات الصحو كلها في تنزيه وتقديس، وحمد، وإن ذكر الله يذهب الشدائد، ويعطي النفس قوة، ويمكنها من الصبرِ، ويعطيها الاطمئنان والقرار، ولذلك قال تعالى في ختام النص السامي: (لَعَلَّكَ تَرْضى) راجيا أنت أيها الرسول أن ترضى وتقبل على تبليغ الرسالة قرير العين غير آبه لهم، ولا ملتفت إليهم.
هذا على أن البيان للتسبيح المطلق والحمد والرضا، وقد يراد بالسياق الصلاة، ويكون في النص السامي إشارات إلى أوقاتها كما في قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18).(9/4810)
ويكون معنى قوله (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) المراد بالأول صلاة الصبح وأنه مستحسن الإسفار بها بأن تكون وقد زال الغلس، وما قبل الغروب هو صلاة العصر، (وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ) صلاة العتمة - المغرب والعشاء -، وأطراف النهار تأكيد لصلاة الفجر والمغرب، كقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى)، فهو تكرار لتأكيد الطلب، وإن تأكيد الطلب في صلاة الفجر؛ لأنها وقت الهدوء واستجمام النفس واستجماع كل القوي الروحية، وصلاة المغرب يضيق وقتها، ولذلك ورد في الأثر: المغرب جوهرة فالتقطوها، والفجر قد يتلهى عن صلاته بالنوم، ولذلك من السنة في أذان الفجر، الدعوة إلى الصلاة خير من النوم.
و (آنَاءِ) جمع إني، ومعناها وقت، أي نزه الله تعالى واحمده في كل أوقات الليل، وهنا بعض ملاحظات بيانية، أولها: قوله تعالى: (ومِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ) قدم الزمان على الفعل وربط بينهما بالفاء، وذلك لمزيد العناية بالوقت فإنه وقت الهدأة والسكون، والاتصال بالله وحده.
الثانية: أن الفاء في قوله: (فَسَبِّح) لتوكيد الطلب ووصل القول، كقوله:
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءَ بمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ. . .)، وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ. . .).
الثالثة: أن قوله تعالى: (لَعَلَّكَ تَرْضَى) الرجاء فيها من النبي - صلى الله عليه وسلم - لَا من الله، فإن الله وحده هو الفعال لما يريد، والعليم الخبير، وإن في هذا النص السامي تعليما لأتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلجئوا إلى الله عندما تشتد الشديدة.
ولقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة (1) وقد قال تعالى:
(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِين)، وإن الذي يذهب بلب اللبيب النظر إلى متع الحياة الدنيا عند غيره.
________
(1) عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ:. كَانَ النَّبِيُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا حَزَبَهُ أمْرٌ صَلَّى " حزبه: اشتد عليه وأهمه.
والحديث رواه أبو داود: الصلاة - وقت قيام النبي صلى الله عليه وسلم (1124)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (22210).(9/4811)
فقال عز من قائل(9/4812)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
إن الذي يقض مضجع ذوي الأهواء أنهم ينظرون إلى ما عند غيرهم من أسباب المتع والملاذّ، وإنه هو الذي يمنع صبر من يريد الصبر ويتغيَّا الحقائق، ولذا بعد أن أمر الله تعالى نبيه بالصبر نهاه عما يضعف قوة النفس، والإرادة ليصون الرسول ومن معه نفسه، عن الأسباب التي تضعف الإرادة القوية الباصرة، فقال عز من قائل: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
" الواو " عاطفة النهي عن مد العينين على الأمر بالصبر، وفي هذا النهي شحذ الإرادة لتقوى على الصبر كما أشرنا، وإن المعنى الذي يبدو من النص أنه نهى للنبي عن أن يلتفت النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما هم فيه من استيلاء على زخارف الدنيا، وزينتها ولا يأخذ نفسه ذلك فيحسب أن لهم به منزلة عند الله تعالى، بل إنه دليل خسرانهم، وإذا كان النهي عن أن يلتفت إلى زينة الحياة الدنيا، فهو أمر له عليه الصلاة والسلام، ومن معه أن يتجهوا إلى معالى الأمور ومعنوياتها عن زخارفها.
وفى الكلامِ مجاز، فقد عبر سبحانه عن عدم الالتفات إلى ما أعطاهم من زخارف بقوله (ولا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ)، أي لَا تُطِلْ النظر وتسترسل فيه، وذلك يوجب ألا يلتفت، فشبه حال الالتفات بحال من يمد بصره، وذلك للإمعان في التأمل وفي ذلك تتبع، ومن ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للفضل بن عباس، وقد أطال النظر في امرأة " الأولى لك والثانية عليك " (1).
وقوله تعالى: (إِلَى مَا مَتُّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ) " إلى " هي نهاية المد، كأن البصر يكون ممتدا من العين إلى متعهم، وذلك قد يؤدي إلى النظر إليهم غابطا لهم، وما هم في غبطة، أو ما يغبطون عليه و (أَزْوَاجًا) معناها أشباها متقابلة كبيرة، و (زَهْرَةَ الْحيَاة الدُّنْيَا) مفعول لفعل محذوف أو لـ (مَتَّعْنَا)، بتضمينها " أعطينا "، والتعبير عن هذه الزخارف، وغيرها من أسباب القوة الظاهرة بـ (زَهْرَةَ) تدل على أمرين أحدهما أنها كالزهرة، والزهرة عمرها قصير، فهي لَا تبقى طويلا، والثاني الإشارة
_________
(1) روى الترمذي: الأدب - ما جاء في نظر المفاجأة (2701) عَنْ بُرَيْدَةَ رَفَعَهُ قَالَ:. يَا عَلِي لَا تُتْبِعْ النظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فَإن لَكَ الأولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ. . قَالَ أبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَن غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلا مِنْ حَدِيثِ شَرِيكِ. كما رواه أحمد، وأبو داود.(9/4812)
إلى أن متعة الدنيا بريق لَا يكون بعده قوة حقيقية، فهي متع كالسراج المزهر سرعان ما ينطفئ، وما أنت عليه يا محمد لَا ينطفئ نوره أبدا.
وإن غاية هذه الزهرات إلى انطفاء، وهي اختبار لهم، ولذلك قال تعالى: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)، أي لنعاملهم معاملة المختبرين فيزدادوا طغيانا على طغيانهم.
وتنكشف حقيقة أمرهم، ويعرف ما فيهم من غي وشر، والتعدية بقوله (فِيهِ) دون التعبير بالباء، وللإشارة إلى أنهم مغمورين في فتنة دائمة قد أحاطت بهم فهم يسارعون فيها من جنبة إلى جنبة وقد أحيط بهم.
(وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) والرزق هو ما يعطيه الله لعباده من أسباب النفقة وقد يطلق على المعاني؛ لأنها غذاء القلوب وقوت العقول، ويكون ذلك من باب المجاز، وقد رزق النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين أنواعا ثلاثة من الرزق أولها وأعلاها وأكملها الهداية، وثانيها: المال الطاهر النقي، والثالث: القوة في ذات أنفسهم كما بدت في الجهاد.
وهذا خير؛ لأنه أبقى في ذاته، وأبقى لأن له جزاء يوم القيامة، وهو النعيم المقيم قال تعالى:(9/4813)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) أمر الله تعالى نبيه بالصبر، وأمره بما يقوله، وهو أن يكون مستحضرا لله تعالى منزها له حامدا في الصلاة وغيرها، ونهاه عما يضعف الإرادة وهو النظر إلى زخارف الدنيا وزينتها، وما عليه أهلها، ثم بين سبحانه أن الصلاة الدائمة المستمرة هي عدة المؤمنين، وعدة الصابرين، وإنه يجب أن يكون المؤمن في جو الصلاة بأن يكون بيته مقيما للصلوات فقال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) قال بعض العلماء: أهل النبي هم أهل بيته أو ذوو قرابته، وذلك ظاهر بيّن، وأمرهم بجعل بيت النبي جوه كله مقيما للصلاة، والصلاة والصبر توأمان، كما قال تعالى فيما تلونا: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ)،(9/4813)
وقال آخرون: إن أهل النبي هم الذين اتبعوه، وقد كانوا في مكة والمدينة أسرته المختارة، حتى إنه - صلى الله عليه وسلم - يقول في سلمان الفارسي: " سلمان منَّا آل البيت " (1) والذي أراه من هذين الرأيين أن أهله - صلى الله عليه وسلم - هم أهله الأقربون الذين يعاشرونه، وأمره عليه السلام أمر لأمته، فالله سبحانه وتعالى يأمر كل مؤمن بأن يقيم دعائم بيته على أركان من التقوى والإيمان، والاتجاه إلى الله تعالى، وإنه لو تربى كل بيت على الإيمان والعبادة والاتجاه إلى الله تعالى، وأول أركان العبادة الصلاة ليتكوَّن مجتمع صالح من أسر صالحة.
قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) الأمر هو الطلب الحازم القاطع، وأمر الأهل حيث يمكن التنفيذ، يكون بالتنفيذ والقدوة فيعلم أولاده وأهله الصلاة ويصلي معهم ويرون فيه الأسوة الحسنة التي يتبعوها، وقد أمره بملازمتها بقوله عز وجل: (وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) الاصطبار " افتعال " من الصبر، وهو يدل على أنه يربي نفسه على قوة احتمالها، وريإضة النفس عليها بأدائها كاملة بخشوع وحضور، واستحضار لجلال الله تعالى علام الغيوب، وأنه يراه في عمله، وإن لم يكن هو يراه.
وإن هذه التربية على العبادة التي أجل مظهر لها إقامة الصلاة فإن الصلاة عمود الدين، ولا دين من غير صلاة، كما أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - (2)، ليست هذه التربية لعائدة تعود على الله تعالى، فإن الله غني حميد، وإنما لتكوين أسرة صالحة، وِمجتمع صالح وجيل صالح، ولذا يقول العزيز الحكيم: (لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْن نرْزُقُكَ) الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وخطابه عليه الصلاة والسلام خطاب لأمته كلها، وهذه الجملة تدل على أن غاية العبادة إصلاح العابدين، ولا يعود على الله منها شيء فهو ليس بمحتاج، والناس يحتاجون إليه، وقد أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله:
________
(1) عن عمرو بن عوف المزني: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَّ الْخَنْدَقَ مِنْ أَحْمَرَ الْبَسْخَتَيْنِ طَرَفِ بَنِي حَارِثَةَ عَامَ حِزْبِ الْأَحْزَابِ، حَتَّى بَلَغَ الْمَذَابِحَ، فَقَطَعَ لِكُلِّ عَشَرَةٍ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، فَاحْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فِي سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَحِمَهُ اللهُ، وَكَانَ رَجُلًا قَوِيًّا، فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: سَلْمَانُ مِنَّا، وَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: سَلْمَانُ مِنَّا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَلْمَانُ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ ".
رواه الطبراني، وفيه: كثيرَ بن عبد اللَّه المزني، وقد ضعفه الجمهور، وحسن الترمذي حديثه، وبقية رجاله ثقات. مجمع الزوائد: 6/ 189.
(2) سبق تخريجه.(9/4814)
(نَحْن نَرْزقكَ) وإنما الأمر أمر إصلاحكم، وخلاصكم من أعلاق الأرض، ولهذا قال تعالى: (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)، أي والأمر الذي يعقب هذا الأمر بالصلاة، والاصطبار عليها هو للتقوى المهذبة للنفوس الواقية لها من شرور إبليس وعداوته، والتقوى صفة المتقين، وإذا كانت العاقبة لهذه الصفة فهي عاقبة لهم بوجود مجتمع طاهر نقي.
أخذ يبين بعد ذلك إنكار المنكرين، وهو أنهم يحسبون أن محمدا لم يأت بآية تدل على صدقه:(9/4815)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
(وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
الواو واصلة بين هذه الآية، وما كان من المشركين وإسرافهم في أمرهم وكفرهم بربهم، وحسبوا أنه لم تأتهم آية شاهدة على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لم يأتهم بمثل عصا موسى، ولم يبرئ الأكمه والأبرص، ولم يغرقهم كما أغرق قوم نوح وقوم فرعون.
(وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) " لَوْلَا " هنا معناها " هلا، الدالة على الحث والتحريض، ويتضمن هذا أنهم ينكرون وجود هذه الآية، وقد رد الله تعالى إنكارهم فقال: (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى) سمى القرآن (بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى)، وهي كتب النبيين السابقين من توراة وإنجيل وزبور، وما جاء به إبراهيم وإسماعيل وغيرهم من النبيين والصديقين، وهذه البينة هي القرآن، وكان بينتها لأنه الكتاب الخالد الباقي الذي يحمل في نفسه دليل حجيته، وهو حجة لنفسه، ولكل النبيين الذين سبقوه؛ لأنه معجزة باقية، وهو المسجل لكل المعجزات السابقة، لأنها كانت أحداثا ستنقضي بوقتها، أما القرآن فهو معجزة باقية تتحدت الأجيال كلها أن يأتوا بمثله فهو معجزة المعجزات، وهو سجلها الخالد الباقي، روي في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من نبي إلا أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله تعالى إلى وأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " (1) وليس أتباع عيسى وموسى هم الذين سموا اليهود، وسموا أنفسهم
________
(1) متفق عليه وقد سبق تخريجه بلفظه.(9/4815)
النصارى، إنما هؤلاء هم الذين يؤمنون بموسى. رسولا نبيا، وبما اشتملت عليه التوراة من شرائع وتبشير برسل من بعده، وأتباع عيسى هم الذين يقولون إنه عبد لله خلقه كما يخلق البشر، وإن كان خلقه من غير الأسباب العادية لتعليم الناس في عصر كان الفلسفة فيه لَا تؤمن إلا بالأسباب والمسببات العادية، فالله تعالى يعلمهم أنه الفاعل المختار المريد، فهل الذين يدّعون أنهم أتباع موسى وعيسى يؤمنون بإيمانهم، وما جاءوا به من شرائع؛ إذن فأتباع محمد هم الكثرة، ومحمد عليه الصلاة والسلام، أكثر تابعا يوم القيامة وإنهم يكفرون بالقرآن آيةً، ويريدون آيةً غيره، كقوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51).
وإن الله لم يأت بالمعجزات الحسية لأنهم كفروا، كما قال تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَن كذَّبَ بِهَا الأَولُونَ. . .)، فهم ليسوا طلاب هداية يريدون الوصول إليها، بل هم مكذبون معاندون جاحدون يبررون جحودهم.
وهم إذ جاءتهم الآية كفروا بها، وإذا لم تجئهم أيضا برروا كفرهم بأنهم لم تجئهم آية، ولذا قال تعالى:(9/4816)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
(وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
إن بعث الرسل كان بمقتضى حكمة الله تعالى حتما لازما، لكيلا يكون للناس حجة، وكانت البينة المثبتة لرسالة الرسول تكون بإرادة من أرسله وهو سبحانه وتعالى المرسِل، والعليم بما يؤمن عليه البشر من آيات تدل على رسالة من أرسله.
ولو أنه سبحانه وتعالى لم يرسل رسلا، وكان الهلاك لقامت لهم حجة، ولذا قال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَاب مِّن قَبْلِهِ).(9/4816)
الضمير في (قَبْلِهِ) يعود إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن المناقشة مع المشركين، فهو حاضر في الذهن، وإن لم يكن مذكورا باللفظ، ويصح أن يعود إلى القرآن؛ لأنه البينة المثبتة لكل ما في صحف إبراهيم ونوح وموسى وعيسى وغيرهم، والمعنى لو ثبت أنا أهلكناهم بكفرهم وضلالهم، وأنهم يعيثون في الأرض فسادا لقالوا: (رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا) يكون قولهم يوم القيامة ضارعا، إذ ينادون (رَبَّنَا) خالقنا والقائم على أمورنا وحياتنا: (لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا)، أي هلا أرسلت إلينا رسولا يرشدنا ويعلمنا، ويجنبنا طريق الباطل، ويهدينا إلى الطريق المستقيم (فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ) الفاء للسببية، أي بسبب الرسل نتبع آياتك البينات، والمراد الآيات الشرعية التكليفية، أو نتبع خاضعين لموجب ما تدل عليه آياتك في هذا الوجود كله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ) باتباع الباطل والهلاك (نَخْزَى) أي نصاب بالخزي والعار في الدنيا والآخرة.
وإن أمر الشرك وأهله لعجب؛ لأن الضلال إذا سيطر كان العجب، فإذا أرسل إليهم رسول جحدوا وعنتوا معه، وعاندوه ولم تعجبهم حجة لفرط إنكارهم لا لنقص في الدليل الذي قدم إليهم برهانا ساطعا، وإن لم يرسل وعذبوا، قالوا هلا أرسل إلينا رسول من قبل أن نذل ونخزي، إنه ليس لهم إلا أن يروا عاقبة جحودهم وعنادهم، ولذا قال عز من قائل:(9/4817)
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
(قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومؤدى القول لقد جادلوك وصابرتهم وأحسنت جدالهم، فذرهم واتركهم لعاقبة أمرهم، و (قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ) التنوين في (كُلٌّ) قائم إلى مقام مضاف محذوف تقديره مثلا كل فريق متربص، أي منتظر عاقبته ليراها محسوسة معلومة، وإن كانت الحقيقة معروفة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا كقوله تعالى: (. . . وَإِنَّا أَوْ إِياكمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلال مُّبِينٍ).(9/4817)
(فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى)
" الفاء " تنبئ عن شرط مقدر، فإذا تربصنا فستعلمون من أصحاب الطريق المستقيم، فالصراط هو الطريق السوي أي المستقيم، ومن وصل إلى الهداية وإلى الحق، أي ستعلمون من يكون قد سلك المسلك المستقيم، ومن سار على الطريقة، ومن وصل إلى الحق، واهتدى إليه، والاستفهام للتنبيه والتوجيه، والجملة كلها للتهديد؛ لأن من اهتدى وسلك طريق الحق فقد نال حسن الهداية والتوفيق ونال الجنة والنعيم المقيم ورضوان من الله أكبر، ومن ضل وغوى، وسار في مثارات الشيطان فقد هوى إلى نار جهنم وبئس المصير.
فاللهم اهدنا إلى صراطك المستقيم، وجنِّبنا سُبُل الضلالة الموصلة إلى عذاب الجحيم.
* * *(9/4818)
(سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ)
تمهيد:
هي جديرة باسمها، لأن فيها قصصا من أخبار النبيين، وهو غير مكرر مع ما ذكر في غيرها من القصص، فكل قصة لست جزءا من القصة هو عبرة في موضعها غير مكرر مع غيره، وقد نبهنا إلى ذلك من قبل، وضربنا المثل بقصة بدء خلق الإنسان، والمفارقات.
وسورة الأنبياء سورة مكية وآياتها اثنتا عشرة آية ومائة.
وقد ابتدأت السورة الكريمة بذكر الساعة وقربها وما وراءها من حساب على ما قدمت أيديهم، (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
ويأخذون الحياة لعبا ولهوا حتى ما يكون تذكيرا باليوم الآخر (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ. . .)
وقالواً لكل رسول جاءهمَ (. . . هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مثْلُكمْ أَفَتَأتونَ السِّحْرَ وَأَنتًمْ تُبْصِرُونَ)، واتهموا كل رسول يرسل إليهم بأن كلامه أضغاث أحلام وأن كلامه افتراء افتراه على الله تعالى، (. . . بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأتِنَا بِآيَةٍ. . .) ويذكر العبرة في حال من سبقوا (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
ويخاطب نبيه فيقول: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8).
ولقد كفر أقوامهم فصدق الله تعالى وعده لأنبيائه فأنجاهم وأهلك الكافرين لأنهم أسرفوا في الضلال، وبين للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه مذكور في الكتب قبله، وأن الكتاب(9/4819)
الذي أنزله الله إليكم فيه ذكركم ورفعتكم، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنه أهلك الذين من قبلهم لضلالهم، (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)، وقد أحسوا الهلاك النازل بهم عند نزوله (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15).
وقد بين سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض ودلالتها على وحدانية الخالق، وأنه مالك السماوات والأرض (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21).
ولقد جاء إثبات الوحدانية بدليل يجمع بين البلاغة وأعلى درجات المنطق فقال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)، ولقد تحداهم سبحانه أن يأتوا بما يدل على ألوهية غيره سبحانه فقال: (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24).
وقد أشار سبحانه من بعد إلى أنه قد أرسل رسلا من قبلكم وكانت دعوتهم التوحيد الخالص ونفَى سبحانه عن ذاته العلية اتخاذ الولد (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28).
ونفى سبحانه أن يقول أحد ممن ادعوا أنهم أبناء الله، ومن يقل بذلك يجزيه جهنم وكذلك يجزى الله الظالمين.
وقد أتى سبحانه بقضية كونية لم يصل إليها العلم إلا في العصور المتأخرة، وهو أن السماوات والأرض كانتا شيئا واحدا فقال: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30).(9/4820)
وبين بعد ذلك ما في الأرض من جبال راسيات، ومن مهاد، ومن فجاج وسبل، وجعل السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون، وبيَّن سبحانه أنه خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون، وأن نهاية النفوس جميعا إلى الموت (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)، ثم أشار سبحانه إلى استهزاء المشركين يقولون عند رؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - (أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)، وقد أشار سبحانه إلى ما في الإنسان في طبيعته من الاستعجال، ويستعجلون العذاب (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، ثم بين سبحانه حال الكافرين (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40).
ولقد ذكر الله تعالى لتسلية النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يفعله السابقون من السخرية برسلهم وحاق بالذين سخروا ما كانوا به يستهزئون.
ثم نبه سبحانه إلى ما أنعم به عليهم من نعم وهي دائمة (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)، وليس لهم من يمنعهم من الله، وأنه سبحانه مَتَّعَ هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم [الْعُمُرُ] (1) وظنوا أنه لا حساب، وقد وجدوا عقاب الله تعالى لمشركي مكة بالحرب التي كانت تنقص عليهم الأرض من أطرافها.
ولقد أشار سبحانه إلى موسى وهارون وقد آتاهم ما أضاء الحق وذكَّر المتقين، وما كان فرقانا بين الهدى والضلال، وهذا ذكر مبارك وهو القرآن، أفأنتم معشر المشركين له منكرون.
ذكر بعد ذلك شيئا من مجاوبة إبراهيم لعُبَّاد الأوثان قائلا لهم: (. . . مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ
_________
(1) زيادة يقتضيها السياق. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(9/4821)
أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
وحطم أصنامهم ووضع الفأس التي حطمها بها في عنق كبيرهم، ثم جاءوا وتحروا فوقعت الظنة على إبراهيم فأرادوا أن يحرقوه بالنار فجعلها الله تعالى بردا وسلاما على إبراهيم، وهذا القدر من قصة إبراهيم لم يذكر في أي سورة أخرى، مما يدل على أنه لَا تكرار في قصص القرآن، وإن بدا ذلك بظاهر الأمر لمن لم يفحص مرامي القصص وموضع العبرة فيه، وقد جرت بين الشاب وبينهم مجادلات في عبادة الأوثان، حتى انتهى إلى قوله لهم: (أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67).
ونجى الله من كيدهم إبراهيم كما نجى الله تعالى لوطا.
وذكر سبحانه بعد ذلك ما وهبه له من إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعله الله من الصالحين وجعلهم أئمة يهدون بأمره، ويقول سبحانه: (. . . وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75). ثم ذكر نوحا: (. . . إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77).
وذكر سبحانه داود وسليمان، وقضايا سليمان وما فهَّمه سبحانه وتعالى من الحكم فيها وما علمه لداود من صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون، وما مكَّن سبحانه وتعالى لسليمان، وقال: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82).
وقص سبحانه قصة نبي الله تعالى أيوب وما أصابه من ضر وصبره لما أصابه (. . . إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)، وقد استجاب له(9/4822)
الله تعالى، وكشف ما به منِ ضر وقال سبحانه: (. . . وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84).
وأشار سبحانه وتعالى إلى إسماعيل وإدريس وذي الكفل، وكل من الصابرين، وقال سبحانه: (وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ)، ثم ذكر سبحانه قصة ذي النون فقال: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88).
وذكر خبر زكريا، ونداءه ربه (رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)، وقد استجاب الله تعالى له ووهب له يحيى.
ثم ذكر سبحانه وتعالى خبر مريم فقال: (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91).
ثم أشار سبحانه إلى أن الناس جميعا أمة واحدة دعيت إلى دين واحد، فقال: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92).
وأشار سبحانه إلى أنه مع هذه الوحدة الجامعة تفرقوا حول الأنبياء الذين دعوا إلى عبادة الله تعالى: (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93).
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أحوال يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، وبين سبحانه أن الساعة آتية لَا ريب فيها، وقد اقتربت لأن كل آت قريب، وأشار إلى أحوال الناس عند هذه الساعة، وبين أنهم وما يعبدون من دون الله حصب جهنم، وبين لنا أن الذين سبقت لهم من الله الحسنى أولئك عن جهنم مبعدون، لَا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون، لَا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون.
وذكر سبحانه وتعالى ما يكون للكون يوم القيامة، وما كتبه الله في كتبه السماوية أن الأرض يرثها الصالحون، وأمر نبيه أن يقول للمشركين الذين كفروا(9/4823)
برسالته: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112).
وبهذا تنتهي السورة الشريفة، وفيها كما يرى القارئ من هذا العرض أنها تشتمل على إشارات من قصص النبيين، وصلبها الدعوة إلى التوحيد، وما لقيه النبيون في سبيل هذه الدعوة التي هي الحق، وضل من يعاندها.
* * *
معاني السورة
تلقي الناس لدعوة الحق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
* * *
ابتدأ الله تعالى السورة الكريمة بذكر القيامة، وأعظم ما في القيامة أثرا هو الحساب الذي يعقب التوجه إلى النعيم، أو التوجه إلى الجحيم، ابتدأ به؛ لأن كل ما يذكر من إعراض عن ذكر الله تعالى في دعوات الأنبياء الذين أشارت إلى قصصهم(9/4824)
سببه الغفلة عن ذكر الله وعدم إدراك معاني التوحيد، والإعراض عن دعوات التوحيد التي تجددت الدعوة إليه على لسان كل نبي من الأنبياء الذين بعثوا إلى الناس عصرا بعد عصر، حتى جاء خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والناس في قوله تعالى:(9/4825)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) قيل عن ابن عباس رضي الله عنه إنهم المشركون؛ لأنهم الذين غفلوا عن يوم البعث، وأعرضوا عما دعا إليه محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الظاهر أنهم الناس كافة الذين توالت عليهم النذر وخصوصا غير المؤمنين في أي جيل من الأجيال، بدليل ما تجيء به الآية بعد هذه الآية من قوله تعالى:(9/4825)
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
(مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) وقوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) نقول: إن معنى الاقتراب تأكُّد الوقوع كقوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَة وَانشَقَّ الْقَمَرُ)، إذ إن كل أمر مؤكَّد الوقوع يصح أن يقال عنه إنه مقترب، وإن الأزمان بالنسبة للقرب والبعد عند الله سواء، فالقرب والبعد بالنسبة للحوادث لَا بالنسبة إلى واجب الوجوب، ورب البرية، ولأن هذه الآية نزلت على محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد كان مبعثه على قرب من القيامة، كما رُوي عنه أنه قال: " بعثت في نسم الساعة " (1) و (اقترب): صيغة افتعال من (قَرُب) وهي تدل على شدة الاقتراب، واقتراب الحساب هو اقتراب الساعة التي يكون فيها الحساب وعبر عنها بالحساب؛ لأن الحساب كما أشرنا هو الفصل بين الخلائق يوم القيامة لأنه هو الذي يعين مصائرهم، إما إلى الجنة أبدا وإما إلى النار أبدا، فذكرت القيامة بأعظم ما فيها، وهو ما يحدد مآل الناس، ولأن ذكره فيه ترهيب للناس وتنبيه لهذا اليوم الذي تجزى فيه كل نفس ما كسبت، فذكره تنبيه للغافلين.
والتعدية باللام في قوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ) إنها لتوكيد الحساب، وتنبيه الأفهام، وتقدير القول: اقترب حساب الناس، فكان النص السامي أبهم الحساب، بأن الاقتراب للناس، ثم بين أنه ليس لذواتهم، بل لحسابهم، وفي
________
(1) أخرجه الحاكم في الكنى، والبزار عن أبي جبيرة رضي الله عنه. الفتح الكبير (5154)، ومجمع الزوائد (13281).(9/4825)
التوضيح بعد الإبهام فضل توكيد للمعنى، وزيادة في الترهيب بالإشارة إلى أن الاقتراب منهم.
ويلاحظ أن الاقتراب يتعدى بـ " إلى "، فيقال: اقترب إليه، وبـ " مِن " فيقال: اقترب منه، فلماذا كان التعدي في الاقتران باللام؛ ونقول في الجواب عن ذلك: إن التعدية بـ " إلى " أو " من " ربما تدل على المحبة والمودة، وهما لَا يصلحان في هذا المقام، فالاقتراب اقتراب مدة لَا قرب رفق ومودة، ويقال في قرب المبارزة، اقترب المبارز لخصمه، ولا يقال اقترب إليه أو منه؛ ولأن " اللام " تفيد الاختصاص، فالاقتراب للحساب يخصُّهم ويملكهم.
وقال تعالى: (وَهُمْ فِي غَفْلَة معْرِضُونَ) الجملة حالية، وقد وصفوا فيها بوصفين: الأول: أنهم في غفلة عن هذا الحساب إذ هم لَا يؤمنون بالبعث بسبب غشاوة جاءت على أعينهم، وقلوبهم غلف، فهم غافلون عن ذلك اليوم مأسورون بالحسّ، لَا يعرفون ما وراءه، وأول مظاهر اليقظة النفسية تعرُّف ما وراء الحس، فيتساءلون لماذا خلق الإنسان وما غايته؟ وما نهايته؟ ويدركون أنه لم يخلق عبثا، وهذا فرق ما بين الإنسان والحيوان.
فهم في غفلة عن هذا، وإذا جاء مذكر موقظ لعقولهم من رسول أو نبي أعرضوا عنه، فكان في أوصافهم أمران أولهما: غفلة نفسية لَا تدرك بذاتها، والثاني أنهم إذا جاء من يذكرهم أعرضوا عنه ونأوا بجانبهم، وقال تعالى: (معْرِضُونَ) بالوصف يدل الفعل للإشارة إلى أن الإعراض ملازمهم ملازمة الغفلة لهم؛ ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك:
(مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
الذكر هنا هو الرسول الذكِّر، وعبر عن الرسول بالذكر؛ لأنه عمله ورسالته، فعبر عنه بأخص أوصافه، كما قال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ)،(9/4826)
وكما قال تعالى: (. . . إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. . .)، فالذكر هنا هو لب الرسالة، وغايتها، والمعنى أنهم غافلون، وإذا جاء الذكر لَا يتذكرون، وقد وصف الذكر بوصفين أولهما: قوله تعالى: (مِّن رَّبِّهِم) أضيف الذكر إلى أنه من ربهم الذي خلقهم من العدم وقام على تربيتهم، فهو أعلم بحالهم وما يناسبهم، فقد علم أنه لَا يناسبهم ملك من الملائكة ولكن يناسبهم رسول منهم هو من أنفسهم رحيم بهم رءوف عليهم، والوصف الثاني قوله تعالى: (مُحْدَثٍ) أي أنه تذكير يتجدد لم ينقطع عنهم، فالرسول ومعه الذكر يجيء إليهم آنًا بعد آنٍ، غير منقطع حتى خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -، ونزل معه القرآن الحكيم الذي يذكرهم إلى يوم الدين.
والضمير في (اسْتَمَعُوهُ) يعود إلى الذكر، وهذا من باب الترشيح للمجاز في تسمية الرسول بالذكر لما ذكرنا، ويجوز أن نقول كما قال كثير من المفسرين: إن الذكر بمعنى الكتاب الذي جاء به الرسول، أو أريد به القرآن الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومعنى (مُحْدَثٍ) هو تجدد نزول آياته آية بعد آية مجددة التذكير الذي يهدي الضال ولكن الظالمين لَا يهتدون.
وقوله تعالى: (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) حالان، حال بعد حال، والحال الثانية عن سببه عن الحال الأولى، فـ(9/4827)
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)
(لاهِيَةً ... (3)
سببها تلقي الآيات التي تجدد الإيمان لمن له قلب، باللعب والعبث والسخرية وعدم الاعتبار والتبصير والتدبر، مع السخرية والاستهزاء، وبسبب ذلك تلهو قلوبهم، وتنصرف عن الإصغاء إلى الحق، وإنهم وهم في حال اللهو واللعب والانصراف عن الحق تماما - يعملون على مقاومته فيجتمعون ويتشاورون كيف يردون دعوة الرسول، وماذا يقولون لصد غيرهم عن سبيل الله وقد أضاء الحق في ظلام الجاهلية، اجتمعوا في كن من الخفاء، وهذا معنى قوله تعالى (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) النجوى والتناجي: التحدث في سر لَا جهر فيه، ومعنى (أَسَرُّوا النَّجْوَى) تشاوروا في الأمر بعيدا عن الناس، وبالغوا في الإسرار، لكي يتدبروا الأمر الخطير الذي فوجئوا به، ويصرفوا الناس عنه(9/4827)
ويعودوا إلى دين آبائهم، وقوله تعالى: (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من " واو الجمع " في قوله (وَأَسَرُّوا) وفائدة ذكر هذا البدل وصفهم بأنهم كانوا ظالمين في هذا التشاور والتآمر على الحق والصد عن سبيل الله، كما كانوا ظالمين في الإعراض عن ذكر الله المتجدد آية بعد آية، ورسولا بعد رسول.
وقد كانت نتيجة تآمرهم قولهم: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مُثْلُكُمْ) الاستفهام هنا للإنكار، والمعنى: ما هذا إلا بشر مثلكم، وهذا تسويغ لإنكارهم؛ لأنهم لا يعتقدون أن الرسول لَا يكون من جنس البشر بل يكون من الملائكة، فهم يريدون أن يلقوا في روع الناس أن هذا مثلهم، فلا يمكن أن يكون نبيا مرسلا، والاستفهام الذي يدل على النفي فيه تنبيه لهم، وكان النفي من السامع لَا من المتكلم. وقد بينوا أن إيمانهم به إيمان بالسحر، فقالوا: (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) " الفاء " عاطفة على فعل محذوف تقديره أتصدقونه فتأتون السحر وأنتم تبصرون، ومعنى إتيانهم السحر حضوره ومشاهدته فكأنَّهم هم الذين أتوه، (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي لم يموه على أبصاركم فسحر عيونكم، بل أنتم تدركون بكامل بصركم وترون الأشياء والوقائع.
وفى هذا حكم على القرآن بأنه سحر؛ لأنه يعمل السحر، ولم يجدوا طريقا لإدخال إفكهم على الناس إلا بهذا الادعاء الباطل، وإذا كانوا قد ائتمروا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في إسرار نجواهم فالله تعالى يعلم ما تناجوا به، وما ائتمروا عليه، ولا يهمه - صلى الله عليه وسلم - أن يعلم ما يتآمرون عليه من قول، وما يدبرونه من صد عن سبيل الله؛ ولذا قال تعالى:(9/4828)
قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
(قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
الضمير الفاعل لـ (قَالَ) يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه المذكور قبل ذلك، إذ هو الرسول الأخير الذي خاطب المشركين، وأسروا له النجوى، وخرجوا إليه بالطعن فيه، وصرف الذين اتبعوه عنه، فهو يبين في هذا أن الذي يأتمرون به من نجوى أو جهر يعلمه الله وهو في معنى التفويض إليه سبحانه؛ لأنه رسوله الذي(9/4828)
أرسله وكل كيد له هو لتعويق الرسالة فهو حافظه وكالئه، وهو الذي يحمى الذين اتبعوه عن فتنة القول الذي يدبره هؤلاء المشركون.
(قَالَ رَبِّي) الذي أرسلني ويقوم على حماية رسالتي (يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) والقول يشمل السر والجهر، وهو يفيد عموم علم الله تعالى لكل قول خفي أو جهير، في سر أو في علن، وهو راد كيدهم في نحورهم ومبطل تدبيرهم، وذكر (السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) لعموم علمه بكل قول سواء أكان من ملك كريم أم كان من شيطان رجيم، فهو سبحانه وتعالى لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وختم سبحانه وتعالى الآية بوصفه سبحانه بوصف الكمال، بقوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي أنه يعلم الأقوال كلها جهرها وسرها، وهو محيط بعلمه بكل شيء وذكر (السَّمِيعُ) لأن موضوع العلم في الآية القول الذي دبروا به كيدهم، وما كيدهم إلا في ضلال، وقال تعالى عما دبروا من قول يصدون به من آمنوا عن سبيل الحق:(9/4829)
بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)
(بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) (بَلْ) هنا للإضراب الانتقالي؛ ينتقلون بقولهم من فرية إلى فرية يحسبونها أقوى صدّا، ثم إلى أقوى منها، انتقلوا من فرية السحر إلى فرية أضغاث الأحلام إلى فرية أنه افتراه على الله إلى فرية أنه شاعر، ثم ينتهون إلى أنهم لَا يرضون بهذه الآية الدالة على أنه مرسل من عند الله، كالآيات التي كانت للأنبياء السابقين من المعجزات الحسية كالعصي وإبراء الأكمه والأبرص، و " الأضغاث " جمع " ضغث "، وهو القبضة من الريحان والحشيش أو الحطب أو قضبان النبات، كما قال تعالى:
(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ. . .)، وشبهت بها الأحلام المختلطة التي لَا تتبين حقائقها ولا تستبين عند الحالم. انتقلوا من ادعاء أن القرآن سحر ساحر إلى أنه تخاليط أحلام سيطرت على عقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ هي أخلاط، كالأحلام ليس فيها حق يدرك.(9/4829)
ثم انتقلوا من هذا الادعاء إلى ادعاء آخر أوغل منه في الرد في زعمهم، فقالوا (بَلِ افْتَرَاهُ)، أي اخترعه من عنده اختراعا فهو قول مفترى، وهذا هو لب تكذيبهم، وإن لم يقصدوا إليه ابتداء، فهم مكذبون له في كل الأحوال، ثم انتقلوا إلى ادعاء أنه قول ساحر، ولم يقولوا إنه شعر لأنهم يعلمون الشعر في حقيقته، ويفرقون بذوقهم البياني بين القرآن والشعر، ولقد ادعوا أن محمدا شاعر، وأنه من أفانينه، وإن لم يكن شعرا، والشاعر يتفق في القول نثرا أو سجعا أو شعرا، وكل هذا باطل، وذلك التردد في القول دليل على حيرتهم في الرد، ودليل على لجاجتهم في الجحود، فقالوا مرة: ساحر، ومرة: أضغاث أحلام، ومرة: افتراه، ومرة: إنه شاعر. وهنا يجيء سؤال: أليسوا في كل أقوالهم يدعون الافتراء، فلماذا خص الافتراء بالذكر؟ ونقول إنهم في الثلاثة الأخر غير الافتراء يتكلمون في النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفى الافتراء يتجهون إلى القرآن نفسه، ولقد قال في ذلك الإمام الزمخشري: " هم أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام ثم إلى أنه كلام يفترى، ثم إلى أنه قول " شاعر، وهكذا الباطل لجلج والمبطل متحير، رجَّاع غير ثابت على قول واحد، ويجوز أنه يكون تنزيلا من الله تعالى لأقوالهم في درج الفساد، وأن قولهم الثاني أفسد من الأول، والثالث أفسد من الثاني، والرابع أفسد من الثالث ".
وهذا الذي اخترناه، ونحن رأينا ابتداء أن هذه الإضرابات الانتقالية حكاية من الله تعالى لغيهم.
وخلاصة أقوالهم أنهم لَا يعدون القرآن آية دالة على أنه رسول من عند الله؛ ولذا طلبوا آية حسية كالأنبياء السابقين فقال: (فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) " الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي فرتب على جحودهم بالقرآن آية، قولهم: ليأتنا بآية حسية باهرة قاهرة حسية، كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ بآيات حسية، التشبيه بين ما يريدون من آيات وآيات الرسل الأولين.(9/4830)
وقد بين سبحانه أن هذه الآيات جاءت كما طلبوا ولم يؤمنوا بها فقال تعالى:(9/4831)
مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
(مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
ْإذا كانوا يطلبون آيات كالآيات التي كانت الأولين التي طلبوها هم أيضا، فما آمنوا بعد أن أجيب طلبهم، وقد عاهدوا الله تعالى، على أن يؤمنوا إذا جاءتهم، فلما جاءتهم نكثوا في أيمانهم، فحل الهلاك بهم، فإذا كنتم تقايسون بين الآيات تطلبونها وآيات الذين سبقوا، ففكروا في نتائج آياتهم، وهي ذات النتيجة التي تكون منكم، فلن تؤمنوا كما لم يؤمنوا؛ لأن الجاحد لَا ينفعه دليل ولا تقنعه حجة.
قوله تعالى: (مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا) القرية المدينة العظيمة، أو الإقليم، والمعنى: ما آمنوا، بل كذبوا وهلكوا وا عتبروا بهم، ولقد قال تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109).
ولذا قال تعالى: (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) الفاء تفصح عن شرط تقديره: أإذا جاءتهم الآية هم يؤمنون؟! والاستفهام إنكاري، والمعنى أنهم لَا يؤمنون، كما أنه لم يؤمن من كانوا قبلهم، فالجحود، لَا يعالجه الدليل وكثرته، إنما يعالجه العقاب وصرامته.
وسياق الآيات الكريمات أنهم أنكروا أن يكون الرسول بشرا من البشر، ثم واصلوا إنكارهم فادعوا الافتراء، وقالوا في شخصه ساحر، وأن ما جاء به أضغاث أحلام، وأنه مفتر وأنه شاعر، ثم قالوا من بعد منكرين للآية الدالة على رسالته، ولم يعقلوا بعقلهم الجَحود المنكِر أن يكون القرآزا معجزة، وإن عجزوا عن الإتيان بمثله بعد أن تحداهم أن يأتوا بمثله أو بعضه ولو مفترى.
والحقيقة أن الجحود هو الذي أملى الاعتراض عليه، وهو أنسب معجزة لخاتم النبيين، لأنه باق متجدد الإعجاز لَا تبلى جدته، وهذا يناسب رسالة باقية ما بقي الإنسان على ظهر البسيطة.
* * *(9/4831)
الرسل من البشر
(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
* * *
قال المشركون منكري رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مثْلكُمْ)، أي ليس هذا إلا بشرا مثلكم فكيف نؤمن بأنه رسول يوحى إليه؛ فرد الله تعالى قولهم بقوله تعالى:(9/4832)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
فما اعتمدوا عليه في تغرير الذين اتبعوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بين الله تعالى بطلانه، فهو حجة داحضة؛ لأن الرسل جميعا ليسوا إلا رجالا، كما قال الله تعالى في(9/4832)
آية أخرى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى. . .)، وقال تعالى: (قُلْ مَا كنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ. . .).
فسنة الله تعالى أن يرسل رسله من البشر، ليأنس بهم المدعون، وليأتلفوا
معهم، ولأن الملك لَا يمكن أن يخاطب البشر إلا إذا صار كالرجل كما قال تعالى:
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ). وقد نبههم سبحانه إلى أن تلك سنة الله تعالى فيمن يبعثهم، وبين أيديهم ما يعلمون فيه سنة الله في رسله، فإبراهيم عليه الصلاة والسلام وإسماعيل ابنه كانا من الأنبياء، وإبراهيم عزهم ومناط فخرهم حيث كان رسولا من أولي العزم من الرسل - كان من الرجال ولم يكن من الملائكة، وبنى البيت الحرام الذي كان حرما آمنا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ، بناه بقوته البشرية لَا بالروح الملكية. ومع ذلك طلب الله تعالى أن يسألوا من يشايعونهم من اليهود الذين كانوا يناوئون الإسلام كما يناوئونه هم، ويؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يؤذيه المشركون على سواء ولقد قال تعالى: (. . . وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا. . .)، فقال سبحانه: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) " الفاء " واقعة في جواب شرط محذوف دل عليه ما بعده، وأهل الذكر هم أهل العلم بالرسالات، وأهل العلم هم كل من عنده علم بالرسالات الإلهية والرسل المهديين. وفي هذا النص رميٌ لهم بالجهل، وأن الذين يدَّعون العلم بأنه لَا رسول إلا من الملائكة غير عالمين، ومفسدون، وفي هذا إذلال لهم، ورميٌ لهم بالجهل المطبق، مع الإرشاد إلى الحق والاحتجاج بعلم أهل الكتاب الذين يناوئون النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلهم.
ثم قال تعالى مؤكدا معنى الآية السابقة:(9/4833)
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
(وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
الضمير يعود إلى الرسل، لأنهم مذكورون في الآية السابقة بعبارة تفيد العموم بذكر الرجال (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا) والنفي داخل على الجسد الذي، لَا يأكل(9/4833)
الطعام فمن طبيعة الجسد أن يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق، وهذا ردا على من زعم أن الرسل ليسوا من البشر، وتجاهلوا ذلك أو جهلوه، ورد على الذين قالوا من المشركين: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. (لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا)، وقد رد الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20).
نفَى الله تعالى بهذه الآيات أن يكونوا جسدا لَا يأكلون بل هم أجساد حية تحتاج إلى الغذاء كما يحتاج الجسد في قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَاهُم جَسَدًا) لأن الجسد يدل على الجنس، والجنس يفيد العموم، ولأن الإفراد ملاحظ أيضا، فالمعنى: " وما جعلنا أي رسول جسدا لَا يأكل الطعام، وإن الطعام يعوض الجسم البشري ما يفقد منه يوميا حتى إذا ضعف الجسم عن الغذاء كان الموت؛ ولذا قال تعالى بعد ذلك: (وَمَا كَانُوا خَالدينَ) لأنه إذا كان الرسول جسدا فإنه تعروه عوامل الفناء الجسدي، حتى - يكَوَن البعث يوم القيام، كما قال تعالى: (كمَا بَدَأَكمْ تَعُودُونَ)، فقوله تعالى: (وَمَا كانوا خَالِدِينَ) تأكيد لمعنى الجسدية التي تأكل الطعام، وقد توهموا من معنى الملائكة أنهم لَا يموتون فأكد الله سبحانه وتعالى نفي الملكية عنهم بذكر أنهم ليسوا خالدين كما تزعمون في أن الرسل من الملائكة لَا يفنون، وهكذا أبطل الله تعالى دعواهم أن الرسل لَا يكونون من البشر، وأثبت سبحانه بالاستقراء والتتبع أن الرسل لَا يمكن أن يكونوا إلا من البشر الذين يوحى إليهم.
وإن الله تعالى إذ يرسل الرسل من البشر يحوطهم بعنايته؛ ولذا قال تعالى:(9/4834)
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
(ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
الضمير في (صَدَقْنَاهُمُ) يعود إلى الأنبياء الذين مر ذكرهم في الآيات السابقة، وصدق الوعد معناه الوفاء به بأنه يجيء العمل موافقا للعهد، ومن ذلك قول الرسل صدق، وقوله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ).(9/4834)
وقوله تعالى: (ثمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ) العطف بـ " ثم " يفيد أنه بين الوعد وصدقه شدائد كثيرة نزلت بالأنبياء من رد وعناد واستهزاء وسخرية وإيذاء، كما قال تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)، فكَان العطف بـ " ثم " مشيرًا إلى هذه الشدائد، وأنه لم يتبين صدق الوعد إلا بعد شدائد ذاقوها، ولم تهز ايمانهم، ولم توجد في قلوبهم يأسا من صدق وعد الله.
ثم قال تعالى: (فَأَنجَيْنَاهُمْ) " الفاء " تدل على أنه يجيء فور صدق الوعد الإنجاء للرسل، والإنجاء يشير إلى تضافر القوى ضدهم، (وَمَن نَّشَاءُ) هم التابعون للأنبياء الذين آمنوا بما جاءوا، وقد شاء الله تعالى إيمانهم لأنهم اختاروا الهدى، وقد عبر الله تعالى عنهم بقوله ومن نشاء للإشارة إلى أنهم آمنوا؛ لأن اللَّه تعالى شاء لهم الإيمان، وكل شيء في محيط مشيئته وإرادته، فلا يقع شيء إلا إذا تعلقت به مشيئة الله ولا يخرج شيء في الوجود عن إرادته.
(وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) وهم الذين خالفوا النبيين وعاندوهم ولم يؤمنوا، وكفروا بأنعم الله، وعبر الله عنهم بالمسرفين، لأنهم أسرفوا على أنفسهم، وأوقعوها في الضلال بكفرهم برسالة الله، وإسرافهم في العناد وإيذاء المؤمنين وإسرافهم في ضلال العقل وعدم الإذعان لأي حجة أو برهان، وإسرافهم في المعاصي، وهي إفساد، والله لَا يحب المفسدين.
وإن الله تعالى أهلك المسرفين المفسدين دائما، ولكن بعد أن يرسل النذر، وقريش اختصت بكتاب فيه علمهم وذكرهم وشرفهم؛ ولذا قال عز من قائل:(9/4835)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
(لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
أكد سبحانه نزول الكتاب من عنده إليهم بـ " اللام " التي تفيد التوكيد، و " قد " التي تفيد التحقيق، وكان التأكيد لأصل ما يعود به عليهم ذلك الكتاب العظيم؛ ولذلك قال تعالى في هذا الكتاب (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) هذا من إضافة المصدر للمفعول، أي فيه تذكير لكم بالحق والمواعظ والأحكام الشرعية العادلة التي تنظم العلاقات بين(9/4835)
العباد آحادا وجماعات ودولا، وفيه المواعظ والقصص والعبر، وكل هذا تذكرة وهداية وإرشاد.
ويقول الزمخشري: إن الذكر هنا هو الشرف، أي أن هذا الكتاب فيه شرف لكم لأنه يشرف من ينزل إليهم، ومن يشيع علمه بينهم، كما قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لكَ وَلِقَوْمِكَ. . .).
ونقول: إذا كان العرب يتفاخرون بقصيدة يقولها شاعر في قبيلة فتكون فخرا لها فإن القرآن أعلى كلام في الوجود، وأبلغه، وما قاله بشر، بل قاله الله تعالى وهو تنزيل من عزيز حميد، لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإنه لا يعرف قدره إلا من يعلو في البيان إلى تدبر معانيه، وفصاحة مبانيه، وبلاغة كلامه ومقتضيات الأحوال؛ ولذا قال تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) " الفاء " عاطفة على فعل محذوف يقدَّر بما يناسب المقام فيقدر مثلا: أتردونه فلا تعقلون، فلا تدركون بعقولكم حقيقة ما تردون، ويعود بالخير عليكم شرفا وهداية وإرشادا ومواعظ وعبرًا، والتنكير في (كتاب) لبيان شرفه أي كتاب أي كتاب.
عاد سبحانه بعد هذا الإرشاد الحكيم بالقرآن الكريم، فقال عز من قائل:(9/4836)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)
(وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11)
هذه الآية الكريمة مفصلة بعض التفصيل لما تضمنه هلاك المسرفين في الآية السابقة (وَكَمْ) بمعنى الكثير، وهي مفعول لـ (قَصَمْنَا)، والقصم هو التكسير والتهشيم، الذي تنفصل فيه الأجزاء عن بعضها، وهي تدل على الغضب، والهلاك يكون لأهل القرية، والمعنى وكم قصمنا أهل قرية كانت ظالمة، وإني أرى كما رأى بعض المفسرين أن القصم كان في القرية نفسها، كما حدث لقوم لوط، إذ جعل عالي الأرض سافلها، وكما حصل لثمود، إذ جاءتهم ريح صرصر عاتية دمرتهم وكما حدث لعاد. . . إلى آخره، وقوله: (كَانَتْ ظَالِمَةَ)، أي أهلها ظالمون فالظلم(9/4836)
لا يقع من البناء والأحجار، ولكن من الذين يحلون في القرية، فأسند الفعل إلى المحل وأريد الحالّ.
وقوله تعالى: (وَأَنشَأنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ) أي أن هذه القرية التي قصمت وحطم بنيانها وأزيلت من الوجود أنشأ بعدها قرية أخرى غير ظالم أهلها يسكنها قوم آخرون، وهنا أمران يوجبان الالتفات.
أولهما - أن الحديث عن القرية ولكنه سبحانه قال إنه لَا ينشئ القرية مرة أخرى، إنما ينشئ قوما آخرين، وإنشاء قوم آخرين ينشئ قرية، وليس الأمر أمر البنيان، وإنما الأمر أمر من يسكنون البنيان، ووصفوا بـ (آخَرِينَ) لبيان تباينهم عن الأولين.
الأمر الثاني - التعبير بـ (أَنشَانَا)، والتعبير بقوله (بَعْدَهَا)، فالذكر للبَعدية بالنسبة للقرية مع أن الإنشاء للأقوام الآخرين، وكان ذلك لأن الحديث عن قصم القرية، وتكسيرها وتهشيمها وهو المظهر الحسي لهلاك الأقوام بهلاك قراهم وأماكنهم التي كانوا بها يعيشون.
(فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)(9/4837)
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12)
" الفاء " للتفصيل، (أَحَسُّوا بَأْسَنَا) معناها بدت بوادر البأس الشديد والهلاك العتيد، وعلموها بحسهم وقرب نزوله (إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ) " إذا " للمفاجأة أي أنهم فاجأوا من حولهم بركضهم، والركض هو السرعة، وهو مأخوذ من ضرب الدابة برجلها، وقد شبهوا في سرعة سيرهم وضربهم في الأرض بضرب، الدابة في الأرض، وذلك تصوير لفزعهم وهربهم مسرعين لَا يلوون، وقوله تعالى:(9/4837)
لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
(لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ ... (13)
أي لَا تفزعوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه، والإتراف هو الانغماس في النعيم، وأن يكونوا فاكهين فيه ناعمين، وإن ذلك يؤدي إلى بَطْرِ النعمة وغمط الناس والاستكبار، ولكن من القائل لهم ذالك؟ قيل: الملائكة بأمر من الله تعالى، وعندي أنها حال اعترتهم في نزعهم الأكبر، فكان(9/4837)
الخوف يدفعهم إلى الركض والهروب من البأس، والحرص الذي استمكن في نفوسهم، وحرصهم على ما كانوا عليه يناديهم في ذات أنفسهم: لَا تركضوا وارجعوا إلى منازلكم التي كنتم فيها، وعلى النظر الأول يكون النهي عن الركض والرجوع إلى المتارف والملابس والمساكن التي ارتضوها مثابة لترفهم نوعا من التهكم عليهم، وكلا الاحتمالين ممكن الحصول، ويجوز أن يرادا معا، وقد قال الزمخشري في الكشاف في تصوير معنى الرجوع إلى مساكنهم، وفي تصوير قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) ما نصه: " لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ: تهكم (على التخريج الأول) وتوبيخ، أي ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو: ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجلسكم وتزينوا في مزاينكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره وينفذ فيه أمركم ونهيكم، ويقول لكم: بم تأمرون؟ وبماذا ترسمون؟ وكيف تأتي وتذر كعادة المنعمين المخدومين، أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاونة في نوازل الخطوب، ويستشيرونكم في المهمات والعوارض، ويستشفون بتدابيركم، ويستضيئون بآرائكم ويسألكم الواردون عليكم، ويستمطرون سحائب أكفكم، ويمترون أخلاف معروفكم وأياديكم، إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء، أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم وتوبيخا إلى توبيخ ".
هذا تصوير جيد لحال المترفين الذين ينعمون بنعيم الدنيا والسلطان، ويكون معنى (تُسْأَلُونَ) على أن الكلام من الملائكة بأمر الله تعالى، فيكون قوله: (لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) فيه توبيخ أبلغ توبيخ. وعلى نظرنا الذي نقول فيه أنهم هم الذين حدثوا أنفسهم بالنهي عن الركوض في هذا الهول، فيكون لقوله: (لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ) تصوير لما كانوا عليه من عز ورفاهية تجعلهم مقصودين بالسؤال فهم في حيرة بين الاستجابة لفزعهم بالفرار وبين حرصهم بالبقاء، ومهما تكن هذه الحيرة فهم يحسون بالمرارة الشديدة والهم الأكبر، ويحسون بأنهم كانوا ظالمين ولذا:
(قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)(9/4838)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14)
نادوا نداء الحسرة، وأشد الحسرة تكون عند الإحساس بالباطل عندما يكون العقاب عليه ولا يكون مناص منه، ينادون (يَا وَيْلَنَا) أي يا هلاكنا الذي كتب علينا أقْبِل فهذا وقتك، ومعنى نداءهم بهلاكهم الذي استحقوه هو أنه شعور. باستحقاقهم له، وإضافة الويل إليهم؛ لأنهم سببه، وقد استحقوه، وقرروا ذلك بصريح اللفظ بقول: (إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)، أكدوا ظلمهم بـ (إن) (المؤكدة، وبـ " كنا " لأنها تدل على استمرار طلبهم، ووصفوا أنفسهم بالظلم، وكان ظلمهم من نواح كثيرة، فهم كفروا برسالة النبيين وجحدوها وعاندوهم، وآذوا المؤمنين، وكفروا بأنعم الله ولم يقوموا بحق شكرها، وهذا ظلم بيّن، وأشركوا في عبادتهم، وإِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وعاثوا في الأرض فسادا، وأكلوا أموال الناس بالباطل وغير ذلك مما يجيء تباعا للكفر بالأنبياء.
