وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
(اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ) جاءوا مبشرين ومنذرين من قبلك، والاستهزاء يدل على جهل المشركين بما يستهزئون، ونسيانهم فضل من يسخرون منهم، ويدل أيضا على(8/3954)
أنهم لَا ينظرون للأمر نظرة من يجد ولا يهزل، ويدل على سيطرة العبث العابث، واللهو الماجن على نفوسهم، وهذه حال تحير الداعي إلى الحق من أين يحملهم على أن ينظروا جادين غير عابثين، ولا مازحين.
ولقد أكد الله استهزاء السابقين برسلهم، باللام، وقد ساق الله تعالى ذلك لنبيه ليتسلى عن إعراضهم واستهزائهم ولئلا يذهب به اليأس من قومه، وألا يرجو الانتصار منهم، فقد استمر الاستهزاء وأملى لهم، أي أعطاهم ملاوة من الزمن، حتى ظنوا أنه لَا عاقبة مؤلمة تنتظرهم؛ ولذا قال تعالى:
(فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَروا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ).
أمليت كما ذكرنا أعطيتهم ملاوة من الزمن إمهالا لهم من غير إهمال لاستهزائهم، وسخريتهم من الحق، والفاء لبيان أن ما بعدها مسبب عما قبلها، والمعنى كان استهزاؤهم سببا للإملاء لهم، حتى يأخذهم، وهم لَا يتوقعون، مثل قوله تعالى: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ).
و (ثُمَّ) للدلالة على التراخي، أي أنه أمد لهم أمدا غير قصير، حتى ظنوا أنه لا مؤاخذة على ما يفعلون، وغرهم الغرور، وحسبوا أن الدنيا قد طابت لهم بحذافيرها، ثم إخذتهم، أي أشعرتهم بسلطاني، وأني أمهل ولا أهمل والأخذ كناية عن الإشعار بالسلطان؛ لأن الأخذ يتضمن أنهم صاروا غير خارجين عن سلطانه؛ لأن الأخذ أقصى ما يدل على التمكن، وأن يكونوا في قبضته يصرفهم كيف يشاء، وذكر الله تعالى عقاب فقال: (فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ) ياء المتكلم محذوفة على وجود ما يدل عليها، والمحذوف مع وجود ما يدل عليه يكون كالمذكور، بل إن تقديره بجهله مذكور، لم يبين الله سبحانه وتعالى العقاب، ولكن أشار إليه إشارة تدل على هوله، وعلى أنه كان حاسما قاطعا فمن غرق، أو جعل الأرض سافلها، ومن ريح صرصر عاتية، ولقد قال تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48).(8/3955)
وكما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102).
وفى الصحيحين: " إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته ".
* * *
الأوثان ليس لها وجود حتى تعبد
قال اللَّه تعالى:
(أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
* * *
هذا بيان لبطلان عبادة الأوثان، وهو برهان يستمد منها، لَا من أمر خارج عنها، فالله الأعلى يوازن بين قدرته على كل شيء، وحياطته لكل شيء، وقيامه تعالى على الانفس، وبين الأوثان التي لَا تضر ولا تنفع، وأنها لَا حقيقة لها في عالم الأحياء، يقول تعالى:(8/3956)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
(أَفَمَنْ هُوَ قَائِم عَلَى كُلِّ نَفْس بِمَا كَسَبَتْ) الاستفهام هنا للتوبيخ، وبيان عجز آلهتهم، وقدرة الله تعالى، وقائم معناها: القيام على شئون الأنفس، خلقها، وهي مربوبة لها، وعالم بها، ومحافظ عليها، يعلم ما تسره وما تعلنه، وما تظهره، وما تخفيه.
ويقول ابن كثير في معنى هذه العبارة السامية: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)، أي حفيظ عليهم رقيب على كل نفس منفوسة يعلم ما يعمل العاملون من خير وشر، ولا تخفى عليه خافية (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ. . .).(8/3956)
فمعنى قام ليس ضد القعود، وإنما معناه القيام على شئون الأنفس، والعلم بها، كما قال تعالى: (. . . هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. . .)، وعبر عن القيام بهذه المعاني؛ لأن القيام يدل على الحركة، والحركة تدل على معاناة الأعمال خيرها وشرها، وهو بالنسبة لله تعالى القيام على شئون هذا الوجود، وهو هنا الأنفس.
وذكر الله تعالى كل نفس للدلالة على عموم تدبيره للأنفس، والعلم بما تفعل من خير وشر، وقوله تعالى: (بِمَا كَسَبَتْ) يتضمن العلم بكل ما تصنع النفوس العاملة، والجزاء على ما تفعل، وفي ذلك بعضها لإنذار العصاة، كما قال تعالى: (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. . .).
وقوله تعالى: (أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ) لتمام الموازنة تكون التسوية مقتضية محذوفا مقدرا تقديره كي لَا يستطيع شيئا، ولا يقوم على شيء ولا يضر ولا ينفع.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ضلالهم في عبادة الأوثان، فقال تعالى:
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ)، وهذه الجملة حالية، والحال أنهم جعلوا لله شركاء يشركونه في العبادة مع أنها لَا تنفع ولا تضر، ومع أن ذاته العلية جلت عن المشاركة، وتعالى عن ذلك علوا كبيرا، أمر الله تعالى نبيه الكريم أن يسألهم عن حقيقتها، ولكنها من بيان الكنه والحقيقة يتبين بطلان ما يعتقدون قال تعالى: (قُلْ سَمُّوهُمْ) عبر عنهم بضمير ما يفعل على حسب زعمهم وأوهامهم، وإلا فهي حجارة لَا تضر ولا تنفع، ولا تعقل ولا تدرك.
(سَمُّوهُمْ)، أي اذكروا أسماءهم، وأوصافهم، أي شيء لهم من الأسماء والصفات، وإنهم إذا جاءوا إلى ذلك، قالوا: إنها أحجار سميت اللات أو العزى أو هبل، أو نحو ذلك من الصفات التي تجعلها دونهم، فكيف يعبدون ما هي دونهم أو لَا وجود لها في حقيقة أمرها، إلا أن تكون أحجارا، لَا تنطق ولا تضر، ولا تنفع.(8/3957)
(أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ)، " أم " للإضراب الانتقالي مع تضمنها معنى الاستفهام الإنكاري التوبيخي، أي أتنبئونه بشيء لَا يعلمه في الأرض، وهو خالقها، والذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض، أي أتنبئونها بأمر لَا وجود له، والمؤدى أنها لَا وجود لها في الأرض فهل تنبئونه بأمر لَا يعلمه في هذه الأرض، وهذا كلام يؤدي لَا محالة إلى أشياء لَا وجود لها في الأرض؛ لأنها لو كان لها أسماء وأوصاف لادعى وجودها، ولو كان لها وجود كآلهة في الأرض لعلمها سبحانه. (أَم بِظَاهِرٍ منَ الْقَوْلِ)، أم للإضراب عن السابق مع دلالتها على الاستفهام التوبيخي الذي ينبههم إلى فساد قولهم، والمعنى أهذا العلم بظاهر من القول الذي لَا يدل على حقيقة فقط، إنما أوهامهم جعلتهم يرددون ظاهرا من القول لَا يستطيعون أن يقولوا فيه إنه شيء له وجود، وصفات اقتضت الألوهية. والحقيقة أنه زين لهم وهم لَا مدلول له جعلهم يكفرون، وهم لَا يشعرون؛ ولذا قال تعالى:
(بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَروا مَكْرهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ).
بل للإضراب عن القول، أي أنه ما دام قد ثبت أنه لَا حقيقة لأصنامهم التي يعبدونها، فأوصافهم لَا تثبت ألوهية، بل لَا تثبت وجود لها نفع وضرر، فالأمر أنهم زين لهم ما هم عليه بوهم توهموه، وخيال تخيلوه، وكان ذلك الخيال أساس مكرهم، وتدبيرهم ضد الحق وأهل الإيمان، وبه صدوا عن السبيل، وصدوا غيرهم عن الطريق السوي، وفي قوله تعالى: (وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ) قراءة بالضم، أي أنه بهذا التزيين الضال صدوا عن الطريق الحق، وهو عبادة الله تعالى وحده لَا شريك له، وهناك قراءة بالفتح، أي صدوا غيرهم عن الحق بالاعتداء، والإيذاء، والاستهزاء بالرسل، ويجب أن يُراد القراءتان أنه لَا مانع من الجمع بينهما، فهم أبعدوا بأوهامهم عن الحق، وأوغلوا في الضلال بإبعاد غيرهم عنه.
وأكد الله سبحانه وتعالى الحكم بالضلال عليهم، فقال عز من قائل: (وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)، أي من يحكم الله تعالى بضلاله؛ لأنه سار في طريق(8/3958)
الغواية ومحل إلى الضلال، (فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (مِنْ) لعموم النفي، أي ليس له من هاد أي هاد، فلا هادي بعد الله.
بعد ذلك بين الله تعالى جزاءه، فقال:(8/3959)
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
(لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34)
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن لهم عذابين، أولهما عذاب الحياة الدنيا، والثاني عذاب الآخرة، ليس لهم من الله من واق.
أما عذاب الدنيا، فإنه واقع في هذه الحياة، وإن لم يكن هو الأشق، وعذاب الدنيا يبتدئ من ذات أنفسهم، وهو ضلال الفكر واضطرابه وعدم استقامة أنفسهم، فإن استقامة العقل والنفس نعمة واطمئنان واستقرار وضد ذلك عذاب، لا ريب فيه، وعذاب الدنيا باللجاجة في الباطل، والبراهين ساطعة، والأدلة قائمة، ثم من عذاب الدنيا الخزيان والذل، وضرب الذلة، ومن عذاب الدنيا قتلهم بسيف الحق، كما كان في بدر والأحزاب، بل أحد الذين رجعوا فيها من الغنيمة بالإناب، وقد يكون عذاب الدنيا بآية من آية.
أما عذاب الآخرة فهو أشق من عذاب الدنيا، ويواجهون الله، (وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقً)، فالله لا ينظر إليهم ولا يكلمهم، ويبدو لهم جهلهم، وضلالهم، ثم بعد ذلك جهنم التي جعلها مثوى الكافرين، و (مِن) في قوله: (مِن وَاق) لاستغراق النفي، أي ما لهم واق من عذاب الله واقٍ، ما لهم من شفيع ولا نصير، بل إنهم يتقدمون إليه سبحانه متناولين كتابهم بشمالهم، اللهم قنا شر ذلك اليوم.
* * *(8/3959)
قال الله تعالى:
(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
* * *
بين الله تعالى نعيم الجنة مقارنا بعذاب النار، فقال:(8/3960)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
(مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ)، المثل الحالي أو الوصف القريب الذي يسترعي الأفكار والأنظار، والمعنى حال الجنة العجيبة التي فيها ما لَا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، تجري من تحتها الأنهار، فتكون متعة النظر، ومتعة النفس، ومتعة النسيم العليل، ومتعة الراحة، والظل الظليل، ومثل مبتدأ خبره جملة تجري من تحتها الأنهار، ويصح أن يكون الخبر مصدر، تقديره مثل الجنة كجنة تجري من تحتها الأنهار، وفي ذلك معنى تحقق التشبيه بذكر المشبه والمشبه به، (أُكُلُهَا دَائِمٌ)، أي ثمر مستمر، من ثمر نخيل ورمان، (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا ممْنُوعَةٍ)، وغير ذلك من الثمار.
(وَظِلُّهَا)، وهو معطوف على أكل، أي أن ظلها دائم مستمر، ليس فيها حر لافح، لا ينسخ ظلها بشمس.
ثم يقول تعالى: (تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا)، الإشارة إلى الجنة بأوصافها الثلاثة المذكورة، من أنها تجري من تحتها الأنهار، فتنعم النفس بالمنظر الجميل،(8/3960)
والنسيم العليل، والمنظر البهيج، ومن أن ثمراتها دائمة لَا تنقطع، فتنعم بحياة دائمة، ونعيم مقيم، ومن أنها ظل دائم مستمر، وتلك مبتدأ خبره (عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا)، أي نهاية الذين اتقوا انتهوا إليها وذكر الموصول للإشارة إلى أن الصلة، وهي التقوى علة تلك العاقبة الحميدة في ذاتها.
ولقد ذكر في مقابل هذه النهاية الحلوة المرتبة عاقبة الكفر والأشرار، فقال:
(وَّعُقْبَى الكَافِرِينَ النَّارُ)، أي نهاية الكافرينِ الذين كفروا بالله وبآياته، وبنعمه النار يلقون فيها، وهي دائمة، (. . . كُلَّمَا نضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ خلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ. . .).
والتعبير بـ (عُقْبَى) في جزاء الأشرار والأبرار للإشارة إلى أنه جزاء أعقب عملا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والله تعالى لَا يظلم العباد، وهم الذين يظلمون أنفسهم، وله إرادة مختارة، وعقل مدرك، وإذا كانت الأعمال غير مستوية، فالعقبى غير مستوية، فقال تعالى: (لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20).
ولقد بين سبحانه وتعالى مكانة القرآن بين أهل الكتاب، فقال تعالى:(8/3961)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
(وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
(وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ) ذكر الزمخشري، وغيره أن الذين يفرحون من أهل الكتاب هم اليهود الذين أسلموا كعبد الله بن سلام، والنصارى من نجران واليمن والحبشة، وعدهم ثمانين رجلا، أربعين من نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من اليمن.
وأولئك (يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلُ إِلَيْكَ)، وهو القرآن؛ لأنهم وجدوه مطابقا لما عندهم في التوراة والإنجيل من تبشير بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إذا كانوا يعرفونه في التوراة والإنجيل، وما أنزل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هو القرآن الكريم.(8/3961)
وعندي أرى أن الذين آتاهم الله الكتاب يعم من أسلم، ومن لم يسلم، بل يدخل في عمومه ابتداء من لم يسلم فقد كانوا يفرحون ببعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ كانوا في حرب مع المشركين في يثرب، ويستفتحون عليهم بأن نبيا قد آن أوانه سينصرهم عليهم قال تعالى: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89).
وإن سياق هذا في هذا المقام يدل على أن الإيمان الصادق ليس مطلوبا من المشركين فقط، بل منهم ومن أهل الكتاب، وأن أهل الكتاب كان ينبغي أن يؤمنوا لمعرفتهم السابقة به؛ ولأنهم كانوا يفرحون به عندما توقعوا مجيئه قريبا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
ويقول سبحانه: (وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ)، أي من الجماعات المتحزبة التي تفهم أن التدين تحزب وتعصب منهم من ينكر بعضه وهو ما يتعلق بالإيمان باللَّه واليوم الآخر، فالصدوقيون من اليهود أنكروا البعث وحسبوا الحياة مادة حتى النفس فسروها بالمادة، والنصارى حرفوا التوحيد وقالوا إن اللَّه ثالث ثلاثة وضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
ولأنهم أنكر بعضهم اليوم الآخرة، وأنكر بعضهم الوحدانية، رد الله تعالى ذلك عليهم، وذلك بأمره للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه يستمسك بالوحدانية والإيمان باليوم الآخر، فقال تعالت حكمته: (قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَئَابِ) كان ما أمر الله تعالى به نبيه أمرين قد أنكراهما، وهما عبادة الله تعالى وحده، وذلك يتحقق في قوله تعالى: (أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ)، فهذا إثبات للوحدانية في الذات والصفات والخلق، والعبادة، ونفي لأي شريك في العبادة، والنصارى أثبتوا الشرك في العبادة بعبادة ثلاثة ابتداء، ثم لَا يزالون يأتون بعبادة آخرين كالعذراء كما يسمونها في الأوهام التي توهموها في أنهم رأوا خيالها نورًا، وكعبادة القديسين في نظرهم، وبذلك أنكروا أصل التوحيد الذي هو أصل الديانات السماوية كلها، وقد دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى كلمة سواء بينه وبينهم، في(8/3962)
كتابه إلى هرقل، والنجاشي، والمقوقس، وهذا بعض ما جاء فيه: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا. . .).
والأمر الثاني الذي أنكره اليهود، وهو اليوم الآخر؛ ولذا قال فيه: (وَإِلَيْهِ مَئَابِ)، أي إليه وحده مآب أي مرجعي، لَا إلى غيره من مسيح ونحوه، فإنه يوم القيامة عبد، كما كان في الدنيا عبد من عباده الصالحين الأبرار وإن كانت له منزلة الرسل كإخوانه من أولي العزم من الرسل.
وحض الله تعالى بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (إِلَيهِ أَدْعُو)، أي أدعو إليه وحده، فتقديم الجار والمجرور يدل على أنه لَا يدعو إليه غيره، فلا يدعو ابنا، ولا أما لهذا الابن، ولا روح قدس وغير ذلك مما توهمته الأفلاطونية الحديثة، وأخذوه منها كما يؤخذ الباطل من سلسلة الباطل.
وقد بين الله تعالى معنى الرسالة المحمدية فقال عز من قائل:(8/3963)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
(وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
كذلك، التشبيه بين ما هو كائن، وما قدره الله تعالى، وأحكمه، أي كهذا الذي تراه من نزول القرآن بلسان عربي مبين قدرناه وأحكمناه حكما عربيا، ووصف الحكم الإسلامي بأنه عربي؛ لأن القرآن الذي هو حجته عربي؛ ولأن الرسول الذي بعث به عربي؛ ولأنه من سلالة إبراهيم أبي العرب، ولم يكن من سلالة إسحاق، بل من سلالة إسماعيل ضئضئي العرب.
وليس معنى ذلك أنه مقصور حكمه على العرب فتلك فرية، إنما معناه في الحدود التي ذكرناها؛ لأن القرآن شريعته عامة للناس كافة، لَا فرق بين عربي وأعجمي.
ويصح أن يراد من كلمة (حُكْمًا) قرآن، أي أنزلناه قرآنا عربيا، وعبر عنه بحكم؛ لأن ما اشتمل عليه هو الحكم القائم إلى يوم القيامة.(8/3963)
والعربية صفة الشريعة وإن كانت عامة في تطبيقها؛ وذلك لأن الشريعة نزلت، واختار الله تعالى نبيه من بينهم، (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. . .)؛ وذلك لأن العرب من بين الأمم كانوا أعرف الناس بالله فهم كما ذكرنا في عدة من كتاباتنا كانوا يؤمنون بأن الله خالق السماوات والأرض ومن فيهن، ويؤمنون بأنه واحد في ذاته وصفاته، ولكنهم كانوا في العبادة يشركون معه الأوثان، وغيرهم من الأمم التي عاصرت مبدأ الإسلام ما كانت فيها معرفة الله تعالى تلك المعرفة فكانت جديرة بأن تكون أرض الدين الذي يدعو إلى التوحيد المطلق، إذ كانت فيه بذوره، فكان عمل محمد - صلى الله عليه وسلم - تقويم سوقه.
وإن ذلك يقتضي ألا يتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - أهواء المشركين، ولا أهواء أهل الكتاب؛ ولذا قال تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) الضمير في (أَهْوَاءَهُم) يعود إلى المشركين وأهل الكتاب، وقد وصف بأن ما هو عليه هوى الأنفس، وشهوة العقل الفاسد، فهو الخاضع للأوهام الذي لَا يسيطر عليه عقل مدرك، ولا جاء من العلم للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو علم التوحيد، وعلم التكليف، وكل ما عداه انبعث من الهوى وضلال الفكر، وفساد الاعتقاد، واللام في قوله تعالى: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ) هي لام مؤكدة ممهدة للقسم، وما جاء بعد ذلك جواب القسم لا جواب الشرط؛ لأنه إذا اجتمع الشرط والقسم يكون جواب القسم أولى وأجدر، ويكون دالا على جواب الشرط، فالكلام فيه قسم مطوي، وهو تأكيد للحكم، وهو العذاب الذي ينزله الله تعالى، ولا وقاية منه، أيا كان الواقي، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وليس هناك احتمال لأن يتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - أهواءهم فما اتبعها قبل أن يبعثه الله رسولا، فكيف يتبعها بعد أن شرفه الله تعالى بالرسالة العامة الخالدة، وإنما الخطاب له ابتداء، لتقتدي به أمته، وتتبعه، أو يكون الخطاب لكل قارئ للقرآن مخاطب بأحكامه وبيانه، وجواب القسم (مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ) من الله متعلق بـ (وَاقٍ)، ومن الثانية لاستغراق النفي، أي ليسى لك واقٍ من عذاب الله تعالى أي واقٍ كان، كقوله(8/3964)
تعالى: (. . . مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نصِيرٍ).
اللهم قنا شر غضبك، واجعلنا في وقاية من معصيتك، فإنها الوقاية من النار.
* * *
الرسل من البشر
قال اللَّه تعالى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
* * *
كان المشركون يقولون: إنه لَا يكون رسولا لله تعالى إلا ملك يجيء إليهم، ولا يكون بشرًا، وقد رد الله تعالى في كلامهم في أكثر من آية في ثنايا كتابه الكرم: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ)، وكانوا يقولون: (. . . مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ. . .).
وفى هذه الآية بين سبحانه وتعالى أنه قد سبق الرسل والأنبياء مثل إبراهيم وإسماعيل، وأولاد إبراهيم من إسحاق فكل أولئك كانوا رسلا وأنبياء وكانوا بشرا، فقال تعالى:(8/3965)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً)، ومما(8/3965)
كان لهم مشركين أو أهل كتاب أن ينكروا رسالة رسل كانت لهم أزواج وذرية، وأبو الأنبياء إبراهيم الذي كان شرف العرب، ومجدهم الذي يتفاخرون به كان رسولا، وهم لَا يزال عندهم بعض شريعته في الحج، وهو باني البيت الحرام بأمر ربه، فقد كان رسولا نبيا، وكان زوجا كريما، ومن ذريته إسماعيل وإسحاق وقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ. . .)، والزوجية لازمة من لوازم البشرية، والملائكة لَا يتزاوجون ولا يتناكحون ولا يتناسلون.
ولقد أكد سبحانه رسالة هؤلاء الرسل من البشر، بـ قَدْ، وباللام، وقوله تعالى: (مِّن قَبْلِكَ) رسالتك، فلست بدعا، وكان حقا عليهم ألا يعترضوا بذلك الاعتراض.
هذا الاعتراض الأول الذي كانوا يعترضون به على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهم يحسبون أن الرسول لَا يكون إلا ملكا وذلك يناقض ما هو معلوم عندهم من رسالة موسى، ونبوة إسماعيل، ورسالة إسحاق، ونبوة يعقوب عليهم السلام.
الأمر الثاني الذي اعترضوا به المعجزة، فهم يريدون آية غير القرآن تدل على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا يقولون لولا أنزل عليه، كأنهم لَا يعتدون بالقرآن أية معجزة، وقد تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا.
وقد رد الله سبحانه كلامهم بقوله سبحانه: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّ)، إن ما كان من شأن الرسول أن يأتي بآية يثبت بها رسالته عن الله إلا بإذنه، فالآية من شأن من أرسله لَا من شأنه، فالله هو الذي يرسل، وهو الذي يعطي لرسوله المعجزة التي تثبت أنه يتحدث عن الله، ومثل المعجزة بالنسبة للرسول كمثل الأمارة التي تكون شاهدة بصدق الرسالة عن الله تعالى، فهو سبحانه وتعالى الذي يختارها.
وقد اختار القرآن دليلا على الرسالة، ولكل زمن المعجزة التي تناسبه، ولذا قال تعالى: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)، أي لكل زمن أمر قد كتبه الله تعالى في قدره،(8/3966)
فكان لزمن موسى ما كتبه من معجزات، وكان لزمن عيسى معجزات كتبها سبحانه وقد كانت معجزة عيسى عليه السلام خرقا لنظام الأسباب والمسببات، لأن الزمان كان يناسبه معجزات خارقة لنظام الأسباب والمسببات، وكان عيسى ذاته في وجوده معجزة خارقة لنظام الأسباب، فكذلك كان إبراؤه للأكمه والأبرص، وإحياؤه للموتى، وإخراج الموتى من قبورهم، فكان هذا مناسبا لأجلها وزمنها، وكان كتاب الله تعالى بها، والزمن الذي عاش فيه ورسالته الخالدة، كان يناسبها، كتاب خالد يتحدى الأجيال جيلا بعد جيل، وهو أعظم من كل معجزات عيسى، وموسى وإبراهيم، لأن هذه المعجزات حوادث تنقضي، وتنتهي بزمانها، ولا يراها إلا من شاهدها، ولولا أن القرآن سجلها ما علم بها أحد، أما القرآن فمعجزته خالدة باقية تتحدى الناس جميعا جيلا بعد جيل، لأن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - خالدة، فكانت معجزتها خالدة باقية تدل على صدقها أمام كل الناس في كل زمان.
وإن كل زمان له معجزته كما ذكرنا، فلا تكون آية صالحة لكل زمان، وإن الله تعالى يمحو كل معجزة إلا في زمنها، ولذا قال تعالى:(8/3967)
يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
(يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
يمحو الله من الآيات ما يشاء محوه منها، ويثبت ما شاء منها، فإذا كانت العصا معجزة في عصر موسى، وأقامت الدليل على رسالة موسى عليه السلام، فإن الله تعالى نسخها، ولا تكون آية لإتيان رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويثبت له آية أخرى، وهي القرآن الكريم، وإذا كان عيسى له آيات خرقت نظام الأسباب والمسببات، فقد نسخها الله تعالى، وأثبت لمحمد - صلى الله عليه وسلم - معجزة أخرى تناسب رسالته، وتبقى ببقائها، فيثبتها الله تعالى. هذا ما نراه تفسيرا للمحو والإثبات، ونرى أنه يمكن أن يكون التفسير الذي يتسق مع ما قبلها وما بعدها من الآيات، فالكلام في الآيات التي يطلبونها إعناتًا وعنادًا.
وقد قال الزمخشري عدة معان تحتملها الجملة السامية، وهذا نص ما قاله: " إنه يقول يمحو ما يشاء ويثبت، أي يأتي من الشرائع بما شاء، وينسخ منها ما(8/3967)
يشاء، وعنده أم الكتاب الأصل الذي لَا يمحى، ولا يقبل المحو، وهو التوحيد، فشرائع النبيين ينسخ بعضها بعضا، ولكن الأصل قائم، وهو أم الكتاب، أي الشرع المكتوب المقرر في كل الشرائع، وهو التوحيد، كما قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. . .). وإن هذا يتسق مع قوله تعالى: (وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ).
ولقد قال الزمخشري في هذا المعنى: (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ)، ينسخ ما يستصوب نسخه، ويثبت بدله ما يرى المصلحة في إثباته أو يتركه غير منسوخ، ويسوق أقوالا أُخر.
وإنا نرى أن هذين الوجهين كافيان في البيان، ويمكن الجمع بينهما بأن يكون المحو، بإلغاء آيات مادية، والإثبات إثبات أخرى، وإن تكون الشرائع السماوية التي جاءت بها الرسل، ينسخ بعضها بعضا، ولكن يبقى الأصل القائم وهو أم الكتاب، وهو التوحيد، والعدل، وإقامة الحق، والإصلاح في الأرض.
وقد قال الفخر الرازي في التفسير الكبير ما نصه:
" العرب تسمى كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أُمًّا له، ومنه أم الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة، وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى فكذلك أم الكتاب هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب ".(8/3968)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
(وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
إن الشرطية مدغمة في تاء الدالة على توكيد التعليق، وليست زائدة، كما يعبر بعض النحويين، فليس في القرآن زائد، وإنما الزائد في إعرابهم، وفعل الشرط هو نرينك، أو نتوفينك، والمعنى إما أن نريك بعض الذي نعدهم من أهوال(8/3968)
تنزل بهم في حياتك، أو نتوفينك قبل أن ينزل بهم ما نعدهم به، كيفما كانت الحال، فإنه نازل بهم جزاؤهم في الدنيا ما استقام أهل الإيمان على الطريقة، فإن حادوا عنها، حيد لهم.
وقد تأكد الشرط بما الدالة على التوكيد، وبنون التوكيد الثقيلة التي تلازم " ما " غالبا، وتوكيد الشرط توكيد للتعليق كله، أي أن الارتباط بين الشرط والجواب مؤكد، فإنه إذا لم تر بعض ما وعدهم الله به من عقاب بوفاتك قبله، أو تراه فإنه نازل بهم، وقد أديت ما وجب عليك من تبليغ وبقي أن ينفذ وعيد الله تعالى فيهم، ونعدهم أي الإنذار الذي أنذرهم الله تعالى به، فوعد بمعنى أوعد.
وأحسب أن القرآن عبر عن الإيعاد بالوعد في جملة ما جاء به من إنذار.
وقوله تعالى: (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) ليس هو جواب الشرط، وإنما يدل عليه والجواب مثلا، أنزلنا بهم ما وعدنا، وأريناك مصارعهم، وما عليك أي تبعة من أمورهم (فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ)، إنما للقصر، أي ليس عليك إلا البلاغ، وقد بلغت، وعلينا الحساب، العقاب، وعبر عن العقاب بالحساب، لأنه جزاء لما فعلوا، ويفعلون، وهو ذاته حساب لهم على ما آذوا المؤمنين وهم مستمرون في غلوائهم، وذلك كقوله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26).
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى بعض ما ينزل بهم من وعده الذي أنذرهم به.(8/3969)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
قال ابن عباس في معنى ذلك النص الكريم: " أو لم يروا أنا نفتح لمحمد - صلى الله عليه وسلم - الأرض بعد الأرض ونقصان الأرض من أطرافها، اقتطاعها جزءًا جزءًا من سلطانهم، وذلك بحروبهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن عذاب الله تعالى الذي ينزله في(8/3969)
الكافرين جزاء كفرهم يكون بأحد أمرين، إما اجتثاثهم من الأرض، وأخذهم من حيث لَا يحتسبون بريح عاصف أو بخسف يجعل عالي ديارهم سافلها، أو بطرق يحيط بهم فلا يبقي ولا يذر، وحيث لَا يكون من أصلابهم من يعبد الله، وقد أوقع الله تعالى هذا بالذين بعث فيهم الأنبياء قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - من نوح وهود، وصالح، وشعيب.
والأمر الثاني: أن يكون ذلك بالمغالبة، يقاتلون، فيقتلون، ويقتلون، والعاقبة للمتقين، وإن ما نزل بمشركي مكة، واليهود كان من الثاني لَا من الأول، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إني لأرجو أن يكون من أصلابهم من يؤمن بالله واليوم الآخر ".
ويقول تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) الاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع بمعنى النفي، ونفي النفي إثبات، فالاستفهام الإنكاري داخل على " لم " والمعنى التنبيه على ما هو واقع بهم، والواقع أنهم يرون أن الله أتى الأرض ينقصها من أطرافها عليهم، وإسناد الإتيان للأرض إلى الله تعالى للدلالة على أن الله تعالى مع جيش المسلمين الذي يأتي الأرض التي لهم النفوذ، والسلطان فيها، ويتلاقون مع سكانهم في الشرك الذي يجمعهم و (نَنْقُصُهَا) نأخذها جزءًا فجزءًا من دائرة الكفر، حتى تضيق حوزتهم، وتضيق الدائرة عليهم شيئًا فشيئًا حتى يحيط بهم، ويصلح الرسل من الأرض، وكذلك كان الأمر، فقد كانت الغزوات والسرايا تنزل بالمشركين، وقد ذهبت إلى ما حول مكة وأطراف الجزيرة داعية إلى الله تعالى مجاهدة، فكانت الأرض تنقص من نفوذهم من أطرافها، بسببين:
أولهما: وهو أن دعوة الإسلام تدخل إلى قلوبهم من يسري إليهم ثلة من جنود المسلمين، وفي ذلك نقص من سلطانهم، وخروج من نفوذ مكة وأهلها.
ثانيهما: أنه يقتل من المشركين عدد، وإن لم يكن كثيرًا، إلا أنه يبعدهم عن مكة وأهلها.(8/3970)
وإن إتيان الله للأرض إتيان لقوة الله قوة الحق والإيمان فهو سبحانه يأتي القلوب فتزمن، ويعمرها بالإيمان، وكل عمران بالإيمان، نقص للأرض من سلطان الكفار.
وإذا دخل الإسلام أرضا كان هو الحكم وحده، لَا معقب لحكمه، أي لا يخرج منه ويجيء عقبه حكم غيره، فالإيمان الصادق إذا دخل النفوس لَا يخرج منها لأنه يكون به سكونها واطمئنانها وقرارها.
وقد قال الزمخشري، وهو ابن نجدتها (لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) لا راد لِحُكْمِهِ، والمعقب الذي يكر على الشيء فيبطله، وحقيقة الذي يعقبه بالرد والإبطال، ومنه قيل لصاحب الحق، معقب لأنه يعفى غريمه بالاقتضاء والطلب؛ لذا قال لبيد: " طلب المعقب حقه المظلوم "، والمعنى أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال، وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس.
ومعنى قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَحْكُمُ)، أي الله وحده يكون الحاكم للنفوس، وليست الأهواء المتحكمة، ولا قهر الأقوياء للضعفاء، إنما هو الرحمة والعدل، ولا حكم يتعقبه.
ويكون للذين كانوا يسيطرون الحساب، وإنه لقريب، وإنه لسريع؛ ولذا قال تعالى: (وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)، أي أن الحساب آت لَا ريب، وكل آت فهو سريع، لأنه مؤكد الوقوع، وعدد السنين والشهور لَا قيمة له ما دام مؤكد الوقوع، وما يكون سريع الحساب يكون شديد؛ لأنه يفاجئ المنكرين من حيث لا يحتسبون؛ ولأن سرعة الحساب يكون لأجل غرض العقاب، ولتحقيق معنى الجزاء، وذلك يكون على قدر ما ارتكب المسيء، والله عزيز ذو انتقام.
* * *(8/3971)
قال اللَّه تعالى:
(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
* * *
المكر العمل على صرف غيره عن مقصده بحيلة، وأنه يأخذ وصف الذم والحمد، من المقصد الذي قصد الصرف، فإن كان ذلك القصد مذمومًا، فالصرف عنه خير، ما لم يكن السبيل ذاته شرا، وإن كان القصد محمودا، فالصرف عنه مذموم؛ لأن الصرف عن المحمود يوجب الذم.
وعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى:(8/3972)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
(وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) الضمير يعود إلى المشركين، أي مكر الذين من قبلهم الذين ساروا هم على سننهم، وضلوا ضلالا بعيدا مثلهم، ولا شك أن من هذه حالهم مكرهم يكون لتحويل الناس عن إطاعة النبيين، وصرف النبيين لهم عن اتباعهم، وذلك بطرق التدبير السيئ المختلفة من اضطهاد وأذى وسخر بهم، وقيل لهم أحيانا، والشتم والذم في أكثر الأحيان، فقد سخر قوم نوح منه وممن تبعه، وقالوا ما اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي، وكذلك قوم هود وقوم صالح، وآل مدين قوم شعيب.
وذكر هذا الخبر للمشركين لبيان أنهم لن يضيروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه مكرهم إلى هباء، ولا يعد شيئًا بجوار مكر الله تعالى، والتدبير للمؤمنين لينجوا من شرهم؛ ولذا قال تعالى: (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا)، أي لله وحده التدبير الذي يحول القلوب، وقد دل هذا النص السامي على ثلاثة أمور:(8/3972)
الأمر الأول: أن مكرهم لَا اعتداد به، ولا ثمرة له في تحقيق الغاية التي أرادوها، وهو تحويل الناس عن عقائدهم إذا آمنوا بها.
الأمر الثاني: أن القلوب بيد الله، وهو الذي يهديها، وهو الذي يتركها تسير في مهواة الضلالة، حتى تنهوي فيها.
الأمر الثالث: أن الله مذهب كيدهم، وجعلها في هباء، وناصر أهله.
وإن الله تعالى تدبيره منتج مثمر لَا محالة؛ لأنه يعلم ما تكسب كل نفس من خير أو شر، وتتحدث به النفوس، وما تكسبه الجوارح، وهو وحده مقلب القلوب.
قلنا: إن ذكر مكر السابقين لبيان العبرة للمشركين الذين عاندوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومحاولتهم فتنة المؤمنين لتحويلهم عن دينهم الذين ارتضوه، وفيه إشارة إلى بطلان مكرهم، وإلى أن مكر الله فوقهم، وأنهم إذ يمكرون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما يقاومون بمكرهم مكر الله وتدبيره للمؤمنين أوليائه؛ ولذا قال تعالى مهددا لهم: (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) الكفار (ال) فيها للعهد، أي كفار العرب من مشركين ويهود، ومن لفَّ لفهم، والسين لتأكيد وقوع الخبر في المستقبل، والعلم الذي سيعلمونه علم معاينة، لَا علم خبر وإخبار، إن تتوالى عليهم الهزائم هزيمة بعد هزيمة حتى تصير الأرض العربية كلها تحت ظل الإسلام الظليل، ويخرج المشركون من رجس الوثنية، والفساد اليهودي المنحرف، وتكون الكلمة العليا لله ولرسوله، وللمؤمنين، ومن بقي على كفره يعلم علما آخر بعقبى الدار في جهنم للكافرين، والجنة للمؤمنين.
وقوله: (لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) لِمَنْ جار ومجرور، والمعنى لمن تكون عقبى الدار، أي عاقبة هذه الحياة الدنيا التي تكون فيها هذه المغالبة بين الحق والباطل، والكفر والإيمان، وإن العقبى هي غلب الإيمان في الدنيا، والجنة لمن آمن في الآخرة، والنار لمن عصى، والله سبحانه وتعالى أعلم.(8/3973)
ولقد اشتد المشركون في الإنكار، ومالأهم على ذلك اليهود.(8/3974)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
ذكر سبحانه بعض مكر المشركين وغيرهم التي يقصدون بها تحويل المؤمنين وفتنتهم عن دينهم، فذكروا أنهم يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (لَسْتَ مُرْسَلًا)، فهم يسلمون بأن لله رسالة، ولكن لست من أصحابها، فالله لم يرسلك، وهم بهذا ينكرون رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وينكرون أن يكون له معجزة دالة على هذه الرسالة، ويريدون آيات أخرى غير القرآن، إذ لَا يعدون القرآن آية، وما كان للنبي أن يأخذ كلامهم أخذ من يعتبره، وقد قام الدليل عليه بالتحدي، وإدراك أهل الذكر منهم ما فيه من نسق، ووثيق نظم، ولذا أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)، أي كفا الله شهيدا بيني وبينكم، فهو الحق وشهادته الحق، وليست شهادته كلاما يردد، ولكن شهادته معجزة تفحم، وقد جاءت الخوارق تترى بشهادة الحق في كل ما ترون من حياته، وما أحاط بها، وما دبرتم وقد رد تدبيركم في نحوركم، وقوله تعالى: (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) فيه تهديد لهم بما يكون لإنكارهم من عواقب وخيمة عليهم تنصر أهل الحق.
ويصح أن تقول: (شَهِيدًا) معناه حاكم، لأن الشهادة تجيء بمعنى الحكم، كما في قوله تعالى: (. . . وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا. . .)، والمعنى وكفى بالله حاكما بيني وبينكم، ويرشح لهذا المعنى عبارة بيني وبينكم، فالحكم هو الذي يكون بين اثنين، وأما الشهادة فتكون لأحد الفريقين على الآخر. وقوله تعالى: (وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) الكتاب إما أن يراد جنس الكتاب، ومن عنده علم الكتاب هو العالم بالكتب السماوية قبل تحريفها، فإنها تشهد بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتحكم بأنه رسول، هذا التبشير بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في التوراة والإنجيل،(8/3974)
ولا يزال آثاره معها باقية إلى اليوم تعرف برموزها لمن عنده علم بالكتاب، هذا إذا كان المراد جنس الكتاب، ومن عنده علم بكتاب أهل الفقه المخلصين من الكتابيين.
وإذا أردنا الكتاب وكانت (ال) للعهد، يكون المراد هو القرآن الكريم، ومن عنده علم القرآن هو العليم بأساليب الكلام العربي يعرف شعره ورجزه، وإرساله ونثره، ويعرف ما في الكلام، كما روي عن فصحاء العرب، فإن هؤلاء يشهدون بإعجازه كما يقول قائلهم: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، ما يقول هذا بشرا، وإنه ليعلو، ولا يُعلى عليه.
هذا وإني أرى الوجه الثاني، وكلاهما عميق في معناه.
* * *(8/3975)
(سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ)
تمهيد:
سورة إبراهيم مكية إلا الآيتين 28، 29، وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية، وسميت سورة إبراهيم لما فيها من قصص إبراهيم وولديه إسماعيل وإسحاق، وسكن إسماعيل وذريته بجوار بيت اللَّه المحرم، ولكن لم يتخذ شخص إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - محور السورة، كما كان الشأن في سورة يوسف - صلى الله عليه وسلم -. ابتدئت السورة الكريمة بالحروف المجردة وهي (الر) ثم ذكر الكتاب الكريم وأن اللَّه أنزله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد، وذكرت السورة ملك اللَّه للسماوات والأرض وما فيهما، وأن الويل للكافرين بآياته الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، ويصدون عن سبيل اللَّه تعالى ويبغونها معوجة، وأولئك في ضلال مبين.
ويذكر اللَّه سبحانه أنه ما أرسل من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم، فيضل اللَّه من يشاء ويهدي من يشاء، وهو العزيز الحكيم.
وبعد ذلك يشير اللَّه سبحانه إلى طرف من قصة موسى وقومه، فيذكِّر سبحانه على لسان موسى بنعمته عليهم إذ أخرجهم من آل فرعون يسومونهم سوء العذاب، ويبين سبحانه وتعالى أنهم إن شكروا زادهم نعما على نعم، ويقول موسى لقومه (. . . إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ).
ويشير سبحانه من بعد ذلك إلى أبناء قوم نوح وعاد والذين من قبلهم لا يعلمهم إلا اللَّه، جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم، وعضوها غيظا، وقالوا إنا بما أرسلتم به كافرون، وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب.(8/3976)
ويحكى سبحانه وتعالى دعوة الرسل عامة، ومجاوبة المشركين المتشابهين عامة، قالت لهم رسلهم: (. . . أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ ويُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مسَمًّى. . .) فيرد عليهم الكافرون وهو رد متحد عند الكافرين جميعا، قد انبعث عن جحود واحد فاتحد. . قالوا: (. . . إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10.
وكان رد الرسل واحدا (. . . إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، وقد قرروا أنهم لَا يتوكلون إلا على اللَّه، وليصبرن على أذى أقوامهم.
ولقد كان الإيذاء متحدا من الكافرين، إذ اتحد السبب المنبعث منه وهو الجحود، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14).
وإنه من بعد ذلك الخزي في الحياة الدنيا يكون العذاب الشديد، (. . . وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ. . .).
وقد مثل اللَّه تعالى أعمال الذين كفروا في الكفر بأن (. . . أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18).
ثم بين بعد ذلك خلق السماوات والأرض (. . . إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)، وقد صوِر اللَّه سبحانه وتعالى حالهم يومِ القيامة، إذ تجادل الضعفاء والذين استكبروا (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. . .)، قال(8/3977)
الذين استكبروا (. . . لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لهَدَيْنَاكمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ).
ويدخل الشيطان في الجادلة فيقول: (. . . إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22).
وقد ذكر سبحانه بعد ما كان بين المشركين ضعفاء ومستكبرين والشيطان، ذكر سبحانه وتعالى إدخال المؤمنين الجنة.
(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23).
وقد ضرب سبحانه مثلا يفرق بين الإيمان والكفر بالفرق بين الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، فالكلمة الطيبة (. . . كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)، والكلمة الخبيثة (. . . كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27).
وذكر سبحانه أن حال الكافرين حال عجيبة تثير الاستفهام، فقد (. . . بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)؛ وذلك لأنهم جعلوا للَّه أندادا من الحجارة، وقد صاروا بذلك غير مدركين حقائق أمورهم، وجديرون بأن يقال لهم (. . . تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ)، وذكر في مقابل ذلك المؤمنين الذين لم يبدوا نعمة الله كفرا، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقناهم سرا وعلانية من قبل أن يأتي يوم لَا بيع فيه ولا خلال.(8/3978)
ولقد ذكر اللَّه نعمه على خلقه، فهو (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34).
ولقد ذكر اللَّه تعالى بعد ذلك خبرا صادقا عنِ إبراهيم أبي العرب، وكيف كان يدعو اللَّه ولا يعبد الأصنام، (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36).
وأخذ يدعو لذريته في البلاد العربية بسعة الرزق فقال:
(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41).
ذكر اللَّه سبحانه وتعالى أدعية إبراهيم ليكون ذلك تذكيرا لذريته من العرب، ليتركوا الأوثان ويتجهوا إلى الضراعة إلى اللَّه تعالى كضراعة جدهم أبي الأنبياء إبراهيم.
ولقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك أن اللَّه لَا يخلف وعده رسله يوم القيامة، فقال عز من قائل: (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)(8/3979)
وقد أمر الله تعالى نبيه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن ينذر قومه بيوم القيامة، وبما كان قد نزل بمن قبلهم، فقال تعالى: (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46).
ولقد حذر اللَّه تعالى من نزول وعده، وذكر سبحانه أنه في يوم القيامة يكون الجزاء، تجزى فيه كل نفس بما كسبت إن اللَّه سريع الحساب. (هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52).
* * *
معاني السورة الكريمة
قال اللَّه تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
* * *(8/3980)
تكلمنا في هذه(8/3981)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
(الر) وذكرنا أنها من المتشابه الذي اختص به علم اللَّه تعالى، وأشرنا إلى بعض ما نحاول أن نتعرف به الحكمة في وجوده، وما كان من اللَّه ما يسوغ أن يوصف بأنه جاء لغير حكمة وإن خفيت على العقول جلها أو كلها. وهذه الحروف إذا جاء بعدها ذكر الكتاب كانت مبتدأ والكتاب خبره، وهي هنا كذلك، فقوله تعالى: (الر) مبتدأ خبره (كِتَابٌ)، ويكون الابتداء فيه إشارة واضحة إلى أن هذا الكتاب مكون من تلك الحروف التي يتكون منها كلامكم، ومع ذلك عجزتم عن أن تأتوا بمثله، فلا يدل هذا على أنه من عند أمثالكم من البشر، بل من عند خالق البشر، ويرشح لذلك كون الكتاب خبرا لهذه الحروف.
و (كتَابٌ) التنكير فيه للتعظيم، والمعنى كتاب عظيم الشأن لَا يدرك كنهه، ولا تحيط به أفهام البشر، إلا إذا كان ذلك بتوفيق من اللَّه، وما يعلم تأويله إلا اللَّه، وأضف إلى ذلك ما يقوي مكانته أو يحققها، وهو أمران ذكرهما اللَّه تعالى:
الأمر الأول: أنه أضافه إلى اللَّه تعالى على أنه نازل من لدنه في سموه سبحانه، إلى منتهاه في نزوله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو قوله تعالى: (أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ)، وبالإضافة إليه سبحانه بضمير الجمع؛ لأنه الضمير العائد إلى اللَّه خالق الوجود كله، عاقله وغير عاقله، إنسه وجنه، وهو الحكيم الخبير.
الأمر الثاني الذي يكشف عن عظمة الكتاب: وهو شرف ذاتي فوق شرفه الإضافي بالنسبة إلى الله تعالى، وهو أنه يخرج الناس - إذا أدركوه - من ظلمات الضلال إلى نور الهداية وذلك بتبلجغ محمد - صلى الله عليه وسلم - له، وهذا هو قوله: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِم) فهذا النص السامي يدل على أن القرآن هادٍ ومرشد يخرج به النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس من الضلال إلى الهدى بإذن اللَّه، ففي ذلك ثلاثة معان: أولها: أن الضلال كالظلمة، وثانيها: أن الهداية كالنور، وثالثها: أن الأمور كلها بتوفيق من اللَّه، فمن سلك سبيل الهداية وصل إلى الغاية، ومن لعملك طريق الضلال وصل إلى نهاية الضلال البعيد.(8/3981)
وعلى ذلك ففي التعبير بالظلمات والنور استعارة، تشبيه الضلال بالظلمة؛ لأن السائر فيها كالسائر في ظلام لَا يعرف طريقه فيكون في حيرة دائمة لَا ينتهي فيها إلى حق واضح ولا إلى طريق لاجب، وشبهت الهداية بالنور، لأن من هداه اللَّه تعالى يكون في نور يعرف به طريقه الهادي المرشد إلى أقوم طريق وأهدى سبيل.
وقد عرف اللَّه سبحانه وتعالى بالبيان إلى أن النور صراط اللَّه العزيز الحميد.
الصراط: الطريق المستقيم، وهو أقرب ظريق للوصول إلى الحق، وهو في هذا الوصف العظيم مضاف إلى اللَّه تعالى فيزداد شرقا وتكريما، وهو صراط العزيز الذي لَا يقهر، وهو فوق كل شيء والغالب على كل أمر وحده، ومن سلك طريق الحميد، فإن العاقبة فيه محمودة، فهو محمود في ذاته ومحمود في غايته ونهايته.
ومن سلك غيره ذل، ولا يحمد العاقبة، والعاقبة هي السوءى.
وقد ذكر سبحانه القلوب المظلمة، فقال عز من قائل:(8/3982)
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
(اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
صدر سبحانه الجملة التي فيها كمال سلطان اللَّه تعالى في الوجود بلفظ الجلالة، لتربية المهابة في نفس القارئ، ولأن ذلك يتلاقى مع سلطان اللَّه الكامل، و (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) للدلالة على ملكيته لكل ما في السماوات، وتكرار (مَا فِي) لدلالة على كمال استغراق الملكية له سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير، مالك كل شيء، وذكر سبحانه ملكيته لما في السماء والأرض وذلك يقتضي ملكيته لهما، لأن ملكية ما يشتملان عليه يقتضي - لَا محالة - ملكيتهما، إذ ملكية المظروف تقتضي ملكية الظرف، وإن الملكية الكاملة لهذا الوجود كله بما فيه من أجرام، وأحياء عاقلة وغير عاقلة يتضمن أنه يملك الأنداد، وأنها وعُبادها في قبضته سبحانه العليم بكل شيء، وفي ذلك برهان قاطع أنها غير جديرة بالعبادة؛ ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذكر سلطان اللَّه تعالى في الوجود(8/3982)
كله، وأنه لَا سلطان لغيره ذكر بعض مقتضياته، وهو كفر من يعبد الأوثان، واستحقاقه للعذار،، ولذا قال تعالى: (وَوَيْلٌ للْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) الويل: الهلاك، وقال الزجاج: هي كلمة تقال للعذاب والهلاك (مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) في ذاته، وفي هذا إنذار ووعيد، والمعنى هلاك لهم من عذاب شديد.
وكأن المعنى كما يقول الزمخشري: يولولون من عذاب شديد، ويصيحون قائلين يا ويلاه. وننبه هنا إلى أمرين:
أولهما: أن ذكر الويل ينزل بالكافرين، هو في مقابل الذين يسلكون صراط العزيز الحميد، من حيث إنهم يكونون في عزة بعزته سبحانه وتعالى، وعاقبتهم محمودة بسلوكهم طريقه المحمود، أما الذين لَا يسلكون الطريق ويخالفون مقتضى الملكية الثابته للَّه تعالى في السماوات والأرض ومن فيهن، فإنهم يكونون في ويل من عذاب شديد.