وإنهم يستمرون على الشعور بالويل وندائه والإحساس بالظلم إلى الموت.
ولذا قال تعالى:(9/4839)
فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
(فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
الإشارة في (تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ) إلى (يَا وَيْلَنَا)، وسميت تلك دعوى يَدْعونها؛ لأنها بصيغتها تفيد نداء ويلهم كأنهم يقولون يا ويلنا ندعوك، الإشارة كما ذكرنا إلى قولهم يا ويلنا، وهي دعوى لأنها طلب لهم، والدعوى تطلب على طلب أمر من الأمور، وأكثر ما تكون أمام القضاء، فهي المطلب الحق تزعمه صاحبه، ويعتقد أنه حق، وسمي طلبهم دعوى مع أنه أقرب إلى الدعاء غير أنهم لَا يطلبونه ضارعين مبتهلين حتى يسمى دعاء، لأنهم مشركون، إنما يطلبونه لأنه استحقاق لهم بحكم ما ارتكبوه من ظلم، وقوله تعالى: (فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ) " الفاء " فاء الإفصاح، و (مَا زَالَت) تدل على استمرار هذه الدعوى وبقائها، واستمرارها يدل على استمرار التحسر والتوجع والشعور بالهلاك، أي أنهم استمروا على الشعور بالتحسر والبكاء على ما كان، وأشد ما يؤلم العاتي الظالم شعوره بعتوه ولقاء معتبه، وقد صرح الله تعالى في قرآنه العظيم بالنهاية لذلك البكاء المرير بقوله تعالت كلماته: (حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِين) والحصيد فعيل بمعنى مفعول وهو الزرع المحصود المقطوع(9/4839)
الذي جف عوده شيئا فشيئا حتى يصير حطاما لانقطاع سبب الحياة عنه، وهذا فيه تشبيه لحالهم بحال الزرع المحصود الملقى المقطوع عن أسباب الحياة، كما انقطعت أسباب الحياة عنهم، وهذا تصوير لحلال هلاكهم ونزول الويل الشديد بهم، وأكد حالهم بقوله تعالى: (خَامِدِينَ)، والوصفان كناية عن موتهم وهمودهم، وأصل الخمود من قولهم خمدت النار خمودا طفئ لهيبها، ومنه استعير خمدت الحمى، وكأن هناك تشبيها آخر بعد تشبيههم بالزرع المحصود، شبههم أيضا بالنار الذي أطفئ لهيبها، وفي ذلك إشارة إلى ما كانوا يشعلونه من إيذاء، وما يوقدون من حروب مفرقة تجمح فيها النفوس عن مواطن الاطمئنان، وليس هنا ثلاثة مفعولات لـ (جعلنا)، إنما هنا مفعولان فقط، و (خَامدِينَ) حال، وليست مفعولا ثالثا، وأضاف سبحانه وتعالى الفعل إليه بالصيغةَ التي تليق بعظمته (جَعَلْنَاهُمْ) إرهابا وإفزاعا، والإشارة بأن الذي يتولى هلاكهم هو الله جل جلاله، وتقدست ذاته وأفعاله.
* * *
الله خالق السماء والأرض وبه ثبت وجوده
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ(9/4840)
عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
* * *
اللعب هو الفعل الذي لَا مقصد له، ويقال لعب فلان إذا كان فعله، لَا مقصد له أو ما قصد به قصدا جديا له غاية تليق بالحكماء، وأصله كما قال الراغب في مفرداته من اللعاب وهو البزاق السائل الذي لَا يكون إلا ممن لَا يملك قوة مانعة منه، وغير العقلاء، والله سبحانه وتعالى منزه عن أن يفعل فعلا لغير مقصد صحيح، وإن كان لَا يسأل عما يفعل، ولذا قال تعالى:(9/4841)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ)
(السَّمَاءَ) هي كما نعلم طبقات النجوم وأبراجها من شمس وقمر وكواكب ونجوم كل في مداراتها، تربط بينها نواميس الكون التي تسمى أحيانا بالجاذبية، والقصور الذاتي، (وَالأَرْضَ) هي التي نعيش على سطحها، وتشمل الماء الذي يقدر بثلاثة أرباعها، واليابس مما في ظاهرها من جبال هي رواسيها، ووهاد، وأرض مبسوطة، وفيها المزارع الكبيرة، وفي باطنها فلزات وأحجار، وما لَا يمكن زرعه ملأه الله تعالى بالخيرات في باطنه، من معادن سائلة وجامدة.
وفى البحار جواهر ولحم طري من الأسماك وغيرها من ساكنات الماء حتى كان ما فيها من عوالم الأحياء لَا يقل عما هو في اليابس من حيوان مُتَبَدٍّ ومستأنس.
(وَمَا بَيْنَهُمَا) هو الفضاء الذي سخر للإنسان، وفيه السحاب المثقل بالماء ينزل ليروي الحرث والغراس، ويقول سبحانه: (لاعِبِينَ) أي على غير مقصد صحيح نافع هاد ومرشد، فهو خلق هذا كله لحكم أرادها ومقاصد قصدها، وذكر اللعب لبيان نزاهة الله تعالى عن العبث، كما قال سبحانه: (أَفَحَسِبْتمْ أَنَّمَا(9/4841)
خَلَقْنَاكمْ عَبَثًا. . .)، ولأن ما ليس له مقصد نافع صحيح يعد لعبا، والعقلاء بعيدون عنه، فالله جل جلاله منزه عنه بالأولى، ولقد صرح سبحانه وتعالى بأنه خلق هذه الأمور لمعرفة الإنسان، وتعريفه بطبائع الوجود وليعرف منها خالقه، وكماله، ونزاهته عن أن يكون كالحوادث؛ إذ هو خالقهم؛ ولذا قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. . .)، وقال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وقد بين سبحانه وتعالى هذا المعنى بقوله تعالت كلماته:(9/4842)
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
(لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17)
(لَوْ) كما يقول النحويون حرف امتناع لامتناع أي امتنع الشرط لامتناع الجواب فهو نفي بدليل، إذ يتضمن شرطها وجوابها بيان امتناع الجواب وامتناع الشرط بتلازم الامتناع فيهما، واللهو ما يشغل عما يعنى به ويهتم له، وهو يعم كل ما يلهي عن الغايات والمطالب، وهو يطلق على الأسباب التي تلهي الإنسان عن الغايات العليا، كالزخارف والطنافس، والسُّقُف المرفوعة المزخرفة، والأثاث والرئْي وغير ذلك مما يعني به أهل الدنيا والسلاطين الذين في لهوهم يعبثون ويلعبون.
ويقول سبحانه: (لَهْوًا) أي ما يلهينا، وذلك مستحيل، لأن الله جل جلاله لا يفعل إلا ما هو كمال، أو يؤدي إلى الكمال وكله خير، وهو معلم الخير، وجواب الشرط (لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا) أي لكان ذلك صادرا عن ذاتنا العليا وصفات الكمال، واللهو لَا يمكن أن يصدر عن ذاتنا المتصفة بكل كمال، والمنزهة عن صغائر الخصال، فكيف يصدر عنا، و (لَدُنَّا) بمعنى " عندنا " ولكنها أخص من " عند "؛ لأنها تدل على الابتداء لنهاية، أي أن اللعب من لدنا مبتدئ، وذلك لَا يسوغ ولا يجوز.
وقال تعالى: (إِن كُنَّا فَاعلينَ) إن هذه الجملة شرطية وجواب الشرط محذوف دلت عليه الشرطية التي قبلها (لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخذَ لَهْوًا) وفي ذلك تكلف التقدير، ونحس أنه غير متسق مع النص الأول، وإني أرَى أن (إِن) نافية، وتكون تأكيدا للنفي الثابت بقوله: (لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَدُنَّا) ويكون: ما كنا فاعلين ذلك؛ لأنه لَا يليق بالذات الكريمة ولا يتصور أن يكون منها، والله أعلم.(9/4842)
وقد بين سبحانه وتعالى القصد الأسمى من خلق السماوات والأرض.(9/4843)
بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)
(بَلْ) للإضراب النافي لما قبله، لَا مجرد الإضراب الانتقالي، والقذف الرمي من بعيد، والرمي من بعيد يكون مؤثرا في المرمى عليه أكثر من القريب، ويكون أدل على شدة الرمي، و " بل " التي للإضراب تدل أشد الدلالة على نفي اللعب عن أفعاله فوق النفي السابق، سبحانه وتعالى عما تتصف به الحوادث من لعب،، وتزجية الأوقات فهو القادر القهار الذي خلق كل شيء.
وفى قوله تعالى: (نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ) تشبيه للحق بالجسم الصلب القوي الشديد، والباطل أمامه بأنه هش ضعيف، وذلك لبقاء الحق وسلامته وصلابته، و (فَيَدْمَغُهُ) معناه يصيبه في دماغه، ويقال: دمغه إذا أصابه في دماغه أو كسر دماغه، ووصل إلى تجاويف رأسه حتى يصيب مخه فيقتله، وفي ذلك أيضا تشبيه، فشبه سبحانه وتعالى إصابة الحق للباطل بإصابة الدماغ ووراء إصابة الدماغ الموت؛ ولذا قال تعالى: (فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ) و " الفاء " و " إذا " للمفاجأة، والمراد من المفاجأة سرعة الإبطال، و (زَاهِقٌ) معناها ميت، لأن زهق معناه خرجت روحه، وفى هذا الكلام أيضا تشبيه للباطل إذا زال وذهبت دولته بالنفس إذا خرجت ومات صاحبها، وفي ذلك إشارة إلى أن الباطل لَا يبقى، والحق باق إلى يوم الخلود، وما يرمونه من باطل فهو ميت فانٍ، وما يثبت من حق باق خالد.
وبعد أن قرر سبحانه ذلك مؤكدا خلق السماوات والأرض لإحقاق الحق وإبطال الباطل، التفت بالخطاب للمشركين، فقال عز من قائل منذرا لهم: (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) أي لكم الهلاك الذي يصحبه أنين وألم يستمر (مِمَّا تَصِفُون) " ما " موصول حرفي، والمعنى من الوصف الذي تصفونه به، و " من " سببية أي بسبب الوصف الذي تصفونه وأن له شركاء يعبدون، وإنهم يكونون شفعاء عنده، وهذه أوصاف لَا تليق بالذات العلية، وهم يقولون باطلا: (. . . مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. . .).(9/4843)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
(وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
هذا النص مؤيد لمعنى الآية السابقة، وأنه لَا أحد يشاركه في ملكه، فهو وحده المالك للسماوات والأرض، وما فيهما ومن فيهما، والعندية هي عندية المنزلة، لا عندية المكان، لأن الله تعالى ليس له مكان حتى يكون في هذا المكان أحد، إنما العندية هي العندية المعنوية، وهي المكان، وأولئك هم الملائكة، وهم أزواج مطهرة ليس لها مكان نعرفه وهم عباد مكرمون، لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ.
وذكر العندية كما يفيد ما ذكرنا من أنها عندية معنوية وقرب من الله تعالى، ويفيد أيضا تشريفهم ومكانتهم عنده، ومع هذه المكانة (لا يَسْتَكْبِرونَ عَنْ عِبَادَته)، أي أنهم خاضعون له تعالى خضوع العبودية له سبحانه؛ كما قال تعالى: (لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. . .)، وإذا كان الملائكة لَا يستنكفون عن عبادته وهم المقربون فأولى بكم أيها الناس ثم أولى أن تكونوا له عابدين، وهم في عبادتهم مستمرون لَا يكلون ولا يضجرون، ولذا قال تعالى نافيا الكلام: (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) وهو افتعال من الحسر بمعنى انكشاف قواهم، وظهور مللهم، وكان النفي بصيغة الافتعال الدالة على قوة الكلال مع أن المقام يقتضي نفي أصله لَا نفي الكلال القوي منه، إذ إن نفي القوي من أمر لَا يقتضي نفس الضعيف منه، ولكن نقول كان نفي القوي للإشارة إلى أنهم في حال كلال قوي، وكان يمكن أن يكلوا، ومع ذلك استمروا دائبين في عبادتهم مع شدة التعب، ولكن لَا تعب في أمر ما داموا يرضون ربهم، وهنا يسأل سائل لماذا أفردوا بالذكر مع أنهم داخلون في ملكية الله تعالى، ولما ذكر أنهم عنده؟ ونقول في الجواب عن ذلك: أفردوا لتعظيمهم ولقربهم من الله تعالى، ولأن بعض الناس كان يقدسهم، بل يعبدهم، فكان ذكرهم فيه عبرة لمن يعبدون الله تعالى، وذكر أنهم عنده لما ذكرنا تشريفا لهم، وللإشارة إلى قربهم من الله كما هو الشأن في الملوك، وقال الملا أبو(9/4844)
السعود، إنهم عند الله تعالى بمنزلة المقربين من الملوك، ولله تعالى المثل، الأعلى، وهو تقريب ليدركوا معاني القرآن. وقال تعالى في أوصاف الملائكة وأعمالهم:(9/4845)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
التسبيح: التقديس والتنزيه، فهم مستمرون في تقديسهم وتسبيحهم (لا يَفْتُرونَ) أي لَا يسكنون، والليل والنهار طرفان للتسبيح، ومعنى ذكر الليل والنهار أنهم لَا يسكنون في ليل أو نهار، فهم دائمو التسبيح والتنزيه وعبادته وحده، وقوله تعالى: (لَا يَفْتُرُونَ) تأكيد لدوام التسبيح واستمراره، والفتور السكون. وقد جاء في مفردات الراغب في هذه الكلمة (لا يَفْتُرُونَ) أي لَا يسكنون عن نشاطهم في العبادة، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن فتر إلى سنتي فقد نجا وإلا فقد هلك " (1) والشِّرَّة: غفوة الباطل وإن الملائكة لَا تعتريهم شرة، ولا تعتريهم فترة، فهم عباد الله تعالى المطهرون.
وقد أشار سبحانه إلى ما وصفوا الله - سبحانه - به من أن له شركاء، فقال عز من قائل:
_________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (3969)، وابن حبان في صحيحه (11) - 1/ 7، وابن خزيمة في صحيحه (2103) 3/ 293. " الشِّرّة " بكسر الشين، وتشديد الراء بعدها تاء تأنيت: هي النشاط والهمَّة. كما في الترغيب والترهيب للمنذري (90) 1/ 46. " ولكل شرة فترة " أي وهنا وضعفا وسكونا، يعني أن العابد يبالغ في العبادة أولا وكل مبالغ تسكن حدته وتفتر مبالغته بعد حين، وقال القاضي: المعنى أن من اقتصد في الأمور سلك الطريق المستقيم واجتنب جانبي الإفراط (الشرة) والتفريط (الفترة). فيض القدير 1/ 592.(9/4845)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
" أم " هي المنقطعة وهي تتضمن الإضراب الانتقالي، فانتقل النص القرآني بهم من إنكارهم الرسل وإنكارهم الآيات، وكل هذه أمور باطلة ولكنها سلبية في ذاتها تعدت إلى أمر إيجابي منهم، وهو باطل كالأمور السلبية على سواء، بل أشد وأعنف، وهو الباعث على إنكار ما أنكروا معه الرسل والآيات، والمعنى اللفظي(9/4845)
للنص السامي، بل اتخذوا آلهة من الأرض، وكان الله يواجههم بإفكهم وافترائهم في عبادتهم، والاستفهام إنكاري منصب على ثلاثة أمور:
أولها - اتخاذ آلهة غير الله تعالى، فهو في ذاته ظلم مستنكر وبهتان عظيم.
والثاني - أنها آلهة من الأرض، وفي ذكر الأرض مقابلة بين هذه الآلهة المزعومة والعباد عند الله الذين لَا يستكبرون عن عبادته، ويسبحون ليلا ونهارا لا يفترون، والأرض التي اتخذت منها آلهتهم دون من عند الله فكيف يعبدونها، وفي ذكر الأرض استنكار آخر، وهو أن هذه الآلهة المزعومة من حجر من الأرض أو من جماد منها، لَا يعقلون ولا يفكرون فكيف تكون آلهة، ومهما يكن فإن ما يكون متخذا من الأرض دون ما عند الله، ومن عند الله يعبدونه.
والأمر الثالث - أنكر عليهم أيضا بالاستفهام، وهو استفهام جديد وأحسب أنه لإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع، فهم لم يقولوه، وهو في قوله تعالى: (هُمْ يُنشِرُونَ) أن يحيون الموتى، وأصل نشر من نشر الثوب، ونشر الله تعالى الموتى فيه كشف لهم، وإخراج لهم من قبورهم أحياء، ولا شك أنهم لَا يقولون بالنشر والبعث، فهم يحسبون أنه لَا يكون قط، ولكن النص أثبت عجز من زعموهم أهة عنه، والله تعالى الذي يشركون به هذه الأحجار قادر على ذلك وعلى كل شيء، كما قال تعالى: (. . . كَمَا بَدَأَكُمْ تَعودُونَ)، وفي هذا توبيخ على عدم إيمانهم بالبعث مع ادعاء الألوهية لمن لَا يصلح أن يكون إلها لأنه لا يسمع ولا يبصر ولا يغني شيئا يجلب نفعا أو يرفع ضررا.
وقد بين سبحانه بعد ذلك استحالة الشرك بالدليل الفعلي الذي لَا يزال حجية التوحيد فقال عز من قائل:(9/4846)
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)
(لَوْ) كما قلنا حرف امتناع لامتناع، أي امتنع الفساد في الكون لامتناع أن يكون فيهما غير الله، فهو يسير في نظام لَا يتخلف، فالنجوم في مساراتها، والشمس والقمر يجريان بحسبان، والليل والنهار يتعاقبان من غير تخلف.(9/4846)
و (إِلَّا) هنا للوصف بمعنى " غير "؛ لأن الاستثناء في المستغرق يجب أن يكون المستثنى مستغرقا في المستثنى منه، ولا يمكن ذلك للغيرية المطلقة بين الاثنين، فلا ارتباط حتى يجعل أحدهما مستثنى من الآخر، فما قبلها لَا يشمل ما بعدها بأي نوع من الشمول، والاستثناء المنقطع فيه نوع قرب وشمول بين المستثنى والمستثنى منه من وجه، والدليل مع أنه لَا استثناء رفع لفظ الجلالة، إذ لو كان منقطعا لكان منصوبا، فدل على أنه لَا استثناء قط، وعلى ذلك تكون " لا " وصفا بمعنى " غير ".
والمعنى أنه امتنع التالي في هذه الشرطية، وهو الفساد، وإذا بطل التالي لأنه يخالف الحس، والوجود كله قائم شاهد بالصلاح، فالسماء والأرض كل قائم به الصلاح بدل الفساد، فالسماء بأبراجها وكواكبها ونجومها، والشمس، سائرة في أبراجها ومساراتها بانتظام، والشمس والقمر كل في فلك يسبحون مما يدل على أن مدبرا للكون يدبره وينظمه، ولا يمكن أن يكون كل ذلك بالمصادفة، والمصادفة لا يفرضها إلا إذا ثبت أنه ليس ثمة موجد منشئ، وذلك باطل، وإن إثبات، الوحدانية بهذا الدليل العقلي الذي جاء به القرآن هو أقوى دليل جاء به المتكلمون لإثبات الوحدانية، وهو الذي يسمى عندنا بدليل التمانع، وقبل أن نقرره كما جاء في القرآن نقول: إن ذكر الآلهة لذكرها من قبل في قوله تعالى: (أَم اتَّخَذُوا آلِهَة) في الآية السابقة، فليس الدليل لمنع آلهة مع الله، بل هو لمنع أي إله مع الله تعالى العلي القدير.
وما يقرره علماء الكلام مقتبسين من استدلال القرآن أنهم يقولون: لو كان فيهما إلهان لتعارضت إرادتهما، فإن نفذت إرادة أحدهما دون الآخر، وتوالى ذلك فهو الإله دون الثاني، وإن توافقت إرادتهما على الدوام فهو إله واحد.، والاتفاق على الدوام غير ممكن لأن كل واحد منهما له إرادة مستقلة عن إرادة الآخر، فإن لم تخالف في كل أمر بالتخالف لَا محالة ثابت في بعض الأمور، وفوق ذلك عند التوافق، فهو يؤدي إلى أن يكون العقل الواحد يتوارد عليه فاعلان، وذلك مستحيل، إذن فلابد من فرض التخالف، والتخالف يؤدي إلى تحقق أمرين(9/4847)
متضادين، وذلك محال فما أدى إليه محال أيضا، وإن نفذت الإرادتان بعد التسليم بذلك المحال، فسد الوجود، وهو الصلاح كله، وإذا بطل الفساد بطل ما أدى إليه، فكان الله واحدا أحدا فردا صمدا، وقد قال تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ ربِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي يترتب على بطلان التعدد أن يكون الله تعالى هو وحده الواحد، فتنزيها له وتقديسا عما يصفون من الإشراك به، وقد وصف الله تعالى ذاته بقوله: رَبِّ الْعَرْشِ) أي أن العرش له وحده لَا شريك له.
(وقد بين سبحانه وتعالى سلطانه الكامل فقال:(9/4848)
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
(لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
أي أنه لَا رقيب عليه فيما يفعل حتى يُسأل؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الإله وحده، ولأنه خالق الوجود كله، فلا يسأله مخلوق خلقه؛ لأن ذلك قلب للأوضاع العقلية، ولأنه سبحانه لَا يخطئ، والمخطئ هو الذي يُسأل عن خطئه، والله تعالى فوق كل خطإ، ولأنه الكامل واجب الوجود المطلق وكل من دونه ناقص قد يحسن، وربما لَا يحسن، وربما يخطئ، وربما لَا يخطئ، فالرقابة من الله تعالى عليه؛ ولذا قال تعالى (وَهُمْ يُسْأَلُونَ) والضمير يعود إلى المشركين، فهم يسألون عما يقولون وعما يفعلون وعما ينكرون وعما يفسدون، وفي ذلك تهديد لهم، وإنذار بأنهم محاسبون على كل ما يكون منهم من شرك، والله أعلم.
قال تعالى:(9/4848)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
أم هنا كالسابقة للإضراب والاستفهام، وهو إضراب انتقالي من اتخاذهم آلهة ليس لها قدرة في شيء، وأنه لو كان التعدد لكان الفساد. انتقل من هذا بالإضراب إلى بيان أن اتخاذ شريك لله تعالى لَا يؤيده العقل بل يخالفه وينكره، وكل دعوى لابد لها من دليل، ودليلها نقلي أو عقلي، فأين الدليل وقد طالبهم النص السامي بالبرهان.(9/4848)
والاستفهام الذي تتضمنه " أم " لإنكار الواقع أي لتوبيخهم على اتخاذهم آلهة غير الله تعالى، و (مِن دُونِهِ) يعني غيره مع قيام الدليل العقلي على أن ذلك لا يجوز بدليل التمانع في قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) ومع هذا التوبيخ طالبهم الله تعالى بأن يأتوا ببرهان على صحة ما يدعون، وما يفتاتون، فأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يطالبهم بالبرهان: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) وكانت هذه المطالبة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - لإفحامهم ولبيان عجزهم عن أي دليل، وأي مبرر معقول أو غير معقول، وإلا فكيف يستطيع العاقل أن يجد دليلا أو مبررا يبرر به عبادته لحجر لَا ينفع ولا يضر، أو لإنسان خلقه الله تعالى كما خلق كل شيء.
وليس لديهم أي دليل عقلي، ومع ذلك ليس عندهم دليل من النقل، بل الدليل النقلي، وما عليه الرسل يناقض ما يقول؛ ولذا قال الله حكاية عن نبيه: (هَذَا ذِكْرُ من مَّعِيَ وَذكْرُ مَن قَبْلِي) " ذكر " بمعنى " تذكير " وهو هنا من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، أَي هذا تذكير الذين فيهم وهم من معه، وهو القرآن ليس فيه إلا التوحيد الخالص والشرائع المنزهة الطاهرة عن كل ما فيه شرك بالله (وَذِكْرُ مَن قَبْلِي) أي هذا تذكير من كان قبلي من الناس لقد ذكرهم رسلهم بالتوحيد، ودعوا إليه ويصح أن يكون الذكر هو القرآن، وذكر من قبلي هو التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب السماوية والغاية واحدة؛ لأن القرآن يكون فيه الذكر لمن معه، والتوراة والإنجيل والزبور فيها الذكر لمن كان قبله - صلى الله عليه وسلم -.
فقد كان الانتقال من طلب الدليل المثبت إلى تقديم الدليل مما ادعوه واتخذوه من عبادة الأوثان، ثم قال تعالى: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ) والإضراب بـ " بل " هنا للإشارة إلى أنهم طمس الله على بصيرتهم فصاروا لَا يعلمون الحق ولا يدركونه، ولا يعرفون السبيل إليه، لأن قلوبهم غلف، ولا سبيل لأن يعرفوا الحق بها ويرشدهم (فَهُم مُّعْرِضُونَ) " الفاء " هنا للسببية أي أن ذلك بسبب أنهم معرضون، فهم حائرون بائرون، لَا يرشدون بعقولهم، ولا يستمعون إلى مرشد يرشد، بل يعوضون عنه إعراضا.
* * *(9/4849)
الرسل جاءوا بالتوحيد
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
* * *
هذه الآيات متصلة بما قبلها، فهي بيان إيجابي يعلم الناس أن النبيين جميعا كانت رسائلهم تدعو إلى التوحيد، وما جاءوا إلا لبيانه، فهو تأكيد للدليل النقلي الذي أشار إليه قول النبي: (هَذَا ذِكر مَن مَّعِيَ وَذِكرُ مَن قَبْلِي).
يقول تعالى مؤكدا هذا المعنى الخاص بالتوحيد:(9/4850)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).
هنا نفي وإثبات، وهو نفي مستغرق استغراقا كاملا، فـ (مِنْ) الثانية لاستغراق الرسل وقوله: (مِن قَبْلِكَ) أي الذين سبقوك، فما كنت بدعا من الرسل إذا دعوت إلى التوحيد، فهو لب الرسالات كلها، وما عداه لَا يمكن أن يكون دينا، بل هو أوهام باطلة لَا تقوم على دعائم من حق أو عقل فالعقل يمنعها، والحق يجافيها.(9/4850)
(إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ) بيان أن هذا التوحيد هو أمر من الله، ووحي من عنده، والعرب يعرفون الله تعالى بأنه الخالق الذي يلجأون إليه في شدائدهم، ولا يعرفون غيره إذا أحيط بهم، فهو الذي أمرهم بالتوحيد على لسان كل الرسل: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)، الضمير " أنا " في محل رفع؛ ولذا جاء بضمير الرفع، وقوله تعالى (فَاعْبُدُونِ) " الفاء " تفيد أن ما بعدها مسبب على ما قبلها، فإذا كان لَا إله إلا هو فلا يعبد غيره، ولا يعد [قط] (1) عبدا لله تعالى إلا إذا عبده وحده، فالإشراك على أي صورة من صوره ليس فيه عبادة لله تعالى.
ولقد بين سبحانه وتعالى بطلان الذين يعبدون الأشخاص، كما بين بطلان عبادة الذين يعبدون الأوثان، فإن الجميع مشركون في العبادة، بيد أن الذين يعبدون الأشخاص يسرفون على أنفسهم فيدعون أنهم أبناء الله:
_________
(1) في النسخة المطبوعة هكذا [قد] ولعلَّ ما أثبته صوابا. (مصحح النسخة الإلكترونية).(9/4851)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)
(وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)
قائل هذا بعض المشركين والنصارى منهم؛ لأن ذلك إشراك في العبادة لا مرية، وقالوا إن الله - تعالى عما يقولون - اتخذ المسيح ابنا له، كما قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ. . .).
وطائفة من العرب قيل إنهم من: خزاعة قالوا الملائكة بنات الله، ولقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101).
وقوله تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا) أي جعل له ولدا، وكلامهم ينبني عن احتياجه سبحانه إلى ولد؛ لأن الاتخاذ لَا يكون إلا عن حاجة، وقوله تعالى: (سُبْحَانَهُ) أي تنزه وتقدس عن ذلك (بَلْ) إضراب وردّ لقولهم، (عِبَادٌ مُكرَمُونَ)، أي كرمهم الله تعالى وهم عباده، فعيسى عبد لله، ولا يستنكف أن يكون عبدا، والملائكة المقربون لَا يستنكفون أن يكونوا عبيدا له.(9/4851)
وقد ذكر سبحانه وتعالى حالهم فقال عز من قائل:(9/4852)
لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)
(لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27)
وذكر سبحانه وتعالى هذا الوصف لهم، للإشارة إلى أنهم من الله بمنزلة من الطاعة، كمنزلة العبيد من مالكهم، لَا يسبقونه في أمر من أمور الشريعة أو الخلق والتكوين أو القول، بل هم تابعون خاضعون، ليس قول مع قوله سبحانه، فلا يتقدمون أمامه، وقالوا: إن (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) في مؤدى لَا يسبق قولهم قوله، أي لَا يقولون قولا، بل قولهم دائمًا مسبوق بإرادة الله سبحانه وتعالى، وليس لهم أن يتقدموا بأمر، ثم قال تعالى في بيان خضوعهم: (وَهُم بِأمْرِهِ يَعْمَلُونَ) وتقديم الجار والمجرور لإفادة الاختصاص، والمعنى بأمره وحده لَا بأمر غيره يعملون، وفي ذلك تعريض ببطلان ما يفعله المشركون إذ يفرضون لآلهتهم المزعومة مطالب يؤدونها، وذلك من أوهامهم.
ويبين سبحانه وتعالى أنهم في قبضة يده يعلم حالهمْ في حاضرهم وماضيهم فيقول سبحانه:(9/4852)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
ذكر الله تعالى أنهم في قبضته، وهو عالم بكل أحوالهم (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ)، وهذا يكنى به عن حاضرهم، لأنه بين أيديهم يفعلونه ويدورون فيه تحت سلطان إرادته، وعلى مقتضى علمه، وجميع ما يفعلون وما يفكرون تحت عين الله وفى رقابته (وَمَا خَلْفَهُمْ) ويعلم سبحانه ما هو خلف أعمالهم، أي ما يجيء في المستقبل، فهو يعلم حالهم في حاضرهم وفي قابلهم الذي يخلف حاضرهم، فهم في سلطان الله تعالى مع تقريبهم وتفضيلهم وتكريمهم. وليس ذلك شأن من يتخذه ولدا، بل هو شأن من يكون من عباده.
(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى) أي لَا يشفعون لأحد إلا إذا كان مرتضى لله، ورضى الله أن يشفع كما قال تعالى: (مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)(9/4852)
وكما قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا)، فهم في شفاعتهم لَا يسبق قولهم قول ربهم إنما قول الله تعالى
هو السابق، وهو الذي يأذن لهم بالقول شفاعة أو غيرها.
وقد ذكر سبحانه وتعالى وصفا ثالثا، وهو حال دائمة مستمرة لهم فقال: (وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) الخشية الخوف مع التعظيم والضراعة والاستسلام لله عز وجل؛ ولذا اختصت بالذين يعلمون عظمة الله تعالى وجلاله، فقال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، الذين علموا الله تعالى وعرفوه حق معرفته.
والإشفاق: الخوف مع توقع ما يخافونه، فهو خوف مع عناية بما يجيء به الزمن، وإن ذلك الإشفاق يكون من كمال العلم بالله واستشعار عظمته، وامتلاء النفس بمهابته، وذلك شأن من كانوا خاضعين، وليس شأن من زعموهم آلهة مع الله مناظرين، وإن هذه حال من قربوا من الله فهم أدرك لعظمته، وأكثرهم علما بقدرته، وحكمته وكماله.
وإن هذا التعبير الكريم يدل على دوام هذه الحال؛ لأن الجملة حالية أولا، ولأن الجملة اسمية تدل على الاستمرار ومؤكدة بالضمير، والله سبحانه أعلم بحالهم، فهم المقربون.
ولكنهم مع قربهم من الله تعالى، وأنهم المكرمون، لو انحرفوا عن الطريق لنالهم جزاء الضالين المضلين؛ ولذا قال تعالى:(9/4853)
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
إن هؤلاء عباد خلقهم الله تعالى للطاعة والتسبيح لَا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وهم مجردون من الشهوات التي تضل وتهوِي بصاحبها إلى مكان سحيق من المعصية ولتجردهم من الأهواء المردية والمطاولات التي تقع بين أهل الدنيا الذين تسيطر عليهم أحيانا أهواء إبليس عدو آدم - لَا يقع منهم ما يخالف إرادته، ومع ذلك لو وقع منهم ما يعاند إرادة الله يكون جزاؤهم جزاء العصاة، فلا(9/4853)
يقول أحد منهم إنه إله من دون الله، فمن قالها منهم فإن جزاءه جزاء العصاة، وهذا قوله تعالى: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) " من دونه " أي غير الله، ويعاند الله في ظاهر حاله والفاء واقعة في جواب الشرط، والإشارة إلى الذي يقول إني إله من دونه، والإشارة إلى فاعل فعل هي إشارة إلى الفعل، فهي إشارة إلى أن ذلك القول إجرام، ويكون كقول فرعون ما علمت لكم من إله غيري، وجهنم للعصاة دائما، و (كذَلِكَ) في ختام الآية الكريمة: (كذَلِكَ نجْزِي الظَّالِمِينَ) أي أنه كهذا الجزاء الذي ذكر لهم إذا ادَّعوا الألوهية يجزي الله الظالمين.
وفى هذا النص إشارة واضحة إلى أن الذين يعبدون المقربين كعيسى ابن مريم، وكالملائكة المقربين لَا يغضبون الله وحده، بل يغضبون من يعبدونهم ويخالفونهم، فالذين يقولون عيسى ابن الله أو الرب أو إله يعصون أول ما يعصون عيسى عليه السلام، وكذلك الذين يعبدون الملائكة المقربين.
والظلم المذكور في الآية هو ظلم الإشراك، وظلم المعصية، وظلم تضليلهم، وانهواء عقولهم، والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
* * *
خلق الله يدل على وحدانية الله
(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
* * *(9/4854)
هذا كلام موصول لبطلان الشركاء لله تعالى ببيان إبداعه في خلقه، سواء أكان أولئك الشركاء المزعومون أحجارا أم تماثيلَ أم أوثانا، أم ادَّعوا أن الله بديع السماوات والأرض اتخذهم أبناء، وذلك البطلان ببيان عظمة خلقه.(9/4855)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)
(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَروا أَن السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا) (الواو) عاطفة، وتقدمها الاستفهام، وتقدير القول: وألم ير الذين كفروا، والاستفهام له الصدارة دائما، والاستفهام لإنكار الوقوع أي أنهم لم يروا وكان حقهم أن يروا، والرؤية ليست رؤية البصر، ولكن رؤية العلم والبصر والإدراك، لأن أحدا لَا يرى السماوات والأرض رتقا، والرتق: الضم والالتحام خلقة كان أو صنيعة، وقد قال الأصفهاني في مفرداته: كانتا رتقا أي منضمتين، والمتتبع لآيات القرآن في بيان خلق السماوات يرى أن النصوص تتضافر على أنهما كانتا شيئا واحدا كان كالدخان، أو هو ما يعبر عنه علماء الكون بالسديم، لأنه مثل الدخان، وقد ذكرت شيئا مثل ذلك في تفسير ستة الأيام التي جاءت في عدة سور، وقلنا إنها ستة أدوار، وليست ستة أيام زمنية، لأن الأيام مقدرة بالليل والنهار وهما كانا بعد خلق السماوات والكواكب والنجوم والشمس والقمر، واقرأ قوله تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12).
فإن هذه الآيات تشير إلى أن السماوات والأرض كانتا شيئا واحدا، وكانت السماء ومعها الأرض دخانا، وهو ليس الدخان الذي نعرفه؛ لأن الدخان الذي نعرفه هو الناتج من اشتعال نار من حطب أو نحوه من أي حطام، وما كان ذلك قبل السماء والأرض، فإذا قلنا إنه الذي سماه علماء الكون السديم، لَا نكون مباعدين، بل نكون مقربين غير مدعين على القرآن ما ليس فيه، وتكون الأرض قد(9/4855)
خلقْت في ستة أيام أي أدوار في التكوين بتدبير الله العزيز العليم، فخلق الله الأرض في يومين هما دور انفصالها عن الكتلة الشمسية، وتكوين طبقتها الأرضية الظاهرة، وبقاء باطنها ملتهبا كأصلها، ويبدو أحيانا شيء منه في براكين تقذف بالحمم والسعير، وبعد أن تكونت القشرة الأرضية كانت أربعة أدوار أخرى، فيها تكونت الجبال الرواسي، والسبل الفجاج، وتكون السحاب والمياه العذبة، والإنسان والحيوان والزروع والثمار، وكانت الأرض، هذا المهاد والفراش، وانتهى أمر الله بأن جعل من الماء كل شيء حي، فكان النبات والحيوان من الماء العذب، وكانت البحار موطنا ومحيا للسمك اللحم الطري.
(فَفَتَقْنَاهُمَا) " الفاء " عاطفة للترتيب والتعقيب، وكان التعقيب لأنه لم يكن بين الرتق والفتق أمر كوني آخر، وكل شيء من فعل الله تعالى يكون بقوله تعالى؛ " كن فيكون " ولا فاصل من الزمان بين قول الله " كن " وما يكون.
وقوله: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُل شَيْء حَيٍّ) كان فيه أدوار أربعة، كما قدر العزيز الرحيم، ثم قال تعالى: (أَفَلا يُؤْمِنونَ) " الفاء " لترتيب التوبيخ بعدم الإيمان على ما قبلها، و " الفاء " مؤخره عن تقديم، والمعنى: فألا تؤمنون، والاستفهام لإنكار الواقع وهو عدم الإيمان، وإنكار الواقع بمعنى التوبيخ والتعجب من الكفر مع قيام الأدلة على وجوب الإيمان، فالفاء لترتيب التوبيخ على ما بين الله تعالى من خلق السماوات والأرض من خلق الأرض من السماء وخلق الأرض في ستة أيام.
وقد بين سبحانه الأرض وما يرى فيها بالعين والبصر، لَا بالعلم والإدراك كما قال تعالى:(9/4856)
وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
(وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
الرواسي هي الجبال، وهي جمع راسٍ، وفواعل تكون جمعا لما فيه التاء، وتكون جمعا للخالي من التاء، إذا كان وصفا لَا يعقل، وهي هنا وصف للجبال).
قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ) وهنا ذكر الوصف وحذف الموصوف، أي جبالا رواسي أي ثابتة، والجَعْل خلق لأمر موصوف بوصف معين،(9/4856)
والخلق مجرد الإنشاء، أما الجعل فهو خلق لأمر أراده الله تعالى في التكوين، وهو أن يكون لأمر نافع للعباد، كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَآيَتَيْنِ. . .).
وعلل الله كونه خلق الجبال وجعلها رواسي بقوله تعالى: (أَن تَمِيدَ بِهِمْ) والميد الاضطراب الشديد والحركة التي لَا يكون معها قرار وثبات، ويتحقق أن تكون فراشا، وأن تكون مهادا، ومستقرا، وتقدير القول كما قال البصريون: كراهة أن تميد فتضطرب، ولا يكون لها قرار تثبت النفوس فيها وتطمئن وتسكن، وقال الكوفيون: إن معنى (أَن تَمِيدَ بِهِمْ): لئلا تميد بهم، وهو تقدير لفظي اختلف فيه، ولا يغير من المعنى اختلاف الآراء، بل المعنى في التقدير أن الجبال رواسي، فلا تضطرب الأرض وتكون فراشا وقرارا ومهادا.
وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا) الضمير في " فيها " قيل يعود إلى الجبال، والمعنى جعلنا في الجبال فجاجا فيما بينها، وهي الشُّعب التي تكون بين الجبال أو في الجبال نفسها، فمع أنها راسيات تكون فيها طرق يستطيع السائر أن يسير فيها في علوها، كما ترى في جبال الأطلس في الجزائر وتونس والمغرب.
ولكنا نرى أن الضمير يعود إلى الأرض، أي جعلنا في الأرض فجاجا أي طرقا واسعة، فالفج هو الطريق الواسع، وهو في أصل وصفه للطريق بين الجبلين كأنه شق بينهما شقا، وتوسع فيه حتى صار يشمل كل طريق، جاء في المفردات: الفج شقة يكتنفها جبلان ويستعمل في الطريق الواسع، وجمعه فجاج، قال تعالى:
(مِن كل فَجٍّ عَمِيقٍ).
وقد اخترنا - كما ذكرنا - معنى الطريق لأمرين أولهما: أنه سبحانه وصف الفجاج بأنها سبل أي سبل معبدة، وثانيهما: أنه سبحانه وصفها بأن الغاية منها أن تكون طريقا للهداية والتعرف لمسالك الأرض في غير ضلال في متاهاتها، وهذا أنسب لمعنى الطريق الواسع.
قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) أي لتدركوا الهداية في طرائق الأرض، وألا تتيهوا في متاهاتها، وإنه بهذه الفجاج لعلكم ترجون الهداية، فهم إذا أدركوا(9/4857)
أنَّ الله تعالى جعل لهم الفجاج سبلا ليهتدوا إلى مصالحهم في معاشهم وعامة أمورهم ولكيلا تتيهوا في ضلالها، عساهم يهتدون لوحدانيته رب العالمين.(9/4858)
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
(وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32)
أي خلقنا السماء خلقا، وجعلناها محفوظة من أن تنتثر نجومها، إذ تبدو متفرقة غير متماسكة، وهي متماسكة مترابطة بجاذبية كأنها أرسان (1) تربطها بعضها ببعض، فلا ينفصل نجم عن مدار بالنسبة لنجم آخر، وهذا كقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولا. . .)، وإمساكهما أن يكون كل منهما في مكانه، ولقد قال تعالى: (ويُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ)، وإنها لمحفوظة من كل شيطان، كما قال تعالى: (وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَان رَّجِيم)، وحفظها سبحانه بأبراجها، وبعلوها، وكما قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا. . .)، وكما قال تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ)، وهي زينة الوجود جديرة بأن تحفظ، وجعلها الله تعالى محفوظة. كما قال تعالى: (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوج).
(وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) وفي السماء آيات متكاثرة، فالبروج والنجوم المتلألئة، والكواكب السيارة، وكل منها مسخر بأمره، فالشمس وما تكون بها من حرارة ودفء وضياء وأشعة تنبت الزرع وتنمِّيه، وما يكون في دورة الشمس من فصول السنة من صيف وشتاء وما فيها، والقمر من آيات يعرف بها الحساب، وكما قال الله تعالى: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)، وهذه كلها آيات تدل على الخبير، وأنه واحد أحد فرد صمد لَا إله إلا هو ولكنهم عن كل هذا معرضون.
ومن كان معرضا عن آيات السماء ذات البروج فهو في أعظم الجهل.
________
(1) جمع رَسَن، وهو الحبل. وقد سبق.(9/4858)
وقد ذكر سبحانه بعد ذلك أمرا محسوسا يحسونه، وهو من آيات السماء فقال:(9/4859)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
الضمير لله تعالى، وقال إنه خلق الليل والنهار؛ لأنه خلق سببهما ونظامهما وهي نعمة في ذاتها، فجعل الليل لباسا والنهار معاشا، فالليل يسكنون فيه، والنهار يخرجون فيه، وذكر بعد ذلك ما في الليل من نعمة السكون، والاستمتاع بنور القمر الهادي الساكن، وما في النهار من الحركة والاستمتاع بضوء الشمس الساطع وحرارتها ودفئها، فقال تعالى: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ)، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ. . .).
و (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) التنوين هنا عوض عن المضاف إليه، أي كل من الشمس والقمر في فلك أي في مدار (يَسْبَحُونَ) وهنا شبه جريانها بالسبح، يسبح في اليم؛ لأنه يجري في فلكه بقدرة أودعها فيه، وبنظام ثابت، والضمير عاد ضمير العاقل ترشيحا للاستعارة؛ لأن السابح عاقل يدخل في العقلاء عادة، فلما جاء التعبير بالسبح جاء معه وصف من يكون فيه عادةً.
وكان الضمير ضمير الجمع للإشارة إلى طوالع الشمس والقمر المتكرر الذي جعلهما جمعا، ولأن الطوالع تختلف معها الشمس، فتكون الشمس قريبة من الأرض في أحد مطالعها وتكون بعيدة عنها في مطلع آخر، والقمر يبدو في النظر هلالا، ثم يكبر حتى يصير بدرا؛ ولذلك كانت الشمس والقمر بمطالعهما متعددين، فصح أن يعود إليهما الضمير ضمير جمع.
* * *(9/4859)
الأنبياء ومن يخالطونهم
(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
* * *
كان المشركون يتمنون موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويعيرونه بأنه بشر يموت، وإذا مات فإن آلهتهم تنجو من سبه وتعييبهم، فبين الله تعالى أنه سيموت، وهم يموتون، كما قال تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهم مَّيِّتُونَ)؛ ولذا قال تعالى:(9/4860)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ من قَبْلِكَ الْخُلْدَ) وإن كونك بشرا يقتضي أن تموت وتبعث ككل البشر، فما قدرنا لبشر من قبلك الخلد والبقاء، والجعل هنا التقدير، أي ما جعلنا الخلد لأحد قبلك من آدم إلى عصرك، ولست بدعا من بين البشر، وإذا كانوا يتمنون موتك، فليعلموا أنهم أيضا ميتون، ولا يعلم إلا الله تعالى، من يموت قبلا؛ ولذا قال تعالى: (أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) " الفاء " لترتيب ما بعدها مع قبلها، أي إذا كنت ستموت لَا محالة فهل هم خالدون؛ فالاستفهام الذي في حيزه الفاء مترتب على نفي الخلود عنه - صلى الله عليه وسلم -، والاستفهام داخل على مضمون الشرطية، وهو استفهام(9/4860)
إنكاري فيه نفي الوقوع، والجملة الشرطية محطها الجواب، والمعنى إن مت لا يخلدون بل ينتهون أيضا، فلا يصح أن يتمنوا موتك، ولا يصح أن تشمتوا فالموت حق على كل نفس؛ ولذا قال تعالى مؤكدًا موتهم وموته - صلى الله عليه وسلم -:(9/4861)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
هذا تكميل لبيان مساواتهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدم الخلود، ثم ذكر ذلك في قضية ماسة كلية لَا استثناء فيها؛ لأن الموت يلازم البشرية؛ لأنه ما من حي من أحياء الأرض إلا له انتهاء وذكر (كُلُّ نَفْسٍ) ولم يذكر كل إنسان، أو كل البشر؛ لأن النفس هي التي تذوق مرارة فراق الجسد، فالموت ينصب عليها ابتداء، وقوله: (ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) عبر عن الفراق بالذوق كان الموت شيء يذاق، وفيه تشبيه الموت بالذوق لأن كليهما يعتريه ألم ومرارة (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْر فِتْنَةً) أي نعاملكم معاملة المختبر؛ بأن نمكنكم من الشر لتفعلوه أو تتجنبوه، ومن الخير لتفعلوه، وقدم الشر على الخير، لأن الاختبار بالشر أشد في ذاته، وإن يبدُ أخذه حلوا ولكنه مرى، ولأن أكثر الناس يستجيبون لداعي الشر بإغراء إبليس، وإسناد البلاء إلى الله تعالى لأنه هو الذي يمكنهم ويسهل لهم النجدين نجد الخير ونجد الشر، فقد قال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ).
و (فِتْنَةً) مفعول مطلق؛ لأنه مصدر في معنى " نبلوكم " وإن لم يكن بلفظه، فالإنسان في موضع اختبار في النفع والضر، فإن أعطى الخير فشكر، فله الجزاء، وإن كان حرمان فصبر فله الجزاء ويختبر بفتنة الضر، فيلقى إليه الضر ويراه محبوبا، والشهوات لينزع عنها، فيكون في ابتلاء، إن صبر أجر، وإن رتع فيها رتعا جوزي بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، والصبر على النعمة بشكرها فيه الثواب، والصبر على النقمة باحتمال آلامها من غير أنين ولا ضجر يستحق به الثواب، ويقول سبحانه: (وَإلَيْنَا ترْجَعُونَ) تقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص أي ترجعون إلينا وحدنا، ويكون الملك يومئذ لله فيكون الحساب ثم الجزاء للطائعين والعقاب(9/4861)
للعصاة، وفي هذا إنذار للذين لَا يطيعون أمر الله تعالى، وقد صور سبحانه وتعالى إعراضهم في استهزائهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دعاهم للحق فقال عز من قائل:(9/4862)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
(وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
إن الإيمان والكفر يتبديان من أول لقاء أو من أي لقاء، فإذا صحب اللقاء إقبال وتعرُّف سلك طريق تعرف الحق واهتدى، وإذا كان اللقاء إعراضا، وسدا لينابيع الإدراك، ومن أشد مظاهر الإعراض الاستهزاء والسخرية؛ لأن الاستهزاء يميع النفس، فلا تتجه إلى طلب المعرفة، وتحري الصواب، ولقد كان الاستهزاء شأن المشركين في لقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا قوله تعالى: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُروًا)، (إن) هي النافية، والمعنى لَا يتخذونك في اللقاء إلا هزوا، أي إلا مستهزئين منك، غير مقبلين على دعوتك، ولا على شخصك بتعرف ما عندك من قول، والنفي والإثبات بالاستثناء مفيد لاستغراق الاستهزاء كل أحوالهم، فليس عندهم في نفوسهم فراغ لسماع الحق، والإنصات إليه في جد وإقبال، وإنهم إذ يرون النبي - صلى الله عليه وسلم - رءوفا بهم لَا يريد إغباتهم متواضعا، وادعًا تغريهم هذه الرؤية بأن يجعلوا هذه الصفات العليا موضع استهزاء (أَهَذَا الَّذِي يَذْكر آلِهَتَكُمْ) وقد ابتدوا في عباراتهم عن كلامهم ذكر الآلهة بسوء، فقالوا: يذكرها، وأنَّى يكون له أن يعلو إلى ذكرها فضلا عن تسفيه أحلامهم في عبادتها، وهذا استفهام للتعجب والاستهزاء والسخرية، وذلك كقول الله تعالى عنهم: (وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42).
و (يَذْكر آلِهَتَكمْ) فيها معنى إعلاء آلهتهم، وتصغير شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومثلهم كمثل فرعون من موسى (. . . هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ)، فهو استفهام للتعجب والاستغراب من أن هذا للتواضع، والتواضع عند أهل الفساد ضعة، لأن مقياس الخير والشر عندهم القوة، وقاعدتهم: من لَا يظلم الناس يُظلم.(9/4862)
(وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كافِرُونَ)، و (بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ) أي تذكير الرحمن لهم فهو من إضافة المصدر إلى فاعله (كَافِرُونَ) أي جاحدون، وهنا أمران يجب الإشارة إليهما:
أولهما - تقديم (بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ) على (كَافِرُونَ) وهو يدل على التخصيص، أي هم بذكر الرحمن وحده كافرون فهم كافرون بالوحدانية.
الأمر الثاني - ذكر الله تعالى موصوفا بصفة الرحمن، وفي ذلك إشارة إلى أن بعث الرسل وخصوصا محمدا - صلى الله عليه وسلم - هو من الرحمة، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، ونقول: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن مهينا، وإن كان متواضعا وديعا، متطامنا موطأ الكنف ولكنه كان ذا هيبة إذا اشتدت سخريتهم، يروي عبد الله بن عمرو بن العاص عن يوم من أشد الأيام التي لقيها النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يطوف بالبيت والملأ من قريش بفناء البيت، فكان إذ مر بهم وهو يطوف غمزوا بالقول، فبدا أثر ذلك في وجه النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى إذا أتم الطواف التفت إليهم وقال: " شاهت هذه الوجوه، وأرغم الله هذه المعاطس، يا معشر قريش لقد جئت بالذبح "، فما كان إلا من يقول يرفؤه بأحسن القول، ويقول: اذهب أبا القاسم موفورا ما علمنا عنك إلا خيرا (1) فكان عليه السلام مهيبا، ولم يكن مهينا، ولكن تطامن ليدخل الناس في الدعوة مختارين اختيارا كاملا لا رهبة فيه.
________
(1) رواه أحمد: مسند عبد الله بن عمر بن العاص (7016)، وابن حبان في صحيحه (6453) 6/ 1 20، وراجع مجمع الزوائد، والبداية والنهاية - فصل في أشد ما صنعه مشركو قريش برسول الله 3/ 178، وتاريخ الطبري 1/ 873.(9/4863)
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
(خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
العَجَل هو العَجَلة والتسرع والسبق إلى مخاطر الأمور من غير تفكير، ومعنى أنه خلق مِنْ عَجَلٍ، المبالغة في عجلته كما يقال خلق من كرم مبالغة في الكرم،(9/4863)
وكما قال تعالى (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً)، وقوله تعالى: (خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَل) نظيره ومؤداه (. . . وَكانَ الإِنسَانُ عَجولاً)، وهذا التعبير فيه تأكيد في عجلته، وكأنَّه يكون من عجلة، وهذا كناية عن استعجاله للأمور، وفيه مجاز بتشبيه في عجلته وكونها طبعا له غير منفصل عن ذاته بأنه خلق منها طبعا له لَا تنفصل عنه، وهم يستعجلون دائما ما أوعد من عذاب، كما قال: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ. . .)، فهم يستعجلون العذاب كأنهم يتحدون الله، والله أمهلهم لحكمة يعلمها، وكل شيء عنده بمقدار، وإذا كانوا يتحدون مستعجلين فالله تعالى ينذرهم ويخبرهم بأنه آتيهم لَا ريب فيه، ويقول سبحانه: (سَأُرِيكمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) الآيات هي آيات القدرة والقهر بالنذر التي تومئ، بغلبة محمد - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن به، وبالريح العاصف التي غَلَب بها محمد - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر، هذه آيات بينات على ما ينزل بالكافرين لكفرهم ونصرة الحق عليهم، و " السين " هنا لتأكيد الفعل في المستقبل، وإسناد الفعل إلى الله تعالى فيه تأكيد الوقوع، ورؤيتهم لهذه الآيات هي رؤية معاينة لَا رؤية علم ونظر فقط (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) أي لَا تطلبون العجلة من أمر هو واقع فيكم لَا محالة، واستأنوا فإن ما تطلبون نازل.
وذكر سبحانه من استعجالهم قوله:(9/4864)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
أي يقولون مستعجلين وعد الله تعالى بالهلاك إن استمروا على كفرهم، ووعد الله المؤمنين بالغلب والقدرة، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشرك هي السفلى، يقولون ذلك إنكارا وتحديا وإعناتا؛ لأنهم مأسورون بالحاضر لا يدركون شيئا وراءه، فهم لَا يتصورون أن يكون هؤلاء الضعاف الذين يستذلونهم ويفرضون عليهم الذل ويؤذونهم سيكون لهم الغلب يوما من الأيام، لَا يتصورون أن يجلس عبد الله بن مسعود فوق أبي جهل ويحز رقبته، وأن يقتل بلال من كان سيدا له في مكة، وهو من سادات قريش، لَا يتصورون ويستبعدون أيضا عذاب(9/4864)
يوم القيامة لهم دون المؤمنين، ويظنون أنه إن كان بعث أو عذاب فلن يكونوا هم وقودها، بل يقيسون الآخرة على الدنيا، ويبلغ بهم التحدي بعد استطالتهم أمد العذاب فيقولون: (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) والمخاطب محمد - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه الكرام، أو المخاطب الدعاة إلى الله من رسل وأتباعهم، ويتهجمون، ويتحدون الله ولكنهم ضالون، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
* * *
هول يوم القيامة
(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
* * *(9/4865)
استطالوا الزمن واستعجلوا العذاب، وتحدوا الله ورسوله أن يأتوا بالعذاب إن كانوا صادقين فبين الله تعالى هوله إذا جاءهم وأنه لَا يأتيهم يوم القيامة إلا بغتة، وأنه بعده عذاب لَا يتصورونه ولا يدركونه، وإن المشركين كانوا يتحدون الرسول أن يأتي بما وعد به من عذاب إن كان صادقا، فبين سبحانه أن ذلك التحدي من جهلهم، ثم بين مآلهم من عذاب يلقونه، وأن القيامة التي يكون وراءها العذاب تأتيهم بغتة وذكر العذاب قبل القيامة مع أنه بعدها وبعد الحساب فقال:(9/4866)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39)
(لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ) أي يحيط بهم، وذكر الوجه والظهر لأنه إذا أحاط بهما أحاط بالجانبين لَا محالة فلا يصل إلى الظهر إلا إذا أحاط بالشمال واليمين، فالنار تحيط بهم، ولا يستطيعوا كفها وذلك العجز عن كفها لأنه يقتضي الإحاطة بهم، كما قال تعالى: (لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ. . .)، وكما قال تعالى: (سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَان وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ)، وكما قال تعالى: (لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ منَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ. . .).
و (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) العلم هنا بمعنى المعرفة، وهي الجزم المطابق للواقع، وعبر بالمضارع لتصوير حالهم عندما يعاينون العذاب، وينزل بهم العذاب الشديد، وجواب الشرط محذوف يدل على عظيم الهول وتقديره لرأوا هولا لم يدركوا كنهه، ولم يعرفوا أمره، كما في قوله تعالى: (. . . وَلَوْ يَرى الَّذينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ. . .)، وعبر تعالى بقوله: (الَّذِينَ كَفَرُوا) للإشارة إلى أن الكفر هو سبب ذلك الهوان العظيم، (وَلا هُمْ يُنصَرُونَ) أي أن العذاب ينزل بهم لا يستطيعون كفه ولا يوجد من ينصرهم، ويكف عنهم، هذا ما يستعجلونه، ويتحدون أن يكون، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تحدوا أن يذكر لهم متى هذا الوعد، وهو يوم القيامة، وقد بادر سبحانه بذكر ما يكون لهم في هذه مما لَا يسوغ لهم أن يستعجلوه، ثم ذكر لهم أنه لَا يأتي في وقت معلوم، بل يأتي فجأة فقال:(9/4866)
بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
(بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
البغتة المفاجأة التي لَا تكون منتظرة، ويكون وقعها شديدا، والبَهْت المجيء الذي يكون فيه دهشة وتحير، قال تعالى: (. . . فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ. . .)، أي شدة وتحير، ويطلق البهت على الكذب الذي لَا أصل له، ويحير العقول المستقيمة، وتكون كل الظواهر مناقضة كما قال تعالى في رمي أم المؤمنين عائشة: (. . . هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ).
و (بَلْ) هنا للإضراب الانتقالي وتضمن الرد على طالبي ميعاد للوعد، وقد استبطأوه، والمعنى بل تأتيكم بغتة أي فجأة على غير ترقب وتوقع وانتظار منكم (فَتَبْهَتُهُمْ) أي تفاجئهم فتدهشهم وتحيرهم، وتحيط بهم (فَلا يَسْتَطِيعونَ رَدَّهَا) أي لا يستطيعون دفعها، بل إنها الواقعة التي لا مناص منها، ولا خلاص ولا انفكاك عنها، (وَلا هُمْ يُنظَرُونَ) لَا يمهلون، فلا يستطيعون تأجيلها فهي محدودة، بميقات معلوم عند الله سبحانه وتعالى.
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا عرض عليهم الدعوة إلى التوحيد ردوها، وإذا مَرّ بهم استهزأوا ساخرين، وإذا رأوه استصغروه، وهو القوي، فواساه الله تعالى بذكر أن الاستهزاء شأن الكافرين، وهو دليل عجزهم، وإن استطالوا بألسنتهم وأفعالهم.
ولذا قال تعالى:(9/4867)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (41)
أكد الله سبحانه وهو الصادق في كل قول، ولا يحتاج إلى توكيد قول، ولكنه أكد لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحزنه أن يستهزئ ناس بنبيهم الذي جاء لهدايتهم، ولأن الوحدانية حق لَا يستهزأ منه، وعبادتهم الأوثان هي الجديرة بالاستهزاء والسخوية، فأكد سبحانه لمواساة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وليوقع في نفسه عليه الصلاة والسلام بأن دعوة الحق لَا يعارضها ناس فضلاء، ومن طبيعة الأخساء أن يهبطوا في خصومتهم إلى دركة الاستهزاء، فقال: (وَلَقَدِ استهْزِئَ بِرُسُل مِّن قَبْلِكَ) أكد سبحانه استهزاء السابقين بـ " اللام " و " قد "، ونكرت (رسل) لكثرتهم ومقامهم من الله، أي رسل(9/4867)
كثيرون لهم مكانتهم عند الله وفي أقوامهم، والحق يسخر منه أهل الباطل خصوصا إذا كان واضحا نيرا، والباطل حجته داحضة، ويشعرون بأنها ليست حجة، ومع ذلك يستمسكون بها اتباعا لأوهامهم، ولآبائهم وخضوعا لعادات وتقاليد فاسدة.
وإنهم محاسبون على استهزائهم، لقد حسبوه لغوا من الأقوال والأفعال، وهو عند الله عظيم؛ لأنه كفر وعناد وخسة، ولذلك كان له عقابه في الدنيا والآخرة، وقال تعالى: (فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِروا مِنْهُم مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءونَ).
" الفاء " تدل على أن ما بعدها مسبَّب لما قبلها، وقد صرح بهذه السببية، فخص سبحانه وتعالى نزول العذاب أو العقاب بالذين سخروا منهم، فذكر الموصول دليل على أن الصلة سبب الحكم، وكان الإظهار في مقام الإضمار، لبيان هذه السببية، و (حاق) معناها نزل بهم وأصابهم، وقد خص الساخرين بعقاب خاص لأنهم في معارضتهم بهذا النوع من المعارضة كانوا أخساء في ذات أنفسهم، فمن ذا الذي يجعل أبا جهل في معارضته للإيمان كأبي سفيان، فالأول خسيس والثاني فيه شرف، ولقد قال وهرقل يسأله عن محمد بن عبد الله: لولا أني أخشى أن تحفظ عني كذبة في العرب لكذبت.
وقال تعالى: (فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِروا مِنْهُم مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) والمراد عذاب الاستهزاء لَا ذات الاستهزاء، ولكنه سبحانه عبر بأن الاستهزاء ذاته هو الذي يحيق للإشارة إلى الجزاء وفاق للجريمة فهو هي؛ لبيان المساواة العادلة، و (مَا) في قوله (مَا كانُوأ يَسْتَهْزِءونَ) مصدرية، أي استهزاءهم.
والجزاء الذي ينزل بهم هلاك في الدنيا، وقد جاء قصص القرآن بهلاكهم في آيات كثيرة، وعذاب أليم في الآخرة.
وإن الله تعالى يذكرهم بنعمة الله تعالى في حياتهم الخاصة والعامة التي تحوطهم، ولا يشعرون بها، بل يكفرونها.
(قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)(9/4868)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
هنا التفات، فقد كان الكلام في استهزاء المشركين بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واستهزاء من كانوا قبلهم بالأنبياء السابقين، ثم التفت القول إلى المستهزِئين من قريش، وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم: (قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمنِ) أي قل يا رسول الله: من يحميكم ويبقيكم (مِنَ الرَّحمنِ) أي من عذابه وعقابه الدنيوي، والكلاءة بكسر الكاف مصدر كلأ هي الحماية والتبقية، وقد قال الأصفهاني في مفرداته: والكلاءة، حفظ الشيء وتبقيته يقال كلأك الله وبلغ بك أكلأ العمر.
والنص السامي يفيد أمورا ثلاثة:
أولها - بيان نعمة الله تعالى عليهم في حفظهم وتبقيتهم مع عظيم جرائمهم في مأوى يسكنون فيه، ويقيهم الحر والبرد، ويمدهم بالغذاء والكساء لحفظ أنفسهم من الموت. ولتبقيتهم إلى أن يقضي أمرا كان مفعولا، فهم في كلاءة الله تعالى المستمرة حتى ينزل بهم ما هم أهل له.
الثاني - ما يضمنه من إنذار شديد لهم، وأن الله تعالى الذي كلأهم هو مسيطر عليهم منزل بهم ما يستحقون، فهو يمهل ولا يهمل.
الثالث - أن هذه الوقاية من الرحمن أي عذابه، ووصف سبحانه ذاته العلية بالرحمن، للإشارة إلى أن نزول العذاب بهم بعد هذا الاستهزاء من دواعي رحمته؛ لأن عذاب المجرمين من الرحمة، لأنه إذا كان عذابا للفجار فهو رحمة بالأبرار، فمن الرحمة ألا يسوى بين المحسن والمسيء. (بَلْ هُمْ عَن ذِكرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ) الإضراب هنا إضراب انتقالي من وصف إلى وصف للمشركين، فهم يستهزئون ويجهلون ولا ينتبهون مع وجود المنبه المرشد الذي يرشدهم إلى ربهم، وبذكره لهم، وأثبت أنهم معرضون عن ذكر ربهم أي تذكره، فـ (ذِكرِ رَبِّهِم) من إضافة المصدر للمفعول، وهم في غفلة مستمرة عنه، مع أنه خالقهم وحافظهم وفي كل حياتهم ما يُذَكِّرهم، والجملة الاسمية مؤكدة لاستمرار الإعراض، وقلوبهم غلف لَا تفتح لذكره سبحانه وذكر آلائه ونعمه، وهنا أمران بيانيان:(9/4869)
أولهما - أن الله تعالى في ذكر نعمة الكلاءة من عذاب الرحمن، وقد ذكر الليل قبل النهار؛ لأن المفاجآت بالعذاب تكون فيه أكثر، ووقعها أشد، ولأن الليل حيث يكون الاطمئنان فالمباغتة تكون فيه أشد.
ثانيهما - أن الاستفهام هنا للتذكير والتنبيه، إلى ما هم فيه من نعم واقية، وإيجابية، والله تعالى أعلم.
إن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقيهم من العذاب الذي يستحقونه لَا آلهتهم؛ ولذا قال:(9/4870)
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
(أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
(أَمْ) هي أم المنقطعة، وهي تدل على الإضراب، وهمزتها للاستفهام، والمعنى بل ألهم آلهة. . والإضراب انتقالي من لوم إلى لوم، لامهم سبحانه على إنكارهم كلاءة الله تعالى لهم، ثم أنكر عليهم اتخاذهم آلهة يحسبون أنها تمنعهم من عذاب أو مما ينزل بالليل والنهار، والاستفهام المستفاد بـ " أم " بمعنى " بل " لهم آلهة، استفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع، وإنكار الواقع تانيب ولوم، فقوله: (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُوننَا) إنكار لما يعتقدون من أن آلهتهم تمنعهم دون أن يمنعهم الله، ففوله: (مِّن دُوننَا) معناها غيرنا، ووصف الآلهة التي زعموها بوصف، ووصفهم بوصف، أما وصف آلهتهم فبفوله تعالى: (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ) أي أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا نصرا فكيف ينصرون غيرهم، وهم لَا يملكون لأنفسهم شيئا.
وكان الضمير على الأوثان ضمير العقلاء مجاراة لهم في عبادتهم، وليس اعترافا بأنها تعقل. الوصف الثاني، وصف المشركين، وهو قوله تعالى: (وَلا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ) أي يجارون، وهذا تفسير ابن عباس الذي رواه عنه مجاهد، واختارَه الطبري، ونحن نوافقه في هذا الاختيار، والمعنى على هذا لَا تنصرهم أوثانهم، والله لَا يصحبهم بجوار يمنعهم لأنهم مشركون، ولا جوار من الله لمن يشرك به ولا يعبده وحده.
ولقد أشار سبحانه إلى السبب في إصرارهم على الشرك، ومعاندتهم لدعوة التوحيد، فقال عز من قائل:(9/4870)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
(بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)
هذا إضراب انتقالي من بيان إلى بيان، فبين تعالى حمايتهم من أن يأتيهم العذاب بغتة، وأن آلهتهم لَا تغني عنهم من الله من شيء، ثم انتقل سبحانه إلى بيان لبعض ما تأدى بهم إلى الشرك والإصرار عليه، ومعاندة الأنبياء بعامة، ورسولهم محمد - صلى الله عليه وسلم - بخاصة فقال: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) أي متع الله سبحانه هؤلاء وكانت متعتهم امتدادا لما متع به آباءهم من قبلهم، متعهم أولا بسلطان في البلاد العربية، وإن لم يكن ملكا، بل كانوا نفوذا أشبه بالملك، ومتعهم ثانيا بأن كانت إقامتهم في بيت الله الحرام، وهم آمنون ويتخطف الناس من حولهم، ومتعهم ثالثا بأن كانت لهم متاجر تسير في البلاد العربية من شمالها إلى جنوبها، ومتعهم رابعا بأن كانوا رؤساء الحج في أيديهم السدانة والسقاية، ومفتاح الكعبة التي كان يؤمها الناس من كل فج عميق، ومتعهم خامسا بأن في أيدي الكثيرين منهم المال والبنين وأنهم أكثر نفيرا.
متعوا بكل ذلك، والمتعة من غير إيمان تُغري بالشر، واستمرارها يؤدي إلى طمس النفس عن المعارف الدينية، ولقد كانت هذه المتع تتسلسل فيها الأبناء عن الآباء؛ ولذا قال تعالى: (بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ)، و (بَلْ) هنا للإضراب الانتقالي، بأن انتقل من المظاهر التي بدت في شركهم وإعراضهم عن الله تعالى إلى بيان الحال النفسية التي كانوا عليها حتى أغرتهم بالتطاول على الله وعلى الحق، وسيطرت عليهم الأوهام، وتوارثوها جيلا بعد جيل حتى تحجرت عليها قلوبهم، وصارت قلوبهم غلفا، وصاروا صما عن سماع الحق بكما عن النطق به وركبتهم الطغواء، حتى صاروا لَا يرون ما هو واقع، ولا يتوقعون إلا ما يتفق مع أهوائهم، ولا يعرفون أن الأمور التي استكنها الغيب لهم لَا ترضيهم؛ ولذا قال تعالى: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا).
" الفاء " مؤخرة عن تقديم، وهي تدل على أن ما قبلها سبب لما بعدها، والمعنى فألا يرون أن الأرض تنقص عليهم من أطرافها، والسورة مكية، ولم يكن الجهاد قد قام، واشتجرت السيوف وسار الإسلام من نصر إلى نصر حتى أحيط بهم. وأسند(9/4871)
الإتيان إلى الله تعالى في قوله (نَأتِي الأَرْضَ) للإشارة إلى أن ذلك لإرادة الله تعالى الذي ينصر من يشاء ويعز من يشاء، وإذا كان الله تعالى هو يأتي الأرض ينقصها من أطرافها، فإن جنده هم الغالبون؛ ولذلك كان الاستفهام الإنكاري في قوله تعالى: (أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ) " الفاء " فاء الإفصاح عن شرط مقدر، تقديره إذا كان الله هو الذي ينقص الأرض من أطرافها فأهم الغالبون، و " الفاء " مؤخرة عن تقديم، أي ليسوا هم الغالبين، وقد أكد النفي المفهوم من الاستفهام. وهذه الآية في معناها ظاهرها أنها نزلت بالمدينة، وإن التمتع لهم ولآبائهم يجعلها أقرب إلى أن تكون مكية، ولعلها نزلت بمكة، ثم نزلت مرة أخرى بالمدينة، وقد جوز العلماء ذلك.
* * *
تلقي الكفار للرسالات
(قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
* * *
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى الإنذارات في الآيات السابقة بين سبحانه أن الإنذار بوحي من الله، وأنه ليس من عند محمد الذي يستهزئون به، إنما هو من عند الله خالق السماوات والأرض، الذي يلجأون إليه عندما يحاط بهم ويضرعون إليه إذا مسهم الضر، ومن كان ملجأ لهم في شدائد هو منزل العذاب في كفرهم، ولذا قال تعالى:(9/4872)
قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
(قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - يأمره سبحانه بأن يقول لهم (إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْي)، (إِنَّمَا) أداة للقصر، والمعنى لَا أنذركم إلا بوحي من الله تعالى، فلا أنذركم من عندي، إنما أنذركم من عند الله تعالى، وإن ذلك يوجب عليكم ألا تستهزئوا بالإنذار، لأنكم لَا تستهزئون بي إنما تستهزئون بالله العلي العظيم الذي تلجأون إليه في شدائدكم في البر والبحر، وفي ذلك توكيد للإنذار؛ لأنه صادر عن الله تعالى، والله لَا يخلف الميعاد.
ثم بين سبحانه وتعالى إذ لَا يسمعون النذر يكونون كالصم إذا ما ينذرون، فشبه الله تعالى المشركين عند سماع النذر بالصم؛ لأن كلاهما لَا يسمع، فالصم في الآية هم المشركون، وهم لَا يسمعون إذا أنذروا، والصم جمع أصم والمراد بهم المشركون بالله، والمعنى لَا يسمع المشركون الذين شبهوا بالصم لعدم السماع في كل ما ينذرون و (مَا) لتأكيد الشرطية في الشرط.
والدعاء: النداء بصوت عال قوي مرتفع صادع، والمشركون لَا تجدي فيهم النذر، وهي من عند الله تعالى العلي القدير، الحكيم العليم.
ومع أنهم يصمون آذانهم عن النذر هم في أشد الهلع والفزع إذا عاينوا العذاب، أو جاءتهم منه نفحة، ولذا قال تعالى:(9/4873)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)
اللام الموطئة للقسم، والنفحة الريح الطيبة، وتستعمل للخير، وقد تستعمل للشر كما هنا بدليل قوله تعالى: (نَفْحَةٌ منْ عَذَابِ رَبِّكَ)، والمعنى أنهم صم عند النذر، ما دامت قولا منذرا، ولو كان وحيا من الله تعالى، فإذا رأوا الفعل، ولو كان نفحة من ريح فيها عذاب اضطربوا وهلعوا وفزعوا، فلا يؤمنون بالنذر حتى يروا العذاب الأليم، و (مَّسَّتْهُمْ) معناها أصابتهم إصابة حقيقية (مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ)(9/4873)
أدركوا هول العذاب وكان إدراك معنى الإنذار، وأجابوا كما قال الله تعالى (يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) أي أنهم إذا أصابتهم نفحة قليلة من العذاب يفزعون، وينادون بالويل والعذاب والهلاك يقولون يا ويلنا أقبل فهذا وقتك، ويدركون ظلمهم، ويؤكدونه فيقولون: (إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)، فقد أكدوا ظلمهم بثلاثة مؤكدات: بوصفهم بالظلم أولا، وبـ " إن! " المؤكدة ثانيا، وبـ " كان " الدالة على ظلمهم المستمر ثالثا، ولقد قال الزمخشري في معنى هذه الآية: " ولئن مستهم في هذا الذي ينذرون به أدنى شيء لأذعنوا وذلوا وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصافُوا وأعرضوا، وفى المس والنفحة ثلاث مبالغات، لأن النفحة في معنى القلة والنزارة، يقال نفحته الدابة وهو رمح يسير، ونفحه بعطية؛ رضخه، ولبناء المرة " (1).
ونقول إن المس إصابة غير غامرة، بل هو لمسة.
وظلمهم هو ظلم لأنفسهم، وبشركهم، وبفسادهم، وبإعناتهم للرسل وصدهم عن سبيل الله تعالى، وإن ذكر هذه النفحة من العذاب تمهيد لذكر القيامة، وما يكون فيه من عذاب الجحيم؛ ولذا قال تعالى:
________
(1) تفسير الكشاف: 2/ 574.(9/4874)
وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
هذا بيان لحساب يوم القيامة، وأنه لَا يذهب منه صغيرة ولا كبيرة إلا كانت موضع حساب، وستجزى كل نفس ما كسبت إن صغيرا وإن كبيرا، وإن خيرا، وإن شرا.
وقوله تعالى: (لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ " اللام " هنا بمعنى " في "، كقول القائل فعلته لخمس خلون من ذي الحجة، أو جاهدت لعشر خلون من رمضان، وبعضهم قدر(9/4874)
مضافا محذوفا، أي لأهل يوم القيامة، والأول أوضح وأبين، ووضع الميزان في قوله تعالى: (الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ) هو وضع معنوي، أي رصدنا الأعمال رصدا وحسبناها حسابا بخيرها وشرها، للإنسان أو عليه، ويصح أن يكون هناك ميزان محسوس يوم القيامة توزن به الأعمال، ولكنا نميل إلى التفسير الأول، ولقد ذكر ابن عباس أن كل ما يكون يوم القيامة هو من جنس مثله في الدنيا، ولكنه غيره، وذكره تقريب للعقول، ولا مانع أن يكون محسوسا، ولكنه غير الموازين التي نراها في الدنيا، وذكرها تقريب لما عندنا، والله أعلم.
ووزن الأعمال يكون بما هو مذكور في كل كتاب للمكلف، فتوزن صحائفه في خيره وفي شره، أو تكون الأعمال في علم الله في كتاب، لَا يضل ربي ولا ينسى سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: (الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ) أي الموازين التي هي القسط، وهو العدل، وفى هذا مبالغة في وصف الموازين بالعدالة، كأنها العدالة ذاتها، لَا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
ولقد قال تعالى: (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا) إن كان العمل صغيرا يساوي وزنه وزن مثقال حبة من خردل، أي كان الوزن في ذاته قليلا، وكان الموزون في ذاته ليس ذا خطر وشأن فإنه يُؤتى به ويحاسب عليه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ولا يغيب عن علم الله تعالى شيء، ولا عن الحساب شيء من غير جزاء، ولقد حكى سبحانه في وصية لقمان لابنه: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16).
وإن المحاسب هو الله الذي يعلم كل شيء؛ ولذا قال تعالى: (وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) أي وكنا حاسبين فلا حساب بعد حساب الله ولا أدق منه ولا أعدل.
* * *(9/4875)
من قصة موسى وإبراهيم
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ(9/4876)
هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
* * *
هاتان قصتان لاثنين من الرسل، قصة موسى وهارون وهما كرسول واحد، وقصة إبراهيم أبي الأنبياء، ويلاحظ:
أولا - أنه ليس فيهما تكرار لما ذكر منهما في سور أخرى وآيات أخر، فقصة موسى وأخيه هارون تكلمت الآيات الكريمات فيهما بإشارة لامحة لَا تفصيل فيها، وقصة إبراهيم كانت في تحطيمه للأنصام والكيد لعبدتها، ومحاولة إحراقه بالنار، ومعجزة الله تعالى في أن أطفأها وقال لها: (. . . كونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)، وذلك لم يذكر من قبل ولا من بعد، فدل هذا أنه لَا تكرار في قصص القرآن، وإن بدا لمن لَا يمحصون الحقائق غير ذلك.
ثانيا - أنه سبحانه ذكر قصة موسى عليه السلام قبل قصة إبراهيم مع أنه جده الأعلى، وذلك لأنه صاحب شريعة دونت في كتاب، وأنه أتى بهذا الكتاب وأخذ به حتى في النصرانية التي جاءت من بعده، والقرآن ليس كتاب تاريخ حتى(9/4877)
ترتب أخباره ترتيبا زمنيا، كترتيب كتب التاريخ، إنما قصصه عبرة وذكرى لأولى الألباب، وإنما تذكر بمواضع العبرة، ومواطن الموعظة.
ثالثا - أنه كان تفصيل في قصة إبراهيم عليه السلام، لأنه أبو العرب الذي كانوا يعتزون ويفتخرون به، ويقولون إنهم ضئضئ (1) إبراهيم وإسماعيل، وهم كانوا يعبدون الأوثان، كما كان الذين بعث فيهم إبراهيم يعبدونها هم وآباؤهم، وإن إبراهيم عليه السلام أثبت بالعمل أنهم لَا يضرون، ولا يدفعون عن أنفسهم ضررا.
________
(1) الضئْضئ والضؤضُؤُ: الأصل والمَعْدِنُ - لسان العرب - ضأضأ.(9/4878)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
" الواو " واصلة ما بعدها بما قبلها، (آتَيْنَا) أي أعطيناه ومكناه منه، و (الْفرْقَانَ) هو التوراة لأنها فرقت بين الحق والباطل، وبين قوم ليس لهم سلطان وقانون يحكمهم في ماضيهم وأن صاروا من بعدها لهم قانون يحكمهم وسلطانهم من أنفسهم، كما قال تعالى منعما عليهم: (. . . وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا. . .)، أي مستقلين سلطانكم من أنفسكم.
وقال بعضهم: إن الفرقان هو نجاتهم في البحر، إذ فرق الله البحر فصار كل فرق كالطود العظيم، وفي الحق: إن الفرقان يشمل بعمومه كل فارق بين أمرين، فآتاه الله تعالى أن انفلق البحر بعصاه، وأخرج بني إسرائيل من الذل والهوان إلى العزة والقوة، وأن يطبقوها، ويتحملوا واجباتها وتبعاتها حتى اضطر موسى لأن يتركهم يتيهون في الأرض أربعين سنة ليتعودوا حياة الباس والقوة، ومهما يكن فإن الله تعالى آتى موسى كل ذلك، ولعل ذلك هو السر في قوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا موسَى وَهَارُونَ الْفرْقَانَ) ولم يقل تعالى: " وأنزلنا الفرقان " وقال: (وَضِيَاءً وَذكْرًا لِلْمتَّقِينَ) الضياء النور الهادي المرشد، وهو هنا المعجزات التسع التي بعث اللَّه تعالى موسى عليه السلام بها، والتعبير عنها بالضياء من قبيل الاستعارة فشبهت بالضياء، لأنها مرشدة هادية معرّفة كالضياء وهي نور، وهي ذات الضياء، وسماها سبحانه وتعالى (ذِكْرًا) لأنها مذكرة بالحق دائما، ولكن بشرط أن تكون قلوب متفتحة للحق، ولذا(9/4878)
قال تعالى: (لِلْمُتَّقِينَ) أي الذين امتلأت قلوبهم بالتقوى ومخافة الله سبحانه وتعالى، ولذا قال في أوصافهم:(9/4879)
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)
وصفهم الله تعالى بوصفين أولهما: أنهم يخشونه، أي يخافونه معظمين له مؤمنين بألوهيته مصدقين لكل ما يأمر به، طائعين لأوامره ونواهيه، ووصف الله الذين يخشونه بأنه ربهم الذي خلقهم وربّهم وهو القائم على شئونهم، ويخشونه وهو غائب عنهم، علموه بالعقل والنقل فهم يعبدونه كأنهم يرونه وهذا هو الإحسان في العبادة، وهو حقيقة الخشية.
الوصف الثاني: أنهم يعرفون أن الله تعالى لم يخلق الناس عبثا، بل لهم بعث وحساب وعقاب، وهم يستشعرون الخوف من نتيجة الحساب؛ ولذا قال تعالى: (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) أي والثواب، فهم يغلبون الخوف على الرجاء، والساعة هي يوم القيامة، وعبر بالساعة؛ لأنها ساعة شديدة، فهم يخافون الحساب لأنهم يستصغرون حسناتهم ويستكثرون سيئاتهم.
هذا شأن الفرقان الذي آتى الله موسى فيه تذكير للمتقين الذين لهم هذه الأوصاف، ولم يكن بنو إسرائيل على تلك الأوصاف، ولكنه مع ذلك ضياء وذكر للمتقين الذين ربما يوجدون من بعدهم حتى جاء محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى القرآن فقال:(9/4879)
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
(وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
وسَّط الله سبحانه بين قصة موسى وهارون، وقصة إبراهيم حاطم الأوثان بالإشارة إلى القرآن ومحمد - صلى الله عليه وسلم -، الذي أزال الأوثان من البلاد العربية؛ لأن القرآن أكمل كتاب للشرائع التي فصلت بعضها التوراة، ونسخ القرآن بعضها، فأخذ شرعه من شرع موسى بعضه، ولكنه خالد دائم لَا يعروه نسخ ولا تبديل، ولأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أزال دولة الأوثان في مستقرها.(9/4879)
و (هَذَا) الإشارة إلى القرآن الذي يسمعون تلاوته، ويتحداهم أن يأتوا بمثله فيعجزون، ويتحدى الخليقة كلها أن تأتي بمثله فلا تستطيع.
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88).
والإشارة تتضمن كل ما فيه رأوه متلوا، وعلموه معجزا، وعاينوا آثاره في إيمان المؤمنين، وقد عرَّفه الله تعالى بأنه ذِكرٌ مبَارَك، أي مذكر بالعذاب والثواب، وفيه تذكير بالله تعالى إذا امتلأت القلوب به كان فيها ذكر دائم، وبه تطمئن القلوب، وتذهب الوساوس، ولا تضطرب، ولا تفزع ولا تهلع ولا تجزع، ووصفه سبحانه بأنه مُبَارَك، البركة: الخير الدائم المستمر الكثير الخيرات، ووصف القرآن بذلك أولا لأنه دائم بالخير والثمرات المرشدة ما دامت السماوات والأرض، وهو خالد بخلود خاتم النبيين، ولأنه قد اشتمل على كل شيء يتعلق بالمواعظ والهداية، ولأنه مشتمل على الشريعة الباقية إلى يوم القيامة.
وقد رأى العرب المدركون فيه كل ذلك، ولكن المعاندون لم يدركوه؛ لأنه طمس على قلوبهم ولقد قال تعالى من بعد: (أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) " الفاء " ترتب الاستفهام الدال على استنكار الواقع وهو عدم الإيمان في الوقت الذي كان يجب الإيمان به، والفاء مقدم عن تأخير لأن الاستفهام له الصدارة، والتقدير؛ فأأنتم له منكرون، أي أنه يترتب على هذه الحقيقة الثابتة للقرآن، وهو مذكر ومبارك سؤالهم أأنتم له منكرون، وقلنا إن الاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، فالثابت أنهم منكرون، وتلك جريمة عقلية وهو جحود بما قام الدليل عليه وإشواك، حيث قام الدليل على التوحيد، وإنكار لمعجزة القرآن حيث عجزوا عن الإتيان بمثله.
* * *
قصة إبراهيم
اختص هذا الجزء من قصة إبراهيم عليه السلام بمجابهته لقومه، وحطمه أوثانهم ويظهر أنه كان في شبابه الباكر أو في أول بعثته، ولا ندري على وجه التحديد كم كان سنه.(9/4880)
قال تعالى:(9/4881)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
(وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51)
أكد سبحانه وتعالى ما آتاه لإبراهيم، بـ " اللام " و " قد "، والرشد هو العلم والإدراك والنفاذ إلى الحقائق كما رأينا تعرفه لله تعالى في وسط الجهالة التي كانت غمامة على العقول منعتها من الإدراك السليم، وكيف تعرَّف في نجم فرآه قد أفل، ثم في القمر فرآه أيضا أفل، ثم رأى الشمس بازغة، فقال هذا حتى انتهى إلى الوحدانية.
هذا كله رشد وإدراك سليم انتهى إلى الإدراك الكامل لمعنى الألوهية المنزهة عن المشابهة للحوادث في أفولها وظهورها، وفي فنائها وبقائها.
وقوله: (مِن قَبْلُ) أي من قبل موسى عليه السلام، وهو أسبق منه، وكان تقديمه لما ذكرنا من أنه جاء بشريعة مفصلة وإن نسخ بعضها وبقي الآخر، وقوله تعالى: (وَكنَّا بِهِ عَالِمِينَ) أي عالمين كيف ربيناه، وكيف صنع على أعيننا، وربينا فيه روح الحق وتتبعه والوصول إليه.
وبعد أن بعثه الله تعالى تقدم لمجاهدة أبيه وقومه المشركين، ابتدأت المجاهدة بقوله:(9/4881)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
(إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)
" إذ " هنا للوقت الماضي، وهي مفعول لفعل محذوف تقديره " اذكر "، والخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - والمعنى اذكر لقومك من مشركي العرب الذين يفخرون به نسبا، ويدعون اتباعه كيف جاهد قومه في هذا الشرك، وذكر أباه لأنه داع للحق، وداعي الحق لَا يفرق في دعوته بين قريب وغيره، بل يبتدئ بالقريب لأنه أقرب إجابة، ولأن الدعوة إلى الحق خير، فأولى به الداني، وإبراهيم كان أبوه دانيا إلى قلبه وذكر بعد أبيه قومه، ومما قاله لهم هو: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ) التماثيل جمع تمثال، وهو الصورة المجسمة للإنسان أو للحيوان، وأكثر ما يكون الآلهة لصورة إنسان، وكانت التماثيل عند اليونان والرومان وكانوا يعبدونها أو(9/4881)
يسمونها آلهة، فيقولون إله الحب، وإله الزرع، وإله العدالة، والعكوف: الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له وعبادته.
والاستفهام منصب على سؤاله عن هذه الأصنام التي عكفوا عليها يعظمونها، ويعبدونها، وهو يتضمن أولا الاستهانة بها وتحقيرها بالإشارة؛ لأن الإشارة تتضمن أنها حجارة محسوسة لَا تضر ولا تنفع، ويتضمن ثانيا استنكار العكوف عليها وعبادتها، والاستفهام ليس عن الماهية، بل عن أوصافها، وتنبيه إلى أنها لَا تضر ولا مسوغ لعبادتها لأنها ليس فيها صفات الألوهية التي توجب العبادة.
لم يجيبوا عن سؤاله لأن ظاهره أنه يطالبهم بمسوغ للعبادة، وقد فروا من الإجابة المسوغة إلى قولهم:(9/4882)
قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)
(قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)
لم يجدوا مسوغا عقليا ولا نقليا إلا التقليد للآباء، كما قال المشركون لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: (. . . قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ)، أي أن المسوغ أنا وجدنا آباءنا لها عابدين، أي استمروا على عبادتها، وما استمروا عليه فهو حق، ولا دليل عندنا سوى ذلك، ودل النص على استمرار آبائهم بالوصف بـ (عَابِدِينَ)؛ لأنه دليل على استمرار عبادتهم لها وحدها، والدليل على استمرار عبادتهم لها وحدها تقديم الجار والمجرور على اسم الفاعل، وهذا الكلام يدل على أنهم لَا يعرفون الله، أو يعرفونه ويشركون معه هذه التماثيل من غير حجة ولا برهان.
وما كان لأبي الأنبياء أن يتركهم من غير أن يصف عبادتهم بالضلال، فقال:(9/4882)
قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)
(قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)
الضلال: السير في طريق لَا يعرف نهايته، وليس موصلا لغايته، وأطلق على السير في الباطل والوصول إلى مداه، فإنه تكون في مثارات مختلفة من مثارات الشيطان، و (مُّبِين) معناه: واضح، وكان واضحا لأنه لَا يستند إلى دليل علمي(9/4882)
ويناقض بدائه العقول؛ لأن المعبود يجب أن يكون أعلى وأقوى من عابده، فهل في تمثال قوة وعلو على الإنسان، فأي ضلال أبين من هذا وأضل عقلا وفكرا.
وأكد سبحانه على لسان إبراهيم ضلالهم بـ " اللام "، و " قد "، و " كان " الدالة على الدوام والاستمرار، وبضمير الفصل المؤكِّد، وإن إبراهيم جمع بين ضلالهم وضلال آبائهم، فكان جامعا بين ضلال المقلِّد والمقلَّد.
أجابوا عن ذلك الكلام الجاد بقولهم:(9/4883)
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)
(قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)
لقد استغرق الضلال قلوبهم، وسد مسامع الإدراك في أفكارهم، فحسبوا أن ذلك هو الحق وهو الضلال بعينه، قالوا مستفهمين (أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ) والاستفهام هنا بمعنى النفي، فهو لإنكار الوقوع، ومعناه: ما جئتنا بالحق، بل أنت من اللاعبين، و (أَمْ) للإضراب عن كلامه الحق إذ قد صمت آذانهم عنه، (أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) واستأنفوا كلاما جديدا، وحكموا بأنه من اللاعبين أي أنه يهزل بهذا الكلام، ولا يجدّ، ووصفوه بوصف مستمر وهو أنه من اللاعبين، ولصغره، حيث إنه كان بالنسبة لهم صغير السن، وقد أكدوا لعبه بالجملة الاسمية، وبـ " أنت "، وبإدخاله في صفوف الهازلين؛ لأنهم لَا يعيرون كلامه التفاتا، ولا يجعلون له غاية.
انتقل بهم خليل الله من مرتبة الاستنكار إلى مرتبة الإيجاب؛ لأن التخلية قبل التحلية، فبين لهم مَن الله الذي يعبده وتجب عبادته.(9/4883)
قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
(قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
(بَل) للإضراب والرد، وإبطال عبادتهم وبيان أن التماثيل ليست أربابا، بل الرب واحد وهو رب السماوات والأرض الذي قام عليهن، وربَّهما وهو الحي القيوم (الَّذِي فَطَرَهُنَّ) الذي خلقهن من عدم وأنشأهن في هذا الوجود، وعبر بقوله: (فَطَرَهُنَّ) بدل خلقهن للإشارة إلى أنه شق الأرض من السماء، أو شق الوجود كله(9/4883)
من وحدة كانت تجمعه، كما قال تعالى من قبل في هذه السورة: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، وقد ذكرنا هذا المعنى في هذه الآية.
وقد أكد - عليه السلام - أن هذا هو ربهم، وليست تلك التماثيل بأنه يعلم ذلك، ويؤكد لهم علمه فقال الخليل عليه السلام: (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) هذا تأكيد لعلمه بذلك وهو الثقة فيهم والمرشد الأمين عندهم وأنه لَا يكذبهم فيما يقول: (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) يلاحظ فيها أمور ثلاثة:
أولها - أنه قدم الجار والمجرور (عَلَى ذَلِكُم) على متعلقها (مِّنَ الشَّاهِدِينَ)؛ لأهمية هذه الشهادة.
ثانيها - التعبير بالجمع في الخطاب، لأن المخاطبين جمع لَا فرد، وكذلك كلما كان اسم الإشارة يخاطب به جمع، وإذا لم تكن كذلك بأن كان الخطاب للواحد لا تجيء الميم، وقد حسب بعض الكتاب أن الأمرين جائزان، وذلك غير صحيح، إنما تكون إذا كان المخاطب جمعا، وتكون فيما عدا ذلك من غير الميم؛ لأنه إذا لم يكن جمعا كان المخاطب محمدا - صلى الله عليه وسلم -.
والثالث - أن (مِّنَ الشَّاهِدِينَ) معناها من العالمين علما يشبه علم المشاهدة والمعاينة فالدليل عنده يثبت اليقين كالمعاينة التي يراها ويشهدها.
اعتزم بعد ذلك إبراهيم أن يثبت لهم بالعيان كالعلم الذي أوتيه بأن يحطم أوثانهم فلا ترد له كيدا، فقال:(9/4884)
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
(وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)
أراد أن يثبت لهم بالفعل أنها لَا تضر ولا تنفع غيرها، بل لَا تنفع نفسها، ولا تدفع عنها فأراد أن يكيد لها، أي يدبر لها أمرا لو فعل مع غيرها يضرها، فقال مقسما: (وَتَاللَّهِ لأَكيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُوا مُدْبِرِين) أي لأفعلن معهم ما يكون كيدًا للأحياء إذا توليتم مدبرين، أي إذا انصرفوا عنها وقد جعلوها وراء أدبارهم أي في غيبتهم عنها، أو نقول: الكيد لهؤلاء العابدين، ولكن موضع الكيد هو الأصنام(9/4884)
جعل كأن الكيد لها، وهو للعابدين، والتاء للقسم وكان القسم بالتاء لأنه مظهر أشد توثيقا، واللام لام القسم، وروي أن ذلك كان وهم ذاهبون لعيد لهم، روى ذلك ابن مسعود، وقلنا إن ذكر الأصنام وإرادة العابدين لها للإشارة كما ذكرنا إلى أنها لا تدفع عن نفسها، ولا قدرة لها، ومن يعبدونها، إنما يعبدون غير قادر لَا يملك من أمره شيئا، فكيف يملك لغيره أي شيء، والله على كل شيء قدير.(9/4885)
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
(فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)
" الفاء " مبينة نوع الكيد، والجذاذ: الفتات، من جذ بمعنى كسر، والجذاذ بالضم أفصح من الكسر، أي أخذ الفأس وأخذ يضرب، كما قال تعالى: (فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)، جعلهم إبراهيم عليه السلام فتاتا متكسرا، أي أزال هذه الصور وجعلها شيئا مطروحا تطؤه الأقدام (إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ)، أي كبيرا لهذه الأصنام (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) لعل الأصنام ترجع إليه، أو لعل الناس يرجعون إليه يسألونه عن بقية الحجارة التي صارت فتاتا متكسرا فما مآلها، وماذا أصابها، ويلاحظ أن الضمير كان يعاد دائما بضمير الجمع العاقل مجاراة لزعمهم الفاسد، وعندما عادوا ورأوا آلهتهم فتاتا متكسرا هالهم الأمر، وقوله: (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) تعبير للتهكم عليهم والسخرية بآلهتهم.(9/4885)
قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
(قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)
جزعوا وأحسوا بضعف آلهتهم وضعف عبادتهم لها، وأخذوا يسألون مستفهمين متعجبين هلعين (مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا) متحسرين على ما أصاب هذه التماثيل من الحطم والتفتيت وجعلها فتاتا متكسرا، وقالوا: (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) أكدوا ظلمه بـ إن وباللام، وبوصفه بأنه ظالم مؤكد ظلمه، معدود في عداد الظالمين متربٍ في بيتهم راضع من لبان الظلم متربٍ فيه.(9/4885)
تساءلوا فيما بينهم باحثين متعرفين حتى:(9/4886)
قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
(قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)
أي تقاولوا الأمر فيما بينهم حتى قال قائلون منهم (سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)، وعبر عن إبراهيم بقوله (فَتًى)؛ لأنه كان أقرب إلى الشباب والفتوة، و (يذكرهم) معناه يذكرهم بالاستنكار بعبادتها، وإنكار أن تكون آلهة، وأن الله هو وحده الرب الذي يعبد في السماوات والأرض؛ لأنه الذي خلقهم، وهو وحده المعبود، وفهم ذلك من " يذكر "، فإنه في هذا المقام الذي تجري فيه شبهة إتهامه بتكسيرها، وتحطيمها لابد أن يكون الذكر بغير ما يوافقهم في عبادتها؛ ولذلك اتجه الاتهام إليه، وأرادوا الإثبات.(9/4886)
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
(قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
كانت غيرتهم على آلهتهم شديدة أصابتهم فعلة إبراهيم بحسرة، ثم بلوعة، ثم بحب النقمة والتحفز بها، فاشتدت عزيمتهم على إنزال الأذى، فاجتمعت جموعهم وقالوا: (فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْينِ النَّاسِ)، اعرضوه على الأعين، لتركب صورته على عقولهم، وفوق أعينهم، وفي ذلك مجاز بتشبيه رؤيتهم المدققة المرددة كرتين بالشيء الذي ركب عليها لكيلا تنساه وتنزل في قلوبهم الحانقة الغاضبة (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) أي يحضرون ويشاهدوا جريمته في زعمهم، وينزلوا به من العذاب جزاء المعتدي على فعله الأثيم في زعمهم، وهو عين الحق عند الله، جيء به، وشاهدوه، وقالوا له:(9/4886)
قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)
(قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62)
سألوا إبراهيم عن نسبة الفعل إليه، ولم يسألوه عن الفعل ومبرراته، بل سألوه عن شخصه الفاعل؛ لأن الفعل رأوه، فلا حاجة إلى السؤال عن وقوعه، لأنهم عاينوه ورأوه، ولا عن مبرراته؛ لأنهم لَا يعلمون مبررا يسوغ تحطيمها، وهي المقدسة المعبودة في زعمهم، إنما كان السؤال عن الفاعل، ولذا تقدم ضمير الخطاب، لأن الاستفهام منصب عليه انصبابا، (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ)، والسؤال(9/4886)
يتضمن استفهاما وملاما واستنكارا للفعل؛ ولذا قرن باسم خليل الله تعالى، ففيه لوم شديد، وفي ذكر الاسم نوع من تهويل فعله.
ولكن إبراهيم كان ثبتا صابرا مطمئنا قارّ النفس.(9/4887)
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
(قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
إن إبراهيم هو الذي حطم الأصنام، وجعلها فتاتا متكسرا، ووضع المة الحطم والكسر في رأس الكبير منها، فكيف يقول: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا)، و (بَلْ) للإضراب عن قولهم الذي يومئ إلى أنه الفاعل، وإن لم يكن صريحا، قال بعض المؤولين من علماء الكلام: إن الضمير في (فَعَلَهُ) يعود إلى إبراهيم، وإن كان هو المتكلم، كأنه بإيماء القول جرد من نفسه شخصا آخر يخبر عنه، والمعنى أنه فعل، واستؤنف كلام بعد ذلك هو هذا كبيرهم، ولقد دفع بعض المتكلمين إلى هذا التكلف الذي ينافي السياق أنهم لَا يريدون أن ينسبوا كذبة إلى أبي الأنبياء، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - معصوم عن الكذب والخيانة والظلم، قبل النبوة وبعدها، ولكن في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نسب إلى إبراهيم ثلاث كذبات أولاها هذه، والثانية أنه قال: إني سقيم، والثالثة أنه قال عن زوجه سارة: إنها أخته (1).
ونحن نرى أن قوله: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا) ليس فيه كذب، بل فيها تهكم عليهم وسخرية بآلهتهم ولولا الأثر لقطعنا بهذا، ولكنه احتمال نذكره، ولعل الأثر عده كذبة على أساس مظهر القول لَا على أساس المقصد لإبراهيم؛ لأن ظاهر القول أنه كذب.
________
(1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَطُّ إِلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللهِ، قَوْلُهُ: إِنِّي سَقِيمٌ، وَقَوْلُهُ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، وَوَاحِدَةٌ فِي شَأْنِ سَارَةَ، فَإِنَّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبَّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ، وَكَانَتْ أَحْسَنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّ هَذَا الْجَبَّارَ، إِنْ يَعْلَمْ أَنَّكِ امْرَأَتِي يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ، فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنَّكِ أُخْتِي، فَإِنَّكِ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ مُسْلِمًا غَيْرِي وَغَيْرَكِ ".
متفق عليه؛ رواه مسلم (6098) 15/ 105، والبخاري: كتاب الأنبياء - قول الله تعالى (واتخذ الله إبراهيم خليلا) (93 32). وراجع اللؤلؤ والمرجان 1/ 736.(9/4887)
والدليل على أنه سيق للتهكم والسخرية بهم وبآلهتهم قوله بعد ذلك (فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ) " الفاء " عاطفة على إخبارهم بأن رئيسهم الذي فعل، أو " الفاء " للإفصاح، أي إذا كان الفاعل هو أو غيرهم فاسألوهم، وذلك فيه تهكم واضح عليهم؛ لأنهم لَا ينطقون فكيف يعبدون، وفي التهكم أخذ اعتراف منهم بأنهم لَا ينطقون، وأنها أحجار لَا تضر ولا تنفع، وهذا برهان قاطع على ضلالهم وبطلان ما يعبدون.
إن الصدمة تدفع إلى التفكر، وإذا كانت صدمة حق وإرشاد وتنبيه، فإنها ربما تهدي، وكذلك كان هؤلاء، فقد صدموا بتكسير الأصنام وجعلها جذاذا مما جعلهم يتفكرون ابتداء؛ ولذا قال تعالى عنهم:(9/4888)
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
(فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64)
أي تراجعوا الأمر فيما بينهم وتقاولوا ما بين مستنكر الفعل أي الكسر والحطم، وما بين مسترشد بالحق وقد لاح نوره، وانتهى بأن قالوا: (إِنَّكمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ) مؤكدين أنهم هم الظالمون، أي أنهم الظالمون وحدهم، وقد تأكد الحكم بـ " إن " وبـ " أنتم "، وبالقصر، أي أنتم الظالمون وحدكم لَا أحد غيركم؛ لأن تعريف الطرفين أوجب الحكم بالظلم وأكده، ولكن ما هذا الظلم؛ يحتمل الظلم في العبادة أو الظلم في عدم حراسة آلهتهم، ويرجح أنه الظلم في العبادة؛ ولذلك أكدوه في سَوْرة حق، ولكنه كان كغشاء ظاهر عارٍ عن صميم القلوب:. ولذا قال تعالى:(9/4888)
ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
(ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
لم يلبثوا كثيرا حتى عادوا إلى ضلالهم القديم الثابت في رءوسهم، ولبدته السنون، حتى صار جزءا من تفكيرهم، وعبر سبحانه عن ذلك بقوله عز من قائل: (ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) أي بعد أن جعلتهم الصدمة التي بغتتهم يفكرون ويقدرون نكسوا في تفكيرهم، وعبر عن ذلك العلي القدير بقوله عز من قائل: (نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ) أي قلبت أجسامهم فصارت رءوسهم في أسفل وأجسامهم في أعلى، وهذا كناية عن قلب التفكير من الحق إلى الباطل، والرشاد إلى الفساد، وكما شبه(9/4888)
انقلابهم الفكري بالانقلاب الجسدي، ليتصور القارئ المتدبر كيف عكس تقديرهم، ونكس تفكيرهم، والتعبير بـ " ثم " هنا مع أن الأمر لم يتجاوز الخطاب، للبعد بين الهداية التي بدرت والضلالة التي سيطرت، فكانت " ثم " مصورة لهذا.
ولما نكسوا على رءوسهم نكس أيضا قولهم في المجادلة، فقالوا: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ) مؤكدين أنه يعلم أن هؤلاء التماثيل لَا تنطق، وليس من شأنها أن تنطق لأنها ليست كائنا حيا فضلا عن أن يكون إنسانا ينطق، وأكدوا أنه يعلم ذلك بـ " اللام " وبـ " قد "، وبالنفي بـ " ما " الدالة على النفي بالماضي، وهي واقعة على المضارع المصور لعدم نطقهم في الحاضر، فهم لَا ينطقون في الماضي ولا ينطقون في الحاضر ولا القابل، وإن هذا ما نطقوا به معترفين بعجز هذه الأحجار عن النطق في كل الأحوال، وأي دليل ينفي ألوهيتهم أكثر من هذا؟! إنها أعجز من الإنسان فكيف يعبدها الإنسان وهي لَا تنفع ولا تضر؛ ولذا قال خليل الله:(9/4889)
قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)
(قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66)
لفظ من أقوالهم الحجة الدالة على بطلان ألوهية الأصنام، لقد قالوا: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ) أي ليست لهم قدرة على الكلام فلا قدرة على شيء فليس منهم نفع مجلوب، ولا ضرر مدفوع، قال خليل الله عليه السلام: (أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُون اللَّهِ) أيْ مخالفين لله تعالى معاندين له سبحانه (مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ) أي شيئا من النفع أو الضر، و (شَيْئًا) مفعول مطلق قائم مقام المصدر.
وقوله تعالى: (أَفَتَعْبُدُونَ) " الفاء " تدل على أن ما بعدها مترتب على ما قبلها؛ لأنه ترتب على قولهم (مَا هَؤُلَاءِ يَنطِقُونَ) أنهم يكونوا يعبدون ما لَا يملك ضرًا ولا نفعًا، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، وإنكار الواقع توبيخ، وهُم به جديرون، فأي عاقل يعبد ما دونه، وهو حي وهذا جماد لَا يضر ولا ينفع.
وقد ترتب على هذا أن تأفف منهم، فدل هذا التأفف على النفور منهم عقلا، فهي أحجار ولو كانت تماثيل منحوتة نَحْتًا جميلا، فهي أحجار لَا تزيد على ذلك،(9/4889)
وعقلا لأنها تعبد ممن هو خير منها خلقا وتكوينا، وكان التأفف أيضا ممن يعبدونها؛ لأنهم حطوا عقولهم عن مستوى التفكير، بل عن مستوى الإنسانية المدركة التي تقدر الأشياء وتعرف النافع والضار؛ ولذا قال عنه عز من قائل:(9/4890)
أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
(أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
(أُفٍّ) جاء في مفردات الراغب: " أصل الأف كل مستقذر من وسخ وقلامة ظفر، وما يجري مجراهما، ويقال لكل مستخف استقذارا له "، فمعنى (أُفٍّ لكُمْ) استقذار لكم ولما تعبدون والاستقذار هنا معنوي، لقول الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا. . .)، وكذا الأمر في أحجارهم فهي مستقذرة يتأفف منها كما تأفف من عابديها، وختم سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الاستفهام هنا لإنكار الوقوع أي بمعنى النفي مع التوبيخ وتحريض على التفكير والتعقل، وألا يطرحوا عقولهم وراء ظهورهم.
وإن المعرض عن الحق كلما جاء الدليل أعرض ونأى بجانبه ويزداد لجاجة في باطله، هذا إبراهيم الخليل عليه السلام قد حطم أصنامهم، ورأوها جذاذا حطاما، وتبين أن هؤلاء لَا ينطقون، وكان حقا عليهم أن يذعنوا للحق إذ جاءهم، ولكنهم لجوا في الفتنة والضلال وعتوا عتوا كبيرا، وأرادوا إحراق الناطق بالحق.(9/4890)
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)
(قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)
أخذوا الأمر أمر ممانعة ومغالبة، وهو وحده والله معه، والحق بحججه يصرخ به في أوساطه لَا يباليهم؛ لأنه يبالي الله وحده، ولا يبالي أحدا سواه، وهم بتماثيلهم وعددهم وقوتهم المادية الغاشمة وملكهم الغاشم، فلما حطم إبراهيم - بتأييد الله تعالى ومعونته - أصنامهم حسبوا بقانون المغالبة أنه غلب أصنامهم، فلابد أن ينتصروا لها، ولابد أن ينصروها كأنها شيء يحس ويغالب ويغلب، وكذلك سولت لهم أنفسهم، وكذلك يدخل الضلال العقول، ويذهب برشدها.
(قَالُوا حَرِّفوهُ) التحريق المبالغة في الإحراق وإكثار حطبه، وقد جعلوا ذلك(9/4890)
التحريق في مقابل ما قام به من تكسير وتحطيم لأصنامهم، حتى جعلها جذاذا فتاتا متكسرا تفرقت أجزاؤها؛ ولذا قالوا: (وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ)، أي خذوا بثأرهم عن الحَطْم الذي صغر به أمرهم، وأضعف به شأنهم، وقال قائلهم المتحدث في جمعهم عنهم: (إِن كنتُمْ فَاعِلِينَ) أي إن كنتم تريدون الثأر لآلهتكم فأحرقوه، وإلا فالمهانة والعار والشنار، وإن ذلك يدل على أنه كان في بعضهم تردد أو عطف، أو عدم إيمان حازم بما هم فيه من الضلال.
ولكن إبراهيم المؤمن بالله وبالحق لم يعرهم التفاتا، ولم يفزع من تهديدهم؛ لأنه يعلم أن الحق أبقى، ومن لَا يفتدي الحق بنفسه لَا يستحقه، فلابد فيه من فداء وقد عرف أبو الأنبياء من بعد بالفداء والبلاء فقد قبل أن يذبح ابنه لرؤيا صادقة رآها، حتى فداه الله بذبح عظيم.
ألقوا بإبراهيم خليل الله في النار، وهو الصابر الراضي بحكم الله، ألقوه في أتون النيران، وقد بُني لها بناء تضطرم فيه، ولكن أمر الله تعالى كان فوق أمرهم وقدرته قاهرة عليهم، فأُلقي إبراهيم في النار وتلقفته في ساعتها رحمة رب العالمين:(9/4891)
قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
(قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
أي كوني بردا أي باردة ليست متوهجة وهو آمن في سلام لَا يجزع من رؤيتها ولا يفزع من لهبها.
ومساق الكلام لَا يدل على أنها أطفئت بريح شديدة، ولا مطر انهمر عليها، ولكنها المعجزة أنها بقيت متوهجة ولم تحرقه، فالله تعالى أزال عنها خاصة الحرق بالنسبة لإبراهيم، ومنعت من أن يصل أذاها إليه، كأن بجسمه موانع مانعة وحائلا يحول بينه وبينها.
نجا إبراهيم عليه السلام بهذه المعجزة الباهرة، وكان فيها معنى التحدي لأنهم أرادوا الغلب والانتصار لآلهتهم فلم يؤذ ولا هابها، وكان ذلك إعجازا لهم، وكان حقا عليهم من قبل ومن بعد أن يذعنوا، ولكن غلبت عليهم شقوتهم.(9/4891)
وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
(وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
الكيد هنا هو الإضرار الشديد الذي يكون نتيجة الكيد والتدبير الخبيث، فأطلقوا السبب وأرادوا المسبب وهو الضرر، وكيدهم كان في مغالبتهم له ومجادلتهم، فكانوا هم الخاسرين، ولذا قال: (فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ) في هذه المغالبة، والأخسرون جمع أخسر، والمراد من بلغوا أقصى درجات الخسران.