وثانيهما: اللَّه مالك كل شيء، حتى لقد قرر الفقهاء أن ملكية الناس للأشياء ملكية نسبية وليست ملكية حقيقية؛ لأن المالك في الحقيقة هو اللَّه سبحانه وتعالى.
وقد بين سبحانه وتعالى صفات الكافرين الذين لهم الويل من عذاب شديد، لَا يكتنه كنهه، ذكر سبحانه أوصافهم الظاهرة، فقال تعالى:(8/3983)
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
(الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
وصفهم سبحانه وتعالى، في هذه الآية بثلاث صفات، وختمها بجزائهم المستحق من هذه الصفات والمترتب عليها:
الصفة الأولى: أنهم (يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ)، (استحب) السين والتاء للطلب، فمعنى استحب الحياة، أي طلب حب الحياة الدنيا، وهذا يستفاد منه أولا الرغبة الشديدة؛ في الحياة بمعنى اللجاجة في طلبها، ويستفاد منه(8/3983)
ثانيا أنه يختارها على الحياة الدنيا، ويترك الآخرة تركا، كما يُترك كل مهجور، ولقد قال في ذلك الزمخشري: " هم الذين يستحبون، والاستحباب: الإيثار والاختيار، وهو استفعال من المحبة، لأن المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب منه نفسه أن يكون أحب إليه وأفضل عنده من الآخرة ".
والصفة الثانية: أنهم لَا يكتفون بإيثارهم الدنيا على الآخرة، بل يصدون عن سبيل اللَّه، أي يقفون مترصدين السبيل يصدون عنها بمنع الناس منها، وقرأ الحسن البصري (وَيُصُدِّونَ) بضم الياء وكسر الصاد، والمعنى أنهم أعرضوا عن سبيل اللَّه، وحملوا غيرهم على الإعراض عن سبيل اللَّه تعالى، وذلك بالجمع بين القراءتين، وصدهم عن سبيل اللَّه بالدعوة إلى عدم الدخول، كما كان يذهب أبو لهب إلى حيث النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى القبائل يكذّب النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعوهم إلى الإعراض أو عدم الاستماع، وأشد الصد عن سبيل اللَّه إيذاء المتبعين لسبيل اللَّه وتعذيبهم ليحملوهم على الردة عن دينهم، وسبيل اللَّه هو صراط العزيز الحميد، وهو طريق الحق والهداية وتوحيد اللَّه تعالى.
والصفة الثالثة: أنهم يبغونها عوجا، أي يطلبونها راغبين ملحفين أن تكون معوجة غير مستقيمة، بل يطلبونها ناكبة عن الطريق غير سالكة سواء السبيل، يبغونها زيفا ويطلبون الاعوجاج كما كانوا يريدون محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يكون عن سب آلهتهم ويدعونه إلى اتباع آبائهم، وكأنه جاء ليردد ما عندهم، لَا ليهديهم ويرشدهم إلى الطريق الأقوم.
ولقد بين سبحانه بعد ذلك الوصف الجامع لهم، ولذي سيطر عليهم فقال:
(أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) الإشارة إليهم محمَّلين بهذه الأوصاف التي استحبوا بها الحياة الدنيا وصارت خلب أكبادهم وآثروها على الحياة الآخرة، ورضوا بالدنية عن الحياة العزيزة الكريمة في الآخرة، وصدوا عن سبيل اللَّه وبغوا الحق معوجا غير مستقيم (أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ).(8/3984)
الضلال ضد الهداية، وضلال الطريق أن يسير في متاهة يتيه فيها، وكلما أوغل في المتاهة ازداد ضلالة وبُعد عن الغاية والنجاة من المتاهة، فهؤلاء بحبهم للدنيا دون الآخرة، وصدهم عن سبيل اللَّه وإرادتهم الزيغ دون الحق أمعنوا في متاهة الباطل، فبعدوا بضلالهم، وغابوا عن الحق وسواء السبيل.
والبُعد إما أن يكون وصفا للضلال، ويكون معنى ذلك أنهم أوغلوا في الضلال إيغالا حتى بعدوا عن الطريق السوي الموصل إلى الغاية المنشودة والذي هو طريق السلامة.
وإما أن نقول إنه وصف للضال نفسه، وذكر السياق وصفا للضلال من قبيل المجاز الرسل الذي يجعل المصدر هو الموصوف، والحقيقة أن الوصف هو للضال، واللَّه أعلم.
ولقد بين القرآن الكريم حقيقة ثابتة في الرسالات الإلهية، وهي أن يكون الرسول بلسان قومه، فقال تعالى:(8/3985)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
(مِن) هنا لاستغراق النفي ثم الإثبات، أي ما أرسلنا أي رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم، وهذا النص الكريم يفيد أنه سبحانه لَا يرسل رسولا إلا بلسان قومه الذين بعث من بينهم، وأن البيان الأول يكون لهم ثم ينبعث نور الدعوة من ورائهم، وكذلك كان النبيون، فعيسى - صلى الله عليه وسلم - بعث بلسان قومه وكانت دعوته بلسان قومه وهو العبرية، وعمت دعوته ابتداء بلسان قومه، والأناجيل التي حكت مواعظه في الجبل والسفح كانت بلغة قومه ابتداء، فإذا كانت قد ظهرت بغير لغته ولغة قومه، بل بلغة أعدائهم فإن السند يكون حينئذٍ منقطعا بين الرسالة ومن أرسل فيهم، بل بينهم، وبين الرسول ذاته، ولذا كان تحريف القول عن موضعه.
وموسى من قبل عيسى - عليهما السلام - بعث أيضا بلغة قومه وهم بنو إسرائيل ابتداء، ثم كانت لغة فرعون عندما خاطبه هو هارون.(8/3985)
وكذلك محمد - صلى الله عليه وسلم -، قد بعث بلغة قومه الذين كانت دعوته الأولى بينهم وانبعث نورها منهم ولكنها كانت عامة، كما قال تعالى عن نبيه: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُول اللَّه إِلَيْكُمْ جَمِيعًا. . .)، وكما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنًّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا. . .)، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: " بعثت للأحمر والأسود " (1).
وكونه بلسان قومه لَا يفيد أنه كان للعرب خاصة، فذلك لما قصته الآيات القرآنية الصريحة والأحاديث النبوية الشريفة والوقائع التاريخية الصادقة، فإن دعوته دخل فيها صهيب الرومي، وبلال الحبشي، ثم سلمان الفارسي، وذكر - صلى الله عليه وسلم - أن هؤلاء يصورون أجناسهم في الدعوة المحمدية، ولم يلبث النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن عمَّت دعوته الجزيرة العربية أن بعث إلى هرقل ملك الروم، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى المقوقس عظيم القبط، يدعوهم إلى الإسلام، وهكذا.
إذن فالدعوة كانت للناس قاطبة، ولكنها ككل دعوة حق تبتدئ في أضيق دائرة، ثم تتسع شيئا فشيئًا حتى تصير نورا ساطعا يعم الأكوان، فابتدأت الدعوة في أسرة الرسول وأصدقائه ثم دعيت عشيرته، كما قال تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرتَكَ الأَقْرَبِين)، ثم كان الصدع بالدعوة والجهر بها (فَاصْدَعْ بِمَا تؤْمَر وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)، ثم كانت في القبائل العربية، ثم تجاوزت ربوع الصحراء العربية إلى أرض كسرى وقيصر وسارت إلى الحبشة بعد أن عمَّت ربوع اليمن.
وقوله تعالى في مقابل إرسال الرسول عن قومه: (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
ذكر سبحانه أن البيان الأول يكون لقومه، ثم يكون بعد ذلك لغيرهم.
________
(1) من حديث ابن عباس، أخرجه أحمد، ومن مسند بني هاشم - بداية مسند عبد اللَّه بن عباس (2606).(8/3986)
والآن ونحن نرى الاختلاط الفكري بين البشرية، حتى إن الأمر ليقع في أرض فيذيع خبره، بعد أقل من ساعة في كل أنحاء الأرض، لَا نعجب في أن يكون بعث الرسول بلغة ويعم علمه بعد ساعة من نهار أو ليل كل بقاع الأرض، ولكن العجب في أن يكون في الماضي البعث بلغة والدعوة عامة، هذا ما أثاره وبينه الزمخشري، وهذا ما قاله سننقله بطوله:
" فإن قلت لم يبعث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى العرب وحدهم وإنما بعث إلى الناس الناس كافة (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِليْكُمْ جَمِيعًا. . .)
بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة، فإن لم يكن للعرب حجة فلغيرهم حجة، وإن لم تكن لغيرهم حجة، فلو نزل بالعجمية لم يكن للعرب حجة أيضا، قلت:
لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها، فلا حاجة لنزوله بجميع الألسنة؛ لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل، فبقي أن ينزل بلسان واحد، فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول؛ لأنهم أقرب إليه، فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر، قامت التراجم ببيانه وتفهيمه، كما نرى الحال ونشاهد من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة، والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه، وما يتشعب من ذلك جلائل الفوائد وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكذا القرائح فيه من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب؛ ولأنه أبعد من التحريف، وأسلم من التنازع والاختلاف. . . . . " (1).
وننتهي من كلام الزمخشري إلى أمرين: أولهما: أن نزول القرآن والدعوة المحمدية كانت باللغة العربية؛ لأنها كانت لغة النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت أقرب إليه؛ ولأن القرآن العجز إذا كان باللغة عانى غيرهم من حفظ لفظه وتفهم معانيه، وفي ذلك ثواب أولا، وصون للقرآن عن التغيير والتبديل فيه ثانيا.
_________
(1) الكشاف: 2/ 366.(8/3987)
ويشير إلى أنه لو نزل بكل اللغات، وكان معجزا فيها جميعا لكان الإيمان بالإلجاء لَا بالاختيار وله في ذلك نظرة.
وإنه يجب أن نلاحظ أمرين:
أولهما: ما قاله الشافعي - رضي الله عنه - أنه يجب أن يعرف كل مسلم قدرا من اللغة العربية يصحح به دينه.
وثانيهما: أن جعل القرآن باللغة العربية، ومحاولة الأعاجم أن يحفظوه يقرب بين اللغات، وحيث قربت اللغات قربت العلاقات الإنسانية.
وكان ذلك قائمًا يوم كانت الوحدة العربية قائمة، وكانت اللغة العربية جامعة لهم وفيها دونت ثقافاتهم وكانت وعاء للعلم الإسلامي، فلما انبعثت اللغات الإقليمية من مراقدها ذهبت الوحدة وتفرقت الكلمة.
ونعود إلى الكلام في معنى الآية الكريمة (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ)، أي أنه يترتب على البيان أن يسير الناس في طريق الضلالة، إذ يكذبون، ولا يصدقون، ويهدي اللَّه تعالى من يسير في طريق الهداية، فيأخذ بيده إلى غايتها.
وهنا يسأل سائل لماذا قُدِّمت الضلالة على الهداية؟ ونقول في الجواب عن ذلك إن الآيات سبقت لبيان إنذار الضالين، فهم موضع الإنذار؛ ولأن الشيطان قريب من نفوس البشر؛ ولأن الأهواء تجعل حكم الضلال هو الأغلب.
وقد ختم اللَّه تعالى الآية بقوله تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لبيان أن الكفار مهما يكن سلطانهم وقوتهم وحسبانهم أنهم لن يغلبوا، ويذهب بهم غرورهم إلى زعم أنهم العالون، فالله تعالى هو واهب العزة، وهو العزيز الذي يذلهم، ويجعل لأهل الإيمان الكلمة العليا، وهو الحكيم الذي يدبر الأمور بحكمته، وبعلمه الذي وسع كل شيء، فهو يمهل الكافرين ويملي لهم، كما قال عز من قائل: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي متِينٌ)، يملي لهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
* * *(8/3988)
من نبأ موسى عليه السلام
قال تعالى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
* * *(8/3989)
فى الآية السابقة ذكر سبحانه وتعالى أنه لَا يرسل رسولا إلا بلغة قومه ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويبين لهم فيضل من يضل، ويهتدي من يهتدي، وفي هذه الآية وما يليها من آيات يبين اللَّه أخبار نبي من أولي العزم بعث في قومه، وغيرهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويذكرهم بأيام اللَّه تعالى من وقائع من نزلت بمن سبقهم من الأمم، وما نزل بهم هم من نعم، وهو موسى عليه السلام، وقد أخرج اللَّه على يدي موسى بني إسرائل قومه من فرعون وظهرت آياته فيهم، ومع ذلك ضلوا من بعده، وفي حياته.
قال تعالى:(8/3990)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) أكد اللَّه تعالى إرسال موسى إلى قومه بـ (اللام) وبـ (قد)، وقومه أهم بنو إسرائيل وحدهم أم قوم موسى كل من أرسل إليهم؛ ظاهر القول بادئ الأمر أنهم بنو إسرائيل؛ لأنهم قومه وجنسه أو قبيله، ولكن موسى لم يرسل لبني إسرائيل وحدهم، إنما أرسل إلى سكان مصر وفيهم فرعون، وقد قال تعالى في رسالة موسى وأخيه هارون: (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46).
وهذه تدل على أنه بعث لمصر كلها، لَا لبني إسرائيل وحدهم، وإن كانت فضائل الرسالة عادت على بني إسرائيل بالنعمة والإنقاذ ابتداء، والهداية للجميع كانت المقصد في نهاية الرسالة وغايتها وقال تعالى: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ).
وردت أخبار من السلف بأن أيام اللَّه، الوقائع التي انتصر اللَّه فيها لكلمة الحق والإيمان، كما نزل بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وآل مدين؛ وذلك لأن كلمة (أيام) تطلق في التاريخ العربي على الحروب التي كانت لها دوي في العرب كحرب " ذي قار " الذي انتصر فيها العرب على فارس، وكحرب " الفِجَار "، وكحرب " عبس وذبيان "، وكحرب " البسوس "، إلى غير ذلك من الأيام الشداد.(8/3990)
وروي عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - أن أيام اللَّه هي النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل، والأيام التي أنزل بها اعتبارا لأهل مصر ليسلموا، فقد أنزل عليهم تسع آيات هي: الطوفان والجراد والقمل، والضفادع والدم والعصا، ويده إذ تخرج بيضاء من غير سوء، والسنين ونقص من الثمرات.
ويمثل عبارات بعض المفسرين إلى أن الأيام التي طلب اللَّه تعالى من موسى أن يذكرهم بها تعم أيام المحنة التي نزلت ببني إسرائيل وأيام النعمة، وقال الطبري في ذلك: وعظهم اللَّه تعالى بما سلف من الأيام الماضية لهم، أي بما كانوا في أيام اللَّه تعالى من النعمة والمحنة، وقد كانوا عبيدا مستذلين.
وهكذا نرى أن ابن جرير يخص الأيام بأيام اللَّه تعالى في بني إسرائيل محنة ونعمة.
والحق أن أيام اللَّه تعالى تعم أيام الشدائد، وأيام النعم، وتعم بني إسرائيل ومن سبقهم من الأمم كقوم نوح إلى آخره، وقد ذكر اللَّه سبحانه وتعالى تلك الأيام ببعض التفصيل بذكر النعم والنقم معًا.
وهذا بحث نحوي أشار إليه المفسرون اللغويون، وهو يتعلق بقوله تعالى:
(أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) فيقول: أرسل اللَّه موسى مؤيدًا بالآيات التسع التي أشرنا إليها قائلا له: (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)، أي من الضلال الذي هو كالظلمات المتكاثفة إلى الحق الذي كالنور الواضح البين، ويصح أن نقول: إن (أَنْ) تفسيرية، أي إن ما بعدها تفسير لمعنى الرسالة، وجوَّز الزمخشري أن (أَنْ) مصدرية ولا مانع من دخولها على الأمر، لأنه فعل، ويكون المعنى: أرسلنا موسى إلى قومه بإخراجهم من الظلمات إلى النور. وقد بينا أن قومه تعم كل من بعث إليهم، وهم بنو إسرائيل، وأهل مصر، وقد كانت دعوته - عليه السلام - فيهم.(8/3991)
وقد قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ)، (ذَلِكَ) الإشارة إلى إخراجهم من الظلمات إلى النور والآيات الدالة على رسالته، والأيام باشتمالها على النعم التي جاءت إليهم وأفاضها عليهم، والشدائد التي نزلت بغيرهم، (لآيَاتٍ) أي لأمارات هادية مرشدة (لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكورٍ)، وجاء ذكر الصبر بصيغة المبالغة، وذكر الشكر بصيغة المبالغة أيضا، للدلالة على أن من يعرف هذه الآيات ويدركها هو الذي صار الصبر بتمرسه له صفة كالجبلة فيه، وصار شكر النعمة والقيام بحقها كذلك، وقالوا: إن المراد الصبر على البلاء، والشكر على النعماء، وإلى أن الصبر كما يكون في النقمة يكون أيضا في النعمة، والصر بالنعمة ألا تدفعه إلى الغرور، والأشر والبطر، كما قال تعالى: (. . . وَنَبْلُوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. . .)، والنقمة أيضا تحتاج إلى الشكر، إذ تذكر بما أنعم وأكرم في حال البلاء والاختيار، فيكون الشكر على ما أسلف على رجاء الإنقاذ مما أوقع، ثم يكون الشكر على الماضي والحاضر.
ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى بعض ما أنعم، فقال تعالى:(8/3992)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
(إِذْ) ظرف زمان للماضي، والخطاب لمحمد - صلى الله عليه وسلم - يذكر بنعم الله تعالى على المظلومين، وأنه سبحانه ينقذهم من أذى طاغية الدنيا في عصره، وهو فرعون، وإن هذا إيذان بأنه ينقذ النبي ومن معه من المشركين، وجاعلا لهم السلطان عليهم، وقوم موسى هنا متعين أن يكون لبني إسرائيل، وإن كان قوله: (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) لَا يخصهم، بل يشملهم وغيرهم.
يقول لهم رسول اللَّه الذي أنقذهم على يديه: (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ)، أي أصحاب فرعون ونصرائه ومعاونيه على الشر، ونرى(8/3992)
أن فرعون في أكثر الآيات المثبتة لظلمه القاسي الغاشم لَا يذكر فرعون وحده، إنما يذكر ملؤه أو آله، أو غير ذلك مما يدل على المؤازرين له، وهذا ينبئ بمعنى أن سنة اللَّه تعالى في خلقه أن الطغاة لَا يطغون بذات أنفسهم، ولكن بمؤازرة من الأشياع والأتباع، ولو كانوا مرشدين ما كان منهم ذلك الظلم الغاشم فهم آثمون معهم.
وقد كانت النجاة أو الإنجاء من أقسى المظالم الإنسانية، بشاعة وقسوة، كما حاول من ساروا على دأبه - أسكنهم اللَّه معه في السعير، فهم وهو على سواء، إلا أنهم أشد؛ لأنهم جاءوا بعد أن جاءتهم البينات.
و (إِذْ) بدل من الأولى، وقد بين اللَّه تعالى ما أنجى منه فقال:
(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَستحْيُونَ نِسَاءَكُمْ).
(يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ)، أي يذيقونكم أشد العذاب سوءا من استرقاق، وإذلال وتكليفكم المشاق الغلاظ الشداد، أو استباحة لكرامتكم، وإبعادكم عن أماكن السلطان وجعلكم أرذالا تابعين، ولم يجعل منكم سادة متبوعين، حتى أنقذكم اللَّه من هذا فجعلكم سادة أنفسكم، وعبر عن ذلك سبحانه وتعالى بقوله: (. . . وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا. . .)، أي مسيطرين على أنفسكم ولستم خاضعين لغير اللَّه تعالى، وقال سبحانه وتعالى مع هذا الإذلال والاسترقاق (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُم) في سورتي البقرة والأعراف (. . . يسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيسْتحْيُونَ نِسَاءَكُمْ. . .)، من غير (واو)، فكان هذا تفسيرا لسومهم العذاب، وهو بيان بأفصح أحواله، وهنا جمع بين الاسترقاق والذل والتكليف بالمشاق والأهوال، وبين ذبح الأبناء واستحياء النساء.
وعبَّر عن قتل الأبناء هنا بالذبح للإشارة إلى أنهم فعلوا ذلك، وهم آمنون سالمون غير ثائرين ولا ناقمين، فهم في غير اندفاعة ثورة، ولكن في أمن ودعة، يأتون إلى الطفل من حجر أمه أو بين لداته ويذبحونه ذبحا، وحسبك أن تعلم أن أم موسى رضيت - بإلهام من اللَّه - أن تلقيه في اليم مع رجاء اللَّه تعالى، عن أن تراه يذبح بين يديها.(8/3993)
وقوله تعالى: (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ)، أي يطلبون حياة نسائهم وبقاءهن، لا رغبة في ذات الإحياء بل ليكن إماءً في بيوتهم، ويستمتعون بجمالهن، فهو ظلم فاحش لَا يعرفه إلا فرعون وأمثاله، كما رأينا واحدا منهم في هذا الزمان.
قال تعالى (وَفِي ذَلِكُم بَلَاءٌ من رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ)، الإشارة إلى الإنجاء، ويصح أن تكون الإشارة إلى سوم العذاب، وعلى الأول يكون البلاء هو بلاء بنعمة الإنجاء، كما أشرنا إلى قوله تعالى: (. . . وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. . .)، فالنعمة تحتاج إلى صبر واختبار، وإذا كانت الإشارة إلى سوم العذاب وتذبيح الأطفال واستحياء النساء يكون اختبارا من اللَّه عظيما، ونسب البلاء إلى الله تعالى، وهو الرب الخالق، للإشارة إلى أن تمكين فرعون من ذلك كان اختبارا من اللَّه تعالى حتى يمتحنوا بالنقمة، وتصقل نفوسهم بها.
وإني أرى أن الأول أوضح، واللَّه تعالى أعلم.(8/3994)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
(تَأَذَّنَ) بمعنى آذن وأعلم، ولفظ (تَأَذَّنَ) يدل على المبالغة في الإعلام، وتكرره آنًا بعد آنٍ، وشكر النعمة أداؤها فيما خلقت له، فشكر نعمة الأذن ألا يسمع إلى منكر، وشكر نعمة اللسان ألا ينطق إلا بالحق، وشكر نعمة العقل ألا يذعن إلا للحق ولا يفكر إلا في الوصول إلى الحق والإيمان بالتوحيد، والإنسان مغمور في نعم من لسان ينطق وأذن تسمع، وعين تبصر وجوارح تكسب، وكل نعمة لها شكرها، فإن شكر زادها اللَّه تعالى.
وكفر النعمة ألا يتخذها في طاعة، فكفر ذي المال بإنفاقه في غير حله، والاستعلاء به وبطر العيش، وأن يطغى إذا استغنى، ولقد قال تعالى: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) هذا شرط مؤكد بالقسم، والجواب (لأَزِيدَنَّكُمْ) جواب القسم ودل على جواب الشرط، واللام موطئة للقسم، وكان الجواب مؤكدا بنون التوكيد الثقيلة، وكذلك في قوله: (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ(8/3994)
إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) هذا لأن الشكر جواب القسم، وهو دليل على الجواب، وليس نصا فيه لأن الجواب بمدلول اللَّه، ولكن إن كفرتم لأعذبنكم، إن عذابي لشديد، والمعنى إن شكرتم أجرتم لَا محالة، وزادكم اللَّه نعمة، وإن كفرتم منعتم وعوقبتم، وإن اللَّه تعالى شديد شدة بالغة الغاية.
وإن هذا يدل على أن الطاعة تعود عائدتها على من قام بها، لأن شكر المنعم، وشكر النعمة يزيدها، وإن كفر النعمة معه عذاب أليم، واللَّه غني عن العباد، ولذا قال تعالى:(8/3995)
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
(وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
صرح اللَّه سبحانه بأن ذلك القول من موسى لقومه، ولم يصرح بأن قوله (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ) فاحتمل أن يكون الكلام منسوبا لموسى، أو هو من كلام اللَّه رأسا، والأذان هو (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ. . .) إلى آخر الآية، وسواء أكان الكلام منسوبا لموسى، أم إلى اللَّه، فالإيذان بالزيادة في الشكر والعذاب في الكفر من اللَّه، أما الكلام في هذه الآية فمنسوب لموسى قال لقومه من بني إسرائيل، أو هم وغيرهم.
وفى هذا النص (إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) فيه بيان أن الشكر والكفر مغبتهما تعود على الناس والثقلين جميعا، ولا تعود على اللَّه تعالى في شيء، ولهذا قال: (فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ) وهذا ينبئ عن جواب الشرط، والمعنى إن يكفر الناس والثقلان فإن اللَّه لَا يضيره شيء، ولا ينقص من ملكه، إن اللَّه لغني حميد، أي لَا يحتاج إلى عباده وهو حميد، أي محمود من الملائكة، ولقد قال البيضاوي في تفسير كلمة (حَمِيدٌ): " مستحق للحمد في ذاته، محمود تحمده الملائكة وتنطق بنعمه كل المخلوقات، فما ضررتم بالكفر إلا أنفسكم حيث حرمتموها مزيد الإنعام وعرضتموها للعذاب الشديد " (1).
________
(1) تفسير البيضاوي: 3/ 368.(8/3995)
روى مسلم عن أبي ذر الغفارى عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: " يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المحْيط إذا أدخل البحر " (1).
________
(1) رواه مسلم: البر والصلة والآداب - تحريم الظلم (4674). من حديث أبي ذر رضي الله عنه، كما رواه الترمذي، وأحمد، وابن ماجه، والدارمي، وقد سبق تخريجه.(8/3996)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
الاستفهام هذا للإنكار بمعنى نفي الوقوع فهو للنفي جاء على صورة الاستفهام تأكيدا للنفي كأنهم سئلوا فأجابوا بالنفي، وهو داخل على النفي، فنفي النفي إثبات، فمعنى (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ. . .) إلخ، قد جاءكم نبأ الذين من قبلكم قوم. . . والنبأ الخبر الخطير الشأن.
وقد قال ابن جرير: " إن هذا الكلام على لسان موسى لقومه بني إسرائيل وأهل مصر "، ولكن رد ذلك القول ابن كثير في تفسيره، ونحن معه؛ لأنه لَا دليل على نسبته إلى موسى - عليه السلام -، ولأن فائدته في جعله عاما أوفى من حيث المعنى؛ ولأن روح الآية تجعل الخطاب لن يتلو القرآن من مشركي العرب وغيرهم. و " النبأ " الخبر الخطير الشأن، وقد كان خبر قوم نوح خطير الشأن، وكذلك عاد وثمود، لأنها أخبار بهلاك أمم وجماعات بسبب خروجهم عن أمر ربهم.(8/3996)
والمعنى في الجملة: قد أتاكم الخبر الخطير الشأن قوم نوح إلى آخره، (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) ومن هم الذين من بعد هؤلاء، ولا يعلم مآلهم إلا اللَّه تعالى.
أحسب أن المراد بهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين كفروا برسالته، ويعاندون فيها، ويؤذون المؤمنين، ويسفهون قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويصرون على عبادة الأوثان.
ويكون قوله تعالى: (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ) تهديد لهم، وحمل لهم على المقايسة بينهم وبين غيرهم، فإذا كان نبأ الغابرين هلاكهم، فليقيسوا حالهم على حال أولئك الغابرين.
وقد حكى سبحانه ما كان بين الرسل السابقين وأقوامهم، فقال عز من وإ؛ ل: (جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ)، أي بالأدلة المبينة الهادية المرشدة التي لَا يدخلها امتراء فلم يجيبوا. وعبر اللَّه سبحانه وتعالى عن امتناعهم عن الإيمان بقوله تعالى: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ) كانت حالهم تجيب بأن ردوا أيديهم في أفواههم وقالوا. . . .
وقد تكلم الزمخشري في قوله تعالى: (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) فذكر عدة احتمالات مجازية لمعنى هذا التعبير القرآني الكريم ولم يعين واحدا، فقال: (فَرَدُّوا أَيْديَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ) يعضوها غيظا وضجرا مما جاء به الرسل، كقوله تعالى: (. . . عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ. . .)، أو ضحكا واستهزاء، كمن غلب عليه الضحك فوضع يده على فيه، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم من قولهم: (إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ) وهذا قول قوي، أو وضعوها على أفواههم يقولون للأنبياء أطبقوا أفواهكم وأسكتوا، أو ردوها في أفواه الأنبياء يشيرون لهم إلى السكوت يسكتونهم ولا يذرونهم يتكلمون، وقيل: الأيدي جمع يد، وهي النعمة بمعنى الأيادي أي ردوا نعم الأنبياء التي هي أجل النعم من مواعظهم ونصائحهم وما أوحي إليهم من الشرائع والآيات في أفواههم؛ لأنهم إذا(8/3997)
كذبوها، ولم يقبلوها فكأنهم ردوها في أفواههم ورجعوها إلى حيث جاءت منه على طريق المثل " (1).
هذه احتمالات مختلفة لم يعين واحدا منها للدلالة في الآية الكريمة، وإن كان وصف القول الثالث بأنه قوي، وإنا نرى أن وضع اليد في الفم يكون عندما يلقى إلى الشخص خبر مستغرب، فالتعبير الكريم كناية عن استغرابهم الخبر، وإن كان لنا أن نختار من احتمالات الزمخشري، فهو قوله عضوا أناملهم من الغيظ، ولكنا مع ذلك نرى أنه كناية عن استغرابهم.
عرض لهم استغراب قول رسلهم أولاً، ثم انتهى الاستغراب بالإنكار، والكفر (وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسلْتُم بِهِ) انتهى استغرابهم بالإنكار بكونهم رسلا، فالكفر بالرسالة أما موضوعها وهو ما يدعونهم إليه من توحيد وشرائع، فقد قالوا فيه: (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ ممَّا تَدْعُونَنَا إِليْهِ مُرِيبٍ) ومريب معناه موقع في الريب، من أرابه أو أوجد عنده قلقا، أي أنهم يرتابون في دعوى التوحيد، وأنها تجعلهم في قلق بالنسبة لآلهتهم التي ورثوا عبادتها عن آبائهم، فدعوة التوحيد تخرجهم من الاطمئنان إلى الباطل إلى الشك والريب، فدعهم في ريبهم يترددون.
إجابة رسلهم
قال تعالى:
* * *
(قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا
________
(1) الكشاف: 2/ 368.(8/3998)
عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
* * *
جاء النور على المشركين كالضوء الساطع على من يكون في ظلام دامس، فلا تقوى عينه على النظر وتضطرب وترتاب، فقالوا: (إِنَّا لَفِي شَكٍّ مما تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)، فهذه حيرة من يكون في ظلمة حالكة فيلاقى ضوءًا شديدًا.
وقد كانت مجاوبة بين الرسل وأقوامهم، وهذه المجابوبة صورة واضحة متحدة في كل الخلاف بين الشرك والإيمان أو بين الرسالة الإلهية ومن ينكرونها، ولم تكن هذه المجاوبة بين رسول بعينه، وقوم بأعيانهم، ليس هي صورة عامة جامعة متحدة، وإليك المجاوبة:(8/3999)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
(قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (10)
الاستفهام إنكاري توبيخي لإنكار الواقع، فقد وقع الشك منهم كما تدل الآية السابقة، وهو حيرة أهل الظلام إذا رأوا النور تحيروا بين باطل ألفوه، وحق جاء إليهم هاديا فارتابوا.
وقدم الجار والمجرور (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ) لأهمية الشك في اللَّه أو لغرابة أن يكون ثمة شك في اللَّه تعالى، وهو الذي فطر السماوات والأرض، أنشأهما إنشاء، وفطرهما فطرا، أيكون في وجوده شك، وقد قامت الأدلة وتوافرت البراهين من الوجود بكل أطرافه.(8/3999)
هذا عجب عجاب من الشك في اللَّه سبحانه وتعالى، وهناك عجب من الشك فيما يدعو إليه الرسل، إنهم يدعون إلى أمر نافع في ذاته لَا يسوغ للعاقل أن يشكك فيه أو يرتاب، وقال تعالى: (يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ) وهنا أسندت الدعوة إلى اللَّه تعالى لتربية المهابة في نفوسهم، ولتكون النسبة إليه بيانا لوجوده، ورقابته لهم ولأعمالهم وإشعارا لهم بالهيمنة عليهم، وقوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنوبِكُمْ)، (مِّن) هنا إما أن تكون بيانية، ويكون المعنى (ليغفر لكم ذنوبكم) وتكون للدلالة على استغراق الغفران لكل الذنوب إذا آمنوا، فإن الإسلام يجب ما قبله كقوله تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ. . .)، وإما أن تكون للتبعيض، أي (ليغفر لكم بعض ذنوبكم)، وهو ما يتعلق بالشرك ونحوه، أما ما يتعلق بالمظالم فإنه لَا يغفر إلا أن يعفوا أصحابه.
وعندي أن تخريج القول الكريم على أنها بيانية أولى بالأخذ أولا، لأن جَبَّ الإسلام لما قبله عام غير خاص بذنب دون ذنب، وإذا كان الشرك قد غفر فما دونه أولى. وثانيا، لأنه كان من المشركين من قتلوا وسفكوا فغفر اللَّه لهم ذلك، وحسبك أن اللَّه غفر لوحشي قاتل حمزة، وثالثا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صرح بأن كل دم في الجاهلية موضوع، وبأن ربا الجاهلية موضوع (1).
وقد ذكر سبحانه أنه يؤخرهم إلى أجل مسمى، وبعده يكون البعث، وفي هذا إنذار لهم إن استمروا في ضلالهم يعمهون.
هذا كلام الرسل، فبماذا أجابوا؟.
أجاب المشركون بتصوير القرآن ذاكرا الإجابة التي اتحدوا فيها على اختلاف قرونهم ليبين للنبي - صلى الله عليه وسلم - ألا يضيق صدرا بما يجادل به مشركو مكة، فهو حال
________
(1) صرح به في خطبة الوداع، وهي خطبة طويلة، أخرجها مسلم: الحج - حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - (2137) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.(8/4000)
الشرك في كل العصور في إنكارهم رسالات اللَّه، (قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا)، (إِنْ) هنا نافية وهي مع الإثبات بعدها بالاستناد تفيد القصر، أي أنتم معشر الرسل مقصورون على البشرية، لَا يصح أن تتعدوها إلى ادعاء أن اللَّه يخاطبكم من عليائه وأنكم رسله إلينا، كما قال مشركو مكة: (. . . مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ. . .)، وجاء على لسان المشركين قولهم: (مِّثْلُنَا)، أي أنكم تماثلوننا في البشرية ونحن لسنا أنبياء، فلستم بأنبياء مثلنا، وإنكم تحاولون أن تصدونا عما شأن يعبد آباؤنا من أوثان، وكأنهم بهذا يستندون إلى حجة واهية من حججهم الداحضة، وهي أنهم يتبعون آباءهم، وذلك كافٍ لاستمرارهم في غيهم.
وقرنوا قولهم هذا بأن الرسل لم يقدموا حجة، فأنكروا ما جاء إليهم من معجزات دالة على رسالاتهم تعنتا ولجاجة في الخصومة، وقالوا: (فَأتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ)، أي بدليل واضح بيِّن يلائمنا، والسلطان هنا الحجة، وكثيرا ما عبر القرآن الكريم عنها بالحجة؛ لأنها تجعل للخصم سلطانا على خصمه يلزمه بالقبول والخضوع لَا يقول.
تنبيهان:
أولهما: أن اللَّه تعالى جمع أقوال الرسل في قول واحد، وهم كانوا في أجيال مختلفة، وجمع أقوال المشركين في قول واحد؛ لأنهم جميعا على قول واحد، وكأنه نابت من منابت الشرك المتحدة، فيكون إنتاجها واحدا، ولبيان أن الرسل أجيبوا جميعا بمثل ما أجيب فليتأسَّ وليصبر، فإن اللَّه لَا يضيع أجر الصابرين.
ثانيهما: أننا خرَّجنا قوله: (لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ) رجحنا أن (مِن) بيانية وسقنا ما نحسبه دليلا على الترجيح، ومن الحق علينا أن نذكر رأيا مخالفا لرأينا وهو رأى إمام البلاغة الزمخشري، فهو يرجح أن (مِّن) تبعيضية، ولننقل(8/4001)
لك عباراته الدالة على ذلك فهو يقول: " فإن قلت ما معنى التبعيض في قوله تعالى: (مِّن ذُنوبِكم) ما علمته جاء هكذا إلا في خطاب الكافرين كقوله تعالى (. . . وَاتَقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغفِر لَكم مّن ذُنُوبِكمْ. . .)، (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ. . .)، وقال في خطاب المؤمنينِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12).
وغير ذلك مما يقف عليه الاستقراء.
وكان ذلك للتفرقة بين الخطابين، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد، وقيل: أريد يغفر لكم ما بينهم وبين اللَّه بخلاف ما بينهم وبين العباد من الميعاد (1).
هذا ما وجب ذكره من كلام الزمخشري ليعلم القارئ الموضوع من وجوه النظر، وما كنا لنهمل رأي إمام البيان الزمخشري، وقد يسأل سائل لما ذكرت (مَن) في جانب المشركين إذا آمنوا، ونقول: لكثرة ذنوبهم فكان التعبير فيه إشارة إلى أن الغفران لكلها مع كثرته.
إجابة الرسل على اعتراض المشركين:
________
(1) ذكره الزمخشري في الكشاف: ج 2/ 369.(8/4002)
قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
(قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
اعترض المشركون بأنهم بشر مثلهم، وبأنهم لم يأتوا بسلطان يثبت الرسالة، ولقد سلموا لهم الأمر الأول مؤكدين تسليمهم، قالوا: (إِن نَّحنُ إِلَّا بَشَرٌ مثْلُكُم) أكدوه بأن قصروا أنفسهم على البشرية لَا يعدونها، ولكن المشركين بنوا على المثلية بطلان دعواكم فلم يسلموا لهم ذلك، أي أنهم سلموا لهم بالمقدمة ولم يسلموا(8/4002)
لهم بالنتيجة، لأنه لَا تلازم بين التماثل بينهم وبين غيرهم فى البشرية ومنع الرسالة؛ ولذا قال: (وَلَكنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يشاء مِن عِبَادِهِ)، فالاستدراك استدراك من النتيجة التي رتبوها في زعمهم وقد عدوا هذه النجوه منا من اللَّه تعالى على الذين اختارهم من صفوة عباده سبحانه وتعالى (. . . اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. . .)، وقد قالوا: إنه من اللَّه تواضعا، وتبرئة لأنفسهم من أن يعتقدوا أن لهم فضلا على الناس إلا ما اختصهم اللَّه تعالى به من الرسالة منا وفضلا، وما كان ذلك إلا لحكمة قدرها، أو كان فيهم بإرادة اللَّه، فهو أوجد فيهم من المزايا ما يجعلهم أكثر من البشرية المطلقة التي يتصف بها العاصي والطائع، والرسول ومن أرسل إليهم.
أما كلامهم الثاني فى أمر المعجزة ففقد طلبوا نعتا ولجاجة معجزة اختاروها، وأعلنوا أن لن يؤمنوا إلا إذا جاءتهم هذه الآية، كما فعلوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ردوا زعمهم هذا بقولهم: (وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)، أي ما ساغ لنا ولا جاز أن نأتيكم بآية غير ما جئنا به إلا بإذن اللَّه تعالى، فهو الذي منَّ علينا من بين عباده بالنبوة، وهو الذي اختار لنا الآية الدالة على رسالتنا كشأن كل رسالة من غائب لحاضر، أن الغائب هو الذي يختار الإشارة الدالة على أنه مبعوث من قبله، وقد اختار ذلك السلطان، فلا مناص لنا منه إلا أن يمن علينا بسلطان غير ما أعطانا، وإذا كنتم مسترين على معارضتكم، ومقاومتكم، وإعناتكم وإيذائكم، فنحن قد بلغنا وفي سبيل البلاغ لَا حامي لنا إلا الله تعالى؛ ولذا قالوا (. . . على اللَّهِْ تَوكَّلنَا. . .)، أي كنتم كنتم تعتمدون في معاندتكم وإعناتكم على قوة لكم تحسبونها، فنحن متوكلون على الله يحمينا من إيذائكم، وقدم الجار والمجرور (. . . علَى اللهِ توكلْنَا. . .)، لبيان أنهم لا يعتمدون إلا عليه، وأنه فوق كل الأقوياء، وأمروا المؤمنين الذين يؤذيهم المشركون ويسخرون منهم بأن يتوكلوا على اللَّه، ويصبروا فإنه لا محالة ينجيهم من إيذائهم وستكون كلمة الله هي العليا، وهو العزيز، ولذا قال تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، وقدم الجار والمجرور للدلالة على أنه لَا يعتمد إلا عليه سبحانه،(8/4003)
و (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمعنى إذا كنا معشر الرسل قد توكلنا على اللَّه وحده فليتوكل المؤمنون على اللَّه وحده، ويتضمن ذلك طلبين: أحدهما الصبر على أذى المشركين، والثاني: الاعتماد على اللَّه وحده، وأنه سبحانه وتعالى ناصر الرسل ومن اتبعوهم غير خاذلهم ولا ممكن لمشرك منهم.
وبعد ذلك بين سبحانه على لسان رسله المسوغ لتوكلهم عليه وحده فجاء على لسانهم قوله تعالى:(8/4004)
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
(وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
(وَمَا لَنَا) الاستفهام هنا لتقرير التوكل وتثبيته، أي ما ساغ لنا ألا نتوكل على اللَّه وقد هدانا سبلنا، أي سبيل الحياة الصالحة التي جعلتنا نؤمن بأن الحياة الدنيا طريق الآخرة، وأن الحياة الآخرة هي الحياة الحقيقية الباقية، أما الأولى: فهي الفانية، وقوله: (وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا) جملة حالية تفيد أولا أنهم آمنوا بهداية اللَّه فعرفوا سبيل الحق وسبيل الباطل.
وأما الثانية: أنهم عرفوا بطلان عبادة الأوثان. وأفاد ثالثا: أنه لَا قوة في الوجود إلا قوته، وأضيفت السبل إليهم (سُبُلَنَا) للإشارة إلى أن هذه السبل هي التي ينبغي أن تكون مطلبهم وأن تكون غايتهم التي يبتغونها.
وأنهم إذا عرفوا السبيل صراط اللَّه، واتخذوها سبيلا لهم فإنهم المعتمدون على اللَّه الصابرون؛ ولذا قال تعالى عنهم: (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذيْتُمُونَا) اللام لام القسم؛ ولذا كانت معها نون التوكيد الثقيلة التي تلازم القسم (عَلَى مَا آذَيْتمُونَا)، على ما تقدمونه من إيذاء متوال مستمر، فإن على أهل الحق أن يصبروا على أذي المبطلين.
ولقد أكد الرسل والمؤمنون اعتزامهم على الصبر حتى يبلغوا رسالات ربهم.
وإنهم أمام هؤلاء الأقوياء المتعنتين لابد من اعتماد على القوي القادر القهار؛ ولذا قال تعالى عنهم: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)، أي عليه وحده فليتوكل المتوكلون، كان الأمر الأول بالتوكل للمؤمنين فقط، أما هنا فهو يشمل المؤمنين(8/4004)
والرسل، وهو تحديد للتوكل الذي يجب أن يكون حال المؤمن لَا يفارقه؛ لأنه التوكل على اللَّه مع اتخاذ الأسباب عبادة.
* * *
محاولة الإخراج
بعد أن كلَّت بهم الحجة ضاق صدرهم، فانتقلوا من الجدل الباطل إلى الإخراج من أرضهم.
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
* * *
لا يلجأ أحد إلى القوة إلا إذا كَلَّ به الدليل، وأحس بأن ما يسوقه من قول يحسبه حجة انهيار أمام قوة الحق؛ ولأن أتباع الرسل دائما يكونون قلة وأكثرهم ضعفاء يستهين بهم المشركون؛ لأنهم أعز نفرا، وأشد بأسا، وأكثر تعنتا؛ ولذا قال اللَّه تعالى:(8/4005)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) انحصر كلامهم في أن الرسل والمؤمنين يكونون بين أحد أمرين: الإخراج من أرضهم، أو أن يعودوا في ملتهم في عبادة الأوثان، وهنا أمران مهمان لابد من الإشارة إليهما.
أولهما: القسم، فمهما هددوا به الرسل، وقد أقسموا (لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا) والقسم دُلَّ عليه باللام الموطئة للقسم ونون التوكيد الثقيلة، وهي بالنسبة لهم أوضح؛ لأنهم يملكون أعمالهم وأنفسهم فكيف يكون القسم بالنسبة للرسل، كأنهم يقسمون على الرسل والمعنى أنهم أخذوا قاسمين على أمرين لَا بد من تحقق أحدهما، وهو لنخرجنكم أو لتعودون، ونحن نقسم عليكم بذلك.(8/4005)
الثاني: أن التعبير بـ (لَتَعُودُنَّ) يوحي إلى أنهم كانوا في ملتهم، وخرجوا منها وطلبوا أن يعودوا إليها، والرسل لم يكونوا فى ملتهم أبدا، فما كان الرسل ليشركوا باللَّه ويعبدوا الأوثان، والجواب عن ذلك من وجوه أولها: أن عاد بمعنى صار وهي كثيرة الاستعمال في اللسان العربي كذلك، وثانيها: أن ذلك ينطبق على أتباع الرسل، وثالثها أن حال الرسل قبل الرسالة تكون صمتا عن الشرك لا يعتقدونه ولا يقومون بالدعوة ضده، فيحسبهم الجاهلون من أهل الشرك أنهم معهم، فإذا جاءوا بعد البعث يدعونهم حسبوا ذلك جديدا على الرسل كما هو جديد عليهم، فطالبهوا بأن يعودوا إلى ما كانوا عليه لايعجزونهم بدعوة إلى الوحدانية ولا برسالة، ولا ذكر رسول.
وفى هذا الوقت الذي بلغ فيه العِند أشده والكفر أطغاه ثبت اللَّه قلوب رسله (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) أوحى اللَّه إلى رسله قائلا لهم: (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)، أو كان مدلول الوحي (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)،: اللام لام القمسم، والنون نون التوكيد الثقيلة، وهي توكيد للقسم فضل توكيد، وأظهر سبحانه في موضع الإضمار، فلم يقل لنهلكنهم، بل (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)،، لبيان سب الهلاك وهو الظلم، وقد ظلم هؤلاء إذ لم يؤمنوا وأشركوا (. . . إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13).
وظلموا فتعنتوا وطلبوا آيات أخرى وقد جاءتهم البينات، وظلموا بإيذاء المؤمنين وظلموا أشد الظلم فهمُّوا بإخراج الرسول ومن معه، وحاولوا فتنة المؤمنين ليكفروا بعد إيمان، ولم يتركوا بابا من أبواب الظلم إلا دخلوه (. . . وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ).
وكان من وحي اللَّه تعالى أنه بعد هاك الظالمين يسكن اللَّه الرسل ومن معهم مكانهم(8/4006)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ... (14)
والأرض هي أرض الدعوة التي هدد المشركون أن يخرجوهم منها، ولكن أخدهم اللَّه أخذ عزيز مقتدر قبل أن يتمكنوا، ولذلك قال الله تعالى (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ(8/4006)
الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا. . .)، وكما قال تعالى:، (وَأَوْرَثَكم أَرضَهمْ ردِيَارَهم. . .).
وإن ذلك نصر الله تعالى فقد قال عز من قائل: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)، وقال تعالى:، (. . . وَالعَاقِبة لِلمتقين)، وقال تعالى:
(ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) (مَقَامِي) مصدر ميمي، المقام بمعنى قيام، ومعنى قيام اللَّه، ومعنى الخوف من مقام اللَّه تعالى، أو قيامه على تدبير شئونه - رقابة كل أمور الإنسان بأنه لَا يعمل عملا إلا واللَّه تعالى يحاسبه عليه صغيرا أو كبيرا فيعبد الله كأنه يراه اللَّه، فإن لم يكن يراه فإن اللَّه تعالى يراه، وإن هذه مرئية الإحسان في الشعور باللَّه تعالى، كما ورد عن الرسول صلوات اللَّه تعالى وسلامه عليه، (وَخَافَ وَعِيدِ)، أي خاف وعيد اللَّه بالعذاب الشديد فهو يغلب الخوف على الرجاء؛ لأنه يستصغر حسناته ويستكثر سيئاته، وإنه ورد في الأثر. " من آذى جاره ورثه اللَّه داره ".
* * *
المآل هو العذاب والخيبة
قال تعالى؛
(وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ(8/4007)
أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
* * *(8/4008)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
(اسْتَفْتَحُوا) طلبوا الفتح والنصر، والضمير يعود إلى الرسل، أي أن الرسل بعد أن اطمأنوا إلى وعد اللَّه تعالى لهم بأنه مهلك الظالمين بسبب ظلمهم تقدموا لمنازلة المشركين، واستفتحوا كما كان يستفتح النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل غزوة يغزوها، والفتح هو النصر، أي يطلبون النصر من اللَّه تعالى، ويصح أن يكون طلب الحق بأن يفصل بين الحق والباطل، كما قال اللَّه تعالى: (. . . رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).
ويقول الزمخشري: إنه يكون مشتقا من الفتح بمعنى الحكم.
وقوله تعالى: (وَخَابَ كلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) بيان لنتيجة المعركة التي استفتح لها الرسل، والواو للعطف على فعل محذوف، تقديره، وفتح اللَّه تعالى للرسل بأن نصرهم أو حكم لهم وخاب كل جبار عنيد، والكلية هنا معناها أن المتكبرين على الحق الجبابرة الذين يعتدون ويلجون في الباطل، ولا يصغون إلى حق من أي مكان، مآلهم الخيبة، والخسران المبين! وذلك لأن الجبار يستعلي فيظلم، ولا نصر لظالم، والعنيد يركب رأسه، فلا ينصت لداع يدعو إلى التأمل وتعرف عواقب الأمور، فلا يرى إلا ما يكون بين يديه من أمور ظاهرة لَا يتعرف ما وراءها، ويقول دائما مقالة فرعون: (. . . مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).
ولقد قال بعض السلف: إن الضمير في قوله تعالى: (وَاسْتَفْتَحُوا) يعود إلى الظالمين، أي الظالمين مع ظلمهم وطغيانهم يطلبون النصر، وذلك منهم إمعان في الضلال الفكري؛ إذ حسبوا ما عندهم خيرا يجيز لهم أن يستفتحوا من أجله.(8/4008)
وقال بعض السلف: إن الاستفتاح كان من الفريقين فريق الحق وفريق الضلالة، وفتح اللَّه للمؤمنين وخاب الكافرون، وعبر عنهم بكل جبار عنيد للإشارة إلى سبب الخيبة، وهو الاستعلاء بالباطل واللجاجة فيه، ويقول تعالى فيما يستقبل كل جبار عنيد عذاب أليم:(8/4009)
مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
(مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ. . .).
الضمير في (مِنْ وَرَائِهِ) يعود إلى كل جبار عنيد، أي أنه في الدنيا خيبة، وعجز مع استعلاء وتجبر وعناد، وبعد ذلك في الآخرة (جَهَنَّم) يدخلها، (وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ) هو صديد من قروح جلود أهل النار، ووراء تجيء بمعنى بعد، كما تقول عذاب وراء عذاب ولوم وراء لوم، كما قال النابغة الذبياني.
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وليس وراء اللَّه للمرء مذهب
أي بعد اللَّه، وكما قال الشاعر:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
كما تقول: جاءوا صفوفا صفا وراء صف.