* * *
خبر النبيين من بعد إبراهيم ومعه
(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75
* * *
كان لوط ذا قرابة بإبراهيم عليه السلام؛ ولذا اقترن به في الذكر، وإنه لما جاء الملائكة مبشرين إبراهيم وامرأته بالولد، ذهبوا من عنده إلى لوط فدكوا قريته دكا لأنها كانت تعمل الخبائث، ما سبقهم بها أحد من العالمين؛ ولذا قرن نجاة إبراهيم عليه السلام بنجاته، وأنه أخذه معه إلى الأرض المباركة، وقال تعالى:(9/4892)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71)
(وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ).
أي نجينا إبراهيم من النار، ولوطا من الدمار، أي نجاهما وأخذهما إلى الأرض المباركة وهنا أمران نذكرهما:
أولهما - التكلم من الله تعالى العلي الأعلى بضمير المتكلم المعظم، لبيان أنها كبيرة تليق بكبر المتكلم، فإخراجٌ من النار أو جعلها عليه باردة وجعلها أمنا لَا فزع منها، وإهلاك قرية الفسق بجعل عاليها سافلها، وإرسال عليها حجارة من سجيل منضود.
الأمر الثاني - ما الأرض التي باركها، وانتهى خليل الله وذو قرابته لوط إليها، رُوي عن أبي بن كعب أنها الشام؛ لأنه كان فيها النبيون من بعده فهي مباركة، وروى ابن عباس ترجمان القرآن وغيره، أنها مكة المكرمة؛ لأن إبراهيم هو الذي رفع بناءها وإسماعيلُ، ولأن بها أول بيت وضع للناس، ولأنها صارت حرما آمنا، ولأنها كانت مباركة بدعاء إبراهيم عليه السلام، ولأن الله وصف بيتها بأنه مبارك، فقال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)، وقوله: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا) الَجارَ والمجرور متعلق بـ " نجيناه "، أي حفظناهما إلى أن وصلا إلى الأرض المباركة، وهذا دليل على أنهما في هجرتهما إلى الأرض المباركة لاقى عنف الصحراء موماة موماة (1) حتى وصلا سالمين، وهو يدل على أن لوطا قد وصل إلى البيت الحرام وإن لم يكن له ذكر فيه، والبركة ثبوت الخير واستمراره، وقد كانت بركة مكة للعالمين، لكل الناس كانت للعرب حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كل شيء، وكانت كذلك للناس أجمعين ففي بطحائها وُلد وظهر خير الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ذكر سبحانه بعد ذلك النبوة في ذرية إبراهيم، وذكر بعض الأنبياء:
________
(1) الموماة: المفازة الواسعة الملساء، وتكرارها توكيد لفظي. وقيل هي الفلاة التي لَا ماء بها ولا أنيس. قال: وهي جماع أسماء الفلوات. لسان العرب - موم.(9/4893)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)
أشار سبحانه إلى هبة الله لإبراهيم ولده إسماعيل، بالإشارة إلى نجاته إلى الأرض المباركة مكة وما حوت، وما حولها من منى وعرفات والمشعر الحرام، وهنا(9/4893)
يصرح بأنه وهب لإبراهيم إسحاق، ومن ورائه يعقوب، وجعلهما معا مع أن إسحاق أب ويعقوب ابنه، لأنهما كانا نبيين، وأن نبوتهما هبة الله، وتوالت النبوة والدعوة إلى هدم الأوثان ابنا عن أب عن جد؛ ليقتلعوا عبادة الأوثان من الرءوس التي استمكنت فيها، والنافلة ولد الولد، و (نَافِلَةً) وصف ليعقوب لأنه ولد ولده، أي وهبناه لك هبة زائدة فوق الولد؛ لأن إبراهيم دعا ربه، وقال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ).
وهكذا نرى أن الله تعالى أراد لإبراهيم أن تتوارث فيه الدعوة إلى هدم الأوثان، لتذهب روعتها الكاذبة من نفوس الناس، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - من بعده قاوم الوثنية وحده، ولم يكن أحد من ذريته من قاومها، ولكن كان من أصحابه والتابعين من قاومها، حتى روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " (1) وقال تعالى: (وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ) التنوين قائم مقام المضاف إليه، أي كل واحد من الجد وابنه وحفيده جعلناه من الصالحين، أي المستقيمين في طريقهم إلى الحق، وذكر أنهم صالحون مع أنهم من المصلحين في طريق الحق والهداية إليه، وذلك لأن الصالح في ذات الحق لابد أن يكون مصلحا، لأنه لَا يتم الصلاح إلا إذا جعلنا مصلحا هاديا مرشدا داعيا إلى الحق، وإلى صراط مستقيم؛ ولذا قال تعالى:
________
(1) سبق تخريجه.(9/4894)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
(وَجَعَلْنَاهُمْ) الضمير يعود إلى إسحاق ويعقوب وأعيد الضمير بلفظ الجمع لأنه يجمع كل الذرية بعضهم بصريح اللفظ والآخر بطريق الإشارة والتضمين، وقد جاء الصريح في قوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134).(9/4894)
(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنَا) أي وجعلنا إبراهيم وذريته أئمة أي رؤساء يوجهون ويرشدون، ويقتدى بهم، ويكونون قوة للخير والهداية (يَهْدُونَ بِأمْرِنَا)، أي يدعون بدعاية الله، وإضافة الهداية إلى أمر الله للإشارة إلى طاعتهم أولا، ولبيان صواب ما يدعون إليه وأنه الحق لَا ريب فيه (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ) أي ألهمنا نفوسهم وقلوبهم فعل الخيرات وهديناهم إليها، بما أوحينا به لرسلهم الذين جاءوا رسولا بعد رسول، كما قال تعالى: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا. . .)، أي رسولا بعد رسول، وكل أولئك في ذرية إبراهيم عليه السلام والخيرات جمع خير، وهو كل ما فيه نفع للناس، ويقصد به فعله لنفعه للناس، ولإرضاء الله تعالى ثم قال سبحانه: (وَإِقَامَ الصَّلاةِ) أي أداءها على وجه أكمل من خضوع وخشوع، واستحضار لذات الله كأنهم يرونه، وإذا لم يروه يحسون بأنهم في حضرته يرجون رحمته ويخافون عذابه ويطلبون محبته ورضوانه، (وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ) ليكون المجتمع كله متعاونا بارا يبر بعضه بعضا (وَكانوا لَنَا عَابِدِينَ) أي كانوا في كل أحوالهم وأعمالهم عابدين لله تعالى، وكل عمل فيه عبادة إذا قصد بإتقانه إرضاء الله وحده ومحبته سبحانه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله " (1).
وفى قوله تعالى: (وَكانُوا لَنَا عَابِدِينَ) تقديم الجار والمجرور، وهذا يفيد الاختصاص أي لنا وحدنا لَا يشركون بي شيئا، والجملة تدل على استمرار العبادة أولا، لوجود " كان " الدالة على الاستمرار، وثانيا الوصف (عَابِدِينَ) أي مستمرين حتى تصير العبادة وصفا لهم فهم في عبادة مستمرة آناء الليل وأطراف النهار.
بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى إشارات بينة إلى إبراهيم وبنيه، ويعقوب وذريته عاد إلى لوط بعد نجاته فقال:
________
(1) سبق تخريج ما في معناه من أحاديث.
(وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)(9/4895)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)
(وَلُوطًا) منصوب بفعل محذوف تقديره واذكر لوطا، وخص لوطا بالذكر، ولم يذكر قوم لوط لحقارتهم ومهانتهم وسوء أفعالهم، وخبيثة نفوسهم حتى انحطوا عن مرتبة الحيوانية في شذوذ الفطرة، وفي ذكر لوط منفردا عن قومه تنويه بشأنه، ورفعة لذكره، وبيان أنه لَا يضر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون قومه مفسدين غير مهديين، فإنه جاء لهداية الضال وإصلاح الفاسد، فإن لم يصلحوا دمر الله عليهم وأنشأ قوما آخرين. (آتَيْنَاهُ حُكْمًا) الحكم هنا الحكمة والحلم والصبر على معاشرة المفسدين، وإلا فأي حكمة أوتيها ذلك النبي الكريم الذي استطاع بها أن يعاشر أولئك الشواذ من الإنسانية يدعوهم ويأخذهم بالهداية والإرشاد والرفق في القول ويستمر في رعايتهم هاديا مرشدا من غير سأم ولا ملال، حتى إذا جاءه ملائكة الله يبدو سوء نفوسهم ويظهر حتى يداريهم ليسكتوا فلا يسكتون. (وَعِلْمًا) وهو علم النبوة وبعثه، وما أجدت دعوته فحقت عليهم كلمة العقاب وحقت للوط النجاة، كما تنجو الفضيلة منِ ردغة (1) الرذيلة على أقبح صورها، ولذا قال تعالى: (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَة الَّتِي كَانت تَّعْمَل الْخَبَائِثَ) أي نجيناه سالما طاهرا مطهرا (مِنَ الْقَرْيَة) أي المدينة العظَيمة، أو المدائن العظيمة، وذكرت بالمفرد لإرادة جنس هذه القرية المَوصوفة بذلك الوصف المشئوم البغيض، (الَّتِي كَانَت تَّعْمَل الْخَبَائِثَ)، وهي جمع خبيثة، ولا يمكن أن توصف إلا بهذا الوصف أو ما يشبهه، ولقد قال تعالى فيها (. . . أَتَأتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ)، ووصفت القرية بأنها كانت تأتي الخبائث مع أن الذي يفعلها آحادها، ولكن لأنها عصت وطمت كأنما صارت الأرض ذاتها تفعلها، ولقد قال تعالى بعد ذلك: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ) أعيد الضمير على أهل القرية لأنهم الذين فعلوا ما فعلوا حتى صاروا عار هذه القرى الظالمة، وهذه الجملة السامية: (إِنَّهُمْ كَانوا) في مقام سبب ما فعلوا ويفعلون من خبائث.
و" السوء " ما يسوء ويؤذي النفس والطبائع السليمة، (فَاسِقِينَ) شاذين خارجين على الفطرة الإنسانية إذ انهووا إلى ما دون الحيوان.
________
(1) الرَّدَغَة، محَرَّكة، وتُسكَنُ: الماءُ، والطينً، والوَحلُ الشديد " القاموس المحيط - ردغ.(9/4896)
وأكد سبحانه وصفهم بالسوء والفسق أولا، بـ (كَانُوا) أي استمروا عليه، وإضافتهم إلى السَّوء، كأنما هم أهله لَا يخرجون عن حيِّزه، ولا يخرج عنهم ثانيا، والتعبير باسم الفاعل في قوله تعالى: (فَاسِقِينَ) وبالجملة الاسمية وتصديرها بـ (إن)، والله عليم بخلقه وشئونه.
نجى الله تعالى لوطا من هذه الدولة الظالمة فقال سبحانه:(9/4897)
وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
(وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
رحمة الله التي شرفها بالنسبة إليه سبحانه، هي هجرته منهم، ونجاته من الهلاك الذي كتب لهم وإيتاؤه حظه في الآخرين، والتجاؤه له سبحانه كما قال تعالى: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي. . .)، وقال تعالى: (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) وهذا بيان لاستحقاقه رحمته سبحانه، وقد شرفه سبحانه بأن وصفه بأنه من الصالحين.
* * *
(وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ(9/4897)
إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
* * *
هذا وصل للكلام السابق من أخبار إبراهيم ولوط والأنبياء من ذرية إبراهيم عليهم السلام، وفي قصصهم عبرة لأولي الألباب، وتسرية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سوء ما يرتكبه معه المشركون من شطط في القول، وإسراف في استهزائهم، والله مستهزئ بهم، قوله:(9/4898)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
(وَنوحًا) منصوب بفعل محذوف تقديره اذكر، أي اذكر نوحا وإيذاء قومه، وقد تشابهت أقوالهم مع أقوال المشركين للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لتشابه القلوب والمقاومة وطرائقها، فالناس أولاد الناس، (إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) نادى ربه مستغيثا بالله وذلك في قوله: (. . . رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27)، دعا نوح ربه ذلك الدعاء، أو ناداه ذلك النداء فأجابه سبحانه فقال: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)، " الفاء " للترتيب والتعقيب، والمراد بالتعقيب تأكيد الإجابة، وقد قال تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) الاستجابة شدة الإجابة؛ لأن السين والتاء للطلب، أي أن الطلب طلب الإجابة وأرادها له؛ ولذا كانت التعدية بـ " اللام " مع أن " أجاب " تتعدى بنفسها، ولكن كانت " اللام " لشدة الإجابة؛ لأنها بطلب الله، وتشدده في الطلب لأجل نوح عليه السلام، وأنه إذ استجاب له سبحانه ونجاه وأهله من الكرب العظيم، وقال سبحانه: (فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيم) حيث أرادوا إيذاءهم، وحيث كان كرب الطوفان؛ إذ أحاط بهم الماء من كل جانب، وركب في السفينة من أراد الله إنجاءه.(9/4898)
وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
(وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
و (نصرنا) معناها انتصرنا له من القوم الذين كذبوا، فـ " نصرناه " متضمنة انتصرنا؛ لأن " انتصر " تتعدى بـ " من "، وكانت له محذوف دلت عليها (لَهُ) في(9/4898)
قوله تعالى: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ) والمعنى انتصفنا له منهم إذ ظلموه بالعناد والسخرية والتحدي والإنكار المستمر، والمجادلة بالباطل حتى يئس من إيمانهم، وقال الله تعالى له: (. . . لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)، وقد بين سبحانه استحقاقهم لما نزل بهم، فقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ) هذا بيان لاستحقاقهم ذلك الإغراق وإزالتهم من الوجود، وألا يبقى من ذريتهم أحد إذ لَا يلدون إلا فاجرا كفارا، والسَّوء: هو ما يسوء الناس ويؤذيهم، وأضيف السوء إليهم، لأنهم لَا يصدر عنهم إلا ما يسوء، وبسبب ذلك أغرقهم الله أجمعين، ولم يبق إلا من حملته السفينة المباركة.
* * *
قصص أنبياء من أولاد يعقوب كانوا بعد موسى(9/4899)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
(وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78)
" الواو " وصلة الأخبار في قصص النبيين، و (داود) منصوب بفعل محذوف تقديره " اذكر "، والمخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - تسرية له في الشدائد والكروب التي كان فيها وهي تسرية فيها أخبار جدية تبين أحكاما لنظام الحق وإدراكه، فهي ليست تسرية بلهو، بل هي أخبار فيها طرافة، وفيها تنبيه لتنظيم العدالة والتفكير.
(إِذْ يَحْكُمَان فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْم)، (إِذْ) الأولى تتعلق بالفعل المحذوف " اذكر "، َ و " إِذْ " الثانية متعلقة بـ (يَحكُمَانِ)، (الْحَرْثِ): الأرض المزروعة، سميت بمصدر حرث يحرث وهو قلب الأرض، ويطلق " الحرث " على الأرض المحروثة وعلى الزرع نفسه، و (نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) أي انتشرت فيه الغنم فأتلفته، وأصبح غير ذي قيمة، وقد تحاكم الخصمان صاحب الحرث وصاحب الغنم إلى داود عليه السلام.(9/4899)
وجاءت الروايات بأن داود عليه السلام حكم بأن يأخذ صاحب الحرث الغنم في مقابل ما أتلفت الغنم من الحرث، وكانت القيمتان متقاربتين.
ولكن سليمان - عليه السلام - رأى أن خيرا من هذا أن يأخذ صاحب الحرث الغنم تدر عليه لبنها ويستولي على منافعها، ويأخذ الآخر الأرض يحرثها، وكان أجرة الأرض تكون هي منافع الغنم وردها.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنه هو الذي أفهم سليمان هذا الحكم فقال عز من قائل:(9/4900)
فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
(فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79)
دل هذا القول على أن حكم سليمان كان بإلهام من الله، ويومئ إلى أنه كان الحق، وإن لم يكن حكم داود كان باطلا، فقد بذل فيه سبيل الاجتهاد، وكان مقاربا، ولم يكن مناقضا للحق، والأحكام تبنى في الدنيا على المقاربة، ولو كان القاضي نبيا جعله الله تعالى خليفة في الأرض ما دام الحكم لَا شطط فيه، ولذا قال تعالى: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا) أما العلم فعلم النبوة، وأما الحكم فقالوا إن الحكمة والقدرة على فهم الأمور ودراستها من كل جوانبها، ويصح أن نقول: إن المراد بالحكم أهلية الفصل بين الخصوم، وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه كان شاهدا مقرا لحكمهم.
ويلاحظ هنا أن الحكم الذي أقره الله تعالى أو كان عليه شاهدا، وهو حكم داود عليه السلام وحكم ابنه سليمان هو جزاء مشتق من ذات الاعتداء ولو بالتسبب، فإن صاحب الغنم تركها من غير أن يراقبها ويحفظها فنفشت في الحرث، فكان الجزاء من ذات موضع الاعتداء، فقدره داود بأن تؤخذ الغنم في نظير الزرع لأن قيمتها كانت تساوي الزرع، وبذلك كان الجزاء من جنس الاعتداء وهو مقارب، وأفهم الله تعالى سليمان أن يجعل الاعتداء جزاءه مماثلا ولو في الظاهر لموضع الاعتداء فكان أن يترك صاحب الحرث لصاحب الغنم يحرثها ويزرعها، حتى إذا(9/4900)
علا واستغلظ أو صار كالأول سلَّمَه ورد الغنم إلى صاحبها وكان صاحب الحرث قد أخذ عوض التأخير بدرِّ الغنم ومنافعها.
وفى هذا الجزاء مقاربة للعدالة والمساواة وفيه تعاون، وفيها فائدتان:
الأولى: أن يكون فضل تعاون، والثانية: أنه مساواة أو مقاربة من المساواة.
وقد أثبت علماء البحث في العصر الحاضر أن أقرب الجزاء إلى تهذيب النفوس أن يكون العقاب من جنس الاعتداء؛ لأنه يجعل الجاني أو المهمل يحس بالجزاء وهو يقع في الجريمة أو الخطأ، فيكون ذلك أدعى إلى الامتناع أو التوقي.
وإن قصة هذا الحكم إرشاد للحكام إلى أقرب الطرق إلى تحقيق العدالة في هذه الدنيا، وقال تعالى فيما مكن الله به لداود، فقال عز من قائل: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكنَّا فَاعِلِينَ) كرم الله تعالى داود بأمرين: أولهما: أنه سخر له الجبال تتحرك بإرادته وتسكن، وتسبح بأمره عليه السلام، ولسنا نستغرب شيئا من ذلك لأننا نؤمن بالقوة الغيبية، يبثها الله، ولا يماري فيها إلا الذين لَا يؤمنون إلا بالمادة وظواهرها، وكذلك سخر الله تعالى له الطير، وروي أن الجبال كانت تجاوبه في تسبيحه، وكذلك الطير، ولا غرابة فقد قال الله: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَات وَمَا فِي الأَرْضِ. . .)، وقال تعالى: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ. . .)، وقال الله في داود: (. . . يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)، أي أن هذه إرادة الله، ولا مشاحة (1) له فيما يريد، وقال تعالى:
________
(1) والمُشاحَّةُ: الضِّنَّةُ. وتشاحَّا على الأمْرِ: لَا يُريدانِ أن يَفوتَهُما، وتشاحَّ القومُ في الأمْرِ: شَحَّ بَعْضهُم على بعضٍ حَذَرَ فَوْتِهِ.(9/4901)
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
(وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80)
(عَلَّمْنَاهُ) التعليم هنا الإلهام والتوفيق والمرانة على عمل ما، وهو بتوفيق الله تعالى، وينسب إليه لأنه لَا شيء إلا بإرادته وتوفيقه، و " الصنعة " هي الصناعة(9/4901)
والتفنن فيها وإجادتها، وهي من خواص الإنسان، و " اللبوس " ما يلبس، وهو هنا الدرع الذي تتقى به ضربات السيوف، والرماح والسهام فلا تنفذ فيه من هذه الأسلحة إلى الجسم، وقد أَلانَ تعالى الحديد لداود عليه السلام ليتمكن من أداء الصنعة على الوجه الأكمل، وقال تعالى: (لِتُحْصِنَكُم مِّنْ بَأسِكُمْ) البأس: هو الشدة، وهو هنا الحرب التي يشعلها الإنسان في هذه الأرض سواء أكانت هجوما معتديا آثما، أم دفاعا عادلا، وتحصنكم مصدرها إحصان وهو المنع والحماية، وهذه نعمة الله تعالى، فإنه كما أوجد للإنسان السيف، أوجد له الدرع فيكون الدفع للاعتداء، وإضافة الباس إلى الناس فيه معنى بلاغي رائع؛ إذ إنهم هم الذين يوقعون أنفسهم في الشدائد، والله يدبر لهم أمر ردها ودفعها.
وإن ذلك يوجب شكر الله تعالى، وقد دعا سبحانه إلى ذلك فقال: (فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ) " الفاء " لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي بسبب تلك النعم التي أسداها لكم من هذا التدبر المحكم بأن هيأ لكم الدواء عند الداء، والدفع عند احتمال الاعتداء. والاستفهام للحض على الشكر؛ ولذا قال علماء البلاغة إن هذا التعبير أدل تعبير على الطلب، والله تعالى المنعم ذو الجلال والإكرام أن نشكر ولكنا نكفر.
وأخبر تعالى عن نبي الله داود الذي آتاه الحكم والخلافة في الأرض أنه قد اتخذ لنفسه صناعة يأكل منها، وأفهمه الله تعالى هذه الصناعة، وما كان أكل الرجل من عمل يده عيبا، إنما العيب أن يكونَ كَلًّا على الناس وهو القادر على العمل، ولقد جاء في تفسير القرطبي ما نصه: " هذه الآية في اتخاذ الصنائع والأسباب، وهو قول أهل العقول والألباب، فالسبب سنة الله في خلقه، وقد أخبر الله تعالى عن نبيه داود عليه السلام أنه كان يصنع الدروع، وكان أيضا يصنع الخوص، وكان يأكل من عمل يده، وكان آدم حراثا، ونوح نجارا، ولقمان خياطا، وطالوت دباغا، وقيل سقاء، فبالصنعة يكف الإنسان نفسه عن الناس، ويدفع بها الضرر، وفي الحديث:
" إن الله يحب المؤمن الضعيف المتعفف، ويبغض السائل الملحف " (1).
________
(1) الملحف: ألحف السائل: ألح. رواه الطبراني عن ابن مسعود عن فاطمة الزهراء رضي الله عنها. كنز العمال (43485) 1/ 3251.(9/4902)
وقد ذكر سبحانه ما مكن الله لسليمان بعد داود فقال:(9/4903)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
(وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81)
(الرِّيحَ) منصوبة بفعل العطف، أي: وسخرنا لسليمان الريح، كما سخرنا لداود الجبال وقلنا (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)، وكذلك سخرنا لسليمان الريح أي جعلناها له ذلولا، فأبوه كانت رواسي الجبال مسخرة له، وهو كانت عواصف الرياح مسخرة له، ومذللة له، والريح العاصفة هي الريح الشديدة في هبوبها، بحيث تقوض القائم، وقد وصف الله الريح بهذا الوصف للإشارة إلى أنها في قسوة هبوبها وعصفها لَا تذر شيئا أتت عليه إلا أزالته، زللها الله تعالى لسليمان، فكانت تجري بأمره رخاء، وقال تعالى: (تَجْرِي بأَمْرِهِ) مع عنفها تهدأ له، وتسري بأمره (إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكنَا فيهَا)، وهي هنا مدينة " أورشليم " إذ استردها داود من أيدي التتر (1)، وكان الحاكمَ فيها وجاء من بعده سليمان عليهما السلام، وإن ذلك كله بإرادة الله تعالى وعلمه؛ ولذا قال: (وَكنَّا بكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) وقدم الجار والمجرور للاهتمام بعموم علمه سبحانه، والجملة السامية تدل على استمرار علمه سبحانه، وأنه لَا يغيب عنه شيء في السماء ولا في الأرض، ودل على الاستمرار الوصف (عَالِمِينَ) وتقديم الجار والمجرور، الجملة الاسمية المؤكدة، وكان الدالة على الاستمرار.
________
(1) التتر هم التتار برجاء الرجوع إلى صفحة 4917 من هذا التفسير.(9/4903)
وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
(وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
" الواو " عاطفة والمعنى وسخرنا له من الشياطين (مَن يَغُوصُونَ لَهُ)، أي أن الله تعالى كما سخر الرياح العاصفة فتجري بأمره رخاء حيث أصاب، كذلك سخر له من الشياطين من يغوصون له، أي يغوصون في أعماق البحر ليستخرجوا منها اللآلئ والأحجار الكريمة والعنبر وغيرها من منافع الماء، وقد أعطى الله سليمان ملك اليمن التي تمتلئ بحارها باللآلئ وثروات البحر، فكانت الشياطين تغوص فيها، وتخرجها له، وسيجيء ذلك في سورة النمل إن شاء الله تعالى. وقوله تعالى: (يَغُوصُونَ لَهُ) أي يغوصون لأجله وبأمره ومنافع غوصهم له، (وَيَعْمَلُونَ(9/4903)
عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ)، أي غير ذلك، وليس المعنى أقل من ذلك بل كلا العملين فيه خير؛ ولذا قال تعالى: (وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38).
وقال تعالى: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ. . .)
(وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ) أي كنا لهم حافظين مما في جوف البحر، ومؤيدين لأعمالهم ونحب أن نقول: إن الشياطين هنا لَا نعتقد أنهم إخوان إبليس أو من ذريته؛ لأن إبليس وذريته متمردون على ربهم فكيف لَا يتمردون على سليمان، إنما هم من خلق طائعين، وكانوا مؤيدين من الله، وهو حافظ لهم.
ولو اعتقد بعض الناس أنهم من شياطين الإنس الذين كانوا من شطار الأرض سخرهم الله لسليمان وهو بعيد، والله أعلم.
* * *
أنبياء من أنبياء بني إسرائيل وغيرهم
(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)(9/4904)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
* * *
من أخبار النبيين السابقين في هذه السورة كانت أخبار أولي العزم من الرسل، وجهادهم الشرك، وبيان لمجاهدتهم الكفر، وتعرضهم لأذى الشرك وصبرهم، وكيف صبروا حتى أدوا رسالات ربهم، وذلك تسرية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتحريض له على تبليغ الرسالة، وبيان أنه سبحانه ناصره كما نصرهم ولن يضيعه الله تعالى بخذلان أبدا.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصاب بشدائد من شأنها أن تلقي بالرجل في غم وهم كالذي أصابه يوم ذهب إلى الطائف بثقيف، فأغروا به صبيانهم وشبابهم، ولذا ساق الله تعالى أخبار من أصيبوا بضر أو بغم، وكيف أنقذهم الله تعالى، ورفع عنهم.
وقد ابتدأ سبحانه من أخبار هؤلاء يخبر أيوب عليه السلام، فقال تعالى:(9/4905)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
(وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)
(أَيُّوبَ) نصوب على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره " اذكر "، والمخاطب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتقديره اذكر يا محمد وتذكَّر أيوب، و (الضُّرُّ) هو ما يصيب الإنسان في جسمه أو نفسه وأحبائه، وقد أصيب أيوب عليه السلام في جسمه فأصيب بمرض عضال، قيل إنه الجذام، وقد ذكر ذلك ابن كثير في تفسيره فقد جاء فيه: " ذكر تعالى عن أيوب عليه السلام ما كان أصابه من البلاء في ماله وولده وجسده، وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد كثيرون ومنازل مرضية، فابتلي في ذلك كله وذهب عن آخره، ثم ابتلي في جسده، يقال(9/4905)
بالجذام في كل بدنه، ولم يبق منه شيء سليم سوى قلبه ولسان يذكر بهما الله تعالى، حتى عافه الجليس، وانفرد في ناحية في البلد ولم يبق أحد من الناس يحنو عليه سوى زوجه كانت تقوم بأمره، ويقال إنها احتاجت فصارت تخدم الناس لأجله ".
ومع هذا المرضِ الممض المنفر، ومع الانفراد كان صابرا، كما قال الله تعالى: (. . . إِنَّا وَجَدنَاهُ صَابِرًا نِّعْمَ الْعَبْدُ إِنَّه أَوَّابٌ)، ولم يشكُ لأحد غير الله، والشكوى لله لَا تنافي الصبر، وإنما الذي ينافيه الأنين والشكوى للناس، قال لربه: (مَسَّنِيَ الضُّرُّ)، هذه الجملة الهادية، أي أصاب نفسي وحسِّي، قال ذلك طالبا رفع الضرر، فقال: (وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لم يطلب من الله بصريح اللفظ، ولكنه ذكر حاله وكفى، وهو بها عليم، وإن ذكر الرحمة ينبئ عن الطلب، وهو أن يرحمه سبحانه، ولكن لم تتعين الرحمة كاشفة عن الضر، فقد يكون الضر من الرحمة، ففي حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: " يبتلى الرجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابه زيد في بلائه " (1) وصف الله تعالى بأنه (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، وأفعل التفضيل ليس على بابه لأنه لَا رحم يقارب رحمته، وإنما يفسر على أنه سبحانه وتعالى بلغ في رحمته أعلى درجاتها.
________
(1) رواه الإمام أحمد في مسنده (1493).(9/4906)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
" الفاء " للترتيب والتعقيب، أي كان الكشف فور الضراعة له سبحانه وتعالى، وذكر رحمته، وكشف الضر: إزالته، وخصوصا إذا كان الكشف إزالة هذا المرض الذي شوه جسمه، ونفر الناس منه، ولم يكن كشف إلا بإرادة، ولا يتعذر شيء إزاء إرادة الله، ولو كان جذاما لَا يشفى في عادة الناس وطبهم، ولقد قال تعالى في بيان كيف كشفه: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً(9/4906)
مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44).
إن أخبار أيوب عليه السلام تفيد أن كل الناس نفروا منه حتى أهله، وذلك أشد على النفس من وقع الحسام المهنَّد، فكان ألم مرضه مع ألم فراق الأحبة؛ ولذا قال سبحانه في منته على أيوب (وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ) أي أعطيناه أهله الذين نفروا وكان عودتهم عطاء من الله غير مجذوذ، وجاء معهم مثلهم من محبين وموادين، أي أقبل عليه الناس بعد طول نفور، وذلك (رَحْمَةَ مِّنَّا)، وأضافها سبحانه إلى ذاته العلية، فهي رحمة تليق بذاته الكريمة وهو الرحمن الرحيم (وَذِكْرَى لِلْعَابِدِين) أي تذكيرا دائما للعابدين، بأن الله معهم دائما وإنه معهم لَا يتركهم أبدا، يثيبهم في البلاء، ويرفع عنهم، " عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان ذلك خيرا، وإن أصابته ضراء صبر فكان ذلك خيرا " (1)، كما روى الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذه تذكرة لَا يدركها إلا العابدون الذين ذاقوا حلاوة العبادة ولو في أشد الضرر.
________
(1) رواه أحمد ومسلم، وقد سبق تخريجه.(9/4907)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
(وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
هؤلاء أنبياء ثلاثة، أو نبيان ورجل صالح وهو " ذو الكفل "، وكل هؤلاء امتازوا بالصبر، (وَإِسْمَاعِيلَ) مفعول لفعل محذوف، وهو " اذكر "، والخطاب للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فأخبار الصابرين تلهم بالصبر والاقتداء بهم، وأولهم إسماعيل كان عبدا صبورا عندما أراد أن يذبحه أبوه لرؤيا رآها، قال له أبوه: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)، فكان الصبر من الأب والابن عظيما، فالصبر من الأب بأن يرضى بذبح ولده البكر، وقد وهبه له ربه على الكبر هو وأخاه إسحاق. (وَإِدْرِيسَ)، ويقولون إنه أكبر من نوح عليهما السلام، وقد ذكر الله تعالى أنه من الصابرين؛ ولم يذكر موضع أو دليل صبره.(9/4907)
(وَذَا الْكِفْلِ)، فهم ابن كثير أنه نبي من وجوده في أخبار الأنبياء، وقال بعض المفسرين السلفيين إنه كان رجلا صالحا، ومهما يكن من أمره فهو من الصابرين الذين جاهدوا للحق، وجاهدوا أنفسهم وقمعوها عن شهواتها، فإن ذلك يقتضي أثر الصبر، ولذا قال تعالى: (كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِين) أي كل واحد من هؤلاء من الصابرين.
وقد قال في جزاء صبرهم:(9/4908)
وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
(وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
رحمة الله تعالى تتناول أولا: محبته ورضاه فهي رحمة لَا ينعم بها إلا الأبرار المصطفون الأخيار، وثانيا: اطمئنان نفوسهم ورضاهم عن أفعالهم وذكرهم لربهم، (. . . أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، وثالثا: جنات الخلد التي لهم فيها نعيم مقيم، وقد ذكر سبحانه السبب في ذلك فقال: (إِنَّهُم مِّنَ الصَّالِحِينَ) الذين استقامت قلوبهم وصلحت أعمالهم، وطابت أقوالهم، وكانوا نافعين قد استنارت قلوبهم، والله هو الهادي إلى الرشاد.
(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)(9/4908)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)
(وَذَا النُّونِ)، معطوف على ما قبلها، وهي مفعول لفعل محذوف خوطب به النبي - صلى الله عليه وسلم - تقديره: " اذكر "، أي اذكر قصة ذي النون الذي غضب، وليس من شأن النبي الهادي أن يغضب، وقد عاقبه الله تعالى بضيق لتبرمه بقومه وغضبه عليهم لكفرهم، ولم يكن رفيقا بهم يأخذهم بالهوادة، وذو النون هو يونس صاحب الحوت، والحوت اسمه النون، (إِذ ذهَبَ مُغَاضِبًا) " إذ " متعلق بحال ذي النون، واذكر يونس في وقت ذهابه مغاضبا، أي متبادلا الغضب مع قومه لأجل الله تعالى، لأنه دعاهم إلى الله وإلى التوحيد فلم يستجيبوا له، فغاضبهم، وذهب عنهم معرضا، وذلك ليس شأن الداعي، إن المدعوين جهلاء، والداعي هو النبي فلا(9/4908)
يجوز أن يخاصمهم ويغاضبهم وإلا زادهم نفورا، فالرفق يدني، والغضب يبعد، وهو بهذه المغاضبة خالف ربه (1)، وقد حسب أن النبوة أمر هين لين، بل أشق أعمال البشر.
وقال تعالى: (فَظَنَّ أَن لَّن نَقْدِرَ عَلَيْهِ) هنا تأويلان لمعنى (أَن لَّن نَقْدِرَ عَلَيْهِ)، أولهما: أن نقدر في معنى فقدر عليه رزقه، أي نضيق عليه، فالمعنى: فظن أنه لن نضيق عليه، وحسب أن النبوة ليس فيها ضيق، وقد عاقبه الله تعالى بأن التقمه الحوت (2) (فَنَادَى فِي الظُّلمَاتِ) أي ظلمات جوف الحوت (أَن لَا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ) أي تنزهت ذاتك، وفي هذا القول معنى الضراعة الكاملة والالتجاء إلى الله وطلب نصرته، وإنقاذه والاستغاثة به؛ ولذا قال بعد:
_________
(1) الأولى مراعاة الأدب مع نبي الله يونس - عليه السلام - والذي أميل إليه أنه خرج غاضبا لله تعالى. اهـ (مصحح النسخة الألكترونية).
(2) عبارة فيها بشاعة، والمؤلف في هذا تابع للزمخشري - غفر الله تعالى لنا ولهم. اهـ (مصحح النسخة الألكترونية).(9/4909)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ... (88)
التأويل الثاني: أن معنى قوله تعالى: (أَن لَن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ)، أي لَا نقدر اليسر والفرج، وأحسب أن التأويل الأول أكثر ملاءمة للآية الكريمة ولمقامه.
(فَاسْتَجَبْنَا لَه)، أي أجبناه، والسين والتاء للطلب، وهما يدلان على شدة الإجابة وشدة الرفق، وكانت التعدية بـ " اللام "، مع أن " أجاب " تتعدى بنفسها؛ للدلالة على كمال العناية به وترادف النعم عليه، وقال تعالى: (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ) الغم هو الألم الذي يصم النفس ويصيبها بغمة شديدة وهم واصب، وذلك من أثر المغاضبة التي غاضب بها قومه، وخرج - عليه السلام - عن سُنة النبيين الهادين المرشدين، (وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ) أي كهذه النتيجة التي نجينا بها صاحب الحوت ننجي المؤمنين، فلا ندع مؤمنا في غم، بل نفرج عنه.
وهنا أمران بيانيان نشير إليهما:
أولهما - أنه حذف من القول ما أنبأ به سياق الكلام، فلم يذكر التقام الحوت له، ولكن أشير إلى ندائه في ظلمات جوف الحوت ودل على التقامه والشدة الشديدة التي كان فيها يونس، وأنه كان في ظلمات لَا يعرف لها نهاية ولا غاية، وذلك من الإيجاز بالحذف الحكيم.(9/4909)
الأمر الثاني - في العطف بالفاء الدالة على الترتيب والتعقيب، وإضافة النجاة والاستجابة إليه سبحانه للدلالة على أنهما مؤكدان برحمته سبحانه وفضله.
(وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
(زَكَرِيَّا) معطوف على ما سبق من أخبار النبيين، وسبقت قصة زكريا عليه السلام للدلالة على أن الله تعالى لَا يتقيد في خلقه وإرادته بالأسباب العادية ومسبباتها، ففي الأسباب العادية لَا يأتي الولد من امرأة عاقر، وفي الخبر تسرية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بقصص النبي وتوقع نصره، وإعلاء كلمته على المشركين، وإن كانت ظواهر الأمور لَا تنبئ عن ذلك، فالأمر كله لله،(9/4910)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89)
(وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ) قال (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) فردا أي منفردا عن قريب أدنى يرثني، ولقد كان في ندائه بالغا أقصى درجات الأدب في جنب الله، فهو لَا يجعل وراثة ذي القرابة القريبة أولى من وراثة الله فقال: (وَأَنتَ خَيْر الْوَارِثِينَ) وأفعل التفضيل ليس على بابه، بل المعنى ووراثتك أعلى درجات الوراثة وأبقاها.
وهذا التعبير الموجز في معناه قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6).
وقد أجابه تعالى بقوله هنا:(9/4910)
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ... (90)
" الفاء " عاطفة تدل على الترتيب والتعقيب، أي أجبناه عقب سؤاله، والتعدية باللام تدل على كمال الاختصاص بالداعي والعناية به، وإصلاح زوجه هو جعلهما صالحة للولادة، بعد أن جف جهازها التناسلي، وقد كانت في ذاتها عاقرا لَا تلد، وسبحان الفعال المختار الذي لَا تحكمه الأسباب بل يحكمها وهو الفعال المختار.(9/4910)
وقوله (لَهُ) " اللام " معناها لأجله وتكريما له، وعناية به واستجابة لدعائه، وكان زكريا ويحيى خيرا خالصا، وكذلك الأنبياء السابقون جميعا، ولذا قال تعالى في أوصافهم: (إِنَّهُم كانُوا يُسَارِعُونُ فِي الْخَيْرَاتِ) أن يتسارعون إلى الخيرات، كأنهم يتسابقون، وكانت التعدية بـ (فِي) للإشارة إلى أنهم يسارعون يسابق بعضهم بعضا في دائرة الخيرات لَا يخرجون عنها، فالخيرات أحاطت بهم إحاطة الدائرة، و (الْخَيْرَاتِ) الأعمال النافعة التي قصد بها وجه الله والعبادة الخالصة له سبحانه، (وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا)، الرغب معناه السعة، والمعنى يدعون ربهم في حال السعة والرخاء، والرهب الخوف مع الاضطراب والانزعاج، والمعنى يدعونه سبحانه وتعالى في حال رخائهم، وحال شدتهم وانزعاجهم، فهم يدعونه في كل الأحوال، لا كأولئك المشركين الذين يدعون الله في الشدة، فإذا ذهبت إذا هم يشركون، (وَكانُوا لَنَا خَاشِعِينَ) أي خاضعين خائفين راجين الرحمة.
* * *
أفرد سبحانه قصص مريم وابنها فقال:(9/4911)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
عطف على ما سبق من النبيين، وهي مريم البتول التي اصطفاها ربها على نساء العالمين حتى قيل إنها نبي أُوحي إليها، وذكر الله تعالى أجل وصف للمرأة وأكمله، فقال: (أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا)، أي صانته وحفظته، وكانت هذه الصيانة ليكون فيه الوديعة التي أودعها الله تعالى فقال: (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا) أي بسبب إحصانها لفرجها، وأنها طاهرة مطهرة اختارها الله تعالى ليودعها عيسى عبده ورسوله، و (رُوحِنَا) هو جبريل عليه السلام، فهو الذي نفخ فيها ولم ينفخ بظاهر الآية في فرجها، بل نفخ كما قال المفسرون: " فى بعض ثيابها "، وقد قال تعالى في(9/4911)
تصوير النفخ فقد قال الله تعالى: (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21).
هذا هو نفخ الله تعالى من روحه جبريل الروح القدس الأمين، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ) أي آية دالة على كمال قدرته، وأنه الفاعل المختار لا تقيده الأسباب والمسببات، بل هو فاعل مختار، فكانت أمه آية في خرق الأسباب، إذ حملت من غير بَعْلٍ، وكان ابنها آية إذ خلقه الله تعالى من غير أب كما خلق آدم من غير أب ولا أم.
* * *
تفرق الناس حول الرسالة الإلهية وهي واحدة
(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى طائفة من الرسل الذين دعوا إلى الوحدانية، وإن إجابة الناس كانت واحد -، منهم مؤمنون وهم قليل، ومنهم كفروا وعاندوا وهم(9/4912)
كثير، وإن الذين أشركوا وعاندوا كانوا يستهزئون بالذين آمنوا، وكانوا يقولون هم أراذلنا بادي الرأي، وكانوا ينكرون البعث، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين، وكانت المادة تأسرهم، ولا يؤمنون بالغيب، والنبيون يجاهدون في الدعوة إلى الله والحق ويصابرونهم، ويبالغون في الدعوة ليعذروا لأنفسهم عند ربهم، ومن العصاة من يرتكبون أفحش الفواحش سائرين وراء شهواتهم المنحرفة، بعد ذلك بيَّن الله سبحانه وتعالى وحدة البشرية، ووحدة الرسالة؛ ولذا قال عز من قائل:(9/4913)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
(إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)
الإشارة بـ (هَذِهِ) إلى الجماعات الماضية رسلا مبشرين ومنذرين وأقوام بعثوا إليهم وعاندوهم أو وافقوهم، والخطاب للذين بعث فيهم النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، و (أُمَّةً) حال باعتبار الوصف بالوحدة، والمعنى إن هذه الجماعات التي مضت برسلها المصطفين الأخيار حالة كونها أمة واحدة هي أمتكم معشر المخاطبين، والمعنى أن الناس جميعا أمة واحدة في كونهم مؤمنين، وكافرين، ومستقيمين ومنحرفين، وأمة واحدة فيما طبعه الله تعالى عليها، وجبلها على الصفات الإنسانية الواحدة، ما بين ملهمين التقوى وملهمين الفجور، والرسل المختارون يدعون الأبرار والفجار، فيستقيم على الطريقة المثلى الأبرار، وينحرف عن الجادة الأشرار، وهذه الآية كقوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً. . .).
وبعد أن بيَّن سبحانه وحدة البشرية في الطبائع والجبِلَّات بين وحدة الرسالة، ووحدة الألوهية والربوبية، فقال عز من قائل: (وَأَنَا رَبُّكُم فَاعْبُدُونِ) أي أنا خالقكم والقائم عليكم والكالئ لكم (فَاعْبُدُونِ) الفاء فاء السببية أي بسبب هذه الربوبية الخالصة المبدعة - اعبدون، هنا ياء المتكلم محذوفة مع تقديرها في الكلام.
وإنه نتج عن هذه الوحدة في الجِبِلَّة، وتنوع الغرائز وتضاربها وتغالبها، وتنازع الأهواء والشهوات أن تنازع الناس، وإن اختلفت منازعهم ما بين مهتد رشيد، ومنحرف عنيد؛ ولذا قال تعالى:(9/4913)
وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
(وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
(وَتَقَطَّعُوا) أي تفرقوا مزائق، وفرقا متباينة: هذا مهتد، وهذا ضال، وقد نتج هذا من الوحدة في الطبائع والغرائز، ففي الغرائز حب الغَلَب، وفي الغرائز حب السيطرة، وفي الغرائز الشهوات، وإنها إن اختلفت في أصلها ومنبعها تفترق فى نزوعها واتجاهاتها، فمن وحدتها يكون اختلافها وهذا كقوله تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)، فقد قدر في القول كما أَسَلفنا بعد قوله تعالى: (كَانَ الناسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) فكان الاختلاف المقدر الذي تقرر بقوله: (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا) فِيهِ مترتبا على الوحدة في أصل الغرائز التي تتضارب، والجبلات التي تتناحر.
كذلك هنا كانت وحدة الأمة الإنسانية في أصول الغرائز وينابيع النفس سببا في الاختلاف وتقطع الأمر وتفرقه، وعبر سبحانه عن تفرق الإنسانية بـ " تقطع " للإشارة إلى أن الجسم الإنساني واحد وقد تقطع أجزاء، فهو تأكيد لأصل الوحدة، وقوله تعالى: (أَمْرَهُم) أي الأمر الجامع بينهم، وهو أصل الوحدة ووحدة الغرائز وجماعتهم الجامعة، قطعوها بين غالب ومغلوب ومسيطر ومسيطر عليه، ومهتد وضال.
ثم بين سبحانه وتعالى أنه كما ابتدأوا وحدة يعودون إلى الله تعالى مجتمعين في المحشر؛ ولذا قال تعالى: (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) فتقديم الجار والمجرور للدلالة على الاختصاص، أي راجعون إلينا وحدنا لَا إلى غيرنا.
ثم ذكر سبحانه جزاء الأبرار، ثم جزاء الفجار، فقال عز من قائل:(9/4914)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
(فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
" الفاء " فاء الإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا جميعا إلينا راجعون، فإنا نجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وقوله تعالى: (مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) " من " هنا إما للتبعيض، أو للاستغراق، ويكون المعنى من يعمل بعض(9/4914)
الصالحات وهو مؤمن بالله حق إيمانه متقربا بها إلى الله تعالى، فإن الله يقبل عمله ويثيبه عليه؛ لأنه لَا سلامة للأعمال إلا بأن تكون لله وحده، ولا تكون لله وحده إلا إذا كان مؤمنا به وبرسله والكتاب والملائكة والغيب الذي أخبر الله تعالى.
وإنما ذكر بعض الصالحات؛ لأنه ليس في الطاقة الإنسانية القيام بكل الصالحات، وكل ميسر لما يستطيعه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ويصح أن تكون (مِنَ) بيانية، أي ومن يعمل الصالحات بما في طاقته (فَلا كفْرَانَ لِسَعْيِهِ) " الفاء " واقعة في جواب الشرط، والكفران الستر، وكفران النعمة سترها، وكفران السعي عدم الجزاء عليه، والسعي هو العمل النافع الذي يكون فيه القرب إلى الله تعالى.
وعبر سبحانه عن عدم الجزاء بالكفران، إكراما للساعي وتأكيدا بأنه لن يهمل جزاءه، ومعاذ الله تعالى أن يفعل، كما قال تعالى (. . . أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنكُم. . .)، وقوله تعالى: (. . . إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا).
وبين سبحانه، أن هذا السعي مكتوب قد أحصاه الله تعالى فقال: (وَإنَّا لَهُ كاتِبونَ) أي قد أحصيناه إحصاء، وذكر الكتابة للدلالة على أنه غير ضائع أبدا، والله بكل شيء عليم، وقدم الجار والمجرور لكمال العناية بمن يعمل عملا صالحا، أي كل عامل يقيَّد له عمله بخاصة، ويحصى لكل ما يخصه.
هذا جزاء الأبرار، أما غيرهم فقد قال سبحانه في جزائهم:(9/4915)
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
(وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
الحرام: الممنوع من الله تعالى، أو من الطبع، أو نحو ذلك، والحرام هنا ما حرمه الله تعالى على نفسه، وهو تأكيد لرجوع الناس جميعا إليه سبحانه وتعالى، أي حرَّم الله تعالى على نفسه ألا يرجع الذين هلكوا، والمعنى: أوجب اللَّه تعالى على نفسه أنهم إليه راجعون، لأنه إذا كان عدم الرجوع فيكون الواجب الرجوع؛ ولذا فسر الكثيرون، حرام بمعنى وجب أن يرجعوا.(9/4915)
والقرية الجماعة المجتمعة في مدائن عظيمة أو مدائن متقاربة، وقوله تعالى: (أَهْلَكْنَاهَا) إشارة إلى عقاب الدنيا الذي ينال الضالين، وهو الهلاك والدمار، كما أغرق قوم نوح، وأهلك قوم عاد، وكالريح الصرصر العاتية التي أهلكت ثمود.
وقد ذكر سبحانه وتعالى هلاك الآثمين في الدنيا، وقال تعالى: (كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ) أي أوجب الله على نفسه أن يرجعوا، كما أوجب سبحانه وتعالى الرحمة على نفسه للمتقين الأبرار.
قوله: (أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) تقديم الجار والمجرور في معنى الاختصاص، أي أنهم لَا يرجعون إلا إليه وحده ليتولاهم بعذابه في الآخرة كما تولاهم بالهلاك في الدنيا جزاء ما قدمت أيديهم، فرجوعهم سبحانه وتعالى إليه وحده إنذار بعذابهم على ما اجترموا في جنب الله العزيز الحكيم.
* * *
القيامة ومقدماتها
(حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
* * *(9/4916)
هذا بيان مما أعد للكافرين يوم القيامة، وقد ذكر أنهم إلى الله وحده راجعون وسيحاسبهم على ما أجرموا في حق الله سبحانه، وظلمهم لعباده، وفي هذه الآية يذكر الكافرين بيوم القيامة، وما يختبر به عباده من قوم أشرار يعيثون في الأرض فسادا، وربما يهديهم الله سبحانه وتعالى، ويخف بالهداية شرهم، وهم يأجوج ومأجوج، وقد استغاث الناس بالإسكندر ذي القرنين، فقالوا له: (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94).
وقد هيأ الله تعالى أن أتم ما وعد، وقد تكلمنا في تفسير هذه في سورة الكهف، ويظهر أنه فتح لهم جانب من السد (1)، وقال تعالى:
________
(1) عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ» وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، قَالَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَثُ». متفق عليه؛ من رواية الإمام البخاري (7906)، ومسلم - اقتراب الفتن (7174).(9/4917)
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
(حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ).
(حَتَّى) للتفريع من قوله تعالى: (أَنَّهمْ لَا يَرْجِعُونَ) وفي ذلك إشارة إلى أن يأجوج ومأجوج الذين عرفوا في التاريخ بالمغول، أو التتار، وهما في أصلهما واحد، ثم انشعبا من بعد ذلك وكانوا عنصرا واحدا.
وقد ظهر هؤلاء في القرن السادس، وانسابوا في الشرق، حتى وصلوا إلى وسط أوربا، وتلقت البلاد الإسلامية صدمتهم، وقد كانوا يسيرون فاتحين مسرعين في فتحهم حتى إنهم ليقطعون في حروبهم أبعد المسافات فتحا بمقدار سيرهم لا يقف أمامهم شيء، حتى إذا كان القرن السابع تولتهم الجيوش المصرية، فهزمتهم في عين جالوت، ولأول مرة عرفت السيوف مواضعها من أقفيتهم، وقد انحدروا كالصخرة من أعلى الصين، وما زالت تسير لَا تلوي على شيء إلا جعلته كالرميم، حتى وصلت إلى فيينا، وكانت الحبالى تجهض من سماع أخبارهم.(9/4917)
وقد ذكر القرآن الكريم ذلك من أخبارهم فقال تعالى: (حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأجُوجُ وَمَأجُوجُ) أي فتح سدهم ولم يعد مانعهم، وعبر عن فتحته بـ (فُتحَتْ) بالبناء للمجهول، أي فتح لهم لأمر يعلمه الله تعالى، وعبر بالبناء للمجهول، وأضيف (الفتح) إليهم للدلالة على هولهم، وكأنَّهم نيران أو حجارة فتحت على الناس، وكأنهم جهنم الدنيا (مِّن كُلِّ حَدَبٍ) أي نشز (1) من الأرض (يَنسِلُونَ) يسرعون، مشتق من نسلان الذئب أي سرعته.
هذا أمر وقع، ورآه التاريخ، واستمر يشغل الأرض الإسلامية القرن الثامن الهجري، وإن الإخبار به قبل يوم القيامة يدل على أمرين: أولهما أنه يكون على مقربة من القيامة، وأنهم هلاك للناس في الدنيا، وثانيهما أنه معجزة من إعجاز القرآن؛ لأنه سبحانه أخبر عن أمر يقع في المستقبل، فوقع كما أخبر سبحانه، فكان ذلك دليلا على أنه من علم الله تعالى علام الغيوب، وأنه من قوله الحكيم.
وذكر بعد ذلك سبحانه قرب يوم القيامة فقال عز من قائل:
________
(1) الحدب الأكمة، والنشز ما ارتفع من الأرض. وروى مسلم في صحيحه (7322) عن النواس بن سمعان حديثا ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم من أمر الدجال، إلى أن قال: ". . . فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ، ثُمَّ يَأْتِي عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ وَيَبْعَثُ اللهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ".(9/4918)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
(الْوَعْدُ الْحَقُّ)، هو الوعد بالبعث، وما وراءه من قيامة وحساب، وهو حق لأنه صادق وثابت لَا يرتاب فيه إلا المبطلون، و " الواو " عاطفة على (فُتِحَتْ يَأجُوجُ وَمَأجُوجُ)، وهذا دليل على اقتران فتح ما سُدَّ على يأجوج ومأجوج بالوعد الحق،(9/4918)
وذلك لأن الدنيا تكون قد فسدت واضطربت فيها موازين، واستحكم الشر، فمنذ الغزوات المغولية، والعالم يموج بالشر، ويمرج بالفساد، فجاءت بعده الغزوات الصليبية الشرسة، ومن بعدها تكون شذاب العالم (1) في القارتين الأمريكيتين، وأعطيت الشمالية علم إبليس وعقله، وخلقه الشرير، واتخذت الذرائع التي يمكن بها إبادة العالم، ولا ضمير يمنع، ولا زاجر يردع، وهي من وقت لآخر تهدد بالفناء، حتى صار العالم قاب قوسين من أن ينزل به أشد الخراب بفعل الإنسان، ولعل قيام القيامة يكون بإرادة من الله، ويسخر لها عملا من أعمال الإنسان، وقد ابتدأ الخراب بفتح السدود أمام يأجوج ومأجوج، وختم بإخوانهم الأمريكان الذين لم يدعوا قائما من الأخلاق والفضيلة حتى قوضوه.
وقد صور حال الناس عند البعث وقيام القيامة، وقد اضطرب الوجود، (فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَار الَّذِينَ كفَرُوا) " الفاء " واقعة في جواب شرط مقدر، أي إذا جاء الوعد الحق فإذا. . .، فـ " الفاء " و " إذا " الفجائية جواب هذا الشرط المقدر وهي للحال، أي فإذا الحال شاخصة أبصار الذين كفروا، أي واقفة أعينهم لَا تتحرك، فمعنى شخوص العين أنها تفتح فلا تطرف، وذلك يكون في حال الفزع والهلع، وهذا تصوير لحالهم من الفزع فقد شبهت حالهم بحال من تكون أبصارهم شاخصة هلعا وفزعا، والجامع بينهم الفزع.
وذكر الموصول (الَّذِينَ كَفَرُوا) للإشارة إلى أن سبب فزعهم كفرهم، فهو فزع لا يعرف له نهاية لسوء ما قدموا، ولسان حالهم يقول: (يَا ويْلَنَا) فهذا مقول لقول محذوف مفهوم من حالهم، فهم قائلون بلسان الحال: يا ويلنا، ينادون ويلهم، كأنهم ينادون الهلاك؛ لأن هذا وقته، فهم بهذا يتوقعون الهلاك وينادونه كأنهم يستعجلونه، إذ إن من يكون في حال فزع وهلع يرون أن تزول هذه الحال، ولو بنزول الهلاك العاجل؛ لأن حال الانتظار أشد على النفس وقعا وبقاءها مرير مع الهم الشديد.
________
(1) رجل شَاذَبٌ إِذا كان مُطَرَحا، مأيوسا من فَلاحِهِ كأنه عَرِيَ من الخير، شبه بالشَّذَبِ، وهو ما يُلْقَى من النخلةِ من الكَرانِيفِ وغير ذلك.(9/4919)
(قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ منْ هَذَا) أي ربنا كنا غافلين عن هذا البعث، وما كنا نحسب أنه سيكون، وإذا كان لَا يكون بهذا الهول العظيم والكرب الشديد، ثم أقروا بظلمهم (بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ) لأنفسنا ولاعتدائنا على المؤمنين، وبكفرنا بالرسل، ومعاندتنا لهم، وقد أكدوا ظلمهم بالجملة الاسمية، وبوصفهم بالظلم وبالإضراب بقولهم: (بَلْ) أي أنهم يُضربون عن قول ويصفون أنفسهم بالظلم المؤكد المستمر، لأن (كُنَّا) للاستمرار في ظلمهم في الدنيا.
ثم يقول سبحانه في عذاب جهنم:(9/4920)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
(إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
الضمير للمشركين ومن تبعهم وخدع بأقوالهم وصار مثلهم، (وَمَا تَعْبُدُونَ) من أوثان وأحجار، وعقلاء رضوا أن يكونوا معبودين كالفراعنة وأشباههم ممن عدوا أنفسهم آلهة في الأرض (مِن دُونِ اللَّهِ) أي غير الله (حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي أنهم يلقون في النار كما يلقى الحصب فيها ليزيد اشتعالها، فشبههم في إلقائهم في النار بالحصب إذ يرمى فيها ليزيدها اشتعالا ويهيجها.
وهنا يرد سؤال: إن النصارى عبدوا المسيح، ومن المشركين من عبدوا الملائكة، فهل يعاقب المسيح وعزير والملائكة بسبب عبادة المشركين لهم، ولا ذنب لهم وقد نهوهم؟ والجواب عن ذلك: إنه لَا يدخل في هؤلاء العقلاء من عباد الله الأبرار، إنما يدخل فقط الأوثان، وهنا يرد سؤال آخر: هذه الأوثان لَا تعقل فكيف تعذب، وهي لَا تحس عذابا ولا نعيما؟ والجواب عن ذلك أنهم كانوا يعتقدون أن آلهتهم من هذه الحجارة تنفعهم وتشفع لهم، فالله تعالى يبين أنها لَا قوة لها، وأنها تلقى في النار مثلهم، وإن كانت لَا تحس، وإذا كانت لَا تنقذ نفسها من النار فأولى ألا تنقذهم.
ثم أكد سبحانه دخولهم في النار فختم الآية الكريمة بقوله: (أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) الضمير في (لَهَا) يعود لآلهتهم، أي أنتم لأجلها واردون النار أي(9/4920)
داخلون فيها، أي أنتم لأجل الأوثان واردون النار وهي بئس الورد المورود، والورود: الدخول.
وبين سبحانه أنهم مضللون في عبادة هذه الأوثان، فقال:(9/4921)
لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)
(لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99)
هذا دليل شرطي مشتق من الوقائع يوم القيامة، أي لو كانت هذه الأحجار مستحقة للعبادة ما وردت النار وما دخلتها؛ لأنها تكون مسيطرة قوية لَا سلطان لأحد عليها حتى يُدخلها النار، ولكنها دخلتها مع من عبدوها فلم تكن آلهة، (وَكلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ) التنوين قائم مقام المضاف إليه، أي كل من العابد بالباطل والمعبود خالدين فيها، أي الأحجار التي عبدت والمشركون، كلهم خالدون في النار، الأحجار إذ تحمى عليها النار فتكون حجارة ملتهبة، والمشركون إذ تزداد التهابا يصلون بنارها، والنار خالدة، وهم فيها خالدون، فهو عذاب مقيم دائم.
ثم وصف الله تعالى حالهم فيها فقال:(9/4921)
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
(لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
الضمير يعود إلى المشركين، والزفير كما جاء في مفردات الأصفهاني: تردد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه، وهو يكون في حال الضيق وحال السقام، أي أنهم في حال ضيق وسقام كحال الذي يزفر حتى تنتفخ أضلاعه، وهذا كناية عن شدة الضيق والضجر، وهي حال دائمة، يتألمون، ولا يسرى عنهم شيء يسمعونه، ولا خبر يطمئنون به، بل هم في ألم مستمر لَا تسرية فيه ولا منجاة، ولقد قال تعالى: (. . . وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا. . .)، أي أنهم يحسون ولكن ليس لهم من حواسهم منافذ تسري عنهم من مناظر تسري عنهم أو أحاديث يسمعونها تروّح لنفوسهم، أو يتكلمون بكلمات يشكون بها حالهم وألمهم، لَا يرجعون قولا ولا يرددون فكرا.
* * *(9/4921)
حال المتقين يوم القيامة
(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
* * *
بعد أن بين الله سبحانه وتعالى جزاء الأشرار وأنهم يجزون سيئات ما فعلوا، ذكر سبحانه جزاء الأبرار، فقال عز من قائل:(9/4922)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)
(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ).
(الْحُسْنَى) مؤنث أحسن، أي سبقت لهم في علم وحكمة الخصلة التي هي في أعلى درجات الحسن، وهي تقوى الله تعالى ومخافة عقابه ورجاء ثوابه، و (سَبَقَتْ) أي سبقت في علم الله تعالى وقدرها لهم، وسلكوا سبيلها، واهتدوا إلى طريقها، فأخذ الله تعالى بأيديهم، فهداهم إلى الطريق الأمثل؛ لأن من سلك طريق الخير وطلبه وفقه الله وهداه، ومن تنكَّب طريق الخير أضله الله وأرداه، والله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب.(9/4922)
(أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) الإشارة إلى أهل التقوى موصوفين بهذه الصفة، وهي سبب نجاتهم من النار وبعدهم عنها، أي إن تقواهم أبعدتهم عن النار وجحيمها وشقائها والتهاب حصبها، حتى يكون جمرات موقدة، وقدم الجار والمجرور لمزيد تأكيد البعد عنها، وإن الله لَا يضيع أجر من أحسن عملا.(9/4923)
لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)
(لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102)
الحسيس حركة النار وحسها، أي أنهم يبعدهم الله تعالى عن النار بحيث لا يسمعون صوت اندلاعها واصطلاء أهلها بها، ولكنهم يعلمون أين هم، وهذا تأكيد لما جاء في آخر الآية السابقة (أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) فهم مبعدون عنها بحيث لا يسمعونها، وإذا كانوا مبعدين عن النار، فهم (فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ) والذي تشتهيه نفوسهم نعيم مقيم، وجنات تجري من تحتها الأنهار وغير ذلك مما ذكره الله تعالى فيما اشتملت عليه الجنة، وما تشتهيه أنفسهم اطمئنان وقرار، وبُعد عن اللغو، وحور عين، وأعظم ما تشتهيه أنفسهم رضوان الله تعالى، فهو أكبر من اللذائذ، بل هو لذة أهل الإيمان الأولى.
وفى التعبير بقوله: (فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ) إشارة إلى أنهم حرموا من شهوات الدنيا الآثمة فنالوها في الآخرة حلالا طيبا.
وهنا ملاحظتان بيانيتان:
أولاهما - أنه عبر عن نيلهم ما يشتهون بجعل ما يشبتهون ظرفا لوجودهم، فما يشتهون أحاط بهم إحاطة الظرف بمظروفه فهم يعيشون في دائرة ما يشتهون، لا يخرجون عن دائرة إجابة رغائبهم، فلا يحرمون من شيء يرغبونه.
ثانيتهما - أن الله أكد تمكنهم من رغائبهم فيها، أكده بـ (هُمْ)، وبتقديم (فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ) للاهتمام والعناية، والله سبحانه يجزي كل نفس ما كسبت وهو العليم الحكيم.
(لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)(9/4923)
لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
الفزع الأكبر هو يوم ينفخ في الصور فتكون أنظار الذين كفروا شاخصة من شدة الهول، إذ يصيبها الفزع، ويقولون: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)، ولذلك يصابون بالحزن الشديد لأنهم لم يتوقعوه ولم يؤمنوا به، بل أنكروه وكانوا عنه غافلين.
أما أهل الإيمان الذين سبقت لهم الحسنى من الله تعالى، فإنه لَا يحزنهم هذا الفزع، بل هو فزع بالنسبة لغيرهم؛ لأنهم توقعوه قبل أن يقع، بل آمنوا بأنه سيقع لا محالة.
وقد يقول قائل: كيف يسمى الفزع الأكبر بالنسبة لهم وهم لم يفزعوا منه؟ والجواب عن ذلك، ذلك إنه في ذاته أمر مفزع؛ إذ إن الوجود كله يضطرب، فالشمس تتكور، والسماء تنفطر، والجبال تصير هباء منبثا، وكل الدنيا تضطرب بما فيها، فهو في ذاته فزع، فهو يروعهم بأحداثه ولكن لَا يلقي في قلوبهم حزنا لأنه يوم جزائهم.
وإنه من بعد هذا اليوم المروع في ذاته، (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ) أي أنهم مع اطمئنانهم، وبعدهم عن الحزن والغم تتلقاهم الملائكة تلقى الكرماء لضيفانهم وكأنَّهم ينزلون في مضيف لَا في دار حساب وجزاء، وذلك يؤكد أمنهم وسلامهم، والتلقي بالتحية المباركة يزيل كل ما من شأنه حزنهم أو جزعهم، أو غرابة حياتهم الجديدة التي كانوا يتوقعونها ويؤمنون بها (هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كنتمْ تُوعَدُونَ) قدر المفسرون القول، أي قول الملائكة، والمعنى تتلقاهم الملائكة قائلين لهم هذا يومكم. . ونحن نرى أن قوله تعالى: (هَذَا يَوْمُكمُ) هذا بيان للتلقي، لأنه تحية لهم، وتصديق لما اعتقدوا من قبل.
وقوله تعالى: (الَّذِي كُنتُمْ توعَدُونَ) بيان لوعد الله تعالى بالبعث والجزاء والجنة والنعيم والرضوان، وقد ذكر سبحانه ذلك بعبارة تفيد التكرار، واستمرار التذكير، فالتعبير بالمضارع (توعَدُونَ) فيه إشارة إلى الوعد المتكرر على ألسنة الرسل رسولا رسولا، وقوله تعالى: (كُنتمْ) تفيد استمرار هذا التذكير لمن كان يتذكر، وهم المؤمنون الأبرار.(9/4924)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
(يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
(يَوْمَ) هذه متعلقة بـ (الْفَزَعُ الأَكبَرُ)، فهو ظرف مبين لنوع الفزع الأكبر، وما يكون فيه من أهوال هائلة إذ تطوى السماء كطي السجل للكتب، ويصح أن تنول إن (يَوْمَ) متعلق بقوله تعالى: (توعَدُونَ) وأميل إلى الأول؛ لأنه مناسب للفزع الأكبر، والطي معناه درج المكتوب، ويتضمن إخفاءه وطمسه أو التعمية أو محوه، والمعنى أن السماء بكواكبها ونجومها تطوى فتنكدر كواكبها وشموسها ونجومها، كما قال تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)، وكما قال تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)، وكما قال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ. . .)، و (السِّجِلِّ) هو الصكّ، وأصلها من السَّجْل، وهو الدلو ويقال: ساجل الرجلُ الرجلَ إذا نزع كل واحد دلوا في نظير دلو الآخر، ثم استعير للمكاتبات، وقال تعالى بعد بيان زوال الأرض والسماء في يوم الفزع الأكبر (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نعِيدهُ) أي أننا نطوي السماء ونزلزل الأرض لتغيير الكون، وذلك بالإنشاء أولا، ثم الإزالة، ثم الإعادة كشأننا في بدئنا الخلق ثم إعادته، وهذه العبارة تحمل في نفسها دليل صدقها، وذلك أن من كان قادرا على الابتداء للخلق قادر على إعادته، كما قال: (. . . كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ. . .).
(وَعْدَا عَلَيْنَا)
منصوب (وَعْدًا) على أنه مفعول مطلق لفعل محذوف، والمعنى وعدناه وعدا علينا، وأكده سبحانه بهذا المصدر، وبأنه سبحانه وتعالى ألزم به نفسه وأنه صار حقا عليه، والله عز وجل لَا يخلف الميعاد، فلا يمكن أن يخلف وعده، وأكد الوعد مرة أخرى بأنه ينقله من الوعد إلى الفعل، فقال: (إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) أي فاعلون الإعادة حتما، لأنه سبحانه لم يخلق الإنسان عبثا، كما قال سبحانه: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا(9/4925)
خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، وقد أكد سبحانه الإعادة بـ (إن) ونسبة الفعل إليه، وهو العزيز الحكيم، وأكده بالجملة الاسمية، وبالتعبير باسم الفاعل، وهو على كل شيء قدير.
* * *
العاقبة للمتقين
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
* * *
الزبور هو كتاب داود عليه السلام، كما قال تعالى: (. . . وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)، والذكر: قالوا: هو التوراة؛ لأنها ذكر للشرائع وبيان لها، نسخ منها ما نسخ بالقرآن، وما بقي استمر محكما وإن كان القرآن حجتها، ولا دليل على صادقها سواه، ولو كان موسى بن عمران. حيا ما وسعه إلا اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذكر الزبور وقد قام داود بتنفيذ ما في التوراة للإشارة إلى أن كتب الله المنزلة(9/4926)
تواردت على هذا المعنى وتعاونت على آدابه، وهو (أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) أي أن الأرض كلها بقاصيها ودانيها لله، وأنها ليست لملك طاغ، ولا لزعيم. مفسد ولا لرئيس يقود الناس إلى مراتع الفساد ومواطن التهلكة، إنما هي لله (يَرِثُهَا عبَادِيَ الصَّالِحُونَ) أي يعطيها مالك الملك لعباده الصالحين، وعبر بقوله (يَرِثهَا) للإشارة إلى أن الصالحين يخلفون من كانوا عليها من فاسدين ظالمين عتاة، وذلك كقوله تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا. . .)، وإن العاقبة تكون دائما للمتقين. وهنا التفات من الغائب إلى العودة إلى ضمير المتكلم، وهو الله جل جلاله، فالكلام بلغة المتكلم في قوله تعالى:(9/4927)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْد الذكرِ أَن الأَرْضَ يَرِثهَا) فانتقل إلى الغائب ثم عاد إلى المتكلم في قوله: (عِبَادِيَ)، وفي ذلك تأكيد أن هذا مكتوب في كتبه سبحانه في كتبه المنزلة، وإضافة العباد إليه سبحانه.
وإن ذلك وعد سجله سبحانه في كتبه بأن مآل هذه الأرض لعباده الصالحين، برغم جنحات المفسدين وغلبتهم وسعيهم بالفساد في الأرض.
وقد يعترض الذين يأسرهم الزمان الذي يعيشون فيه، ولا تنفذ بصائرهم إلى ما وراءه بأن المفسدين في الأرض الذين اتخذوا من العلم بالكون، وسائل تخريب في الأرض، وتمكين للظلم، وأن أهل الحق الصالحين مغلوب عليهم مستضعفون، ونقول: إن ذلك حكم حقبة من الزمان هي التي نعيش، ولكن الله تعالى أخبر أن المآل للصالحين، والله أعلم بالمفسدين، وإن خبره صادق والمستقبل غيب لَا يعلمه إلا هو، ولنا أن نصدق الله ونكذب حكم الزمان في القابل.(9/4927)
إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
(إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106)
اسم الإشارة يشير إلى هذا الخبر الكريم الذي أخبر به الحكيم العليم، وأن العاقبة للصالحين، والبلاغ يطلق بمعنى المنتهى والكفاية، ويطلق بمعنى التبليغ، وعلى(9/4927)
أن الإشارة إلى الخبر في الآية السابقة، يكون معنى البلاغ هو التبليغ أي إن هذا تبليغ للعابدين الذين امتلأت قلوبهم بعبادة الله تعالى، وصارت العبادة وصفا ملازما لهم لَا يفارقونه، وصارت قلوبهم خاضعة وألسنتهم تترطب دائما بذكره.
ويصح أن تكون الإشارة إلى ما ذكر في السورة من قصص النبيين، ومواعظ وتوجيهات إلى الكون وأسراره، ويكون معنى " بلاغ " منتهى وكفاية يدركها العابدون، ويفهم لبها العاكفون على عبادته سبحانه.
وإنى أميل إلى التخريج الأول؛ لأن الإشارة بقوله تعالى: (إنَّ فِي هَذَا) إشارة إلى القريب، ولو كانت إلى المذكور في السورة كلها من قوله تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ. . .)، إلى هذه الآية، فقال عز من قائل: (إِنَّ فِي هَذَا) ولكلام الله تعالى المثل الأعلى، وليس لنا أن نتطاول على مقام كتابه المعجز، الحكيم الخالد.(9/4928)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
أي أن رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - مقصورة على أن تكون رحمة للعالمين، أي لكل العقلاء، ورحمته - صلى الله عليه وسلم - في أنه بعث على فترة من الرسل؛ لإنقاذ الناس من الأوهام التي أركسوا فيها، وصاروا بها في عمياء ضاربة عليهم لَا يدركون معها حقا من باطل، وأنهم كانوا يتسافكون الدماء، وقد أكلت العداوة كل معاني الخير في فطرهم، واشتفت كل ينابيع المودة في صدورهم، وكان - صلى الله عليه وسلم - رحمة بشريعته التي دونت في القرآن وبينتها السنة النبوية المطهرة، بلسانه وعمله وإقراره حتى ترك الناس على المحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، ولقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)، وقد جاءت هذه الشريعة مشتملة على مصالح العباد، فكل ما فيها مصلحة، واستغرقت كل المصالح بالعبارة، وبالإشارة، وبوضع أصول كل نفع إنساني، والله رءوف بالعباد.(9/4928)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
(قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في كل موضع تبليغ يجعل سبحانه وتعالت كلماته الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليبلغ رسالة ربه وأول تكليف بتبليغ الرسالة هو في التوحيد، وهو أول ما صدع به - صلى الله عليه وسلم -: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ).
كان في الكلام قصران: أولهما: أن التبليغ بالتوحيد كان بإيحاء من الله تعالى لا بأمر من محمد - صلى الله عليه وسلم -، أي أن الله تعالى الذي تجأرون إليه في الشدائد وتستغيثون به في المهالك وعندما يحاط بكم - هو الذي يوحى إليَّ بأن توحدوه، والقصر الثاني: لبيان وحدة الألوهية، وقد دعاهم إلى الإسلام (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) الاستفهام للتنبيه والحض على الإسلام، وقال علماء البلاغة إن هذا التعبير أقوى تعبير في الدعوة إلى الإسلام، و " الفاء " لبيان ترتب الدعوة على الإسلام، على تقدير أن الدعوة إلى الله وحده بايحاء من الله.(9/4929)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109)
(فَإِن تَوَلَّوْا) أي أعرضوا عن دعوة الحق ولم يجيبوا داعي الإسلام والإذعان وإخلاص وجوههم لله تعالى وحده، والفاء الأولى فاء الإفصاح عن شرط مقدر، ونسق القول: إن دعوتهم فإن تولوا. . . إلى آخره، والفاء الثانية في قوله تعالى: (فَقلْ) واقعة في جواب الشرط لأن بعدها طلبا هو الأمر.
و (آذَنْتُكُمْ) أي أعلمتكم وبينت لكم الحق، وأنكم ستبعثون وتحاسبون على سواء، أي على تسوية بين الضال والمهدي، أي كلا محاسب ومبعوث لهذا الحساب.
(وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ) إن هنا نافية، والمعنى ما أدري أقريب أم بعيد اليوم الذي وعدتم، وهو يوم البعث، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي يوحى إليه القرآن الكريم وحديثه، لَا يعلم متى تكون الساعة، وقد قال تعالى: (يَسْألُونَكَ عَنِ(9/4929)
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي)، فقد خفي علمها عن كل البشر ولو كان خير البشر، واختص الله وحده بعلم الساعة، كما قال تعالى: (إِن اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ. . .).
وإن هذا فيه إنذار لمن أعرضوا، وكان من الترفق بهم في القول، أن ذكر أنهم ومن هداهم الله على سواء فيما يتعلق بالإعلام بالبعث والحساب، وإن اختلف الجزاء.
ثم بين الله تعالى إحاطة علمه الكامل، فقال عز من قائل:(9/4930)
إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)
(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110)
الضمير يعود على ذي الجلال والإكرام، و (الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ) وهو ما كان يجهر به أهل مكة من قول، هو استهزاء، أو غيره، وذكر علمه سبحانه وتعالى به تهديد بالحساب لقولهم، وهو حساب من لَا يخفى عليه شيء من الأقوال والأفعال، وذكرت الأقوال من جحود وعناد وإيذاء وسخرية وتهكم، ولم يذكر الأفعال منْ إيذاء للضعفاء وفتنة لهم في دينهم بتعذيبهم، كما فعلوا مع عمار بن ياسر وأبيه، وكما فعلوا مع خباب بن الأرَتّ، ولم يذكر الأفعال، لأن الأفعال أجهر وأبين من الأقوال، لَا إذا كان يعلم الأقوال، فأولى أن يعلم الأفعال، وهو بكل شيء عليم.
(وَيَعْلَمُ مَا تَكْتمُونَ) من إحن ومنافسة على الشرف الكاذب كما كان من أبي جهل وأشباهه فيما ينفسون على بني عبد مناف، وفيما ينفس بنو أمية على بني هاشم.
ويعلم انحراف الاعتقاد، وعبادة الأوثان، وما يعشش في رءوسهم من خرافات وأوهام، وما يحلون ويحرمون بغير ما أنزل الله السر وأخفى، والجهر وما يعلن، وذكر علمه سبحانه وتعالى بالعصيان إنذار لهم بالحساب ثم العقاب.(9/4930)
وقد يسأل سائل لماذا أمهلهم مع هذا السوء الذي أحاط بهم في جهرهم وكتمانهم، فقال الله على لسان نبيه.(9/4931)
وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
(وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111)
إن هنا نافية، والكلام على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأن الله يدري، والمعنى ما أدري لماذا أمهلكم الله تعالى تساءل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *(9/4931)
(سُورَةُ الْحَجِّ)
سورة الحج مدنية إلا الآيات 52، 53، 54. 55، وعدد آياتها ثمان وسبعون آية، وسميت الحج في عرف القراء؛ لأن مناسك الحج كثيرة فيها.
وقد ابتدأت السورة بذكر يوم القيامة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3).
وأشار سبحانه إلى أن من يتولاه الشيطان فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير، وذكر سبحانه من ينكرون البعث وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5).
ويشير إلى أن ذلك التطور التكويني يثبت أن اللَّه هو الحق، وأنه يحي الموتى، وأن الساعة آتية لَا ريب فيها، وأن اللَّه يبعث من في القبور، ويذكر الذين يجادلون في اللَّه بغير علم ولا هدى ولا سلطان مبين، ويتولون معرضين ويضلون عن سبيل اللَّه، وأن عقابهم في الآخرة عذاب الحريق، وفي الدنيا خزي.
وبعد أن ذكر سبحانه الأشرار الخالصين للشر، ذكر من يترددون، فيعبدون اللَّه على حرف إن أصابهم خير اطمأنوا إليه، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. وإن هؤلاء وأولاء(9/4932)
يدعون ما لَا يضر ولا ينفع، ومن ضَرُّه أقرب من نفعه لبئس المولى، ولبئس العشير.
بعد ذلك ذكر سبحانه الذين يعملون الصالحات وجزاءهم، وأبطل سبحانه أوهام الذين يظنون أنه لَا ينصرهم اللَّه فقل: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)، ثم أشار سبحانه إلى آيات اللَّه البينات وأن اللَّه يهدي من يريد، وأشار سبحانه إلى اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والهندوس والذين أشركوا، وأن اللَّه سيفصل بينهم يوم القيامة.
ولقد أشار سبحانه إلى حال الفريقين المهتدي والضال، (. . . فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22).
وبين بعد ذلك جزاء المؤمنين فقال: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24).
وذكر سبحانه بعض أعمال المشركين من الصد عن سبيل اللَّه والمسجد الحرام
(. . . الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25).
ويشير سبحانه إلى نبأ إبراهيم وتطهير البيت للطائفين والعاكفين، والركُّع السجود، ثم دعوة إبراهيم إلى الحج: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)، ثم يشير سبحانه إلى بعض مناسك الحج، ويدعو سبحانه إلى تعظيم حرمات اللَّه تعالى،(9/4933)
ويبين أنه أحلت بهيمة الأنعام إلا ما جاء النص بتحريمه، ويدعو سبحانه إلى اجتناب قول الزور، والرجس من الأوثان، وأن يكونوا حنفاء للَّه غير مشركين به، ويبين سبحانه أن تعظيم شعائر اللَّه من تقوى القلوب، ويبين أن منسك أهل الحق والإيمان الحج إلى بيت اللَّه الحرام، ثم يذكر سبحانه أن الإبل والبقر وهي البُدْن من شعائر اللَّه تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37).
ثم بين سبحانه شرعية الجهاد بعد هذه الإشارات إلى الحج، وهو من الجهاد، (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)، ثم صرح سبحانه وتعالى بالإذن بالقتال: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)، وقد بين اللَّه تعالى فضل المتقين في إقامتهم الصلاة، وإيتائهم الزكاة وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
وأشار سبحانه إلى المشركين، وأنهم لم يعتبروا بهلاك من سبقوهم إلى الشرك، واضطهاد أهل الإيمان ومعاندة الرسل، فأشار سبحانه إلى قوم عاد وثمود، وقوم إبراهيِم وقوم لوط، وأصحاب مدين، وكُذِّب موسى ثم قال:
(. . . فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44).
ثم أشار سبحانه إلى هلاك القرى التي أهلكها سبحانه وهي ظالمة (. . . فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مشِيد)، ودعا اللَّه المشركين إلى أن يسيروا في الأرض، فتكوِن لهم قلوب يعقلون بها، أو آذان يسمعون بها، (. . . فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46).(9/4934)
ثم ذكر سبحانه حال المشركين، في استعجالهم العذاب، بدل أن يعملوا للثواب، وبين أنه يملي لهم ثم يأخذ الآثم بإثمه، (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48).
وذكر بعد ذلك أن عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الإنذار، والناس بعد ذلك أشقياء أو سعداء (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51).
ثم بين سبحانه أن الأنبياء بشر كسائر البشر، ولكن اللَّه يعصمهم، فإذا وسوس الشيطان في صدورهم نسخ ما يلقى الشيطان: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
وما يلقيه الشيطان لَا يكون فتنة للأنبياء، ولكل يكون فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد.
ثم أشار إلى أن القرآن من عند اللَّه يعلم أهل العلم أنه الحق من ربهم، وأما الذين كفروا فإنهم في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم، وإن الملك للَّه يوم القيامة هو الذي يحكم، فالذين كفروا لهم عذاب مهين، (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60).
ْثم بين سبحانه آياته في الليل والنهار، وهذا يدل على أن اللَّه هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن اللَّه هو العلي الكبير.
بعد هذا بين سبحانه وتعالى نعمه في أنه ينزل المطر فتصبح الأرض مخضرة، وأنه (سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأمْرِهِ وَيُمْسِكُ(9/4935)
السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66). وإن مناسك الناس مختلفة، ولكلِ أمة جعلنا منسكا فلا ينازعنك في الأمر، ويخاطب نبيه فيقول: (. . . وَادْعُ إِلَى ربِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ).
ولا تجادلهم بعد أن تبين لهم الحق، واللَّه يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون، وإن اللَّه تعالى لَا يخفى عليه شيء، (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70). ثم ذكر عبدة الأوثان وهم مشركو مكة، فقال: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)، وقد ضرب اللَّه تعالى مثلا بالذباب. فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74).
ثم بين سبحانه أن خلق اللَّه تعالى بالنسبة له على سواء، ولكنه يصطفي من الملائكة رسلا يكونون لخلقه، واصطفى من الناس رسلا يكونون دعاة للحق، والإخبار عن اللَّه تعالى بينهم، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وإليه ترجع الأمور، ثم أشار سبحانه أن رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - امتداد لرسالة إبراهيم، فقال:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78).
* * *(9/4936)
معاني السورة الكريمة
هول يوم القيامة وجدل الناس حولها
قال اللَّه تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
* * *
ذكر اللَّه تعالى هول يوم البعث حيث تزلزل القلوب والأرض، فإذا زلزلت الأرض زلزالها اضطربت مع هذه الزلزلة القلوب والنفوس، وزاغت الأبصار واضطربت الأفئدة.(9/4937)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ)، النداء للناس أجمعين في عصر النبوة؛ عرب وعجم، أبيض وأسود وأحمر، الحاضرون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن جاء بعدهم، فالخطاب لهم بناء على أن ما ثبت للحاضرين يثبت على المقبلين بقانون المساواة الذي يثبت تساوي الناس في التكليف، وإنه لَا يرفع الخطاب إلا عن من ليس أهلا للخطاب، (اتَّقُوا رَبَّكُمْ)، أي ادّرِعوا لباس التقوى، ولتمتلئ نفوسكم باتقاء عذاب اللَّه تعالى، وخشيته سبحانه، فخشية اللَّه درع المؤمن، ووقايته من النار،(9/4937)
وقوله تعالى: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) الزلزلة الحركة الشديدة العنيفة وترديدها مرة بعد أخرى، وقيل: إنها تكرار لـ " زال "، أي أنها تتحرك بزوال ثم تعود، فتضطرب الأرض، كما قال تعالى: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8).
و (زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) من إضافة المصدر إلى ظرفه، أي الزلزلة التي تكون في يوم الساعة، وهو يوم القيامة، وعبر عن ذلك اليوم بالساعة؛ لأنه يكون ساعة شديدة خطيرة، لها ما بعدها من هول أعظم، وحساب وعقاب، وقد عبر اللَّه سبحانه عن هذه الزلزلة بقوله: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ)، أي أنها شديدة شدة لَا يُكتنه كنهها، ولا يعبر عنها إلا بأنها (شَيْءٌ عَظِيمٌ)، فالشيء اسم لكل شديد، أي أن الألفاظ تضيق عن معانيها، فلا يتسع لها لفظ إلا ما يكون لفظا عاما غير محدودة، لأن شدتها غير محدودة، ولا يحدها نطاق.
وقد صور اللَّه تعالى هول هذه الزلزلة، فقال عز من قائل:(9/4938)
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
(يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
صور اللَّه تعالى الفزع الذي ينال الناس عند رؤية هذه الزلزلة فقال: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ)، تذهل أي تنسى وتغفل، والذهول شغل يورث حزنا ونسيانا، وقوله تعالى: (عَمَّا أَرْضَعَتْ)، " ما " إما أن تكون بمعنى " الذي "، ويكون المعنى تذهل ناسية طفلها الذي أرضعته، وغذته من لبنها الذي هو قطعة منها، وكأنها في هذا الحزن الداهم تنسى نفسها أو قطعة من ذاتها، ويصحح أن تكون " ما " مصدرية، والمعنى أنها تنسى إرضاعها فتنسى تغذيه من هو كشخصها، أو امتداد(9/4938)
لشخصها، ويزكي هذا التخريج التعبير بالماضي، وكلا التخريجين يفيد أنها في حال هذا الفزع تنسى وتذهل عما لَا يمكن أن يُنسى أو يذهل عنه.
وإنه من هول هذا الموقف، وتلك الزلزلة (وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا)
من الرهبة والفزع، فالحبالى ينزل حملهن من الفزع قبل ميعاد وضعه، ووضعه على الرغم منها لفزعها، واضطرابها، وكأن هذه الزلزلة تزلزل الجسم، وتزلزل النفس، كما قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأسَاءُ وَالضرَّّاءُ وَزُلْزِلُوا. . .)، وقد صور اللَّه تعالى حالهم بعامة رجالا ونساء، مراضع وغير مراضع، حبالى وغير حبالى، فقال: (وَتَرى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى)، أي تراهم كالبكارى، (وَمَا هُم بِسُكَارَى) فكأن هنا استعارة مؤداها أن الناس لفرط ذهولهم، ونسيانهم لأنفسهم شبهوا بالسكارى، فهم في غفلة وذهاب رشد، وضياع وعي كالسكارى، وإن لم يكونوا في حقيقة أمرهم سكارى تناولوا مسكرا، كما تقول لشجاع قوي هو أسد وليس بأسد، أي أنه في شجاعة الأسد، كأنه هو هو، وإن كان رجلا عاقلا، ولعل ذلك يكون أبلغ في وصفه بالشجاعة.
(وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) الاستدراك هنا لنفي السُّكر عنهم، وإن كانوا كالسكارى، وبهذا الاستدراك بين سبحانه شدة عذابه الواقع عند الزلزلة، والمتوقع بعدها، وأنهم يستقبلون هولا أشد وقعا، وأعظم إيلاما، فهو ليس إفزاعا عقليا ونفسيا فقط، بل هو مع ذلك إيلام حسي بالنار كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.
وإنه مع هذه الزلزلة التي تزلزل العقول والنفوس، هنا ناس في لهو عن توقع ذلك مع شدة النذير، وكثرة العبر:(9/4939)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
إنه في الوقت الذي ينذر رسول اللَّه محمد - صلى الله عليه وسلم - بأخبار يوم القيامة الذي تكون فيه السماوات غير السماوات وتزلزل النفوس والعقول بزلزلة الأرض يكون(9/4939)
ناس من المشركين يجادلون في ذات اللَّه تعالى ويقول سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)، ومجادلتهم في اللَّه سبحانه وتعالى مجادلة في ذات اللَّه تعالى من حيث قدرته على البعث، ومن حيث إرساله الرسل مبشرين ومنذرين، ومن حيث إن له شركاء في العبادة، فهو في لهو مستمر عن الحقائق ولا يتلقون الحقائق التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - بالجدل فيها وحولها من غير إذعان وتسليم، بل بعناد ولجاجة، والجدل في أمر من شأنه أن يذهب لب الحقيقة في وسط شد الجدل وجذبه، ويروى أن الآية نزلت في جدل بعض المشركين وهو النضر بن الحارث، وكان رجلا جَدِلا خَصما يقول: الملائكة بنات اللَّه والقرآن أساطير الأولين، ولا بعث بعد الموت،. . . وهكذا، وعلى أي حال فالآية الكريمة عامة، ونرى هذا الصنف من الناس في كل عصر، يمضغون الحقائق بجدل عقيم يثيرونه حولها، واختص هذا الصنف من الناس اليهود الذين اتبعهم الأوربيون والأمريكان وحذوا حذوهم؛ لأن ملهمهم واحد وهو الشيطان، فتشابهوا وتشاكلوا، لوحدة المصدر.
ومن يجادلون في ذات اللَّه على النحو الذي أشرنا إليه، كالذي جاء خبره عن النضر بن الحارث لَا يكون جدلهم قائما على علم علموه، أو رسالة بلغوها، ولكنه التقليد المجرد للمبطلين، ولذا قال تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ) الشيطان هنا عام يشمل شيطان الإنس من القادة والأمراء والرؤساء الضالين المضلين، ويشمل شياطين الجن الذين يوسوسون بالشر، ويزينونه، وقوله تعالى: (كُلَّ شَيْطَانٍ)، الكلية تدل على أنهم يتبعون المنحرف من الأفكار والأقوال، فيتبعون أحيانا شياطين الوجودية، وأحيانا شياطين الشيوعية ورئيسها اليهودي، وأحيانا شياطين التحلل من كل خلق كريم، و (مَّرِيدٍ) معناه المتجرد من كل معنى كريم، والعاري عن الفضائل، جاء في مفردات الأصفهاني ما نصه: " المارد والمريد من شياطين الجن والإنس المتعري من الخيرات في قولهم إذا تعرى عن الورق، ومنه قيل رملة مرد، إذا لم تنبت شيئا ".(9/4940)
فـ " المريد " على هذا التفسير المتجرد من الخيرات، العاري عن كل فضيلة، ومن سيطر عليه شيطان مريد أفسد نفسه، وأرسله إلى جهنم؛ ولذا قال سبحانه عز من قائل:(9/4941)
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
(كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
الضمير في (عَلَيْهِ) يعود إلى الشخص الذي يجادل بغير علم؛ لأنه هو المتحدث عنه؛ ولأن الكتابة التي يقدرها اللَّه تعالى تكون على المكلفين، فالأنسب عود الضمير إلى المجادل بغير علم، ويكون معنى (تَولَّاهُ) جعل الولاية له على نفسه، واتبعه فيما يوسوس به شيطان الإنس من دعوة إلى الباطل والفجور، وفيما يوسوس شيطان الجن من إغراء بالشهوات والأمنيات الباطلة، أي فمن يجعله له وليا، ويتبعه، ويحسبه نصيرا له، (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ)، أي يوقعه في الضلالة، (وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)، أي يسلك معه الطريق إلى عذاب السعير، أي إلى جهنم وبئس المهاد.
ويجوز أن تجعل الضمير في (عَلَيهِ) يعود إلى الشيطان المريد، وكذلك الضمير في (تَوَلَّاهُ) يعود إليه، ويكون أن من يتولاه الشيطان ويسيطر عليه ويجعله تابعا له يضله، ويوصله إلى عذاب السعير، وفى الحالين التعبير بقوله تعالى: (وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ)، فيه تهكم، ومؤداه أن الرسل يهدون إلى الجنة، أما الذين يتبعون الشياطين، فإن إغراءهم يوصلهم إلى النار، وتلك هدايتهم إن صح أن تسمى هداية.
* * *
القدرة على الابتداء تدل على البعث
قال اللَّه تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ(9/4941)
مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
* * *
النداء في قوله تعالى:(9/4942)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) لكل الناس عامة، وللمشركين واليهود خاصة، فإن من اليهود طائفة الصدوقيين لَا يؤمنون بالبعث والنشور، ولا يفهمون من الحياة إلا الدنيا.
(إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ) تخفيف من اللَّه تعالى لحالهم، فليست حالهم حال ريب وشك، بل حالهم حال إنكار، فذكر اللَّه تعالى حال الإنكار، والدليل المبين في جواب الشرط يثبت للمرتاب والمنكر، وإن التعبير بالريب كما قلنا تخفيف من حال المشركين وغيرهم من المنكرين، وهو أيضا فيه تصوير للنفس التي لم تفطر على اليقين، ولا على الإنكار؛ لأنه مغيَّب لَا يُعلم، فقد يعتري النفس شك لأنه لَا يعلم إلا بالنقل، فيكون الخطاب موافقا لكثير من الفِطَر، إذا كان الخطاب يذكر حال الريب دون القطع بالإنكار، وهو فوق ذلك يدعو المنكرين إلى أن تكون حالهم حال ريب وتردد لَا حال قطع وإنكار، بل انتظار حتى يجيء(9/4942)
الدليل من النقل القاطع، وجواب الشرط هو: (فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ. . .) وهو دليل مشتق من الماضي الواقع المستمر الدائم يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة؛ لأن الناس يخلقون كل يوم بل كل ساعة، يخلقون من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة. . . إلى آخر ما ذكر سبحانه.
(خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ) كان الخلق من تراب مرتين: أولاهما في أصل الخلق والتكوين فخلق آدم أبا الخليقة من تراب، وقد ذكر سبحانه قصة ذلك الخلق وذلك التكوين، والمرة الثانية أن ذلك متجدد مستمر، فالأب والأم يأكلان مما تنبته الأرض من نبات، وثمرات مختلف ألوانها، ومن حيوان يرعى فيها، وما ينتجه طينها من نبات، فذلك من الأرض بتحويل عناصرها إلى نبات، وأشجار وتوليد الثمار من الأشجار، ثم تحول العناصر المختلفة إلى نطفة، وفي كل الأحوال يكوِّن سبحانه شيئا من شيء فهل يعجز عن تحويل الرميم إلى حي.
(ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ) وهي ماء الرجل يلتقي بخلية المرأة التي ينفثها رحمها في حال الحيض، وسمى النطفة، لأنه ينطفه أي يقطر منه وقد سماه سبحانه ماء دافقا، كما في قوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)، (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)، أي أن النطفة صارت علقة، وهي قطعة لحم طرية ثم تجمدت، وصارت مبتدأ لخلق آخر، وهو مضغة؛ ولذا قال عز من قائل: (ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ)، أي انتهت العلقة إلى مضغة، وصارت هذه ابتداء خلق آخر، (مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَة)، أي مصورة مميزة الأجزاء بالخلق والتكوين، وليست قطعة لحم فقط، بل صارت ذات شكل مميز يشير إلى أجزاء بعد كمال تكوينها، ولا تكون مخلقة قبل هذا التخليق وبيان الأعضاء، ولعل المخلقة هي التي تكون عظاما غير مكسوة بلحم أو مكسوة.
ونحسب غير المخلقة هي التي تكون مضغة لم تتكون عظامها؛ ولذا لم تذكر هنا حال كونها صارت عظاما، كما ذكر سبحانه في سورة " المؤمنون "، حيث قال(9/4943)
تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)، هذه أدوار خلق الإنسان في بطن أمه، وما كان لأحد علم بهذه الأدوار التكوينية، حتى جاء العلم من بعد ببيانها، وعلم اللَّه الذي جاء في القرآن الحكيم فوق كل علم؛ لأنه العالم الخبير المنشئ الخالق، كما قال تعالى: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ).
ولقد قال تعالى: (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ)، " اللام " لام التعليل إذا كانت متعلقة بـ " ذكرنا " محذوفة، أي ذكرنا ذلك (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ)، أي نعلمكم بالخلق والتكوين، وتكون اللام النافية إذا كانت اللام متعلقة بقوله: (خَلَقْنَاكُم)، أي خلقنا الإنسان) ذلك الخلق ليكون المآل والعاقبة أن يتبين لكم، وأن تعلموا بهذا الخلق والتكوين أمرين:
الأمر الأول - عجائب صنع اللَّه تعالى في خلق الكون والإنسان، كما أشار إلى ذلك بقوله جل وعز: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)، وإن الله وحده هو الذي يخلق الأشياء من عدم، ثم يتولى هو سبحانه وتعالى تحويلها من حال إلى حال، حتى استوى الإنسان خلقا سويا.
الأمر الثاني - أن الذي حول التراب إلى كائنات حية، وتوالدت بخَلْقِه الأحياء أليس بقادر على أن يحيي الموتى.
(وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ) " الواو " كما يقول المفسرون واو الاستئناف، وإني أرى أن الواو واو الحال، أي أنه والحال أننا نضع على سبيل القرار في الأرحام ما نشاء، من نطفة وعلقة ومضغة مخلَّقة وغير مخلَّقة، فإنها في الأرحام تتحول من نطفة إلى علقة، فمضغة مخلقة بالعظام وغير مخلقة، وتكسى العظام باللحم، وإن قوله تعالى: (مَا نَشَاءُ)، أي الذي نشاؤه في أدواره المختلفة، فهو(9/4944)
بوضعه بمشيئة اللَّه تعالى وإرادته، لَا بما يسمونه بالتفاعل من غير إرادة الفاعل المختار الوهاب، وإن وضعها إلى أجل مسمى هو مدة الحمل التي لَا يقدرها إلا اللَّه تعالى.
(ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا)، أي يخرج كل واحد منكم طفلا لَا يقوى على الحياة وحده؛ لأنه يكون ضعيفا كما قال اللَّه تعالى: (. . . وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا)، وأطول مدة لحاجة المولود إلى أبويه من الحيوان هو الإنسان، وفيها يحتاج إلى الرضاعة والحضانة، حتى يستوي شابا يبلغ أشده، وتكمل قواه، هذا قوله تعالى: (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكمْ)، ثم عاطفة لتبلغوا أشدكم على فعل محذوف، هو في معنى جزء العلة، وتقديره مأخوذ من الكلام السابق، والمعنى يخرجكم طفلا لتتربوا وتكبروا شيئا فشيئا وتكَلأُون برعاية آبائكم وأمهاتكم، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ)، وكان العطف بـ " ثم "؛ لأن مدة الطفولة، تطول ولا تقصر، فالتراخي ثابت بالزمان، وبالبعد بين الطفولة والرجولة و " أشُدّ " يقول البيضاوي إنها جمع شدة، كأنْعُم جمع نِعمة، والشدة هنا القوة المستمكَنة التي تعتمد على ذاتها ويكون لها كيان مستقل عن أبويه، ومنكم من يتوفاه اللَّه تعالى في قوته وشبابه أو كهولته حتف أنفه أو قتلا في جهاد أو اعتداء: (وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) ولم يقل سبحانه وتعالى يبلغ أرذل العمر؛ لأن بلوغ أرذل العمر ليس بلوغ غاية تُتَغيَّا وصالحة في ذاتها، وعبر بقوله: (يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ)؛ لأنه رجعة إلى الوراء، وعودة إلى الضعف في جسمه فَيَهِن العظم، ويتقوَّس الظهر، ويضعف العقل، ويضل الفكر، وينسى بعد أن كان يعلم؛ ولذا قال (لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا)، أي أن ما علمه ينساه، فما كان من علم يذهب وما كان عنده من تدبير وقدرة على العمل، ووزن للأمور، وسماه تعالى: (أَرْذَلِ الْعُمُرِ)، أي العمر المرذول الذي يكون عبئا على صاحبه.
وقد ذكر سبحانه بعد هذا الدليل الملزم المبين قدرة اللَّه تعالى ذكر دليلا آخر، وهو في المطر والنبات كما كان الأول في الإنسان، وإذا كان في الأول نعمة الإيجاد، ففي الثاني نعمة الإرث.(9/4945)
(وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).
تصوير لتغيير اللَّه تعالى الأحياء أو مواضعها من حال إلى حال والخطاب في قوله تعالى: (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً) لكل من هو أهل للخطاب؛ لأنه استدلال للجميع على قدرة اللَّه تعالى في الأشياء من حال إلى حال، وأنه يخرج الحي من الميت، (وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً)، أي جف نباتها وذبل ما فيها ومات، وصارت كالأرض الميتة لَا حياة فيها ولا نبات ولا ماء، والهمود واضح أنه يعتري النبات، ووصفت به الأرض؛ لأنه محل هموده، ومحل حياته، فهو من إطلاق اسم الشيء وإرادة محله.
(فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ) من السماء أو الأنهار أو العيون، وسمي إنزالا؛ لأن أكثر الماء الذي يكون غيثا من السماء وماء الأنهار من الغيث، وماء العيون من ماء الأنهار الدفين في الأرض، فالأصل هو الإنزال، فيصح أن يطلق على ماء السماء، وماء الأنهار والمياه الجوفية العذبة.
والضمير في (عَلَيْهَا) يعود إلى الأرض، و (اهْتَزَّتْ)، أي اهتز نباتها الأخضر، فيميل يمينا وشمالا بالرياح التي تميله، والاهتزاز للنبات لَا للأرض، ولكن أطلقت الأرض وأريد نباتها لأنها محله؛ ولأن الاهتزاز يراه الرائي في اهتزاز النبات، وهو منبسط بلون سندسي، فيرى كأن الأرض هي التي تهتز لَا النبات، (وَرَبَتْ): أي نمت وعلت، والنمو والعلو للنبات، وهذا مجاز على النحو الذي ذكرناه، والعلو وصفت به الأرض؛ لأن الرائي يراه، كأن الأرض هي التي تعلو، وقال تعالى في إنبات الأرض: (وَأَنْبَتَتْ مِن كُل زَوْج بَهِيج)، أي حسن المظهر، يظهر في الأرض كأن يد راسم رسمته وزخرفته، و (زَوْج) المراد به الألوان المتقابلة من أبيض وأزرق، وأحمر وأصفر، فتبارك اللَّه الخلاق العليم.(9/4946)
هذا هو الدليل الثاني، وهو محسوس في أنه أحيا الأرض بعد موتها، وأنبت فيها ما فيه قوت الأحياء، وفيها من المناظر، وقد حول اللَّه تعالى بهذا الماء، نباتا فيه غذاء الإنسان والحيوان، أفلا يستطيع إعادة الحياة إلى الإنسان كما بدأ.
بعد ذلك أخذ اللَّه سبحانه النتيجة من هذين الدليلين اللذين ينبهان العقول التي تدرك، وتلهمهم بالدليل المزيل لريبهم، إن كانوا يرتابون، ويفحمهم بالدليل القاطع إن كانوا ينكرون.(9/4947)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
(ذَلِكَ) الإشارة إلى تحويل كون الإنسان من تراب إلى نطفة، ثم إلى مضغة مخلقة وغير مخلقة، ثم قراره في الرحم حتى يستكمل نموه في الدور الأول في بطن أمه، ثم يخرج طفلا في الوجود، ثم يبلغ أشده، وإنزال الماء والنبات، كل ذلك بسبب أن اللَّه هو الحق، فـ " الباء " للسببية (الْحَقُّ)، أي الثابت في ذاته المطلق في الوجود كله، فهو الموجود واجب الوجود، وكل موجود يستمد وجوده منه، وهو يخلق سبحانه وتعالى الأشياء ابتداء ويخلق بعضها من بعضها، فلا غرابة أن يخلق من الرميم حيا، ولو كانت في تكوين حجارة أو حديد، أو ما هو أقوى صلابة من هذين، (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى)؛ لأنه خلقها ابتداء فإعادتها أسهل عليه، كما قال تعالى: (. . . كمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)، ثم ذكر سبحانه وتعالى قدرته عز وجل بـ " أنَّ " المؤكدة، وذكر لفظ الجلالة الذي يشتمل على الوصف كماله، والتنزيه من كل نقص، وأكده بتقديم الجار والمجرور (عَلَى كل شَيْءٍ) على (قَدِير)؛ لأن ذلك يدل على عظيم اهتمامه بخلقه.
وقد قدر سبحانه ما هو قاطع، وهو لب الإيمان، فقال عز من قائل:(9/4947)
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
(وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
الواو عاطفة على (بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ)، وهي تتضمن القصر، أي اللَّه وحده هو الحق، ولا حق غيره سبحانه، فعطف على ذلك (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ(9/4947)
فِيهَا)، أي أنه كما أن اللَّه وحده له الوجود، وأنه المعبود وحده، فكذلك الساعة آتية لَا ريب فيها فلا يلتفت إلى ريب الذين يرتابون فيها، وإذا كان من الناس من يرتابون، فالأدلة قائمة مثبتة موجبة مزيلة للريب كاشفة للحق، ثم قال تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ)، ولو تبددت أشلاؤهم، وتقطعت أوصالهم، وتداخلت في أجسام، فاللَّه على كل شيء قدير.
* * *
الجاحدون ومرضى القلوب والمنافقون
قال اللَّه تعالى:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
* * *
هذه السورة مدنية، وفي المدينة التقى النبي - صلى الله عليه وسلم - باليهود، وغيرهم من أهل الكتاب، ولم يكن الجدل بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك تشعبت المناقشة حول اللَّه تعالى إلى شعب شتى فوق الجدل في عبادة الأوثان والإشراك باللَّه سبحانه وتعالى، فكان الجدل حول ما أشاعه العرب من عبادة، وحول إرسال الرسل من غير بني(9/4948)
إسرائيل، ومقام الشريعة التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - من الشرائع السابقة، وخصوصا شريعة التوراة بعد أن حرف الكلم عن مواضعه، وقد قال تعالى:(9/4949)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)
(وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ).
المجادلة في اللَّه تعالى هي المجادلة في ذاته وصفاته وقدرته وعلمه ووحدانيته، وكل مجادلة حول شركاء له مجادلة في ذات اللَّه، وقوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ)، أي بغير علم يثبت بالضرورة، منكرًا كل أمر تهدي إليه الفطرة، ومتجاهلا الحقائق الثابتة بأن يتجاهل أن الأوثان لَا تضر ولا تنفع، ومنكر البدهيات، فمعنى (بِغَيْرِ عِلْمٍ) بجهالة، (وَلا هُدًى)، ولا دليل يهدي إلى الحق ويبينه، ويسدد المدارك إلى الحق، (وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ)، أي ولا كتاب منقول غير الحق، ويوضح السبيل إليه، ومعنى ذلك أنهم حائرون بائرون، لَا يأخذون بعلم ضروري، ولا بعلم يأتي بالنظر والبرهان، ولا بمنقول من كتاب منزل منير، ويهدي إلى سواء السبيل.
والآية السابقة، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ) مع هذه الآية ليستا واردتين على مورد واحد، فالآية السابقة واردة على الذين يتبعون كل شيطان متمرد من شياطين الإنس ويقلدونه ويسيرون وراءه سير التابع وراء المتبوع، وهذه الآية التي نتكلم في معانيها السامية واردة في الذين يقولون مستقلين غير تابعين لمارد ولا ذي سلطان، ولكنهم لَا يتبعون علما ضروريا، ولا علما نظريا، ولا علما منقولا عن معصوم ينسب كلامه إلى رب العالمين.
وهذا من شأنه أن يعرض عن الحق، ويضل غيره؛ ولذا قال سبحانه؛(9/4949)
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
(ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
(العِطْف) هو الجانب، و (ثَانِيَ) اسم فاعل من ثنى يثني، أي لواه مستكبرا أو معرضا، أو هما معًا، أي مع أنه يجادل في اللَّه بغير أي نوع من العلم، بل(9/4949)
بجهالة جهلاء، مع ذلك يلوى عنقه مستكبرا معرضا، مفاخرا بما هو عليه، كما قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)، وكما قال تعالى: (وِإذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا. . .).
وإنهم بهذا التفاخر بالباطل والكبرياء والاستعلاء يضلون غيرهم لضعفهم، ولذا قال تعالى: (لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ)، أي ليضل غيره عن طريق الحق، فاستعلاء الباطل يغري باتباعه، وإذلال أهل الحق يغري بتركه إلا من ربط اللَّه تعالى على قلبه.
وقد ذكر اللَّه تعالى عند مغالبة الحق والباطل، فقال عز من قائل: (لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ)، يجعل كلمة الحق هي العليا، وكلمة الباطل هي السفلى، كما كان الخزي في بدر، والأحزاب، وغيرهما، وذلك لَا يعفيهم من عذاب الآخرة (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ) هو وضعه في جهنم المحرقة نارها، وعبر بـ (نُذِيفهُ)، لأن الإلقاء في الجحيم من غير أن يذوق حريق النار، ويلهب إحساسه بها - لَا يدرك معه حقيقة العذاب، لأن العذاب في ذات الإحساس بالنار.(9/4950)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
(ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
الإشارة في (ذَلِكَ) للعذاب و " الباء " للسببية، أي بسبب ما قدمت يداك، والمراد بما قدمت أنت، وعبر عن الذات باليد، من قبل التعبير عن الكل باسم الجزء، وهو من المجاز المرسل، إذا كان لذلك مزيد اختصاص فيما يساق له القول كما يعبر عن الجاسوس بالعين، وهنا كذلك عبر عن الذات باليد التي يكون بها الاعتداء بالبطش وسفك الدماء أو الاغتصاب والإيذاء.
و (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، أي يقال له ذلك الذي نزل بك متكافئ مع ما قدمت يداك فما كان اللَّه ظالما، ولكن أنت الظالم، ولذا قال تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ للْعَبِيدِ)، وأن معطوف على (بِمَا(9/4950)
قَدَّمَتْ يَدَاكَ)، أي بسبب ما قدمت يداك، وبسبب أن اللَّه ليس بظلام للعبيد، و (بِظَلَّامٍ) صيغة المبالغة من الظلم، للإشارة إلى أن اللَّه تعالى لَا يعاقب إلا بذنب، وإنه لو عاقب من غير ذنب - معاذ اللَّه - لكان ظلاما وهو ليس بظلام، إذ يؤاخذ كل نفس بما كسبت، وإنه قد يعفو عن ظالم لخير فَعَلَه؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات؛ ولأنه غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا، ولكن لَا يمكن أن يكون ظالما.(9/4951)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)
هذا صنف من الناس لَا يدخل الإيمان قلبه إلى درجة الصبر على البلاء في إيمانه، بل يكون إسلامه بظاهر، وهو كأُولئك الأعراب، الذين قالوا: آمنا، وأمرهم اللَّه تعالى أن يقولوا: أسلمنا، ولما يدخل الإيمان بعد في قلوبهم، هؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ).