وقوله تعالى: (وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ) الواو عاطفة على فعل محذوف، تقديره من ورائه جهنم يبقى فيها، ويسقى من ماء صديد، وهو الماء الناتج من القروح التي تجيء من حرق جلودهم، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها حتى يذوقوا العذاب، وكأنه يستقبلهم من وراء عنتهم ولجاجتهم عذابان: أحدهما:
الإبقاء في جهنم وهو ذاته عذاب، إذ يكون لهيبها، والعذاب الثاني: أنهم لا يرتوون إلا بماء شربه ذاته عذابه أليم، وهو الصديد، وقد وصف سبحانه وتعالى شربه فقال:
(يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)(8/4009)
يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
يطلبون الماء فيجابون، ولكن سقوا ماءً حميما فقطع أمعاءهم، وإن يستغيئوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، فإذا استسقوا جاءهم ماء، هو صديد يجتمع فيه قبح ذاته وحرارته، وأنه يقطع الأمعاء، ولكنهم مع ذلك يشربونه لأنهم عدموا الري، فلا ري سواه (يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ) أن يحاول شربه بأن يتجرعه جرعة جرعة ولا يطيق أن يشربه شربا مع رغبته في الماء، (وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ) يقال: ساغه، أي شربه مستطيبا له مسيغا له، أي مرَّ في حلقه بسهولة، وكذلك أساغ، أو نقول: أساغه حاول أن يجعله يمر شيء الحلق سائغا ولا يكاد يستطيع ذلك، فقد اجتمع فيه ما ذك نا من قبح الذات والمنظر والحرارة وشأنه ليس بمرىء، وقد وصف الله تعالى حالهم، فقال: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ) فالموت يأتيه من فوقه، ومن تحته، ويقول بعض الصالحين ناقلا عن المأثور: إنه لَا يبقى عضو من أعضائه إلا وكِّلَ به نوع من العذإب لو مات سبعين مرة لكان أهون عليه من نوع منها، أي أن أسباب الموت تتضافر عليه فلا يموت، وإنه كما قال تعالى:، ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) فهي حياة هي الفناء، بل إنه لو كان الفناء لكان خلاصها.
(وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ) أما بعد تلك الحياة الشديدة الغليظة التي لَا تفنى، ولا تُبقى، من بعدها عذاب شديد (غَلِيظٌ) يجمع بين صفتين: الشدة والغلظة، فيكون أقسى العذاب؛ لأنهم تمتعوا بالشر والأذى والاستكبار فكان ذلك العذاب جزاءً وفاقا لما قدموا.
وقد بين اللَّه تعالى مع ذلك أن ما يفعلون من نفع في الدنيا لأنه ينقصه الإيمان، بذهب هباء، فقال عز من قائل:(8/4010)
(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)(8/4010)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
المثل: الصفة الغريبة، وغرابتها ليست في ذاتها فقط، إنما كانت غرابتها لأنها جاءت على خلاف ما يزعمون، إذ يزعمون أولا: أن أوثانهم ستكون شفيعة لهم، وكانوا يفعلون أمورا يحسبونها من مكارم الأخلاق كإكرام الضيفان وإغاثة اللهوف أحيانا، كما فعل بعض كبرائهم في حلف الفضول، ويحسبون ذلك عملا طيبا، ولو كان مقصده المفاخرة والمباهاة. ثانيا، ويرون أنهم الكبراء الذين لَا تنسى محامدهم ثالثا، لكنهم يرونها يوم القيامة كرماد اشدت به الريح في يوم عاصف.
(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ)
أي حال الذين كفروا بربهم، أي جحدوا بربهم الذي خلقهم وأنشأهم وقام على شئونهم وربَّهم وحفظهم، حالهم الغريبة أعمالهم كرماد اشتدت به الريح، وفي قراءة الرياح، وهذه الجملة على الخبر أو دالة عليه.
وقد شبه اللَّه سبحانه وتعالى أعمالهم بالرماد الذى تأتي عليه الريح عاصفة شديدة الهبوب فتثيره فتكون رمادا يتبدد، يغبر به الجو، ثم لا يبقى منه شيء، إلا الغبار الذي يصيب أعينهم ويفسد جوهم، والريح هو العاصف، ولكن وصف اليوم بأنه العاصف من باب إطلاق الزمن على اسم ما يحل فيه، كيوم ماطر، ويوم صائف، ويوم صائم.
وذلك لاستغراق عصف الرياح لليوم كله، حتى كأنه اليوم الذي اتصف بالعصف ليس غيره.
وقوله تعالى: (اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) مشتقة من الشدّ بمعنى العدو، كقولهم شد عليه بمعنى عدا عليه وغلبه، أو مشتقة من الشدة، وهو الأظهر، والباء للتعدي، أي اشدت فيه الريح وفي قراءة الرياح.
وقوله تعالى: (لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ)، قدم (مِمَّا كَسَبُوا)، على (عَلَى شَيْءٍ)، للاهتمام بما كسبوه فهم كانوا يحسبونه شيئًا من المكارم، والأعمال الصالحة فلا يجدونه شيئًا؛ وذلك لأنه فقد المؤثر النفسي وهو الإيمان، وقصد الخير(8/4011)
لذات الخير للمفاخرة والمباهاة وإثارة العصبية، والمفاخرة، ومعنى (لَّا يَقْدِرُونَ) لا يملكون، يكون في مقدورهم أن ينتفعوا به؛ لأنه صار منثورا لَا يقبض عليه، كما قال تعالى في آيات أخرى:
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا)، وقال تعالى: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117).
وتلك النهاية هي غاية البعد من الحق والضلال البعيد في الضلالة.
وقد بين سبحانه أن الجزاء الأوفى يكون يوم القيامة، وأنه سبحانه وتعالى قادر على الإعادة، كما قال تعالى: (. . . كَمَا بَدَأَكمْ تَعُودُونَ)؛ ولذا قال تعالى:(8/4012)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
الاستفهام هنا لإنكار الوقوع أي للنفي، وهو داخل على النفي (لم) ونفي النفي إثبات وهو إثبات مؤكد، كأنه استفهم فكان الجواب هو الإثبات، وتأكيد أن اللَّه خلق السماوات والأرض، وقوله تعالى: (بِالْحَقِّ)، أي متلبسا بالحق في ذاته، وبأنها لم تخلق عبثا، كما قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) وبأنها ثابتة دائمًا ثبات الحق، فوضع لها نظما، وسننا ونواميس تجعلها مربوطة برباط محكم، فأقام السماء بغير عمد ترونها وزينها بزينة الكواكب.
وكما قال تعالى: (. . . رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، وكما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كفَرُوا فَوَيْلٌ للَّذِينَ كفَرُوا مِنَ النَّارِ)، ما خلق اللَّه ذلك إلا بالحق.(8/4012)
وقوله تعالى: (إِن يَشَأ يُذْهِبْكُمْ وَيَأتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) أن هذا الذي أنشأ السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن قادر على أن يذهبهم وأن يفنيهم، فالإفناء أسهل من الإنشاء (وَيَأتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) وإن الإتيان بجديد مثلهن القدرة عليه ثابتة بالمقايسة، فمن قدر على الإنشاء قادر على الإنشاء الثاني(8/4013)
وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
(وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
أن ليس ذلك الإنشاء الثاني بعزيز، أي متعذر أو متعسر عليه سبحانه، فهو سبحانه وتعالى قادر بذاته، لَا يختص بابتداء ولا إنشاء من جديد، فالقدرة ثابتة، ومتى يثبت لَا يعز شيء عليه ولا صعب.
وفى هذا الكلام بيان أن اللَّه سبحانه وتعالى قادر على الإعادة، لأنه قادر على الإنشاء من جديد، كما قال سبحانه: (إِن يَشَا يُذْهِبْكُمْ ويَأتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ).
وكما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33).
وكما قال تعالى: (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ).
وإن الآية تفيد بإشارتها ترهيب المشركين بأنهم لَا يعجزون اللَّه، فإنه يستطيع إهلاكهم، وخلق غيرهم.
وإنهم في قبضة اللَّه في الدنيا، وجزاؤهم عنده في الآخرة، وهو يتولى الجزاء بالإحسان لمن أحسن وبالعذاب لمن عصى.
* * *
ما بين التابع والمتبوع والشيطان
قال اللَّه تعالى:
(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ(8/4013)
مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
* * *
هاتان الآيتان تصوران المجاوبة التي تكون بين العصاة وأولهم الشيطان الذي أقسم ليغوين الناس إلا عباد اللَّه المخلصين، والطبقة التي استغواها ابتداء المتبوعون من ذوي الاستكبار والاستعلاء على الناس بالجاه الدنيوي والمال والعزة، وهؤلاء يؤثرون في عرهم فتكون الطبقة التابعة والإمَعات (1) الطائعة.
صور اللَّه سبحانه أقوال التابعين للمتبوعين وابتداء منِ الدنيا في العصيان إلى من أخذوهم إلى الضلال، فقال تعالى:
________
(1) جمع إمعة: وهو من يقلد غيره في قوله أو فعله.(8/4014)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
(وبَرَزوا لِلَّهِ جَمِيعَا)، أي ظهروا أمام الله جميعا وقد عصوه، إذ أشركوا به أندادا لَا تنفع ولا تضر، وذلك بعد أن بعثهم اللَّه تعالى، وأنشرهم من قبورهم وجمعهم يوم الحشر فكانوا أمام اللَّه، وقد كذبوا بلقائه، وقالوا: (. . . أَئِذَا كُنًا ترَابًا أَئِئا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. . .)، والتعبير بـ (بَرَزُوا) فيه تذكير بالعيان لبطلان أقوالهم في الدنيا، وجميعا: إشارة إلى أنه قد جمع التابع والمتبوع والأبيض والأسود، والعربي والأعجمي، وكانوا بين يدي اللَّه وحده، وكانت المجاوبة الآتية: (فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) الضعفاء:
جمع ضعيف، والضعيف يشمل ثلاثة أنواع ممن يتصفون بالضعف:(8/4014)
أولهم: الأرقاء والفقراء والأرذلون في معيشتهم في الدنيا، الذين لا يملكون من أمرهم شيئا وفيهم ذلة لم يزيلوها بالإيمان.
وتانيهم: الضعفاء في تفكيرهم الذين يرضون بأدنى فكرة ويتبعون غيرهم اتباعا من غير دليل، بل في استكانة، وإن كانوا أقوياء في مالهم فهم ضعفاء في نفوسهم.
وثالثهم: الذين يتبعون القوة دون دليل.
يقولون للذين استكبروا من الكبراء ذوي الوجاهة والقيادة في الضلال: (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا)، وتبع جمع تابع، أو مصدر نعت به، ويكون معنى التعبير هو الإيغال في التبعة كأنهم لَا وجود لهم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ) الفاء تدل على أن ما بعدها سبب لما قبلها، أي بسبب هذه التبعية هل أنتم مغنون عنا عذابا من عذاب اللَّه من شيء (مِنْ) الأولى للتبعيض، ومن الثانية للاستغراق، والاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع، أي لستم مغفنون عنا بأي قدر من عذاب.
أجاب الذين استكبروا عن الحق، فقد أجابوا عن هذا الاستفهام الإنكاري، الذي لَا يخلو من معنى التوبيخ والملامة حيث لَا لوم قائلين: (لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ)،، والمعنى أننا على سواء، لو هدانا اللَّه إلى الحق لهديناكم إليه ولكننا ضللنا فضللتم، وإنكم إذ كنتم تبعا لنا فارتضوا بما وقع لنا، ولا يخلو هذا الكلام من إلقاء اللوم عليهم في التبعية من غير تفكير وتبرير، وكأنهم يشيرون إليهم إلى أنهم كان عليهم أن يتبعوا عن بينة.
ثم يقولون لهم: إننا وقد وقعنا في الضلال علينا أن ذوق مغبتها طائعين؛ لأننا مجبرون، وفي آية أخرى صرح الكبراء فقالوا: (. . . فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39).(8/4015)
وفى هذه الآية يقولون: (سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ) سَوَاءٌ معناها يستوي علينا جزعنا أم صبرنا، فالجزع لَا يحول الشر عنا، والصبر لَا يمنع الأذى. وقد فسروا هذه التسوية بقولهم: (مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ)، أي منجاة من العذاب، أو مهرب منه أو مُتَحول من هذه الحال إلى غيرها، ومحيص: من حاص حيصا، وهو التحول، أي ما لنا من تحول، ومحيص هنا إما أن يخرج القول على أن محيص اسم مكان، ومكانهم جهنم، أي ما لنا تحول عن هذا المكان، أو مصدر ميمي، أي ما لنا تحول عما نحن فيه، فالأمر للَّه.
تلك هي المجاوبة التي بين التابع والمتبوع، والشيطان مصدر ضلالهم وإغوائهم وهو كالمتفرج عليهم ولكنه غير ناج:(8/4016)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
(وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ ... (22)
أي أحكم وفصل فيه، ولم يكن لحكم اللَّه مرد ولا نقص، (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ)، أي وعد هو الحق، فالإضافة بيانية، أي الأمر الصحيح الثابت الصادر من مالكه، وهو الذي يجازي عليه بالثواب وعلى مخالفته بالعقاب، والفعل في ذاته نفع لَا ضرر فيه، وخير لَا شر فيه، وكان عليكم أن تطيعوه، ولا تخرجوا عليه.
(وَوَعَدتُّكُمْ فَأخْلَفْتُكُمْ) ولم يذكر وصف وعده؛ لأنه مفهوم من وصف الأول بأنه الحق ومقابله باطل، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وترك لأنه مفهوم من السياق، ولكي تذهب مذاهب فيما يعد به الشيطان إنه لَا يعد إلا بما يكون من ورائه الفساد والبوار، والعبث والشر، فهو ليس باطلا فقط بل أكثر من باطل إمعانا في الشر، وقوله: (فَأَخْلَفْتُكُمْ)، أي منيتكم الأماني الباطلة، وأودعت نفوسكم الأوهام، وزينت لكم السوء لتحسبوه أنه حق، وإسناد الإخلاف إليه - لعنه اللَّه تعالى - مع أن الإخلاف من اللَّه تعالى، وبيان كذب ما وعد وألقى به في أمنية الناس، لبيان أنه وهو يعد يعلم أنه باطل وأنه إغواء، فكأنه هو الذي أخلف لأنه يعلم أنه كذب لَا حقيقة بل هو وهم ضلال،(8/4016)
بعد ذلك اتجه الشيطان لتبكيتهم لأنهم أطاعوه، فقال: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوتكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)، أي أجبتم دعوتي الخالية من أي تسلط أو دليل طالبين ذلك مجيبين له، فما كانت تبعة طاعتكم لي عليَّ، إنما كانت عليكم؛ ولذا قال: (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفسَكُم) لقد كان أمامكم أمر اللَّه، وهو الخالق المنشئ، ودعاكم إلى الحق، ومعه الأدلة الثابتة وأمامكم دعوتي الخالية من البرهان والدليل، وليس لي عليكم قوة مهيمنة إلى وسوسة خفية فأطعتمونى وعصيتم ربكم.
وهذا شأن أتباع إبليس دائما يقعون في الشر ثم يلومون من أوقعوهم لأنهم أطاعوهم، وإن الشيطان له عذاب، وهو يصرخ بأنه فيه، وإنه لَا يستغيث، لأن أحدا لَا يغيثه ولا يستطيع أن يغيث أحدا، ولذا جاء على لسانه قوله: (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) المصرخ هو المجيب للمستصرخ المغيث له، والصارخ هو المستغيث والمعنى بمستطيع إغاثتكم وما أنتم بمستطيعين إغاثتي، فالعذاب نازل بنا، وعلى كل أن يتحمل مغبة ما عمل وما اعتقد وما وسوس به من شر.
وقد أعلن ضلاله وضلالهم بقوله: (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ)، (ما) هنا مصدرية أو موصولة ولا يختلف المعنى في التقديرين، والمعنى: إني كفرت بالذي أشركتموني في عبادتكم من قبل، أي كفرت الآن بشرككم في الدنيا، وآمنت باللَّه تعالى وحده لَا أشرك به شيئًا، وقال: أشركتموني مع أنهم ظاهرا ما كانوا يشركون الشيطان بل كانوا يشركون أوثانا. فلِمَ نسب إليه أنهم كانوا يشركونه؟ والجواب عن ذلك أن عبادتهم الأوثان كانت بوسوسته هو وتسويلهم، والأصنام لَا حقيقة لها، فكأنهم كانوا يشركونه باللَّه سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: (كَفَرْتُ) تفيد أنه يكفر الآن، مع أنه وهو الذي يزين عبادة الأوثان يعلم أن اللَّه وحده هو المستحق المعبادة، ولا معبود سواه، وأن عمله إغواء وإضلال، فهو غير مؤمن بها من قبل، والجواب عن ذلك: أنه الآن يعلن كفره بها.(8/4017)
ويتول الله تعالى واصفا العصاة بالظم: (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) تحتمل هذه الجملة السامية أن تكون تتميما لكلام إبليس، وتحتمل أن تكون من اللَّه لبيان استحقاق العصاة جميعا للعذاب، وأرى أن الاحتمال الثاني هو الحق، فهو بيان لتسجيل العذاب المؤلم في ذاته عليهم بسبب ظلمهم تابعين ومتبوعين ومغويهم معهم، فهم ظلموا الناس، وأفسدوا في الأرض فحقت عليهم كلمة العذاب.
* * *
أهل الجنة
قال اللَّه تعالى:
(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
* * *(8/4018)
بعد أن صور الله تعالى حال العصاة، وشيخهم إبليس ليعلم المؤمنون مآل العصيان فيجتنبوا أسبابه في الدنيا، بين سبحانه ما ينتظر المؤمنين تشجيعا لهم ليستمروا في طريقهم وهو طريق الحق، فقال سبحانه:،(8/4019)
وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ).
(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا) البناء للمجهول، ومن الذي أدخلهم، أي ما الفاعل الذي لم يذكر وبني للمجهول، قالوا: إن الفاعل هم الملائكة، وإن ذلك سائغ مستقيم، ويصح أن تقول: إن الله سبحانه هو الذي أدخلهم، ولكن لم يذكر لفظ الجلالة للإشارة إلى أن ذلك جزاء عملهم، فالبناء للمجهول يؤدي إلى هذا المعنى وهو ترتيب الإدخال في الجنة على أعمالهم، وقوله تعالى: (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ)، أي برضاه وأمره، وما رتبه من أن لكل نفس ما كسبت، وقد ذكر سبب دخول الجنة في صلة الموصول: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) فسبب دخول الجنة أمران: الإيمان وهو بالحق وتصديقه والإذعان به، والعمل الصالح، وقال تعالى: (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)،، أي الأفعال الصالحة من أداء الفرائض، والصح وصف عام لكل عمل هو نافع لذاته، وقصد به وجه المنفعة للناس، فالصاحات تشمل كل الفرائض الشرعية والعمل الطيب والقول الطيب.
ولا نتعرض لكون العمل جزءا من الإيمان أولا، إنما نقول: إن ما تنفق به الآية ومثيلاتها أن العمل جزء من استحقاق الثواب الذي أعد للمؤمنين.
وقد وصف الله سبحانه وتعالى الجنة بأنها النعيم المقيم، فالأنهار تجري من تحتها، أي أن الأنهار تجري من تحت الأشجار، فتجري فيها متخللة أشجارها فيكون المنظر بهيجا، وتكون متعة النفس بالظلال، ومنظر الماء يجري، والخضرة التي تسر النفس، وتمتع القلب.
ويكون مع ذلك الأنس الروحي بالائتلاف والأمن والسلام؛ ولذا قال تعالى:
(تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ) يتباددون التحية، وليس تلاوما أو تأثيمًا، كما يجري بين أهل النار بين التابع والمتبوع والشيطان من ورائهم.(8/4019)
وإن الفرق بين الإيمان والكفر أمران: أولهما الإيمان، وثانيهما كلمة الحق، وإن كلمة الحق تهدي إلى البر والإيمان؛ ولذا مثَّل اللَّه تعالى كلمة الحق، وكلمة الكفر بمثلين، فقال تعالت كلماته:(8/4020)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ... ).
الاستفهام لإنكار الوقوع بمعنى النفي، وقد دخل على (لم) وهي للنفي، ونفي النفي إثبات، والمعنى، لقد ترى كيف ضرب اللَّه مثلا. . . . والإثبات على هذا النحو يدل على تأكيد الإثبات والتنبيه وتوجيه النظر إليه.
والعلم متجه إلى الحال والكيف، قال: (كَيْفَ ضَرَب اللَّهُ مَثَلًا. . .) أي لقد ترى الحال في ضرب اللَّه المثل، ضَرَب بمعنى بيّن، والمعنى: كيف بين مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
(أَصْلُهَا ثَابتٌ) في الأرض بجذورها الممتدة في عروق الأرض، ثابتة بثبات هذه الجذور، (وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ)، أي غصونها ممتدة في السماء، وكلما علت الشجرة في السماء وامتدت فروعها فيها كثرت ثمراتها، وتدلت مع فروعها، والمراد من الفرع الفروع كما في بعض القراءات، أي فروعها في السماء.
ثم وصف سبحانه طيب هذه الشجرة فوق ما وصف بأن ثمراتها دائمة لا تنقطع، فقال تعالى:(8/4020)
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
(تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ... (25)
أي تؤتي ثمراتها في كل حين، وإيناعها بإذن ربها.
والشجرة هي المشبه به، وقد وصفها سبحانه بأنها طيبة، وطيبها في أنها ثابتة الأصل، وبأنها مرتفعة، وبأنها تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
هذا هو المشبه به، فأما المشبه: هي الكلمة الطيبة، والكلمة الطيبة فيها عناصر الطيبة التي ذكرت في الشجرة، فهي كلمة النفس والقلب والعقل، تنبع من القلب والعقل فقال بإخلاص للَّه تعالى، وهو الحق، وإنها إذ تقال تعلو بصاحبها(8/4020)
عن سفساف الأمور، وتتجه به إلى معاليها، فهي ترفع صاحبها ولا تهوى، وهي هادية مرشدة ممتدة النفع تؤتي ثمراتها كل حين، والكلمة الطيبة تبقى ببقاء الأنفس المتبصرة المدركة، فالكلمة حياة تحيي النفوس والأفئدة.
وما الكلمة التي تتحقق فيها هذه المعاني؟ قيل: إنها كلمة التوحيد، وقيل:
إنها الإيمان، والحق، أنها الكلمة التي تكون صادقة في ذاتها ومنبعثة من النفس لإرضاء اللَّه تعالى، والذود عن محارمه وتتحقق فيها النية الطيبة، والقول الطيب، كما قال تعالى: (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ)، وروى من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة، الإيمان فروعها، والصلاة أصلها، والزكاة فروعها، والصيام أغصانها، والتأذي في الله نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكف عن محارم اللَّه ثمرتها ".
ولقد قال تعالى: (وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرُونَ)، أي الأمور المتشابهة بين بعضها البعض، فيبين المعنوي بالحسي حتى يصير كأنه محسوس مرئي، ويبين اللَّه سبحانه وتعالى ذلك البيان ليرجوهم أن يتذكروا ويعتبروا، فالرجاء ليس من اللَّه تعالى الذي يعلم كل شيء ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء.
هذا مثل الكلمة الطيبة وهي كلمة الحق الجامعة لكل معاني الخير والطيب، والكمال والجمال، أما الكلمة الخبيثة فقد قال تعالى في مثلها:(8/4021)
وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
الكلمة الخبيثة هي الكلمة التي تنبعث من خبث النفس، وضلال الفكر، وتكون في باعثها أئمة، وفي غايتها أئمة فهي على نقيض الكلمة الطيبة، لأنها لَا تنبعث من إخلاص للَّه ولرسوله، ولا تكون طيبة في واقعها، ولا في نتائجها، وما يترتب عليها، وأوضحها الكذب، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقا،(8/4021)
وإياكم والكذب فإنه يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابا " (1).
والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة التي لا فائدة منها (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ)، أي أنها ليس لها جذوع ممتدة في باطن الأرض، بب هي على سطحها، ومعنى (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) أي ظهرت جثتها من فوق الأرض فليس لها جذور تمتد فيها كبعض أنواع النباتات التي ليس لها جذور تغوص في عروق الأرض، (مَا لَهَا مِن قَرَارٍ)، أي استقرار وثبات في باطن الأرض، والمؤدى من هذا التشبيه أن الكلمة الخبيثة لَا تعيش في الوجود، وليس لها بقاء فيه، بل إنها تنتهي بانتهاء زمانها وتنْزل من الأضرار بمقدار وقتها، كالسعاية والنميمة والكذب والخديعة والغيبة، وليس لها وجود إلا بمقدار زمانها وقد تضر، لكن عاقبتها وخيمة، وطعاصها وبيء، ولا تبقى إلا الكلمة الطيبة، وما يكون للَّه وللحق وحده. وعن قتادة - رضي الله عنه - أنه قيل لبعض العلماء ما تقول في كلمة خبيثة؛ فقال: " ما أعلم لها في الأرض مستقرا ولا في السماء مصعدا إلا أن تلزم عنق صاحبها حتى يوافى بها ربه يوم القيامة "، اللهم جنبنا خبث القول، واجعلنا من الذين قلت فيهم:، (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24).
________
(1) سبق تخريجه.(8/4022)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
يثبت اللَّه الذين آمنوا بأن يلقي في روعهم الاطمئنان إلى الحق والجزم به والنطق بمقتضاه، والثبات عليه لَا يحيد عن النطق بالحق والعمل به، والرضا بنتائجه؛ ولذا قال سبحانه: (بِالقَوْلِ الثَّابِت)، ولقد قرر العلماء أن صاحب النفس المطمئنة الراضية بحكم اللَّه المنفذة لتكليفه يلقى اللَّه فيها بالإخلاص، والإخلاص للَّه يجعل النفس تشرق بنور اللَّه، فتدرك فتؤمن فتقول الحق وتعمل(8/4022)
به، ويكون من بعد ذلك السلوك الاجتماعب المستقيم بأمر اللَّه ونهيه، فمعنى (بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ)، القول الذي يقوم على دعائم الحق، ولا يتزلزل لباطل، ويصح أن نقول إن الثبات صفة لصاحب القول، وأضيفت إلى القول؛ لأنه لَا يثبت القول إلا بثبات صاحبه الذي لَا تزلزله عوابث الهوى ولا أوهام الشيطان، وما أحكم ما قاله الزمخشري إذ يقول - رضي الله عنه -: " القول الثابت هو الذي يثبت بالحجة، والبرهان في قلب صاحبه، والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه، فاعتقده واطمأنت إليه نفسه. وتثبيتهم به في الدنيا: أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلوا، كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وكما ثبت جرجيس وشمسون وغيرهما. وتثبيتهم في الآخرة. أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم، لم يتلعثموا ولم يبهتوا، ولم تحيرهم أهوال الحشر.
هذا كلام صدق، وإن القول الثابت كما يشمل الصبر في العقيدة يدخل في عمومه الثبات على الحق في نصيحة الحاكم، والامتناع عن قول الباطل مداهنة له، ويقول للحاكم الظالم: اتق اللَّه، ويكررها كلما اقتضت الحال قولها في غير مواربة، إلا إذا كانت الحكمة أن يداور لأجل إيصال الحق إلى فلب الحاكم، وتسويغه في نفسه، فللقول سياسة، وللعلم سياسة، ومنها تسويغ الحق ليهضم معناه، وخصوصا في أزمان الفساد كالزمن الذي نعيش فيه، ولعل الإمام الزمخشري عاش في مثله، وما ضيع المسلمين إلا سكوتهم عن القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وقوله تعالى: (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) معنى إضلال الظالمين؛ أنهم إذا ساروا في طريق الضلالة أوغلوا فيه ولا يردهم سبحانه وتعالى عنه بل يتركهم سبحانه يسيرون فيه إلى نهايته، ووصفهم بالظالمين فيه إشارة إلى أنهم يبدءون بالسير في طريق الظلم الذي يشمل الظلم في الاعتقاد بالإشرك، والظلم للنفس بارتضاء طريق الشر، والظلم للناس في معاملاتهم، وفتنة الناس في دينهم وإيذائهم في اعتقادهم.
(وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)؛ لأنه المختار المريد، (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).(8/4023)
ويلاحظ أن لفظ الجلالة ذكر مرتين في جملتين متعاقبتين، ولم يكتف بالإضمار بل أظهر في موضعه، فقال سبحانه: (وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) وذلك لتربية المهابة أولا، ولبيان كمال سلطانه ثانيا، وتأكيد إرادته المختارة ومشيئته الحكيمة ثالثا، والله ولي الإنعام.
* * *
جزاءكفر النعمة وجزاء مكرها
قال تعالى:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
* * *(8/4024)
التبديل معناه، التحويل، أو جعل شيء بدل شيء، ومعنى تبديل نعمة اللَّه كفرا في قوله تعالى:(8/4025)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كفْرًا) أنهم جعلوا بدل النعمة التي تستوجب الشكر كفرا، فالذين أُعطوا نعمة بدل أن ينتفعوا بها في وضعها موضعها من الشكر عليها كفروا بها، وكثيرون من ذوي النعم الذي أنعم اللَّه عليهم بالثراء استعلوا به فجعلوه كفرا، ومن أنعم اللَّه تعالى عليه بجاه في الدنيا بدلوه كفرا، فاستغلظوا واستعلوا، وجعلوا جاههم غطرسة وكبرا، وبطروا معيشتهم.
وكذلك أهل مكة في الجاهلية أكرمهم اللَّه تعالى بمقامهم حول البيت الحرام، وتلك نعمة أنعم اللَّه بها عليهم، فبدل أن يقوموا على سدانته وطهارته وضعوا عليه الأوثان، فاستبدلوا بالنعمة كفرا، وكذلك أنعم اللَّه عليهم وعلى البشرية ببعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، فبدلوا كفرا وعاندوه وآذوه وأصحابه، وأنعم اللَّه تعالى عليهم برحلتي الصيف والشتاء، وأن تكون مكة وسط البلاد العربية تغدو منها المتاجر وتروح إليها بين اليمن والشام فبدلوها كفرا، واتخذوها رِبَا الجاهلية، وأكلوا السحت، وكذلك اليهود بدلوا نعمة اللَّه إلى كفر، أعطاهم اللَّه تعالى علم الكتاب فغيروا وبدلوا واستطالوا على الناس، وقالوا نحن أبناء اللَّه وأحباؤه، وظلموا الناس وأكلوا أموالهم سحتا ورشوة، وقالوا: (. . . لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ. . .)، وهكذا.
ولذا نقول: إن الآية عامة تشمل كل من أنعم اللَّه عليه بنعمة، فبدل أن يضعها في موضعها يتخذها أداة للطغيان والضلال، فتكون كفرا، وأنهم بسب ذلك الطغيان الذي يستخدمون النعمة طريقا له ويكفرون (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)، أي الهلاك، أي ينزلون قومهم من عزة الإنسانية إلى الذل فيكون ذلك طريقا لانحدارهم إلى الهلاك، وأصحاب النعم التي يكفرونها هم الذين يفسدون أقوامهم، ويأخذونهم إلى حيث الفناء، وفناء الأمم والأقوام بشيوع الكفر والجحود فيها.(8/4025)
وقد قال الزمخشري: " إن تبديل النعمة كفرا، معناه تبديل شكر النعمة كفرا، وقد ذكر وجوها كثيرة فقال: (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ)، أي شكر اللَّه) كفرا؛ لأن شكرها الذي وجب عليهم وضعوا مكانه كفرا فكأنهم غيروا الشكر إلى الكفر، وبدلوه تبديلا، ونحوه (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)، أي شكر رزقكم؛ حيث وضعتم الكذب موضعه، ووجه آخر، وهو أنهم بدلوا نفس النعمة كفرا على أنهم لما كفروها سُلبوها، فبقوا مسلوبي النعمة، موصوفين بالكفر حاصلا لهم بدل النعمة، وهم أهل مكة أسكنهم اللَّه تعالى حرمه، وجعلهم كرام بنبيه فأكرمهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فكفروا نعمة اللَّه بدل ما لزمهم من لشكر العظيم، أو أصابهم اللَّه بالنعمة في الرخاء والسعة لإيلافهم الرحلتين، فكفروا نعمته، فضربهم بالقحط سبع سنين، فحصل لهم الكفر بدل النعمة كذلك حين أُسروا وقُتلوا يوم بدر، وقد ذهبت عنهم النعمة، وبقي الكفر طوقا في أعناقهم، وعن عمر - رضي الله عنه - هم الأفجران من قريش، بنو المغيرة، وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية، فمتعوا حتى حين ". هذه وجوه ذكرها إمام البيان الزمخشري، ونحن لَا نقيد عموم القرآن ببلد أو جماعة إلا أن يكون لفظ الكريم، يوحي بالتخصيص بدل التعميم، واللفظ هنا فيه بيان لأحوال النفوس الإنسانية عندما تحيد عن أمر ربها، وخلاصة الوجوه بعد إخلائها من التخصيص بقوم أو قبيل أنها تتجه إلى أن التبديل في الشكر، فيكون الكلام على حذف مضاف، بدلوا شكر النعمة كفرا، أو يكون التبديل في ذات النعمة فلم ينتفعوا بها الانتفاع الطيب وبدلوا كفرا.
وبذلك سرى الفساد إلى أقوامهم فأحلوهم دار الهلاك في الدنيا بالذل والهوان وفي الآخرة بجهنم، ولذا قال تعالى:(8/4026)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)
(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)
جهنم عطف بيان لدار الهلاك، وأن هلاك أشد من النيران يصطلون بها، يحيط بهم حرها الشديد ويكونون وقودا لها، وإنها تكون أسوأ نهاية؛ ولذا ذمَّها اللَّه(8/4026)
فقال تعالت كلماته: (وَبِئْسَ الْقَرَارُ)، أي بئس المقر الدائم، فالقرار مصدر أريد به المكان، فالذم للمكان، أو الذم لذات القرار في جهنم، وهو الحال التي انتهوا إليها.
وقد ذكر اللَّه تعالى أشد الكفر الذي بدلوا به نعمة اللَّه تعالى، وهو اتخاذ الأنداد شركاء له في العبادة فقال تعالى:(8/4027)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
الواو عاطفة على (بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا)، فقد بدلوا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وجعلوا للَّه أندادا، وجعل الله سبحانه وتعالى الأصل، وهو تبديل نعمه التي أنعم اللَّه بها نعمة تجزى، فجعلوها كفرا هو الأصل لكل مآثمهم، ونتيجة عقوبته؛ وذلك لأن الانغماس في الأهواء والاستطالة بها سبب الشر ونسيان اللَّه تعالى، ومن نسي الله تعالى كان منه الانحراف الفكري والاعتقادي، والانغماس في الشهوات.
(وَجَعَلُوا) معناها اتخذوا (لِلَّهِ أَنْدَادًا)، وأنداد جمع ند، رهو المماثل، وهذه الأوثان بالبذاهة ليست أندادا مماثلة لله جل جلاله، ولكنهم أتخذوها أندادا بأوهامهم وأهوائهم وفساد تفكيرهم؛ إذ كيف تكون الأحجار التي لَا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع أندادا لله، ولكنهم جعلوها كذلك.
وقوله تعالى (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) فيها قراءتان: إحداهما بضم الياء والثانية بفتحها، والأولى قراءة كثرة القراء، والثانية قراءة من دونهم عددا وهما متواترتان، ونحن نعدهما كلتيهما قرآنا لَا ريب فيه، ويكون المعنيان صحيحين ما داما غير متعارضين، ولا يمكن أن يكون ذلك في قراءتين متواترتين.
قالمعنى ليضلوا عن سبيل الله تالعى بذلك الجهل الذي جعلوا فيه الأحجار أندادا للَّه تعالى، فإنه ذاته هلاك، وعاقبته ضلال، إذ العاقية دائما من جنس مؤثراتها، والنتيجة من دائما من جنس مقدماتها.(8/4027)
وهم إذا ضلوا بها يعملون على إضلال غيرهم بالفتنة في الدين، وإيذاء المؤمنين وسب دعاة الحق، والسخرية منهم.
وقد يقول قائلهم: إنهم اتخذوها بغير الضلال، ونقول: إن النتيجة كان الضلال أو الإضلال، ولذلك قالوا: إن اللام لام العاقبة لتكون النتيجة ضلالهم بها؛ وإضلال غيرهم لتقديسها، وذلك أنهم صنعوا حجارة على أشكال آدمية، ثم توهموا فيها قوى خفية، ثم عبدوها ضلالا بها.
وقد أمر اللَّه تعالى نبيه الأمين بأن يقول: (تَمَتَّعُوا) إن الذي أغراهم بعبادة الأحجار واتخاذها أندادا للَّه هو ضلال عقولهم وانغماسهم في الأهواء والشهوات مما جعلهم لَا يفكرون في حقائق الأمور ويستمتعون بأهوائهم، فأمر اللَّه تعالى نبيه بأن يقول: (تَمَتَّعُوا)، أي استمروا في تمتعكم وأهوائكم ومفاسدكم الفكرية والتفسيرية، وليس هذا أمر للطلب بل للتهديد، أي استمروا فإن مصيركم إلى النار، فالعبرة بالنتيجة لَا بصيغة الأمر كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت ". (1)، ولنتيحة الاندحار في مفاسد الأخلاق والأهواء إلى أراذل الأعمال.
وقال الزمخشري: " إن الأمر هنا إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر، وأنهم لا يعرفون غيره، ولا يريدونه مأمورين قد أمرهم آمر مطاع لَا يسعهم أن يخالفوه، ولا يملكون أمرا دونه، وهو أمر الشهوة، والمعنى: إن دمتم على الامتثال لأمر الشهوة فإن مصيركم إلى النار " (2).
أي أن الأمر ليس من اللَّه والنبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما الأمر من آمر هو الانسياق وراء الأهواء والشهوات، فكأنه أمر أُمروه، واتبعوه، وكان مآلهم إلى النار.
هذا شأن الذين بدلوا نعمة اللَّه كفرا واتخذوا الأنداد، أما شأن الذين أدركوا النعمة وشكروها ولم يكفروها فإنهم لَا يضلون في ذات أنفسهم، ولا يضلون غيرهم بل يكون منهم الخير والطهارة لأنفسهم ولجماعتهم؛ ولذا قال عز من قائل:
________
(1) سبق تخريجه.
(2) الكشاف: ج 2/ 377.(8/4028)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
(قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - في مقابل الأمر للكافرين بأن يتمتعوا بالعاجلة، فالآجلة مصيرهم فيها إلى النار، والأمر للمؤمنين هو أمر بثمرات إيمانهم، وعبر عن المؤمنين بـ (عبادي) للإشارة إلى أنهم قاموا بحق العبودية، فلم يشركوا مع اللَّه أحدا، وأخلصوا الذات، وأعطوا ما هو حق على العبد أن يؤديه.
(يُقِيمُوا الصَّلاةَ)، أي (أَنْ) هنا محذوفة وهي تفسيرية تفسر مضمون القول، قل لهم أن يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقنهم سرا وعلانية.
أو نقول: " إن قوله تعالى: (يُقِيمُوا) خبرية على أنها جواب الأمر، أي قل لهم تكليفات اللَّه ليقيموا الصلاة، ويرى الزمخشري أن تكون (يُقِيمُوا) بمعنى ليقيموا الصلاة، والمعنى على ذلك قل لهم مبينا أحكام الشريعة وهديها، وخص الصلاة والزكاة أي الإنفاق؛ لأن الصلاة للتهذيب وإقامتها استشعار للربوبية، وهي عمود الدين، ولا دين من غير صلاة، والزكاة - أو الإنفاق - فيها التعاون؛ ولذا تسمى " الماعون "، كما قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7).
الإنفاق في السر سترا للمتجملين من الفقراء حسن في ذاته، والإنفاق علانية للاقتداء ونشر التعاون، وكل في موضعه حسن.
(مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ) ليتدارك التقصير بتعويض يقدمه أو فدية يفتدي بها نفسه، ولا مخالَّة وصداقة ينقذ بها الصديق صديقه، والرفيق رفيقه، وقد قال تعالى في هذا المعنى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48).
والسرية تحسن في حالة التطوع، وإيثار دوى القربى والجيران سترًا عليهم، والإعلان يكون في الواجب، وهنا يرد سؤال، إن الزكاة لم تجب إلا في المدينة،(8/4029)
والسورة مكية، كما هو معلوم، فكيف يجب الإنفاق؛ ونقوك: إن وجوب الإعطاء هو من قبيل معاونة المؤمنين من الضعفاء والأرقاء على الصبر على الأذى يؤذيهم به المشركون لإخراجهم من دينهم، وإنه دعى إلى الزكاة في سورة مكية، منها قوله تعالى في سورة الروم: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39).
وقبل أن ننتقل هذه الآية الكريمة إلى ما بعدها نذكر كلاما قيما ذكره الزمخشري في حكمة اقتران قوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ).
قال أثابه اللَّه تعالى: " فإن قلت كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لَا بيع فيه ولا خلال؟ قلت: من قِبَلِ أن الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلا ليأخذوا مثله وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها أو خيرا منها، وأما الإنفاق لوجه الله خالصا كقوله: (وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21).
فلا يفعله إلا المؤمنون الخلّص فينفقوا منه ليأخذوا بدله في يوم لَا بيع فيه ولا خلال، أي لَا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة، ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله تعالى " (1).
وإن هذه إشارة بيانية قويمة تشير إلى أن الإنفاق سرا وعلانية المطلوب هو لوجه اللَّه تعالى، لَا للكسب بمعاوضة ولا للكسب بإرضاء صديق أو رجاء في شدة.
وفى قوله تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ. . .) إشارة إلى أن الإنفاق لوجه اللَّه تعالى هو ذكر للَّه تعالى، فليس من التجارة التي قال الله تعالى فيها: (. . . لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. . .)، ولا التجارة التي ذم بها المنافقون في قوله تعالى (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11).
_________
(1) الكشاف ج 2/ 378(8/4030)
وقد ذكر سبحانه بعض نعمه فقال:(8/4031)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)
(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)
ذكر سبحانه وتعالى أن المشركين بدلوا نعمة اللَّه كفرا وجعلم اللَّه أندادا من حجارة وجعلوها آلهة، وفي هذه الآية يذكر بعض نعمه على الوجود كله فقال تعالت كلماته. (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرضَ) صدر الآية الكريمة بلفظ الجلالة مفيض النعم، لتربية النهابة، ولمقابلة عبادته، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد، بعبادة الأوهام والضلال، و (اللَّهُ) لفظ الجلالة: مبتدأ، والموصول هو خبره، فهو تعريف للَّه تعالى بأنه الذي خلق السماوات والأرض، خلق سبحانه وتعالى السماء ببروجها ونجومها وكواكبها، والأرض بطبقاتها وجبالها وما أودع ببطنها من أحجار وفلزات ومعادن جامدة وسائلة، اقرأ قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11).
هذا هو الإله القادر القاهر الغالب، وهو الجدير بأن يعبد لما أنشأ وأبدع وأنعم. ثم ذكر نعمته في تلاقي السماء بالأرض، يجمع بينهما الذى يسقي الأنفس والثمرات، ولذا قال تعالى: (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ).
أفرد السماء هنا وجمع السماوات في الخلق؛ لأن الماء ينزل من المزن السحاب الثقال المملوءة ماء وسميت سحابا؛ لأنها فوق الأرض التي تمطرها، أما السماوات فتحيط بالأرض كأنها الشيء الصغير في داخل قبة، وإن هذا الماء هو الذي تخرج منه الثمرات؛ ولذا قال: (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ)، والثمرات جمع ثمرة وهو ما تنتجه الأرض من زروع وغراس وكروم، ونخيل، ومن الثمرات، تكون المطاعم(8/4031)
والملابس والمساكن اليدوية والأخشاب وغير ذلك (رِزْقًا) بمعنى مرزوق كمطحن بمعنى مطحون، أي أنه يرزقكم إياه ويجيء إليكم سهلا بغير مشقة إلا العمل الذي يكون سببا مقترنا بالعطاء وليس منشئا له، فاللَّه هو الرزاق ذو القوة المتين.
و (مِنَ) في قوله: (مِنَ الثَّمَرَاتِ) بيانية لتنوعها، والمعنى فأخرج من الثمرات المتنوعة المختلفة الفوائد التي ترجع بأحسن الفوائد.
وإن هذه الثمرات تنقل من أرض إلى أرض، وإنه ثبت الآن أن خير السبل البحار وما كان ذلك معروفا عند العرب، بل النقل عند العرب كان بالجمال التي كانت تسمى أو سميت سفن الصحراء، ولكن القرآن أُنزل من حميد يعلم ما كان وما يكون، فهو يعلم أنه سيكون زمن يكون النقل بالبحار في جُلِّه، وفي الأرض في قله؛ ولذا قال عز من قائل: (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأمْرِهِ) ومعنى سخرها مكَّن الإنسان من صناعتها واستخدامها وجعلها تعلو في البحر سائرة من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق، حاملة خيرات وفيرة من أرض إلى أرض أخرى، هذه الخيرات كثيرة، وبذلك تكون الخيرات موزعة في الأرض بالقسطاس لولا ظلم الإنسان.
(وسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ) وهي المجاري العذبة كنهر النيل ودجلة والفرات وسيحون وجيحون، ومعنى سخرها سهلها وتكون في البلاد التي تقل أمطارها، ولا يكفي ما تنزل السماء من ماء لسقيها وزرعها، وسمي النهر نهرا لأنه ينهرها ويشقها ويجري فيها، والأنهار الكبار تمخر فيها السفن كالبحار، واللَّه هو الرزاق.
بعد أن ذكر سبحانه ما سخر في الأرض من اقترانها بالسماء أخذ يبين للإنسان من أجرام السماء فقال:(8/4032)
وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
الدءوب معناه السير والمرور في استمرار ودأب من غير لغوب، وتلك سنة اللَّه تعالى في أجرام السماء، فهي تسير في دأب يعلم اللَّه تعالى سيرها، وناموسها(8/4032)
وسننها من غير إبطاء، والشمس والقمر يسيران ويتحركان في دأب مستمر (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39).
وهي مسخرة يستفيد الإنسان من حركاتها، فالشمس ذات الضياء والأشعة التي تمد الزرع والشجر والثمار بالنمو، والإنسان بالدفء والحرارة والأشعة، وكل ما فيه حياة الإنسان، والقمر يمده بما تنتظم به الحياة في الإنسان والحيوان، وحسبك أن تعلم أن طَمْث المرأة وحملها وجهازها مرتبط بمنازل القمر، وأن تعلم أن المد والجزر مرتبطان أيضا بالقمر، وإن ارتباط الشمس بالأرض كان منهما الليل والنهار، فالأرض في دورانها يحجب عنها ضوء الشمس فيكون الليل وينبسط عليها ضوء الشمس فيكون النهار، وفي الليل الهدأة والسكون والثبات والراحة، والاستجمام، وفي النهار تكون الحركة والسعي للرزق كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا).
وقد أنعم اللَّه على عباده بتلك النعم كلها، وظهرت بها قدرته القاهرة، وإبداعه، وإنعامه وهو المستجيب في السراء والضراء، والمنقذ في المدلهمات، وما يكرث العباد؛ ولذا ختم الكلام في نعمه بقوله تعالى:(8/4033)
وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
(وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
(الواو) عاطفة على (خَلَقَ) في قوله تعالى: (السَّمَوَات وَالأَرْضَ) نعم مترادفة متوالية جامعة، بعضها مع بعض أو تالي لبعض، (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ)، فيها قراءتان إحداهما من غير تنوين في (كل)، بل كل مضافة إلى ما بعدها: وقرئ بالتنوين، ولها إضافة و (ما) في (مَا سَأَلْتُمُوهُ) اسم موصول بمعنى (الذي) أو نافية.
ومن في قوله: (مِّن كُلِّ) إما تبعيضية، وإما مؤكدة لاستغراق الحكم زائدة في الإعراب، والمعنى على أنها تبعيضية على قراءة الإضافة، وآتاكم بعض ما(8/4033)
سألتموه، أما ما احتجتم إليه، وكانت حالكم حال من يسأله إياه، وإن لم يسأل باللسان بل سأله بالاستعداد والتكوين، فأعطاكم الكساء والغطاء واللباس والوقاية، ومكنكم من أن تتسلحوا ضد من يغير عليكم من سباع الأرض حيوانات أو أناسي، وغير ذلك، والبعضية بعضية أنواع أي بإعطاء بعض كل نوع من الأنواع تسألونه بمقتضى الفطرة والتكوين والحاجة الفطرية، وعلى أن (مِّن) بيانية، يكون المعنى أعطاكم كل ما سألتموه بمقتضى الاستعداد والفطرة على ما بيَّنا، وإن ذلك واضع جمع فيه بين الكلية في كل - ومعنى العطاء.
وعلى قراءة التنوين: يكون ثمة مضاف محذوف دل عليه التنوين، والمعنى آتاكم من (كل) شيء سألتموه، أي بمقتضى أصل التكوين، وتكون القراءتان متلاقيتين على تخريج (مِّن) بأنها بيانية.
ولا أرى موجبا أو داعيا لأن نقول: إنها نافية، واللَّه أعلم.
وإن هذه وما سبقها من نعم هي نعم الإنشاء والإبقاء، فقد أنعم بالإنشاء وأنعم سبحانه وتعالى بالإبقاء مستمكنا من كل شيء حتى يكون اليوم الآخر يوم الجزاء لمن شكر بالنعيم المقيم، ولمن كفر بالعذاب الأليم.
وقد أشار سبحانه إلى أن الإنسان يكفر النعمة ظلما، كما قال تعالى في آية أض ى: (. . . وَقَلِيلٌ منْ عِبَادِيَ الشَّكورُ).
وقد قال تعالى: (إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ظلوم صيغة مبالغة من الظلم، أي أنه ظالم أبلغ الظلم بظلم نفسه بالكفر وغمط حق غيره، والاعتداء على الناس وعلى الحقائق، والاعتداء بعبادة الأوثان، و (كفَّارٌ) صيغة مبالغة في الكفر، وهو كفر النعمة وعدم شكرها، بل اتخاذها سبيلا لعتوه واستكباره وفساده في الأرض، وقد أكد اللَّه تعالى ظلم الإنسان بـ " إن "، وبـ " اللام " وبصيغة المبالغة في الظلم، وكفر النعمة، واللَّه محيط بالكافرين.
* * *(8/4034)
دعاء أبي الأنبياء إِبْرَاهِيمَ عليه السلام
قال تعالى:
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)
* * *
هذا دعاء أبي العرب ومن يتشرفون بالانتساب إليه وهو باني البيت، وأول دعائه ما يتعلق بالبيت العتيق الذي كان أول بيت وضع للناس.
أول دعائه اتجه إلى الأرض في البيت،(8/4035)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)
(رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) والبلد هو مكة المكرمة، زادها اللَّه تعالى تشريفا، وقوله تعالى: (آمِنًا) أي ذا أمن؛ لأن الأمن للسكان لَا للمكان، ومعنى الأمن لَا اعتداء فيه، ووصف المكان بالأمن، فيه بيان سيادة الأمن، فالمكان لَا اعتداء فيه، وهو مقدس، وقد أجاب اللَّه تعالى دعاءه وكان فضلا من اللَّه على العرب، كما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67).(8/4035)
والجزء الثاني من الدعاء أنه دعا ربه مبتهلا إليه أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام فقال تعالى حاكيا دعاءه: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) دعا - صلى الله عليه وسلم - لنفسه ولبنيه أن يجنبهم عبادة الأصنام، فقوله تعالى: (أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ) فيه (أَن) وما بعدها، مصدر وهو عبادة الأصنام، وذكر الفعل المضارع لتصوير عبادة الأصنام، وفى ذلك إشارة إلى قبحها وبعدها عن العقول.
وقول إبراهيم: (وَبَنِيَّ) واضح أنه لَا يشمل الذرية كلها لدلالة اللفظ على ذلك؛ ولأن الإجابة لم تكن للذرية كلها، فقد كان من هذه الذرية من عبد الأصنام، بدليل هؤلاء الذين نظر فيهم القرآن، وخاطبهم محمد - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى أن يعبدوا اللَّه وحده لَا يشركون به شيئًا، فاللَّه تعالى لم يكن في إجابته سبحانه وتعالى ما يعم الذرية كلها.
ولقد كان إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - الذي كان أبوه صانع أصنام، والذي ابتدأ حياته بِحَطْم الأصنامِ، والذي قال: (وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذَا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ. . .).
كان إبراهيم أشد الناس بغضا للأصنام وإدراكًا لضلال من يعبدونها؛ ولذا قال مؤكدا:(8/4036)
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ... (36)
أسند الإضلال إلى الأحجار، مع أن الإضلال هو من الشيطان الذي ابتدع الأوهام حولها؛ وذلك لأنهم لما عبدوها وأحاطوها بأوهام كثيرة وصار الوهم يولد وهما وتوالت وتكاثرت، وكلها حولها صح إسناد الإضلال إليها، وعبر إبراهيم عليه السلام عن الذين ضلوا بها بأنهم كثير، وليسوا عددا قليلا، وذلك لعموم الضلال بها، وعمومه لَا يجعلها حقا، بل هي باطل، (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116).
وإن ذكر ضلال الأوثان على لسان إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وهم يتشرفون بنسبتهم إليه وهو باني الحرم الشريف المقدس، فيه بيان أنه بريء منهم ما داموا يعبدون الأوثان؛ ولذا قال عليه السلام في دعائه: (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّه مِنِّي) ملة إبراهيم هي التوحيد،(8/4036)
كما قال تعالى: (. . . مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكينَ)، فمن تبعه في ملته فإنه منه، ومفهوم هذا أن من لم يتبعه في التوحيد، وعبد الأوثان فليس منه؛ لأن اشتراط كونه موحدا ليكون منه، فيه بيان لئن لم يتبعه لا يكون منه، بل هو بريء منه، كما تبرأ من أبيه، وكما تبرأ من قومه إذ قال: (. . . إِنِّي بَرِيءٌ ممَّا تُشرِكُونَ)، ثم قال - عليه السلام - في دعائه: (وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رحِيمٌ) وصف اللَّه تعالى خليله بقوله: (. . . إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)، وإن حلمه وعطفه وشفقته لتبدو في قوله: (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فهو - عليه السلام - لم يحكم بالعذاب على من عصاه، بل ترك أمره للَّه تعالى، كما قال عيسى - عليه السلام - مثل ذلك فقال: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيز الْحَكِيمُ)، وليس معنى النص أنه يطلب الغفران لمن أشرك باللَّه، فمحال أن يطلب عدو الأصنام الأول غفرانا لعبدة الأوثان، إنما الذي يفهم من مضمون العبارة السامية أنه يرجو الرحمة لمن عصاه ابتداء ألا يستمر على عصيانه فهو يرجو التوبة ولا يقدر البقاء على الشرك حتى يكون العذاب الأليم.
وهنا إشارة بيانية حكيمة، فيقول خليل اللَّه - عليه السلام - في دعوته: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ) تعبر عن ترك عبادة الأوثان (وَاجْنُبْنِي)، أي اجعلني في جانب وبني في جانب فهي تتضمن المباعدة، وكان حقا على ذرية إبراهيم التي عبدت الأوثان أن تباعد بينها وبينها.
بعد أن دعا أبو العرب الشفيق لهم بتطهير نفوسهم، وأن يكونوا للَّه تعالى، دعا لهم بالرزق فقال:(8/4037)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
(رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
كان دعاء إبراهيم - عليه السلام - بضمير المتكلم (وَاجْنبْنِي وَبَنِيَّ) وذلك في العبادة، أما في طلب الرزق فقد طلبه بضمير الجمع فقال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ(8/4037)
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)؛ لأن الرزق يطلبه المخلص ليعم لَا ليخص فهو يطلبه باسمه وباسم ذريته، ويعم مؤمنهم وكافرهم، كما قال تعالى منبها إبراهيم إلى أن يطلب لمن آمن ومن كفر، فقد قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126).
يقول إبراهيم في دعائه مقررا ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنه أسكن من ذريته بواد غير ذي زرع، و (مِن) هنا للتبعيض وهي ذريته من إسماعيل، أما ذريته من إسحاق فلم تكن بواد غير ذي زرع، أي أنه لَا زرع فيه، ينبت ما يكون غذاء للإنسان والحيوان كالحنطة والشعير ونحوهما مما يكون غذاء للإنسان.
الأمر الثاني: كان إسكان هؤلاء لغرض تعمير بيتك العتيق الذي بناه بأمر اللَّه أبو الأنبياء؛ ولذلك قال: (عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)، أضاف البيت إليه سبحانه وتعالى تشريفا لشأنه، ووصفه بالمحرم؛ لأنه تحرم فيه الدماء، وهو في ذاته حرم آمن يأمن كل من يأوي إليه.
وقد بني في صحراء جرداء ليكون آمنًا من طمع الطامعين ورغبة المعتدين، إذ إنهم يرومون خصب الأرض ليشبعوا نهمتهم ويرضوا مطامعهم، وليكون الاستغلال الغاشم والاستعمار الظالم، فكان في أرض لَا يطمع فيها طامع، ولا يرومها فاتح.
وقد كرر نداء ربه ضراعة، فقال: (رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ)، وقوله تعالى: (لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) متعلق بـ أَسْكَنْتُ، اللام للتعليل، أي أن أسكنتهم لأجل إقامة الصلاة فيه وأن يعمروه بصلاتهم، لَا ليستمر خرابا من العبادة، خاويا من الناس، فلا تنتهي إلى الغاية التي أمرت بإنشائه من أجله، وفي هذا إشارة إلى أن المشركين من ذرية إبراهيم قد انحرفوا به عن غايته عندما أحاطوه بالأوثان التي هدمها(8/4038)
النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة في العام الثامن من الهجرة على صاحبها أفضل السلام وأتم التسليم.
الأمر الثالث: بعد أن ذكر إبراهيم حالهم وحال أرضهم ذكر دعاء طالبا من ربه (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِنَ الثَّمَرَات لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (الفاء) تدل على أن الباعث لهذا الدعاء ما قبلها، وهو (أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَاد غَيْرِ ذِي زَرْعٍِ).
في قوله تعالى: (أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) مؤداها أن يفد بعض من الناس إلى هذه الأرض التي لَا زرع فيها مسرعين تميل قلوبهم وتهوى نفوسهم محبين الرحلة إليها مع رمالها، وجبالها وأنها لَا خير فيها، وقوله تعالى: (مِّن النَّاسِ) معناها بعض الناس، وروى ابن عباس أنه قال: لو قال تعالى: أفئدة الناس لازدحم بالفرس والترك من غير المسلمين، وقوله تعالى: (تَهْوِي) من هوت الناقة إذا أسرعت في سيرها إسراعا شديدا كأنها تسابق الريح، وقوله تعالى: (أَفْئِدَةً) خرجها بعض العلماء على أن أصلها (أوفدة) جمع وفدة، حصل فيه قلب مكاني فحلت الفاء محل الواو، وحلت الواو محلها فقلبت همزة، وإنه لَا داعي لهذا التخريج النحوي ولا دليل عليه، وإن الأولى أن تكون كلمة أفئدة على معناها الأصلي وهي أنها جمع فؤاد بمعنى القلب، والدعاء يكون منصبا على أن تميل القلوب إلى المكان مع جفاف مائه وصعوبة أرضه وارتفاع جباله الصماء التي لَا تُكسى بخضرة قط، والمعنى على ذلك يكون مستقيما وقويا ككل معاني الذكر الحكيم.
وذكر الزمخشري أن هناك قراءة أخرى وهي (آفدة) اسم فاعلة من أفدت بمعنى أسرعت جماعة أو جماعات متتالية جماعة بعد جماعة، حتى لَا ينقطع عنهم خير الأرض كلها؛ ولذا قال تعالى بعد ذلك: (وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ)، و (مِّنَ) هنا يصح أن تكون بيانية، أي ارزقهم الثمرات التي حرمتهم أرضهم منها، ويصح أن تكون بمعنى بعض، ارزقهم بعض الثمرات من كل صنف.(8/4039)
ثم قال تعالى (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، أي رجاء أن يشكرو هذه النعم، أي تكون حالهم حال شكر، لَا حال كفر فلا يعبدوا إلا اللَّه تعالى العزيز الحكيم.
والرجاء من العباد لَا من اللَّه، أي ليكونوا في حال رجاء الشكر دائمة بدوام هذه الخيرات التي يسوقها اللَّه سبحانه وتعالى إليهم وتجيء إليهم في واد (قفر) ليس فيه زرع ولا ثمر، وذلك بدعوة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - فجعله حرما آمنا تجيء إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنه وفضله، بهذا الخير يتوافر أصناف الثمار ما لَا يوجد كله في أخصب الأرض وريف الأمصار، وفي بلد من بلاد الشرق والغرب، إجابة لدعوة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، ثم يقول: وليس ذلك من أيامه بعجيب متعنا اللَّه بسكنى حرمه، ووفقنا لشكر نعمه، وأدام لنا الشرف بالدخول تحت دعوة إبراهيم، ورزقنا طرفا من سلامة ذلك القلب ". تلك كلمات جار اللَّه في مكة المكرمة - الزمخشري (1).
وقد أحسَّ إبراهيم خليل اللَّه بالخشوع أمام ربه والضراعة إليه بعد أن دعا لولده وذريته بما دعا، وأدرك أن دعاءه فيه معنى التطاول مع علم ربه، وهو العليم بكل شيء فقال:
________
(1) الكشاف: ج 2/ 380.(8/4040)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)
(رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)
نادى ربه بضمير الجمع، فقال: (رَبَّنَا)، أي أنه ربه ورب ذريته، ورب الوجود كله. وأنه أعلم بحالهم، سرهم وعلانيتهم، وأن العلم على سواء يستوي فيه المغيب والمعلن وما غاب وما حضر، وكأنه يستدرك على دعائه؛ لأنه سبحانه هو الذي أسكنهم في ذلك الوادي الجدب، وهو الذي أقامهم بجوار بيته المحرم الذي يحرم فيه ما يباح في غيره من صيد وقتال لو كان عادلا، إلا أن يكون دفاعا، يعلم كل ذلك، بل إنه ما كان له أن يتطاول على مقام الألوهية بهذا الدعاء، وقد ابتدأ الدعاء بذكر حالهم من العلم بسرهم وجهرهم، ثم عمم علمه سبحانه(8/4040)
فقال: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْء فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)، و (مِن) هنا لعموم النفي، أي ما يخفى على اللَّه شيء في الأرض من خيرها وجدبها وزرعها، وقحطها، وطبقاتها، وما فيها من معادن سائلة وجامدة، والسماء وما فيها من نجوم وكواكب، وسحب ثقال تأتي بالدر الوفير والخير الكثير.
ولقد قال الزمخشري في هذه الآية كلاما قيما ننقله عنه فيما يلي:
" والمعنى أنك أعلم بأحوالنا، وما يصلحنا وما يفسدنا منَّا، وأنت أرحم منا بأنفسنا ولها، فلا حاجة إلى الدعاء والطلب وإنما ندعوك إظهارا للعبودية لك وتخشعا لعظمتك، وتذللا لعزتك، وافتقارا إلى ما عندك، واستعجالا لنيل أياديك وقربا إلى رحمتك، وكما يتملق العبد بين يدي سيده رغبةً في إصابة معروفه، مع توفر السيد على حُسْن المِلكة " (1).
وقوله تعالى: (وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْء فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) ذكرت الأرض أولا؛ لأن الكلام في جدبها وخصبها، وذكرت السماء؛ لأنها تمدها بالسقي والماء.
وظاهر القول أن ذلك من ضراعة إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، وهو ما نراه، وقيل: إن ذلك من قول الله، والحق أن كله من قوله تعالى ما جاء على لسان إبراهيم وغيره.
* * *
شكر النعمة
قال اللَّه تعالى:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
________
(1) الكشاف: ج 2/ 381.(8/4041)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
* * *
يقول تعالى: (. . . لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) فاستدامة النعمة بالشكر؛ لذلك بادر إبراهيم بشكر النعمة التي أنعم اللَّه بها عليه.
إن اللَّه تعالى وهب له وهو كبير طاعن ولديه إبراهيم وإسحاق، وكانت أمرا خارقا للعادة، وعندما بُشرت بذلك امرأة إبراهيم: (قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وأَنَا عَجُوز وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا. . .)، فأعلن بالحمد إبراهيم الذي كان مثلا للإنسان الفطري الكامل:(8/4042)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ).
ابتدأ كلامه بالحمد إشعارا بشكر النعمة وتقديرها، إذا أعطاه ولدا حيث يستحيل ذلك عادة وعلى مجرى الأسباب المعروفة؛ إذ أم إسحاق عجوز وزوجها شيخ هرم، حتى قيل: إن سنه عند البشارة بإسحاق كانت فوق المائة، وقوله:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) فيه معنى القصر، أي أن الحمد للَّه تعالى وحده، فهو مانح النعم ومجريها وحده، وهو الذي وهبه في هذا الكبر العتي، وقوله تعالى: (عَلَى الْكِبَرِ)، (عَلَى) هنا بمعنى مثلها في قول الشاعر:
إني على ما ترين كِبرَى ... أعلم من حبث تؤكل الكتف
وقوله: (عَلَى الْكِبَرِ) تدل على جلال الشعور بالنعمة، إن ذلك واضح أنه إكرام من اللَّه تعالى بخرق الأسباب، وإن شكر النعمة بذكر إسماعيل وإسحاق فيه معنى جليل؛ لأنهما ولدا أبي الأنبياء الذين جاءوا بعد إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -، فكان النبوة انحصرت في ذريته - صلى الله عليه وسلم -، كما يبدو من قصص القرآن الكريم الصادق في ذاته.(8/4042)
وقد جاءت العبارة الضارعة التي تؤكد شكره للنعمة، فقال: (إِنَّ ربِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)، والدعاء هنا هو الضراعة إلى الله تعالى، وطلبه منه الولد، فقد طلبه، ودعا ربه به، فقد جاء في سورة الصافات أنه قال: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102).
فهذه بشراه لإسماعيل - صلى الله عليه وسلم -، وكانت استجابة لدعائه، وكانت بعد ذلك في نفس السورة بشراه بإِسحاق فقال سبحانه:
(وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113).
والبشارتان مختلفتان: فإسماعيل أكبر من إسحاق، فالذبيح إسماعيل لا إسحاق كما جاء في التوراة المحرفة.
ومهما يكن الأمر في هذا فقوله تعالى على لسان إبراهيم: (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) فيه ما يدل على أن ذلك كان بدعاء من الخليل واستجابة من الله تعالى، فقد أكد أن اللَّه سميع الدعاء أولا: بالجملة الاسمية، وثانيا بـ (إنَّ) المؤكدة، وثالثا باللام في قوله: (لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) وعبر بقوله: (إِنَّ رَبِّي) فيه أيضا شعور بالشكر الجزيل لربه؛ لأنه الذي ربَّه وكونه وقام على شئونه واستجاب دعاءه.
لقد كان إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - صورة سامية للفطرة الإنسانية، وأوضح هذه الفطرة حب الذرية والحدب عليها وإكرامها وتوجيهها إلى الحق وإلى عبادة الله تعالى؛ ولذا قال اللَّه تعالى على لسانه:(8/4043)
رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)
(رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)
النداء إلى اللَّه سبحانه وتعالى بوصف أنه رئه الذي كونه وأنشاه، وربَّه وقام على شئونه يدعوه إلى أن تكون نفسه للعبادة، يفديه بروحه وبالإيمان، وإقامة(8/4043)
الصلاة، كما غذاه في بدنه وعموم أحواله، وحاجاته البدنية، فيطلب غذاءه الروحي بعد غذائه الجسدي.
ويقول - عليه السلام - مخاطبا ربه: (اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ)، أي صيرني وحولني ووجهني إلى أن أكون مقيم الصلاة، أي مؤديا لها أداء مقوما مستقيما كاملا، بأن تكون أركانها الحسية مستوفاة، ومنها الخشوع والخضوع المطلق، والصلاة رمز إلى القيام بحق الدين كاملا من غير التواء، ولم يكتف بالدعاء لنفسه بل أضاف إلى ذلك الدعاء لذريته، ولكن اللَّه تعالى أشار إلى أنه سيكون من ذريته من لَا يشكر اللَّه تعالى، ومن يعصيه، ولذا قال: (وَمِن ذُرِّيَّتِي)، و (مِن) هنا للتبعيض، أي اجعل من ذريتي مقيم الصلاة ليكون حبل العبادة متصلا إلى يوم القيامة لَا ينقطع التوحيد، وإقامة شعائره، بل تتصل إلى يوم القيامة، ومن ذريته قائمون على الحق يهتدون بهديه، ويسيرون في طريق الحق، وهو الطريق المستقيم.
(رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) (الواو) عاطفة على (اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ)، وجاء قوله: (رَبَّنَا) كالجملة تكون بين متلازمين، وهما هنا المعطوف والمعطوف عليه، وذكر (الدعاء) للضراعة والابتهال إلى اللَّه تعالى، وذكر بضمير المتكلم (رَبِّ)، والجمع (رَبَّنَا) للإشارة إلى أنه يتكلم عن نفسه، وعن الصالحين من ذريته، والدعاء هنا هو العبادة، إذ هي دعاء للَّه تعالى وضراعة إليه، ومن يدعون الأنداد إنما يعبدونها، وهي لَا تضر ولا تنفع، فهم بدعوتهم من دون اللَّه سبحانه وتعالى يعبدون ما لَا يضر ولا ينفع، ولقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الدعاء مخ العبادة " (1) فالدعاء من العبادة، وهو ذاته عبادة.
وقال: (تَقَبَّلْ دُعَاءِ) والتقبل شدة القبول، وتقبل العبادة من اللَّه تعالى قبولها مع الرضوان، ومحبة القائم بها.
________
(1) سبق تخريجه.(8/4044)
وإن ذلك يتقاضى أن يكون ذلك من العابد بقلب سليم مخلص طاهر، لا يقصد بها غير وجه الله الكريم، لَا يرائي به، ولا ينقض بعضها ببعض، بل يتجه بكل نفسه لربه لَا يكون فيها موطن لغيره سبحانه.
وإن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - يمثل في شخصه النبوي، الرجل الفطري المستقيم النفس في كل اتجاهاتها، وقد رأينا من فطرته أنه فكر في ذريته كما فكر في نفسه، والفطرة السليمة تجعله يذكر عند الخير أبويه كما ذكر ذريته؛ ولذا عندما اتجه إلى ربه طالبا مغفرته ذكر أبويه فقال تعالى على لسانه:(8/4045)
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
كان إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - متجها دائما إلى مقام الربوبية فنادى ربه بالربوبية، وقد ذكرناها في ذلك من ضراعة المؤمن المقدر لنعمة الإيجاد، والربوبية، والقيام على شئونه، وأنه الحي القيوم القائم على ما أنشأ من خلق، وهو اللطيف الخبير، ودعاه بالمغفرة، وابتدأ بنفسه أولا، ثم ثنى بوالديه، وثلث بالمؤمنين الذين يؤمنون باللَّه واليوم الآخر، سواء أكانوا من ذريته أم كانوا من غيرهم، فهو دعاء لعامة المؤمنين، وإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - كانت أدعيته العامة جماعية؛ لأنه نادى بالأخوة الإنسانية.
وطلب الغفران وستر الذنوب، ومحو السيئات، وقيام الحسنات، يوم يقوم الحساب، وهو يوم القيامة حيث يكون الحساب بأن يقوم كل إنسان ما قدم من خير، وقد كتب ما ارتكب من خير وشر، فهو يطلب من اللَّه في هذا اليوم عفوه وتغليب مغفرته على عذابه، وذلك بالنسبة للمؤمنين، وبالنسبة لوالديه. وهنا يسأل سائل كيف يستغفر إبراهيم لأبويه، وأبوه بلا ريب كان مشركا يعبد الأوثان؛ ويقال: إنه كان يصنعها؛ ونقول في هذا: إن إبراهيم كان رجل الفطرة المستقيمة، ففطرته الإنسانية المستقيمة دفعته لأن يكبر عليه أن يهتدي وأبوه مشرك، وأن يعبد اللَّه وأبوه يعبد الشيطان، وأن يكون في الجنة وأبوه في النار، وقد بدا ذلك في مجاوبته، إذ قال لأبيه: (. . . يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ(8/4045)
وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45).
طرده أبوه من حضرته مع ما في عبارته من رفق، وما تشف عنه من محبة، ولكنه يستمر في رفقه بمقتضى حكم الفطرة، فيقول: (. . . سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)، كانت هذه أول موعدة وعدها إياه، فاستغفر له ولم تكن بينهما بغضاء الضلال التي اتسم بها أبوه؛ ولذا قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. . .).
إذن كان الخليل - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لأبيه ويطلب له المغفرة ومرتبط معه بمودة لم تفرقها عداوة، وهذه السورة التي نتكلم في معانيها سورة مكية، وسورة الممتحنة التي فيها (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنً لَكَ) مدنية، وهذا يدل على أن النهي لم يكن حتى سورة الممتحنة، وجاء النهي بعد ذلك كما يدل عليه قوله تعالى:
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114).
وقد قلنا: إن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - تتمثل فيه الفطرة القويمة.
* * *
الكافرون بالنعم ظالمون
قال اللَّه تعالى:
(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)(8/4046)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
* * *
ذكر اللَّه سبحانه وتعالى مثلا كاملا لشكر النعمة، واختار لذلك خليله إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أبو العرب الذين يعتزون بنسبه، وهو الذي أجرى اللَّه على يديه بناء البيت مكان عزهم، وذكره دعوة إلى اتباع ملته، والإسلام ملة إبراهيم الذي سمى المسلمين مسلمين.
بعد ذلك ذكر سبحانه من يكفرون النعمة ويظلمون أنفسهم بكفرهم، فقال عز من قائل:(8/4047)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
(وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ).
الحسبان هو الظن أو العلم المبني على الظن، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منزه عن أن يظن الغفلة أو السهو على الله تعالى، فاللَّه يعلم ما كان وما يكون، وما هو كائن؛ ولأنه تعالى وعده بالنصر، والعقاب الشديد على ما يفعله، وأنه محص عليهم أعمالهم كل امرئٍ بما كسب فكيف ينهى عن الظن بأن اللَّه غافل، وما كان احتمال لأن يرد ذلك على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى ينهى عنه، والجواب في ذلك أن هذا الكلام لتأكيد أن اللَّه تعالى يحصي على المشركين أعمالهم، كما يقول تعالى:
(. . . وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكينَ)، وكقوله تعالى: (وَلا تَدْعُ مَعَ(8/4047)
اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ)، فهو نهي للتثبت، وتأكيد أنه لم يقع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفوق ذلك أن النهي إعلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه عالم بحالهم مُحصٍ عليهم سيئاتهم، وهو تهديد شديد لهم، كما يقول المجادل لمجادله: لَا تجهل أني عالم بكل أخطائك، فهو إعلام، وهو تهديد للمشركين.
وعبر بقوله تعالى: (الظَّالِمُونَ) فأظهر في موضع الإضمار لتسجيل الظلم عليهم؛ ولأن العقاب سبب الظلم، فهم أشركوا، والشرك ظلم عظيم، وآذوا المؤمنين والمؤمنات، وذلك اعتداء ظالم آثيم، وصدوا عن سبيل اللَّه، فلم يتركوا الناس أحرارا يعتقدون ما يرونه حقا.
وإذا كان اللَّه تعالى عالما بظلمهم مجازيهم على ما يفعلون من آثام، فهو لا يهملهم، ولكن يمهلهم، ولقد قال تعالى في ذلك: (وَأُمْلِي لَهُمْ إِن كيْدِي مَتِينٌ)، وفي هذا النص السامي يقول سبحانه: (إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
(إِنَّمَا) هنا أداة حصر، أي كان التأخير لأجل هذا اليوم الذي يكون شديدا، وفيه النفوس جميعا تكون في هلع وفزع، فليس التأخير لنسيان، أو غفو أو ترك، إنما التأخير هو ليوم كله عذاب الأجساد والأنفس، وإذا كانوا يمشون في الأرض مرحا، ويستهزءون ويرتعون ويلعبون ويسخرون من المؤمنين فسيكون عليهم يوم عسير شديد، وقد وصف اللَّه تعالى حالهم في ذلك اليوم فذكر لهم خمس أحوال كل حال فيها تنبئ عن فزع بذاته.
الحال الأولى: ما ذكرها سبحانه بقوله: (لِيَوْم تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ)، أي العين تشخص لَا تغمض من هول ما ترى، فإن إغماض العين يكون من الدعة والاطمئنان، أما يوم القيامة يوم الفزع الأكبر، فإنه لَا يكون اطمئنانا ولا يكون(8/4048)
دعة، وتكون العين مفتوحة متسعة الأحداق من الأهوال التي تراها، حتى كأنها مع فتحها وعدم إغماضها لَا تشعر بشيء إلا الهول وأسباب الفزع.
والحال الثانية: هي ما قاله سبحانه وتعالىْ(8/4049)
مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
(مُهْطِعِينَ ... (43)
ومعناها مسرعين فإنهم كانوا في الدنيا يسيرون متئدين مالكي أنفسهم مسيطرين على قواهم، وكما قال في آية أخرى في وصف حالهم يوم القيامة: (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاع يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ)، والإهطاع إسراع في ذل وتكسر وخوف وهلع، فبعد أن كانوا يسيرون في الأرض مرحا كأنهم يخرقون الأرض أو يبلغون السماء طولا يسيرون مسرعين أذلاء خالفين لأول داع، خائفين من أن يكون وراء الدعوة أمر أشد هولا.
والحال الثالثة: عبر عنها سبحانه وتعالى بقوله: (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) من أقنع رأسه، وتستعمل بمعنى رفعها متطلعا إلى من فوقها من شدة الهلع، وقد قال في معناها الأصفهاني في مفرداته: أقنع رأسه رفعها قال: (مُقْنِعِي رُءوسِهِمْ)، وقال بعضهم: أصل هذه الكلمة من القناع، وهو ما يغطى به الرأس، فقَنِع لبس القناع ساترا لفقره، كقولهم حفى أي لبس الحفاء، وقَنَع إذا رفع قناعه كاشفا رأسه بالسؤال كخفي إذا رفع الخفاء.
وخلاصة هذه المعاني أنهم يكشفون ذلهم وحاجتهم رافعين رءوسهم بالذل والهوان، لَا يستتر من أمرهم شيء، فلا يبدون ما يخفون، ويظهرون ما لا يسرون.
وذكر الزمخشري أن بعض علماء اللغة يفسر (مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) يخفضها ذلا وانكسارا، ورءوسهم ارتفعت، أو انخفاضها، فهو ذل ظاهر واضح، وصار كالسائل الذي كشف قناعه للمسألة.
والحال الرابعة من أحوالهم: أن أبصارهم زائغة لَا تتحرك أطرافها من هول ما هم فيه وهذه عبر اللَّه عنها بقوله تعالى: (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ)، والمعنى أن أنظارهم قد استغرقتها الأهوال التي تراها فهي فزعة هلعة قد سمرت أعينهم فيما(8/4049)
ترى من عذاب هو عذاب الهول الأكبر، فلا ترجع إليهم، أي لَا تعود إلى سيطرتهم فترى ما يجب أن تراه وتمتنع عن رؤية ما لَا يجب أن تراه، فهي قد ملكتها تلك المرئية المفزعة ولم يعد له عليها من سلطان.
والحال الخامسة: أن أفئدتهم فرغت من أسباب الاطمئنان، وامتلأت بأسباب الهموم والخوف، وقد عبر سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالت كلماته:
(وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ)، أي لَا تدرك شيئا ولا تعيه من شدة الخوف والهلع، فهو كقوله تعالى: (وَأَصْبَحَ فؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا. . .)، أي أنه فرغ من الوعي والإدراك ولم يبق إلا موسى والخوف عليه، والهواء في اللغة المجوف الخالي، والمعنى أصبح فؤادهم مجوفا خاليا من العلم والإدراك لشدة ما رأى وما وقع، ومن هذا المعنى قول حسان شاعر الإسلام من أبي سفيان قائد الشرك آن ذاك:
ألا أبلغ أبا سفيان عني ... فأنت مجوَّف نخِبٌ هواء
وهذه الأحوال تصوير لحالهم يوم القيامة من فزع وذل وانكسار، وامتلاء قلوبهم بالخوف والرهبة، وإنها من آيات الإعجاز، وكل القرآن إعجاز يبهر المدركين.
ولقد أمر اللَّه تعالى نبيه أن ينذر الناس بهذا اليوم الذي ذكر فزع الناس فيه فقال تعالى:(8/4050)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ... (44)
الكافر مادي لَا يؤمن إلا بما يرى ويحس، فما لم يحسه لَا يؤمن به، وليس عنده نفاذ بصيرة يعي به ما لم يدرك وما لم يره؛ ولذا كان من أوصاف أهل الإيمان أنهم يؤمنون بالغيب وهم بالآخرة هم يوقنون، يرون الناس يموتون ويحيون، فيعلمون أن الحياة لغاية وأن الموت ابتداء نهاية.(8/4050)
ولذا كان أول إنذار هو الإنذار بالعذاب الأليم في يوم القيامة، وهذا قوله تعالى: (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ) الإنذار: التخويف، وهو يتعدى إلى مفعولين الأولَ (النَّاسَ)، وَالثاني (يَوْمَ) والإنذار متجه لما يجري في هذا اليوم من حال تقشعر من هولها الأبدان، إذ تكون أبصارهم فيها شاخصة، خوف العذاب الأليم الذي هو في ذاته هول أكبر، ولكن جعل التخويف لليوم من إطلاق اسم المحل وإرادة الحال، وإنه لشديد تضطرب له نفوس أهل النار (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) الفاء هنا لبيان أن ما قبلها سبب لما بعدها فما فيه من هول شديد، وما فيه من جحيم (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا)، يكون سببا لأن يطلبوا الرجعة إلى الدنيا، وقد قالوا: (أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيب) إلى زمن قليل، وعبر عنه بالقريب لأنه قريب ما بين طرفيه أوله ومنتهاه، وهذا كقولهم فيما يحكي اللَّه تعالى عنهم: (. . . رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)، وكقولهم فيما حكى سبحانه عنهم: (. . . رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كنَّا نَعْمَلُ. . .).
وقوله تعالى: (نُّجِبْ دَعْوَتَكَ) وهي دعوة التوحيد، وألا يشركوا بالله شيئًا وما جاء به القرآن وغيره من كتب السماء، ومن شرائع، (وَنَتَبِع الرُّسُلَ)، أي لا نستكبر عليهم ولا نتعالى ونتسامي عليهم، بل لنكون لهم تبعا.
فيقول الملائكة بأمر اللَّه تعالى مبكتا مذكرا لهم كفرهم: (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَال)، وقوله تعالى: (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم)، (الواو) عاطفة على ما قبلها، والهمزة للاستفهام الإنكاري الذي فيه إنكار الواقع، والاستفهام داخل على النفي ونفي النفي إثبات على معنى التوبيخ، والمعنى لقد أقسمتم من قبل مغترين على الله تعالى جاهلين لأنفسكم، ولمجري الحياة (مَا لَكُم مِن زَوَال)، أي ليس لكم أي زوال، وإنهم في الحقيقة كما يظهر من مجرى(8/4051)
أمورهم أنهم كانوا لَا ينكرون الموت، ولكن ينكرون الحياة بعد الموت ويقولون: (. . . أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. . .).
ولكن لأنهم عتاة غاشمون لَا يرعون إِلًّا ولا ذمة، وقد اغتروا بالحياة الدنيا وغرهم باللَّه الغرور، يعملون كأنهم لَا يموتون ولا يفنون، وأنهم في الدنيا خالدون.
وقد فسر بعض العلماء أن المراد من الزوال المنفي أنهم لَا يزولون ثم يبعثون، وهذا تفسير مجاهد تلميذ ابن عباس ترجمان القرآن، كما سماه عبد الله ابن مسعود، ويكون المعنى على هذا التفسير: ما لكم من زوال من هذه الدنيا تنتقلون من بعده إلى الآخرة.
وإنهم في قسمهم هذا أو في حال الغرور التي اغتروا بها وحسبوا أنها حياة خالدة، والعبر بين أيديهم قائمة، ولذا قال تعالى:(8/4052)
وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)
(وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)
سكن، معناه قرَّ فيها، وغنى فيها، وتتعدى بـ (في)، كما تتعدى بنفسها، فيقال سكنت الدار، والأصل هو التعدية بـ (في) ثم لما شاع الاستعمال تعدت بنفسها.
والمعنى أن العبر كانت قائمة، وأقسموا باللَّه جهد أيمانهم أنهم لَا يبعثون بعد موتهم، وقد سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، والإيذاء للمؤمنين والصد عن سبيل اللَّه، وتبين لكم ما نزل بسبب ظلمهم من إمطارهم حجارة من سجيل منضود، ومن جعل الأرض عاليها سافلها إلى آخر ما هو ثابت عبرة للآخرين؛ ولذلك قال تعالى: (وَتَبيَّنَ لَكُمْ كيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ)، أي تبين ما فعله اللَّه بهم، وحالهم العجيبة الجديرة بالنظر، وبينا لكم الأمثال الأشباه، ومع ذلك لم تعتبروا، فاليأس من إيمانكم كان ثابتا، واليأس من إيمانكم بعد رجعتكم إلى الدنيا أشد ثبوتا.(8/4052)
ومع هذه العبر والأمثال استمروا في غيهم؛ ولذا قال تعالى:(8/4053)
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) الكلام في أخبار الذين سكنوا في مساكنهم، وقد تبين كيف فعل اللَّه بهم، وقد بين في هذه الآية أنهم كانوا يدبرون التدبيرات الخبيثة للكيد للحق وأهله، والتوحيد ومعتنقيه، أي دبروا كل ما يحاربون به عقيدة التوحيد، فاعتقدوا الباطل وناصروا الشرك، وحاربوا المؤمنين بكل أنواع الحرب من فتنة في الدين. . وإيذاء للمؤمنين وسخرية بهم (وَعندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ)، أي وعند اللَّه تعالى علم مكرهم، وأنه محيط بما كانوا يمكرونه (وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ).
الجبال هنا المراد بها شرائع اللَّه تعالى التي جاء بها النبيون، فشبهت بالجبال لثباتها وشموخها وعلوها ورفعتها، و (إِن) هنا إما أن نقول: إنها مخففة من (إن) الثقيلة، والمعنى أن الحال والشأن أن ذلك المكر كان مهيأ ومعدا لتزول به الشريعة، ولكن تدبير اللَّه كان أحكم فنجت الشرائع التي بلغت في شموخها وعلوها وثباتها مبلغ الجبال.
وإما أن نقول: إنها نافية وتكون اللام لام الجحود، ويكون المعنى، وما كان مكرهم مهما يبلغ من القوة والتدبير والإحكام في زعمهم لتزول منه الشرائع المحكمة التي هي كالجبال في ثباتها وعظمتها، وإن اللَّه تعالى حافظ شرعه وأنبياءه والمؤمنين، ولو تضافر الشرك كله.
* * *
إن الله لَا يخلف الميعاد
قال اللَّه تعالى:
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ(8/4053)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
* * *
كان النهي في الآيات السابقة عن أن يُحسب أن اللَّه تعالى تارك الظالمين، وما يفعلونه، غير منزل بهم ما يستحقون من عقاب، جزاء وفاقا لما يفعلون، وهنا في هذه الآيات يبين أن اللَّه تعالى أنه منزل هذا العقاب لأن جزاؤهم، ولأنه قد وعد رسله به، وإن اللَّه تعالى لَا يخلف رسله ما وعدهم به.
قوله تعالى:(8/4054)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
(فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ)، و (رُسُلَهُ) مفعول للوعد، أي لَا تحسبن اللَّه مخلف ما وعد الرسل، وقدم الوعد على الرسل للإشارة إلى أن إخلاف الميعاد ليس أمرا جائزا بالنسبة للَّه، سواء أكان من وعده رسولا أم كان غير رسول.
وقد وعد اللَّه رسله بالغلب، وأن يكون السلطان للحق، كما قال تعالى:
(. . . لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسلِي. . .)، وقد بين تعالى أن الغلب لهم في هذه الآية، فقال تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهَ عَزِير ذُو انتِقَام)، (عَزِيزٌ) معناه غالب قوي مسيطر يعز من يشاء ويذل من يشاء، وقوله تعالى: (ذُو انتِقَام)، أي صاحب انتقام للحق من الباطل، وللضعفاء من الأقوياء، والانتقام معناه مجازاة المسيء بما أساء وأن يقتص بالحق من القوي للضعيف، وأن تكون العقوبة على قدر الجريمة، فأساس العقاب في الشريعة أوفى، أي يكون العقاب على قدر الجريمة، وأن يكون جزاء وفاقا لها.(8/4054)
وهنا يسأل سائل، لماذا عبر سبحانه في الجزاء بالانتقام؛ لأن الظالمين من المشركين قد أرهقوا الضعفاء المؤمنين من أمرهم عسرا وصعبوا الاستمساك بالحق وجعلوه مرا فكان لابد من الجزاء انتقاما من الظالمين لتقر أعين الضعفاء ويذوقوا حلاوة الحق بعد أن ذاقوا مرارته.
وقد يسأل سائل لَا يعرف آداب القرآن ولا حكمة الديان: كيف يسمى العقاب انتقاما وهو لإصلاح النفوس لَا للانتقام منها، ونظرية الانتقام يبطلها علم القانون، ونقول في الإجابة على ذلك: إن شأن الآخرة هو القصاص من جرائم الدنيا، وأما في الدنيا فكلامهم قد يكون واردا على نظر فيه، فإن العقوبات الإسلامية للردع، والإصلاح يكون من طريقه، إذ يكون فيه عبر لمن يكون على استعداد للارتكاب، وقد قال بعض القانونيين: إن العقوبة إذا كانت من جنس الجريمة كانت أردع للجاني؛ لأنه يتصور وهو يرتكبها أن سينزل به مثل الذي ينزله بالمجني عليه فيمتنع رهبة.
وإن ذكر العقوبات القاهرة فيه عبرة لمن يكونون على وشك الارتكاب في الدنيا، فمن يعرف أنه سيذل يوم القيامة لَا يذل الناس، ومن يعلم أنه ينال عذاب الجحيم لَا يكفر ولا يؤذي عبدا.
وإن ذلك الذي يكون فيه انتقام اللَّه تعالى منِ الأشرار هو يوم القيامة يوم تبدل الأرض غير الأرض؛ ولذا قال تعالى:(8/4055)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
يوم متعلق بـ (انتقام)، أي أن اللَّه تعالى في هذا اليوم: (يَوْمَ تبَدَّل الأَرْض غَيْرَ الأَرْضِ. . .) والتبديل قد يكون في الذات كقولك بدلت الدراهم دنانير، ومنه (. . . بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودَا غَيْرَهَا. . .)، (. . . وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ. . .)، وقد تكون في الأوصاف كتبديل سبائك الذهب إلى حلي فثقلت من شكل إلى شكل، والجوهر واحد في القولين، وقد يكون تغييرا بين النقيضين أو الضدين، ومنه قوله تعالى: (. . . فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ. . .)، فالعبرة في هذا بالأثر.(8/4055)
وتبديل الأرض أمر واقع لَا محالة، واختلف في كيفة وحاله، فقيل: تبدل أوصافها، فالجبال تتفكك وتصبر كالعهن المنفوش، وتتحرك وتضطرب وتتفجر الينابيع وتسوي الماء باليابس فلا يرى عوج ولا أمْتٌ، وقيل: إن الأرض كما هي، ولكن يتغير ناسها، ولا يكون فيها ظلم يقع، بل تكون كلها تحت سلطان القهار وروي ذلك عن ابن عباس.
فقد أنشد بعد ذلك:
وما الناس بالناس الذين عهدتهم ... ولا الدار بالدار الذي كنت تعلم وتبديل السماوات بانتثار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وانشقاقها (1)، ومن الحق أن كل الكون يتغير في أحواله وأوصافه ودورانه، فالسماء تتغير، كما قال تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7).
وهكذا تبدل الأشياء، وتتبدل الأحوال، فبعد أن كان الظلم في الأرض بغالب الحق فإذا الحق هو الأمر الذي لَا يغالبه شيء.
هذا يوم القيامة؛ ولذا قال تعالى: (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، أي ظهروا وعلموا أنهم قد لقوا اللَّه تعالى وقد كانوا يكذبون لقاء اللَّه، ويعجبون من أن يعودوا بعد أن يصيروا ترابا وعظاما، ولكنه لقاء لَا يسرهم، إنا هو لقاء القهار لعقابهم؛ ولذلك ذكر سبحانه وتعالى بوصفه الرهيب عندهم الذي ينقض اعتقادهم الباطل فقال: (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)، ولفظ (لِلَّهِ) يلقي وحده المهابة في نفوسهم بعد إنكارهم لقاءه، ووصفه بـ (الْوَاحِدِ) ليعرفوا أن شركهم كان باطلا، وأنه وحده الحكم العدل، فلا شفاعة لأحد، ولا لأوثانهم، و (الْقَهَّارِ) صيغة مبالغة من القهر، أي أنه سبحانه وتعالى وحده الذي سيوفيهم جزاءهم مقهورين مغلوبين.
________
(1) من الكشاف بتصرف.(8/4056)
ولقد صور اللَّه تعالى حالهم بعد ذلك اللقاء المفزع الذي تشخص فيه الأبصار، وهذه كقوله تعالى: (. . . لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ).(8/4057)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)
(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
ذكر اللَّه تعالى لهم أحوالا ثلاثة:
الأولى: أنهم مقرنون في الأصفاد.
والثانية: أن سرابيلهم من قطران.
والثالثة: أن النار تغشى وجوههم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أولا وصفهم بالأجرام؛ لأن ما كسبوه من جرائم في اعتقادهم، وفي أعمالهم، وفي إفسادهم في الأرض عبثا وفسادا، هو السبب فيما ينالون من عقاب.
وقوله تعالى في الحال الأولى: (مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ) من قرن بمعنى جمع، وقَرَّن بمعنى شدد في الجمع ووثق في الأمر الجامع، والمعنى مشدودون بوثاق مجموعين فيه لتشابه جرائمهم، واتحادهم في أوصافهم الإجرامية، ومقرنين في أيديهم وأرجلهم بالأصفاد، جمع صَفَد، وهو القيد يقيدون به، وتغل أيديهم وأرجلهم به.
هذه هي الحال الأولى.
والحال الثانية: وهي مما ينزل بهم آحادا كما جمعوا جميعا وهي قوله تعالى:(8/4057)
سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
(سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ ... (50)
والسرابيل: جمع سربال، وهو القميص الذي يلاصق أجسامهم، ويسبغها، ولا يترك فراغا بينه وبينها، والقطران هو ما استحلب من بعض الأشجار، وتهنأ به الإبل دواء لها من الجرب، ومن شأنه أنه يشتعل بالنار،(8/4057)
فإذا بقمصانهم المتصلة بأجسامهم اللاصقة بها نيران مشتعلة، فالنار تحوطهم من كل ناحية في أجسامهم.
ولكن القمصان أو السرابيل لَا تغطي الوجوه عادة فتجيء الحال الثالثة، وهي قوله تعالى: (وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ)، أي النار تستر وجوههم كما ستر القطران الملتهب أجسامهم.
وكان ذلك جزاء، والإخبار به تبليغا؛ ولذا قال تعالى:
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
هذا البيان من قوله تعالى: (فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) إلى بيان ذلك العذاب الذي تعم فيه النيران أجسامهم، إنما هو:
أولا: لبيان العدالة الإلهية.
وثانيا: ليبلغوا بالفعل وجزائه، والخير والشر، وما يجب عليهم.
وثالثا: للإنذار لكي يعلم أهل الشر مآلهم.
ورابعا: ليعلموا أن اللَّه هو الواحد القهار، وأن لَا شيء له صفة الألوهية إلا الله تعالى.
وخامسا: ليتذكر أهل الألباب المدركين المؤمنين، فهو ذكر لهم، وإنذار لغيرهم.
أما أولها: فقد ذكره سبحانه بقوله تعالى:(8/4058)
لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
(لِيَجْزِيَ اللَّهُ كلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) وعبر بأن الجزاء هو ما كسبوا من عمل، فليس في ظاهر اللفظ أنه جزاء العمل، بل هو العمل ذاته؛ وذلك للإشارة إلى المساواة التامة بين الجزاء والعمل، فكأنه هو هو، وقد أكد اللَّه وقوعه فقال: (إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) فإن السرعة هنا تأكيد(8/4058)
للوقوع، وأن المقاربة الزمنية بالنسبة للَّه تعالى مؤكدة، فهو سبحانه لَا تستطال على أفعاله الأزمان. أما الأمر الثاني: وهو التبليغ، فقد عبر سبحانه عنه بقوله:(8/4059)
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
(هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ ... (52)
تبليغ من اللَّه تعالى لكي يكون حسابهم على بينة من أمورهم، كما قال تعالى: (. . . وَإن مِّنْ أُمَّة إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِير).
ومن التبليغ ما جاء في الأمر الرابع وهو أن يعلموا (أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، هذا قصر، والضمير (هُوَ) يعود إلى اللَّه تعالى، أي أنه لَا إله إلا اللَّه، فالمعبود بحق واحد، وما عداه باطل في باطل.
والأمر الثالث قبل الرابع، وإن كنا ذكرناه أولا لاتصاله بالبلاغ في كلامنا وكلام اللَّه أعلى وأحكم وأوثق.
والأمر الرابع: أن هذا الإنذار للكافرين ليعتبروا والعبرة قد تفيدهم.
والأمر الخامس: أن فيه تذكيرا لأولي الألباب، أي أولي العقول المدركين وهم المؤمنين فيزدادوا بهذا البلاغ إيمانا، والله أعلم بشرعه.
* * *(8/4059)
(سُورَةُ الْحِجْرِ)
تمهيد:
أول الجزء الرابع عشر، وأوله سورة الحجر، وهي سورة مكية إلا ما قيل:
إنه يستثنى مكَّيتُهُ وهي الآية السابعة والثمانين، وعدد آياتها [99].
وقد ابتدئت بالحروف المفردة (الر)، وذكر بعدها القرآن الكريم (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ) وقد أخبر سبحانه أنه (رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ) ولكن غلب عليهم الهوى، (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)، وإن بين أيديهم العبر (وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ) ومن لهوهم وعبثهم قوله لنبيهم: (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)، وإن الملائكة لَا تنزل، وإذا نزلوا لَا يؤجلهم (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)، وذلك شأن الكافرين يتوارثون ذلك الفكر السقيم جيلا بعد جيل، وإن القرآن باق (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13).
وإن الآيات لَا تخزيهم؛ لأن قلوبهم أغلقت عن الحق (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15).
بعد ذلك أخذ ينبههم سبحانه إلى خلقِ السماوات والأرضِ وما فيها من عجيب التكوين (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ(8/4060)
شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20).
وبعد هذا الخلق، وذاك التكوين كان كل شيء في السماوات والأرض بامر اللَّه وفي قبضة يده (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22).
وإن اللَّه تعالى ترى آثاره في خلقه من إماتة وإحياء (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ) وإذا كنتم ترون بالعيان الإحياء والإماتة فقد كان ذلك فيمن
تقدم، وفيمن تأخر، (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25).
بعد ذلك أخذ سبحانه يذكر في هذه السورة خلق الإنسان من طين فقال:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27).
بعد ذلك أشار سبحانه إلى خلق آدم وسجود الملائكة له، وامتناع إبليس أن يكون من الساجدين، وغروره بأنه من نار وآدم من طين، وقد طرده اللَّه سبحانه من جنته وقال له: (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ)، وأنظره اللَّه إلى يوم يبعثون (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42).
بعد ذلك ذكر تعالت كلماته جزاء الذين يغويهم إبليس (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)، وذكر بعد
هذا جزاء الذين لم يطيعوا الشيطان ولِم يستطع إغواءهم (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ(8/4061)
مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50).
بعد ذلك جاءت العبر في القرآن الكريم، وابتدأت العبر بمن هو أقرب إلى العرب نسبا، ويعيشون في رحاب بيت اللَّه الذي بناه إبراهيم، فقال في قصة إبراهيم: (وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا) ولأنهم ملائكة، لم يعهد في الأرض لقاء مثلهم - وجل منهم، وقال: (إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56).
هذا تذكير بالخلق والتكوين، وأنه يجري على حكم إرادة اللَّه تعالى الفاعل المختار، لَا بالأسباب والمسببات، كما يقول الجاهلون، وإن الأسباب لَا تسيطر على فعل اللَّه تعالى، فالأسباب تجعل الرجل لَا ينجب وهو كبير فلم ينجب وهو شاب، ولكن بإرادة الله ينجب إبراهيم، وامرأته عجوز عاقر.
بعد هذا ذكر القرآن الكريم ما يكون تهديدا للفاسقين الخارجين عن أمر اللَّه تعالى، وهم قوم لوط، قالت رسل اللَّه تعالى لإبراهيم: (قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71).(8/4062)
أنزل بهم العذاب الأليم في الدنيا، أخذتهم الصيحة في الصباح فجعل اللَّه تعالى عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77).
بعد هذا يرينا اللَّه تعالى من عجائب قدرته ليعتبر العرب في قصة أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر، وتكذيبهم الرسل، (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84).
ولقد أخذ سبحانه وتعالى يشير إلى العبر في تكوين هذا الوجود، (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85).
وإذا كان خلق اللَّه السماوات والأرض وما فيه من نعم للكافة، فقد أعطاك اللَّه نعمة القرآن: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) ولا تلتفت إلى ما عند غيرك، فما عندك هو الأعظم وهو الجليل: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93).
ولقد أمر اللَّه نبيه بأن يصدع بما يؤمر به فقال: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99).
* * *(8/4063)
معاني السورة الكريمة
قال اللَّه تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
* * *(8/4064)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
تكلمنا في الحروف المفردة، وقلنا: إننا لَا نعلم على التحقيق المراد منها، وإنها من المتشابه التي اختص اللَّه بعلمه، واتباع المتشابه ابتغاء تعرفه من صنيع أهل الزيغ: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً. . .).