" الحرف " هنا هو الطرف، أي يعبد اللَّه على طرف من الدين، كالذي يكون على طرف من الجيش يقر فيه إذا أحس بالنصر ليأخذ من الغنيمة، وإن أحسَّ بالهزيمة فرَّ لكيلا يناله القتل وآثار الهزيمة، وقال سبحانه: (يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرفٍ)، أي على طرف الإيمان، فلا يعبده عبادة من امتلأ قلبه بالإيمان، وذاق بشاشته، وأحس باطمئنان نفس، واستقامة اعتقاد، وهذا تصوير لضعفاء الإيمان الذين اضطرب اعتقادهم، فكأنهم يكونون على حرف مع الإيمان وهو أقرب إلى الكفر، فطرف الشيء هو الأقرب إلى ما يجافيه، وقد قالوا: إنها نزلت في بعض الأعراب الذين قدموا المدينة وكان بعضهم إذا صح بدنه، ونتج إبله وولدت امرأته وكسب مالا وماشية، قال ما أصبت من هذا الدين إلا خيرا واطمأن، وإن أصابه شر قال ما أصبت وانقلب، وروي عن ابن عباس أنه قال: كان ناس من الأعراب يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسلمون، فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث، وعام ولاد حسن قالوا: إن ديننا هذا لصالح فتمسكوا به، وإن وجدوه عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا: ما في ديننا هذا خير، ويصدق على هؤلاء قوله(9/4951)
تعالى: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ. . .)، وهؤلاء وأشباههم من ضعاف الإيمان هم الذين قال اللَّه
تعالى فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ)، أي أصابهم أمر يسرهم، وهو خير اطمأنوا وسكنوا، (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ)، أي شديدة فيها ابتلاء لإيمانه واختبار لنفسه وترف لقوة إيمانه، انقلب على وجهه، أي ارتد بعد إسلام، وكفر بما أعلن الإيمان، وإن كان على طرف، وعبر سبحانه عن ردته بقوله: (انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) وهذا التعبير فيه تشبيه حال المرتد عن دينه بحال من انقلب فوق وجهه فصار رأسه في أسفله، ورجلاه في أعلاه أي تصويره بصورة شوهاء، شاه منظرها، وقبحت حقيقتها.
وإن من يكون كذلك خسر الدنيا بما أصابه من فتنة لم يعتبر بها في دينه، وكانت شرا عليه في دنياه، إذا لم يستفد بها في دينه، وخسر الآخرة، لأنه يموت كافرا، وذلك الأمر الذي آل إليه هو الخسران المبين الواضح.
وقد وصف اللَّه تعالى من تكون هذه حاله بأنه كعبدة الأوثان على سواء.(9/4952)
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
(يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
أي أن هذا الذي انقلب على وجهه وتشاءم بالإسلام يعود مرتدا إلى من لا يضر وما لَا ينفع، فإذا كان لم يعجبه دين اللَّه تعالى وتشاءم إذا أصابته فتنة يختبر بها إيمانه وتسليمه الأمور إلى اللَّه تعالى خالق كل شيء الذي ينفع ويضر، فقد رجا ما لَا يضر وما لَا ينفع، لقد ترك دعاء اللَّه تعالى وحاد إلى دعاء ما لَا يضر وما لَا ينفع، و (دُونِ اللَّهِ) معناها غير اللَّه، (مَا لَا يَضُرُّهُ)، أي الذي لَا يضر، أي ليس سبب فيه التشاؤم الذي بغض إليكم دين الحق لأنكم فتنتم فيه ليختبر مقدار تسليمكم للَّه، وقد زعمتم أنه لَا يضر إيمانكم به، فهو أيضا لَا ينفعكم؛ ولذا كرر اسم الموصول، أي يدعون ما لَا يضر، وهو أيضا ما لَا ينفع، فالإسلام دين اللَّه الذي يضر وينفع أما غيره فدين ما لَا يضر وما لَا ينفع.(9/4952)
وإنكم إذ خرجتم من دينكم، فقد خرجتم من الهدى إلى الضلال؛ ولذا قال عز من قائل: (ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)، أي ذلك الذي كان منكم، وهو أنكم تريدون الأقدار على ما تحبون، وتسير على ما تشتهون هو الضلال البعيد، أي الذي تبتدئون السير فيه حاسبين أنه هداية، وكلما أوغلتم بعدتم عنها بعدا طويلا، وبذلك تمعنون في الضلال والتيه إمعانا.(9/4953)
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
(يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
في الآية السابقة ذكر سبحانه أنهم يدعون ما لَا يضرهم، وما لَا ينفعهم، وقلنا: إنه كان لَا يضرهم فهو لَا ينفعهم، وأن الموصوف واحد، ولكن خطر على عقلي بعد كتابة ما تقدم أنهما واردان على موصوفين أولهما لَا يضر، وثانيهما لا ينفع كما يدل تكرار الموصول، وهذا ضلال، ويناسب ما ذكر من بعد أنه الضلال البعيد الموغل في طريق الضلال، والمعنيان بين يدي القارئ يتخير أحدهما، والقرآن حمَّال معان كلها بيِّن لَا إيهام فيه قط.
وفى هذه الآية التي نتكلم في معناها، نجدها تشير إلى أن الذي يدعوه من العقلاء، بدليل التعبير بـ (مَنْ) في قوله: (لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَفْعِهِ)، ويكون الدعوة بمعنى الالتجاء والاستغاثة، أو الموالاة والنصرة، والاعتماد عليه، و (اللام) في قوله تعالى: (لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ)، تفيد التوكيد، سواء أكانت للتعليق أو للابتداء، فتلك تخريجات نحوية لَا تمنع ما تدل عليه من توكيد المعاني و " مَنْ " كما أشرنا تفيد أن من يدعونه من العقلاء، وليس معبودًا من الأوثان والجمادات، وأن الدعوة للنصرة والموالاة، والمعاونة على الباطل، وكان ضره أكبر من نفعه؛ لأن الاعتماد عليه فيه ضرر عقلي ونفسي؛ لأنه يعتمد على غير اللَّه، والاعتماد على غير الله تعالى رقٌّ لهذا المخلوق يحد من الحرية، ويمنع الانطلاق إلى العمل الصالح؛ ولأنه ضعيف مثله، لَا ينتصر له، ولأنه يجره إلى الشر، فيكون التعاون بينهما قائما على الإثم والعدوان، ولأن الاعتماد عليه اعتماد على شفير هارٍ ينهار به في نار جهنم.(9/4953)
(لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) " اللام " واقعة في جواب قسم محذوف، فهي تؤكد الحكم، وتثبته، و " بئس " من الأفعال الجامدة التي تدل على الذم، وهي في مقابل " نِعْم " التي تدل على المدح، و (الْمَوْلَى) النصير الموالي الذي يعتمد عليه من يدعوه، ويندبه للنائبات، ويرجو موالاته في الملمات، و (الْعَشِير) الصاحب الذي يعاشره، فيجره إلى الضلال، والصاحب الذي يوادّه، ويتعاون معه على غير الخير، بدليل ذمه، إذ لَا يذم من يتعاون على الخير، واللَّه وحده هو المستعان في الشدائد المغيث في الضراء، المحمود في السراء.
وخلاصة القول في معنى هذه الآية الكريمة: أن موضوعها ليس دعوة الأوثان والأحجار، إنما موضوعها الاستنصار بالأشخاص، والاعتماد على أهل الباطل في الولاء، والذين يعاشرونهم.
* * *
جزاء المتقين والفصل بين الناس
قال اللَّه تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
* * *(9/4954)
أشار سبحانه وتعالى إلى أصناف الناس في ضلالهم، فمنهم من يجادل في اللَّه مقلدا شيطانا مريدا من شياطين الإنس، ومنهم من يجادل في اللَّه غير متبع لغيره، ولكنه يتبع الهوى فلا يفكر بعلم ضروري أو نظري، أو نقل من كتاب منير، ومنهم من يعبد اللَّه على طرف يرجو خير الدنيا فقط، وينقلب على وجهه إذا أصابه ما يُختبر به ليتبين مقدار إيمانه بقضاء اللَّه وقدره، وإنه سبحانه هو المتصرِّف كما يريد هو لَا كما يريد ذوو الأهواء ومنهم من يدعو ما لَا يضر وما لا ينفع، ومنهم من يستنصرون بالموالي والعشراء، ويحسبون فيهم القوة والنصرة، وكل أولئك في النار.
بعد ذلك بين سبحانه جزاء أهل الإيمان الصادق، فقال:(9/4955)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14).
هذا جزاء المؤمنين الأبرار الذين آمنوا فطهروا قلوبهم وعقولهم من رجس الوثنية، وأزالوا ضلال الناس في أنفسهم، وفي الاعتماد على غير اللَّه تعالى، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، أي عملوا كل ما فيه خير للناس، وخير لأنفسهم، وسلامة اعتقادهم وطاعتهم في عبادتهم، وإن اللَّه تعالى يسكنهم جنات فيها نعيم دائم مقيم، يلتقي فيها نعيم الجسم بسرور النفس، فالإقامة دائمة في ريحان الجنة، والأنهار تجري من تحت الأشجار فيكون متعة النظر، وراحة البصر، وإن هذه إرادة اللَّه تعالى، وقد أكد سبحانه هذه الإرادة، بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) أكد سبحانه وتعالى أنه سبحانه فاعل مختار لَا تصدر عنه الأشياء صدور العِلَّة عن معلولها، ولا السبب عن سببه، كما ضل الفلاسفة وغيرهم ممن اتبعهم، وقد أكد سبحانه القول بتأكيدات ثلاثة، أولها: " إنَّ "، وثانيها: لفظ الجلالة الذي يتضمن الوصف بكل كمال، وثالثها: التعبير بالمضارع الذي يدل على أنه سبحانه فعل ما أراد، ويفعل دائما ما يريد.(9/4955)
وإنه سبحانه وتعالى الفعَّال لما يريد، إن أراد أمرا قال له كن فيكون، ولا يريد شرا أبدا، وإن نزل بأحد ما يسوؤه فلن يستطيع أحد أن يغيره، وإن نال أحد نفعه فلن يمنعه أحد، وإن أراد نصرة من غيره فلن تكون إلا بإرادة اللَّه؛ ولذا قال عز من قائل:(9/4956)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
(مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
هذه الآية لبطلان وهم من يتوهم أن اللَّه تعالى لن ينصره إذا طلب النصرة العادلة منه، واعتمد على غيره، وذلك رد على من يوالي العباد من الموالي والعشراء في النصرة، فاللَّه وحده هو نعم المولى ونعم النصير، وبئس من يطلب نصرا من غيره وإنه ناصر نبيه في الدنيا والآخرة.
والضمير في (يَنصُرَهُ) في قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ) يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان لم يجر ذكره في الآيات قبله، أو في الآية السابقة، فإنه حاضر في نفس القارئ للقرآن، وفي قلب كل مؤمن فهو حاضر دائما، وإن محمدًا بعد الهجرة قد قامت حروب بينه وبين المشركين، وبينه وبين اليهود، واللَّه ناصره دائما، ولم يهزم في موقعة، وإذا كان قد أصيب بجراح وقتل من قتل في أُحُد فهو لم يهزم ولم يندحر فيها، وكان ذلك يغيظ الكافرين وخصوصا اليهود الذين كانوا يجاورونه في المدينة، ويذهب بهم في طغيانهم إلى أن يتمنوا ألا ينصره اللَّه تعالى، كما يتمنى الحاسد الحقود، وقد بين سبحانه في هذه الآية أن من المستحيل ألا ينصره اللَّه وليموتوا بغيظهم؛ ولذا قال: (مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُره اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ) من كان يظن مستمرا في ظنه الذي لا يصدُق، والاستمرار في هذا الظن هو من التعبير بـ (كَانَ)، و " أنْ " مخففة من الثقيلة، واسمها الحال والشأن، أي من يظن أن الحال والشأن أن لن ينصر اللَّه محمدا، وذلك مستحيل، فليمدد بسبب إلى السماء، والسبب: الحبل الذي يصعد به على النخل، والسماء. روي عن ابن عباس أنه قال: إنه سقف البيت، أي(9/4956)
ليمدد الحبل إلى سقف البيت، فإذا وصل وهو متصل به، مربوط في عنقه، ثم ليقطع ذلك الحبل، فيختنق اختناقا، قيد هذا الاختناق بذلك الحبل، (فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ)، والاستفهام بمعنى النفي؛ ولذا كانت نون التوكيد في الفعل، وهي تجيء في الفعل المنفي، تأكيدًا للنفي، وهذا تأكيد فوق تأكيد النفي بمجيئه بصيغة الاستفهام.
وهذا تخريج صادق كل الصدق، وهو في مضمونه كقوله تعالى: (. . . قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ. . .)، وإنا نوافق على التخريج ما دام منتجا معنى سليما مستقيما يتفق مع جلال القرآن، ومع سياق القصص في السيرة، ولكن نخالف فقط تفسير السماء بالسقف، فذلك ليس في القرآن، إنما تفسر السماء بما هو فوقك، من السماء ذات البروج، ومعنى " ليمدد "، أي ليمتد بالحبل إلى السماء، ثم ليقطعه فإنه يسقط مختنقا مجندلا، و " الكيد " التدبير، وإن اللَّه تعالى ناصر عبده محمدا في الدنيا والآخرة، ولتذهب نفس أعدائه حسرات، وكما أن الله تعالى ناصر نبيه في الدنيا والآخرة. ناصر نبيه: مثبت صدق رسالته بالقرآن المبين، ولذا قال تعالى:(9/4957)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
(وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
الإشارة إلى إنزال الآيات البينات الواضحات الهادية الدالة على صدق الرسول، والمشابهة بين ما قدر اللَّه تعالى إنزاله وما أنزله فعلا، أي أنزلناه في الواقع كما قدرناه في علمنا، وهذا تأكيد لإرادة اللَّه تعالى في أن تكون معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - من نوع الوحي بآيات بينات، وقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي من يُرِيدُ)، أي كذلك الإنزال أن اللَّه تعالى يهدي إليه من يريد له الهداية ويسلكها، وإني أرى أن المشابهة ليست بين الإنزال المقدر في علمه الأزلي، والمنزول الواقعي، وإنما أرى أن المشابهة بين نصر اللَّه لنبيه في الدنيا والآخرة وإقامة الحجة لرسالته في الدنيا، حتى يبلغ الأجل، ويكون المعنى كما ننصره في الدنيا والآخرة أيدناه بالمعجزة الباهرة القاطعة التي تتحدى الأجيال كلها أن يأتوا بمثله، وأنزلنا آيات بينات(9/4957)
واضحات، وأن اللَّه يهدي بهديه من يشاء، فيهدي الناس ابتداء بها، ويزيد بها الذين اهتدوا، وذلك كما يريد، ومن يريد، وسلك طريق الحق، واتجه إليه غير ملتفت لسواه.
وبين بعد ذلك سبحانه أن الناس جميعا مجزيون بعملهم يستوي في ذلك المؤمن والمشرك واليهودي، والنصراني والصابئ، فقال عز من قائل:(9/4958)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) الناس جميعا يوم القيامة تميزهم أعمالهم، وهي التي ينالون بها الجزاء عقابا أو ثوابا، والفاصل بينهم هو أحكم الحاكمين رب العالمين وأعمالهم هي التي تقدمهم.
وقد ذكر سبحانه أصنافا ستة، وهم: المؤمنون، واليهود، والصابئون (وهم عبدة الكواكب الذين ادعوا دخولهم في النصرانية عندما أرادهم المأمون الخليفة العباسي على أن يدخلوا في دين كتابي، وهم أخفى الناس لاعتقاد)، (وَالنَّصَارَى) على اختلاف طوائفهم ما بين كاثوليك وأرثوذكس، وإنجيليين، (وَالْمَجُوسَ)، وهم عبدة النار، (وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)، أي الذين أشركوا مع اللَّه تعالى غيره في العبادة، وبهذا يدخل فيهم الذين قالوا: إن الملائكة بنات اللَّه، ويدخل البراهمة؛ لأنهم قالوا: إن كرشنة ابن اللَّه، وهم يصورون آلهتهم بتماثيل، كما يدخل البوذية؛ لأنهم قالوا إن بوذا ابن اللَّه، ويدخل الكونفوشيوسية الآخذون بتعاليم كونغ فوتس الذي حُرِّف بكونفشيوس، وهكذا فهم يدخلون في المشركين؛ لأن الإشراك غير مقصور على العرب الأقدمين، بل هو فيهم وفي غيرهم مع ملاحظة أن كونغ فوتس بوذي الديانة ولكن له مذهبا خلقيا أخذ به أهل الصين.
وإن ذكر هؤلاء جميعا في موضوع واحد متعاطفين يدل على أمرين:(9/4958)
الأمر الأول - أنه لَا عبرة في إجابة النبيين إلى اختلاف الملل والنحل، بل الجميع أمام الرسالات الإلهية على سواء، فمن أسرف وظلم كان حسابه عسيرا، ومن آمن واهتدى كان من اللَّه قريبا، وإن اللَّه سيفصل بينهم.
الأمر الثاني - أن اللَّه وحده هو الذي يبين يوم القيامة: الحق فيثيب أهله، والباطل فيعذب الذين تردوا فيه؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) الفصل بين الأشياء والأشخاص إبانة كل بخيره وشره، والفصل بين الأقوال تبين صادقها من كاذبها، وحقها من باطلها، وكذلك الفصل بين النحل وأصحابها، أي بيان الحق فيها والباطل منها، وجزاء أهل الباطل، وثواب أهل الحق، وإن ذلك الفصل هو الحق؛ لأن الفاصل هو اللَّه تعالى، وهو خير الفاصلين؛ ولأنه العالم بكل شيء وبهم جميعا، ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، أي عالم علم من شاهد وعاين، فهو حكم مؤيد بأسبابه، وشاهده الأكبر، وقوله تعالى: (عَلَى كلِّ شَيْء شَهِيدٌ) فيه التعدية بـ " على " إشارة إلى معنى الرقابة عليهم، والإحاطة بهم، وهو بكل شيء محيط؛ لأن كل شيء خاضع له سبحانه.
* * *
خضوع الوجود لإرادته سبحانه
قال اللَّه تعالى:(9/4959)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
* * *(9/4959)
هذا بيان من اللَّه تعالى لخضوع الناس جميعا والكون كله لإرادته سبحانه، والاستفهام هنا لإنكار الوقوع بمعنى النفي، وهو داخل على حرف النفي " لم " ونفي النفي إثبات مؤكد، كأنه كان استفهام ثم نفي، والمعنى لقد رأيت أيها القارئ للقرآن الكريم أن اللَّه يسجد له من في السماوات والأرض، أي يخضع خضوعا مطلقا كل من في السماوات والأرض طوعا أو كرها، كما قال تعالى في سورِة الرعد: (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)، إلى أن قال عز من قائل:
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15).
والسجود طوعا هو بإرادة العبادة من العقلاء المختارين، والسجود كرها، أي بحكم الخضوع المطلق لإرادة المنشئ للكون الواحد القهار.
و (مَن) في قوله:. (مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ) ظاهر الكلام أن ذلك من العقلاء كالملائكة الذين لَا يعصون اللَّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، والعقلاء من الجن والإنس المختارين المريدين، والباقي ممن ذكر من الشمس والقمر والنجوم والجبال والدواب، هؤلاء ينطبق عليهم السجود كرها، فالوجود كله خاضع للَّه سبحانه، وإن من شيء إلا يسبح بحمده فهم خاضعون له خضوع الشيء لمن أوجده، فالجبال تخر له وتصير هباء منبثا، وتتحرك بإرادته وأمره، ثم ذكر سبحانه الظالمين والمهتدين من عباده بالتفرقة بين الضال والمهتدي فقال سبحانه: (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)، أي كثير اهتدوا وآمنوا فهم في ذاتهم ليسوا عددا قليلا، وإن كان الفريق الثاني أكثر عددا، وإن لم يكونوا مهتدين؛ ولذا قال تعالى: (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ)، أي أنه ليس بالمهتدي، بل كان من عبدة الأوثان أو من أهل التثليث، أو من أعداء البشرية اليهود، أو من عبدة النيران، أو من عبدة الكواكب وعبدة الملائكة الذين قالوا عنهم إنهم بنات اللَّه تعالى.
وذكر سبحانه وتعالى هؤلاء الضالين بجزائهم، وهو قوله: (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) للإشارة إلى أنه ملازمهم، به يعرفون، وبه يعيَّنون وقوله تعالى: (حَقَّ(9/4960)
عَلَيْهِ الْعَذَابُ)، أي ثبت لهم ولازمهم وكان عذابهم بحق لأنهم ظلموا أنفسهم والناس، وضلوا ضلالا بعيدا بعد أن جاءهم المرسلون، وقد كذبوا، وآذوا المؤمنين، وعاندوا الحق، وجحدوا به واستيقنته أنفسهم.
وإن الله قسم الناس، مهتد مكرم، ومهين قد لازمته الإهانة، ولا يمكن أن يكرمه أحد أبدا؛ ولذا قال تعالى: (وَمن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِم) وإهانة الله تعالى لمن يكتب له في لوحه المحفوظ وقدره المحتوم، إنما تكون لمن سلك سبيل الغواية، وسد مسامع الهداية، فيأخذه سبحانه إلى مواطن الهوان، فبفعله هانَ، وبإعراضه عن الحق مريدا مختارا عُذِّب، وحق عليه العذاب فما لأحد أن يكرمه، ولا يمكن أن يُمكَّن من ذلك، ولا قدرة له عليه.
وقد أكد سبحانه إرادته الخالدة فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)، أي مما يريده ويشاؤه ويحبه، وليس لأحد من خلقه عنده إرادة (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، وأعمالهم في سلطان إرادة الله سبحانه وتعالى فلا تخرج حركة عن حركة إلا بإذنه، وهو السميع العليم، وقد أكد سبحانه أن له وحده المشيئة المطلقة، والإرادة المختارة بـ (إِن) المؤكدة، وبذكر لفظ الجلالة الذي يدل على الإرادة المطلقة، والاتصال بكل كمال، والله على كل شيء قدير.
* * *
الخصمان أمام الله يوم القيامة
قال الله تعالى:
(هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا(9/4961)
أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
* * *(9/4962)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
(هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
الخصمان هما الذين آمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وهما خصمان؛ لأنهما في جانبين متقابلين؛ ولأن المؤمنين يؤمنون بكل ما جاء عن الله، وغيرهم يجادلون في اللَّه؛ لأن الخصومة في الحق قائمة بينهم وهي من جانب الذين اتبعوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - هداية وإرشادا، ومجادلة بالتي هي أحسن، ومن جانب المخالفين لهم عناد وإغواء ودس وخيانة، ومجادلة بالباطل، وادعاء له.
وواضح أن الخصومة كانت في الدنيا، وفي الآخرة كان الجزاء الوفاق، وكل ينال ما يستحق، (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ)، أي تقدر لهم على قدر أجسامهم، وتقطع وتخاط، بحيث تحيط النار بأجسامهم ماسة أبدانهم كما يمس الثوب جسم اللابس له، ويحتك بلحمه،(9/4962)
وتكون النار مشتعلة في الثياب والأجسام معا، و (يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ)، وهو الماء الساخن الذي يصل إلى درجة الغليان، فالنار تحرقهم في أجسامهم ورؤوسهم، وتصل إلى داخل أبدانهم، ولذا قال تعالى:(9/4963)
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
(يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
الصهر إذابة الحديد، فقوله تعالى: (يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ) من أحشاء من معدة وأمعاء وقلب وكبد وغيرها، يذاب هذا كله، وأي عذاب يكون في هذه الحال، (وَالْجُلُودُ) أيضا تذاب من شدة الحرارة، ولا شك أن ذلك كله تصوير للعذاب الذي ينزل بهم، وإنه لواقع، واللَّه هو الذي ينجي المؤمنين بفضل رحمته، وبمنٍّ منه، وهو الرءوف الرحيم.
وقد وصف سبحانه بقية من عذابهم، فقال:(9/4963)
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
(وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
المقامع جمع مِقمْع، وهو ما يذلل به، ويدفع، وكان خزنة جهنم من الملائكة الأطهار، واقفون كلما هموا أن يخرجوا من النار ردوهم إليها بهذه المقامع التي تزودهم وتدفعهم، وتردهم إليها؛ ولذا قال تعالى:(9/4963)
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
(كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا ... (22)
فارين من جهنم ونيرانها وغمها وآلامها ردوا بالمقامع إليها وأعيدوا فيها، وقالوا لهم: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)، أي عذاب النار التي تحرق أجسامكم في ظاهرها كما شوت أحشاؤكم في باطنها، كما أذقتم المؤمنين العذاب في الدنيا، وقوله: (مِنْ غَمٍّ)، أي بسبب غم العذاب وغم البؤس، وشعورهم بأنه أبدي خالد، هذا جزاء الكافرين المعد لهم الذي يرتقبهم، وهو جزاء الخصم الأول، أما الخصم الثاني وهو المؤمن فجزاؤه روح وريحان وجنة النعيم؛ ولذا قال عز من قائل:
(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)(9/4963)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
بعد أن بين سبحانه حال الخصم الأول، ويشمل الكافرين بشتى أنواعهم الذين يجادلون المؤمنين، بين سبحانه حال الخصم الآخر وهم المؤمنون، وإذا كان الفريق الأول قطعت لهم ثياب من نار، وصب من فوق رؤوسهم الحميم وصهرت أحشاؤهم إذا كان هذا الفريق كذلك، فالفريق المؤمن يُدخله اللَّه تعالى بسبب إيمانه، ولقد عبر بالموصول، (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) ويجتمع فيها النعيم الحسي، والنفسي، فيكون المنظر البهيج بالأنهار تجري من تحت الجنات، وغرف أهل الجنة، وقد أضاف سبحانه وتعالى الإدخال إليه كأنهم في ضيافته مكرمون، لا يلقون في الجحيم مدحورين معذبين.
وإذا كانت ثياب المجرمين قطعت من نار لبسوها، فثياب المؤمنين من ذهب ولآلئ وحرير؛ ولذا قال تعالى: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا).
يصح أن تكون من تبعيضه، أي يحلون بعض أساور من ذهب، وأساور جمع لسوار، إذ هي جمع أسورة، وأسورة جمع سوار، ويصح أن تكون (مِنْ) ابتدائية، أي يحلون، وحليتهم من أساور فتكون بيانية، أي هي من أساور، (وَلُؤلؤًا) عطف على محل (مِنْ أَسَاوِرَ)، لأن محلها النصب، أو نقول مفعول لفعل محذوف تقديره وترصع لؤلؤا، (وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ)، أي لَا يلبسون إلا حريرًا، وهذا أقصى أحوال النعيم الحسي، وقد يقال: كيف يذكر ذلك على أنه من نعيم أهل الجنة، وقد وردت الآثار بأن الذهب والحرير حرام على رجال الأمة، فكيف يذكران على أنهما من نعيم أهل الجنة (1).
والجواب عن ذلك: إن الجنة ليست دار تكليف، إنما هي دار ثواب، ولذا كان فيها أنهار من خمر لذة للشاربين، (لا يُصَدَّعُونَ عَنهَا وَلاً يُنْزِفُونَ)
________
(1) عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «حُرِّمَ لِبَاسُ الحَرِيرِ وَالذَّهَبِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي وَأُحِلَّ لِإِنَاثِهِمْ. رواه الترمذي: اللباس - ما جَاء في الحرير والذهب. وقال حسن صحيح. وعن حُذَيفَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ، وَالحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ، هِيَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكُمْ فِي الآخِرَةِ».
رواه البخاري: اللباس - لبس الحرير وافتراشه للرجال (5383)، ومسلم: اللباس والزينة (3849).(9/4964)
وفوق ذلك أن الجنة فيها نعيم الرجال والنساء، ولا شك أن الأساور واللآلئ والحرير من نعيم النساء، واللَّه سبحانه وتعالى هو المكافئ العلي القدير.
وإنه بجوار هذا النعيم الحسي من كل الجوانب في الجنة النعيم المعنوي؛ ولذا قال تعالى:(9/4965)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
(وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
هذا وصف لأهل الجنة من أقوالهم وأفعالهم في الدنيا، أم هو وصف لأقوالهم في الجنة، وقبل أن نتكلم في مكان القول نشير إلى بعض ما يدل عليه: القول الطيب هو القول الحق، الذي يتقرب به إلى الله تعالى، والذي يقرر القائل له كمال اللَّه تعالى ووحدة ألوهيته والطاعة للَّه تعالى، وتكبيره، وتقديسه، وتسبيحه، والخضوع المطلق له، وحمده في كل وقت، و (صِرَاطِ الْحَمِيدِ)، هي طريق اللَّه تعالى بإعلان عبادته وحده لَا يشرك به شيئا، و (الْحَمِيدِ)، أي المحمود في كل ما يوصف به، والإضافة إما أن تكون بيانية، كقولهم خاتم حديد، أي خاتم هو حديد، ويكون المعنى صراط هو الحميد المحمود في كل مسالكه من مبتدئه إلى منتهاه، فهو طريق كل خير، ينتقل فيه من مرحلة خير إلى غيرها، فهو مراحل الاستقامة تبتدئ من أولها إلى نهايتها، ويصح أن يكون المراد من (الْحَمِيدِ) ذات اللَّه تعالى لأنه المختص بالحمد، ويكون المعنى، وهدوا إلى طريق الله تعالى البالغة الموصلة له مثل قوله: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. . .)، وهدوا بالبناء للمجهول في الفعلين، ولم يذكر الفاعل مع أن الهداية كلها من اللَّه تعالى، فحذف للعلم به؛ ولأن الهداية تتعدد مسالكها، فهي تبتدئ بعمل من المهدي بأن يتجه إلى الحق مخلصا النية، فيأخذ اللَّه بيده ويبلغ به إلى أقصى ما يبلغ به من مراتبه.
بقى أن نتكلم في زمانها ومكانها، أكانت في الدنيا، وهي التي أوصلتهم إلى هذا الجزاء الوفاق في الآخرة، ويكون ذكرها في الجنة تحقيقا لها، وتأكيدا لها(9/4965)
وبيان أن ذلك هو السبب في النعيم الذي آتاهم اللَّه بفضله ومنته، فبعملهم في الدنيا وأقوالهم الطيبة بالتوحيد والعبادة، وسلوكهم الطريق الأقوم نالوا ما نالوا في الآخرة.
وثمة اتجاه آخر، وهو أن هدايتهم إلى القول الطيب، والصراط الحميد هو في الآخرة ويكون من النعيم النفسي، إذ إن أهل الجنة يسمرون ويتبادلون القول الطيب، والسلوك الحميد في الآخرة، فيضاف إلى إنعام اللَّه إنعامٌ بالمسامرة التي ليس فيها فسوق في القول، بل مبادلة محبة ومحبة، وعندي أنه يجمع بين القولين، فتكون الهداية إلى القول الطيب والطريق المحمود في الدنيا والآخرة، واللَّه أعلم.
بعد أن بين اللَّه تعالى جزاء المؤمنين عاد سبحانه إلى ذكر جزاء الكافرين وأعمالهم التي استحقوا بها هذا الجزاء فقال تعالى:(9/4966)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
ابتدأ سبحانه وتعالى القول بذكر الكافرين مؤكدا كفرهم بـ " إنَّ " الدالة على التأكيد، وقد ذكر الموصول لبيان أن الصلة هي سبب هذا الجزاء، والصلة فيها أمور ثلاثة تستدعي الاستنكار والعذاب الشديد:
الأمر الأول - الكفر، وكفر أهل مكة هو الإشراك باللَّه تعالى بعبادة الأوثان.
الأمر الثاني - الصد عن سبيل اللَّه تعالى بإيذاء المؤمنين ومحاربتهم، ودعوة العرب إلى عدم الإيمان باللَّه وبرسوله.
الأمر الثالث - بصدهم عن المسجد الحرام، ومنعهم من أداء المؤمنين الحج فيه، ويظهر أن هذه الآية نزلت في فترة الحديبية؛ لأن المسلمين حيل بينهم وبين الوصول إلى المسجد الحرام، وهو للناس جميعا؛ ولذا وصفه اللَّه تعالى بالموصول(9/4966)
بقوله: (الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءًا لْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)، أي أن هولاء الناس المصدون عن المسجد الحرام من يريد الحج إليه وقد جعله اللَّه - الذي باركه وأكرمهم به - للناس جميعا، وليس لقريش وحدها، فهم فيه كغيرهم من الناس، وإن كان اللَّه تعالى كرمهم بأن جعل منهم سدنة البيت والقائمين عليه وعلى خدمته وعمارته، وكلمة (سَوَاءً) قرئت مفتوحة وتكون مفعولا لجعلناه وهي المفعول الثاني، والأول الهاء، وتكون (لِلنَّاسِ) متعلقة بـ (سَوَاءً)، وقرئت مضمومة، وتكون مبتدأ، ويكون المعنى مستوفية العاكف والباد، وتكون الجملة في مقام المفعول الثاني أو حال (1).
و (الْعَاكِفُ) المقيم في مكة، وعبر عنه بالعاكف إيماء إلى أنه ينبئ أن يكون عاكفا عابدا، لَا أن يكون وثنيا مشركا، صادًّا عنه مانعًا له، والبادي: المقيم في البادية، وإذا كان المقيم ببادية يستوي مع المقيم في مكة حول البيت الحرَام فأولى المتحضر المقيم في الحاضرة؛ ولذا قالوا: إن البادي هو من يكون من غير أهل مكة سواء الحاضر فيها والبادي، والتعبير بالمضارع في يصدون إشارة إلى استمرارهم على الصد عن سبيل اللَّه.
وخبر " إن " محذوف، دل عليه ما يجيء بعد ذلك من قوله: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ) تقديره له عذاب شديد، وقوله تعالى: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، أي إن الذي يريد فيه إلحادا وميلا عن الحق واحترام البيت وصيانته بظلم يرتكبه بالشرك والاعتداء على حرماته، وصد الناس، ومنعهم من الطواف يذيقه اللَّه تعالى من عذاب أليم ينزل به في الدنيا بالحروب التي تهزمهم، وفي الآخرة بالنار يذوقون حريقها.
وفى قوله تعالى: (وَمَن يرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ) أمور بيانية نشير إليها:
________
(1) كلمة (سواء) منصوبة: قراءة حفص، وجبلة عن المفضل عن عاصم، وقرأ الباقون بالنصب. غاية الاختصار: 2/ 578.(9/4967)
الأمر الأول - في قوله (فِيهِ) الضمير يعود إلى المسجد الحرام أي يريد خروجا عن مبادئ الحق والإيمان متلبسا بإلحاد، و (مَن) شرطية، وجواب الشرط (نُذِقْهُ) إلى آخره، و " الباء " للملابسة أو الملاصقة أو تقوية التعدية، والإلحاد الميل عن الحق والانحراف إلى الباطل، يقال ألحد إلى كذا: مال إليه، ويقول الأصفهاني في مفرداته: الإلحاد ضربان: إلحاد إلى الشرك باللَّه وإلحاد إلى الشرك بالأسباب، فالأول ينافي الإيمان ويبطله، والثاني يوهن عُراه ولا يبطله، ومن هذا النحو قوله تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ).
ونرى أن الإلحاد هنا من النوع الذي يبطل الإيمان، فهو ميل وانحراف إلى عبادة غير اللَّه تعالى، وقد فعل ذلك المشركون في المسجد الحرام، فقد كانت الأوثان مادة ذلك الإلحاد في البيت وموضوعة على الكعبة نفسها.
الأمر الثاني - أن قوله تعالى: (بِظُلْمٍ)، بيان لنوع الإلحاد، وهو الظلم، والشرك أفظع الظلم وأشده، ولقد قال تعالى: (. . . إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، وإن اللفظ المطلق إذا لم يقيد انصرف إلى أكمل أفراده، فهو هنا انصرف إلى الشرك وكان من المشركين مع الشرك الذي هو أشد الظلم ظلمات أخرى فكان فيهم ظلم الضعفاء وإيذاؤهم، وكان فيهم ظلم الاعتداء المتكرر منهم على المؤمنين، وكان فيهم ظلم الاستهزاء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان فيهم ظلم الغدر والخيانة ونكث العهود، وكانوا لَا يرقبون في المؤمنين إِلًّا وَلَا ذِمَّةً.
الأمر الثالث - في قوله تعالى: (نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)، (مِنْ) هنا بيانية أو ابتدائية، أي نذقه عذابا أليما، أو نذقه ذوقا مرا مأخوذا من عذاب أليم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *(9/4968)
آيات في الحج
قال اللَّه تعالى:
(وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
* * *
الحج شريعة إبراهيم باني البيت - عليه السلام -، لأنه باني الكعبة، ولأنه أول من أمره اللَّه سبحانه وتعالى بالدعوة إليه، ولأن مناسكه كلها هي مناسك إبراهيم - عليه السلام -؛ لأن ما فيه من هدْي يومئ إلى فدية اللَّه تعالى الذي فدى بها إسماعيل - عليه السلام - عندما هم بذبحه، برؤيا إبراهيم - عليه السلام -، وذكر هنا في هذا المقام إشارة إلى أنه ليس حق الطواف فيه مقصورا على قريش وحدها.(9/4969)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
(وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).
وقوله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ) متعلق بفعل محذوف تقديره اذكر يا محمد لهؤلاء الذين يصدون عن البيت، (وِإذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ)، بوأ بمعنى(9/4969)
هيَّأ وسوَّى، وهيأ المكان سوَّاه وأعده، و " اللام " في قوله تعالى (لإِبْرَاهِيمَ)، " لام " الاختصاص، أي بوأنا المكان وسويناه لإبراهيم يتخذه مكانا للبيت الحرام، ويكون مثابة للناس وأمنا، كما أشارت لذلك الآيات الأخرى الكثيرة، وإن هذه التبوئة والمكان كان مكان عبادة، فهو إشارة إلى الكعبة التي هي أول بيت وضع للناس؛ ولذلك كانت التبوئة من سياق تاريخ إبراهيم وأعماله عليه السلام متضمنة معنى العبادة، وقد فسر اللَّه تعالى العبادة التي أمر اللَّه بها نبيه وخليله إبراهيم بقوله تعالى: (أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (أن) هنا تفسيرية، وهي بيان لما تضمنه معنى التبوئة والتخصيص، وجعله مثابة للناس وأمنا.
فسر الله تعالى العبادة التي طالب اللَّه سبحانه وتعالى خليله بها هي:
أولا - (لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا)، أي شيئا من الشرك، أي اجعل عبادتك لي خالصة، فلا تشرك في عبادتك صنما، ولا كوكبا، ولا شمسا ولا قمرا، ولا تُرائي بأي نوع من الرياء في أي عبادة من العبادات.
وثانيا - تطهير البيت من كل ما فيه قاذورات حسا أو معنى، (لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)، والقائمون هم القائمون للصلاة، فكأنه قد ذكر فيها الأمر بالصلاة، بالأمر بأركان من قيام وركوع وسجود، و (الرُّكَّعِ) جمع راكع، و (السُّجُودِ) جمع ساجد وقوله تعالى: (أَنْ لَا تُشْرِكْ) وما عطف عليها فيها الطلب بالنهي في (لَا تُشْرِكْ)، وبالطلب في (وَطَهِّرْ بيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّع السُّجُودِ)، وأضاف سبحانه وتعالى إلى ذاته البيت في قوله تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) إلى آخره، تشريفا لهذا البيت زاده اللَّه تشريفا وتكريما، ولبيان أن البيت بيت الله تعالى للناس أجمعين، فلا يسوغ لأحد أن يصد عنه؛ لأنه يصد عن أكرم بيوت اللَّه تعالى، فكأن الصد عنه تحدِّ للَّه تعالى، ولقد أمر سبحانه بعد الأمر بما أمر، وبما نهى عنه - أمر بأن يؤذن للحج، فقال تعالى:(9/4970)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
(وَأَذِّنْ) أمر من اللَّه تعالى لإبراهيم باني الكعبة، (وَأَذِّنْ) - من " أذن " بمعنى أجاز - وأعلم كآذن، والتأذين: الإعلام والدعوة، والمؤذن هوَ الداعي إلى اللَّه تعالى، وخصص - عرفا - بالدعوة إلى الصلاة.
(فِي النَّاسِ) إخبار للناس كلهم عربا وعجما، وهي دعوة عامة إلى حج البيت الحرام، وعدى الفعل بـ " في "، ولم يقل " الناس "، بل قال تعالى: (فِي النَّاسِ) للإشارة إلى عموم الإعلام في الناس، لأنه إذا لم يذكر (في)، فقد يفهم أنه يكلم أهل عصره، أو من يمكنه خطابهم فقط، وذكر (فِي) يدل على أن الإعلام في أوساط الناس كلهم، لَا فرق بين القريب الداني والبعيد القاصي، فالجميع يجب أن يبادروا إلى الحج إلى بيت اللَّه، لأنه أول بيت وضع للعبادة للناس، ولأن التأذين بالحج يتضمن إعلام الناس، أو معناه إعلام الناس تعدى بالباء.
والحج معناه القصد، وخص بالقصد إلى بيت اللَّه الحرام، وخصص عرفا شرعيا، أو اصطلاحا دينيا بالقصد إلى الكعبة طائفا، وإلى الصفا والمروة ساعيا، وإلى عرفة واقفا في ميقاته، وهو من زوال اليوم التاسع، والبيات بمنى، والوقوف بالمشعر الحرام، وهو المزدلفة، والعود إلى منى ورمي الجمار بها بعد النحر في أيام ثلاث بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق ويكون الهدْي، وسيشار إلى كثير من ذلك في الآيات التي نتكلم في معانيها من بعد.
(يَأتُوكَ رِجَالًا)، أي إذا ناديت وأعلمتهم بفريضة الحج يأتوك راجلين سائرين على أقدامهم، و (رِجَالًا) جمع راجل كصاحب وصحاب، وتاجر وتجار، والراجل هو الماشي على رجله، في مقابل الراكب، وهنا أمران بيانيان:(9/4971)
الأمر الأول - في قوله (يَأتوكَ رِجَالًا)، والدعوة ليست المجيء إلى إبراهيم، إنما المجيء إلى البيت وما حوله، ولكن ذكر المجيء إلى إبراهيم لأنه المؤذِّن، ولأنه الباني للبيت.
والأمر الثاني - أن (يَأتُوكَ)، جواب الأمر، وهو يدل على قوة الإجابة، إذ يجمع الناس على الحق والهداية والتعاون وهو بيان لما ينبغي ويجب، ولا يمنع ذلك أن يكون في الناس عصاة لَا يهتدون ولا يجيبون داعي اللَّه تعالى.
(وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)، الضامر: البعير الهزول الذي ضمر من شدة التعب، وأجهده السفر، وهذه الحال تكون عند وصوله مكة وما حولها، ويكون هذا الوصف دليلا على أن الذين جاءوا إلى البيت، وقد صرحت الآية بذلك في وصف الابتداء الذي ابتدأت به للاتجاه إلى بيت اللَّه تعالى، فقال تعالى: (مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) الفج يطلق على الطريق بين جبلين ويطلق على الطريق الواسع، والعميق معناه البعيد، وأطلق على البعيد بعدا رأسيا كالآبار ونحوها، ثم أطلق على البعيد مطلقا، و (يَأتِين) يعود الضمير إلى الإبل تكريما لها في حمل الحجيج إلى بيت اللَّه الحرام.
وإن هذه الدعوة التي قام بها إبراهيم خليل اللَّه ومنشئ أول بيت وضع للناس في مكة وسط العالم والتي يصلي حولها العباد المسلمون وقد أخذت الآيات الكريمة تشير إلى مناسك الحج من غير بيان تفصيلي.(9/4972)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
(لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
" اللام " هنا لام العاقبة، أي لتكون عاقبة ذلك السفر الطويل أن يشهدوا منافع لهم، ويذكروا اللَّه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، والشهود هو الحضور، أي يحضروا منافع لهم، ويعاينوها، ولكن ما هي هذه المنافع التي تسبق ذكر اللَّه بالعبادة والذبح، قال ابن عباس رضي اللَّه عنه: منافع الدنيا والآخرة، أما منافع(9/4972)
الدنيا فما يصيبون من منافع البُدن والذبائح والتجارات، وأما منافع الآخرة، فرضوان اللَّه تعالى، وكذا قال مجاهد راوي التفسير عن ابن عباس، ونقول: إنه سبحانه وتعالى ذكر المنافع بلفظ نكرة، والتعبير بالنكرة يدل على أنها منافع عظيمة، لَا يقدر قدرها ولا تدرك نهايتها للناس، ونرى أن هذه المنافع مادية ومعنوية وعبادية، وهي سنام المنفعة، أما المنافع المادية فتجارات تتبادل بين الأقاليم الإسلامية، فأهل كل إقليم يجلبون معهم من مواردهم ما لَا يكون عند غيرهم، فما عند الهنود من خيرات يفيضون به على غيرهم من المسلمين، وما عند المصريين من خيرات يفيضون به على غيرهم ممن ليس عندهم مثلها أو هو قليل، وتعقد في مواسم الحج الصفقات الاقتصادية وذلك ليس بممنوع، بل هو مطلوب، كما قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ. . .)، وإن ذلك يجيز بل يوجب أن يعقد في موسم الحج الاتفاقات التجارية، ويتخذ من موسم الحج موعدا للدراسات الاقتصادية بين المسلمين، ولقد كانت في مكة الأسواق التجارية مثل عكاظ وذي المجاز، وغيرهما.
أما المنافع المعنوية، فدراسة التعاون الإسلامي من كل النواحي الاجتماعية والحربية والتعاونية والتعليمية ويعمل كل إقليم على التعرف ببقية الأقاليم الإسلامية والتعريف بحاجاته من العلم والحرب، وغيرهما وكذلك يشعر كل إقليم بأنه يعيش في مدن الأقاليم الإسلامية، ولا يشعر بنفرة الانفراد.
أما المنافع الدينية، فهي قضاء النسك الإسلامي في أماكن النسك، وإن المنافع السابقة لَا تخلو من أنها دينية، وأنها تكون عبادة إذا قصد بها وجه اللَّه ورفعة الإسلام، وإيجاد الوحدة الإسلامية وتوثيقها، فالمسلمون جميعا أمة واحدة، وبذلك ينتفع الحاج إلى بيت اللَّه الحرام، وهو مزود بالتقوى والمعرفة والأخوة في اللَّه تعالى.
وقوله تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) (اللَّه) ذكر الله تسبيحه وامتلاء القلب بالإيمان به، والخضوع له، والخشوع،(9/4973)
والضراعة له، وذكر اسمه لهذا أيضا، ولكن يذكر اسم الله على الذبيحة لتكون لله، وللبعد عن رجس الجاهلية في ذبحهم على النصب، وذِكْر اسم الأوثان، وذكر اسم الله تعالى هنا على ذبائح الهدْي من البدن والغنم، والبدن اسم حبشى جمع للبدنة، وهي الذبائح من الإبل والبقر، فالواحدة منها تكفي عن سبعة.
ونلاحظ أنه ذكر سبحانه أن ذِكْر اسمه تعالى في أيام معلومات، وأن الذكر يكون على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فالذكر يكون على بهيمة الأنعام، والإضافة بيانية، أي بهيمة هي الأنعام جمع نَعَم، وهي الإبل والبقر والغنم، وسميت نعما؛ لأنها نعمة الله تعالى، وهي التي تكون هديا في الحج، لمن يجمع بين الحج والعمرة في إحرام واحد، أو في إحرامين بينهما تحلل في أشهر الحج. وذكر اسم الله يكون في أيام معلومات، وهذا يقتضي أن يكون ذبح الهدْي في هذه الأيام المعلومات، ولكن ما هي الأيام المعلومات التي يكون فيها الذبح، وذكر اسم الله تعالى فيها، بالتسبيح والتكبير، وامتلاء النفس والمشاعر المؤمنة به، ما هي هذه الأيام المعلومات، روي أنها الليالي العشر التي تبتدئ بيوم عرفات، وينتهي بها الحج، والتي جاء فيها النص القرآني بقوله تعالى: (. . . فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201).
وقد وردت الآثار الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بفضل ذكر الله ودعائه في هذه الأيام العشر التي تبتدئ من اليوم التاسع، فقد روى ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد " (1).
________
(1) رواه بهذا اللفظ أحمد: مسند المكثرين من الصحابة مسند عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (5189).(9/4974)
وقيل: إن هذه الأيام المعلومات هي الأيام المعدودات في قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى. . .) ونميل إلى أنها الأيام العشرة، ولقد قيل: إنها الليالي العشر في قوله تعالى: (وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ).
قال تعالى: (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)، " الفاء " هنا للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا ذبحتموها اذكروا اسم اللَّه تعالى فكلوا منها، فالأكل من الهدْي مندوب، وليس فرضا، ولا ممنوعا، والبائس هو الذي يكون في شدة وبؤس شديد من مرض، أو شدة، أو إجهاد في سفر، والفقير المحتاج، وقد قال العلماء في الهدْي: إن المندوب أن يأكل ما لَا يزيد على الثلث، ويهدي ما لا يزيد على الثلث، ويطعم الفقير المحتاج، وقد يكون ثمة فقر شديد، وحاجة ملحة فيزيد في إطعام البائس الفقير.
وقال تعالى:(9/4975)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
التفث: الأوساخ والأدران التي تكونت بسبب المنع من الاستحمام، وحلق الشعر، والعانة والإبط، مما يوجبه الإحرام، ويستمر به الشخص محرما، لَا يتناول شيئا مما حرمه اللَّه تعالى، وذلك ليعيش عيشة الفقراء، فيحس بآلام الفقراء، وبؤس المحرومين من زينة الدنيا، وليكون الناس على سواء أمام اللَّه تعالى، وليجيئوا إلى ضيافة الرحمن، كما ولدتهم أمهاتهم، ويخرجوا من الحج، كما ولدتهم أمهاتهم، وقضاء التفث يرمز إليه بحلق الرأس، أو التقصير والاكتفاء بقدر من قص الشعر، وتقليم الأظفار الذي كان ممنوعا بالتحريم.
والتعبير بـ (ثُمَّ) هنا لإفادة التفاوت بين حال المنع بالإحرام، وحال التحلل منه مثوبا مكرما، وحين ذلك يكون نحر الهدْي لمن وجب عليه الهدْي.(9/4975)
(وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) أمر بالوفاء بالنذور ووقته هو بعد التحلل من إحرام الحج، لأن الوفاء بالنذر، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من نذر أن يطيع الله، فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللَّه فلا يعصه " (1)، وقد قال الفقهاء: إن النذر يجب الوفاء به بشرط ألا يكون معصية وأن يكون طاعة في ذاته، وأن يكون من جنسه، وكان الوفاء بالنذر بعد التحلل من الإحرام، لكيلا تختلط عبادتان، وليكون إحرام الحج خالصا للحج، ثم قال تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) وشدد سبحانه في الطواف بصيغة الافتعال، تشديدا في الوجوب؛ لأن صيغة الافتعال تفيد التشديد في الفعل، وإن هذا الطواف الذي يكون بعد النحر والوقوف بعرفة والمشعر الحرام هو الركن، وهو ما يسمى بطواف الزيارة، و " البيت " هو المسجد الحرام، وذكره مجرد إشعار بشرفه، ولأنه معرف من غير تعريف، ووصف بالعتيق، " العتيق " معناه القديم، ومعناه المعتق من التعدي على حرماته، فهو أول بيت وضع للناس، كما قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا. .،)، وهو معتق من الاعتداء عليه من عدو مهاجم، وبذلك يتبين الإثم الكبير الذي رمى به الطاغية الأثيم الحجاج بن يوسف الثقفي، وهذا إلحاد في البيت، ولا يبرره أي مبرر، ولكن مع إثم الحجاج قد أعاد الله بيته على يده الهادمة، فكان معتقا أيضا.
* * *
تعظيم مناسك الحج
قال اللَّه تعالى:
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
________
(1) سبق تخريجه.(9/4976)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
* * *(9/4977)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
(ذَلِكَ)، الإشارة هنا إلى الحج الذي أذن به خليل الله إبراهيم، وتكون (ذَلِكَ) خبرا لمبتدأ محذوف تقديره الحج هو ذلك، لأن الآيات السابقة أشارت إلى أركانه وواجباته، إذ أشارت إلى الوقوف بعرفة أول الأيام العشرة، وأشارت إلى الطواف بالبيت، وأشارت إلى محرمات الإحرام، والتحلل، وحدَّت كل شعيرة من شعائره، ووقت لها في ميقاتها المعلوم، ثم حثت الآية الكريمة على المحافظة على حرمات الحج، فلا يتحلل قبل ميقاته لمن أحرم بالحج على حسب ما نوى من حج وعمرة أو أحدهما، ووقت تحلله من إحرامه، فقال: (وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ)، " الواو " عاطفة على جملة (ذَلِكَ) الدالة على التعريف الموجز للحج، والإشارة إلى أركانه، ومحرماته، وأوقاته، و (يُعَظِّمْ) معناها يعطيها(9/4977)
حقها من الإعظام والإكبار، فلا ينتهك موانع الإحرام، ولا يؤدي الأركان في مواعيدها، ولا يرفث ولا يفسق ولا يجادل في الحج، كما قال تعالى في كتابه الكريم: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ. . .)، والحرمات جمع " حرمة "، وهو ما لَا يحل انتهاكه مما حرمه اللَّه تعالى في الحج من بعد الإحرام وهو فرض الحج عليه، وقد روي عن زيد بن أسلم أنه قال: حرمات الحج خمس: الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، وما حرمه اللَّه تعالى على المحرم بعد فرضه الحج على نفسه (1).
(فَهُوَ خَيْرٌ لهُ عِندَ رَبِّهِ)، هذا جواب الشرط (وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ) و " الفاء " واقعة في جواب الشرط، وهو قوله: (فَهُوَ خَيْر لَّهُ عِندَ رَبِّهِ)، فيها تأكيد الخيرية أولا: بذكر ضمير الفصل " هو " - وثانيا: بتخصيص الخيرية " له "؛ لأنه قام بمناسك الحج، أدى موجباتها وبعد عن موانعها، وقام بحق ضيافة اللَّه تعالى حق قيامه، وتعاون مع المسلمين وتعرف بهم، وذلك خير له ولكل المؤمنين. وثالثا: بأن أضاف الخيرية بأنها (عِندَ رَبِّهِ) الكالئ له والحامي.
وقد ذكر الحرمات مضافة إلى ذي العزة والجلال حضا على صيانتها وتكريمها ومراعاتها حق رعايتها، وأحل ما أحل وحرم ما حرم، وإن الحج لا يكون خيرا إلا إذا طهرت النفوس من الآثام واتجهت إلى الديان وحده لَا شريك له؛ ولذا قال تعالى عاطفا على ما قبله (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ) الإضافة هنا بيانية، أي البهيمة التي هي الأنعام، أي أنها من النعم التي أنعم اللَّه بها عليكم، فتحريمها بغير تحريم اللَّه تعالى كفر بنعمته، واستباحتها بغير إباحة اللَّه تعالى كفر بنعمته أيضا؛ ولذا قال تعالى: (إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) وما تلي هو ما جاء في سورة البقرة والأنعام والمائدة، وآخرها ما جاء في المائدة، فقد قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
________
(1) زيد بن أسلم، العدوي القرشي، وكنيته أبو أسامة، من الطبقة الوسطى من التابعين، وهو ثقة يرسل، أقام بالمدينة وتوفى بها 136 هـ. راجع الطبقات الكبرى لابن سعد - الطبقة الوسطى - زيد بن أسلم.(9/4978)
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3).
هذا ما أُحل وهذا ما استُثني من الحلال، وذكرت بهائم الأنعام وإحلالها في هذا المقام لمناسبة الهدْي ووجوبه والأكل منه، وإن المشركين كما أشرنا أحلوا ما حرم اللَّه فأكلوا ما أهلّ به لغير اللَّه من أوثانهم، وحرموا ما أحل اللَّه تعالى في تحريم السائبة والوصيلة والحام، ونسبوا التحريم إلى اللَّه تعالى، وذلك زور في القول، والإهلال لغير اللَّه والذبح على النصب والاستقسام بالأزلام، كل ذلك من الوثنية أو الكذب على اللَّه تعالى؛ ولذلك جاء من بعد النهي عن الوثنية وقول الزور، فقال عز من قائل: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ).
(الرِّجْسَ) هو الشيء القذر، والقذارة هنا معنوية وليست حسية؛ لأن النفس والعقل يقذران بتقديس الأحجار وعبادتها؛ لأنها تنزيل للفكر، وضلال في العقل، وافتئات على اللَّه جل جلاله، والأوثان جمع وثن، وهو ما يعبد من تماثيل، وأصله من وثن الشيء أي أقامه في مقامه، فسمي الوثن كذلك؛ لأنه يركز في مقامه، وهو بطبعه جماد لَا يتحرك إلا بمحرك، و (مِنَ) في قوله تعالى: (مِنَ الأَوْثَانِ) بيانية، أي اجتنبوا الرجس، وهو الأوثان، ففي الكلام بيان بعد إبهام وهو يمكن المعنى في النفس، واجتنبوا معناها ابتعدوا كل الابتعاد، وهو أبلغ في النهي، وكان النهي عن الأوثان في هذا المقام؛ لأن اللَّه أحل بهيمة الأنعام، إلا الميتة وما يشبهها، وما أهل لغير اللَّه به، وقد استباحوا ما أهل به للأصنام وما ذبح على النصب، واستقسموا بالأزلام، فلا حج لمن كان كذلك، ولا خير له في حجه.(9/4979)
وعطف اللَّه تعالى الأمر باجتناب قول الزور على اجتناب الأوثان؛ لأنهم كانوا يحرمون على أنفسهم بعض بهائم الأنعام، وينسبون التحريم إلى اللَّه كاذبين مزورين، ولا حج لهؤلاء، ولا خير لهم في تعظيمهم بعض مناسك الحج؛ لأن الخير يكون لمن قام بالواجب، وأبعد موانع القربى إلى اللَّه تعالى.