وقلنا: إننا نتعرف حكمتها، ولا نتعرف المراد، وأشرنا إلى أنها سيقت لتذكير العرب بأن القرآن مكون من الحروف التي تعرفونها، ومع ذلك عجزتم عن أن تأتوا بمثله، وهذا العجز دليل أنه من عند اللَّه؛ ولأن العرب كانوا قد اتفقوا على ألا يسمعوه أو يلغوا فيه إذا سمعوه، فكانت السور تبتدئ بتلك الحروف الصوتية فتنبههم فينقضون ما اتفقوا، وقيل: إنها أسماء للسور، أو للكتاب.(8/4064)
وجاء بعد هذه الحروف في السورة ذكر الكتاب الكريم، فقال تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرانٍ مُّبِينٍ) الإشارة إلى السورة، أو إلى المتلو بعد هذه الحروف، والكتاب بمعنى المكتوب، وقد وصفت الآيات بوصفين أولهما: أنها آيات الكتاب؛ لأنها معجزة بذاتها، فكل آيات من القرآن معجزة تعد من الكتاب المعجز؛ ولذلك كان يتحدى بالقرآن قبل تمام نزوله، وقد وصفت الآيات بأنها مكتوبة، ووصفت بأنها مقروءة متلوة، ولذلك جاء معطوفا على الكتاب قوله تعالى: (وَقُرانٍ مُّبِينٍ)، أي مقروء كريم، لأنه نزل مقروءًا من اللَّه، ولأنه محفوظ، ولأنه سجل الشرائع السماوية، ولأنه المحفوظ الخالد إلى اليوم، فالكتاب الكريم يوصف بأنه مكتوب، ويوصف بأنه مقروء، لأن طريقة تلاوته من عند اللَّه تعالى، فقد أُوحي إلى الرسول فكتب وحفظ، وقرئ وحفظ متلوا كما قال تعالى لنبيه: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19).
فالقرآن متواتر بكتابته وبقراءته وبتلاوته، فكان حفظه في الصدور مانعا من تحريف السطور، تلقى الناس القرآن فآمن قليل، وكفر كثير، وقد رجا المؤمنون ما عند اللَّه وطغى المشركون، وبغوا واعتدوا وفتنوا الناس عن دينهم، وإن اللَّه تعالى يبين أن الذين كفروا بهذا القرآن الكريم سيأتي الزمن الذي يودون فيه لو كانوا مسلمين، فيقول تعالى:(8/4065)
رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
(رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
يقول العلماء في (رُبَّ): إنها لَا تتصل إلا بالاسم، فإذا دخلت على الفعل توسطت ما، وربما هي رب المخففة، وقد قرئت بضم الراء وبفتحها، وهما لغتان فيها.
وقالوا: إن (رُبَّ) تكون داخلة على الفعل الماضي، ولكنها هنا دخلت على الفعل المضارع لتأكد وقوعه فكان كفعل الماضي في معناه عند اللَّه تعالى، وإن معنى المُضي متحقق لفظا في (كَانُوا)، وربما تكون للتقليل وقد تستعمل للتكثير، والمعنى أنه ربما يود الذين كفروا في أوقات كثيرة لو كانوا مسلمين، وما(8/4065)
هذه الأوقات؟ قيل: هي الأوقات التي تعلو فيها كلمة الحق، وتصير الأرض العربية للمؤمنين فيها الكلمة العليا، ويكون لهم السلطان والقوة، فيتمنى المشركون الذين كفروا باللَّه وبالقرآن أن لو كانوا مسلمين، فإذا كانوا يغترون الآن بقوتهم، وعزتهم، ويستضعفون المؤمنين، فربما يكون العكس، ويودون لو كانوا مسلمين، وإنهم في المنزلة عند الله ورسوله ليسوا سواء، فلا يستوي من أسلم، وفي المسلمين ضعف، ومن أسلم وفي المسلمين قوة، ولذا قال تعالى: (. . . لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً. . .).
هذا إذا قلنا: إن الوقت الذي يكون فيه هذا الوُد، وذاك التمني هو قوة المسلمين، وإن قلنا: إن الوقت هو يوم يرون العذاب، فإن المعنى أنهم يتمنون أن لو كانوا مسلمين لتكون لهم النجاة، حيث لَا منجاة إلا بأن يكونوا مسلمين. وقد أشار اللَّه تعالى بهذه الآية أن المشركين، وإن استطالوا بفضل قوتهم الآن فإنهم سيتمنون أن لو كان مسلمين في المستقبل فلا يأسى النبي عليهم، والعاقبة للمتقين، ولذا قال تعالى:(8/4066)
ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمنى: لو يؤمنون، كما قال تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونوا مُؤْمِنِينَ)، ولكن اللَّه تعالى أشار إلى نبيه أنه ليس عليه ألا يؤمنوا ما دام قد بلغ رسالة ربه، ولذا قال: (ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ)، أي اتركهم يأكلوا ويتمتعوا. . . وهذه الأفعال مجزومة في جواب الأمر، وليس تركهم سبب هذه الأفعال، إنما الترك إهمال لهم كما أهملوا النذير والاستجابة، فالترك لانغمارهم في الشر، وابتدأ بذكر الأكل للإشارة إلى أن متعتهم من أفواههم، كمتعة الحيوان، فهم كالأنعام بل أضل سبيلا، ويتمتعوا تلك المتع المادية التي كان الأكل عنوانها ورسمها، ولا يفكرون إلا فيما هو من جنسه، كألوان الثياب والنساء، وما إلى ذلك وهم يغفلون كأنهم لَا يموتون، وكأنهم المخلدون، وأملهم في هذه الحياة يلهيهم عن التفكير فيما يسوقون إليه أنفسهم،(8/4066)
وأن أملهم المادي المتجدد آنًا بعد آنٍ، والذي يزيد وقتا بعد وقت - يلهيهم عن الحقيقة، ولعلهم لَا يفكرون في غاية إلا ما توحي بهم آمالهم العريضة في جاه يريدونه أو سلطان يبتغونه، أو مال يحبونه، أو أي شهوة عاجلة أو مؤجلة يرونها، ويجمع ذلك قوله تعالى: (وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ).
ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما روى البزار في مسنده: " أربعة من الشقاء: جمود العين، وقساوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا ".
وقوله: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الفاء) لجان أن ما قبلها سبب لما بعدها، و (سوف يعلمون) تهديد بسوء العاقبة لسوء ما يفعلون، وطيبات المآرب واللذات الدنيوية على نفوسهم، و (سوف) لتأكيد وقوع ما يفعلون ونذيره، والجملة السامية تدل على أن حالتهم توجب اليأس من إيمانهم، وقد قال الزمخشري: " فسوف يعلمون سوء صنيعهم، والغرض الإيذان بأنهم من أهل الخذلان، وأنهم لَا يجيء منهم إلا ما هم فيه، وأنه لَا زاجر ولا واعظ إلا معاينة ما يُنذَرون به حين لا ينفعهم الوعظ، ولا سبيل إلى اتعاظهم قبل ذلك، فأمر رسول اللَّه تعالى بأن يخليهم وشأنهم، ولا ينشغل بما لَا طائل تحته، وأن يبالغ في تخليهم بما لَا يزيدهم إلا ندما في العاقبة، وفيه إلزام للحجة، ومبالغة في الإنذار، وإعذار فيه، وفيه تنبيه على أن إيثار التلذذ والتنعم، وما يؤدي إليه طول الأمل وهذه هي حال أكثر الناس من ليس على من أخلاق المؤمنين، وعن بعضهم التمرغ في الدنيا على أخلاق الهالكين، هذه حال المشركين، وقد ضرب لهم الأمثال وبين العبر بأحوال الماضين فقال تعالى:(8/4067)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)
(وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
الكتاب هنا الأجل، أي أن أية قرية أهلكت كان لها أجل معلوم، وهذا فيه تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وتهديد لهم بأنه إذا كان قد أهمل أهل الشرك حتى طغوا وتجبروا واستكبروا فليس ذلك إهمالا لجرائمهم، وما من قرية، أي مدينة جامعة أهلكها إلا لأجل معلوم، فانتظروا كتابكم الذي كتب لكم أيها المشركون، فإما أن تخذلوا(8/4067)
بسبب مقاومتكم للرسالة، وتذلوا للحق، والذلة للحق هي العزة، وذلك إذا كان يرجى الإيمان في ذرياتكم، وإما أن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كما أخذ عادًا وثمود، وآل مدين، ومن قبلهم قوم نوح، ثم كما أخذ فرعون ذي الأوتاد، وسائر الذين طغوا في البلاد.
وإذا كان قد تركهم أمدا، فلأنه سبحانه قد قرر ذلك في علمه المكنون.
ولذا قال تعالى:(8/4068)
مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
(مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
وقد عبر سبحانه وتعالى هناب (أَجَلَهَا) للإشارة إلى أن الكتاب والأجل بمعنى واحد، والتعبير في الأولى بالكتاب للإشارة إلى أنه مكتوب مسجل مكنون معلوم عند اللَّه تعالى، وعبر في الثانية بـ (أجل) للإشارة إلى أن له ابتداء وانتهاء، لَا تسبق الأمة أجلها وإن طغت وبغت، ولا تستأخره، أي لَا تطلب تأخيره، ولو طلبت ما أجيبت؛ ولذا عبر في الأولى بـ (تسبق)، وفي الثانية بـ (تستأخر)، فمهما طغت لا تسبق أجلها، ومهما طلبت لَا يؤخر أجلها، وفي التعبير بقوله تعالى: (وَمَا يَسْتَأخِرونَ) إشارة إلى أن العاقبة ليست محمودة لهم، فمن شأنها أنهم يطلبون تأخيرها، ولكن مهما يطلبوا لن تؤخر، بل إنها نازلة في وقتها لَا محالة، وقد كانت الهجرة في ميقاتها، وكانت الحرب الدائرة عليهم حتى كان أمر اللَّه تعالى، وكان قدرا مقدورا، ولقد ذكر اللَّه بعض شر ما قالوا فقال:(8/4068)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
(وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
هذه صورة من طغيانهم، طغت الأوثان على تفكيرهم، حتى حسبوا من يدعو إلى التوحيد مجنونا، وأكدوا جنونه وقالوا مخاطبين النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكرُ) النداء للبعيد، لكبر الدعوى التي يدعونها، وهي جنون النبي - صلى الله عليه وسلم -، و (الذِّكرُ)، أي المذكر لهم ببطلان عبادة الأوثان، وأنها أحجار لا تضر ولا تنفع، وتسميته بالذكر من اللَّه تعالى لَا منهم؛ لأنهم لو علموه ذكرا ما أنكروه، والجملة كيفما كان أمرهم ساقوها متهكمين لاذعين بالقول، كما حكى اللَّه تعالى عن الملأ من آل فرعون: (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكمْ(8/4068)
لَمَجْنُونٌ)، فالكلام سوق لبيان تهكمهم على رسولهم، وإن كان فيه إشارة إلى التنديد بهم، وهو أنهم بدل أن يعتبروا ويتذكروا يتهكمون مع أنه ذِكْرٌ لهم.
وقد أكدوا دعواهم بجنونه فقالوا: (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) خاطبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك الخطاب الذي يبهت كل عاقل مدرك، أكدوه بـ (إنَّ) التي لتوكيد القول، وبالجملة الاسمية، وباللام، وإن هذا يدل على شدة تمسكهم بعبادة الأوثان حتى عدوا كل من يدعو إلى تركها مجنونا، ويدل على شدة طغيانهم وأنهم لَا يذعنون للحق، وإن دلت عليه دلالة واضحة بينة، ويدل ثالثا: على إمعانهم في إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين وبعد أن سارعوا بالإنكار، وادعاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاءهم بغير المعقول، تعنتوا وزعموا أنهم يطلبون دليلا(8/4069)
لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
(لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
(ما) نافية، و (لولا) نافية، إذا دخلت (لو) على (لا) - كانت بمعنى الامتناع للوجود مثل قوله تعالى: (. . . لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِين)، وِتكون بمعنى الحض مثل قوله تعالى: (. . . لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةَ. . .) مع امتناع الشيء الذي يحض عليه، وهو ما قبل (لا)، فإنها تدل على الحض، وعلى الامتناع لعدم وجود شيء فقوله تعالى:
(لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ) معناها الحض على أن تأتي به الملائكة، وعلى أن الامتناع عن الإيمان لأنه لم تأت به الملائكة، بيد أنه يلاحظ أن (لا) تدل على النفي في الحال والاستقبال، و (ما) تدل على النفي في الماضي، وقد جمع في هذه الآية الكريمة بين (ما)، وفعل المضارع بعدها، فدلت على أن الامتناع عن الإيمان في الماضي لعدم إتيان الملائكة ْبه، وأنهم مستمرون على عدم الإيمان ما دامت الملائكة لم تنزل به.
وقد رد اللَّه كلامهم الدال على الإمعان في الكفر، والتعلة للإيغال فيه، فقال في آية أخرى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9).
وتعنتوا بهذا وبغيره، واقرأ ما جاء أول سورة الأنعام، فقد قال اللَّه تعالى ردا عليهم: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ(8/4069)
هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8).
وفى الآية الكريمة التي نتكلم في معناها رد الله تعالى قولهم بقوله تعالت كلماته:(8/4070)
مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
(مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) قوله تعالى: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) في هذا إشارة إلى إمكان إنزال الملائكة، وإنه ليس ثمة أمر يتعذر على الله خلقه، وقد نزل الملائكة إلى أرض قوم لوط فجعلوا عاليها سافلها، وعبر بـ (نُنَزِّلُ) إشارة إلى أن نزولها لَا يكون دفعة واحدة بل تتوالى النزول، وقتا بعد آخر.
وقوله تعالى: (إِلَّا بِالْحَقِّ)، أي إلا بسبب باعث من الحق في ذاته بأن تكون حكمة في نزولهم، ومصلحة في خطابهم، فالله تعالى ما خلق شيئا عبثا، وما جعل الأمور سدى تنزل الملائكة حيث يبتغي المشركون ويريد الكافرون، وإن لم يكن جدوى من نزولهم، وإن حالهم حال إنكار، لَا تحتاج إلى دليل، فإن نزلوا قالوا هؤلاء رجال لَا ملائكة كما تلونا قوله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ).
وإنهم إن أنزلوا كما طلبوا لكانت القاضية عليهم، ولذا قال تعالى: (وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ)، أي ما كانوا مؤجلين إلى يوم القيامة إذا نزلوا، والله تعالى بحكمته العالية قدر للمشركين من العرب أن يكون من ذريتهم ومن الجاحدين أنفسهم أمة مؤمنة تحمل عبء التبليغ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن شريعته - وهو خاتم النبيين - يجب أن تكون معجزته باقية ببقاء شريعته الخالدة، ورسالته الدائمة التي لا تنقطع، ولذا كانت معجزة القرآن آي من نوع الذكر الدائم الذي يحمل دلائل إعجازه، ويتحدى الأجيال إلى يوم القيامة، فقال تعالى:
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)(8/4070)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
أضاف سبحانه وتعالى القرآن العظيم إلى الذات العلية المقدسة فاستفاد بهذه الإضافة شرفا إضافيا فوق شرفه الذاتي الذي جعله اللَّه تعالى كذلك، واستفاد بهذه الإضافة أيضا أنه نزله بالحق الذي وعد به وقال: (مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ)، فما نزله إلا بالحق والأمر الثابت، وهو أنه باق ما دامت الشريعة والرسالة باقيتين، وإنهما لباقيتان.
وقد ذكرنا في مواضع كثيرة أن معجزة القرآن من نوع الكلام؛ لأنه ليس حادثة تنتهي بانتهاء زمانها، بل هو كتاب محفوظ قائم تقرأه الأجيال، ويتحداها جميعا، ولقد روينا من قبل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وكان الذي أوتيته وحيا، وإني لأرجو أن اكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ".
وقد تعهد اللَّه العلي الكبير بحفظه ليخاطب الأجيال إلى يوم القيامة، فقال:
(وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) أضاف الحفظ إليه سبحانه، فكان ذلك تمكينا وتوكيدًا.
وقد حفظه اللَّه تعالى كما وعد من التغيير والتبديل والتحريف والتصحيف فأوجب حفظه مرتلا، كما قال تعالى: (. .، وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)،
وقال تعالى: (. . . وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا)، وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - صحابته ترتيله، وعلموه من بعدهم، واقتضى ذلك أن يعتمد في حفظ القرآن على الصدور، ولا يكون الاعتماد على السطور وحدها؛ لأنه يمكن فيها التغيير والتبديل، والصدور تمنع ذلك، ولا تزال تطلع على طائفة من اليهود، تريد أن تجعله كغيره من الكتب، فيبين حفظةُ القرآن الكريم إفساد فعلهم الدنيء. وحفظت شريعته من التغيير والتبديل، فهي قائمة وإن حاول بعض المنافقين الذين يدهنون للحكام تحريفها عن مواضعها بتحليل ما حرم اللَّه، واللَّه من ورائهم محيط.
* * *(8/4071)
الكفر كله ملَّة واحدة
قال اللَّه تعالى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
* * *
إن حقيقة الكفر واحدة، وإن تعددت الأجناس والأنواع واختلفت الألوان، فالإنسان هو الإنسان لَا تختلف حقيقته، وإن اختلفت الصور، فالمؤمن حقيقته واحدة، وإن اختلفت الأزمان، والكفر ملة واحدة، وإن اختلف الأقوام، فما تراه في مشركي مكة يرى في غيرهم ممن مضوا.
ولقد قال مسليًا نبيه:(8/4072)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَع الأَوَّلِينَ) هنا اسم مفعول محذوف دلت عليه كلمة أرسلنا رسلا من قبلك، وقد كان لهم ما يكون لك من الذين يعتقدون اعتقادا باطلا، ويستمسكون به ويكونون فرقًا وشيعًا يتشيعون لها، فقوله في (شِيَعِ الأَوَّلِينَ)، أي في جماعات متشيعة لفكرة واحدة، يتعصبون لها ولا يخرجون عنها، وأصل الشيعة من الشياع، وقد قال البيضاوي في ذلك: " جميع شيعة، وهي الفرقة المتفقة على طريق ومذهب، من شاعه إذا اتبعت، وأصله الشياع، وهو الحطب الصغار توقد به الكبار ".
وعبر سبحانه وتعالى بشيع الأولين؛ للإشارة إلى أنهم لم تكن خالية أذهانهم، بل كانت مملوءة، ولكن بزور من الفكر والقول، يتعصبون له على غير بينة، ويشيع بينهم من غير تفكر، ويتبعوه خلفا عن سلف، ويقولون: (. . . بَلْ(8/4072)
نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170).
فإذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - قد عانى من هؤلاء المشركين الذين يتشيعون لأوثانهم، فقد عانى الرسل قبلك نفس المعاناة من شيع الأولين، فاصبر يا محمد كما صبروا.
وقد ذكر سبحانه وتعالى حال هؤلاء الرِسلِ مع تلك الشيع المتجمعة على الباطل فقال:(8/4073)
وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
(وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (11) (الواو) تصل الجملة التي سبقتها بالجملة التي لحقتها، وهي موضع السلوى لمحمد - صلى الله عليه وسلم - من إيذاء الضعفاء أصحابه الذين لَا يملكون حولا ولا طولا، ولا جوارا يدفع عنهم، واستهزاء بالدين الحق، وصاحبه وأتباعه، ومعنى الجملة السامية (لا يأتيهم، أي رسولي (إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ))، فـ (مِّن) هنا صلة لبيان عموم النفي، والاستهزاء به، أي لَا يأتيهم أي رسول فمهما يكن ما عليه من خلق كريم، ومهما يكن ما يأتي به من حق مبين إلا جعلوه والحق الذي معه موضع استهزائهم وسخريتهم، وذلك لفساد عقولهم، وسفه أحلامهم، وكان ذلك اختبارًا لصبر الرسل، وقد صبروا.
ويقول الزمخشري: " إن قوله تعالى: (وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ) حكاية لحال ماضيه، لأن (ما) لَا تدخل على مضارع إلا وهو في معنى الحال، ولا على ماضٍ إلا وهو قريب من الحال، ولعل مراده أنهم استمروا على هذه الحال في الماضي، فالواقع بك من سخرية واستهزاء هو استمرار لحال وقع بعضها في الماضي، ويقع الباقي معك، (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. . .).
وإن ذلك شأن الإجرام في الحاضر والماضي يدخل بالاستهزاء في قلوب المجرمين، ولذا قال تعالى:(8/4073)
كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
(كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
والسلك إدخال الشيء في غيره كإدخال الخيط في الإبرة، والرمح في المطعون، والسهم في الهدف، والضمير في (نَسْلُكُهُ) يعود إلى الضلال والتعصب والاستهزاء، وهذا كله مفهوم من سياق الكلام، ويصح أن يعود الضمير(8/4073)
إليه على أنه معنى تضمنه القول، والمؤدى على ذلك كذلك الذي كان من السابقين من الأمم الذين سبقوا قومك من الاستهزاء برسلهم، والضلال والحماقة، نسلكه وندخله في قلوب المجرمين من قومك، وأظهر في موضع الإضمار، لوصفهم بالإجرام في هذا المسلك الذي سلكوه سيرا على نمط ماضيهم من المجرمين، فالإجرام متصل الحلقات بعضها آخذ بحجز بعض، لَا ينفصل عنه، ولا ينفصم عنه. وإن هذه الأخلاق من كفر وضلال وتعدٍّ على أهل الحق إذا سلكت في قلوب أصحابها، لَا ينفضون عنها ولو تطاول عليهم الأمد؛ ولذا قال تعالى:(8/4074)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
(لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
الضمير في (بِهِ) يعود إلى الذكر، وهو الحق الذي يوجب الإيمان، وهذه الجملة مقررة لما قبلها، لأنه إذا كان الباطل قد دخل في قلوبهم دخول الخيط في المخيط، فإنه لَا يمكن أن يجتمع والحق في قلب واحد، فلا يمكن أن يؤمنوا بالذكر الحكيم، (وَقَدْ خَلَتْ)، أي مضت سنة الأولين أي طريقتهم.
وفى ذكر هذه الجملة السامية (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) إشسارة إلى أمرين:
إلى استمكان الكفر والضلال في نفوسهم، وقراره فيهما، وأنه لَا رجاء لمن كان على هذه الحال، والثاني إشارة إلى مآل أولئك الماضين من هلاك وعصف بهم، وإذا كان ذلك ما ناسب الماضين، فما يناسب الحاضرين هو سلم مخزية بعد حروب مجلية مع الحق.
وإذا كان ذلك ما كتبه اللَّه تعالى عليهم كما كتب على من سبقوهم، فلا تظن أيها الرسول الأمين أن كفرهم لنقص في المعجزة التي جئتهم بها، إنما ذلك لأنهم صدوا عن الحق، فلو جئت بالمعجزات التي لَا يماري فيها العقلاء لماروا فيها، وادعوا ضلال أبصارهم.
(وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)(8/4074)
طلبوا أن تنزل عليهم الملائكة، وأقسموا باللَّه لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها، ولو جاءتهم لَا يؤمنون، فاللَّه تعالى يبين أنهم لو رفعهم إلى الملائكة وفتح لهم بابا يرتفعون إليه، فقال:(8/4075)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
(وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ)، أي فتحنا عليهم فرجة من السماء واتجهوا إليها فاستمروا فيها يرتفعون بها صاعدين إليها، حتى يروا الملائكة عيانا بيانا، مما آمنوا و(8/4075)
لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
(لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا ... (15) أي سحرت أعيننا، أو سدت علينا مسام الإدراك، (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ) الإضراب للترقي في الحكم من سحر أبصارهم إلى سحر كل أجسامهم، وليسوا آحادا بل إنهم قوم مسحورون.
وهكذا تجد الكفر قد استقر في قلوبهم فلا يؤمنون بأية آية ولا يصدقون أي دليل، فذرهم في غيهم يعمهون ولا تلتفت إليهم (ادْعُ إِلَى سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. . .).
* * *
بدائع الخلق والتكوين
قال اللَّه تعالى:
(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ(8/4075)
بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
* * *
بعد أن ذكر سبحانه حال الجحود الذي استمكن في قلوب المشركين حتى صاروا بحال يكذبون لها حسهم، وأنهم إذ كذبوا القرآن عنادا وجحودا، فإنهم يكذبون كل شيء مهما يكن مرئيا رأي العين، حتى إنهم لَا يقتنعون بما يراه حسهم، فلو عرجوا إلى السماء لأنكروا وقالوا: إن أعيننا سكِّرت، وصرنا حيارى كالسكارى، وإن محمدا خَيَّل إلينا ما لم نره.
بعد هذا أخذ يبين - سبحانه - عجائب التكوين في خلقه، حتى إن هذه المخلوقات تعلن بالبداهة عن منشئ الكون، وأنهم إذ ضلوا عن هذا، فإن شيئا لا يقنعهم من بعد هذا الضلال.
قال تعالى:(8/4076)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ برُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ)
(جَعَلْنَا) بمعنى صيرناها بعد أن أنشأناها وأبدعناها على غير مثال سبق، و (البروج) جمع برج، وهو القصر، والمنزل، والبروج هنا منازل النجوم، أي أن كل نجم في منزله الذي أحله اللَّه تعالى فيه، وارتبط بغيره عبر هذا الوجود، بحيث يكون كل نجم في مكانه ومداره لَا يحول عنه ولا يحور، وكأنها مبنية بناء محكما لا فروج فيها (. . . وَمَا لَهَا مِن فرُوجٍ)، فالارتباط بينها ثابت بما يسمونه الجاذبية التي تشد بعضها ببعض، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ)، أي أنها في منظرها وإحكامها زينة في ذاتها، وجعلها اللَّه تعالى بهجة للأعين، كما قال في آية أخرى، (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ. . .)، وكما قال تعالى في سورة " ق ": (أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ).(8/4076)
وإن اللَّه سبحانه وتعالى بناها ذلك البناء المحكم الدقيق الذي ارتبط ارتباطا وثيقا، وحفظها؛ ولذا قال تعالى:(8/4077)
وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17)
(وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ)، و (الشيطان) هو المفسد العابث، و (رَجِيمٍ) بمعنى مطرود ملعون مبعد عن رحمته سبحانه وتعالى، وهذا التعبير السامي فيه إشارة واضحة إلى أن اللَّه سبحانه وتعالى خلق هذا الكون العظيم، وحفظه من أن يتطرق إليه فساد أو عبث عابث.
ومن هم الشياطين الذين حفظ اللَّه السماوات منهم، ووصفهم سبحانه وتعالى بأنهم مرجومون مطرودون من رحمته ملعونون؛ لم يبين من هم، ولم يرد في السنة من هم، فلنكتفِ بما بين، غير متزيدين على كتاب ربنا.
ثم قال سبحانه:(8/4077)
إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
(إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
الاستثناء هنا يصح أن يكون منقطعا عند بعض المفسرين، ويكون المعنى لكن من استرق السمع، وعلم بعض الأمور التي لَا يصح إعلانها من أسرار هذا الكون السامي، ولا يكون ذلك إلا بتقدير اللَّه تعالى.
وعندي أن الاستثناء متصل، لأن (الفاء) في قوله: (فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مبِينٌ) وهي تفيد ترتب ما بعدها على ما قبلها تبعد أن يكون الاستثناء منقطعا، وإذا كان متصلا يكون المعنى حفظه سبحانه من كل شيطان مرجوم أن يتطاول فيعبث، وأقصى ما يصل إليه أن يسترق السمع، أي أن يأخذ معلومات عن طريق الخفية كمن يسترق السمع،) تصديقا لقوله تعالى: (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ).
وإن هذا الذي يكون كمن يسترق السمع، ويتخذ ذلك طريقا لمعرفة ما لم يعرف، لَا ينجو، بل ينزل اللَّه تعالى عليه ما يحرقه، قبل أن يكشف علم ما نهى عنه " ولذا قال تعالى: (فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مبينٌ) والشهاب) كوكب مضيء، كما قال تعالى: (. . . فَأتْبَعَهُ شهَابٌ ثَاقِبٌ)، فهو نار مشتعلة أو شعلة مضيئة، ويقول ابن عباس: تصعد الشياطين أفواجا تسترق السمع، فينفرد منها، فيرمى بالشهاب.(8/4077)
وإن هذا لتصوير حكيم لحفظ اللَّه السماوات من أن يكون في السماوات مفسدون، كما في الأرض من يفسد فيها، وهم شياطين خارجون عن الطاعة كشياطين الإنس والجن في الأرض.
وقد فهم بعض الناس من هذه الآية أنها تشير إلى علم النجوم، وعلم حركاتها، وتعرف أسرار الحظ من هذه الحركات، ولكنا نقول: إن الآية الكريمة بمنأى عن هذا، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم بالكون ظاهره وباطنه. وقد أشار سبحانه وتعالى إلى بدائع خلقه في السماوات وصيانتها من كل عابث، وحفظها إلى ما شاء اللَّه تعالى أن تبقى، وبعد ذلك أشار إلى نعمائه على أهل الأرض فيما أنعم فقال تعالت كلماته:(8/4078)
وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
(وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
(مَدَدْنَاهَا) بسطناها ليسهل الانتقال فيها، والإقامة في أجزائها، وتبدو مبسوطة سهلة مع أن تعاقب الليل والنهار يدلان على أنها تدور حول الشمس، وأنها كرة سابحة في الفضاء بقدر معلوم، كما قال سبحانه وتعالى: (وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)، (وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ)، فكان خلق الأرض، ومدها، ودحوها نعما مكنت الإنسان من الانتفاع بها، ويقول سبحانه وتعالى: (وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ). رواسي جمع راسٍ أي ثابت، يثبت الأرض بثقله، كما قال تعالى في آية أخرى: (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا).
وإنه من تلاقي السماء الدنيا بالأرض يكون المطر الذي ينبت به كل شيء، وكما قال تعالى: (. . . وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِكُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ. . .)، فمن هذا المطر يكون الغيث الذي يخبت به النبات؛ ولذا قال تعالى: (وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ) وموزون معناها مناسب مقدر بقدره الذي يكفي أهلها، ويجعل إقامتهم فيها طيبة راضية، وقد وزنها خالق كل شيء ولتكون للأحياء عليها غير(8/4078)
منقوصة، بل كاملة تجعلهم في بحبوحة وسعادة كاملة لو أحسنوا فيما بينهم، ولعل في ذلك ردا على الذين يدعون إلى نقص سكان الأرض بدعوى أن الأرض ضاقت بمن فيها، وكما قال الذين يريدون أكل الشعوب الضعيفة وإبادتها، أو أن تكون طعما لهم أن الإنسان تكاثر نسله، فليحد ذلك التكاثر، إن بكر الأرض والماء اللذان لم يستغلا أكثر وفرا وأدر خيرا، إن خالق الإنسان هو الذي جعل النبات بقدر موزون، وهو الخلاق العليم.
ثم بين سبحانه المخلوق، ووزن حاجته فقال تعالت كلماته:(8/4079)
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
(وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
وجعل لكم في الأرض معايش، أي مكنكم من أن تتخذوا معايش لكم من طعام موفور، وثياب سابغة، ومأوى تأوون إليه، مكنكم سبحانه وتعالى، لكم ولأولادكم، وكل من يكونون في عيالكم، والضعفاء الذين تعاونونهم، مكنكم من هذه المعايش ومكن حيواناتكم الأليفة من الرزق، وعبر عن هؤلاء الأتباع بقوله: (وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ)، أي أتباعكم الذين لَا ترزقونهم أنتم، بل اللَّه تعالى هو رازقهم، ليعلموا أنهم لَا يرزقون أولادهم حتى يقتلوهم أو يؤذوهم، بل اللَّه تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، وقد قال البيضاوي في قوله تعالى: (وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ) " يريد به العيال والخدم والمماليك، وسائر ما يظنون أنهم يرزقونهم ظنا كاذبا، فإن اللَّه يرزقهم وإياكم، وفذلكة الحياة الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار وشكل معينين مختلفة الأجزاء في الوضع مُحدثة فيها أنواع النبات والحيوان المختلفة خلقة، وطبيعة، مع جواز ألا تكون كذلك على كمال قدرته، وتناهى حكمته، والتفرد في الألوهية، والامتنان على العباد بما أنعم عليهم من ذلك ليوحدوه.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى أن كل شيء عنده بمقدار، وأن كل شيء عنده خزائنه، فقال تعالى:
(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)(8/4079)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
(إن) هنا نافية، و (من) صلة لبيان عموم النفي، والمعنى ما من شيء إلا عندنا علمه، والمكان الذي يكون منه، ونحن الذين نظهره إن أردناه ولا ننزله إلا بقدر معلوم.
فالمراد كمال السلطان، وإحكام الخلق والتكوين، وبسط الرزق، وتقتيره، اللَّه يبسط لمن شاء ويقدر، وقد يعطي العاصي إملاء له ليكون عقابه، وقد يمنع التقى اختبارا لصبره ورجاء ثوابه، وكل له ثواب وجزاء، فالعطاء بيد اللَّه، والتعبير بقوله تعالى: (عِندَنَا خَزَائِنُهُ) مجاز عن علمه سبحانه وتعالى المحيط بكل شيء، وبأنه سبحانه وتعالى الموزع للأرزاق، وأنه المختبر للناس بعطائه ومنعه، فهو يختبر من يعطيه بالعطاء ليكفر النعمة أو يشكرها، ويختبر من يمنعه ليصبر أو يجزع، وكل بقدر معلوم، لَا يكون عفوا من غير تقدير، بل بإحكام وتدبير.
وقد ذكر سبحانه وتعالى بعض أسباب الرزق فقال تعالت كلماته:(8/4080)
وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
(وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
أرسلها أطلقها، والرياح بالجمع، ولواقح جمع لاقحة، وفي تفسير لاقحة نظران أحدهما - أنها محملة بالماء أو مثيرة للسحاب المحملة بالماء، كما قال تعالى: (. . . وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ)، وكأنها شبهت بالحامل لإثمارها وإنجابها؛ وذلك لأن المطر يتكون من بخار الماء، ويتكاثف حتى يصير سحابا، والرياح تحرك هذه السحب من مكان إلى مكان حيث تصادف جوا باردًا، فتنزل أمطارا، ويزكي ذلك النظر قوله تعالى: (فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) فذكر الماء بعد ذلك دليلا على أنها تثير السحاب المملوء بالماء، وذلك ما سوغ وصفها باللواقح. والنظر الثاني - أن تكون الرياح حاملة بذور التلقيح للأشجار فهي تحمل بذور الذكورة أو الأنوثة، وعندي أن النظرين يمكن الجمع بينهما، إذ لَا تعارض، فالرياح لواقح باعتبارها حاملة أسباب اللقاح، كما(8/4080)
يلقح فحل الحيوان أنثاه، وباعتبارها مثيرة للسحاب الثقال المملوءة ماء، وينزله الله تعالى حيثما أراد وفي أي أرض شاء، فإنه لَا تخرج حركة عن حركة إلا بإذنه.
وقوله تعالى: (فَأنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)، (الفاء) هنا لبيان أن ما بعدها سببا لما قبلها، أي أنه بسبب هذه الإثارة التي أثارتها الرياح أنزل سبحانه وتعالى الماء من السماء، ليسقى الزرع والغراس، والأعشاب التي يكون منها طعام الإنسان والحيوان، وكل ما يدب على ظهر الأرض.
والسببية هنا ليست سببية فاعلة أو باعثة إنما هي سببية اقترأن، و (جعل)، أي جعل الله قعالى هذا سببا (فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ)، (الفاء) عاطفة على (أنزلنا)، وجعل الخطاب بالسقي للناس مع أنه لسقي الزرع والعشب والأشجار والإنسان؛ لأن سقي الإنسان أعظم وأقوى؛ ولأن سقي ما عدا الإنسان هو للإنسان في غايته ونهايته، فكان الإسقاء للإنسان في الابتداء والانتهاء، ولكنه يكفر بنعِم اللَّه تعالى: (. . . إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)، ثم قال تعالى: (ومَا أَنتُمْ لَهُ بخَازِنِينَ) (الباء) في قوله تعالى: (بِخَازِنِينَ) لاستغراق النفي، أي أنتم ليس لكم أي عمل في خزن هذا الماء في السحاب، وكأنَّه شبه السحاب بمخزن للماء خزن فيها؛ إذ يخرج من الأرض بخارا ثم يتكاثف فيها ثم يوزعه سبحانه وتعالى في الأرض بتصريف الرياح، أي ليس أحد منكم معشر الناس بخازن هذا الماء ومصرف الرياح به وموزعه في كل بلد حسب حاجته، وحسب عطاء اللَّه تعالى له، سبحانه إنه هو الخلاق العليم.
وإن اللَّه سبحانه وتعالى هو المنشئ، والقائم على كل ما خلق، وهو الذي يبدأ الإبقاء والإفناء؛ ولذا قال:(8/4081)
وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)
(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)
أكد سبحانه أنه هو وحده المحيي والمميت أكده بضميره الأعظم، وأكده بنحن، وهو توكيد لفظي، وأكده باللام، وأكد الإحياء ولم يؤكد الممات؛ لأن الإحياء غير مرئي، وإنما تظهر آثاره في الحياة، ولم يؤكد القرآن الحكيم الممات؛(8/4081)
لأنه مرئي محسوس، يرى كل يوم، فما لَا يظهر للحس وهو الإحياء أكده، وما يظهر للحس الحس يؤكده، وقد أخبر سبحانه أن الجميع بعد الموت يقول إليه سبحانه وتعالى؛ ولذا قال سبحانه: (وَنَحْنُ الْوَارِثونَ) فالجميع يئول إليه كما يئول الميراث للوارث.
وإن اللَّه هو الذي أحيا، فهو الذي أنشا الكون كله، وهو الذي أنشأ الإنسان
من سلالة من طين كما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16).
وإن قوله تعالى: (وَنَحْن الْوَارِثونَ) يومئ إلى ما صرح به سبحانه وتعالى، من البعث في الآية التي تلونا، والآيتان تشيران إلى أن من أحيا وأمات قادر على الإعادة، كما قال تعالى: (. . . كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)، (. . . وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ).(8/4082)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
(وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24)
(الْمُسْتَقْدِمِينَ)، السين والتاء للطلب، وكذلك في (الْمسْتَأْخِرِينَ)، ومعنى السين والتاء هنا طلب الإيغال في التقدم والإيغال في التأخر، فالذين تقدموا إلى أبعد التقدم، والذين تأخروا إلى أعمق التأخر في علم الله تعالى، وعلمه الماضي والحاضر على سواء، ولقد أكد علمه بالمتقدم، وعلمه بالمتأخر بأبلغ المؤكدات، فأكد باللام وبقد وكلاهما لتأكيد التحقيق.
والمتقدم يشمل المتقدم في الخلق والإحياء والموت، والمتأخر كذلك، كما يشمل المتقدم في الطاعة والإجابة والمتأخر فيها، واللَّه سبحانه عليم بكل ذلك في ميقاته، وإذا كان عنده علم ذلك، فهو يعرف أين يكونون وفي أي زمان كانوا ويكونون، وعلى أي حال هم أكانوا رميما، أم كانوا في حجارة أو حديد، كما(8/4082)
قال: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51).
وإذا كان يعلمهم جميعا، فإن البعث لهم جميعا، وسيحشرهم إليه جميعا؛ ولذا قال تعالى:(8/4083)
وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
إن ربك خالقك ومربيك والقائم على شئون كل حي، العليم بأدواره من يوم وجد حيا إلى أن يُرمس ميتا، فالتعبير بـ (رَبَّكَ) تذكير بالتكوين واستمرار القيام على ما كون ومن كون، والضمير (هو) للدلالة على أنه هو الذي أنشأ وهو الذي يحشر، فهو حجة على الإمكان، وأن ذلك لَا يستحيل، لأنه أوجده أولا، فهو يعيده ثانيا، و (يَحْشُرُهُمْ)، أي يجمعهم، وعبر بـ (يَحْشُرُهُمْ) للدلالة على كثرتهم ولقائهم في وقت واحد؛ لأن جمعهم كذلك في وقت واحد، ويكونون أمام اللَّه تعالى في يوم واحد هو يوم تقوم الساعة وإن ذلك من دواعي حكمته، وعلمه الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء؛ ولذا قال تعالى في مقام الآية الكريمة: (إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)، أي أن ذلك اقتضته حكمته.
كما قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)
، وهو عليم أين يكونون، وعلى أي حال، ولو كانوا حجارة أو حديدا فسيعيدهم، إنه عليم بكل شيء.
* * *
قصة خلق الإنسان والجن
قال اللَّه تعالى:
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ(8/4083)
صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
* * *
ذكرت قصة خلق الإنسان وإبليس قبل ذلك، وليس في ذكرها الآن تكرارا لما ذكر أولا وثانيا، بل إن لكل واحدة عبرة في ناحيتها، وكلها يشترك في أمرين ثابتين، وهو أن اللَّه تعالى كرم الإنسان، فجعله فوق الجن والملائكة، إن استقام على طريقه، والثاني أن اللَّه تعالى كرمه منذ بدء الخليقة وفي كل مرة من ذكر القصة تفصيل لأمور لم يكن في المرة الأخرى، ففي مرة ذكرها في سورة الأعراف، كيف كان الإغواء، وكيف قاسمها أنه لهما من الناصحين، وفي هذه المرة صارح بالإغواء وإصراره عليه، ونتيجة هذا الإغواء، وفي السابقات لم يكن تصريح بهذا، ولنرو القصة الحق، كما نتلوها من القرآن الكريم.(8/4084)
ذكر سبحانه وتعالى خلق الإنسان، فقال عز من قائل:(8/4085)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) الصلصال هو الطين اليابس، وروي ذلك عن ابن عباس، وقال مجاهد: هو الطين المنتن، أي الطين العطن وذلك بيان لصغر أصل الإنسان حتى لَا يستكبر ويغتر، ونحن نميل إلى رأى ابن عباس رضي اللَّه عنهما وقوله: (مِنْ حَمَإٍ) الحمأ: الطين، و (من) ابتدائية، أي خلقناه من طين يصلصل، (مَّسْنون)، أي شكل بأي شكل، وليكن شكل إنسان.
هذا خلق الإنسان أو أصل مادة تكوينه، أما الجن فقد قال تعالى:(8/4085)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
(وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
والجان الجن الذي منه إبليس اللعين، والسموم الرياح الشديدة الحرارة التي تنفذ في المسام، وذكر أنه كان من قبل خلق آدم بدليل أن إبليس أمر بالسجود لآدم.
وهنا في هذا النص لم يذكر آدم على أنه خليفة في الأرض، وذكرت هنالك المفاضلة بينه وبين الملائكة في العلم ولم تذكر هنا، ولا تعارض بل توافق من غير مقابلة مضادة.
ويقول سبحانه وتعالى في طلب السجود:(8/4085)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)
(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ ... (28)
أي شكلته على الخلق السوى في أحسن تقويم (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) قال سبحانه بعد قوله:(8/4085)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28)
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ)، وقوله تعالى: (فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) معناه خروا له ساجدين، سجود إجبار وتكريم لَا سجود عبادة، فالعبادة لِلَّهِ تعالى وحده لَا شريك له، ويقول الزمخشري في قوله تعالى: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) وأحييته، وليس ثمة نفخ ولا منفوخ، وإنما هو ليحصل ما يحيا به فيه، وحاصل هذا أن ذلك تصوير للروح إذ تدخل الجسم ويحيا بها الإنسان حياة محس مدرك، ويقول البيضاوي في قوله: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) " حتى جرى آثاره في تجاويف أعضائه، وأصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر، ولما كان الروح يتعلق أولا بالبخار اللطيف المنبعث من القلب، ويفيض عليه القوة الحيوانية، فيسري حاملا لها في(8/4085)
تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن جعل تعلقه بالقلب نفخا فيه، وإضافة الروح إلى نفسه لما مر في (النساء)، والمعنى أن الله نفخ من روحه هو تصوير لخلق الحياة، وإضافتها إليه سبحانه وتعالى لأنه خالقها ومنشئها، وليس ثمة نفخ، وإنما هو تصوير للخلق والتكوين، وعلى هذا يكون معنى نفخنا فيه من روحنا، فليس فيها دلالة على أن عيسى من روح الله كما أن آدم ليس من روح الله، وإنما هو من خلق الله تعالى ".
قال تعالى:(8/4086)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
(فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
توكيدان بلفظين للسجود جميعهم، أحدهما بقوله: (كلهم)، وثانيهما بقوله: (أجمعون)، فقد سجدوا سجودا مؤكدا لم يمتنع منهم أحد، وذلك لتكريم آدم، وفي سورة البقرة بيان لسبب التكريم.
وقد استثنى اللَّه تعالى إبليس من الساجدين فقال:(8/4086)
إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
(إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31)
والاستثناء هنا منقطع على أن إبليس لم يكن من الملائكة، وكلهم كان مطالبا بالسجود الذي طولبوا به، وإذا كان منهم أو داخلا في عمومهم فإن الاستثناء يكون متصلا، وقد ظهر بهذا تمرده وشذوذه، أما تمرده وخروجه عن الطاعة فلأنه أبي، وقد أمر بالسجود، وأما شذوذه، والشذوذ ومجابهة الجموع بالباطل أساس الانحراف، فقد أشار الله تعالى إليه بقوله تعالى: (أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ).
خاطبه الخالق جلت قدرته فقال:(8/4086)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)
(يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32)
والمعنى أن رب الوجود ومنشئه سأله عن المسوغ الذي سوغ له ألا يكون مع الساجدين، أي شيء أثبت لك وسوغ ألا تكون مع الساجدين، مع أن سجودهم كان يستحثك على أن تسجد مثلهم.
فأجاب إبليس قال:(8/4086)
قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
(لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
والنفي نفي وجحود، أي لم يكن من شأني أن أسجد لبشر خلقته(8/4086)
من طين، وفي معنى هذا إجابته في سورة أخرى (. . . أَنَا خَيْر مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)، وكان هذا الذكي في غفلة؛ لأن خالق النار هو الذي أمره بأن يسجد، وهو أعلم بمن خلق.
كان هذا تمردا، وغرورا، ومعارضة لما أسر اللَّه تعالى؛ ولذلك أمره اللَّه تعالى بأن يخرج مذءوما مدحورا، فقال له:(8/4087)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)
(فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34)
الضمير في منها يعود إلى الجنة، ورجيم معناها مطرود مرجوم بالحجارة، وسجل اللَّه عليه اللعنة إلى يوم الدين فقال تعالت كلماته:(8/4087)
وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35)
(وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) من هنا ابتدأت المعركة بين الإنسان وإبليس اللعين، وصارت العداوة بين عنصر الخير الملكي وعنصر الشر الإبليسي، وقد طلب إبليس أن يؤجل إلى يوم يبعثون قال إبليس:(8/4087)
قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)
(فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36)
(الفاء) في فَأَنْظِرْنِي فاء الإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، والمعنى إذا كنت قد طردتني من رحمتك، ولعنتني، فأجلني إلى يوم يبعثون لأكون أنا وهم على سواء نجازى بما ترى من جزاء. أجابه اللَّه تعالى إلى طلبه فقال تعالى:(8/4087)
قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
(قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
(الفاء) أيضا تفصح عن شرط مقدر، أي إذا طلبت التأجيل، فإنك من المؤجلين إلى يوم الوقت المعلوم، وهو يوم القيامة الذي تجازى فيه كل نفس ما كسبت، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وسماه سبحانه وتعالى (الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)؛ لأنه وقت قدره اللَّه تعالى، وهو معلوم عنده، وإن لم يكن يعلمه الناس، ولا يجليها لهم إلا لوقتها.
أخذ إبليس المرجوم الملعون المطرود من رحمته يستعد للقيام بما أوجبه على نفسه حسدا وكبرا لآدم وذريته(8/4087)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
(قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
أقسم إبليس لأزينن لبني آدم، ولأغوينهم أجمعين، أي أنه يبتدئ بأن يزين لهم الشر ويحسنه، وأول (الشر) استحسانه، ثم يأخذهم إلى الضلال عن طريق ما يستحسنون ويشتهون، والإغواء: الإضلال.(8/4087)
والغرور في الدنيا يبتدئ بتزيين الشيطان لها، وحتى يغتروا بها ثم يكون بعد ذلك الضلال، وقد أقسم على ذلك ولم يحنث في قسمه، وقد ابتدأ كلامه بقوله: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي)، وهو أولا نادى بقوله: (رَبِّ) شعورا بالربوبية، وقد علمها وضل على علم؛ لأنه لم يطع ربه وقال: (بِمَا أَغْوَيْتنِي)، أي بسبب أنك أغويتني، وسمى ترك الله تعالى له ليضل إغواء له، مع أنه هو الذي اختار المخالفة والعناد، وإن الله تعالى لَا يهدي من اختار سبيل الشر وسار فيه.
وهكذا تجد إبليس حسد آدم، إذ أمره الله تعالى بالسجود فامتنع حسدا وعنادا وحسدا ذرية آدم؛ لأنَّ اللَّه تعالى تركه حتى غوى وضل فأراد إغواءهم، كما غوى.
وقد أدرك إبليس أنه لَا طاقة له لإغواء المخلصين منهم فقال:(8/4088)
إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
(إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)
أي الذين أخلصوا لطاعتك، وخلصت نفوسهم من شوائب الهوى، وتزيين الدنيا.
وهنا نجد أن الاستثناء كان من قوله: (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) فهو استثناء من مؤكد، والاستثناء من عام مؤكد بقوله أجمعين دليلا على أن الكثرة هي التي استجابت لإغوائه، والقلة أخلصت لِلَّهِ تعالى.
وإن إبليس يذكر أن العباد المخلصين لَا يغويهم، فيقول:(8/4088)
قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
(هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
الإشارة إلى الاستثناء، وهو أنه لَا يقوى على عباد الله الذين أخلصوا لله تعالى، وصاروا له تعالى وحده. والصراط المستقيم هو الطريق السوي، أي أنه لا يضل إلا من يتبعه أما من لَا يتبعه، ويكون لله، فإنه لَا يغويه ولا يضله، وفي الحق أنه لَا يستطيع أنه يغويه، فإنه لَا يقوى على إغوائه، وإن كانوا كثرة.
وقد أكد اللَّه تعالى أن عباده المخلصين ليس له عليهم سلطان، فقال تعالى:
(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)(8/4088)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
عباد جمع عبد، والعباد جميعا مضافون لِلَّهِ تعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الذي خلقهم، وأنشاهم فهم في قبضة يده سبحانه وتعالى، ومعنى قوله تعالى: (لَيْسَ لكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، أي ليس عندك قدرة إضلالهم، ولا حجة تسوغ ضلالهم إلا أن يسبقوك بالضلال فيتبعوك من غير حجة ولا برهان، كما قال هو في التخلص من ذنوبهم: (. . . وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِن سُلْطَان إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاستَجَبْتُمْ لِي. . .)، فهم ضالون لم ينهجوا سبيل الرشاد؛ ولذا قال تعالى: (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ)، أي الضالين ابتداءً.
* * *
عذاب أتباع إبليس
وبين سبحانه جزاء الغاوين فقال:(8/4089)
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)
(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
* * *
أقسم إبليس اللعين (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، وقرر اللَّه تعالى العلي أنه لَا يتبعه إلا الضالون، بعد ذلك أن جهنم موعدهم أجمعين، كأنهم اتفقوا جميعا على مكان يلتقون فيه تحقيقا لوعد وعدوه بمبادلة التزيين والإغواء؛ ولذا قال تعالى مصورا ذلك اللقاء فقال تعالى: (وَإن جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ)، وفي ذلك من التهكم بهم، وكأنَّهم في أخذهم بأسباب استحقاقهم لجهنم ودخولهم فيها، كانوا قد اتفقوا على موعد يلتقون فيه جميعا، وهو جهنم نار اللَّه الموقدة.
وقد أكد سبحانه دخولهم جهنم بـ (إنَّ) المؤكدة والجملة الاسمية، و (اللام) في قوله تعالى: (لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ)، وبالتأكيد اللفظي في قوله تعالى:
(أَجْمَعِينَ).(8/4089)
وقد قلنا: إنه يفهم من القول وإشاراته البيانية أن عدد العصاة أكثر، وعدد الأبرار أقل؛ لأن الأبرار هم صفوة الإنسانية، والصفوة من كل شيء أقله وليس أكثره.
ولكثرتهم كثرت أبوابها لتتسع لهم في دخولها؛ ولذا قال تعالى:(8/4090)
لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
(لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
فبعض المفسرين فهم أن السبعة عدد حقيقي، وأنهم في جهنم مراتب حسب هذا العدد وعلى مقدار ذنوبهم، ويشير إلى هذا قوله تعالى: (لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مقْسُومٌ)، أي أن كل طبقة من طبقاتها لها باب قد قسم لها جزء من المعذبين يدخلون فيه من غير سلام، بل مدفوعين، ملقون فيها كما تلقى أهمال الأشياء.
وقد ذكر هذا الفريق من المفسرين طبقات النار، وهي جهنم، ثم لظى ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الحميم، ثم الهاوية، ويقول البيضاوي في توضيح هذا الرأي: " ولعل تخصيص هذا العدد لانحصار المهلكات في الركون إلى المحسوسات، ومتابعة القوة الشهوية، والغضبية لأن أهلها سبع فرق لكل باب منهم من الأتباع جزء مقسوم أفرز لها، فأعلاها للموحدين العصاة، والثاني لليهود، والثالث للنصارى، والرابع للصابئين، والخامس للمجوس، والسادس للمشركين، والسابع للمنافقين ".
وإنا لَا نوافق العلامة البيضاوي ومن نقل عنه:
أولا: لأن ذلك لَا يعلم إلا بالتوقف.
وثانيا: لأن عصاة المؤمنين ليسوا داخلين في الذين تواعدوا مع إبليس على أن يكون موعدهم جهنم، ولأن هذه الأسماء أوصاف للنار، وليست أقساما لها.
وعندي أن العدد سبعة يذكر في اللغة العربية للدلالة على الكثرة لَا على
خصوص العدد سبعة.
* * *(8/4090)
جزاء المتقين
قال الله تعالى:
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
* * *
هذه نعم المتقين، والمتقون هم الذين جعلوا بينهم وبين الشر وقاية، واتقوا غضب اللَّه تعالى، وعملوا على إرضائه وجانبوا الفواحش، ووسوسة إبليس، وقد ذكر اللَّه تعالى لهم نعما أربعة أولها: نعيم مادي، وثانيها: أمن وسلام واطمئنان، وثالثها: راحة لَا نصب فيها، ورابعها: بقاء وخلود.
أما النعمة الأولى وهي المادية فهي المبينة بقوله تعالى:(8/4091)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتً وَعُيُونٍ)، فهي حدائق ذات بهجة للناظرين، فيها من كل فاكهة وما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وما لم يخطر على قلب بشر، وفيها الأنهار التي تجري من العيون الوفيرة بالماء، والماء نعمة بما فيه من ري، وبمنظر يجري، وما يُحدث من خضرة.
والنعمة الثانية: الأمن وإقرار السلام، وهذا أشار سبحانه وتعالى إليه بِآيتين كريمتين هما قوله تعالى:(8/4091)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)
(ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ)، والثانية قوله:(8/4091)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
(ونَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ فُتَقَابِلِينَ).
أما الأولى: فإن الملائكة يطلبون إليهم أن يدخلوها بسلام يجمعهم فيها سلام، حال كونهم آمنين من الأشرار وأسقام النفوس ومدافعة الأعداء، فلا(8/4091)
حرب، ولا خصام ولا نزاع من نوع ما كان يجري في الأرض، وهناك راحة نفسية، وهي أبرك النعم بعد الأمن، أشار إليه سبحانه بقوله تعالى:
(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
نزع اللَّه تعالى ما في النفوس من الغل الذي يتكون من الحقد، والحسد وحب الاستعلاء؛ لأنه سبب في شقاء الدنيا، فالناس يشقون إذا ملأ الحقد والحسد قلوبهم، فالحاسد في هم دائم، وتحب ملازم، وكلما تكاثرت النعم على المحسود تفاقمت النقم على الحاسد، ومن كان في قلبه حقد أوجب انتقاما، فهو يضم بين جنبيه نارا تلهب دائما، وتؤجج أضغان القلوب.
وقد صور النفوس المطمئنة فقال: (إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)، أي جالسين على سرر جمع سرير، متقابلين بوجوه مقبلة فرحة مستبشرة، وهذه نعمة أخرى من أجل النعم الإنسانية وهي نعمة الأخوة والمحبة المتوادة المتراحمة، ويروى أن المجاهد الأعظم بعد رسول اللَّه عليا كرم اللَّه وجهه عندما قرأ هذه الآية قال: " أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم " رضي اللَّه تعالى عن أولئك الأطهار، ولعن الأشرار الذين بثوا بينهم وتاب على من هو أهل للتوبة منهم.
والنعمة الثالثة: نعمة الراحة، وعدم المغالبة، وقال فيها:(8/4092)
لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
(لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ ... (48)
أي تحب، بل فيها الراحة المطلقة للجسد، والسرور النفسي المستمر، ونعمة المحبة والمودة والصفاء، وتلاقي القلوب.
وإنها نعم لَا يخشى فواتها، بل هي خالدة؛ ولذا قال تعالى: (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) ذكر الضمير (هُم) لتأكيد القول، وقدم (مِنْهَا) للدلالة على
نعمائها وجلالها، ونفي الوصف (بِمُخْرَجِينَ) للدلالة على أنه لَا يمكن أن يوصفوا بأنهم مخرجون، فهو نفي للإخراج بأبلغ وجه، أي ليسوا من شأنهم أن يخرجوا؛ لأنه مقيم فاض اللَّه تعالى به عليهم بسبب تقواهم وبرهم وهو الكبير المتعال.
* * *(8/4092)
الله غفور رحيم ومنتقم جبار
قال اللَّه تعالى:
(نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
* * *
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو تقريب لمن في قلوبهم رجاء الإيمان، وترهيب لن يصرون على الشر إصرارا، والتنبيء الإخبار بالأخبار الخطيرة ذات الشأن، وأي خطر أعظم من أن يكون منعا لليأس من رحمة اللَّه تعالى، وأعظم من منع يستمر في غيه، سادرا عن طريق اللَّه تعالى.(8/4093)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
(نَبِّئْ عِبَادِي) أخبرهم ذلك الحبر الخطير في ذاته، الدال على عظمة الخالق في رحمته وفي عذابه (أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أكد سبحانه وتعالى هذين الوصفين لذاته بـ (أنَّ)، وبالضمير، والصفتين المتشابهتين، فهو سبحانه يغفر لعباده لمن تاب وآمن وعمل صالحا، وإنما التوبة للذين يعملون السوء بجهالة، ثم يتوبون منِ قريب، ويدعوهم سبحانه لأن يتوبوا ليغفر، فيقول سبحانه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِين أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِر الذُّنُوبَ جَمِيعًا. . .).
وإن هذا الغفران من مقتضى رحمته لأنه يريد لعباده أن يكونوا أطهارا وأن يموتوا أطهارا، ومن تدنس من أدناس العصيان يطالبه بأن يرحضه عن نفسه، ليغفر له برحمته، ويريد من عباده أن يعلموا الصبر والشكر نهاية أعمالهم في الدنيا.
وإذا استمروا في غيهم ولم يتوبوا إلى ربهم، فليرتقبوا عذابه؛ ولذا قال تعالى:(8/4093)
وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
(وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
أي العذاب المؤلم الذي يكون شديدا، قد أكد سبحانه وتعالى شدة عذابه بالضمير (هُوَ)، ونسبة العذاب إليه، وقصر الإيلام على عذابه، أي أن عذابه أليم في ذاته، وكأنه لَا إيلام في غيره بجوار إيلامه.(8/4093)
وإن اللَّه تعالى يعلمنا كيف نربي النفوس ونهذبها، فهي تربي بالرفق من غير شدة، وبالإرهاب من غير تربية لليأس، وبالعقاب حيث يجب، فلا تربي بالعطف الدائم ولا بالعذاب الذي لَا رجاء فيه، وكذلك علَّمنا ربُّنا، وكذلك كانت أخلاق نبينا، وينبغي أن تكون أخلاق مصلحينا، وأولي الأمر منا، وليس الأمر من يفرضه أعداؤنا، أو من يفرضون أنفسهم علينا.
* * *
من قصة إبراهيم وضيفه ولوط وقومه
قال الله تعالى:
(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ(8/4094)
وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
* * *
في الآيات السابقة طلبوا أن ينزل معه ملائكة ليؤمنوا به، وقد رد اللَّه تعالى قولهم بأنه: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)، وفي هذه الآيات التي تلونا نزل ملائكة اللَّه تعالى إلى الأرض فكانوا في مظهرهم بشرا ورجالا ولكن الروحانية تجعل من يخاطبهم - ولو كان نبيا من أولي العزم من الرسل - يوجل منهم؛ لأن جنسهم غير جنسه.(8/4095)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)
(وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ)، وضيف اسم جمع، فالمراد العدد الذي أنزل على إبراهيم، وكان كريما مضيافا،(8/4095)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)
(إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا ... (52)
أي نسلم سلاما، وقوله تعالى: (دَخَلُوا عَلَيْهِ) تدل على معنى المفاجأة إذ لم يكن يترقبهم، وإنهم إذ فاجئوه طمانوه، فرددوا السلام، وجاءت بالنصب مفعول مطلق لفعل محذوف، أي نُسَلِّم سلاما، أبدى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - بالمفاجأة وجله، ولإحساسه بأنهم ليسوا مثله فقال: (إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ)، أي خائفون لأنهم دخلوا مفاجئين، والوجل: اضطراب في النفس يحدث خوفا.(8/4095)
قالوا مطمئنين له بعد فزع المفاجأة:(8/4096)
قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
(لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
وهو إسحاق - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه ذكر في آية أخرى بأن امرأته عجبت لأنها كانت عاقرا وعجوزا، وذلك يعين أنه إسحاق - صلى الله عليه وسلم -، ووصف الغلام بأنه (عَلِيم) ليتم معنى البشارة، لأنها لَا تكون كاملة إلا إذا كان عالما وليس خاملا، وأولئك رسل الله تعالى يتكلمون عنه، وهو لَا يعلم الغيب المكنون في لوح محفوظ، كانت المفأجاة الثانية بهذه البشرى وإن كانت مفاجأة سارة لَا توجب وجلًا ولكن توجب عجبا؛ ولذا قال:(8/4096)
قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
(أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ ... (54) (عَلَى) هنا بمعنى (مع) والاستفهام للتعجب فهو تعجب من أن يبشر مع الكِبَر قد مسَّه، أي أصابه وأحس به وأثر فيه أثره، (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ)، أي فبأي خبر عجيب تبشرون؛ وذلك لأن مجرى الأسباب العادية يجعل ذلك متعسرا لأنه شيخ مسَّه الكبر، وامرأته عجوز عقمت في صدر شبابها فكيف تنجب في دَبْر حياتها.
قال الرسل:(8/4096)
قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)
(بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)
الحق هو الأمر الثابت، واللَّه لَا يبشر إلا بالحق الثابت، فلا تكن من الداخلين في صفوف القانطين من رحمة الله الذين يحسبون أن الأسباب الجارية بين الناس تُعجِز إرادة اللَّه تعالى الفاعل المختار الذي هو خالق الأسباب والمسببات فلا يتقيد بها.
تنبه أبو الأنبياء لرحمة ربه بعد أن نبهوه، فقال:(8/4096)
قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
(وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
نفى خليل الله عن نفسه القنوط بإثبات أن القنوط لَا يكون إلا من الذين يضلون عن اللَّه، ولا يعرفون قدره، وأنه لَا يقيده شيء من خلقه إنه فعَّال لما يريد.
والاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي، والمعنى لَا يقنط من رحمة اللَّه إلا الذين ضلوا عن الحق وغاب عنهم.
وإنه بإحساس النبوة، وإيمانها قام في نفسه أنهم جاءوا لأمر أخطر من هذا، ولذا قال لهم:(8/4096)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)
(فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57)
(الفاء) لربط ما بعدها بما قبلها، أي(8/4096)
أدركنا هذه البشارة وحمدنا الله تعالى عليه، وما شأنكم بعدها، ولقد جاءوا عددا فلابد أن يكونوا للبشارة ولغيرها، فسألهم عن شأنهم في غيرها، قالوا:(8/4097)
قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
(إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58)
وصفهم سبحانه وتعالى بالإجرام؛ لأنهم لم يكفروا فقط، بل أضافوا إلى الكفر فقد الطبيعة الإنسانية. فشذوا بفاحشة ما سبقهم بها أحد من العالمين وإذا كانوا قد وصفوهم بأنهم مجرمون، فمؤدى ذلك أنهم جاءوا لإنزال العقوبة بهم، كما صرح بذلك في آية أخرى فكان لابد أن يتشوف إبراهيم خليل اللَّه لمعرفة مآل ذوي قرابته؛ ولذا قال تعالى على لسان الملائكة:(8/4097)
إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
(إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
أي أن الهلاك واقع بالمجرمين لَا محالة، ما عدا آل لوط فإنهم ناجون منه، واستثناء امرأته؛ لأنها ما كانت مؤمنة بلوط، ونبوته؛ ولذا كان استثناؤها من الناجين، فقال تعالى:(8/4097)
إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
(إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
وهنا ملاحظتان:
الملاحظة الأولى: في قوله تعالى: (قَدَّرْنَا)، أي كان قدرنا الذي لَا ينقض أن تكون غير مؤمنة مع أنها مع نبي من أنبياء اللَّه.
الملاحظة الثانية: وصفها أنها من (الْغَابِرِينَ)، أي المجرمين المستحقين للهلاك، وقد أكد أنها منهم بـ (إن) المؤكدة، وبـ (اللام)، وباندماجها فيهم تجمع صفة الموصوفين بالإجرام.
ذهبوا إلى قوم لوط وحكى اللَّه تعالى مجيئهم فقال:(8/4097)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)
(فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61)
لم يذكر اللَّه تعالى تحيتهم، ولعل ذلك اعتمادا على ذلك هذه التحية مع إبراهيم، وأهله، ومهما يكن فلم يذكر سبحانه أنهم حيوهم، ولذا ذكر أن جواب لوط - صلى الله عليه وسلم -، قال:(8/4097)
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62)
(إِنَّكُمْ قَوْمٌ منكَرُونَ)، أي إنكم مجهولون، ولم يكن منكم ما يؤنس بكم، وإني أخافكم، وهذه في مقام قول إبراهيم: (إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ).
وقد أجاب الملائكة بما يلقي بالاطمئنان في قوله:(8/4097)
قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
(قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
والذي كانوا يمترون فيه هو تهديدهم بالعذاب الشديد إن(8/4097)
استمروا في شركهم وغيره مما جاء واشتهرت به فاحشتهم، إذ يأتون بفاحشة ما سبقهم بها أحد من العالمين، فقد جاءوا بالعذاب الذي احتاروا فيه وأنكروه، وقالوا:(8/4098)
وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
(وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ ... (64)
أي الأمر الثابت الذي لَا ريب فيه، (وَإِنَّا لَصَادِقونَ) في إخبارنا إياك، وأكدوا صدقهم بـ (إن)، و (اللام)، والجملة الاسمية، وإن هذا تأكيد له بأن يذهب عنه الخوف، وإنهم ما جاءوا لإرهابه، ولكن جاءوا لإنزال ما وعد اللَّه تعالى له بنصرته.
ولذا أمروْ أمر إحاطة ومودة وإنفاذ(8/4098)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) بأوامر أربعة لنجاتهم:
الأمر الأول: أمرهم بالخروج في جنح الليل، فالإسراء: السير ليلا، و (قطع) أي بعد قطع الظلام من الليل، أي في شدة إظلامه.
والأمر الثاني: أن يتبعوا أدبارهم بأن يخرجوا من طريق لَا يواجهونهم فيه وإقبالهم، بل يسيرون في طريق يستدبرونهم فلا يلقونهم.
والأمر الثالث: لَا ينظر إلى ما وراءه، فإنه يكون الهول والعذاب النازل بهم حيث تقشعر من هوله الأبدان.
والأمر الرابع: أن يمضوا حيث يؤمرون بوضع النجاة، ويقيمون حيث يكونون بعيدين عما أصاب أولئك الذين طغوا في أنفسهم، وأفسدوا الإنسانية، والفطرة السليمة.
هذا ما أمر به أولئك المرسلون من ملائكة اللَّه الأطهار، لوط ومن معه من الأبرياء، أما ما قضى بالنسبة لهؤلاء الأنجاس الأشرار، فقد أخبروا به فقالوا:(8/4098)
وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
(وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
أي بلغناه وأفضينا إليه بما قضى الله تعالى وقدره، وذلك الأمر العظيم الشأن الخطير في ذاته، وهو أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين.(8/4098)
أي مستأصلون مقطوعون، لَا تبقى منهم باقية في صباح تلك الليلة التي نجوت فيها، والتعبير بـ (دَابِرَ هَؤُلَاءِ) فيه إشارة إلى استئصالهم؛ لأن القطع إذا ابتدأ من الإدبار كان دليلا على استئصالهم جميعهم، وفوق ذلك فيه تصوير لحالهم عند نزول العذاب بهم، والجيش المغلوب الهالك يضرب في أدبارهم فيكون الهلاك لَا محالة، أما الذي يضرب في وجوههم فإنه يقاتل، فيقتل ويقتل وكذلك نزل غضب اللَّه تعالى بهم، كما نزل بغيرهم من الجيوش المدحورة.
هذا ما كان من أمر رسل اللَّه الأطهار وأمر لوط الطاهر هو ومن معه، وسط أرجاس هؤلاء المفسدين، ولكن ماذا كان أمر أولئك الأنجاس عندما رأوا ملائكة اللَّه ونور اللَّه يحف بهم يسعون في المدينة، لقد رأوهم فسولت لهم نفوسهم ما هم فيه واستبشروا، فحسبوها أمرا شبعا لهم، وقد حكى سبحانه وتعالى ذلك عنهم فقال:(8/4099)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
(وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
(أَهْلُ الْمَدِينَةِ) هم أولئك شذاذ الإنسانية، الذين نشروا فاحشة ما سبقهم بها من أحد من العالمين، جاءوا لما رأوا رسل اللَّه الأطهار، (يَسْتَبْشِرُونَ): يطلبون البشرى التي توافق أهواءهم، وبدرت بوادر الشر الجهول منهم وأدرك نبي اللَّه لوط ما جال بخواطرهم، وهو بهم عليم:(8/4099)
قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)
(قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69)
ضيفى يعني ضيوفي، ولم يخبرهم أنهم الملائكة لأنهم لَا يدركون، فكان نبي اللَّه الأريب الذي يذكر لهم ما تدركه عقولهم، وقوله تعالى: (فَلَا تَفْضَحُونِ) بأن يكون منكم ما يؤذي هؤلاء، فإيذاؤهم إيذاء لي، وخزي وعار، وأنتم جديرون أن تحفظوا جواري، وإن كنتم فاسقين في ذات أنفسكم.
ولكنهم الشواذ، وفي هذا الصنف الصفاقة المستمكنة في نفوسهم، لم تُنْخهم مروءة؛ لأنها ليست عندهم ولم يخلقها اللَّه فيهم(8/4099)
قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
(قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
سول لهم الفساد، والهوى الجامح، والشذوذ في الطبع أن يلقوا تبعة فجورهم مع الملائكة على نبي اللَّه لوط (قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) (الواو) عاطفة على فعل محذوف، والاستفهام للإنكار بمعنى نفي الوقوع، ونفي(8/4099)
النفي إثبات، والمعنى تلومنا على إيذاء ضيفك وقد نهيناك عن أن تلقى أحدا من العالمين، وإلا كان لنا معهم ما ترى.
ولا نرى تبجحا من العقلاء غير الفاسدين إلا قول بعض الطغاة، وقد ذُكِّر بأنه قتل من قال محمد - صلى الله عليه وسلم -: " تقتلك الفئة الباغية "، فقال لمن يحطون على هواه: إنما قتله من أرسله!!.
ضاق نبي اللَّه تعالى لوط بهم ذرعا، فقال:(8/4100)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
(هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
فتزوجوهم شرعا، ويَكُنَّ لكم بحكم زواج صحيح.
هذا أبلغ ما وصل إليه العنت منهم، وأبلغ ما وصل إليه الرفق في القول بهم، ولكن قضاء اللَّه تعالى قد نفد فيهم جزاء بغيهم وشذوذهم بإرادتهم؛ ولذا قال تعالى في حالهم عند إنزال العذاب بهم:(8/4100)
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
(اللام) في (لَعَمْرُكَ) لام القسم أو الابتداء، و (عمرك) مبتدأ وخبره محذوف تقديره قسمي، وهي جملة عربية مشهورة في القسم بعمر من يخاطبه، وهو النبي الطاهر يقسم بعمره المبارك، وقوله تعالى:
(إِنَّهمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) جواب القسم، والسكرة هي ضلالة الطغيان فهي تسكر صاحبها فلا يدرك الحق الحق والصواب، و (يَعْمَهُونَ) معناها يتحيرون تائهين لَا يدركون حقا، ولا يطيعون رشيدًا.
ثم قال في وصف العذاب:(8/4100)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)
كان بالأرض رجفة شديدة هزت قشرة الأرض وتكسرت، فانخفض بعض أجزائها، وعلا الآخر، وبذلك ابتلعت الأرض ديارهم بمن فيها، ووضح سبحانه وتعالى ذلك بقوله:(8/4100)
فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
(فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
أي أنزلنا الأحجار نزولا متتابعا كالمطر الدائم المستمر، والسجيل: الطين المتجمد أو طين سجل لهم واقع بهم في كتاب من عند ربهم.(8/4100)
ويلاحظ أنه عبر في قوله: (أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مصْبِحِينَ) فعبر بلفظ الإصباح، وهنا في هذه الآية عبر بـ مشرقين، وكان التعبير الأول مناسبا للآية؛ لأنه كان والملائكة يأمرون لوطا والأبرار معه بالخروج، فكان المناسب التعبير بالإصباح باعتباره نهاية الليل.
وعبر هنا بالإشراق باعتباره أول النهار، وهو وقت، إذ المناسب في ذلك أن يستقبلوا النهار المشرق بتلك الداهية الدهياء التي تجعل نهارهم أسود من قلوبهم المربدة بأقبح السوء.
ولقد ذكر سبحانه ما يدعو المنكرين إلى الاعتبار بقصص قوم، وأشباههم وإن ما نزل بهم هو سبيل دائم مستمر ينزل بالفساق، فيعتبر المؤمنون، فقال تعالى:(8/4101)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
أي لعلامات واضحة مرشدة،
(لِّلْمُتَوَسِّمِينَ) أي للمفكرين، الذين يتفهمون الأمور ويتعرفونها بمنطق العقل المستقيم، فيقيسون حاضرهم على غيرهم، ويعتبرون بما نزل بالسابقين، وأنه نازل بهم إن عملوا عملهم وساروا في طريقهم، واتخذوا طريقتهم.
وذلك لأن هذه سنة مستقيمة غير متخلفة؛ ولذا قال تعالى:(8/4101)
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
(وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
الضمير في (إنها) يعود على الآيات، أي وإن هذه الآيات لثابتة بطريق مستقيم مقيم لَا يتخلف أبدا، فإنها سنة اللَّه تعالى في خلقه وحكمته البالغة في أمره؛ ولذا قال تعالى:(8/4101)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
أي إن في هذا الأمر المذكور بما فيه قصة لوط لآية أي لعبرة للمؤمنين، أي للذين أوتوا قلوبا مؤمنة مذعنة للحق، معترفة لَا تماري في الحق، ولا تجادل في اللَّه تعالى، وهو العليم الحكيم.
وهنا ملاحظة أن الآيات ذكرت بلفظ الجمع في قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ) وهنا ذكرت بالمفرد في قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ) فما السر في ذلك؟.(8/4101)
إن الذي يبدو لنا، أن المتوسمين المتفكرين بين أيديهم الآيات الكثيرة يدرسونها، فكانت الآيات بالجمع موضع الدراسة والفحص، أما بالنسبة للمؤمنين فالأمر فيها هو العبرة، وهي أمر واحد مأخوذ من مجموع الآيات المتضافرة التي هي موضع الدراسة، ومع تعددها العبرة واحدة.
* * *
ثمود ومدين
قال اللَّه تعالى:
(وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
* * *
(الْأَيْكَة) وهي جماعة الشجر الملتف المتكاثف، فهي الغيضة الربعة الممتلئة، وجمعها (أيك) وفرق بين المفرد والجمع بالتاء في المفرد.
و (أَصْحَابُ الأَيْكَة) هم قوم شعيب - عليه السلام -، وقد صرح بذلك في سورة الشعراء، فقال تعالى: (كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179).
إلى آخر الآيات الكريمات، وقوله تعالى:(8/4102)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)
(وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ)، (إن) فيها هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، وإن الحال
والشأن (كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ)، وهذه هي خبر كان، واللام لام التوكيد، أو المزحلقة كما يعبر النحويون، وكانوا ظالمين؛ لأنهم أشركوا، وإن الشرك لظلم(8/4102)
عظيم، وكانوا ظالمين؛ لأنهم كانوا يطففون في الكيل والميزان، وكانوا ظالمين؛ لأنهم فتنوا المؤمنين عن إيمانهم، وكانوا ظالمين؛ لأنهم هددوا نبيهم بالرجم، وقالوا: (. . . وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ. . .)، وهكذا توالى ظلمهم وتسلسل؛ لأن الظلم يولد ظلما.
وقد بين اللَّه سبحانه وتعالى أن الظلم عاقبته وخيمة، فقال:(8/4103)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
(فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
الانتقام ليس هنا التشفي من الجاني والأخذ بغير حق، بل معناها إنزال العقوبة مماثلة لما ارتكبه، ولأنه كان ظلما متواليا، واعتداء مستمرا، فكان العقاب مماثلا له، وشفاء لغيظ من جنى عليهم.
وإن أولئك ليعرفون أن ذلك أمامهم، فالمثُلات بين أيديهم (لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ)، أي طريق بين واضح ينتهي بما انتهى به الأول، والإمام هو ما يعلن ويؤتم به، وأمامهم المثُلات البينة الموضحة، وإن عليهم إذ يعتبروا بغيرهم، ولكنهم ضلوا عن بينة والعقوبة معلومة بينة.
هذه إشارات إلى قصة مدين مع نبيهم شعيب، والجزاء الذين نالوه.
ومثلها قصة أصحاب الحجر، وهم ثمود قوم صالح، وقال سبحانه وتعالى فيهم:(8/4103)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80)
(وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)
جاء في تفسير القرطبي: " الحجر، ويطلق على معان منها حجر الكعبة، ومنها الحرام كما في قوله، وأنعام وحرث حجر قال تعالى: (. . . حِجْرَا مَّحْجُورًا)، والعقل كما في قوله تعالى: (. . . لِذِي حِجْر)، والحجر ديار ثمود وهي المراد منها وهي مدينة بين مكة وتبوك، وهو الوادي الذي كانت تسكنه ثمود، وقد مر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو ذاهب إلى غزوة تبوك، ونبه جيشه إليه، وإلى ما فيه من عبر، وقد جاء ذلك في كتب السير، وصحاح السنة،(8/4103)
وروي عن ابن عمر قال: مررنا مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على الحجر، فقال لنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " لا تدخلوا. مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذر أن يصيبكم مثل ما أصابهم ".
واللَّه تعالى يقول: (وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ) مع أنهم كذبوا رسولا واحدا، وهو صالح - صلى الله عليه وسلم -، والجواب عن ذلك أنه ذكر أن صالحا - صلى الله عليه وسلم - بعث لهم، وكذبوه، ولكن لَا يمنع ذلك أنه بعث فيهم غيره وكذبوا، على أنهم إذا كانوا كذبوهم جميعا فيما يدعوهم إليه من التوحيد، ومكارم الأخلاق فقد كذبوا الرسل جميعا لأن هذه دعوتهم أجمعين، فمن كذب واحدا في هذا فقد كذبهم جميعا.
وقال تعالى:(8/4104)
وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)
(وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81)
أي قدمنا لهم آياتنا الدالة على توحيد الله تعالى وبعثة رسولهم صالح إليهم، وإذا قال قائل: إن المذكور في القرآن معجزة واحدة، وهي الناقة، وقد أجيب عن ذلك بأن الآيات ليست معجزة النبي - عليه السلام - وحده، بل أدلة التوحيد من خلق السماوات والأرض، وما يدل عليه ذلك الخلق المتنوع، الذي يدل على الواحد المختار والفعال لما يريد.
وكانوا عن هذه الآيات البينات معرضين عنها.
وإذا كانت المعجزة هي الناقة، فهي آية تتضمن آيات، كما قال البيضاوي، أو معجزاته كالناقة وسقيها وشربها، ودرها، وما نصب لهم من الأدلة.
كذبوا رسولهم، فكذبوا الرسل أجمعين، ومع ذلك كانوا يبنون بيوتهم متينة قوية، حتى إنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا يسكونون فيها؛ ولذلك قال تعالى:(8/4104)
وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)
(وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82)
أي أنهم يفتحونها في الصخور لتكون مساكنهم آمنة من الهدم أو أن يأتي عليها السارقون أو المغيرون، ويحسبون أنهم بذلك أمنوا أن يأتيهم عارض يأخذهم(8/4104)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)
(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)
أي جاءتهم صيحة جعلتهم في دارهم جاثمين، وهذه الصيحة من اللَّه تعالى أحدثت(8/4104)
رجفة، فأصبحوا في دارهم جاثمين، وقد عبر سبحانه وتعالى بكلمة رجفة في آية أخرى، فقال الله تعالى في سورة الأعراف: (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)، ويبدو من سياق الخبر في الآيات المختلفة أن رجفة قوم لوط أصابت قشرة الأرض، فجعلت عاليها سافلها، وأما رجفة ثمود فقد لمست حواسهم فأتتهم، وبئس المصير.
وما أغنت البيوت التي نحتوها، ولا الزروع التي كسبوها؛ ولذا قال تعالى:(8/4105)
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
(فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
من بناء نحتوه من الصخور، ولا ثمار جنوها، ولا زروع حصدوها فأضاع كل ذلك فسقهم.
ويلاحظ أولا: أن البيوت التي نحتوها من الصخر لم يذكر أنه سبحانه جعل عاليها سافلها، ولا أنهم أمطروا حجارة كقوم لوط الفاسقين.
ويلاحظ ئانيا: أن قصة شعيب ذكرت هنا بالإشارة، وذكر فيها جزاء عتوهم، وكذلك ثمود أشير فيها إلى العقاب وترك من القصة تفاصيل فلم يذكر ما دعا إليه شعيب من إيفاء الكيل والميزان وعبادة الله تعالى.
ولم يذكر في قصة ثمود وما جرى من مجاوبة بين ثمود وصالح، وهكذا تجد القصة كاملة في القرآن، ولكن متفرقة فيه لموضع العظة في كل جزء منها.
فقصة موسى ذكرت أجزاؤها في مواضعها من العظة والاعتبار، وإنك لو تتبعت أجزاء قصة موسى وفرعون وبني إسرائيل لخرجت بقصص كاملة رائعة مصورة لأحوال النفوس المستضعفة للطغاة، ونفوس الطغاة، ونفوس الذين استمكن فيهم الخنوع، وذلت منهم النفوس، وكيف تبنى الأمم وتربى العزائم.
وقد يسأل سائل لماذا لم تذكر القصة كاملة؟ فنقول في الجواب عن ذلك:(8/4105)
أولا: إن القرآن ليس كتاب تاريخ، ولكنه كتاب عظة واعتبار، فكل جزء فيه عظة، ويذكر في موضعه مقرونا بما سبق في القرآن لأجله فيكون الاتعاظ سببه بين والوعظ أهدى سبيلا.
وثانيا: أنها لو ذكرت جملة ما عرفت مواضع العظات بالتفصيل.
وخلاصة القول أنه ليس في القرآن مكرر من القول قط، وما يبدو بادئ الرأي فيه تكرار في ذكر القصص في القرآن يبدو بطلانه إذا فحص القول، وعمق القارئ النظر فيه، واللَّه منزل الكتاب ومنزهه.
* * *
آية الله تعالى في خلقه
قال الله تعالى:
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
* * *
بعد أن ذكر جلت حكمته ما أصاب الذين فسقوا عن أمر ربهم، وارتكبوا أشد المفاسد ونزل بهم أشد المهالك ذكر أن الكون ما خلق عبثا إنما خلق لحكمة(8/4106)
أرادها فقال سبحانه:(8/4107)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ)، مما خلق هذه الثلاث: سماوات ذات أبراج، وأرض ذات طبقات، وما بينهما من فضاء فيه عجائب، وفيه أحياء، وفيه أسرار للوجود التي لَا يدركها الذين يرتفعون وينخفضون، إنما يدركها المؤمنون برب هذا الوجود، ما خلق ذلك إلا بالحق إلا بأمر ثابت مؤكد الحصول هو غاية الوجود، ما خلق الناس ليتمتعوا، ويأكلوا، ويلهوا ويعبثوا، ما خلق الله ذلك بغير حكمة ظاهرة، ولا نهاية قاهرة، وإنما خلقها ليعمر هذا الوجود، وتسوده الفضيلة، وتبعد عنه الرذيلة، ويحكمه الخير، ولا يحكمه الشر، ويكون الحساب من بعد ذلك؛ ولذا قال: (وَإنَّ السَّاعَةَ لآتِيَة)، أي أن اللَّه يمنع الشر في الدنيا، بالقضاء على الأشرار الذين لَا يرجى منهم خيرا، بل يغلب عليهم الفساد، كما رأيت في عاد وثمود، ومن قبلهم قوم لوط، ومن بعدهم فرعون ذو الأوتاد.
وإنه بعد الدنيا سيجيء يوم القيامة، وعبر عنه بالساعة إشارة إلى أنها ساعة فاصلة بين حياة دنيا فيها لهو ولعب، وحياة فيها الحساب والجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، إنها للجنة أبدا، أو للنار أبدا، وهي الساعة التي لَا يدرك كنهها إلا عند نزولها، وهي الجديرة وحدها بأن تسمى ساعة، وقد أكد سبحانه وتعالى مجيئها باللام وبـ (أن).
(فَاصْفَح الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وجه هذا الترتيب أن العصاة ينالون العذاب والبوار وفي الآخرة الساعة تنتظرهم، وإذا كانت هذه حالهم، فلا يغيظك ما يفعلون، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، بل استمر في دعوتك معرضا عن إثمهم وإيذائهم، وفتنهم للمؤمنين، فإنهم ملاقو ذلك في دنياهم بالتغلب عليهم، وفي آخرتهم بالجزاء على ما صنعوا.
وقوله تعالى: (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، والصفح يتضمن الإعراض عن الإساءة وعدم التخلي عن الدعوة والاستمرار فيها، وتضمنت كلمة الجميل بيان أن(8/4107)
يلقاهم بقلب مفتوح ليفتحوا قلوبهم للاستجابة، أو ليفتح هو هذه القلوب التي أصابتها غشاوة.
وفى هذا إشارة إلى معنى جليل في الداعي، وخصوصا الرسول الأمين رسول رب العالمين، وهو أن الداعي لَا يستفزه غضب ولا يثيره أذى، ولا يمنعه تجهم وسوء معاملة، بل يجب أن يكون البشير النذير دائما في قرب للقلوب، وإدناء للنافر وإيناس للشارد؛ لأنه الطبيب المداوي، وليس الحاكم المسيطر (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ).
لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ذا شخصية قوية عالية، من شأنها أن تعلو دائما، وهي تُرهب الفجار، ولكن لم يدعُ محمد - صلى الله عليه وسلم - في مكة إلا بقوة الدليل، وبالنفس الأليف التي تقرب ولا تبعد.
وكانت تلك الشخصية الجبارة تبدو من حين لحين تعلن عن وجودها، جاء رجل يطلب دينا من أبي جهل فاستعان بملأ من قريش، فأشاروا عليه بأن يستعين بصاحب هذه الدار مشيرين إلى دار النبي تهكما بالرجل وبالنبي معا، ولعل الذين استعانهم من أشكال أبي جهل فالرجل الغريب ذهب إلى النبي، فأشكاه الرسول القوي، وذهب به إلى دار أبي جهل، فصك داره صكة ارتعدت فرائص أبي جهل لها، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قوله الحازم الآمر: " أد الرجل دينه "، فدخل وأعطاه الدَّين صاغرا. وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستخدم تلك الشخصية التي تفرض الحق على من يخاطبه، إنما تطامن، ورضي بأن يكون الداعي غير الغليظ إدناء للنفوس.
هذا معنى الصفح الجميل، أي الإعراض في قرب ومودة وإلف من جانبه؛ ولذا كان الإسلام، ينمو ويزيد، ولا ينقص ويقل.
ولقد أكد اللَّه سبحانه وتعالى الإخبار بخلقه لهذا الوجود بالحق، فقال عز من قائل:
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)(8/4108)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
عبر بـ (رَبَّكَ) للإشارة إلى أمرين:
الأمر الأول: أنه هو الذي يقوم عليه، ويدير له أمر دعوته، بألا يسلم للكفر، ويصطبر ويعامل بالتقريب لَا بالتبعيد.
الأمر الثاني: هو الذي يدبر أمر هذا الوجود، ويرتب حاضره وقابله، وأن الحق في النهاية إليه بأمر ربه.
و (الْخَلَّاقُ) الكثير الخلق بكثرة هذا الوجود من سماوات وأرضين، وملائكة وإنس وجن، و (الْعَلِيمُ) الذي يعلم كل ما خلق ويعلم الماضي والحاضر والقابل، ويدبر الأمر على مقتضى علمه وحكمته، فهو يمهل الأشرار ولا يتركهم، ويجازي الأبرار ويحوطهم برحمته، ويثبت الحق بدعائم من الحق، ويعطي كلا جزاءه في الدنيا أو الآخرة على حسب ما يقتضي علمه وحكمته، وقد بين اللَّه تعالى تأييده لنبيه بالحجة القاطعة، والأدلة الساطعة، فقال:(8/4109)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد طالبه رب البرية بأن يصفح ويعرض عن إيذاء المشركين بأن يصفح الصفح الجميل الذي يكون بإقبال نفس، وبشاشة وجه، وأنه معه الدليل القاطع، والبرهان الساطع، وهو القرآن الكريم، ولذا قال: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي) أكد اللَّه أن معه الحجة، باللام وقد، والسبع المثاني ما هي؟ قال ابن عباس: هي القرآن كله، والسبع لَا تذكر لذات العدد بسبع، بل تذكر للكثرة، والقرآن كله وصف بالمثاني، قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. . .).
و (الْمَثَانِي) جمع مثنى أي مكرر لاثنين، كقوله تعالى: (. . . مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ. . .)، ومعنى مثاني أن فيه من كل معنى اثنين متقابلين، ففيه الإنذار والتبشير، وكرر ذلك، وفيه الأمر والنهي ويتكرر(8/4109)
ذلك، وفيه بيان الحلال والحرام، ويتكرر ذكر ذلك، وفيه الخبر والإنشاء، وفيه القصص الكريم مثنى مثنى وهكذا.
هذا تفسير السبع على أنها القرآن الكريم، ويكون عطف القرآن عليها في قوله تعالى: (وَالْقرْآنَ الْعَظِيمَ) من قبيل عطف الصفة على الصفة، ويكون معنى القرآن المقروء المتلو الذي يتعبد بتلاوته، فيكون معنى السبع المثاني وصف معانيه، وما اشتمل من أحكام وقصص وزواجر ونواهٍ، وأوامر وتوجيه، ويكون القرآن العظيم المقروء المعجز بألفاظه والعظيم في إعجازه وبتلاوته، وعطف الوصف على الوصف جائز في العربية كما قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
وإن معنى العطف يشير إلى أنهما حقيقتان ثابتتان في القرآن، الأولى وهي أنه كتاب التكليف، وسجل الرسالة الإلهية، والثانية أنه حجة بألفاظه وأساليبه، وطرق البيان فيه، إذ فيه التصريف المعجز، كما قال تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65).
هذا ما اخترنا في معنى السبع المثاني، ولقد روي في أحاديث صحاح أن السبع المثاني سورة الفاتحة، وعطف عليها بعد ذلك قوله تعالى: (وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ).
وروي عن ابن مسعود وغيره من كبار الصحابة أن السبع المثاني هي طوال السور، وهي سبع، البقرة، وآل عمر ان، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، بأن تشمل براءة، على أنهما سورة واحدة.
وفى الحق إن ست من السبع الطوال مدني، والسورة التي نتكلم في معانيها مكية، فكيف تكلم عن هذه السبع، وست منها لم تنزل بعد وقد رد هذا بأنها كانت نزلت في اللوح المحفوظ.(8/4110)
والذي نراه الحق هو أن السبع المثاني القرآن كله، وتخصيص الفاتحة بالذكر معناه أنها من السبع المثاني التي هي القرآن وكل جزء منه يكون السبع المثاني، إذ كل جزء منه متكامل في ذاته، وهو العليم القدير.
ولقد هدى اللَّه تعالى نبيه بهداية القرآن، وأنه الحجة ونعمة الرسالة، وأخذ من بعد ذلك يبين أنه الغنى بالحق الأعلى وأنهم مهما يكونوا قد أوتوا من مال وجاه وقوة، فلن يكونوا كمن هداه اللَّه تعالى، فقال تعالت حكمته:(8/4111)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
(لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
أي لَا تطمع، ولا تلتفت، ولا يغرنك ما متعنا به أزواجا، أي أصنافا متقابلة منهم فيهم الغنى وجاه الدنيا والقوة، والغرور، والطغيان، والكفر.
وعبر سبحانه عن الطموح إلى ما هم فيه والغرور به (. . . فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلبُهُمْ فِي الْبِلادِ)، عبر عن ذلك بمد العين؛ لأن هذا يسترعي النظر فكأن الأعين تمد إليه، ولا تنحرف عنه.
لا يغرنك هذا ولا يسترعي نظرك، فإن هذا أمر إلى فناء، وما يدعو إليه أمره إلى بقاء، وإذا كان ذلك أمر فيه متعة وقتية، فقد أوتيت الحكمة وفصل الخطاب، أوتيت القرآن ومثله معه، وأي قدر مما أتوا يقارب قيمة ما أوتيت من الحق، وعزة الحق، ونهى اللَّه تعالى عن الحزن على الكافرين كما نهى عن أن يغتر بهم، فقال: (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ)، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وإذا كان لا يغتر بما أوتي المشركون من أسباب النعيم، فإن من معه من المؤمنين هم الأولى بالرعاية والحفظ لأنهم الذين هم ذخيرة الإيمان؛ ولذا قال تعالى: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)، أي تطامن، وارفق بهم ولِنْ لهم بجانبك، (. . . وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ. . .).(8/4111)
وقد عبر سبحانه عن لين الجانب والرفق وتقريب القلوب وإدنائها بقوله:
(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ) وذلك مجاز بالاستعارة مشهور، فشبه صبحانه وتعالى حنو محمد - صلى الله عليه وسلم - على أتباعه، بوضع الطائر أولاده بين جناحيه، للمبالغة في الحيطة والحفظ والصيانة. وإن هذا النص السامي تصغير لما عند المشركين، وتعظيم لمنِ آمن، كقوله تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52).
وإن هذا النهي لصاحب الرسالة عن أن يمد عينيه إلى ما متع الله به الأقوياء وأعطاهم أزواجا متماثلة من متع الدنيا هو نهي لأمته، وفيه بيان كيف يتدلى الحق إذا مد صاحبه العين إلى ما عليه أهل الدنيا، فإنه هنا تكون المذلة ويكون التدني عن مقام الحق الأعلى، إلى المنزلة الدون أمام أهل المال والجاه والسلطان والباطل، وهو سلطان أهل هذا الإيمان.
ولقد قال القرطبي في تفسيره في التعليق على هذه الآية: " رأى القراء المخلصون من الفضلاء الانكفاف عن الذات والخلوص لرب الأرض والسماوات أولى، لما غلب على الدنيا من الحرام، واضطر العبد في المعاش إلى مخالطة من لا تجوز مخالطته، ومصانعة من تحرم مصانعته، فكانت القراءة أفضل والفرار من الدنيا أصوب للعبد وأعدل قال - صلى الله عليه وسلم -: " يأتي على الناس زمان يكون خير مال المسلم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع المطر، يفر بها من الفتن ". اهـ.
وأحسب أن زماننا أشد الأزمان فتنة في نفسه، إذ تولاه الجهال، وسيطر على الفكر الجهال، وتولى على رياسة العلم من يبيعون دينهم لهؤلاء الجهلاء بثمن بخس مهما تكن قيمة الدرهم والدينار، وصح فيه ما روي بحديث قوي السند حتى ادعى تواتره: " إن الله لَا ينزع العلم انتزاعا من قلوب العلماء، إنما ينزع العلم بتولي جهلاء يضلون ويضل بهم الناس " أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -.(8/4112)
وإذا كنت لَا تغتر بما متع به المشركون، فلا تحزن عليهم، وليعلمهم بأن عمله أنه نذير؛ ولذا قال:(8/4113)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
(وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أمره ربه بأن يبين لهم أنه منذر من عذاب أليم، لا يميل مع الأقوياء، ولا يحيف على الضعفاء، (إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ) أكد رسول الله تعالى بأمر ربه إنذاره بـ (إنَّ)، والتوكيد اللفظي بالضمير المنفصل، وبالنصر، فعقد عمله - صلى الله عليه وسلم - على الإنذار، وأنه إنذار واضح بين لمن أراد أن يعتبر بصاعقة عاد وثمود، وقوم هود وغيرهم مما ذكرهم الله تعالى في قرآنه العظيم، من رجفة في الأرض جعلت عاليها سافلها، أو ريح صرصر عاتية.
وهذا النص السامي جاء على نمطه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أنا النذير العريان ".
ولقد بين سبحانه تلقي المشركين للقرآن العظيم، فقال عز من قائل:
(كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)(8/4113)
كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
(كمَا) التشبيه هو تشبيه الإنذار الذي يقوم الرسول بإِنذار المقتسمين، فهو بيان لإنذار هؤلاء المقتسمين وأنه من إنذار الرسول الذي كان للإنذار، وتنبيه المشركين إلى عاقبة ما يعملون، أي الإنذار كما ينزل بهؤلاء، ومن هم المقتسمون؟ ذكر المفسرون في ذلك أقوالا كثيرة، وعندي أن أقواها الجدير بالنظر قولان: القول الأول: أنه عندما أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - ينشر الدعوة. الإسلامية في قبائل العرب في موسم الحج، أخذ ستة عشر رجلا منهم كما قال مقاتل والفراء بعثهم الوليد بن المغيرة فاقتسموا مكة وأنقابها وفجاجها يقولون لمن سلكها لَا تغتروا بهذا الخارج فينا يدعي النبوة، فإنه مجنون، وربما قالوا ساحر، وربما قالوا شاعر، وربما قالوا كاهن، وسموا المقتسمين؛ لأنهم اقتسموا هذه الطرق، هذا أحد القولين.
والقول الثاني: وهو ما نميل إليه هو قول قتادة: إنهم كفار قريش، قسموا كتاب الله فجعلوا بعضه شعرا، وبعضه سحرا، وبعضه كهانة، وبعضه أساطير الأولين، وهم بذلك قد قسموا كتاب اللَّه تعالى وفرقوه.(8/4113)
وإني أميل إلى هذا؛ لأنه يتفق معِ بيان القرآن لهؤلاء المقتسمين، فقد قال تعالى في تعريفهم:(8/4114)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
(الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
(عِضِينَ) جمع عضة والمعنى صار أجزاء مفرقة هي باطلة في ذاتها، وهي تفرقة في أمر لَا يقبل التجزئة قط وهو جمع، و (عضون) جمع سالم على غير القياس، والواحد كما ذكرنا عضة، أي قسما مفرقا من قولهم عضيت الشيء تعضية إذا فرقته، وكل فرقة عضة.
والمعنى أن هؤلاء المقتسمين لم يأخذوا بما فيه، ولم يعتبروا بعبره، بل قسموه على حسب أهوائهم أقساما باطلة لَا أصل لها في حقيقته فتركوا تدبره وتعرفه، وإدراك ما فيه من إنذار وتبشير ومعرفة وحكمة، وما فيه من أخبار السابقين، والكشف عما يكنه الغيب بالنسبة للمستقبل، وعكسوا أهواءهم عليه، فجعلوها أقساما له، وهي باطلة في ذاتها وباطلة بالنسبة للحاضر، وبذلك كان بينهم وبينه حجابا مستورا، نسجوه من أوهامهم فزادوا بذلك ضلالا فوق ضلالهم.
وإنهم بذلك ارتكبوا إثما مبينا، وحجبوا أنفسهم عن النور، وإن الله سبحانه وتعالى سيحاسبهم على ذلك حسابا عسيرا؛ ولذلك قال تعالى:(8/4114)
فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
(فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
(الفاء) للدلالة على أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، أي أنه ترتب على اقتسامهم للقرآن، وجعله متفرقا في زعمهم الباطل، وإيغالهم في الشرك والفساد إيغالا أضل عقولهم وأقوالهم وأعمالهم أن أقسم الله بربوبيته، ليسألن عما كانوا يعملون، وكان القسم بقوله تعالى: (فوَرَبِّكَ) للإشارة إلى أن ذلك من الحياطة لرسالتك وجزاء اقترافهم عليها وجحودهم لها.
وجواب القسم (لَنَسْألَنهُمْ أَجْمَعِينَ)، وقد أكد سؤالهم بـ (نون التوكيد)، وبـ (لام القسم)، وبكلمة (أَجْمَعِينَ)، أي أنه لَا يعزب أحد عن السؤال، وليس العقاب هو مجرد السؤال، وإنما العقاب ما وراء السؤال من عذاب، وذكر السؤال(8/4114)
لبيان أنهم محاسبون على كل ما يفعلون، وأن الله تعالى عنده علم كل شيء، وأسند السؤال إليه سبحانه؛ لبيان جلال الأمر، وعظم ما يرتكبون، وإن كانوا يلهون ويلعبون بما يفعلون، فالله لَا يتركهم، وما الله بغافل عما يعملون.
* * *
قال الله تعالى:
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
* * *
ابتدأت الدعوة المحمدية بإِعلانها بين أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان أول من آمن خديجة، ثم علي بن أبي طالب، ثم زيد بن حارثة، ثم بين أصدقائه الذين يعرفون أمانته وفضل خلقه، وعظمة نفسه كأبي بكر، ثم أصدقائه كعثمان، وهكذا نبتت في خفاء كما نبتت البذرة في ركن مستور مغشى بلباب، حتى أمر اللَّه نبيه أن يجهر وسط عشيرته فقال: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ)، فجمعهم وأنذرهم ومنهم من ردوا سيئا كأبي لهب، ولكن العبادة كانت في خفاء لا يخرج المؤمنون جهارا، والإيذاء مع ذلك يتوالى، حتى دخل بعض الأقوياء بأشخاصهم فوق شرفهم النسبي كحمزة بن عبد المطلب والفاروق عمر بنِ الخطاب، فكان الجهر وتلقي الأذى بالمجاهرة ونزل قوله تعالى:(8/4115)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ).