وقد وصف اللَّه تعالى الذي يكون تعظيم حرمات اللَّه خيرا له عند ربه بقوله تعالى:(9/4980)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
(حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
هذه الآية جزء متمم للآية السابقة متصلة بألفاظها؛ ولذا كانت كلمة (حُنَفَاءَ) حال من " الواو " في (فَاجْتَنِبُوا)، أي اجتنبوا الرجس من الأوثان، واجتنبوا قول الزور حال كونكم خالصين للَّه تعالى مستقيمين سائرين في سبيله، و (حُنَفَاءَ) جمع حنيف، وهو المائل من الانحراف إلى الاستقامة، فهؤلاء يخلصون من رجس الأوثان، ومن قول الزور الاستقامة والإخلاص للَّه تعالى أي يكونون كلهم للَّه تعالى لَا يبغونها عوجا فليس فيهم ضلال قط، ولا إشراك قط، بل خلصوا أنفسهم للَّه وحده، لَا يشركون في قلوبهم غيره، ولذا قال تعالى مؤكدا معنى إخلاصهم للَّه تعالى: (غَيْرَ مُشرِكِينَ بِهِ)، حال بعد حال، أي غير مشركين به أحدا أو شيئا في عبادته، وضرب بعد ذلك مثلا للمشركين يصور كيف ينحدر من سماء العقل والفكر، إلى منهوى الأرض، فقال تعالى: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) شبه اللَّه تعالى من يشرك باللَّه تعالى قد أضله الشيطان وأغواه بتشبيهين مبينين المنهوى الذي انهوى إليه عقله ومداركه، فشبهه في الأول بمن خر من السماء هابطا، ففي هبوطه تخطفه الطير، فتقطعه بمناقيرها، والتهمته أجزاء، وذلك لأن من أشرك قد هوى من سماء الإدراك السليم، والفكر المستقيم إلى مهاوٍ توزعته الأهواء، حتى صار ليس له فكر جامع، بل صار موزعا بين ضلال شتت نفسه، وصار موزعا بين أوهام فاسدة لَا راشدَ يرشده، ولا عقل يهديه.(9/4980)
والتشبيه الثاني هو أن من يشرك باللَّه فكأنما خر من السماء، وصار كالريشة في مهب ريح الشك والأوهام فيركب من ريح هوجاء ألقته في مكان سحيق عن الحق، والهداية، بل صار ينتقل من ضلال إلى ضلال لَا إرادة له.
والسَّحق التفتيت، والمكان السحيق، أي البعيد يلقى إليه مع بعده فتاتا مقطع الفكر موزع الأهواء، ولا فكر يسير ولا عقل يرشد، وقد قبسنا الكلام في هذين التشبيهين مع التوضيح والتوجيه من كلام الزمخشري، فقد قال: " ويجوز في هذا التشبيه أن يكون من المركَّب والمفرق فإن كان تشبيها مركبا قال من أشرك باللَّه فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده نهاية، بأن صور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفته الطير فصيرته مزعا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة، وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان وأشرك باللَّه بالساقط من السماء، وشبه الأهواء التي تتوزع أفكاره بالطير المختطفة، والشيطان الذي يطوح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بما عصفت به المهاوي المتلفة " اهـ.
ونرى أنه جعله تشبيها واحدا مركبا ومفرقا، ونرى أنه تشبيهان مفرقين أو مركبين، وإن هذا التصوير كما ذكرنا، وكما ذكر الزمخشري هو على ذلك في الدنيا، لبيان هلاك المشرك، وتخطف الأهواء لمداركه ويبين فساد عقله وضلاله، وإنه لَا يكون بالنسبة للدين إلا في حيرة تسيره الأوهام ولا سلطان له على نفسه، وقد قال بعض المفسرين: إن تحقق هذه الحال المبينة بالتشبيه، إنما هي في الآخرة لا في الدنيا. وإننا نرى أن الجميع ممكن بأن تكون هذه حاله في الدنيا والآخرة، وإنه في الدنيا يتردى إلى ضلال الأوهام والأهواء من سماء الإيمان، وفي الآخرة يتردى إلى العذاب الأليم الذي يكون فيه خالدا.(9/4981)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
(ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
الإشارة إلى الحج، والفاصل كان متعلقا بالحج، فقد كان فيه الأمر باجتناب رجس الأوثان، والكذب على اللَّه بقول الزور والأمر بأن تكون الذبيحة للَّه، وأن(9/4981)
يكون البعد عن الإشراك، وكل هذا إن لم يكن من الحج ليس بعيدًا عنه؛ ولذا كان الاعتراض بما هو تتميم للحج، فالمعنى ذلك الحج بما فيه من حرمات، وإذا كانت حرمات اللَّه تعالى يجب أن تكون مصونة غير معتدى عليها، فكذلك شعائر اللَّه تعالى يجب أن تكون مصونة معظمة، وشعائر اللَّه تعالى جمع شعيرة، وهي الأنعام التي وضعت عليها علامة على أنها خصصت للبيت الحرام تذبح فيه؛ ولذا صحت نسبتها إلى اللَّه تعالى أو إضافتها إليه عز وجل، وجاء في مفردات الراغب الأصفهاني: " ويقال: شعائر الحج الواحد شعيرة. . . أي ما يهدَى إلى بيت اللَّه تعالى، وسمى بذلك؛ لأنها تشعر أي تعلم بأن تدمى بشعيرة أو حديدة يشعر بها "، وكانت واجبة التعظيم، لَا لذات البهيمة، بل لأنها لبيت اللَّه تعالى، ولأنها دليل الاتجاه إلى العطاء الكريم في بيت اللَّه، ولأنها تكون لفقراء مكة الذين يكون إطعامهم استجابة لدعاء إبراهيم، وتعظيمها ألا تمس بسوء، وألا يعتدى عليها، وأن يحافظ عليها وعلى الشعار الذي أشعرت به، وأن تختار من خير صنفها في عظامه وسنامه، وسمنه، وأن يكون لها أكل طيب بالنسبة لها. ويقول تعالى:
(فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، الضمير في (فَإِنَّهَا) يعود إلى الشعائر، و " الفاء "
واقعة في جواب الشرط، وهو قوله تعالى: (وَمَن يعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ) وكانت الشعائر من تقوى القلوب لأن تخصيصها لفقراء الحرم، والاتجاه بها في العبادة مظهر حسِّي يدل على تقوى القلوب، وهي بمقصدها وغايتها نابعة من التقوى، وهي استشعار خشية اللَّه تعالى والشعور بضيافته، ويلتقي بالناس متساويا معهم فقيرا وغنيا، ومعينا لفقيرهم، ومكرما لضيوف الرحمن من الحجيج، وأضيفت التقوى إلى القلوب، لأن القلب هو مكان التقوى، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " التقوى هاهنا "، وأشار إلى قلبه الكريم (1).
________
(1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ».
رواه مسلم (6493). وقد سبق تخريجه.(9/4982)
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
(لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
الضمير في (فِيهَا) يعود على الشعائر على أساس أن البُدن وغيرها من هدايا البيت هي الشعائر، على أساس ما يرمز إليه من تكريم البيت، والمعاونة في ضيافته، (لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ) بدرها وعملها، وصوفها ووبرها ما دامت في حوزتكم (إِلَى أَجَلٍ مسَمًّى)، وهو مدة بقائها في أيديكم إلى أن يحين وقت نحرها في يوم النحر، وفي هذه الحال يكون نسلها لكم، وكل ما يكون لها من نفع، (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، (ثُمَّ) للترتيب والتراخي، والتراخي هنا التراخي الزمني، إن كان ثمة تراخ في الزمن، وهو زمن السير في ميقات الحج إلى محلها العتيق، والتراخي المعنوي، وهو أنها تنتقل من دابة لمنافع دنيوية إلى مرتبة دينية تشعر وتكون من شعائر الرحمن، وتحبس للفقراء في البيت، و (ثُمَّ) مع دلالتها على التراخي تدل على انتهاء الأجل المسمى والغاية التي تنتهي إليها هذه الشعيرة، وهي المكان الذي تذبح فيه (ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ)، أي محل ذبحها ينتهي إلى البيت العتيق، وهو أقدم بيت وأكرمه، وهو المعتق المعصوم من تحكم الملوك وسيطرتهم، فلم يسيطر عليه ملك قط، وما كان من هدم الحجاج الطاغية له مع أنه كان طغيان من لَا يهتم لمناسك اللَّه - لم يكن تسلطا من سلطان ملك، وقد بناه من بعد عبد الملك بن مروان الذي كان الحجاج يعمل له.(9/4983)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)
" المنسك " اسم مكان من " نَسَك " وهو مكان العبادة، والعبادة يطلق عليها النسك، وقد اختار اللَّه لأمة محمد البيت الحرام مكانا لنسكها وأداء العبادة في حج البيت الحرام، والإقامة فيما حوله، وأن يكون الذبح، وإطعام الفقراء، (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ)، أي يذكروا اسم اللَّه تعالى عند ذبحها، شاكرين له نعمته وإذا كان اللَّه تعالى شارع الشرائع قد جعل لكل أمة منسكا هم ناسكوه؛ فذلك لأنه إلهكم أنتم وغيركم إلها واحدًا، فكان للماضين من الأمم(9/4983)
منسك لكل أمة واحد، وإذا كان اللَّه واحدًا أحدًا، فالمناسك كلها في ماضيها وحاضرها له سبحانه، وهو مبينها للماضين، كما بينها للحاضرين، وجعل منسك أمة خاتم النبيين هي مكة المكرمة التي بها البيت العتيق، أول بيت وضع للناس بمكة المكرمة.
و" الفاء " في قوله تعالى: (فَإلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) هي فاء الإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، إذ المعنى إذا كان لكل أمة منسك فاللَّه الذي شرع المناسك واحد، وكلها لعبادته والتقرب إليه سبحانه وتعالى، كذلك كان منسككم، وكان للماضين مناسك شرعها (فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)، " الفاء " عاطفة، (أَسْلِمُوا)، أي أذعنوا، وأطيعوا متطامنين غير متمردين، ولا متطاولين ولا مستطيلين على أحد، ولذا قال تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) بالثواب الجزيل والنعيم المقيم، ورضوان اللَّه تعالى، وهو أكبر الجزاء، فرضا الخالق بديع السماوات والأرض غاية أهل الإيمان العليا التي هي فوق كل مبتغى.
والمخبت هو المتطامن المتواضع الذي لَا يتعالى، ولا يستطيل على أحد، وقد قال الراغب الأصفهاني في مادة خبت: " الخَبْتُ المطمئن من الأرض، وأخبت الرجل قصد الخبت أو نزله نحو أسهل وأنجد، ثم استعمل الإخبات استعمال اللين والتواضع، (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)، أي: المتواضعين، فالتواضع سمة المؤمنين، والغطرسة سمة الكافرين، والذين لم يشرب قلوبهم حب الإيمان، وهم ليسوا أذلاء، بل هم الأعزاء، ولقد قال محمد - صلى الله عليه وسلم -: " مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ منْ مَال، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزا. وَمَا تَوَاضَعَ أحَدٌ لِلّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ " (1).
وقد وصف اللَّه تعالى المخبتين الذين بشرهم سبحانه وتعالى بقوله:
________
(1) رواه مسلم (6544)، وقد سبق تخريجه.
(الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)(9/4984)
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
خلالٌ أربع هي جماع خصال المؤمن الذي هذبت نفسه، وتجمل بالصبر، وأقام الصلاة، وأنفق مما رزقه اللَّه تعالى.
الخلة الأولى - (إِذَا ذُكرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)، (الوجل) الخوف والخشية من اللَّه، لَا لأنهم كثيرو الذنوب، إنما هو لاستصغار حسناتهم، واستكثار سيئاتهم وتصورها، فهم من اللَّه تعالى القوي القهار في وجل، ومن خاف اللَّه حذر مخالفته، وحاول طاعته، وسعى في مرضاته، والوجل صفة أهل الإيمان كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)، وقال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. . .).
هذه حال الذين يعرفون اللَّه ويتقونه حق تقاته.
الخلة الثانية - فيها الصبر؛ ولذا قال تعالى: (وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ)، والصبر ضبط النفس، وسيطرة العقل، فإذا أصابهم أمر من أمور الدنيا المزعجة لا يهلعون ولا يفزعون، ويضبطون أنفسهم، فلا يكون عليهم شهوة جامحة، فلا يكون الهوى سيدا مطاعا، بل تكون الشهوة أمة لَا سيطرة لها، وإن كل شيء من مصائب الدنيا يهون أمام الصابر.
والخلة الثالثة: إقامة الصلاة، أي أداؤها مقومة كاملة في ظاهرها وباطنها، فتكون النفس خاشعة خاضعة قانتة تحس النفس بروعتها، وأنها في حضرة ذي الجلال والإكرام وتمتلئ النفس بهيبته، وتخشع لعظمته؛ ولذا قال تعالى: (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ) عبر باسم الفاعل لبيان أن الصلاة صارت شأنا من شئونه لا يتخلف عنها، والصلاة والصبر فيهما عون للمؤمن على الطاعة، قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ).(9/4985)
والخلة الرابعة - الاتجاه إلى التعاون الاجتماعي، وذلك بمعونة الفقير، وسد الحاجات الاجتماعية والحربية، وهذا قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقونَ)، والإنفاق يشمل الزكاة المفروضة، والصدقات المنثورة، والصدقات تكفر الذنوب، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار " (1)، ويشمل الذنوب والكفارات، ويشمل الإنفاق في الجهاد كما قال تعالى: (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكمْ إِلَى التَّهْلكَةِ. . .)؛ لأن ترك الإنفاق في الجهاد يؤدي إلى التهلكة والانهزام.
وقد تقدم قوله تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) على الفعل؛ لبيان أن الإنفاق مما رزقهم اللَّه وحده فليس من جهودهم ولا أعمالهم ولكن من توفيق اللَّه تعالى، ومن رزقه الذي رزقه إياهم.
وإن الإنفاق بكل أنواعه التي أشرنا إليها هو تعاون اجتماعي في السلم والحرب؛ ولذا سماه اللَّه تعالى الماعون فقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)، وهي الزكاة؛ لأنها يكون بها التعاون الدائم المستمر.
* * *
أعلى أنواع الهدى
قال اللَّه تعالى:
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا
________
(1) سبق تخريجه.(9/4986)
وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
* * *(9/4987)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
البدُن جمع بدنة، وهي تطلق على البدنة من الإبل، وسميت كذلك، لبدانتها، وسمنها وضخامتها، ولا تطلق إلا على الإبل وتعطى البقرة حكمها، فتجزئ عن سبعة كما تجزئ البدنة؛ لأنهما متقاربان في الحجم، وما يؤخذ منهما من لحم، والبدن من شعائر اللَّه، أي أن سوقها في الحج من شعائر اللَّه، وهي جمع شعيرة، وهي العبادة المعلمة التي يجمع فيها بين البينة، والإعلام بمناسك الحج؛ وذلك لأن أيام الحج كلها أيام إعلام، وإشعار بمناسك الحج، يلتقي فيها المظهر الإعلامي، وتقوى القلوب، فهي باعتبارها، وكون العبد قائما في ضيافة الله، واستشعار عظمته وجلاله في كل عمل من أعماله، وطاعته، وتكبيره، وإهلاله وترتيبه، في كل هذا تقوى القلوب؛ ولأنها مظهر حسِّي، كانت شعيرة معلمة كالقيام والقراءة والركوع والسجود شعائر معلمة؛ ولأنها مناجاة العبد لربه كان فيها تقوى القلوب.
(فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ)، وفي قراءة صوافن، وصواف جمع صافة، والصافة هي من رفعت إحدى يديها بالفعل لئلا تضطرب، والمعنى اذكر اسم اللَّه تعالى عند إعدادها للذبح، وصافنة كصافة في المعنى.
والذي أراه أن تُصَفّ النوق صفوفا عند ذبحها، بحيث تكون مقدمة للذبح في صفوف متتالية بعضها وراء بعض، وذلك فيه روعة في المظهر، وظهور للمشعر، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ) أي مصطفة، وصففت كذا: جعلته على صف واحد، قال تعالى:
(. . . عَلَى سررٍ مصْفوفَة. . .).
(فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ)، (وَجَبَتْ جُنُوبُهَا)، أي سقطت ذبيحة بعد ذكر اسم اللَّه تعالى، (فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ(9/4987)
وَالْمعْتَرَّ)، " القا نع " من القناعة، وهو الفقير الراضي الذي لا يسأل الناس إلحافا و " الْمعْتَرّ " افتعل من عَرَّ، وهو الذي يكشف فقره ولا يستره، ويطلب من الناس، ولا يمتنع عن السؤال، والإعطاء لهؤلاء صدقة مبرورة، وقدم عليها أكله هو لكيلا يحسب الناس أنه لَا يصح أن يأكل، (كذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ)، أي أنها مسخرة لكم تقضون عليها حوائجكم، وتنقلكم في هذه الصحراء المحرقة، وكما يقول الناس: الجمل سفينة الصحراء، إنه ينقل الأحمال في الصحراء كما تنقل السفينة الأحمال من إقليم إلى إقليم على متن البحار، وسخرها معناها زللها لكم لتكون في منافعكم، والكاف للتشبيه، أي أن الإبل كما أن اللَّه جعلها من شعائر اللَّه قد سخرها لكم (لَعَلَّكمْ تَشْكُرُونَ)، أي رجاء أن تشكروا اللَّه تعالى على أنعمه التي أنعمها عليكم ولا تكفروها، (. . . لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ).
وإن هذا كله لخير العباد، ولإعلان المناسك، ولا يعود على ذات اللَّه تعالى العلية منها شيء.(9/4988)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
نفَى اللَّه تعالى نفيا مؤكدا، أن يصل إلى اللَّه تعالى منها شيء؛ لأنه واجد الوجود غير محتاج حتى يحتاج إلى لحم البُدن ودماؤها، فإنما يحتاج إلى ذلك من يكون فقيرا إليها، ولا أن تكون مرضاته في لحومها، ولا في دمائها، فإذا كان قد أوجب عليكم نحرها، والتقرب بذبحها، فليس ذلك لأجل رضائه باللحم والدماء، (وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكمْ)، أي يبلغ مبلغ رضاه وقبوله التقوى منكم، فاللَّه سبحانه لَا يرضى بلحم يؤكل ولا تكون مرضاته في دم يهراق، وان كان ذلك، وإنما يبلغ مرضاته وقبوله التقوى، وهذه إشارة إلى أمرين:
الأمر الأول - أن الدم المهراق مطلوب في الحج تذكيرا بفداء إسماعيل.(9/4988)
والأمر الثاني - أن اللَّه تعالى ما طلب شعيرة البدن إلا لأجل التقوى، ولتكون مظهر هذه التقوى القلبية، وشعار مناسك الحج.
(كذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكمْ)، أي كهذا التسخير من ذبح وأكل وتصدق (سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّروا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكمْ)، واللام للعاقبة، أي سخرها لتكون العاقبة أن تكبروا اللَّه في الحج على هدايتكم إليه سبحانه وتعالى، ولتقيموا شعائره، ولتحسنوا أداء التكليفات التي كلفتموها، (وَبَشِرِ الْمُحْسِنِينَ)، أي أن الْمُحْسِنِينَ ينالون الخير العميم، والفضل العظيم، والهداية، فبشرهم بالبشرى الطيبة، والجزاء الحسن، وإن اللَّه لَا يضيع أجر من أحسن عملا.
* * *
الإذن بالجهاد
قال اللَّه تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
* * *(9/4989)
(اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ. . .)، وإذا كان الذين آمنوا أولياء اللَّه فإنه يتولى الدفاع عنهم، وحمايتهم ما داموا قائمين على الحق يستمسكون بالعروة الوثقى؛ ولذا قال تعالى:(9/4990)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
(إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ).
لقد دافع اللَّه عن الذين آمنوا فحفظهم في مكة، وإذا كانوا قد تعرضوا للأذى، فقد حماهم اللَّه بالصبر، والهجرة فارين بدينهم إلى الحبشة مرتين، ثم إلى المدينة، وأفرغ عليهم الصبر، واحتموا بحمايته، وهو عدة المؤمنين، ولما هاجروا إلى المدينة خف عنهم الإيذاء وزال، ولكن كتب عليهم الجهاد، وأذن لهم في القتال، فكانت حماية اللَّه تعالى أوضح، ونجد هنا أنه سبحانه عبر بالمضارع والمستقبل، أي أن اللَّه من شأنه أن يدافع عن الذين آمنوا؛ لأنهم أولياؤه، وأحباؤه، ومن نصبهم للدفاع عن الحق ودين الحق، وقد أكد اللَّه دفاعه عن الحق بـ " إن، وذكر لفظ الجلالة اللَّه جل جلاله القوي المنتقم، ومن ينصره اللَّه فلا غالب له، وقد أكد سبحانه دفاعه بأنه سبحانه لَا يحب أعداءهم، لأنهم أعداء الحق المتألبون عليه؛ ولأنهم خائبون وأشد الناس كفرا، فقال عز من قائل: (إِن اللَّهَ لا يُحِبُّ كل خَوَّان كفُورٍ) فهذه الجملة السامية في مقام التعليل لمدافعته سبحانه عن المؤمنين؛ إذ هو سبحانه لَا يحب مقاتليهم، قد ذكر وصفين من أوصافهما هما سبب أن اللَّه تعالى لَا يحبهم:
الوصف الأول - الخيانة التي بالغوا في الاتصاف بها.
والوصف الثاني - الكفر الذي أوغلوا فيه وأمعنوا؛ ولذا عبر بـ (خَوَّانٍ كَفُورٍ)، والخيانة تتضمن مخالفة الفطرة، وتتضمن عدم طاعة أوامره ونواهيه،
وتتضمن عبادتهم أحجارا، وإشراكهم مع اللَّه، وتتضمن خيانة المؤمنين، ونكث العهود كما كان يفعل اليهود الذين حاربوا النبي - صلى الله عليه وسلم -ومالأوا أعداءه وعاونوهم،(9/4990)
حتى برز لهم وأجلاهم من ديارهم، وقتل رءوس الفساد فيهم، وغزاهم في خيبر.
و" الكَفُور " هو الذي أشرك وسيطرت عليه الأوهام، وكفر بنعمة اللَّه تعالى وافترى على اللَّه تعالى، فادعى أن اللَّه حرم وما حرم، وأحل وما أحل.
وقد ذكر سبحانه الكُلِّية فقال: (كلَّ خَوَّانٍ كفُورٍ) لعمومهم في الخيانة آحادًا وجماعات، فليس منهم إلا خَوَّان كفُور.
وقال تعالى: (يُدَافِعُ) بصيغة المفاعلة للدلالة على المغالبة بين الحق والباطل، وأن اللَّه معهم في هذه المغالبة.(9/4991)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
لم يجئ محمد - صلى الله عليه وسلم - للقتال، ولكن جاء للحق والدعوة إليه، ولنصرة الفضيلة، وفضيلته إيجابية وليست سلبية، ودينه إيجابي، وليس بسلبي، وما كان ليستخذي أمام الباطل، بل يقاومه، وإلا عمَّ الفساد، ولذا قال تعالى: (. . . وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)، ولقد كان المؤمنون في مكة يؤذَوْن فيصبرون، حتى إذا كانوا في المدينة وكانت لهم قوة حامية أذن لهم في القتال دفاعا عن كيانهم ودينهم، فقال تعالى:
(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ) وعبر سبحانه وتعالى بالبناء للمجهول. . و (يُقَاتَلُونَ)، إشارة إلى أن المؤمنين لم يبتدئوا بالقتال، بل ابتدأ غيرهم عندما كانوا يؤذون المؤمنين، وهموا بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحاطوا بداره ليقتلوه، ولكن اللَّه نجَّاه منهم، كما قال تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30).
وقد علل اللَّه تعالى الإذن بالقتال: بقوله: (بِأنَّهمْ ظُلِمُوا)، أي بسبب أنهم ظلموا. وانتصار الأمة المظلومة من الظالمين لها أمر يسوغه قانون العدل وقانون الرحمة، فمن الرحمة بالإنسان وقف ظلمه، ورد بغيه عليه، وأن يدافع عن المؤمنين المظلومين كما وعد، ولذا قال سبحانه: (وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)،(9/4991)
أي أن اللَّه كالئهم، وقادر وقدرته مطلقة على نصرهم إذا أخذوا في الأسباب، وأعدوا للقتال عدته، وتقدموا بقلوب خاضعة للَّه تعالى مؤمنة به سبحانه، وقد أكد سبحانه وتعالى نصره لهم بـ (إنَّ) وبذكر لفظ الجلالة وهو (اللَّهَ) القادر الغالب، وبتقديم الجار والمجرور (عَلَى نَصْرِهِمْ)، وبـ " اللام " في قوله: (لَقَدِيرٌ)، واللَّه ينصر من ينصره، ويؤيد بالحق المؤمنين، ويخزي الكافرين.
وقد ذكر سبحانه كيف ظُلِم المؤمنون، فقال عز من قائل:(9/4992)
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ)، بيان لظلمهم، إذ إن الخروج من الديار والبعد عن الأوطان في ذاته ظلم، وإذا كان بغيرِ سبب مسوغ أو حق مبرر يكون الظلم، ولذا ذكر هذا الأشَر (1) فقال: (بِغَيْرِ حَقٍّ)، أي بغير مبرر إلا أن يكون (ظلما)، لأنه إذا لم يكن يسوغ أو يبرر فهو ظلم لَا محالة وقد أكد ذلك الظلم، وإنه بغير حق، بل لأمر غير الحق (إِلَّا أَن يقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) وهذا من بديع القول ففيه تأكيد المدح بما يشبه الذم، وذلك كقول النابغة الذبياني:
ولا عيبَ فيهم غير أن سيوفَهم ... بهنَّ فلُولٌ من قِراع الكتائبِ
والمعنى للنص السامي أن هؤلاء المشركين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يكون ما شاهت به عقولهم، وضلت به أفهامهم من إشراك باللَّه تعالى في العبادة، وخضوع للأوهام، فيحسبون قول: (رَبُّنَا اللَّهُ) باطلا وهو الحق، فإنهم ما أنكروه (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. . .)، وقوله تعالى حكاية عن المؤمنين (رَبُّنَا الَلَّهُ) يفيد قصر الربوبية على اللَّه تعالى وحده إذ لَا ربَّ سواه، ولا خالق سواه، ولا معبود بحق سواه.
________
(1) الأشَر: البَطَر. الصحاح.(9/4992)
وإنه تجب محاربة الباطل، ومقاومة الشر، ومدافعة الظلم، وإلا تحكم الفساد والطغيان، ولكان الناس تحت طاغوت مستمر، ولذا قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا)، (لَوْلَا) حرف امتناع لوجود، أي لولا وجود الدفع بأمر اللَّه (لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ. . .)، أي دور العبادة لكن لم تهدم بيوت العبادة لوجود منع اللَّه الأخيار للأشرار، والصوامع جمع صومعة، وهي البيوت المخصصة للرهبانية، و " البيع "، وهي كنائس النصارى، و " الصلوات " وهي بيوت العبادة لليهود، قال الزجاج: هي كنائس اليهود وهي بالعبرانية صلوتا، ثم عربت فصارت صلوات.
والنص الكريم يفيد أن دفع الباطل إذا لم يكن لم يستطع أهل دين أن يقيموا عباداتهم، فتهدم صوامع الرهبان، وبيع النصارى، وصلوات اليهود وكانت تهدم هذه البيوت، ولا تقام شعائر أهل دين من الأديان السماوية قبل انتساخها، وساد الشرك وتحكم، وهذا النص السامي يفيد أمرين:
الأمر الأول - تمكين أهل كل دين من عبادتهم ببقاء أماكن العبادة لَا تهدم ولا تمس.
والأمر الثاني - منع هدم معابد أهل الذمة على ألا يحدثوا جديدا.
(وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا)، (مَسَاجِدُ) معطوف على (صَوَامِعُ)، أي لهدمت مساجد يهدمها المشركون إذا استطاعوا، ولكن يدفع اللَّه الناس بعضهم ببعض، فلا يمكنون، ووصف اللَّه تعالى المساجد بأنها (يُذْكَر فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كثِيرا)، كما قال في آية أخرى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37).
وأخيرا نقرر حكم اللَّه تعالى، وهو أن حكم اللَّه تعالى أنه إن لم يدفع الشر يتحكم، وتهدم بيوت العبادة كلها، وتهدم المساجد على العباد، واللَّه سبحانه يتولى عباده.(9/4993)
(وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)، هذا قسم من رب العزة جل جلاله، ولذلك كانت " اللام " وكانت " نون " التوكيد الثقيلة، وكان القسم من ذي العزة والجلال أن ينصر من ينصره بأن ينصر دينه ويطيع أوامره، ويجتنب نواهيه، ويكون معليا لكلمة الحق والإيمان، وإنه في مقابل نصره لله ينصره، فاللَّه لَا ينصر من يكون عدوا لله تعالى ولمبادئه ومشركا به أوثانا لَا يضرون ولا ينفعون، وإن من ينصره الله غالب لَا محالة؛ ولذا قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، فينصر من يعمل لإعزاز دينه وهو قوي قاهر قادر على كل شيء، وأكد قوته سبحانه بـ (إِنَّ) الدالة على التوكيد، وبـ " اللام " وبذكر لفظ الجلالة (اللَّهَ)، وبوصفه بالعزة وهي أنه ذو المنعة الغالب القهار.
وإن أولئك الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إن مكنوا في الأرض أقاموا
العبادة الحق، وأصلحوا، ولا يفسدون؛ ولذا قال تعالى:(9/4994)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
إن الظلم وقع على الذين أخرجوا من ديارهم بحق إلا أن يقولوا ربنا الله، وإن هؤلاء خير البرية ولهم فضل أنهم لَا يشركون بالله، وإنهم ليقولون ربنا الله فيحكمون بوحدة الربوبية ووحدة الخلق ووحدة التكوين، وهم إن تمكنوا من الأرض عمروها، وسادتها العبادة الحق والتعاون في المال والفضيلة.
قال تعالى: (الَّذِينَ)، هذا وصف ثان للذين أخرجوا من ديارهم، وقد صورهم سبحانه مظلومين أُذن لهم بالدفاع عن الحق الذي حملوه، وردع الباطل الذي ظلموا منه، ويصورهم الآن أنهم إن مكنوا في الأرض عمروها، ونشروا فيها الخير والفضيلة، و (إِن مَّكَّنَّاهُمْ)، أي جعلنا لهم مكانا متميزا في الأرض، ودولة قائمة في الأرض يظلها العدل والخير والفضيلة، وقد ذكر الله تعالى أعمالا يقومون بها إن وجدت في جماعة كانت الأمة الفاضلة في الأرض.(9/4994)
أول هذه الأعمال: إقامة الصلاة التي تقوم بها تلك الجماعة الكريمة تطهير نفوس آحادها، وملؤها بطاعة اللَّه وخشيته، وذلك بإقامة الصلاة فقال: (أَقَامُوا الصَّلاةَ)، أي أتوا بها مقومة تمتلئ فيها القلوب بذكره سبحانه، وتستشعر خشيته وهيبته ومحبته وجلاله، وبذلك تتطهر القلوب، وتعمرها خشية اللَّه تعالى ومحبته، فتحب عباده، وتحب كل شيء له، ويتحقق فيهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا لله " (1).
ثاني هذه الأعمال: إيتاء الزكاة، (وَآتَوُا الزَّكَاةَ)، وهي حق السائل والمحروم، وهي رمز للتعاون الاجتماعي بين القادر والعاجز والغني والفقير، ومن ابتلاه اللَّه تعالى بالمال، ومن ابتلاه اللَّه تعالى بالحرمان.
وثالث هذه الأعمال: التعاون على الخير، ودفع الآثام، وذلك يكون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتكوين رأي عام فاضل يحث على الفضيلة، ويمنع الرذيلة، وهو قوله تعالى: (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ) وبها يتكون رأي عام فاضل يشجع الفضلاء، ويقمع الأرذلين.
وقال تعالى في ختام الآية الكريمة: (وَلِلَّهِ عَاقِبَة الأُمُورِ)، وهو يشير إلى أنهم يؤمنون بلقاء اللَّه تعالى وأنهم لم يخلقوا سدى، فيكون الخير لأهله يوم القيامة جنات النعيم، ولأهل الشر عذاب الحميم.
* * *
تكذيب الرسل قبل محمد - صلى الله عليه وسلم -
قال اللَّه تعالى:
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43)
________
(1) ورد بلفظ: أن يحب المرء لَا يحبه إلا لله، وهو جزء من حديث صحيح. وقد سبق تخريجه.(9/4995)
وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
* * *
هذه إشارات إلى قصص بعض النبيين الذين طغت أقوامهم في البلاد وأكثروا فيها الفساد، وكيف كانت عاقبة أمرهم من هلاك لم ينتظروه، وشر لم يتوقعوه، وذلك تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - في عناد قومه له، فهو تسرية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وإنذار للمشركين الذين جحدوا بآيات اللَّه.(9/4996)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43)
(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43).
ذكر اللَّه تعالى ما يشير إلى قوم نوح، وقد عاندوه وجادلوه، وتحدوه أن ينزل بهم ما هددهم به، وقد أغرقهم اللَّه ولم ينج معه في السفينة إلا من آمن وأهله إلا امرأته وابنه إلى آخر ما بينه سبحانه وتعالى في قصصه الحكيم وآياته البينات.
وأشار سبحانه إلى قصة عاد قوم نبي اللَّه تعالى هود - عليه السلام - أن عاندوه وكفروا به فجاءتهم ريح صرصر عاتية، وإلى قوم ثمود قوم صالح - عليه السلام -، الذين عقروا الناقة، فدمدم عليهم ربك عذابا ريحا صرصرا عاتية.
وأشار سبحانه إلى قوم إبراهيم - عليه السلام - الذين أرادوا إحراقه عندما حطم لهم الأوثان، وإلى قوم لوط الذين كانوا يأتون الفاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين، وكيف دمر عليهم ديارهم، وجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل.(9/4996)
وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)
(وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44)
وأشار سبحانه إلى تكذيب فرعون لموسي ولأصحاب مدين الذين بعث فيهم شعيب بالتوحيد، وبالإصلاح الاقتصادي فقالوا له: (. . . ولَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ. . .).
وبعد أن أشار سبحانه إلى هؤلاء الأنبياء وأقوامهم الذين عاندوا وكفروا وأفسدوا قال سبحانه وتعالى: (فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ).
" الفاء " هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، " أمليت لهم " أعطيتهم ملاوة من الزمان وأمهلتهم، ثم أخذتهم أخذا شديدا، فانظر كيف [كان] " نكير " ياء المتكلم محذوفة، فانظر كيف كان نكيري عليهم، فكيف كان قوم نوح كما [أشركوا] أغرقوا، وقوم لوط أهلكوا، وفرعون والملأ معه قد انطبق عليهم البحر، فكانوا من المغرقين.
وعمم سبحانه مآل الجماعات الظالمة، فقال تعالت آياته:(9/4997)
فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)
" الفاء " عاطفة على قوله تعالى: (فَأَمْلَيْتُ)، و " كَأَيِّنْ " بمعنى " كم " الخبرية الدالة على الكثرة، والمعنى فكثير من القرى، وهي المدن العظيمة بمعنى القبيلة المجتمعة في المدائن، أو الإقليم، والمعنى كثير من القرى أهلكها اللَّه تعالى بمعنى أهلك أهلها، وأضيف الهلاك إلى المكان؛ لأنه تخرب وتهدم، وسقطت عروشه على جدرانه وخوى، فكأن الهلاك أصابها في المظهر، وإن كان لَا يقع إلا على السكان، وقد ذكر اللَّه سبحانه أن ذلك كان والحال أنها ظالمة، فنسب إليها الظلم، وإن كان من أهلها، وذلك لعموم الظلم في كل ربوعها، وكل كيانها، فأكل أموال الناس بالباطل، وإشراك باللَّه، واعتداء على الضعفاء، وعدم إقامة لأي نوع من(9/4997)
أنواع العدل، فلا عدل في قانون، ولا قضاء، ولا اجتماع، بل فساد في فساد، وقال تعالى: (وَهِيَ ظَالِمَةٌ)، ولم يقل ظالمة، للإشارة إلى أن الهلاك جاءها، والظلم محيط بها لَا تخرج عنه، ولأن في التعبير بالحال يدل على التلبس به؛ ولأن كلمة " هي " لتأكيد الظلم، ففيه تكرار لذكر القرية، ثم قال تعالى: (فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)، " الفاء " عاطفة على (أَهْلَكنَاهَا)، و (خَاوِيَةٌ) بمعنى الخواء والفراغ وبمعنى السقوط، وإن العذاب الذي كان ينزل بأولئك الظالمين الذين أشركوا باللَّه، وعاثوا في الأرض فسادا، كان يجيئهم بصواعق تنزل بهم أو أمطار بحجارة من سجيل، أو نحوها كجعل عالي الأرض سافلها، ومن شأن هذا أن السقوف، وهي العروش المذكورة في الآية تهوي، ثم تتحطم أو تسقط الجدران من بعد على العروش، ولذا نرجح أن يكون تفسير الخاوية بسقوطها متهدمة على العروش.
(وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ)، معطوفة على (قَرْيَة)، وتعطيل البئر كناية عن فناء الذين كانوا يردون إليها يستسقون منها، ومعهم نعمهم، وغيرها، ومعنى هذا أنه لم يكن أحد من أهلها يأخذ الماء ليحيى به هو ودوابه، بل ذهب كل ذلك، فتعطلت الحياة والأمواه.
(وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) مرتفع ومجصص بالجص مزين، أي أنه تعطل كما تعطلت البئر، وأصبح خاويا لَا ساكن فيه، وقد بناه للزينة والراحة، فذهب وبقي القصر، أو تهدم كالقرية أو في ضمنها، وقد أراده للبقاء.
* * *
في الأرض في الماضين عبرة
قال اللَّه تعالى:
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)(9/4998)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
* * *
هذه الآيات الكريمة موضحة لما تضمنته الآيات السابقة، وهي شواهد حسية، لما أخبر به العليم الحكيم:(9/4999)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46).
و" الفاء " في قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهي تنبههم إلى السير، وهي مؤخرة عن تقديم لأن الاستفهام له الصدارة، وتقدير الكلام: فألم يسيروا في الأرض. . .، وهذا حث لهم على السير للاعتبار بمن سبقوا والاتعاظ بما نزل، (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا)، " الفاء " عاطفة ما بعدها على ما قبلها، والاستفهام حث على السير في الأرض للاتعاظ والاعتبار بمن مضوا، وهذا حث لهم على التعقل، والتدبر، فيترتب على السير أن يتدبروا بعقولهم، ويعملوها للوصول إلى الحق وألا يشركوا به شيئا، ويروا رسوم الديار التي عَفَت وأهلكها اللَّه بظلم أهلها، (أَوْ آذَانٌ يَسْمَعونَ بِهَا)، وهذا حث لهم على تعرف أخبار الديار ومن كانوا فيها، وما جرى منهم من ظلم، وما جرى عليهم من هلاك، وخراب أرضهم وديارهم.(9/4999)
ولكنهم لم يعتبروا، ولم يتدبروا أمرهم، ولم يعيشوا حاضرهم على ماضي غيرهم؛ ولذا قال تعالى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
هذا النص فيه إشارة إلى أنهم وإن كانوا ذوي أبصار تنظر وترى ولكنها عمت عن الحق، ولم تنظره نظرة اعتبار واستبصار، فهم عمت قلوبهم عن الإدراك وكانت غير مبصرة للحق، ولا نافذة إلى لبه ومعناه، وفي الكلام مجاز بالاستعارة إذ شبه عدم إدراك عقولهم للحق وعدم إذعان قلوبهم بالعمى - بجامع عدم الإدراك في كلٍّ، وقوله: (الَّتِي فِي الصُّدُورِ) ترشيح للاستعارة وإبعاد للأبصار عن أن يكون عماها هو المراد؛ لأنها في الوجوه دون القلوب، والضمير في (فَإِنَّهَا) ضمير الحال والشأن أي الحال والشأن لَا تعمى الأبصار وإن المشركين مع أن الرسوم والآثار تعلن ما نزل بالغابرين، يتحدونك فيستعجلون العذاب، فقال تعالى عنهم:(9/5000)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
السين والتاء للطلب، والمعنى يطلبون العجلة بالعذاب متحدين زاعمين أن ذلك الإنذار لَا يقع كما قالوا: (. . . فَأتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، وإن هذا التحدي منشؤه غفلة في نفوسهم وعقولهم، إذ حسبوا أنه لن يجيء، على حسب زعمهم، فأكده اللَّه تعالى بقوله: (ولَن يُخْلِفَ اللَّهُ وعْدَهُ)، فهو جاءٍ لَا محالة. وكل ما يأتي واقع وقريب مهما يكن تمادي الزمان، وإن الزمان قريب أو بطيء، هو بالنسبة للعباد، أما عند اللَّه فإنه لَا تحكمه الأزمان والأماكن، (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ)؛ لأن أزمان أهل الدنيا، أعراض لأحوالهم، أما الزمن عند الله فهو غير مقدور ولا معدود؛ ولذا قال تعالى: (وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) فلا تستطيعوا أن تقدروا زمنا لما يعدكم به، فلا يقال لكم هو مائة أو مائتان، ولكن هو محكوم بإرادته وتقديره سبحانه، وهذا(9/5000)
تصوير لإمهال اللَّه في تقديره، وهو العظيم الحكيم العلي القدير، وتقديره سبحانه، اليوم عند اللَّه تعالى بألف سنة مما نعده بالأيام والليالي، إشارة إلى أنه لا يُعدّ وهو فوق تقديركم، والعرب ما كانوا يعرفون إلا الألف ومضاعفاته عدًّا، روي أن أعرابيا أعطاه الخليفة ألف دينار، فذكر ذلك لبعض صحبه، فقال له: لو طلبت أكثر لأعطاك، فقال الأعرابي: ما كنت أعرف فوق الألف عددا، فذكر الألف تقدير بأكبر عدد نعرفه، أو إطلاق للعدد، فالمعنى أنه ليس لكم أن تتصوروا سنين معدودة، بل إن وعد اللَّه بالعذاب سيجيئكم لَا محالة، ولا تتحدوا رسوله، وإنهم يرونه بعيدا، ونحن نراه قريبا.(9/5001)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
في الآية السابقة استعجلوا العذاب وتحدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم به قريبا بعد أن ذكر لهم اللَّه القرى التي أهلكت وهي ظالمة، وفي هذه الآية ضرب لهم الأمثال بمن أملى لهم، وأمهلهم من القرى، وأن ذلك الإمهال قد غرهم أو اغتروا به ولم يفلتوا فقال: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ)، فـ (كَأَيِّنْ) هنا كأختها السابقة بمعنى (كم) الخبرية الدالة على الكثرة، أي كم من قرية أهلكناها (وَهِيَ ظَالِمَةٌ)، والجملة حالية، أي وهي في حال ظلم قد أحاطوا بأعمالها من شرك وعتو، وكبر وفساد في الأرض فأمهلها سبحانه مع بقاء هذه الحال، ثم جاءها العذاب من حيث لَا يتوقعون بياتا أو هم قائلون، أو ضحى وهم يلعبون.
ولذا قال تعالى: (ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ)، (ثُمَّ) للتراخي ليتناسب التراخي مع الإمهال الذي أملى اللَّه تعالى به لهم، وإضافة الأخذ إليه سبحانه فيه تهديد شديد لأن الآخذ لهم القوي الجبار الذي لَا يفلت عن قدرته شيء، ثم قوله تعالى: (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ)، أي أنهم يصيرون إليه سبحانه، وهو الذي أنذر وأرسل الرسل مبشرين ومنذرين، وهو شديد المحال، يجزيهم بما اكتسبوا من سوء وإيذاء وإضلال.(9/5001)
وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك أن الرسالة المحمدية مقصورة على الإنذار، وليس عليه أن يؤمنوا، فقال:(9/5002)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أمر له - صلى الله عليه وسلم -، (قُلْ) يا رسول اللَّه تعالى حاسما لهم: (يَا أَيُّهَا النَّاس) الحظاب للناس كافة، وللمشركين من أهل مكة خاصة، (إنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مبِينٌ)، (إِنَّمَا) للقصر، والقصر هنا لأنهم طلبوا استعجال العذاب ولضلالهم البعيد، ولاستمكان الغفلة عن الحق في قلوبهم، يقولون للنبي (. . . فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، فيقول لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه: إن عملي فيكم، ورسالتي إليكم، أني نذير موضح مبين لكم الحق والشريعة، والعذاب أمره إلى اللَّه تعالى وحده، وكذلك الثواب والعقاب إليه وحده، وكل امرئٍ بما كسب رهين، ولذا قال سبحانه:(9/5002)
فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)
(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50)
" الفاء " تفصح عن شرط مقدر يتبين من الآية السابقة، ومعناه إذا علمتم أني لكم نذير مبين فقط، فإما أن تطيعوا فتكونوا مؤمنين، وإما أن تعصوا فتكفروا بآيات اللَّه تعالى ونعمه، والجزاء يذكر للمؤمنين إيمانا صادقا ويعملون عملا صالحا، والعمل الصالح ذكرناه في موضع أنه الطاعات من أوامر ونواه، والقيام بكل ما هو نافع للناس مرضاة للَّه تعالى، فلا يقصد بنفعهم إرضاءهم، إنما يقصد إرضاء ربهم، فمن يقصد إرضاء الناس فقط قد يرتكب إثما في سبيل إرضائهم.
وسياق الكلام يتجه إلى أن الكلام كلام النبي بأمر ربه يحكيه اللَّه تعالى عنه، وذكر جزاء المتقين بقوله: (لَهُم مَغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ)، المغفرة تنبئ عن رضا اللَّه تعالى عليهم، وهي ذاتها جزاء؛ لأن المؤمن مهما يكن تقيًّا له هفوات وهنات يحس بها في ذات نفسه، وكلما أرهف إحساسه الديني، وكلما هُذِّبت نفسه بالتقوى أحسَّ بهفواته واستكثرها، واستصغر حسناته، ولقد قال اللَّه تعالى لنبيه:(9/5002)
(لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ. . .)، وما كان له - صلى الله عليه وسلم - ذنب، ولكن اللَّه تعالى يخبر نبيه بمحبته، إن المغرورين هم الذين يستكثرون حسناتهم، ويستصغرون سيئاتهم، وحالهم هذه قد تجرهم إلى العصيان والوقوع في الشر، وما دام الرجل يستصغر ما فعل من حسنات، فهو لَا يُدل بها، ولا يمنّ على اللَّه، كما حكى عن بعض الأعراب قال: (يَمُنُّونَ عَلًيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا. . .).
والرزق الكريم بعد المغفرة هو دخول الجنة، فهي ذاتها رزق كريم، وفيها كل ما تشتهي الأنفس، وأنهار جارية من تحت أشجارها، وعسل مصفى، وأنهار من خمر لذة للشاربين وحور عين، وغير ذلك، وكل رزق من اللَّه كريم رزق المتقين إياه، وهو رزق سخي طيب، جزاء ما فعلوا من خير، وكفوا أنفسهم عن الأهواء والشهوات، وهو رزق واسع دائم، ونعيم مقيم.
هذا(9/5003)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
(وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ)، أي اجتهدوا في آياتنا لَا لإدراكها ومعرفة ما فيها من حجة وبرهان، بل ليغالبونا فيها ويعاجزونا، أي ليبادلونا المناقشة في إعجازها، ودلالاتها على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى وحدانية اللَّه تعالى جل وعلا، وقد قال الزمخشري في هذه الآية: " وسعى في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه، وعاجزه: سابقه؛ لأن كل واحد منهما في طلب عجز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجَّزه، والمعنى سعوا في معناها بالإفساد من طعن، حيث سموها سحرا وأساطير الأولين، ومن تثبيط الناس عنها سابقين، أو مسابقين في زعمهم وتقديرهم، طامعين في أن كيدهم للإسلام يتم لهم ".
والمرمى في هذا الكلام أن هؤلاء المشركين يجتهدون في آيات اللَّه تعالى متعرفين غايتها ودلالتها لَا بصدق وأمانة وإدراك سليم، بل لغاية، وهي معاجزة المؤمنين، وتحويل الأمر إلى جدل عقيم، يحاولون إعجاز المؤمنين في حجتهم، والمؤمنون يتحدونهم أن يأتوا، وبتحول الأمر إلى مجادلة ضاعت الحقيقة، وتبعثرت في وسط لجاجتهم في القول.(9/5003)
هؤلاء بين اللَّه تعالى جزاءهم بقوله: (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) الإشارة إلى هؤلاء الذين يسعون لإفساد الحق على أهله، وضياعه في لجاجة من الباطل يثيرونها، ولكن الحق لَا يضيع بلجاجة الباطل، أولئك المتصفون بهذه الصفة بسببها يدخلون النار، وهم أصحاب الجحيم الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه.
* * *
الرسول - صلى الله عليه وسلم - بشر صانه الله وعصمه
قال اللَّه تعالى:
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
* * *(9/5004)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
" التمني " قال فيه الراغب الأصفهاني في مفرداته: " والتمني تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، وذلك قد يكون عن تخمين وظن، ويكون عن روية، وبناء(9/5004)
على أصل لكن لما كان أكثره عن تخمين صار الكذب له أملك وأكثر التمني تصور ما لَا حقيقة له، والأمنية: الصورة الحاصلة في النفس من تمنى شيء.
و" الرسول " هو الذي يوحى إليه بشرع يكون شريعة للناس، و " النبي " لا يكون له شريعة مستقلة، ولكن يشرح بوحي من اللَّه شريعة رسول كالأنبياء من بني إسرائيل من بعد موسى، ولقد ورد في الأثر: " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ".
وإن هذه الآية الكريمة تصور كيف يدخل الشيطان في قلب الإنسان، إنه يجيئه من ناحية ما يتمناه، وما يجيء نتيجة لهذا التمني وهي الأمنية، فإذا تمنى ألقى الشيطان بزيفه وتضليله في نفس المتمني، ولو كان رسولا مرسلا أو نبيا يوحى إليه، لكن ما يلقيه الشيطان في نفس النبي أو الرسول ينسخه اللَّه تعالى أي يزيله، ولا يبقي له في نفسه أثرًا، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، وليست إرادة تكف كإرادة الأنبياء.
وهذا قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)، أي إلا إذا قدر لنفسه شيئا يريده ويحبه ويتمناه إلا وجد الشيطان لنفسه الذريعة التي ينفذ منها بوسوسته، فيلقي ما يوسوس في أمنيته ما يتمناه، ولكن النبي له إرادة حاكمة، وفي قلبه نور وهدى، وبهذه الإرادة والنورانية التي قذفها اللَّه في قلبه يزيل بها الله تعالى ما وسوس به الشيطان، ثم يحكم اللَّه آياته، أي ينزلها محكمة لَا ريب فيها، وهدى للعالمين، واللَّه سبحانه وتعالى عليم حكيم، يعلم كل شيء ويدبره.
ويذكر بعض علماء الأثر قصة الغرانيق العلا الذي ادُّعيَ فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُحِر، وقال عن اللات والعزى: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهن لترتجى، فهي قصة باطلة كاذبة مهما يكن راويها، ومنزلته في الرواية، فتصديقها يؤدي إلى الطعن في الرسالة المحمدية، وتكذيب راوٍ في قصة مهلهلة خير من تكذيب الرسالة والرسول، ومن يقبلها فهو في غفلة لَا يلتفت إليه، ويجب أن ننبه هنا إلى أمرين:(9/5005)
الأمر " الأول " - أننا لسنا بالنسبة لرواية أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن يسبقون بالقول فنقدم الشك في الرواية على تصديقها ما دامت رواية ثقات، ولم يكن من النصوص الثابتة ما يخالفها.
الأمر الثاني - أننا لَا نقدم ما يرويه الراوي مهما يكن ثقة على نص قطعي غير قابل للتخصيص، فكيف نقدم رواية تؤدي إلى الطعن في صدق الرسالة المحمدية كلها ككون النبي - صلى الله عليه وسلم - سُحِر، وقال عن اللات والعزى: تلك الغرانيق العلا، فهذا كذب لَا يمترِي في تكذيبه مؤمن.
وننبه أيضا إلى أن الشيطان يأتي قلوب الناس يوسوس فيها من ناحية أمانيهم، وقد أزال تعالى ذلك عن أنبيائه بالنص القرآني القاطع، وادعاء سحره يناقض ذلك النص القاطع، أما غيرهم فإنه يغويهم لأنهم ليسوا عباد اللَّه المخلصين، والأنبياء بلا ريب من عباده المخلصين، وقال تعالى:(9/5006)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
(لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
إن اللَّه تعالى عصم الأنبياء؛ لأنهم حملة رسالته إلى خلقه، ويعرفوها نيرة سائغة، أما غير الأنبياء فإنهم أقسام؛ قسم أخلص للَّه، واستقامت قلوبهم، وهم من عباده المخلصين، وهم الصديقون والشهداء والذين يتبعون النبيين. وقسم آخر في قلوبهم مرض وضعف إيمان، بما قلدوا واتبعوا أهل الشر، وسلموا أنفسهم لهم، ولم يسلموها للَّه تعالى. وقسم قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة بما مردوا عليه من نفاق، وقد غلفوا قلوبهم، فلا يدخلها نور الحق، وهم المنافقون واليهود شر البرية وهذان الفريقان هم الذين قال تعالى فيهم هذه الآية.
وقوله تعالى: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ)، " اللام " هي التي تسمى لام العاقبة، أي لتكون نتيجة ترك الشيطان مسلطا على الناس يأتيهم من قبل أمانيهم، أي يجعل سبحانه ما يلقيه الشيطان من(9/5006)
وسوسة وإغواء بمسايرتهم فيما يتمنونه حتى يصلوا إلى ما يرديهم (فِتْنَةً)، أي نعاملهم معاملة المختبر لصنفين من الناس يستهويهم بشرِّه، وقد أقسم ليغوينهم أجمعين إلا عباد اللَّه المخلصين. والذين في قلوبهم مرض هم الذين قد استولى عليهم الشك، فالشك مرض القلوب، وهم الذين يتبعون آباءهم، ويقولون: (. . . بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ)، فالتقليد من غير تفكير، ووزن للأقوال مرض كالشك أو يزيد، والقاسية قلوبهم هم اليهود وغيرهم ممن يستمسكون بما هم عليه من أقوال لَا تمت إلى التوراة بسبب، وقد وصفهم اللَّه تعالى بقسوة القلوب، فلا تفتح للحق بل هي مغلقة، تسد كل نور لهداية، فقال تعالى فيهم: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74).
وقد رأينا المشركين آمنوا بعد شرك، أما اليهود، فلم يؤمنوا، وعاشوا للدس والخيانة ونقض العهود والمواثيق، وختم اللَّه تعالى الآية الكريمة بذكر أولياء الشيطان فقال: (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)، والظلم وصف يعم ظلم العبادة فيشمل الشرك، وإن الشرك لظلم عظيم، كما قال لقمان الحكيم لابنه، ويشمل ظلم العباد بعضهم لبعض، ويشمل الخيانة والنميمة فعل اليهود. (وَإن الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ)، أي كل فريق منهم في شق يفارق الآخر، فالمشركون في شق، واليهود في شق، والمنافقون في شق، والنفاق ضروب مختلفة، وكل شق بينه وبين الآخر مسافة بعيدة، ولذا وصف الشقاق كله بأنه (بَعِيد)، مختلف في أجزائه.(9/5007)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
" الواو " عاطفة، و " اللام " هنا كـ " اللام " هناك، أي لتكون نتيجة إلقاء الشيطان بوسوسته، للاختبار لمرضى القلوب والقساة الغلاظ، (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من أتباع النبيين الحق، أي أنهم أوتوا علم النبوة من الأنبياء فنفوا عن(9/5007)
أنفسهم بما ألقى الله تعالى في قلوبهم من علم بالصدق والصبر الضابط للنفس (أَنَّه الْحَقُّ)، الضمير يعود على القرآن الذي ذكر الله تعالى أنه أحكمت آياته، بعد دفع إغواء الشيطان ووسوسته عن الرسل والأنبياء من وقت مبعثهم إلى أن قبضهم اللَّه سبحانه وتعالى إليه.