اصدع، معناها اجهر بما تدعو إليه مأمورا به، ولا تبال أحدًا، وأعرض عنهم، والصدع شق الشيء الصلب وتفريق أجزائه، أو الوصول إلى ما وراءه(8/4115)
ولا يبقى حاجزا، أو من الصديع، وهو ظهور الفجر الصادق يشق ظلام الليل البهيم، ويحيط النور الأبيض يشق الجو المظلم.
والمعنى حينئذ، اجهر بالحق، وشق به ظلام الجاهلية، كما يشق الفجر بنوره ظلمة الليل.
وقوله تعالى: (بِمَا تُؤْمَرُ)، أي أن شق الورم بالشور هو بما تؤمر، فهو النور الذي يشق الظلام.
وقوله تعالى (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)، أي لَا تلتفت إليهم، ولا تبال بهم، ولا تدهن معهم بقول في دين اللَّه تعالى، ولا تحسب إن ممالأتهم تدنيهم، إنما يدنيهم الجهر بالحق مع الموعظة الحسنة من غير جفوة، ولا إدهان (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنونَ).
ثم قال تعالى محرضا رسوله النبي الأكرم:(8/4116)
إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
(إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)
أي حفظناك من شرهم، فلا ينالون منك ولا من دعوتك، وما يكون منهم من أذي بالقول، أو الغمز، أو نحو ذلك من أساليب الاستهزاء أو السخرية والتعابث في تلقي الدعوة، لن ينال من شخصك، ولا من أتباعك إلا بمقدار ما ينال المؤمن صاحب الحق من عبث العابثين، وإن يسخروا منك، فسوف يكون اليوم الذي يسخر الحق منهم.
وفي بعض التفسير الأثري أن اللَّه تعالى كفاه أشد المستهزئين، وذكر أنهم كانوا خمسة رجال من أشراف قريش هم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل، وعدي بن قيس، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب يبالغون في إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - والتهكم به وبدعوته، فأهلكهم الله تعالى، أما الوليد فمر بنبال فتعلق به سهم، فلم ينعطف تعظما لأخذه فأصاب عرقا في عقبه فمات قبل هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يحضر بدرا، وأن العاص بن وائل، قد دخلت في أخمص قدمه شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى، ومات منها، وأما عدي بن قيس، فامتخط(8/4116)
قيحا حتى مات، وأما الأسود بن عبد يغوث فإنه كان تحت شجرة فأصابته حال كان ينطح بسببها الشجرة، ويضرب الشوك حتى مات، وأما الأسود بن المطلب، فقد أصابه الاستسقاء، وهذا خبر قد روي وليس لنا أن نرده، لمجرد أنه خارق للعادة، ولكن نقول الآية من غير الاعتماد عليه واضحة.
ولقد بين سبحانه صفة المستهزئين وباعثهم على الاستهزاء، وعاقبته فقال:(8/4117)
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
(الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)
أي أنهم بعقلهم المظلم وفكرهم التافه، يجعلون من ذات أنفسهم مع اللَّه خالق السماوات والأرض، المنزه في ذاته وصفاته وإبداعه الخلق - عن الشريك كما كانوا يؤمنون ويجعلون بذات أنفسهم لَا من منطق أو عقل إلها آخرا وحسبهم ذلك موجبا للاستهزاء بهم والسخرية، فهم المستهزئون ليس لهم أن يسنهزئوا بأحد، وقد هددهم سبحانه بقوله: (فَسَوْف يَعْلَمُونَ)، أي بسبب هذا الشرك سوف يعلمون، وسوف لتأكيد الفعل في المستقبل، أي يعلمون نتيجة استهزائهم وشركهم، والعقاب الذي ينزل بهم.
ولقد واسى اللَّه تعالى رسوله، فقال:(8/4117)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)
إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بشر من البشر، قد كان يسمع باطلا، ويؤذى بالقول والاستهزاء، ويرمى عليه فرث جزور، فتنحى الفتاة الطاهرة فاطمة التي صارت سيدة نساء المؤمنين، فلا يتبرم بها، ويستمر طليق الوجه ولكن صدره يضيق حرجا، والرجل الكامل وخصوصا أعظم الدعاة الحق يضيق صدره، ولا يتغير قوله أو عمله، ولقد قرر اللَّه تعالى خالق الخلق ذلك فقال: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) عبر سبحانه عن ألم النفس، وضيقها بضيق الصدر كأن الصدر أصبح لَا يتسع لمثل هذا القول الذي كانوا يقولونه من قولهم ساحر، ومن قولهم مجنون، ومن قولهم في القرآن إنه شعر، وإنه أساطير الأولين، ومن طلبهم خوارق غير القرآن، ومن عبادتهم الأوثان.(8/4117)
وقد أكد اللَّه تعالى علمه بذلك بـ (اللام) وبـ (قد)، وإن تأكيد علم الله بما يضيق به صدر نبيه الأمين تسرية لنفسه، وفيه كمال معاونته، وفيه مع كل هذا ما يفيد الإنذار للمشركين على ما يقولون ويفعلون ويعتقدون، فما دام علم ثانيا، فإنه يحق الحق، ويبطل الباطل، ويجزي كلا بما يفعل، وهو القوي المتين.
وقد ذكر سبحانه الطب لهذا القلق النفسي كما أشار إلى جزاء ما يقولون وما يفعلون، والطب الذي ذكره الله تعالى هو طب النفوس القلقة وهذا الطب هو الاتجاه إلى اللَّه تعالى وتقديسه والركون إليه، والخضوع له؛ ولذا قال:(8/4118)
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98)
(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
(الفاء) هنا تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كان قد أصابك قلق النفس فعالجه: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ)، أي فانزع إلى الله، واركن إليه بالتسبيح والحمد، فإن ذلك في ذاته كشف للكرب وبه زوال الهم، إذ فيه الركون إلى جانب القوي الذي لَا يناهده جانب لأي جانب من جوانب الدنيا، وهو في الوقت ذاته شعور بأن ما ينال صاحب الرسالة من أذى إنما هو لله وللقيام بحقه، وذلك ذاته تسبيح أي تسبيح وحمد للَّه أي حمد.
وعبر سبحانه بقوله: (بِحَمْدِ رَبِّكَ) لللإشارة إلى أن ربك الذي حماك ويكلؤك، فإن كان منك قلق، فلن يكون منهم أذى لك في قابل أمرك، إنما هو أخذ بالغلب أو أخذهم أخذ عزيز مقتدر.
(وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ)، أي استمر في خضوعك لرب العالمين، والسجود هنا إما أن نقول: إن معناه الخضوع المطلق لله تعالى، فالخضوع له وذكره هو اطمئنان القلوب، وقد قال تعالى: (. . . أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِن الْقُلُوبُ)، أو نقول: إنه سجود الصلاة، ويكون المعنى كن مستمرا في صلاتك، ففي الصلاة تفريج الكروب، وذهاب الأحزان، والانصراف عن الهموم، وفي الأثر: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ولقد روي أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد فأخلصوا الدعاء ".(8/4118)
وقوله تعالى:(8/4119)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
(وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
في هذا بيان لحقيقة التسبيح بحمد ربه، وهو العبادة بكل أنواعها من تطهير للنفس بالصلاة والصوم والحج وتطهير للمجتمع بالصدقات المنثورة والمفروضة، وقد كانت مطلوبة قبل الهجرة، وهم في مكة كما قال تعالى في سورة الروم المكية: (. . . وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).
والتعبير بـ (رَبَّكَ) فيه إشارة إلى أن مقام الربوبية يقتضي العبادة الخالصة له، وقد حدد سبحانه وتعالى نهاية العبادة بقوله: (حَتَّى يَأتِيَكَ الْيَقِينُ).
الكثرة الكبرى من المفسرين يقولون: إن اليقين هنا هو الموت، ويكون المعنى على هذا حتى يأتيك الأمر الذي لَا يرتاب فيه وهو اليقين الثابت بالموت، إذ يكون اليقين ثابتا بالاعتقاد، حتى يكون الموت، فيكون ثابتا بالعيان لَا بالبرهان وهذا الكلام يشير إلى حقيقتين ثابتتين:
الحقيقة الأولى: وجوب العبادة طوال الحياة حتى الممات.
والحقيقة الثانية: فيه إشارة إلى أن العبادة تزيد اليقين فيزداد المؤمنون إيمانا إلى إيمانهم، وللَّه غيب السماوات والأرض وإليه مرجع الأمور.
* * *(8/4119)
(سُورَةُ النَّحْلِ)
تمهيد
سورة النحل مكية، وعدد آياتها 128 ثمان وعشرون ومائة، وسميت النحل لذكر النحل فيها في قوله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68).
وهي كالسور المكية تتجه إلى إثبات التوحيد مما خلق من أرض وسماء وأحياء، وتأكيد للبعث والنشور، وإبطال عبادة الأوثان، وما اقترن بعبادة الأوثان من وأد البنات.
وابتدئت بتكيد عذاب اللَّه لمن يشرك وأنه نازل به لَا محالة، وأنه سبحانه ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده، وإن في ذلك إثبات الرسالة الإلهية تجيء على لسان البشر.
وقد أثبت من بعد ذلك قدرته سبحانه في خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان من نطفة، فإذا هو خصيم مبين مشيرًا إلى مدرجه في التكوين، حتى يصير ذا لسان يجادل به، وعقل يفكر به.
وذكر نعمة اللَّه تعالى على الإنسان بخلق الأنعام يتخذ منها أسباب الدفء من ملابس ومساكن، ومنافع في ركوبها، الانتقال بها من أرض إلى أرض، ومنها تأكلون، (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8).(8/4120)
وبعد ذلك بين نعمته سبحانه وتعالى في الماء ينزل من السماء بأمره يكون منه حياتكم، ويكون منكم الشجر، و (الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)، وذكر سبحانه تسخير الشمس والقمر والنجوم سخرها بأمره (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِّقَوْم يَعْقِلُونَ)، وسخر سبحانه ما خلق في الأرض من فلزات ومعادن يتخذ منها الحلي وتقام بها المصانع وألوانها مختلفة.
ووجه سبحانه وتعالى الأنظار إلى البحر وما فيه (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) من جواهر، وهو مع ذلك تجري فيه الفلك التي تمخر عبابهها به وجعل لكم (أَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16).
ذكر هذا لبيان خلق الله العظيم ومع ذلك يشركون في عبادته من لَا ينفع ولا يضر (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)، أي لَا حياة فيها.
وقد قرر الله سبحانه وتعالى الحق فقال: (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) ولا ينكر حقيقة الألوهية ويضل في معرفتها إلا الذين يكفرون بالبعث، فقال سبحانه:
(فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ).
وقد أنكروا الوحدانية وأنكروا القرآن (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25).
وقد ذكر سبحانه العظات فيمن مضوا، فقد مكروا مكرهِم، ودبروا تدبيرهم، وبنوا على ما دبروا أوهامهم، (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فخَرَّ عَلَيْهِمُ(8/4121)
السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26).
وبعد ذلك يجيء إليهم عذاب يوم القيامة يخزيهم، (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28).
هذا شأن الكفار الذين أنكرت قلوبهم، أما المتقون يوم القيامة، فإنهم يذكرون الحق يوم القيامة، (وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32).
ولقد بين اللَّه تعالى بعد ذلك تفكير المشركين في عدم تدبرهم وعدم تفكيرهم، وإهمالهم الإنذار بعد الإنذار حتى ينزل بهم ما لم يتوقعوا، وهم في غفلة، فأصابهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، والمشركون يحمِّلون آثامهم على الله (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ).
وقد أشار سبحانه إلى ما نزل بالسابقين من المنكرين، ولكنهم يصرون على إنكار التوحيد وإنكار البعث (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)، وإن البعث أمر ليس بعسير على اللَّه، (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40).
وقد ذكر بعد ذلك سبحانه ثواب المؤمنين: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)، وقد ذكر سبحانه وتعالى أوصاف الإيمان، وأولها الصبر، (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، ولقد(8/4122)
كانوا يقولون لم بعث رسولا من البشر؟ (مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ)؛ فقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44).
ولقد أشار سبحانه أن المشركين في غفلة إذ يعاندون اللَّه:
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47).
وينبئهم سبحانه إلى خلقه سبحانه الذي (يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50).
وقد أمرهم سبحانه بالحقيقة الخالدة وهي الوحدانية (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52).
وقد بين سبحانه وتعالى نعمه مجملة: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56).
ولقد ذكر عادة جاهلية، وهي كراهية البنات، ووأدهم أحياءً، فقال:
(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59).
ولقد حكم اللَّه تعالى على المشرك أنه أسوأ ما يكون عقلا، فقال: (لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60).(8/4123)
وإن الله لَا يؤاخذ الناس بأعمالهم فور وقوعها، (وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)، ومع إشراكهم (تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62).
وقد أكد الله تعالى لنبيه أنه سبحانه أرسل (أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)، وقد ساق ذلك وأكده ليتأسى النبي بالرسل قبله، وأنه يجب أن يسير في بيان الشريعة، (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64).
ثمِ ذكر سبحانه (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)، ثم بين سبحانه عجائب الخلق في الأنعام، (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
وذكر سبحانه ثمرات النخيل والأعناب قد مكن الناس منها، فاتخذوا منها رزقا حلالا، واتخذوا مسكرا حراما، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةَ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، وذكر النحل، وما ألهمه سبحانه، والذي يخرجه من بطونها (فِيهِ شِفَاءٌ للنَّاسِ)، ثم بين خلق الإفسان (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70).
ثم بين سبحانه اختلاف الناس فقرا وغنى، (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ).
وذكر سبحانه نعمه بأن جعل لنا من أنفسنا أزواجا وذرية بنين وحفدة، ورزقنا من الطيبات، ومع هذه النعم المتضافرة (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73).
وقد ضرب الله تعالى المثلِ لضلالهم، (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)(8/4124)
وهكذا الأمثال تحوي في ذاتها حكما وأخلاقا وتوجيها للأنظار مع دلالتها على معنى التوحيد والموازنة الحكيمة بين الخالق والمخلوق.
وقد وجه سبحانه الأنظار إلى خلق الإنسان لَا يعلم شيئا ثم جعل له السمع والأبصار والأفئدة رجاء أن يشكروا فكفروا، ثم وجه سبحانه الأنظار إلى خلق الطير صافات، كما وجه إلى خلق السماوات والأرض والأنعام والخيل والبغال وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
ووجه الأنظار إلى البيوت التي يسكن إليها، (وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ) وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم وكل هذه نعم ليشكروها فكفروها، وينبه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عليه البلاغ فقط، (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)، وقد أنذرهم سبحانه وتعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) ووذكر سبحانه بعد ذلك حال المشركين مع الأوثان يوم القيامة ثم أسلموا أنفسهم للَّه (وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)، وبين سبحانه وتعالى مقام النبوة المحمدية يوم القيامة، فيقول: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89).
ويبين اللَّه تعالى لب الإسلام وغايته، فيتول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90).
ويدعو اللَّه إلى الوفاء بالعهد، وينهى عن نكث العهد، ويبين أن العهد قوة، ونكث العهد نكث للقوة، وجعلها أنكاثا، وأنه لَا يصح أن يكون الرغبة في الكثرة في الأرض، والقوة سببا للنقص، ولا تتخذوا (أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ(8/4125)
هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92).
ويبين أن اللَّه تعالى قدر اختلاف الأممَ (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلًكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً).
ونهى عن نقض العهد نهيا قاطعا، فقال: (وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96).
وقد بين سبحانه آداب المؤمن عند قراءة القرآن، (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100).
وقد بين سبحانه أن القرآن معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنه آيته الكبرى، واللَّه أعلم
بأى الآيات أجدى وأنسب وأحكم، (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103).
وبين أن الكذب شأن (الَّذِينَ لَا يُؤمِنونَ بِآيَاتِ اللَّهِ)، وبين سبحانه وتعالى حكم من ينطق بكلمة الكفرِ مكرهًا (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107).
وقد بين سبحانه أنه طبع على (قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109).
وبين بعد ذلك جزاء المؤمنين المهاجرين، فقال: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110).
وذكر سبحانه أنه في ذلك اليوم تُوفَّى كل نفس ما كسبت بعد أن جاءت تجادل عن نفسها، وهم لَا يظلمون، وقد ضرب اللَّه مثلا للقرية الظالمة بعد أن أنعم اللَّه تعالى عليها (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ(8/4126)
مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113).
ولقد أشار إلى ما أباحه سبحانه وتعالى فقال: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114).
وبين من بعد ذلك المحرمات، وهي خبائث تفسد الأجسام، وإن التحليل والتحريم منِ اللَّه وحده؛ ولذا قال سبحانه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117).
ثم بين أن هذه المحرمات كانت على الذين هادوا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، وأشار سبحانه إلى أن باب التوبة مفتوح (لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119). ذكر اللَّه سبحانه وتعالى العرب بما كان يتحلى به إبراهيم، وهو جدهم الذي يتشرفون بالنسب إليه فقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)، ثم خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن دينه هو ملة إبراهيم (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123).
وأشار سبحانه إلى أن تحريم السبت كان على اليهود الذين اختلفوا فيه ولم يكن على غيرهم.
وبين سبحانه طرائق الدعوة إلى الحق، وأشار إِلى العقاب دفاعا عن الخير فقال: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128).
وهذه الآيات أشبه بأن تكون مدنية، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
* * *(8/4127)
معاني السورة الكريمة
قال تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
* * *
كان المشركون يتلقون وعد النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم بالغلب في الدنيا أو العذاب الأليم في الآخرة بالاستهزاء، والسخرية مبالغة في الإنكار، ويتحدون النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل بهم ما ينذرهم به، ولقد قال تعالى في ذلك: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مسَمًّى لَّجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، وقال تعالى: (ويَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ)، أي أن أسبابها محيطة بهم، وهي قريبة منهم، وقد نزل قوله تعالى:
(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ. . .)، وقوله تعالى: (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ(8/4128)
وَانشَقَّ الْقَمَرُ)، فاستعجلوه، وقوله تعالى:(8/4129)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
(أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ)، قال فيه النحويون: إنه ماضٍ بمعنى المضارع، وعبر بالماضي لتأكد
وقوعه.
وفى الحق: إن الأزمان بالنسبة للَّه تعالى لَا تختلف بين ماضٍ ومستقبل بل إن ذلك بالنسبة لنا؛ إذ يختلف الماضي الذي نعلمه واقعا عن المستقبل الذي لا نعلمه بل في الغيب المكنون المستور عنا.
على أن قوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، أي تقرر أمر اللَّه تعالى وما يقرر اللَّه تعالى قد أتى فيه قراره، وتعلقت به إرادته، وإذا كان قد أتى فلا تستعجلوه؛ لأنه قد قرر فهو واقع لَا محالة، واستعجالكم لَا يعجله، وسكوتكم لَا يؤجله، و (الفاء) في قوله تعالى: (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)، تدل على أن ما قبلها سبب لما بعدها، فسبب النهي عن الاستعجال أنه تقرر بالفعل، وقوله تعالى: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، أي تنزه وتقدس وتبرأ، وتعالى أي تسامى عما يشركون، و (ما) مصدر حرفي أو اسمي، وفي الجملة معنى النص السامي: تقدس سبحانه وتسامى في علوه عن أن يكون له شريك في السماوات والأرض.
وهذه العبارة السامية فيها تقرير أن اللَّه واحد لَا شريك له، ولا يمكن أن يكون له شريك في قدسيته، وكبريائه، وقد بين اللَّه سبحانه وتعالى بعد ذلك أنه أرسل الرسل بهذه الحقيقة لينذر المشركين بإرسالهم، فقال تعالى:(8/4129)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
(يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
(الروح) فسره ابن كثير بأنه الوحي، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52). وتسمية الوحي روحا؛ لأنه يجيء بما فيه حياة الناس، فهو كالحياة لهم، أو يقوم مقام الروح في الأجساد. وقوله تعالى: (عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، أي من(8/4129)
اختارهم لرسالته ويصطفيهم، الله يختبر من يشاء من عباده وهو أعلم حيث يجعل رسالته.
وقوله تعالى: (مِنْ أَمْرِهِ)، أي أنها مقبلة بأمره سبحانه، أو من أجل أمره، وتنفيذ ما قدر وقرر، وأمره بينه سبحانه بقوله تعالى: (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ).
فهو تقرير للوحدانية جاء على لسان الحق جل جلاله (أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا) داخل عليها حرف جر، وهو الباء و (أنْ) هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، أي أنه الحال والشأن (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا) وقد ذكر ضمير المتكلم لتربية المهابة، ولفيض جلاله سبحانه وتعالى، والجملة دالة على القصر، فالألوهية مقصورة على الذات العلية، وما ينحلونها بالألوهية من أوثان باطل في أصله، وإنما هي أوهامهم التي أعطتها صبغة الألوهية، وإذا كان اللَّه تعالى جل جلاله هو وحده الإله فإن الوقاية من عذابه، وخوف عقابه أمران لازمان؛ ولذا رتب سبحانه على وصفه وحده بالألوهية قوله: (فَاتَّقُونِ) فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنه إذا كان هو الإله وحده لَا شريك له، فلا يتقى غيره، وجاء على لسان الأمر، لكي يجتنبوا ما يعرضهم للعذاب، ومعنى (اتقوا) اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية، واملأوا قلوبكم بتقواه، كما قال تعالى: (. . . اتَّقُوا اللَّهَ حقَّ تقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
وإن أسباب انحصار الألوهية في ذاته العلية هو أنه وحده خالق السماوات والأرض ومانح النعم؛ ولذا قال تعالى:(8/4130)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
(خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3)
أنشأ اللَّه السماوات والأرض بالحق أي بالأمر الثابت، والنظام المحكم، ربط بين أجزاء السماء بسر الوجود فكل نجم في مداره، وبروجها ثابتة لَا تتغير وتسير إلى مستقرها وتتحرك في مدارها وكل شيء يجري بحسبان في السماء والأرض بطبقاتها، وما أودع باطنها من فلزات وأحجار، وعروق المعادن، والجبال(8/4130)
الراسيات، والبحار التي تجري الفلك فيها ماخرات عبابها، والأنهار والأمطار تنبت الزرع، وتأتي بالثمار، هذا ما يشير إليه؛ لذا كان سبحانه وتعالى قد خلقها بذلك الإحكام وبذلك النظام الثابت الذي لَا يتخلف، وأنه سبحانه وتعالى هو الذي يمسك السماوات والأرض، فهو سبحانه وتعالى المتعالي عن الشركاء؛ ولذلك قال اللَّه تعالى: (عَمَّا يُشْرِكونَ) تسامى في ذاته عن أن يكون له شريك، لأنه ليس كمثله شيء قط، فهو المنفرد بالخلق والتكوين والإنشاء.
وقوله سبحانه: (تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) كانت هذه الجملة مفصولة عما قبلها، لتمام الاتصال فإن تمام الاتصال يوجب فصل الجملتين، كما يوجبه كمال الانفصال، إذ الجملة الأولى سببا للثانية، فإن الخلق للسماوات والأرض سبب لكمال العلو عن المثل والشريك.
هذا هو الخلق العام، والإنسان نفسه فيه إثبات قدرة اللَّه بديع السماوات والأرض ومبدع الإنسان؛ ولذا قال تعالى:(8/4131)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
(خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
وهو الماء الذي يخرج من بين الصلب الذي قالت آية أخرى: (. . . مِن مَّاء مَّهِينٍ)، وقوله تعالى: (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مبِينٌ) يشير إلى الأدوار التي مر بها من طين فنطفة، فعلقة، فمضغة، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)، هذه أدوار الإنسان، وهو جنين لم يخرج إلى ظاهر الوجود، وإذا خرج إلى ظاهر الوجود كان معه السمع والأبصار والأفئدة، حتى تكون فيه كل قوى الإنسان من لسان وعينين وأذنين.
هذه الأدوار كلها يشير إليها قوله تعالى: (فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مبِينٌ)، الخصيم الناطق المجادل الذي يحسن إدارة القول وتحويره وتحويله كعمرو بن العاص الذي(8/4131)
كان معروفا بالحيلة في القول، حتى إن عمر الفاروق رأى رجلا لَا يكاد يبين، فقال سبحان اللَّه خالق لسان هذا هو خالق لسان عمرو بن العاص.
و (الفاء) و (إذا) يدلان على المفاجأة، والمفاجأة مع هذه الأدوار المتدرجة بأمر اللَّه وتقديره للدلالة على التفاوت البين بين ماء مهين، وخصيم مبين، سبحان من كون وأنشأ، وهدى وعلَّم.
بعد هذا أخذ سبحانه يبين النعم التي أنعمها على الإنسان فقال تعالى:(8/4132)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
(وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
الأنعام جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وما يشبهها من غزال أو نحوه، وقد ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآية نعما على الإنسان، فقال تعالى:
(لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأكلُونَ).
النعمة الأولى منها الدفء، وهي دفع البرد، وذلك بإلباس من وبرها وصوفها، ومن النفع اتخاذها أثاثا وبيوتا من الخيام، كما قال تعالى: (. . . وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ)، والمنافع كما قال ابن عباس: النسل والركوب واتخاذها في الحرب لحمل المجاهدين، والثالث منها تأكلون أي من لحومها وألبانها.
وذكر سبحانه نعما للإنسان أخرى فيها، وهي قوله تعالى:(8/4132)
وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
(وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
ترى الراعي للإبل أو القطيع ساقها إلى الرواح قد ذهب عنها الجوع وامتلأت شبعا من الكلأ والنبات، ويخرج بالنعم سارحا إلى حيث المرعى والمسقى، وحيث يرعاها ويشرف عليها في حركاتها وملاعبها ذلك هو معنى (تُرِيحونَ) و (تَسْرَحونَ).
و (الجَمال) هو الصورة التي تكون متناسقة وتؤثر في النفس، وهو يكون في الخلق والتكوين، كما ترى في جمال الأشخاص والصور والمناظر وتنفعل به النفس(8/4132)
فى إحساس بالسرور والارتياح، ويكون في جمال الطبائع السليمة الطيبة، ويكون في المعاني والصور النفسية.
وإن في منظر قطعان الإبل والغنم والبقر وهي سارحة متجهة إلى مراعيها، ما يشرح النفس؛ لأن منظر الحياة في الأحياء يفرح النفس، ويلقي فيها بهجة، ومنظرها وهي عائدة ريانة بالشبع والسقي يعطي ارتياحا أشد.
وقد ذكر رواحها، قبل سراحها مع أن الرواح خاتمة اليوم والسراح ابتداؤه، لأن الإحساس بالجمال في الرواح أشد، إذ تكون مزدهرة مملوءة بالشبع، ورواحها يكون أشد، وجمالها أوقع في نفس صاحبها، لأنه يكون بعد تعب رعيها والإشراف عليها، ولأنه يكون بعد انتصارها على مطامعها، وإشباع حاجتها.
وقد قال الزمخشري: منَّ اللَّه بالتجمل بها، كما من بالانتفاع بها؛ لأن من أغراض أصحاب المواشي، بل هو من معاظمها، لأن الرعيان إذا روحوها بالعشي وسرحوها بالغداة، فزينت بتسريحها الأفنية، وتجاوب فيها الثغاء والرغاء أنس أهلها وفرح أربابها وأجملها في عيون الناظرين إليها وأكسبتهم الجاه والحرمة ونحوه.
وقد يسأل سائل لماذا ذكر جمال النعم في غدوها ورواحها وجمال الدنيا كثير؟ والجواب عن ذلك أن اللَّه تعالى ذكر زينة الأرض بنباتها، وزخرفها، وذكر أنها زينت بذلك للناظرين، وإن ذكر جمال النعم في تلك الأوقات ترغيبًا في تربيتها والعناية بها، لأن فيها نفعا وغذاء.
وذكر اللَّه تعالى مع ما ذكر من منافع للنعم حمل الأثقال فقال تعالت كلماته:(8/4133)
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
(وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
الأثقال: جمع ثقل، وهو ما يثقل حمله، ويشق بكسر الشين، وتفتح وهي قراءة بمعنى المشقة، وإن البلاد العربية كان الحمل فيها بالجمال حتى قيل: إن(8/4133)
الجمال هي سفن الصحراء، أي أنها تنقل الأمتعة والأثقال في الصحراء، كما تنقل السفينة الأثقال على سطح الماء.
فالضمير وإن كان يعود إلى الأنعام كلها، إلا أن حمل الأثقال عند العرب للجمال فقط، وفي الحق إن حمل الأثقال ظاهره حملها على الظهر، ولكنه يشمل بالتضمن جرها على العربات، وأن من البقر ما تجر العربات المحملة، كما يرى في مصر، وكما يرى في غيره من البلاد، وقد رأينا في باكستان الإبل تجر العربات.
وجملة معنى النص، وتحمل أثقالكم أو تجر ما يحملها إلى بلد نائية عن مقركم لم تكونوا بالغي هذا البلد لنأيه وبعد المسافة إلا بمشقة شديدة.
وإن ذلك من رحمة اللَّه تعالى بعباده ورأفته بهم؛ ولذلك قال تعالى في ختام الآية الكريمة: (إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رحِيم)، أي أنه سبحانه يرأف بكم في خاصة أموركم ويرحمكم في عامة أحوالكم، وفي وجودكم، وهنا بعض إشارات نذكرها:
أولها - أن اللَّه تعالى عبر بـ (رَبَّكمْ) للإشارة إلى أن ذلك التمكين من مقتضيات الربوبية والقيام على شئونكم وهو سبحانه وتعالى: الحي القيوم الذي يحيط بكل شيء علما.
الثانية - أنه قال: (لَرَءُوفٌ رحِيمٌ)، والفرق بين الرأفة والرحمة فيما نحسب أن الرأفة فيما يكون في الإنسان في خاصة أمره من حيث الرفق والتسهيل والتيسير، والرحمة ما يكون بالإنسانية في عامة أمورها، وقد تكون الشدة في بعض الأحوال من مقتضيات الرحمة، لأن رحمة الكافة قد تقتضي شدة على الظالمين.
الثالثة - أن اللَّه تعالى أكد وصفه بالرأفة والرحمة بـ (إِنَّ)، وصيغ المبالغة، وبالجملة الاسمية، وباللام.(8/4134)
ولقد قال تعالى في نعمة النعم:(8/4135)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
(وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
بعد أن ذكر سبحانه نعمته في الأنعام، وما تتخذ منها من منافع، وما يكون فيها ذكر نعمة في غيرها مما لَا يشمله اسمها وكان العرب يجدون فيها متاعا، وهي الخيل والبغال والحمير، فإن فيها نعمة التمكين من ركوبها أو نعمة أنها تتخذ زينة لهم في غدوهم ورواحهم، وقد قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ. . .).
فالخيل المسومة من زينة الحياة، فالخيل ومثلها البغال والحمير تتخذ زينة، وقد قال العلماء في الخيل ومثلها البغال، وكلمة الخيل قد يدخل في عمومها البغال؛ ولذا يكون سهمها في الغزو واحدًا عند كثير من الفقهاء وعلى رأسهم أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رضي اللَّه عنهما. إن الخيل تتخذ لأغراض ثلاثة: الغرض الأول: القنية، للإنتاج وهذه حسنة في ذاتها؛ لأن الإنتاج في الحيوان كالإنتاج في النبات مستحسن بل مطلوب.
الغرض الثاني: للجهاد، فإن في نواصيها الخير وذلك مطلوب.
الغرض الثالث: للخيلاء والتفاخر، والخيلاء منهي عنه.
والزينة هي ما يكون في الخيل من راحة للنفس، وفرق بين اتخاذها زينة والخيلاء بها، فإن الخيلاء تفسد القلب، أما التزين، أو طلب ما يكون فيه زينة فإنه لا شيء يمس القلب ليفسده.
ولقد قال تعالى بعد ذلك. (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، أي يخلق ما نعلم وما لا نعلم، وما كان يعلمه العرب، وما لَا يعلمونه، ولو أن المتأمل المستبصر تعرف إعجاز القرآن في إخباره بما كان مغيبا في زمان نزوله لوجده في مثل هذه الآية،(8/4135)
فإن مما خلقه اللَّه تعالى مما كان العرب لَا يعلمونه، ولم يكن قط في عصر نزول القرآن - السيارات التي تنهب الأرض نهبا، والطائرات التي تقطع أجواء الفضاء قطعا، ومما يجري الآن في عصر الفضاء فإن ذلك كله خلقه اللَّه تعالى، ومكن الإنسان في عصره ما لم يكن ليعلمه، وسنرى مما يخلقه اللَّه، ويعلمه من بعدنا، ولا نعلمه نحن.
* * *
نعم الله تعالى في المطر والشمس والقمر والبحار
قال تعالى:
(وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)(8/4136)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
* * *
يقرن الله تعالى الأمور الحسية بالمعنوية، فيذكر الحسي أولا، ثم يتجاوزه إلى المعنوي، وقد يكون ذلك في جملتين متصلتين سببية أو وصفية، كما قال تعالى: (. . . وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى. . .)، فصدر القول التزود في الحج بزاد الدنيا، وجاء في التعليل الزاد المعنوي، وذلك ليجمع بينهما، وكما قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ. . .).
وقد ذكر سبحانه في الأيات السابقة ركوب الخيل والبغال والحمير وزينتها وأن الله يخلق ما لَا نعلم من نزل فيهم القرآن، وقد خلق السيارة والطيارة، وقد أخرج روائع الأرض إلى السماء، حتى يصل الإنسان إلى الأفلاك ومواقع النجوم.
ذكر سبحانه تلك النعم المادية، وذكر بعدها المسالك المعنوية الهداية، والشقوة، فقال تعالى:(8/4137)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
(وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِر).
القصد مصدر بمعنى اسم الفاعل، والقصد والقاصد معناهما مستقيم لا انحراف فيه، وطيب لَا سوء فيه ثم إنه كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ. . .).
ومعنى (وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ)، أي على الله بيان السبيل المستقيم الموصل إلى الحق، ومعنى بيانها إقامة البنيان والأعلام الدالة على الطريق وإرسال الرسل للهداية وقد وهب إليهم القلوب المدركة للحق بفطرتها.(8/4137)
وحذفت (بيان)، وبقيت كلمة (قَصْدُ) نظرًا إلى المضاف، للإشارة إلى أن الطريق القاصد هو بنفسه هاد، ذلك لأن النفوس المفطورة على فطرة اللَّه تعالى الحق وحده يهديها ويرشدها.
وليس معنى أن قصد الطريق على اللَّه أنه لازم عليه، بمعنى أنه واجب عليه، فاللَّه تعالى لَا يجب عليه شيء وليس في الوجود من يوجب عليه شيئا، سبحانه وتعالى، وإنما كتب الله تعالى على نفسه أن يضع لهم أسباب العلم والهداية ودراية الحق ليسلكوه مختارين، فليس فيه إلزام على اللَّه، كما أنه ليس فيه جبر للعباد.
(وَمِنْهَا جَائِرٌ)، (جائر) أي مائل منحرف حائد، ليس بمستقيم، والضمير في (منها) يعود إلى السبيل وهي الطريق، وتؤنث. وذكر هذه الجملة بعد الأولى يدل على أن الأصل هو الاستقامة؛ لأن الفطرة مستقيمة بذاتها، والانحراف من تسلط الشياطين بتسليط الأهواء، والشهوات.
وإن هذين الخبرين يدلان على أن الناس فيهم المستقيم، والمنحرف الجائر الحائد عن الطريق، وإن الله تعالى قد وضع للفريقين أسباب الهداية والصواب لعلمه القصد، فمنهم سلك القاصد ومنهم من انحرف عن الطريق السوي: (وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكمْ أَجْمَعِينَ)، أي لو شاء أن تكونوا جميعا على سواء في الرشاد، لهداكم أجمعين بأن جعلكم جميعا تسلكون سبل الهداية، وأنتم مختارون غير مجبرين كما قال تعالى: (وَلوْ شنَا لآتَيْنَا كلَّ نَفْسٍ هدَاهَا. . .).
عاد سبحانه وتعالى من بعد أن بين أن اللَّه سن طريق الهداية وهو طريق الفطرة، وأن الناس يجورون بالطريق فيرتكبون ما لَا يجوز، بعد ذلك بين النعم العادية الداعية إلى الشكر لمن أراد الحق وسلك سبيله، فقال تعالى:(8/4138)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
الضمير يعود إلى اللَّه جل جلاله؛ لأنه حاضر دائما، ولأنه المتحدث عنه في القرآن دائما، ولأن القرآن كتابه، فهو منه والقرآن هو الذكر الحكيم.(8/4138)
الماء هو الصلة التي تصل السماء بالأرض فمنها ينزل المطر إلى الأرض، وقد ذكر سبحانه وتعالى نعمتين جليلتين فيه:
أولاهما - أن منه الشرب، وري الأبدان، وقد عبر سبحانه بقوله تعالى:
(لَكُم مِّنْهُ شَرَابٌ)، وقال سبحانه: (لَكُم مِّنْهُ شَرَابٌ)، أي أن الماء لكم منه شراب، تشربونه وتدفعون به العطش، وعبر سبحانه بقوله تعالى لكم منه شراب ليشمل شربه ريا وسقيا، ويشمل اتخاذه محلى بمادة من مواد الحلوى، وليشمل الشراب الذي يكون من النبات والكروم غير المتخمر، فإن الماء أصل ذلك كله.
وثانيتهما - أن (وَمِنْهُ شَجَر فِيهِ تُسِيمُونَ)، والشجر يطلق على كل نبات سواء كان زرعا ينتج حبا متراكما، أم كان غرسا لكل ذلك يسمى، وقد ذكر البيضاوي شعرا في ذلك، وهو:
يعلفها اللحم إذا عز الشجر ... والخيل في إطعامها اللحم ضرر
فالشجر الذي يعز في علف الخيل هو الزرع لَا الغراس ومعنى قوله تعالى: (تُسِيمُونَ) من أسام الماشية إذا رعاها، وجعلها تطلب أماكن الكلأ والرعي، وأصلها من المسومة، وهي العلامة التي تكون قطع الكلأ، ورعي النعم له.
وإن هذه بلا ريب نعم تستحق الشكر، فهل تشكرون.
وقد فصل سبحانه وتعالى القول فيما تكون من ماء السماء، فقال تعالى:(8/4139)
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
(يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
الضمير في (بِهِ) يعود إلى الماء، أي ينبت الله تعالى لكم بهذا الماء الزرع وهو الحب المتراكب والكلأ، ونحوه من أنواع الزيتون، والنخيل والأعناب، ومن كل الثمرات.(8/4139)
والزيتون اسم جنس جمعي لزيتونة، والنخيل معروف، والأعناب جمع عنب، (وَمِن كُلِّ الثَّمَرَات) (منْ) فيها تظن أنها بيانية، أي كل الثمرات، كـ (مِن) في قوله تعالى: (وَلْتَكُنَ مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عنِ الْمُنكَرِ وَأولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، ويقول الزمخشري إن من تبعيضية، وذكر التبعيض هنا لأن ثمرات الدنيا مهما كبرت وكثرت هي بعض الثمرات، وفي الجنة كلها.
وإن الإنبات في ذاته نعمة؛ لأن الله تعالى فالق الحب والنوى، تنشق من الحبة أو النواة بأمر اللَّه فتخرج بالري عودّا، تجري إلى أعلى فيكون منه سيقان الزرع والشجر، وينشق إلى أسفل فتكون منه العروق والجذور التي تجري في باطن الأرض على امتداد قصير أو طويل على حسب نوع النبات والشجر، والضوء والحرارة يعاونان في تكوين الغصون والأوراق، وإن الزيتون إما أن يراد به الثمرة، أو يراد به الشجرة، وفي كل آيات، ويدرس العلماء إدام الزيتونة فيحسب بعض الباحثين أن فيها دواء للسرطان، ولا تزال آيات اللَّه تعالى قائمة في كل خلق، سبحانه وتعالى عما يصفون، وهو الخلاق العليم.
ولقد ختم الله تعالى الآية بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، أي إن في ذلك الخلق العظيم الدقيق الحكيم لآيات دالات بينات على عظيم الخلق، وإحكام الأسباب التي سيرها بأمره، وهو العليم الخبير، سبحانه وتعالى، (لِقَوْم يَتَفَكَرُونَ)، أي لأناس متجمعين يتفكرون تفكر المتدبرين في أحكام صنيعه، وكريم نعمه، وعظم المن في فضله، سبحانه وتعالى.
هذه نعم اللَّه تعالى التي خلقها في الأرض أو بعضها، وقد عدد نعمه في الأرض ثم اتجه إلى نعمه على الإنسان في السماء، فقال عز من قائل:
(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)(8/4140)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
فاللَّه تعالى سخر لنا الليل والنهار، أي ذلل الليل والنهار لنا، فجعلهما بذاتهما نعمة، ففي الليل يكون الهدوء الساتر؛ ولذلك سمى الليل لباسا، وفي النهار يكون العمل والكسب الكدح، وفي الليل يكون الاستجمام لعمل النهار، وفى النهار يكون العمل المنتج المثمر.
ثم هناك أمر آخر في الليل والنهار، ففي الليل يكون الكربون الذي تنمو منه عروق الأشجار والأوراق وتنفث الزائد منه عن حاجتها.
وفى النهار تكون الحرارة، وتنفث الأشجار ما يكوِّن عناصر تدخل في تكوين الأحياء، وهكذا كان في الليل والنهار نعمة أو نعم نذكر منها ما أدركنا، وهو بعض قليل من نعم كثيرة مَنَّ بها علينا اللَّه سبحانه وتعالى، وهو الحكيم العليم.
وبعد ذلك ذكر سبحانه ما يكون في النهار من شمس مشرقة وهي ضياء تمد بكل العناصر التي يتغذى منها النبات، والنخيل والكروم والزيتون، وغيرها من الدوحات العظام والباسقات، ثم القمر وما يكون منه من نور، وإن لم يكن ذاتيا، فهو في ذاته نعمة، وثبت بالواقع أن له تأثيرًا في الأجنة في بطون أمهاتها، وفي حياة المرأة، وفي طمثها وطهورها، وحملها وولادتها وسر ذلك عند العليم الحكيم، والعلماء دائبون في البحث والتعرف.
ولذا قال تعالى وقد علق فكر ابن آدم بالسماء: (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ).
ومعنى التسخير تذليلها لمنافع الناس، فليست مذللة بذاتها للناس، ولا سلطان لهم عليها ولكنه سبحانه وتعالى جعلها مذللة لمنافعهم، فالشمس والقمر يكون منهما الليل والنهار، ويكون ما ذكرنا وهو بعض مكمل، ويعلم بهما الحساب (. . . وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ. . .)،(8/4141)
وسخر اللَّه تعالى النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، أي في ذلك الذي ذكره سبحانه من خلق السماوات والأرض، وتسخير الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، لآيات بينات دالة على وحدة الخالق، وأنه وحده المستحق للعبادة، لقوم يعملون عقولهم في خلقِ السماوات، وإدراك حقيقة الوجود، ولا يقولون في عبادتهم: (. . . بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا. . .).
ولقد قال في ذكر بديع خلقه:(8/4142)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
(وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
الواو عاطفة على الليل والنهار، والعطف على نية تكرار الفاعل، والمعنى " سخر لكم ما ذرأ)، وذرأ: خلق وأباع، وقوله تعالى: (مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ) حال، فالبذر في أرض واحدة، أو تطع من الأرض متجاورات، وتسقى بماء واحد، وتسمد بسماد واحد ومع ذلك يخرج الزرع مختلفا ألوانه، والحيوان مختلف الألوان، والإنسان مع أن النطفة واحدة يكون مختلف الألوان، كما قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ. . .).
وإن تسخير الله ما ذرأ مختلفا ألوانه، فيه نعمتان جليلتان أنعم اللَّه تعالى بهما على عباده:
النعمة الأولى - أن اختلاف الألوان يومئ إلى اختلاف الأنواع والأصناف، وكل يؤدي للإنسان غرضا فهذا يكون منه لباسه، وذاك يكون منه طعامه، وذلك منه أثاثه وزينته ومنه ما يكون أداة حربه وجهاده.
النعمة الثانية - أن اختلاف الألوان يكون فيه بهجة للناظرين، ويجعل الأرض ذات منظر بهيج. وإن المعادن التي ذرأها اللَّه تعالى في الأرض من حديد ونحاس وذهب وفضة وغيرها من فلزات، هي مختلفة الألوان، وفيها بهجة(8/4142)
وزينة، وفيها منافع الناس، والحديد فيه بأس شديد، والأحجار من فحم وماس، وغيرهما ذرأهما اللَّه للناس لمنافعهم وهي مختلفة الألوان، وقد ختم اللَّه سبحانه وتعالى الآية بقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)، أي إن في ذلك الذي ذكره من ذرء، وخلق مختلف الألوان في باطن الأرض، وما على ظاهر الأرض من زروع وثمار كل ذلك فيه آيات دلائل بينات على وحدة الخالق (لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)، أي يتذكرون الأشياء والأمور ويربطونها بعضها ببعض.
ويلاحظ أن اللَّه سبحانه وتعالى في بديع نظم القرآن وإحكامه، قال في الآية الأولى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ) ليدعوهم إلى التفكير، وفي الثانية الآيَاتٍ لِّقَوْم يَعْقلُونَ) ليدعوهم إلى أن يكون التفكير بعقولهم لَا بأهوائهم، وفي الثالثة: (لآيةً لِقًوْم يذَّكَّرُونَ) ليكون دعوة إلى اعتبارهم، وربط الأمور بعضها ببعض.
كانت الآيات السابقات تدعو إلى النظر في نعم اللَّه التي احتوتها الأرض من أشجار وزروع وثمار وإلى ما في السماء من شمس وقمر، ونجوم مسخرات بأمره، وما في اتصال الأرض بالسماء، وفي الآية التالية دعوة إلى النظر في البحر وما فيه من نعم فقال تعالت كلماته:(8/4143)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
(وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
الضمير (هُوَ) يعود إلى الله تعالى، وذكر الموصول لبيان سلطان الله تعالى، وللإشارة إلى أنه سبحانه هو الذي ذلل البحر لمنافعهم، وتمكنهم مما فيه، وليس صيدهم هو الذي مكنهم، بل تسخير الله البحر لهم كان نعمة لهم وتمكينا من نفعهم، وقوله: (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا)، ووجَّه الأكل إلى لحمه مباشرة وفيه إشارة إلى أنه لَا يزكى، بل يؤكل ميتا، ولذا روى في الأثر " أحل لنا ميتتان حلالان السمك والجراد " (1) وعبر سبحانه وتعالى أيضا بقوله: (لَحْمًا طَرِيًّا)،
________
(1) سبق تخريجه.(8/4143)
ولم يقل سمكا؛ لأن في البحر ما ليس بسمك، حيوانات تشبه حيوانات البحر، والظاهر أنها حلال وفيها ضخم يكفي الألوف، كالحيوان البحري المسمى الترسة، وكالحوت وفرس البحر، وغير ذلك، وكلها لحم طري.
وقد وصف القرآن اللحم الذي يؤخذ من البحر بأنه لحم طري؛ لأنه فعلا طري، وعظمه قليل، ولا يتخلل أجزاء جسمه، بل هو في موضع معين والذي يتخلل جسمه شيء صغير يسميه العامة " سفا "، ويقول الزمخشري في وصفه بأنه طري للإشارة إلى أنه سريع العفن، وأنه ضار إذا تعفن، وفي ذلك نظر، فإنه إذا وضع الملح عليه لم يكن ضارا في تعفنه، وهو المتفسخ منه، وقد أنكره أطباء عصرنا وزماننا ثم أباحوه بل استحسنوه، وقرروا أن فيه سرا طبيا، وإن لم يعرفوه.
وحرم التفسخ الحنفية؛ لأنه ضار، وقد علمت ما فيه.
و (اللام) في قوله تعالى: (لِتَأْكُلُوا) هي لام الغاية أي ذلَّلَهُ وسخره لتأكلوا منه لحما بعد صيده، وإنضاجه، وفيه مواد غذائية كبيرة، مملوءة بالقشور، وغيرها.
وإذا كان ذلك الطعام فيه منفعة مرئية طيبة فالبحر وعاء للجواهر المختلفة، ولذا قال: (وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) وهي ما يسمونه بالأحجار الكريمة من لآلئ، وزمرد، وغيرهما مما يتحلى به النساء وبعض المرفهين من الرجال، وإن لم يتشبهوا بالنساء.
وتوهم بعض المفسرين أن التحلي بالجواهر حرام، وقاسوه على التحلي بالذهب، ولكن الثابت في الآثار أن التحريم مقصور على الذهب على أنه روي أن بعض الصحابة قال: إنه لَا تحريم، ولكن قالوا: إن ذلك من شواذ الأقوال ولقد ذكر الشوكاني في " نيل الأوطار " أن هناك عشرين من الصحابة لم يحرموا الذهب على الرجال، ولكن لم يذكر من هم ولم يذكر من أسند هذا القول إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.(8/4144)
ومهما يكن فإن الجواهر والآلئ والزمرد والياقوت، وغيرها من الأحجار الكريمة، كالماس والكهرمان ونحوها لم يثبت تحريمها إلا أن يتخذها عقدا كما يتخذها النساء فإن ذلك يكره للتشبه بالنساء.
والنفع الثالث الذي ذكره القرآن الكريم من المنافع التي سخرها الله تعالى:
الفلك، فقال تعالى: (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ)، (مَوَاخِرَ) جمح ماخرة، وهي السفينة التي تشق عباب الماء حتى يكون لها صوت يسمع، ولا يكون إلا للمراكب الكبيرة التي تحمل الأمتعة والأشياء، ولو كانت شراعية، وإنك لترى الراكب الشراعية ذوات الشراع المختلفة المتعددة وفي ذلك إشارة إلى نعمة التنقل في البحار، وقد كانت من بعد عصر القرآن الأساس في نقل البضائع والرجال من بلد إلى بلد، حتى إنه ليقاس عمران البلاد بمقدار شواطئها على البحار وتمكنها من الانتقال في الأقطار، وقد عمم اللَّه سبحانه بيان انتفاع الإنسان بالبحار، (وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ) سبحانه وتعالى، و (الواو) في قوله: (وَلِتَبْتَغُوا) عاطفة على فعل محذوف هو ثمرة لقوله تعالى: (وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ) لتنقلهم من أرض إلى أرض وبلد إلى بلد، وإقليم إلى إقليم، ولترتبطوا بأقطار الأرض، ولتبتغوا من فضله، أي لتطلبوا فضل اللَّه الذي أفاض به في أقطار الأرض، فينقل كل إقليم ما يفيض من فضل اللَّه إلى الإقليم الآخر، والابتغاء: الطلب بالشدة.
وقوله في منفعة الفلك: (وَتَرَى الْفلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ)، أي أن رؤيتها ذات متعة للأنظار، كما أن النعم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، كما قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ)، فالجواري تربط الأرض بعضها ببعض، وتربط الإنسان بأخيه الإنسان حيثما كان وأنى سيكون.