وقوله: (أَنَّهُ الْحَقُّ)، فيه قصر، لتعريف الطرفين أي أن القرآن الكريم هو الحق، فليس حديثا يفترى ولا أساطير الأولين، (فَيُؤْمِنُوا بِهِ)، ولذلك يؤمنون به و " الفاء " للسببية، أي بسبب علمهم يؤمنون به (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ)، الإخبات قال فيه الراغب في مفرداته: الخبت المطمئن من الأرض، وأخبت الرجل قصد الخبت أو نزله نحو أسهل وأنجد، ثم استعمل الإخبات استعمال اللين والتواضع، والمعنى تواضعت قلوب المؤمنين، ولم تمار في الحق قلوبهم، بل أخبتت وسكنت إلى الحق.
و" الفاء " في قوله تعالى: (فَيُؤْمِنُوا) فاء السببية أو عاطفة على العلمِ الذي أوتوا، وكذلك " الفاء " في قوله تعالى: (فَتُخْبِتَ)، ثم قال تعالى: (وإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيمٍ)، أي أن اللَّه من شأنه جل جلاله أن يهدي الذين آمنوا بأن سلكوا إلى الطريق الأقوم أو شرعوا فيأخذ اللَّه بأيديهم، والصراط هو الطريق المستقيم، وهو صراط اللَّه تعالى، كما قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ. . .).
وقد أكد سبحانه هداية الله تعالى المؤمنين إلى الصراط المستقيم بـ (إن) المؤكدة وبـ " اللام " وبـ " الجملة الاسمية ".(9/5008)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
(وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)
(وَلا يَزَالُ) معناها استمر، وكأنه كان يتوقع بتوالي الأدلة، وتضافر الإثبات أن يزول ريبهم، ولكنه لم يزل بل استمر، والمرية: الشك، والضمير في(9/5008)
(مِنْهُ) يعود على القرآن، فبينما الذين أوتوا العلم وهبوا اليقين أنه الحق من ربهم وخالقهم وذارئهم، ولا يمكن أن يكون إلا حقا لتوالي التحدي وتوالي العجز، (وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كفَروا فِي مِرْيَةٍ منْهُ)، وإنهم مستمرون على هذا الشك (حَتَّى تَأتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً)، أي القيامة وينتهي الكون، وهم في ضلالهم القديم، (أَوْ يَأتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ)، في هذا اليوم الذي وصفه اللَّه تعالى بالعقيم، وأنه لا خير فيه، ولا ثمرة تنتج منه، ويحتمل أن يكون يوم القيامة ويكون عقمه في أن كل يوم له يوم يعقبه، وكأنه عقبه الذي أنجبه، أما يوم القيامة فليس له تالٍ يكون كالعقب له، والسياق يجافي ذلك؛ لأن الساعة يوم القيامة و (أَوْ) تقتضي أن يكون اليوم العقيم غيره، ويحتمل أن يكون يوما كيوم بدر، ووصف بأنه عقيم؛ لأن فيه قطعت أرحام قطعها المشركون، وفيه حرمت النساء من أولادهن فصاروا كأنهم لم يلدوهم، ولأن يوم بدر وأشباهه يوم حرب، ويوصف رجاله ومقاتلوه بأنهم أبناء الحرب، والحرب لَا تنتج، فهي عقيم، ثم هو لَا خير فيه للمشركين، فهو يوم عقيم، ويقال كما في القرآن الكريم: (. . . الرِّيحَ الْعَقِيمَ)، أي لَا مطر فيها ولا خير.
هذا، وإن الكافرين يستمرون في مريتهم، والشك حيرة واضطراب، حتى تأتيهم الساعة أو يأتيهم يوم يقاتلون فيه، ولا خير فيه يعود عليهم، بل شرٌّ مستطير، فهو يوم عقيم، واللَّه يهدي من يشاء بإذنه.
* * *
الملك لله يوم القيامة
قال اللَّه تعالى:
(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)(9/5009)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
* * *(9/5010)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56).
(الْمُلْكُ) في يوم القيامة للَّه وحده، فليس لأحد في ذلك سلطان ولو صوريا كسلطان أهل الدنيا، ولا حكم، ولو تحكميا، كحال الملوك المستبدين، ولا رقابة لأحد غير اللَّه تعالى، كل الملك للَّه وحده فلا طاغوت ولا طغيان، ولا حكم لغير الله، والتنوين في (يَوْمَئِذٍ) ينبئ عن مضاف إليه يناسب المقام، وهو يوم القيامة والجزاء والحساب، والمعنى على ذلك يكون الملك المطلق يوم تقوم القيامة، وينصب الميزان، ويكون الحساب ومن بعد الثواب والعقاب، وذلك فيه إنذار شديد بأن المؤمنين ومخالفيهم يلاقون ربهم، ويواجهون أعمالهم، ويفصل بينهم سبحانه بالحق والقسطاس المستقيم.
(فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)، " الفاء " للإفصاح عن شرط مقدر، والمعنى إذا كان اللَّه تعالى هو الحكم وحده (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، من عبادات، وطاعات للأوامر والنواهي، وعمل صالح نافع للناس لا يقصدون به إلا وجه اللَّه، (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)، الإضافة هنا بيانية، أي في جنات النعيم الدائم الخالد المقيم.(9/5010)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
هذا جزاء المؤمنين عندما يلاقون ربهم أما الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب، وكذبوا بآياتنا، وعبر بالموصول في الكفر والتكذيب بآيات الله؛ للإشارة(9/5010)
إلى أن سبب الجزاء هو كفرهم برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبهم لآيات اللَّه، وتكذيب آيات اللَّه تسجل تكذيبهم للآيات القرآنية، أي تكذيبهم للقرآن مع عجزهم عن أن يأتوا بمثله، وتكذيبهم لدلالة الآيات الكونية الدالة على وحدانيته وإبداعه في خلقه.
وأضاف سبحانه وتعالى الآيات لذاته العلية لبيان عظيم افترائهم، وأنهم فعلوا ذلك استعلاء واستكبارًا، ولذلك وصف اللَّه سبحانه وتعالى العذاب النازل بهم بأنه عذاب مهين مذل ملقٍ بهم في الهوان؛ لاستعلائهم على الحق وآيات اللَّه.(9/5011)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58)
هذه الآية فيها حث على تجميع المؤمنين في لواء واحد، وكل مؤمن مدعو للهجرة إلى تجمع المؤمنين، حتى لَا يكون المؤمنون مبعثرين في الأرض، فالمستضعف في أرض عليه أن يهاجر إلى موضع تجمع المؤمنين، فليس لمؤمن أن يعيش ذليلا للاستضعاف في أرض عدو لَا يستطيع أن يقيم شعائره الإسلامية فيها، فقد قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100).
فالهجرة ليصل إلى جماعة المؤمنين أو ليقاتل ويجاهد [والجهاد] ما زال بابه مفتوحا وفيه ثواب الجهاد والهجرة، وحديث " لا هجرة بعد الفتح " (1)، يراد به الهجرة من
________
(1) رواه البخاري: لَا هجرة بعد الفتح (3812) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، كما رواه مسلم (4787)، ولفظه عَنْ عَائشةَ، قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ عَنِ الْهِجْرَةِ؛ فَقَالَ: " لاً هِجْرَةَ بَعدَ الْفَتْح، وَلَكِنْ جِهَاد وَنِيَّةٌ، وَإذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ".(9/5011)
مكة إلى المدينة، فقد صارت مكة أرضا للإسلام، لَا يهاجر منها إلا للجهاد في المدينة والتجمع كما يكون في المدينة يكون في مكة.
وإذا كانت الهجرة مطلوبة من أرض فيها ضعف إلى حيث العزة الإسلامية والجهاد، فالذين هاجروا في سبيل اللَّه تعالى ليجتمعوا مع المؤمنين ويجاهدوا معهم لهم جزاء؛ ولذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، أي كانت هجرتهم في سبيل اللَّه، أي إن ذات الهجرة للجماعة الإسلامية جهاد في ذاته، وقال تعالى: (ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا)، العطف بـ (ثُمَّ) الدالة على التراخي في موضعه؛ لأن قتلهم ليس عقب الهجرة، ولا موتهم، بل إنهم يعيشون مقيمين مع المؤمنين ما شاء اللَّه أن يقيموا مجاهدين حتى يستشهدوا في قتال أو يموتوا حتف أنوفهم، وقد بين اللَّه تعالى جزِاءين أحدهما في الدنيا، وقد بينه سبحانه وتعالى بقوله: (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
أقسم اللَّه سبحانه بأنه يرزقهم رزقا حسنا، أي طيبا سخيا، يغدق اللَّه تعالى فيه عليهم من خيره، من الفيء وغنائم الحرب، فإن اللَّه تعالى جعل رزق المجاهدين في ظلال سيوفهم، وشكاة سلاحهم، وفي سنابك خيلهم، (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)، واللَّه أكرم الرازقين. وأفعل التفضيل ليس على بابه، بل إن اللَّه تعالى رزقه في أعلى درجات الرزق، هذا هو جزاء الدنيا، فإن الهجرة من أرض الذل إلى أرض العزة في سبيل الله يكون فيه الرزق.
أما الجزاء الأخروي فقد ذكره سبحانه بقوله عز من قائل:(9/5012)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
(لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
أقسم سبحانه وتعالت قدرته، فقال: (لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ)، أي ليدخلنهم اللَّه، وكأنهم ضيوفه يوم القيامة، وأكد ذلك بـ " القسم " و " لامه " و " نون " التوكيد، (مُّدْخَلًا)، اسم مكان، وصفه بأنهم (يَرْضوْنَهُ)، يستطيبون نعيمه، ويفكهون في خيره، وهو الجنة التي تجري من تحتها الأنهار، (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ)، بأحوال خلقه يعلم مؤمنهم وكافرهم، وهو حليم يغفر السيئات(9/5012)
بالحسنات، كما قال تعالى: (. . . إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. . .)
، والخلق جميعا قبضته يوم القيامة.
* * *
نصر الله تعالى وقدرته العليا، وعلمه
قال الله تعالى:
(ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
* * *(9/5013)
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
(ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ).
(ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ) الآية، الإشارة إلى البعيد، من قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا. . .) إلى آخر ما جاء بعد ذلك من جزاء أهل الحق في الدنيا والآخرة، وجزاء أهل الباطل في الدنيا والآخرة ذكر اللَّه سبحانه وتعالى أن من يرد الاعتداء بمثله، (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْه)، أي إذا بُغي عليه بعد ذلك (لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ).(9/5013)
وسمى سبحانه رد الاعتداء عقابا للجاني، وذلك حق؛ لأنه أوذي فيعاقب المؤذي بمقدار، ولكن سمى الاعتداء عقابا وذلك من قبيل المشاكلة اللفظية، وليتم القصاص بين الجاني والمجني عليه بالتساوي، وإن اللَّه يذكر أنه بعد العقاب برد الاعتداء بمثله، لَا يصح للمعتدي أن يعاود اعتداءه؛ لأن ذلك يكون بغيا وظلما، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ)، وكان التعبير بـ (ثُمَّ) للإشارة إلى بعد ما بين مرتبة القصاص العادل والبغي الظالم، وإن الله تعالى ينصر العادل على الباغي.
(لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ) الضمير يعود إلى من بُغي عليه، وقد أكد اللَّه تعالى نصره للمعاقب المقتص، بالقسم و " لام " القسم، وبـ " نون " التوكيد الثقيلة كما يعبر النحويون.
وختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّه لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) العَفُوُّ " فعول " من العفو، أي أنه سبحانه وتعالى كثير العفو، وهو صفة من صفاته جل وعلا، أو اسم من أسمائه، فهو يعفو عن كل تقصير، وكل مخالفة ليست ذنبا، وهو غفور يغفرها إذا كانت مما لم يأثم بالنفس، ويكسبها إعتاما وإظلاما، بل يكون بجواره حسنات تكشف ظلمتها، وتكون مع ذلك توبة نصوح تَجُبّ السيئات.
وقد قيل: لماذا ختمت الآية بالعَفُوّ الغفور، مع أن النصرة لدفع الظلم، وذلك يقتضي اسم القدرة والقهر؟ ومعاذ اللَّه أن يكون المفسرون قد يتطاولون على عبارات القرآن الكريم، ونقول: المناسب هو العفو الغفور، بالنسبة للباغي، والمعاقب، ذلك أن الحرب في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما قام به الصحابة والتابعون من بعده ما كانت حرب دماء وغلب، بل كانت حرب هداية وإرشاد، وتعليم، ورفع للظلم، ورحمة للعالمين؛ ولذلك دعا اللَّه تعالى إلى العفو فيها فقال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)، وقال تعالى في هذا المقام أيضا: (وَلَمَن صبرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمورِ)، وقال: (. . . فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلَى اللًّهِ)،(9/5014)
وهكذا أكثرت الآيات التي طالبت بالعفو مع القصاص، فكان القصاص سائغا، والعفو والتسامح والصفح مندوبا إليه، كما قال تعالى (. . . فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، ولذا كان ختم الآية بالعفو والغفران له موقعه، وهو من الأسلوب الحكيم الذي لَا يعلو إليه متكلم في الأرض، فهو يحث على العفو كما حثت الآيات الأخر، وهو يبين أن حرب الإسلام العادلة يؤثر اللَّه فيها الصفح من أهل الإيمان ما كان سبيل إليه، إذ إنها ليست للانتقام، وإلا تكررت الحروب، فهذا الفريق يقتصُّ، ثم الفريق الآخر يبغي، ويتوالى القصاص والبغي، وفتح باب العفو يغلق باب الحرب، ما دام الحق يمكن إقامته بغير توالي القتال، القتال عادلا، أو باغيا.
وقد صور اللَّه تعالى دفع الباطل بالحق، وكون النصر والقتال له يكون دولة بإيلاج الليل في النهار، فقال تعالى:(9/5015)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
الإشارة إلى نصر اللَّه لمن يبغى عليه بعد أن دافع عن نفسه، والولوج الدخول في مضيق كما جاء في قوله تعالى: (. . . حتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ. . .)، وجاء في المفردات قوله تعالى: (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ) تنبيه على ما ركب اللَّه عز وجل العالم من زيادة الليل في النهار، وزيادة النهار في الليل، وذلك بحسب مطالع الشمس ومغاربها.
والمعنى أن هذا تنبيه لاختلاف مدار الأرض حول الشمس، وقربها أو بعدها بجعلها قريبة نسبيا بقدر ضئيل، فيطول النهار، وبعيدة نسبيا بمثله فيطول الليل، وكل شيء عند ربك بمقدار، وهو الكبير المتعال المالك لكل شيء، والمسير للكون بإحكام، وبنواميس لَا تتخلف، كما اختار العزبز الحكيم العالم بكل شيء (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) " أن " معطوفة على (بِأَنَّ اللَّهَ يولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ) إلى آخره،(9/5015)
(وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ) لما يجري في الكون، يعلم علم من يسمع، و (بَصِيرٌ) يعلم علم من يبصر لا يغيب عنه شيء في السماء ولا في الأرض.
ويسأل سائل هنا: لماذا ذكر سبحانه وتعالى ذلك في هذا الموضع من نصره سبحانه وتعالى لمن بُغي عليه؟، وأنه سبحانه وتعالى يعفو عمن يترك ما يؤذيه إليه سبحانه، ويغفر له؟ والجواب عن ذلك أن اللَّه تعالى ذكر أمرين أو أشار إليهما: الأمر الأول - أن اللَّه سبحانه ينصر من بُغي عليه وأكد سبحانه وتعالى نصره، بالتوكيدات التي ذكرناها في موضعها.
والأمر الثاني - أن اللَّه تعالى يندب إلى العفو والتسامح عند القصاص، وفي هذا النص السامي الكوني يشير سبحانه إلى أنه يجعل النصر والهزيمة دولة بين الناس، والقوة والضعف دولة بين الناس كما يجعل الليل يدخل في النهار، والنهار يدخل في الليل، فيزاد هذا تارة وينقص أخرى، فعلى الدولة المنتصرة أن تذكر أنها قد تنهزم، فلا تغالي في القصاص، بل تفتح زاوية للمعروف من العفو والتسامح.
وبذلك يدعو الإسلام إلى أن لَا تكون الحروب الإنسانية قاطعة مانعة لكل سلام، بل يجب أن يشع نور السلام في وقت الحروب العادلة، إلا أن يكون العدو شرسا كاليهود أعداء الإنسانية.(9/5016)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
الإشارة إلى معنى الآية السابقة من نصره سبحانه لمن بُغي عليه مع دعوته إلى العفو إذا كان له موضع، ويفتح باب السلام ولا يغلقه، ما لم يكن مطمعا للباطل في الحق، أي كان ذلك بإجازة القصاص مع فتح الباب بالعفو، (بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ)، أي بسبب أن اللَّه هو الحق، واللَّه تعالى هو الحق لأنه منشئ الكون، وناصر الحق والداعي إليه، وهو المعبود الحق الذي لَا إله غيره؛ ولذا وصف بأنه(9/5016)
الحق، وأنه هو الخالق الحق، والواحد في ذاته وصفاته، والمعبود بالحق، لذلك أخبر عنه بأنه الحق، والتعبير بقوله: (هُوَ الْحَقُّ) يفيد القصر، أي أنه لَا حق غير اللَّه، فكل ما عداه باطل، لأنه إلى فناء.
(وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ)، أي ما يعبدون من آلهة غيره باطلة؛ لأنها لا تضر ولا تنفع، وليس لها من وجود في ذاتها، إذ هي جماد، لَا يتحرك إلا إن تحرك.
(وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ) الذي لَا يساميه موجود، ولا يناهده أحد، إذ الجميع خلقه، وهو القاهر فوق العباد، وهو (الْكَبِيرُ)، فهو واجب الوجود المطلق، وكل شيء يستمد منه وجوده فهو وحده الكبير، والنص السامي يدل على انحصار العلا والكبر بذاته وصفاته فيه وحده، ودل على اختصاصه بذلك التعبير بقوله (هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) تعريف الطرفين فإنه يدل على القصر، فكان العلاء والكبرياء مقصورين عليه وحده، إذ كل مخلوق سواه مستمد وجوده منه، ووجوده غير باق، فهو سبحانه الباقي وحده، وهو وحده واجب الوجود.
وبين سبحانه نعمه على خلقه، فقال عز من قائل:(9/5017)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63)
(أَلَمْ تَرَ)، الاستفهام هنا للتنبيه، وقد جاء على صيغة الاستفهام الإنكاري الدال على نفي الوقوع، وهو داخل على " لم " النافية ونفي النفي إثبات، والمعنى لقد رأيت بنظرك وعلمك (أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)، والسماء هنا ما علاك، فليست أجرام السماء من شمس وقمر وكواكب في أبراجها، وتماسكها، إنما المطر ينزل من سحاب قريبة دانية أو بعيدة قاصية، وذلك بينه قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ(9/5017)
يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44).
فهذا النص الكريم يوضح نزول المطر من السحاب المتكاثف بقدرة اللَّه تعالى وما كانت لتدرّه إلا بأمر اللَّه، وإنه ينزل المطر إلى الأرض لتعمل أيدي الزراع فتبذر البذور وترجو الثمار من الرب، وتخضر الأرض، ولذا قال تعالى: (فتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً)، " الفاء " عاطفة، وهي للتعقيب، وبظاهر اللفظ يكون الاخضرار عقب نزول المطر بلا تراخ في الزمن، وكيف يكون وثمة تراخ بإنبات البذر وظهور عيدانه، وصيرورة الأرض مخضرة؟ والجواب عن ذلك أن التراخي في أعمال العباد، وليس من اللَّه، بل إن إرادة الله لَا تراخي فيها، إنما هي أن يقول كن فيكون؛ ولأن التعبير بـ " الفاء " التي تفيد الفورية فيه تنجيه إلى عجائب الله في الخلق والتكوين، إذ يكون من التلاقح بين الماء والأرض اليابسة نبات مخضر تزدان به الأرض، وتكون ذات منظر بهيج، وقد وصف سبحانه الأرض بأنها مخضرة إذ اختفت طينتها، ولم تبد إلا خضرة زرعها، والاخضرار للزرع لَا لها؛ ولكن لأنه فيها سنح أن توصف هي بالاخضرار باعتبار ما فيها، ولأنه صار لها كسوة باهرة زاهرة.
وختم اللَّه تعالى الآية بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، أي لطيف بعباده عليم علما دقيقا علم خبرة بما ينفعهم ويقوم به عيشهم، فيوفقهم له.
وجملة (إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ)، في مقام التعليل لإنعامه بهذه النعم الكثيرة المتوالية نعمة تلو أخرى.(9/5018)
لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
(لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
هذه الجملة في مقام التعليل للآية السابقة، أي أن اللَّه ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض اليابسة مخضرة تكون بهجة للناظرين؛ لأن اللَّه تعالى (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، وله ما فيها، وهو سبحانه وتعالى غني عن عباده، فهو(9/5018)
غير محتاج إليهم وهم محتاجون إليه فاللَّه هو الغني، ونحن الفقراء إليه، ولأنها في معنى التعليل لما تضمنته الآية السابقة كان الفصل بينهما ولم يكن وصل بـ " الواو " و " اللام " للملكية، فاللَّه تعالى مالك لما في السماوات من شمس وقمر ونجوم مسخرات بأمره، ومالك لما في الأرض من جبال ووهاد، وزروع وثمار، وحيوان وأنعام، وإبل وأفراس، وما في باطنها من فلزات ومعادن وكنوز، وما فيها من لآلئ وجواهر، ولحم طري، كل ذلك للَّه، لأنه خالقه، (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وتعريف الطرفين في قوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) يدل على القصر والاختصاص، فاللَّه وحده هو الغني، وجميع الوجود محتاج إليه سبحانه، والحميد بمعنى المحمود، فهو " فعيل " بمعنى مفعول، فهو وحده المستحق لأن يُحمد، ولا يحمد في الوجود سواه.
وقد تأكد غناه سبحانه جل جلاله، بـ " إن " الدالة على التوكيد، وبـ " اللام " في قوله: (لَهُوَ)، وبضمير الفصل، وبتعريف الطرفين كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الناسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، وكل الوجود يحتاج إليه سبحانه، وهو لَا يحتاج لشيء في الوجود.
* * *
فضل الله على خلقه
قال اللَّه تعالى:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ(9/5019)
فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
* * *(9/5020)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65).
الاستفهام هنا للإنكار بمعنى نفي الوقوع، وهو داخل على " لم " النافية، ونفي النفي إثبات، فهو بيان لأن اللَّه سخر ما في الأرض، والمعنى قد سخر اللَّه لكم ما في الأرض، وكأن الاستفهام هنا مع النفي تنبيه؛ لأن اللَّه تعالى ذلل ما في الأرض لكم، وقدم (لَكُم) على المفعول وهو (مَا فِي الأَرْضِ)، لبيان أن التسخير من اللَّه تعالى لكم، ليذلل كل ما فيها لإرادتكم ورغباتكم، ومعاشكم، فكل ما فيها ظاهرا فوق أرضها من زروع وثمار، وغابات، وجبال ووهاد، وما في باطنها من معادن وكنوز، وفي بحارها من لآلئ، ولحم طري، كل هذا سخره اللَّه تعالى وذلَّلَهُ لكم، فهي نعم تنادي من أُنعم عليه بها بشكرها، وذكر أمرا في الأرض، وخصَّه بالذكر، لوضوح نعمته تعالى فيه، (وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ)، فهذه الفلك تجري في البحر بإذن اللَّه وأمره وتسييره لها سبحانه وتعالى أنها (بِأمْرِهِ) مع أن كل شيء بأمره، وذلك لأنها في مرأى تسير في البحر ماخرات عبابه، لَا يسيّرها شيء إلا الهواء، فإن التعبير (بِأَمرِهِ) في هذا مسايرة لمرأى العين ومجرى الريح، وهي آية من آيات اللَّه تعالى، ولذا قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ)، وهي تجري في البحر ناقلة ما تحمل من خيرات الأرض إلى أقاليم أخرى، ولذا قال في آية أخرى: (. . . وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ. . .)، فهي تصل الناس بعضهم ببعض بالمتاجر، والرحلات والتعارف والاتصال الدائم بينهم.(9/5020)
وإن اللَّه رفع السماء عن الأرض بغير عمد ترونها، ولكنها مربوطة بقوى الجاذبية والقصور الذاتي، وحفظ اللَّه توازن الكون، وإنه بهذه النواميس الكونية التي تسري بأمره، والتي خلقها سبحانه، بحفظ الكون، ويمسك السماء أن تقع على الأرض؛ ولذا قال: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ)، أي يمسك السماء من أن تقع على الأرض، لأنها بغير عمد ترونها، إنما يمسك سبحانه بقوى ونواميس خلقها، " وأن تقع " مجرورة بمن، وقوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4).
وإن هذا التوازن الكوني بين السماء والأرض ليعيش الناس في أمن واطمئنان من حوادث الكون، ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) الرءوف من " رؤف "، والرحيم صفة مشبهة للرحمة، والرأفة أصلها رقَّة القلب، والشفقة بالناس، والرحمة من الناس تشمل معنى الإنعام الذي يناسب الناس، أما الرأفة بالنسبة للَّه تعالى فهي ما يقتضيه اتصافه بالكمال، وتنزيهه سبحانه عن المشابهة بالحوادث، وهو أنه سبحانه يقدم ما يكون إنعاما عليهم في مشاعرهم وأحاسيسهم، والرحمة الإنعام والإحسان في عامة أمورهم.
وقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رحِيمٌ)، أي يعاملهم معاملة من يرأف بهم ويشفق عليهم، ومعاملة من ينعم عليهم ويرحمهم في عامة أمورهم، وإن هذه الجملة السامية في مقام التعليل لما سبق من تصرفه في الكون، وقد أكد سبحانه رأفته ورحمته بهم، بعدة مؤكدات، أولها، (إِنَّ)، وثانيها تقديم (بِالنَّاسِ)، وثالثها بـ " اللام "، ورابعها بالتعبير بالصفة المشبهة، وذكر سبحانه بيان قدرته فيهم فقال عز من قائل:(9/5021)
وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
(وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
الضمير يعود على اللَّه جل جلاله، وهي معطوفة على قوله تعالى: (سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ)، وقد ذكر سبحانه فضله تعالى، وهو المنشئ المنعم في ثلاثة أدوار:(9/5021)
الدور الأول - أنه هو الذي أمدنا بالحياة ذاتها فأخرجنا من التراب، ثم من نطفة، إلى أن جعلنا في أحسن تقويم، وأمدنا بما يبقي حياتنا من نبات وثمار، وحيوان يأكل مما تنبت الأرض، وعبَّر سبحانه بقوله: (وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكمْ) وقد أشار سبحانه وتعالى إلى عناصر الحياة التي تمدها بالبقاء بإرادته في آيات أخر.
الدور الثاني - الموت، بعد أجل مسمى من ابتداء الحياة، وهذا محسوس مرئي يحدث كل يوم، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) وقد عبر بالمضارع؛ لأنه مستمر متجدد يُرى كل يوم، ولا يرتاب فيه مرتاب، لأنه مرئي بالعيان.
الدور الثالث - الحياة بعد الموت، وهو البعث والنشور، وقد عبر سبحانه وتعالى عن ذلك الدور بقوله: (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) وعبر بالمضارع؛ لأنه واقع في المستقبل يؤمن به من يؤمن بالغيب، ومن يعلم أن الإنسان لم يخلق عبثا، ولكن لأن هذا الدور ليس مشاهد الآن بالعيان أنكره الكافرون، لأنهم قالوا: أئذا متنا وكنا ترابا (. . . أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا)، ولكن اللَّه الذي خلق الإنسان من تراب، وأمده بكل عناصر الحياة والبقاء أخبر بأنه هو القادر الذي خلقهم وأحياهم، وأنه يعيدهم كما بدأهم (. . . كمَا بَدَأَكمْ تَعُودُونَ)، ولكنْ المشركون وهم كثيرون لم يؤمنوا بالبعث وكفروا به، ولذا قال تعالى عقب ذلك: (إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ)، أي يجحد الدور الأخير؛ لأنه لَا يؤمن إلا بالأمر المحسوس، وإنما ذلك أمر مغيب، والفرق بين الكافر والمؤمن أن المؤمن يؤمن بالغيب، والكافر لَا يؤمن إلا بالحس، وقد أكد سبحانه كفر الكافر بالغيب، أولا بـ (إِنَّ)، وثانيا بـ " اللام "، وثالثا بالصفة المشبهة " كفور ".
و (الإِنسَانَ) هنا هو الذي لَا يؤمن بالغيب، ويلاحظ في التعبير بـ (ثُمَّ) أنها للتراخي، ففترة ما بين الحياة والموت ليست قصيرة يعمل فيها ما يحاسب عليه بالعقاب أو الثواب، وكذلك الفترة بين الموت والحياة الثانية.
إن أهل الديانات التي تنتمي لأصل سماوي يعترضون على الإسلام بما اشتمل عليه من أحكام ليست عندهم، فرد اللَّه تعالى كلامهم بقوله تعالى:(9/5022)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
(لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
المنسك مكان النسك وهو العبادة، أو مصدر ميمي، والمراد العبادة أيضا، ويقرر أكثر المفسرين أن النسك هو شرائع النبيين، كقوله تعالى: (. . . لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا. . .)، فاللَّه تعالى جعل لكل أمة شريعة جاء بها نبيها، وجاءت شريعة مهيمنة على كل الشرائع، وخاتمة لها، وناسخة لما يخالفها، ولو كان موسى بن عمران حيا ما وسعه إلا اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن شريعته هي خاتمة الشرائع الإلهية، وقوله تعالى: (هُمْ نَاسِكُوهُ)، أي العابدون اللَّه تعالى على منهاجه، والضمير يعود على النسك، وناسكوه كما أشرنا: سالكون طريق العبادة الذي سن فيه.
(فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ)، " الفاء " للإفصاح، أي إذا كان لكل أمة دين، فلا ينازعنك في الأمر، و " لا " ناهية، والنهي لمن يحتمل أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعناه النهي عن تمكينهم من منازعته، وردهم في هذه المنازعة والمجادلة، وربما يؤيد هذا قوله تعالى من بعد في الآية التالية: (وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ)، فمضمون النهي عن عدم الالتفات إليهم، والسير على منهاجه، ولذا قال سبحانه بعد ذلك: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ)، أي امض في طريقك داعيا إلى ربك العليم بكل عمل، وبكل قول حقا أو افتراء، وهذا النهي كقوله تعالى: (وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ. . .)، ثم أكد سبحانه مضيه وعدم التفاته إليهم بقوله: (إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيم)، أي وإنك في نسكك وشريعته لمستمكن من الهداية المستقيمة تمكين من يعلو على الهداية، فالتعبير بقوله تعالى: (لَعَلَى هُدًى) أنك متمكن من هدايتك تمكن من كان فوق الهداية مستمكنا منها كالقائم عليها والجالس عليها ووصف سبحانه الهدى الذي استمكن منه - صلى الله عليه وسلم - واقتعده بالاستقامة، والاستقامة وصف للحق، ولكل هداية.(9/5023)
هذا هو الاحتمال الذي يكون النهي فيه موجها للنبي، لأنه - صلى الله عليه وسلم - صاحب رسالة اللَّه تعالى، وحاملها، وهو المخاطب بتكليفات الرسالة، وليس المخالفون مخاطبين إلا عن طريقه.
وقد ذكر المفسرون احتمالا آخر، ورجحه كثيرون، وهو أن يكون النهي للمخالفين المعترضين، ونراه بعيدا، وإذا كان اللَّه ينهاه عن المنازعة؛ لأنه لا موضوع لها إذ لكل دين نسكه وشريعته، وإن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - عامة ناسخة ما يخالفها، فقد نهاه أيضا عن الجدل معهم، فقال عز من قائل:(9/5024)
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)
(وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68)
الجدل إحكام فتل الحبل، وإحكام البناء، والجدال في مسائل الحق والباطل إحكام كل مجادل قوله ليستطيع أن يزيف الحق أو أن يزيف كلام خصمه، وإنه شاع في قول الباطل، والمجادلة في الحق، وهذا النوع من الجدال من شأنه أن يبعثر الحق، ويشكك فيه، وقد كان الإمام مالك - رضي الله عنه - ينهى عن الجدل في الحقائق، وكان يقول: كلما جاء رجل أجدل من رجل نقص مما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد أمر اللَّه تعالى ألا يجادل المشركين واليهود، وأن يفوض أمورهم بعد أن تبين لهم الحق الذي يجب اتباعه، ودلائله من آيات اللَّه المتلوة والكونية، وأمره أن يقول لهم: (فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ)، وهذا فيه تهديد لهم على عملهم، ومؤداه لا تحاولوا تبرئتكم في أعمالكم بالملاحاة والمجادلة، فاللَّه أعلم بعملكم.
وأفعل التفضيل هنا ليس على بابه، فلا مفاضلة في علم اللَّه تعالى، إنما المعنى أن اللَّه يعلم بما تعملون علما ليس فوقه علم وإن علم اللَّه بأعمالكم سيبينه يوم القيامة، فقال عز من قائل:(9/5024)
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
(اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
إذا كان اللَّه تعالى هو الذي يعلم عملهم علما ليس فوقه علم، فهو الذي يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون، وخاطبهم اللَّه تعالى بقوله: (اللَّهُ(9/5024)
يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) الخطاب للذين جادلوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمره اللَّه تعالى بالإعراض عنهم، وألا يلتفت إليهم، وهم كانوا مختلفين فيما بينهم، فاليهود مختلفون مع المشركين، واليهود مختلفون فيما بينهم في عقائدهم، فمنهم صدوقيون لَا يؤمنون بالبعث، ومنهم ربانيون، ومنهم قراء، والمشركون واليهود مختلفون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، واللَّه تعالى يحكم بين هؤلاء أجمعين، وإن الجحيم مأوى الكافرين به.
* * *
الله خالق الكل والعليم بما خلق
اللَّه تعالى:
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
* * *(9/5025)
ذكر اللَّه تعالى في الآيات السابقة أن اللَّه تعالى هو الذي يحكم بين الكافرين والمؤمنين فيما خالفوا فيه، ويحكم بين الكافرين صت أهل الكتاب فيما يختلفون فيه فيما بينهم، وكل باطل، بعد هذا الذي ذكره سبحانه بالعبارة وبالإشارة ذكر أنه حكم عالم لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فقال عز من قائل:(9/5026)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70).
(أَلَمْ تَعْلَمْ) معناها: قد علمت، وبينا كيف استخلص ذلك المعنى السامي، الاستفهام الإنكاري الداخل على فعل منفي، وسياق القول: قد علمت يا محمد علما مؤكدا يقينيا (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) من عقلاء وأناس مكلفين، وما مكَّن لهم فيهما، وماذا فعلوا فيما سخر لهم، فإذا كان هو اللَّه الذي يحكم بينهم فحكمه هو الفصل، وهو خير الفاصلين، وإنه مع علمه سبحانه المحيط، قد سجل ذلك في كتاب وهو اللوح المحفوظ، وهو الكتاب الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وقد بين اللَّه تعالى الحكم والإحصاء في كتاب سهل يسير على اللَّه تعالى، فقال تعالت كلماته: (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير)، أي سهل لَا يحتاج إلى معاناة من اللَّه العلي الكبير، بل إنه سهل عليه سبحانه، وإن الحكم الفاصل يقع منه في ساعات أو لحظات.
هذا هو الحق، وإنه سيلاقيهم يوم يعلم كل إنسان ما قدمت يداه، ولكن المشركين في عماء عن الحق؛ ولذا قال تعالت كلماته:(9/5026)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71)
الضمير في (وَيَعْبُدُونَ) يعود إلى الكافرين الذين سيطرت عليهم الأوهام والأهواء والتقليد، فيعبدون ما لم تنزل به حجة ترشدهم إلى عبادته، والسلطان في قوله: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا)، أي حجة نقلية نزلت من عند اللَّه تعالى، وسميت سلطانًا؛ لأنها تكون قوة تجعل لمن نزلت له قوة تجعل ما عنده قويا(9/5026)
كالسلطان ولكن لم ينزل شيء من ذلك، وإذا كان لم ينزل دليل نقلي من عند اللَّه بعبادته، هل لديهم برهان عقلي ينتج يقينا؛ نفى اللَّه تعالى ذلك أيضا فقال تعالى: (وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ)، أي ليس لهم به برهان عقلي يسوغ عبادتهم، بل إن البرهان العقلي يؤدي إلى نقيضه؛ لأنه لَا يسمع ولا يبصر، والقانون العقلي يوجب أن يكون المعبود أعظم من العابد، فكيف يعبدون جمادًا، وهم أحياء، وهو لا يعقل، وهم يعقلون؟!!.
إذا لم يكن عندهم دليل من عند اللَّه أنزله فكان لهم سلطان، ولا علم عقلي فإن ذلك يكون ظلما؛ ولذا ختم اللَّه سبحانه الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ)، وإذا كانوا يعبدون ما لَا دليل عليه من نقل أو عقل، ويشركون مع خالقهم في العبادة، وهو الواحد الأحد، فإن ذلك لأنفسهم ولقولهم ضلال وفساد، وقد نفى اللَّه تعالى أن يكون لهم نصير أيَّ نصير؛ إذ لَا يمكن أن يكون نصيرا أمام قوة اللَّه.
ومن لاستغراق النفي أي ليس نصير أيَّ نصير من ملك أو إنسان.
ونشير هنا إشارة بيانية في قوله تعالى: (وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ) فيه أن كلمة (لَهُم) قدمت على (عِلْمٌ)، وهي المبتدأ؛ للدلالة على أنهم تهجموا من غير علم فقدَّم عقابه في الاهتمام، وللدلالة على ضلالهم، وقدم (بِهِ) على (عِلْمٌ) للدلالة على إمعانهم في الضلال وظلمهم للحق، والله وليُّ المؤمنين.
وإن هؤلاء الذين سيطرت عليهم الأوهام، وتحكمت فيهم الأهواء والتقليد الأعمى لَا يلقون آيات اللَّه تعالى بما يستحق من عناية، بل يقابلون بالاستنكار والسخرية، فلا يهتدون ولا يفتحون قلوبهم لدخول الهداية، ولذا قال تعالى عنهم:
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)(9/5027)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
إن حال هؤلاء الذين يعبدون من دون اللَّه ما لَا دليل عندهم يسوغ عبادته إلا أن تكون الأوهام التي تضلل الأفهام - من شأنهم ألا يستمعوا إلى الحق، بل يعرضون عنه إعراضا؛ ولذا قال عز من قائل: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِف فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ) الآيات هنا آيات القرآن المنكرة فإذا تتلى عليهم تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر - يصح أن يفسر المنكر هنا بالإنكار ويكون من قبيل المصدر الميمي، كالمكرم بمعنى الإكرام، وتكون معرفة الإنكار من الوجوه بالتهجم، والغيظ، ويصح أن يكون المنكر هو حال وجوههم من التغيظ والبسور، والاستفظاع، وسميت هذه الحال، (الْمُنكَرَ)؛ لأنها في ذاتها أمر منكر، إذ لا يتلقون الحق بالتفهم والتدبر، بل يبادرون برده ردا عنيفا مستكبرين، قد غلظت أعناقهم، وتجهمت وجوههم (يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا) السطو: الوثب للفتك بالذين يتلون، كما حاولوا أن يسطوا بأبي بكر الصديق، وكما حاول الجاهلون بالسطو على المستضعفين من المؤمنين، وقال تعالى: (يَكَادُونَ يَسْطُونَ)، مع أنهم سطوا بالفعل، ونقول: إن ذلك حكم عام، والسطو الفعلي كان من بعضهم، لَا من جميعهم، وما كان من التلاوة فقط، بل كان من اعتناقهم الإسلام مع هذه التلاوة، فالمقاربة بالنسبة لجميعهم، لَا بالنسبة لبعضهم.
وقد أمر اللَّه تعالى نبيه الكريم أن يقول لهم: (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، الإنباء الإخبار بأخبار خطيرة لا
تسرهم بل تضرهم، والتنبيء كالإنباء بيد أن اللفظ ينبئ عن خطر ما تضمنه، و " الفاء " في (أَفَأُنَبِّئُكُم) فاء الإفصاح عن شرط، تقديره مثلا أئذا كنتم تتجهمون من التلاوة أفأنبئكم بشر من هذه التلاوة، وهذا نوع من التهكم بهم وإنذارهم بالإنذار الشديد، والعقاب العتيد، وبيان لمقابلة التهجم من القرآن والإعراض عنه بأنه يستقبلهم بما يوجب الغيظ والتجهم، والبسور أشد وأفظع، وهو النار أنذر اللَّه تعالى بها الذين كفروا، وعبر بالموصول للإشارة إلى أن الصلة وهي الكفر، والإعراض عن الآيات البينات (هى سبب الحكم)، وإنها نار لَا نهاية لعذابها، بل(9/5028)
هم خالدون فيها، وهي مصيرهم الذي لَا ينتهي، ولذا قال تعالى: (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) بئس من أفعال الذم، ومع أنها جامدة فهي من الألفاظ الدالة على
البؤس، فالنار مصير هو بؤس.
وقد بين اللَّه سبحانه ضلالهم في اعتقادهم الباطل الذي لم يُبن على علم نقلي أو عقلي بمثل عظيم، فقال:(9/5029)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
الخطاب عام للناس وقالوا: إنه إذا كان النداء: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) كان يعم الناس عامة والمشركين خاصة، وإن موضوع القول، وهو عبادة الأوثان يجعل الخطاب للمشركين أَمَسّ وأقرب، و (ضُرِبَ) معناها: بُيِّن، والمثل الحال والشأن، ففيه تقريب حال بحال، فحال ضعفهم الشديد صورها سبحانه بأنهم لعجزهم (لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) فحالهم حال عجز عن خلق أي حي، ولو اجتمعت الأوثان كلها، وكيف تُعبد، وهي لَا تستطيع خلق الذباب، ولو اجتمعت له كل هذه الآلهة التي يعبدونها من دون اللَّه تعالى، و (لَن) هي لتأكيد النفي، وذكر ضمير الأوثان ضمير عقلاء على زعمهم وتفكيرهم، وليسوا أحياء فضلا عن أن يكونوا عاجزين، وعبر سبحانه عن حال عجزهم بالمثل، كأنه مثل مضروب سائر، وبيّن ذلك الزمخشري فقال: " قد سميت الصفة أو القصة الرائعة الملقاة بالاستحسان والاستغراب مثلا تشبيها لها ببعض الأمثال المسيرة لكونها مستحسنة مستغربة ". وإن هذا التصوير السامي الذي سماه جل جلاله مثلا، هو برهان على عدم صلاحيتهم للألوهية؛ لأنها عاجزة محتاجة، والمعبود قادر غير عاجز.
(وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) هذا النص السامي دل على أن هذه الآلهة أعجز من الذباب؛ لأنه يعدو عليها؛ لأنه لو أخذ منها شيئا على سبيل(9/5029)
السلب لَا يستطيعون أن يستردوه منه، فهو القادر عليها، و (يَسْتَنْقِذُوهُ)، السين والتاء للطلب، أي لَا يستطيعون بأكثر جهد وطلب أن ينقذوه منه؛ لأنها لَا قوة لها في أي ناحية، فهي جماد لَا يتحرك، ولكن الوهم هو الذي جعل لها قوة في نظرهم الذي لَا يبصر، وَسَوَّل لهم الشيطان عبادتها.
ونقف هنا وقفة قصيرة، فنسأل الذين ينكرون وجود اللَّه، وهم ملاحدة هذا الزمان الذين يحسبون إلحادهم يقوم على فلسفة عقلية: لقد اختبرتم الكون وعلمتم علمه، وعرفتم النواميس التي خلقها اللَّه، وإن كنتم تحسسبونه ظواهر للأشياء، وعلوتم إلى داخل الفضاء حتى وصلتم إلى القمر وإلى المشترى، وعلمتم تكوين الأشياء وأجزاءها وعناصرها، فهل استطعتم أن تخلقوا ذبابة، إن للَّه في كل شيء آية، فآمنوا به ولا تنكروه.
لم تستطع آلهتهم أن تستنقذ ما يسلبه الذباب، ولو بذلت أقصى الجهد إن كان لها جهد، ولذا قال تعالى: (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)، (الطَّالِبُ) هو الأوثان فإنها لَا حياة فيها ولا قوة لها، (وَالْمَطْلُوبُ) وهو الذباب فهو حيوان ضعيف يستحقر في أعين الناس ولكنه مخلوق للَّه يضرب به المثل، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا. . .)، فسر بعض السلف الطالب بالعابد والمطلوب بالصنم، فضعيف الفكر والعقل والإدراك يدعو ضعيفا في ذاته لأنه جماد، وكلا الرأيين معقول.(9/5030)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
(مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
هذه الآية نتيجة للآيات السابقة؛ ولذلك كان الفصل بدل الوصل، فبينهما ما يشبه علاقة العلة في الحكم بالعلول، أو المقدمة والنتيجة.
إن هؤلاء الذين خضعوا لأوهامهم فعبدوا حجارة لَا تنفع ولا تضر، وبالأولى لَا تخلق ذبابًا، ولو اجتمعت أصنام كل أمة وثنية ما عرفوا الله حق المعرفة، ولا أدركوا كماله وجلاله حق الإدراك، ولا عرفوا معنى الألوهية حق(9/5030)
المعرفة، إن اللَّه تعالى هو القادر الخالق، وهو الواحد في ذاته وصفاته، وليس في الأوثان من هذا، واللَّه تعالى قوى قاهر، ولا يمكن أن يكون عاجزًا؛ ولذا عرف اللَّه تعالى رب العالمين بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)، أي قَوِيٌّ قادرٌ على كل شيء، عزيز غالب لَا يحتاج لشيء، ويحتاج إليه كل شيء، وهو العليم القدير.
وأكد سبحانه قوته بـ (إِنَّ) الدالة على توكيد الحكم، وبـ " اللام " في قوله تعالى: (لَقَوِيٌّ) وبـ " الجملة الاسمية "، سبحانه إنه القاهر فوق عباده.
* * *
الرسل مصطفون، والرسالات الإلهية متصلة
قال اللَّه تعالى:
(اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
* * *(9/5031)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
(اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
(اللَّهُ) ذو الجلال والإكرام، (يَصْطَفِي)، أي يختار من صفوة خلقه (مِنَ الْمَلائِكَة رُسُلًا) كجبريل الأمين روح القدس، اختاره ليكون رسولا لأنبيائه ورسله الذين اختارهم أيضا من صفوة عباده، فاختار سبحانه من الملائكة من يبلغون عن اللَّه تعالى مصطفين من الناس ليتلقوا رسالة الله إلى الناس، فالذين اختارهم من صفوة الملائكة ما اختارهم تعالى إلا ليبلغوا خلقه، وكل ذلك بأمر اللَّه وباختياره، وإن هؤلاء المختارين من الملائكة يبلغون إما بِالوحي وإما برسل يرسلون، كما قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا. . .).
وإن الله تعالى لَا يختار لهذا المنصب الأقدس منصب التبليغ عن اللَّه تعالى إلا من كانوا في أعلى القداسة والنزاهة النقية (. . . اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. . .)، ولذا قال تعالى مبينا أن اللَّه تعالى لَا يصطفي إلا عن علم من لَا يخفى عليه شيء، فقال: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)، أي أن اللَّه عليم علما يقينيا هو علم من يسمع، فهو السميع، وعلم من يبصر فهو البصير.
ولقد أكد سبحانه إحاطة علمه فقال تعالى:(9/5032)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
(مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) وهو الحاضر المهيأ، وسمي بين أيديهم، لأنه أمامهم، فشبه علم حاضر بما يكون مهيأ معدا، (وَمَاخَلْفَهُمْ) الخلف يطلق على ما هو خلف الإنسان وهو ضد القُدَّام، فهو يطلق على الماضي والقابل، وهو الذي يخلفه من بعده، ولعله من الخلافة، وقد فسر بالقابل الذي لم يقع، ويكون المعنى يعلمِ حاضرهم، وقابلهم الذي يخلف ذلك الحاضر والضمير في قوله تعالى: (مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ)، قيل: يعود إلى الرسل، والظاهر أنه يعود إلى الذين يبلغهم الرسل فالضمير يعود إلى كل الناس، ولذا عقب الآية بقوله: (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ(9/5032)
الأُمُورُ)، أي أن الأمور كلها ترجع إليه وحده يوم القيامة، ليحاسب كل نفس بما كسبت، وتجد كل نفس ما عملت محضرا، من خير أو من شر، ويكون له وحده الجزاء، وفي تقديم الجار والمجرور بيان أن المرجع إليه وحده، وله وحده الحساب، وهو بكل شيء عليم.
بعد ذلك خاطب اللَّه تعالى الذين آمنوا برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقال:(9/5033)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
واضح كل الوضوح أن النداء للرسول وأتباعه، وليس لكل الناس، فالناس يدخلون في النداء إذا آمنوا ومن يؤمن بالرسالة المحمدية فهذا تكليفها، وهو الصلاة، واختصت بالابتداء لأنها عمود كل دين، ولا دين من غير صلاة وإن اختلفت أشكالها في الديانات السماوية وكل طريق إلى اللَّه واتجاه إليه سبحانه، ولأن الصلاة هي العبادة التي تنصرف فيها النفس والجوارح إلى اللَّه وحده، ولأنها امتلاء النفس بذكر اللَّه تعالى؛ ولأنها إذا أديت على وجهها من قيام وخشوع كامل، وضراعة صادقة، واستحضار النفس لكل معانيها، لَا تقع من الإنسان المنهيات، كما قال تعالى فى خاصتها: (. . . إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ. . .)، وخص الركوع والسجود بالطلب مع أن الصلاة لها أركان قراءة وتكبير، وركوع وسجود، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكمْ)؛ وذلك لأن الركوع والسجود هما الظهر الحسي للخضوع للَّه تعالى خضوعا كاملا، ولأنهما لَا يسقطان عن المكلف قط، فالقراءة قد تسقط عن المكلف إذا كان يصلي مؤتما بإمام قارئ، وتسقط عند العجز عن القراءة، أما الركوع والسجود فلا يسقطان فإن لم يستطع الصلاة قائما، صلى قاعدا، وإذا لم يستطع الصلاة بحركات صلى بالإيماء، وإلا فهو في عفو اللَّه، وروي أن بعض الشافعية أجاز الصلاة بالإيماء بالعينين، ولأنهما لَا يسقطان فكانا رمزا للصلاة كلها.(9/5033)
وبعد الصلاة أمر سبحانه وتعالى بالعبادات كلها، وهذا من قبيل ذكر العام بعد الخاص، فيشمل ذكر العبادة الصوم والحج، والكفارات والنذور، والزكاة، والصدقات المنثورة، وأن يعبد اللَّه تعالى في كل عمل يعمله، بأن يقصد به وجه اللَّه تعالى، فالعامل في مصنع أو في متجر أو فلاحة الأرض يقصد وجه اللَّه ونفع الناس، فيكون في عبادة مستمرة، ويصدق عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله " (1).
وقد أمر سبحانه وتعالى بفعل الخير أمرا مطلقا غير مقيد ولا محدود فقال عز من قائل: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكمْ تُفْلِحُونَ)، الخير كل عمل يكون فيه نفع للناس، ويتفاوت الخير فيه بتقارب مقدار النفع، فالنفع الكثير يكون الخير بقدره، ونفع أكبر عدد يكون الخير كله، مع القيام بالعبادات على شتى فروعها وكل أنواعها.
وقال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، أي رجاء أن تفلحوا وتفوزوا في الدارين في الدنيا فتكونوا خير الناس، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " خير الناس أنفعهم للناس " والرجاء من العباد لَا من اللَّه؛ لأن اللَّه تعالى لَا يرجو بل يعلم وينفذ. إنه عليم حكيم.
ونرى أن الآية ابتدأت بالأمر بتطهير النفوس بتوجهها إلى اللَّه تعالى في الصلاة والعبادة، ثم اتجهت الأوامر إلى نفع الجماعة وأن يكون كل واحد عنصر نفع إنساني فيها.
ثم اتجهت من بعد إلى ما فيه حماية الأمة الإسلامية ونشر دعوتها، فقال تعالى:
________
(1) سبق قريبا.(9/5034)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
(وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ(9/5034)
وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
هذا تكميل ما جاء في الآية السابقة، ففي الآية السابقة كان التدرج من الأمر بتطهير النفس، وملئها باللَّه تعالى في الصلاة والعبادة، ثم فعل الخير لأكبر عدد ممكن في الأمة، وفي هذه الآية المطالبة بالنفع الإنساني بتبليغ الرسالة المحمدية رسالة الإنسانية للناس جميعا، وذلك بالدعوة إلى الإسلام، وهو جهاد، وتذليل العقبات في سبيل هذه الدعوة، وإزالة كل المحاجزات التي تحاجز دونها، ولو كان ذلك بالحرب، ولذا قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكمْ).
الجهاد مفاعلة ببذل الجهد، فالمؤمن يبذل جهده في الدعوة إلى اللَّه، والمقاوم من الكفار يبذل جهده في الصد عن سبيل اللَّه، ومقاومة الحق.
وقوله تعالى: (فِي اللَّهِ)،، أي الجهاد لأجل ذات اللَّه وابضغاء مرضاته فـ (فِي) هنا تفيد السببية، كما في الحديث الشريف: " دخلت امرأة النار في هرة " (1)، والإتيان بـ (فِي) بدل " الباء " أو " من " فيه معنى إحاطة اللَّه تعالى بالجهاد بأن يكون كله للَّه تعالى، وقوله تعالى: (وحَقَّ) الإضافة فيه بيانية، أي الجهاد الحق الذي يكون من غير إرادة الفخر، أو ابتغاء دنيا يصيبها، وحق الجهاد أن يخلص النفس من أدران الهوى، وإرادة إراقة الدماء، وأن يجاهد المقاتل نفسه أولا، فيقيها عن شهواتها، ويبعد عنها نزغات الشيطان، وأن يجاهد للحق ورفعته، ويكون الجهاد أحيانا أمام الحكام الغاشمين، ولقد قال النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -: " أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " (2)، وإذا قتله يكون خير الشهداء.
________
(1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ» قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ: «لاَ أَنْتِ أَطْعَمْتِهَا وَلاَ سَقَيْتِهَا حِينَ حَبَسْتِيهَا، وَلاَ أَنْتِ أَرْسَلْتِهَا، فَأَكَلَتْ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ». رواه البخاري: (3248)، ومسلم (6931) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه.(9/5035)
وحق الجهاد ألا يرفع السيف في سبيل الدعوة الإسلامية إلا إذا تعذرت الإجابة بالتي هي أحسن، وإلا بعد البيان، ومحاجزة أهل الباطل بين الدعوة المحمدية والناس، ولذلك كان الجهاد في الإسلام ليس للشعوب، ولكن لمعسكر السلطان الذي يحول بين الدعوة الإسلامية والشعوب، وإذا وصلت الدعوة إلى الشعوب فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما ربك بظلام للعبيد، فلا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي.
ويقول سبحانه مشيرا إلى الحقائق الإسلامية، ومبينا أن الأمة الإسلامية هي المختارة لهذه الدعوة فقال تعالى: (هُوَ اجتَبَاكمْ)، أي اختاركم من سائر الناس، أي اختاركم واصطفاكم، ونقول هنا: هذا خطاب لكل المسلمين على أنهم الأمة المختارة للتوحيد والدعوة إليه، والجهاد في سبيله، أم أن المخاطب هم العرب على أساس أن البعثة المحمدية كانت فيهم، وأن اللَّه اختار نبيه منهم، وأنهم الذين حملوا الدعوة، وقد بينا لماذا كان الاجتباء في كتاب خاتم النبيين.
ومعنى (اجْتَبَاكمْ)، من الجَبْي بمعنى الجمع، يقال: جبى الخراج، بمعنى جمعه، واجتباه، افتعال من جبى، فهو سبحانه وتعالى جمع الناس جمعا كاملا، وخص بعض هذه الجموع بالخير، فكان المجتبي، وإن اللَّه تعالى اجتبى العرب أو المسلمين بعامة، ليكونوا حاملي الدعوة، والمجاهدين ابتداء في سبيلها، ومنع المحاجزات التي تعترض طريقها بكل طرق الجهاد، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم، وألسنتكم " (1).
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أعذار الجهاد، فقال عز من قائل: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِن حَرَجٍ) ومع أن هذا النص يشير إلى أن الجهاد مفروض على كل القادرين يشير إلى أصحاب المعاذير كالذين في قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ
________
(1) سبق تخريجه.(9/5036)