وقال تعالى: (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكرُونَ)، أي أسبغ عليكم هذه النعم الظاهرة والباطنة لترجون شكر اللَّه على ما أنعم لَا ليكفروا بها، وكما قال تعالى: (. . . لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7).(8/4145)
ينقل القرآن عجائب نعم الله تعالى على خلقه من نعمة إلى أخرى وهذا أيضا فيه عجائب التكوين فمن ذكر للأنعام وذكر النبات والزيتون والنخيل والانتقال إلى ذكر البحار وخيراتها والفلك المشحون يجري فيها، وانتقل سبحانه من البحار وماء الأرض إلى يابسها، وهو يشغل ربعها، فقال عز من قائل:(8/4146)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
(وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
قلنا إن الجزء اليابس من الأرض هو ربعها والبحار ثلاثة أرباعها، وكانت على هذا الاتساع لتصل أجزاءها، فالبحار يجري فيها الفلك المشحون ناقلة من الشرق إلى الغرب، والشمال إلى الجنوب، وكان جزءًا من الأرض مجهولا لجزئها الآخر، وكلاهما يابس فكشفته جارية في البحر، جرت فاتصلت الأجزاء، والماء سبيل الاتصال.
وبعد أن تكلم سبحانه عما في الماء من خيرات ومنافع يبتغى ويطلب من فضل الله ذكر الأرض اليابسة في مقابل الماء، وذكر الجبال التي جعلها اللَّه سبحانه وتعالى أوتادًا فقال سبحانه: (وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ)، (رَوَاسِيَ) جمع راسٍ، وفواعل يكون لفاعل إذا كان وصفا مما لَا يفعل كشوامخ جمع شامخ، والرواسي هي الجبال، وقد قال تعالى: (وَأَلْقَى) ومعناها خلق وأنشأ، وجعل، ولكن عبر بـ ألقى، للإشارة إلى أنها ليست من جنس التراب الذي يكون في السفح من حيث قوتها وكونها في أكثر أحوالها حجارة، ولما لها من هذه القوة ولما يبدو أنها ثقيلة كانت كأنها رواسي؛ لأن الراسي هو الثابت المثبت، فكأنها ثبتت الأرض من أن تميد وتضطرب، والمعنى ألقى اللَّه الجبال الراسيات لئلا تميد الأرض وتضطرب، أو خوف أن تضطرب، والمعنى على الحالين أن الرواسي أرستها وثبتتها وقال تعالى: (وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا)، فالأنهار جزء من اليابس، وكذلك السبل في الأرض والصحارى، والمعنى أن اللَّه تعالى جعل في الجزء اليابس من الأرض أنهارا تجري بالماء من مكان إلى مكان رزقا للعباد، ويقول في ذلك ابن كثير: " ينبع في(8/4146)
موضع وهو رزق لأهله موضع آخر، فيقطع البقاع والبراري والقفار ويخترق الجبال والآكام فيصل إلى البلد الذي سخر لأهله ".
وفى ذكر الأنهار بعد الجبال إشارة إلى أن الجبال كما أنها أوتاد الأرض تنزل من فوقها الأمطار، فتجري في الوديان والأنهار، كما ترى في نهر النيل ودجلة والفرات وغيرها.
(وَسُبُلًا)، أي طرقا يسير فيها السائرون كما قال تعالى: (. . . وَجَعَلْنا فيهَا فِجَاجًا سُبُلًا. . .)، وختم اللَّه تعالى الآية بقوله: (لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، أي رجاء أن تهتدوا وتدركوا الحق وتتركوا الباطل وتؤمنوا بمانح النعم، ومجريها وخالق الكون وكالئة، وحافظه.
ثم قال سبحانه:(8/4147)
وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
(وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
أي أن الجبال والسبل والأنهار تكون علامات للأماكن وحدودا، وتعريفا بأماكن البلاد، وحدودها شرقا وغربا، وقوله: (وَعَلامَات)، معطوفة على جبال، أي جعل الجبال والأنهار علامات.
(وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ)، أي أن النجوم ومواقعها في السماء، وتنقلاتها في مداراتها علامات للسائر فعلا، وكان العرب على علم واقعي بمواقع النجوم ينتفعون بها في أسفارهم، وقد أكد سبحانه اهتداءهم بالنجم بتقديم النجم، وإن ذلك أصل لعلم الفلك هدى اللَّه تعالى إليه.
والتفت سبحانه وتعالى من الخطاب إلى الغيبة؛ لأن اللَّه يخاطب الناس بالنعم عليهم، وقد ذكر هذه النعم، وهي تعم الجميع، وتثبت للجميع، أما النجوم فمع عموم نفعها وهديها لَا يهتدي بها إلا السائرون في ظلمة الليل البهيم.
وفى الخطاب تذكير بالإنعام الدائم المثمر، وفي الحديث بالغيبة تقرير للحقائق الثابتة المستقرة ولو كان النفع الحسي فيها لبعض دون بعض.
* * *(8/4147)
لا تشابه بين الخلق والخالق
قال تعالى:
(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
* * *
ذكر سبحانه وتعالى خلقه، وأن الوجود كله يتمتع بنعمة خلقه، ومع هذه النعمة، خلق نعما للإنسان إذ سخر له الشمس والقمر والليل والنهار، وأتى بني الإنسان من كل ما سألوه، فالنبات والزيتون، وغيره من الثمرات والبحر، والفلك، وما فيه من لحم طري إلى آخره.
كل هذا، ومع ذلك يشركون باللَّه في عبادته سبحانه ما لَا يملك شيئا، ولذلك نبه سبحانه وتعالى إلى ضلال العقل في هذا الأمر، ويذكرهم بذلك؛ لأن(8/4148)
فطرتهم تنفر منه؛ ولذا يستثير سبحانه هذه الفطرة بحمل الإنسان على التذكر فيقول سبحانه:(8/4149)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
(أَفَمَن يَخلقُ كمَن لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ).
الاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع؛ لأنهم فعلا عبدوا الأحجار فجعلوا من خلق الوجود كمن لَا يخلق شيئا، وهو ذاته مخلوق ميت لَا حياة فيه إذ هو جماد من الجمادات وحجر من الأحجار، وإنكار الواقع توبيخ؛ لأنه يكون استفهامًا عن واقع غير معقول، فيكون الجواب منهم إقرارا بأنهم يفعلون أمرا غير معقول.
و (الفاء) في قوله: (أَفَمَن يَخْلُقُ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنه يترتب على أن الله تعالى خالق الأشياء والنعم والأنفس، وبذلك يكون هو المعبود وحده، وإلا كان الأمر المستنكر عقلا، وواقعا، وهو أن يكون الخالق كالمخلوق، بل إن يكون الخالق كأصغر ما خلق، والفاء مؤخرة عن تقديم، فحق القول بيانيا أن يكون فأمن يخلق كمن لَا يخلق، ولكن الاستفهام له الصدارة في الجمل فأخرت الفاء، وكذلك في القرآن كل فاء جاءت بعد حرف الاستفهام، والواو العاطفة كذلك.
ويلاحظ في النص السامي ما يأتي:
أولا: أن الله تعالى عبر عن الأحجار التي كانوا يعبدونها بـ (مَن) الدالة على العقلاء، فقال سبحانه: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَا يَخْلُقُ) وكان ذلك لأنهم عدوها معبودة، فكأنَّهم يعاملونها معاملة العقلاء، فكان التعبير مساوقة لزعمهم، ولأن بعض الذين يعبدون غير اللَّه يعبدون عقلاء، كالثالوث المسيحي ففيه العقلاء، وقد أشركوا، وقد يكون ذلك للمشاكلة، والتسوية التي أرادوها بين الخالق والمخلوق، وذلك مثل قوله تعالى: (. . . فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَع يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ. . .)، وإن اللَّه سبحانه في أكثر من آية يعيد الضمير عليها كالعقلاء، كقوله تعالى: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ(8/4149)
يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا)، فهو نوع من مجاراتهم حتى تكون النتيجة بالموازنة أنهم ليسوا كمن خلق فقط، بل هم دون من خلق أو بالأحرى دون من يعبدونهم.
ولقد ذكر الزمخشري أن سياق البيان كان أن يشبهوا هم بالخالق لَا أن يشبه الخالق بهم، فكان يقال أفمن لَا يخلق كمن يخلق، وقد أجاب عن ذلك، أن الاستنكار موجه إلى المساواة بين الخالق والمخلوق، فكأنَّهم جعلوه في ضمن المخلوقات، وقد يجاب عن ذلك أيضا بأن سياق القول في بيان الخلق، فكان موجبه أن يذكر الخالق أولا، وكأنَّهم ينزلونه من مرتبته التي لَا تناهد إلى منزلة المخلوق، وهذا في ذاته موضع استنكار.
ويختم اللَّه سبحانه الآية بقوله: (أَفَلا تَذَكرُونَ) يقال في (الفاء) هنا ما قيل في (الفاء) في قوله تعالى: (أَفَمَن يَخْلُقُ كمَن لَا يَخْلُقُ) والاستفهام لإنكار الوقوع مع التوبيخ، والتعبير (أَفَلا تَذَكَرُونَ) فيه إشارة إلى أن عبادة الأحجار من غفلة العقول، وإنها تتذكر وتذهب الغفلة، حتى تتنبه إلى حكم العقل وهو الوحدانية، وذلك حق، لأن عبادة الأوثان من سيطرة الأوهام التي تجعل العقل في غفلة تامة، كما ترى في هذه العصور عند بعض النصارى.(8/4150)
وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
بين اللَّه سبحانه وتعالى كيف سوى عبدة الأوثان بين المنعم والأوثان، وبين الخالق والمخلوق، وأنهم قد تجاوزوا المعقول وغفلوا عن الفطرة، فبدل أن يشكروا النعمة كفروها.
وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك أن نعم الله تعالى أكثر من يضبطها العد والإحصاء، وإنها واجبة الشكر على قدر الطاقة فإن ما لَا يحصى لَا يعلم للإنسان، ولا يستطيع الشكر إلا من يعلم، ويقدر ما يعلم.(8/4150)
(وَإِنْ تَعُدُّوا)، أي إذا أردتم أن تعرفوا نعم اللَّه بالعدد لَا تحصوها، ولا تضبطوها، ففي كونك في بطن أمك في نعمة، وفي غذائك وأنت في الغيب المكون في نعمة، وفي تنقلك في بطن أمك من نطفة إلى علقة، فمضغة مخلَّقة وغير مخلَّقة في نعمة، وإذا خرجت إلى الوجود وجعل لك السمع والأبصار والأفئدة في نعم، وإذا سخر لك الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم فأنت مغمور في نعم، وهكذا في كل حياتك أنت في نعم اللَّه تعالى، وهو القيوم عليك.
وإذا كانت معرفة هذه النعم لَا تبلغها طاقتكم، فأنتم أحرى بألا تبلغ طاقاتكم شكرها؛ ولذا قال تعالى بعد بيان أن الناس لَا يستطيعون إحصاء نعمه عليهم: (إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أكد سبحانه مغفرته ورحمته، فكانت المغفرة من الرحمة، إذ إنه سبحانه لَا يطالبكم بالشكر إلا فيما تعرفون وما تطيقون وفيما تعرفون يعفو عن كثير سبحانه وتعالى، وقد أكد سبحانه هذين الوصفين الجليلين أولا بـ (إن) المؤكدة، وبصيغة المبالغة، وباللام، واللَّه على كل شيء قدير. وإن الله تعالى يحاسب القلوب في خيرها لحبه المغفرة، ولإرادته الرحمة، ولعدله، ولكيلا يتساوى المحسن والمسيء؛ ولذا قال عز من قائل:(8/4151)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
هذه العبارة فيها تهديد لأهل الشرك، وتقريب لأهل الإيمان، فهو يحاسبكم سبحانه على ما تعلنون من أعمال، وما تسرون من عقائد ونيات يصحبها عمل، فإن اتجهتم إلى شكر الخالق بعدم الإشراك به والإحساس بنعمه فإنه غافر لكم ما ترتكبون وتتوبون عنه إذا تبتم عن قريب، وإن أسررتم الخير ونويتموه، وهممتم أن تفعلوه فإنه غافر لكم، لأن الحسنات يذهبن السيئات، وبالنسبة للشر لَا تحاسبون إلا بما تفعلون، وما تعتقدونه من شرك وعبادة غيره، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. . .)؛ لأن الغفران(8/4151)
لا يكون إلا في دائرة الإيمان بألوهية الله تعالى وحده، فمن آمن بالله وحده، كان جديرا بنعمة الغفران، ومن أشرك بالله غيره، فإنه ليس بجدير، والله بكل شيء محيط.
وقد صرح الله تعالى ببعض الحقائق في معبوداتهم، فقال:(8/4152)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
ذكر سبحانه وتعالى فضل خلقه ونعمه، وإنه الخالق المنعم، وبين المقايسة العادلة التي تفرق بين من يخلق ومن لَا يخلق، وبعد ذلك ذكر أن المعبودات التي يعبدونها لَا يمكن أن تخلق ثسيئا؛ ولذا قال: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ)، فالواو عاطفة على قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) وعبر سبحانه وتعالى عن الأوثان بالذين التي هي للعقلاء مجاراة لهم في تفكيرهم إذ يعطونها بأوهامهم من الصفات ما هو أعلى من العقلاء، و (شَيْئًا) التنكير فيه للعموم، أي لَا تخلقون أي شيء مهما صغر وهان، ولقد قال تعالى في تصوير عجزهم المطلق: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)، إنها أحجار تنحت من صخورا الجبال، ولذا قال تعالى: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ).
ولقد بين سبحانه أن المشركين أحسن خلقا من أوثانهم، فقال عز من قائل:(8/4152)
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
(أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
هذه الحجارة جماد لَا تجري فيه الحياة، وهؤلاء الجهلاء يدعونها وهي أحجار، ومعنى يدعونها يعبدونها، (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ)، أي وكانت موصوفة بالموت؛ لأنها فاقدة الحياة ليس لها روح تسري فيها، كما تسري في الأحياء، والتعبير عنها بأموات لَا يخلو من مجاز؛ لأن الموت يكون للحي الذي فقد الحياة(8/4152)
ولو كان نباتا، فكيف يقال عما لَا تدخله ابتداء ميتا، ولكن لأنها جماد لَا يتحرك بالإرادة، ولا تجري فيه حركة عبر عنه بميت، وقوله: (غَيْرُ أَحْيَاء) يشير إلى هذا المعنى، أي أنه جماد لَا تجري فيه الحياة قط.
وقوله تعالى: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) الضمير عائد إلى الأوثان، وأعيد الضمير المذكر العاقل، جريا على عدها آلهة تدرك وتعقل في زعمهم، ويزدلفون إليها، ويتقربون ويدعون.
والمعنى على هذا أن هذه الأوثان يعبدونها، رجاء خير منها، وهي لَا تشعر متى تبعث أو في أي مكان تبعث.
وهذا يقتضي أن ما يعبد يكون عنده قدرة على الجزاء بالثواب على العبادة، والعقاب على تركها، وهذه لَا تشعر متى تبعث وتجازى بالخير أو الشر.
ويصح أن يكون الضمير عائدا على الذين يدعونها أي يعبدونها، أي ما يشعر أولئك العباد أيان يبعثون، مع أن البعث آتٍ لَا محالة، وهم ينكرون البعث، ولذلك دعوا الحجارة وآمنوا بها، فالكفر بالبعث هو الضلال المبين وهو الذي أدى إلى هذه الأنواع المتكاثرة من أنواع الضلال المختلفة، ويجب أن نذكر تفسيرًا آخر له وجاهته، وهو أن الموت ليس في هذه الآية وصفا للأحجار إنما هو وصف لمن يدعونها ويعبدونها، فالمشرك ميت غير حي؛ إذ إن حياته لَا نفع فيها له، فهو كالميت؛ ولذا كان التصريح بأنه غير حي، وقد عبر القرآن عن المشرك بأنه ميت وعمن يخرج من الشرك إلى الإيمان بأنه حي، كما قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122).
فسمى اللَّه تعالى المشرك ميتا، وبذلك يكون الشرك موتا والمشركون أمواتا غير أحياء، ويكون قوله: (وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ظاهرا في العودة على المشركين، واللَّه أعلم.(8/4153)
بعد هذه البراهين القاطعة، والآيات البينة تقرر النتيجة التي لَا ريب فيها، وهي الوحدانية:(8/4154)
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
(إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22)
هذه الجملة منفصلة عما قبلها غير موصولة بها؛ لأنها بمنزلة النتيجة لما سبقها، فهي مقدمات، وتلك نتيجتها وهي بمنزلة السبب، وتلك بمنزلة المسبب، وإضافة الإله إلى المخاطبين معناه معبودكم أيها المؤمنون هو إله واحد لَا شريك له في حقيقة معنى الألوهية؛ لأنه وحده الخالق، فلا خالق سواه، وهو الواحد في ذاته وصفاته، ليس كمثله شيء، وإنه بذلك يجب أن يكون واحدا في عبادته لا يعبد سواه، ولا يلجأ إلا إليه.
وقد قال سبحانه بعد ذلك: (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَة) هذا النص السامي سبق لبيان كفر من كفر، أو شرك من أشرك، فذكر أن سبب ذلك لأنهم لَا يؤمنون بالآخرة، فذكر سبحانه أن عدم الإيمان بالآخرة يؤدي إلى وصفين:
الوصف الأول - أن تكون القلوب منكرة.
والوصف الثاني - أنهم مستكبرون، وذلك لأن عدم الإيمان بالآخرة، وأنه لا بعث ولا نشور ولا حساب ولا عقاب يجعل الشخص يحسب أن الإنسان خلق عبثا، وأن الحياة الدنيا هي الحياة، وهي المتاع ولا متاع سواه، فيكون قالبا للحقائق، وجاحدا دائما، إذ الدنيا وما فيها من حسيات قد استغرقته وملأته، ولا موضع لغيرها في نفسه فقلبه منكر إلا للمحسوس، فلا يؤمن باللَّه، ولا بالرسالة الإلهية.
وأما أنهم مستكبرون، فلأن الدنيا تدليهم بغرور، ومن اغتر بهذه الحياة، وأوتي منها حظا طغى واستكبر وتجبر، كما قال تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7).(8/4154)
ومن كان من طبيعته الإنكار والاستكبار، فإنه تنغلق في قلبه مفاتيح الهداية.
و (الفاء) في قوله: (فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)، فاء الإفصاح، والمعنى إذا كان اللَّه واحد فلماذا يكفرون؟ فأجيب بأنهم يكفرون بالآخرة.
وأساس الإيمان هو الإيمان بالغيب، فالذين لَا يؤمنون إلا بالمحسوس، لا يؤمنون باللَّه ولا الملائكة ولا بالرسالة الإلهية، ولذا ذكر سبحانه أن أولى صفات المؤمنين بالغيب، فقال تعالى: (الَّذِينَ يُؤْمِنونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقونَ).
ولقد ذكر سبحانه وتعالى سعة علمه سبحانه فقال:(8/4155)
لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
(لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
في الآية السابقة بين سبحانه أن الذين لَا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة، وهم مستكبرون فمظهرهم إثم ومخبرهم نكران وجحود، وهنا يبين سبحانه وتعالى أنه يعلم باطنهم الذي تنبعث منه أعمالهم ومظاهرهم: (لا جَرَمَ أَن اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنونَ) فلا تخفى عليه خافية من أمورهم، وهو مجازيهم بها يوم القيامة الذي أنكروه، وكاشف أمرهم الذي ستروه، (لا جَرَمَ) ذكر الزمخشري أن معناها (حقا) فهي لتأكيد علم اللَّه تعالى بما يسرون وما يعلنون أي ما يخفونه، ولا ينطقون به، وما يظهرون ويجهرون به من معاص تدل على مقدار عنتهم، ومجابهتهم الحق.
ونقول: إن لَا جرم فيها معنى (حقا) فيها رد لهم؛ لأن معنى جرم كسب و (اللام) تدل على النفي، فالمعنى لَا كسب لهم، ولا ثمرة لأعمالهم المكتومة والظاهرة، ويكون المعنى لَا كسب لهم فيما يفعلون من إنكار القلوب، واستكبار النفوس، لأن اللَّه تعالى يعاقبهم بما أسروا وبما أعلنوا، (. . . وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. . .)، واللَّه أعلم.(8/4155)
وإن (مَا يُسِرّونَ) لَا يقتصر على إنكار القلوب بل يشمل ذلك وكل ما يبيتون وما يدبرون من شر، وما يمكرون من مكر يقصدون به إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، (وَمَا يُعْلِنُونَ) يشمل المجاهرة بالعصيان، والمعاندة والإصرار على الباطل ومعاندة الحق وأهله لما يشمل قتال المؤمنين وإرادة الذلة لهم، والله يريد العزة للمؤمنين.
وختم الله تعالى الآية بقوله: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)، وهي يشير إلى عذاب الله تعالى لهم، وأن هذا الإنكار من الاستكبار، وذلك لأنَّ النفس المستكبرة متعالية عن الناس وعن الحق، ومع الخضوع والتواضع يكون الإيمان؛ لأنَّ التواضع من غير صفة يكون معه اتساع القلب للحق فيدخله، ومعنى عدم حب الله تعالى أنه لَا يكون دانيا منه تريبا إليه، بل لأنه استكبر بعيد عن الله تعالى، وكلما بعد عن اللَّه تعالى لم يشعر بجلاله ولا يذكره، ولا يطمئن قلبه.
وإنه يترتب على عدم حب اللَّه تعالى للمستكبرين، ألا يغفر لهم؛ لأنهم لا يتوبون، والتوبة باب المغفرة؛ لأنَّ التوبة تدلل على الرجوع إليه سبحانه، والضراعة إلى الله تعالى، والتوسل إليه سبحانه وتعالى، والكبر والتوبة نقيضان لَا يجتمعان في قلب مؤمن.
ولأنهم يستكبرون عن الحق لَا يدركونه، ولا يريدونه؛ ولذا قال الله تعالى فيهم:(8/4156)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
أي أنهم لَا يرون في القرآن إلا قصصا، ولا في قصصه إلا أنه أسطورة من أساطير الأولين، وذلك لاستكبارهم عن أن يفتحوا صدورهم وعقولهم لإدراك ما اشتمل عليه من أحكام، وما فيه أن أساليب البيان التي يعجزون عن أن يأتوا بمثلها، إن استكبارهم يمنعهم من الاتجاه إلى الحقائق ليدركوها، وإذا أدركوها خضعوا لها.(8/4156)
والأساطير جمع أسطورة كما قال المبرد، والأسطورة هي الأحاديث التي لا يربطها فكر، ولا أصل لها وتقال للتسلية، أو هو الأخبار التي تجيء على ألسنة الحيوان، وقالوا في السيرة: إن النضر بن الحارث كان في فارس، فعلم ما في كتاب كليلة ودمنة، فقال: كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - هو كهذه أساطير الأولين: (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5).
وقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) فيه (قيل) مبني للمجهول فمن هو الفاعل الذي جهل وحذف؛ يصح أن يكون القائل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو من معه، وكأنه يتحداهم، ويدعوهم إلى التأمل، وإدراك معانيه ووجوه البيان الذي هو فوق البشر، ويوجه أنظارهم، ولكن قلوبهم معرضة مستكبرة، والاستكبار كما ذكرنا يسد مسالك الإدراك، فيكون العقل غافلا عن إدراك الحق، ولذا يجيبون (أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)، أي أحاديثهم التي لَا أصل لها ولا واقع يحققها وكأنهم نظروا إلى القصص الحكيم في القرآن، ولم يصفوه بوصفه، بل قالوا ما قالوا منصرفين عن الحق، غير مدركين لموضع العبر فيه، ولم ينظروا إلى ما فيه من دعوة إلى التوحيد، وبطلان الشرك، وما فيه من أحكام شرعية تصلحهم في دنياهم وآخرتهم.
هذا على أن الفاعل المحذوف هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن معه، ويكون قوله تعالى (مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ) المراد به القرآن الحكيم، والاستفهام هنا على حقيقته ليحملهم على التفكر والتدبر.
ويصح أن يكون من الكفار بعضهم لبعض، وكأنهم يتساءلون عن حقيقة ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - في نظرهم، وما يمكن أن يردوا به على المصدقين، أو ما يمكن أن يشككوا فيه المؤمنين به، ويصدوا به الذين لم يؤمنوا عن أن يدخلوا فيه ويكون تعبيرهم (مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ) من قبيل التهكم بالقرآن، ومن نزل عليه، إذ هم في ظاهر حالهم لَا يؤمنون بالقرآن ولا يصدقون أنه نزل من اللَّه تعالى على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -(8/4157)
ويصح أن نقول إن قائل هذا القول ليس من المشركين، إنما هو من الوافدين إلى مكة في موسم الحج، والرد من المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ليصدوا الناس عن سبيل الله تعالى، ويضلوا الذين يدعوهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أخذ يعرض نفسه على القبائل الوافدة إلى الحج، وقد دعاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى القرآن الذي أنزله رب العالمين، لقد سأل أولئك البادون الذين جاءوا من خارج مكة عن القرآن (مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ) فضللوهم وقالوا أساطير الأولين وبذلك صدوهم عن الإيمان الذي كان يمكن أن يدخل قلوبهم لولا هذه المبادرة المضلة.
وإني أميل إلى الأخير وأرى الفاعل المحذوف يحتملهما جميعا، وربما تكرر السؤال، وتكرر الجواب، وهنا إشارة إلى أن القرآن أنزل من اللَّه وعبر بالرب، للإشارة إلى أنه أنزل من ربهم الذي أنشاهم ورباهم، ويعلم ما فيه صلاح أمرهم في دنياهم وعاقبة أمرهم.
وإن الذين قالوا هذا القول مضلين صادين عن سبيل اللَّه تعالى أيا كان السائل لهم الذي أجابوه، قد ضلوا في ذات أنفسهم، وأضلوا غيرهم؛ ولذا يتحملون وزرهم كاملا ويتحملون منِ أوزار الذين أضلوهم بغيرِ علم، فقال تعالى:(8/4158)
لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
(لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) اللام لام التعليل، وتكون العلة هي قولهم أساطير الأولين، أي قالوا ذلك ليحملوا أوزارا، والظاهر أن اللام لام العاقبة، وهو ما نراه، أي قالوا ما قالوا وصدوا عن سبيل اللَّه لتكون العاقبة أن يحملوا أوزارهم كاملة وأوزارا من أوزار من ضلوهم ".
والوزر: الحمل الثقيل، وفيه إشارة إلى أنه حمل ثقيل كله أوزار وآثام كما قال تعالى: (وَلَيَحْملُنً أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ. . .)، وقوله تعالى: (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فيه إشارة إلى أن هذه الأوزار مآلها عذاب دائم أليم؛ لأن(8/4158)
القيامة دار الجزاء ويحملون جزاء أوزارهم كاملة غير منقوصة في شيء من النقص، وعبر عن الجزاء بحمل الأوزار للإشارة إلى المساواة بين العقاب والفعل، حتى كان الذي يحمل الوزر يحمل جزاءه؛ لأنهما متلازمان ومتساويان.
وقد ذكر سبحانه أنهم يحملون وزرهم كاملا يوم القيامة، ويحملون من أوزار الذين يضلونهم، ولذا قال تعالى: (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وقوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) لتحقيق معنى الإضلال؛ لأن الإضلال عادة يكون لمن لا يعلم، وقالوا: إن قوله تعالى: (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حال من المفعول في قوله تعالى: (يُضِلُّونَهُمْ)، أي أن ذلك لَا يكون إلا بغير علم، وذلك يزيد في جرمهم جرما، لأنهم لَا يكتفون بضلال، بل يتعدون به، فيضلون غير العالمين بحقيقة الدعوة المحمدية، فيذكرون ضلالهم فيها، ولا يذكرون حقيقتها.
وقال سبحانه: (وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) " ومن " هنا بمعنى بعض، فلا يحملون كل أوزار المضلَّلين، بل يحملون بعضه، ويبقى وزر شركهم، ذلك لأنهم باستجابتهم لهم من غير تبين وتعرف، قد وزروا في ذات أنفسهم، إذ أنهم كان عليهم أن يبحثوا ويتعرفوا الحق، وقد بُلغوه، وعلموا بأمره، فما كان لهم أن يكتفوا بكلام أعداء محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل كان عليهم أن يتعرفوا الحق من مصدره، وألا يكتفوا بالمعرفة من خصومه، وإن الإضلال يتضمن أمرين: أحدهما إيجابي، وهو المضل، والثاني استجابة المضلَّل، فبهذه الاستجابة يحاسبون.
وإن هذه الأوزار التي حملها المحلون كاملة لأنفسهم، وحملوا معها بعض أوزار الذين أضلوهم هي أسوأ ما يمحل الضالون والمضلون لأنها عذاب أليم، ولذا نبه سبحانه إلى عظم هذه الأوزار فقال تعالى: (أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) و (أَلَا) أداة تنبيه لبيان أن هذا الحكم الذي يليها ثابت ثبوتا مؤكدا و (سَاءَ) فيها معنى التعجب، ومعناها ما أسوأ ما يحملون من أوزار؛ لأنها عذاب مقرر ثابت، وعبر عن هذا العذاب بقوله تعالى: (مَا يَزِرونَ) لما في الوزر والعذاب من توافق كامل، وتساو بينهما على ما بينا، واللَّه تعالى أعلم.
* * *(8/4159)
العبرة بمن كانوا قبلهم
قال تعالى:
(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
* * *
يضرب اللَّه سبحانه وتعالى لنبيه الكريم الأمثال بحال المشركين الذين كفروا بالرسل، ودبروا التدبيرات ليمنعوا الرسل من تبليغ رسالات ربهم، كما يبين للمشركين الذين يعاندون النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويكفرون باللَّه ويدبرون التدابير لمنع الدعوة من أن تسري، حتى أنهم يسدون السبل على مكة فيلتقون بالركبان، ويصدونهم عن سبيل اللَّه، فقال تعالى:(8/4160)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
(قَدْ مَكَرَ الَّذِين مِن قَبْلِهِمْ)، أي دبروا الأمور لنقض الدعوة، وأحكموا تدبيرهم على الناس، وسدُّوا كل مسالك الهداية ليضلوهم وكادوا لأهل الإيمان كيدا، ظنوا معه أنهم قضوا على الدعوة، واقتلعوها، ولكن اللَّه تعالى أفسد عليهم تدبيرهم ورد كيدهم في نحورهِم، وأن ما بنوه دمره اللَّه تعالى، وللكافرين أمثالها، فقال تعالى: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ(8/4160)
السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) وإن هذا الكلام فيه استعارة تمثيلية إذ شبه اللَّه تعالى حالهم بحال من بنوا صرحًا وشيدوه، وأقاموا قواعده على عمد وأسطوانات، وأحكموا بنيانه حاسبين أنه يبقى على مدى الأزمان، ولكن أتى اللَّه تعالى بنيانهم بأمره من قواعدها، فتداعت وانهارت فصارت هباءً منبثًا، فخر عليهم السقف من فوقهم، وماتوا تحت أنقاضه، وبذلك كان ما بنوه للحياة ومتعها، وتدبير الأمور للحق صار عليهم وبالا، وسببا لهلاكهم وأتاهم العذاب به؛ ولذا قال تعالى: (وَأَتَاهُم الْعَذَابُ مِنْ حيْثُ لَا يَشْعُرُونَ)، أي أتاهم من المكان الذي يشعرون أن فيه مأمنهم فكان فيه مهلكهم وفناؤهم.
وهذا يذكر المشركين في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ما يدبرونه ضد النبي - صلى الله عليه وسلم - من تدبير يريدون به إخفاقهم لهم سيكون من عوامل نصره، وإن اللَّه محيط بهم، وبما يدبرون.
وإن هذا عذاب الدنيا للمشركين، وقد تبين في عاد وثمود، ومدين، وفرعون وملئه، ثم يوم القيامة يكون الخزي والجزاء؛ ولذا قال تعالى:(8/4161)
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) (ثُمَّ) هنا في معناها، وهو الترتيب والتراخي، وهو هنا بمعنى الإمهال من غير إهمال، وذلك يطوي في نفسه التهديد والإنذار وهو في ذاته وعيد بالخزي يوم القيامة، وقوله تعالى: (يُخْزِيهِمْ) بإسناد الفعل إلى اللَّه تعالى فيه تعظيم لذلك الخزي، وذلك الخزي يشمل فضيحتهم على الأشهاد، لتذهب الكبرياء الآثمة، وتشمل الذل بعد الاستكبار، وتشمل العذاب؛ لأن العذاب خزي في ذاته، كما قال تعالى: (رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)، وقد كان من إخزاء اللَّه لهم أن كشف حالهم مع الأوثان التي أشركوها في العبادة مع اللَّه تعالى، وأنها لَا شيء وأنها تهرب منهم، ولا تجد لها مهربا؛ ولذا قال لهم: (أَيْنَ شُركَائِيَ الَّذِينَ كنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ).(8/4161)
وهنا نلاحظ ثلاثة أمور بيانية:
الأمر الأول - إضافة الشركاء إليه سبحانه وتعالى هو من باب الإضافة لأدنى ملابسة إذ هم قد عبدوها مع الله تعالى، فجعلوها للَّه شركاء بزعمهم، فكانت الإضافة أخذا بهذا الزعم تبكيتا لهم، إذ كيف يكون المخلوق شريكا للخالق، وكيف تكون الحجارة التي لَا تنفع ولا تضر شريكة للنافع الضار، رب السماوات والأرض، والحي القيوم القائم على كل ما في هذا الوجود.
الأمر الثاني - في قوله تعالى: (الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ)، أي تعادون الحق والأنبياء والدعاة المرشدين فيها، أي تكون في شق والحق في شق، و (في) هنا معناها المحل، أي محل المشاقة فيها، فيتنازعون، حيث لَا مكان للمنازعة؛ لأنها منازعة بين الخالق، وما هو أدنى المخلوقات، لأنها حجارة لَا تنفع ولا تضر.
الأمر الثالث - أن ثمة قراءة بكسر النون، والكسر يدل على ياء المتكلم، أي تشاقونني فيها أي تنازعونني أنا اللَّه الخالق رب الوجود فيها، ويكون في هذه القراءة معنى آخر جليل، وهو أن منازعة الرسل منازعة له سبحانه وتعالى.
ولقد شهد عليهم بهذا الخزي رسلهم الذين أرسلوا إليهم وأتباعهم، والملائكة (قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)، والذين أوتوا هم النبيون، فقد أوتوا علم النبوة، والذين اتبعوهم فقد اقتبسوا من علم النبوة، والملائكة، فقد أوتوا علم الرسالات بمقتضى تكوينهم، فهم عباد مكرمون لَا يعصون اللَّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
وشهادة أولو العلم: (إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ)، أي الخزي والسوء على الكافرين بسبب كفرهم وعنادهم، ومشاقّتهم للَّه ولرسوله، وأهل الحق، وقد قال تعالى فيهم:
(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)(8/4162)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
(الَّذِينَ تَتَوَفَاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ) هم الكافرون، فهذه الجملة عطف بيان أو بدل مما قبلها، وهذا يتضمن حالهم عند الوفاة، ووصفهم الأصلي الذي أرداهم في الجحيم، وهو أنهم ظالمون لأنفسهم، وذلك الظلم بشركهم، فالشرك في ذاته ظلم، وهو ظلم للنفس؛ لأنه انحراف فيها، وعوج في تكوينها يشبه عوج الأعضاء بعد استقامتها، وهو ظلم للعقل والفكر إذ يحطه من عبادة اللَّه إلى عبادة الأحجار، وهو يؤدي إلى ظلم الأبرار، والظلم يعود على الظالم، فمرتعه ونهايته عليه، فكأنه في الابتداء انتهى إليها.
وقوله تعالى: (فَألْقَوُا السَّلَمَ) وهو الاستسلام والخضوع والإخبات بعد أن عتوا واستكبروا، والفاء للتعقيب، أي أنهم بعد أن توفتهم الملائكة فوزا ألقوا السلم والخضوع، وانتقلوا من كبرياء ظلمة إلى ضعة صاغرة مستكينة، وعبَّر بـ (ألقوا) والإلقاء لَا يكون إلا للأجسام للإشارة إلى أنهم انحطوا كما تنحط الأجسام من أعلى إلى أسفل، ونسوا ما كانوا يعملون، وقالوا: (مَا كنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء)، و (مِنْ) لاستغراق النفي، أي ما كنا نعمل أي سوء، ونسوا أنفسهم ونسوا أعمالهم لقد زال كبرهم وغطرستهم، فزالت شخصيتهم الظالمة، وحسبوا أنهم لم يفعلوا سوءا.
(بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بلى تدل على الإضراب عن قولهم، والقائل هم الملائكة أو أهل العلم الذين أوتوه من النبيين أو أتباعهم، وعندي أن القائل هو الله تعالى، لأنه لم ينسب القول إلى غيره، وهو القائل المتولي أمرهم ابتداء وانتهاء.
وقد أكد اللَّه تعالى علمه بالوصف وبـ إن وبالجملة الاسمية وقوله تعالى: (بِمَا كنتُمْ تَعْمَلُونَ) (ما) فيه موصولة بمعنى الذي، أي بالذي كنتم تعملونه، وهو استحضار لهذا العمل كأنه حاضر مهيأ يرى، وقوله تعالى: (كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، أي عملكم الذي استمررتم عليه، ولم تفارقوه حتى تستبين به خطاياكم.(8/4163)
وقد بين بعد ذلك العقاب الذي ينتظرهم، فقال:(8/4164)
فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
(فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
(الفاء) هنا فاء السببية، أي أن ما قبلها سبب لما بعدها، فبسبب ظلمهم أنفسهم بما قدموا من ظلم للفِطَر، وشرك، يدخلون النار، وجاء إدخالهم بصيغة الأمر، للدلالة على أنهم مجبرون في هذا الدخول لَا مخيرون، وجاء بكلام يدل على أنهم دخلوا، ولم يقل (أُدخِلوا جهنم)، للتهكم بهم كأنهم اختاروها، وإنهم كذلك فقد اختاروها من يوم أن اختاروا الكفر على الإيمان واستكبروا على الحق فلم يؤمنوا به مع قيام بيناته ودلائله.
و (أَبْوَابَ جَهَنَّمَ) كناية عن سعتها، وسهولة الوصول إليها لمن كتبت عليهم وأردوها بأفعالهم، كما قال تعالى: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)، وإنهم خالدون فيها لَا يزيلونها، وخالدين فيها حال، والخلود وهو الاستمرار في البقاء بها، وقد بين سبحانه أنها أسوأ مقام، فقال (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ).
و (الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا سيدخلون جهنم خالدين، فلبئس مثواهم، و (اللام) لتأكيد ذمها، وأظهر في موضع الإضمار، فقال: (فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ)، ولم يقل بئس مثواهم، للدلالة على أن الكبر عن الحق وعدم الاستماع إليه، والإصغاء لأهله - هو الذي أودى بهم.
والتعبير بكلمة (مَثْوَى) وهي الإقامة، وغالبا ما تكون المختارة، لأنها طيبة من قبيل التهكم بهم.
ولقد قال ابن كثير: إن الآية تدل على أنهم يدخلون النار، أو يكونون في حرارتها بمجرد قبرهم، وأنه تكون أرواحهم في عذاب بحرارة جهنم، حتى يكون البعث فتلتقي الأجسام بالأرواح، ويكون العقاب، ويشير إلى ذلك قوله تعالى في آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46).(8/4164)
اللهم اغفر لنا، وجنبنا أسباب النار، وانظر إلينا يوم لقائك، وإن لم نكن لذلك أهل.
* * *
المتقون
قال تعالى:
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
* * *
هذه مقابلة بين الإيمان والتقوى، والكفر والاستكبار، قيل للمستكبرين ماذا أنزل ربكم قالوا: أساطير الأولين ولنَتْل الآية السابقة: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وسئل هذا السؤال نفسه للمتقين، فقال تعالى:(8/4165)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
(وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا) وهذا فرق ما بين التقوى والفجور، الفاجر لَا يهمه أن يقول الحق أو يفحصه، والمتقي الطيب محب للحق، ويتحراه، فإن وجده اطمأن إليه، واستقام على طريقه.
(وَقِيلَ لِلَّذينَ اتَّقَوْا)، الفاعل المحذوف هنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى:
(وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) وقد كان الجواب غير الجواب الأول، وإن كان السؤال واحدا بيد أن السؤال هنا للمتقين وهناك(8/4165)
" للمستكبرين " كان جواب المتكبرين يتناسب مع ضلالهم، وكان جواب المتقين (خَيْرًا)، أي أنزل خيرا، وذلك يشمل القرآن وما فيه من شرائع وما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أحكام وشرع صالح فيه خير البشرية؛ ولذلك نجد الجواب هنا خبرا منصوبا بالفعل، بينما نجد الجواب في الأولى مرفوعا، وهو أساطير، والفرق أن الجواب جواب مؤمنين يؤمنون بالتنزيل، فيجيبون من غير تلعثم واضطراب، بينما الجواب في الأولى جواب كافرين بالتنزيل وفيه التواء وتلعثم لأنه باطل، والباطل دائما لَا نور فيه، ولا انكشاف.
ووصفوا المنزَّل بأنه خير، ويشمل القرآن كما ذكرنا والشرائع الإسلامية كلها، وهي خير فيه صلاح الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى: (. . . لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَة. . .)، يصح أن تكون هذه الجملة من اللَّه تعالى فيها تتميم جواب الذين اتقوا، والظاهر أنها من تتمة إجابة المؤمنين وقولهم، وهم بهذا يرغبون في الإيمان، ويرغبون في الإحسان، للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة، أي خصلة حسنة، وأثر حسن، فالثمرة من جنس العمل، فإذا كان العمل حسنا كانت الثمرة حسنة، وهل ينتج الخير إلا خيرا، وهل ينتج الإحسان إلا إحسانا.
والعمل الصالح ينال به الشخص الخير الحسن؛ لأنه يكون بنية خالصة، والإخلاص في ذاته أمر حسن لَا يذوقه إلا الذين أخلصوا دينهم للَّه ولم يدنسوا قلوبهم بفساد، والإخلاص يدفع إلى الكلم الطيب، والكلم الطيب يدفع إلى العمل المستقيم والسلوك القويم، وكل هذا خير، وإذا كانت متاعب من عمل الخير، فإن الصبر عليها نعمة وحسنة يشعر بها الأبرار الذين يفتدون الحق بأنفسهم وبالبلاء ينزل بهم.
وقال تعالى: (وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ)، أي ثواب دار الآخرة، وإنما أضيف الخير إلى ذات الدار، لأنها كلها خير، فلا ينال الطيبون فيه إلا طيبا، ثم قال تعالى: (وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ)، (اللام) لام التوكيد، وإنها كل موضع الثناء، والحمد، وهي نعم الدار، وذكر المتقين بالإظهار بدل الإضمار للإشارة إلى أن(8/4166)
التقوى هي السبب في هذا الجزاء، وللدلالة على أن ثواب الآخرة خير للمتقين دون غيرهم.
ثم بين سبحانه ثواب الآخرة أو بعضه، فقال.(8/4167)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
(جَنَّاتُ) بدل أو عطف بيان لدار المتقين، إنها (جَنَّاتُ عَدْن) بها إقامة دائمة ثابتة يجتمع فيها جمال المنظر، والري، (تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) وتلك متعة النظر، فيكون خرير الماء مع ما يحوطه من خضرة تسر الناظرين بنضرتها، وترتاح النفوس بمنظرها، وبين بعد ذلك أن هذا المنظر الجميل الذي يشرح الصدر معه التمكن من كل ما يحبون؛ ولذا قال بعد ذلك: (لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ) من خير، وما يريدون من طيب لَا يمنع عنهم شيء، وإذا كانوا قد حرموا في الدنيا من مال ونسب فهم في الآخرة ممكنون، وإذا كانوا قد صبروا أنفسهم لله تعالى فإن الله تعالى قدر عناءهم بأن مكنهم من كل ما يريدون، منطلقة إرادتهم ومشيئتهم، وقال تعالى في آية أخرى: (. . . وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُن. . .).
(كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ)، أي كهذا الجزاء الذي نراه للذين اتقوا ربهم يجزى الله المتقين دائمًا، وهذا تشبيه أو تصوير لمعنى المكافأة الذي يكافئ الله تعالى بها عباده، فهو تصوير للمعنى الكلي في جزاء الله للمتقين بهذه الحال التي ينالها المتقون، وهم المحسنون الذين أتقنوا أعمالهم، بإحكامها وأحكام الخير وإحسانه يكون أولا بتطهير النفس من الأهواء، والآثام، ويكون بالنية الصادقة الصافية، وثانيا بالعمل الصالح.
وإذا كان سبحانه قد بين كيف يستقبل المستكبرون عندما تتوفاهم الملائكة، فقد بين أيضا ما يستقبل المخلصون، فقال:(8/4167)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
ولقد وصف اللَّه سبحانه وتعالى المستكبرين بأنهم ظالمون أنفسهم، وهم في هذه الحال التي أوقعتهم في رجس وفسوق، فإنه سبحانه قد وصف المتقين بأنهم طيبون، والطيب ضد الخبيث، وضد الشرير، فوصفوا بأنهم طيبون؛ لأنهم خلصوا من الشرك والظلم والاستكبار، ولأنهم صالحون في ذات أنفسهم زكية نفوسهم طيبة راضية مرضية، وطيبة حياتهم من بعد.
والطيبة وصف للنفوس المطمئنة الراضية غير المعتدية الآثمة، وهو وصف جامع لكل الخلال الباطنة والظاهرة يوصف به كل الذين لَا يحملون ضغنا، ولا يحقدون، ولا يعتدون، وينصرفون لذات أنفسهم يصلحونها، ويراقبونها، ولا يكون منهم للناس إلا ما فيه مصلحتهم، و (طَيِّبِينَ) حال من المفعول، وقوله تعالى: (يَقُولُونَ) في الآية حال من الملائكة، والمعنى يتوفونهم قائلين لهم: (سَلامٌ عَلَيْكُمُ) إيناسا لهم بالتحية ودعوة لهم بالأمن والاطمئنان، وبث روح الأمان، وبشرى لهم، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)، ويقولون مع هذا السلام المؤمن المبشر: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) الباء باء السببية، أي لسبب عملكم الذي عملتموه غير مدخرين في سبيل الخير، وقوله تعالى: (كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، تدل على استمرار العمل، لأن كان تدل على الماضي مع الدوان في مثل هذا المقام، كقوله تعالى؛ (. . . وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا)، وقد جمع بين الماضي في (كان) والمستقبل في (تَعْمَلُونَ)، فكان دالا على استمرار عملهم، وكان صالحا، واللَّه تعالى يجزيهم أحسن الجزاء.
* * *(8/4168)
تفكير المشركين
قال تعالى:
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
* * *
جاءتهم المعجزة الكبرى التي تتحدى الأجيال كلها، وتحداهم اللَّه تعالى بها أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فطلبوا معجزات حسية كمعجزات الأنبياء السابقين، فجاءتهم، انشق القمر، فقالوا: سحر مستمر، أي أعينهم سحرت فتبين كذبهم، لأن المسافرين رأوه كذلك، وجاءهم بالإسراء من مكة إلى المسجد الأقصى، وذكر لهم الأمارات الدالة.
أتى لهم بالمعجزة الكبرى، وهي التي تتناسب مع خلود شريعته، إذ يبقى صامدًا يقارع الزمان والأقوام ويقيم لهم الدليل على أنه من عند اللَّه، ولكنهم أرادوا آية مادية، فجاءتهم الآية تلو الآية، ومع ذلك لم يؤمنوا، ولذلك قال تعالى:(8/4169)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)
(هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ).
لقد طلبوا أن يكون معه ملك، فقال تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)، (أَوْ يَأتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ)، أي العذاب(8/4169)
المستأصل، كما نزل بقوم لوط، وعاد وثمود، وفرعون، وقد ذكر أنه فعل ذلك بالذين من قبلهم وأنهم طلبوه فأجيبوا، فقال: (كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) أنهم استهانوا، وكابروا، ولجوا في إنكارهم، وطلبوا استعجال أمر اللَّه فيهم فعجل، ولكنه لم يفعل ذلك مع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهو لم يرسل لجيل يستأصله إذا لم يؤمن، بل أرسل للأجيال كلها فإذا كفر جيل، كان رجاء الإيمان في جيل يليه، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في قومه - وقد آذوه -، وبين اللَّه تعالى على لسان الملائكة أنه ينزل بهم ما يريد، فقال خاتم النبيين: " إني لأرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله " (1).
وقوله: (هَلْ يَنظُرُونَ) الاستفهام فيه للإنكار، وهو وصف لحالهم في كفرهم بالآيات، أي حالهم أنهم لَا ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتيهم أمر الله. وقد بين اللَّه أن أمره نزل بمن سبقوهم مثل قوم نوح، وعاد وثمود، وأصحاب الأيكة، وفرعون ذي الأوتاد أن ذلك لم يكن ظلمًا من اللَّه لهم، بل كان ظلما من أنفسهم لأنفسهم، فقال عز من قائل:
(وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
إن المذنب إذا نزل به عقاب ذنبه لَا يقال إن من أنزل به العقاب هو الذي ظلم، إنما الظالم هو من ارتكب سبب العقاب فهؤلاء بارتكابهم سبب العذاب الذي جاء بأمر الله ظلموا أنفسهم، وهنا أمران بيانيان نشير إليهما:
الأمر الأول - التعبير بـ (كَانُوا) فهو دال على استمرارهم في أسباب ظلم أنفسهم من إنكار وجحود ومكابرة.
الأمر الثاني - تقديم كلمة (أَنفُسَهُمْ)، على (يَظْلِمُونَ) للإشارة إلى أن مما ارتكبوا من آثام كان يقع على أنفسهم، لَا على غيرهم وللاهتمام والتخصيص.
________
(1) متفق عليه وقد سبق تخريجه.(8/4170)
وقد أكد سبحانه هذا المعنى السامي فقال:(8/4171)
فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
(فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (34)
الفاء فيها بيان ترتيب الإساءة على ما ارتكبوا من سيئات، فهي تبين كيف ظلموا أنفسهم، فقال: (فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا)، أي فأصابهم جزاء سيئات مما عملوا، فالكلام على تقدير مضاف، وفي هذا التفسير بيان لأنهم ظلموا أنفسهم بأن تسببوا في العذاب الذي نزل، فكانوا به ظالمين لأنفسهم، وحذف المضاف مع بقاء المضاف إليه للإشارة إلى الجزاء كالسيئات تماما، حتى كأنه هو.
وإن السيئات تترادف يجيء بعضها تلو بعض، حتى تتراكم فيظلم القلب وحينئذ تفسد كل أسباب الإدراك وتكون قلوبهم غلفا، ويتوالى منهم الفساد، فيكون ذلك سببًا في أن ينزل بهم عذاب اللَّه، ويكونون ظالمين لأنفسهم. وقوله تعالى: (سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا) فيه إشارة إلى أن اللَّه لَا يأخذهم إلا بالسيئات، وهي ما يسوء في ذات من الأفعال، وما يسوء الناس، وما يصدهم عن الحق المبين.
(وَحَاقَ بِهِم)، أي أحاط بقلوبهم عملهم السيئ، حتى أصبحوا لا يدورون إلا في فلكه، واستعمال (حاق) بمعنى أحاط لَا يكون إلا في السوء، فالحيق لَا يكون إلا في إحاطة الشر.
وقوله تعالى: (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)، أي أحاط بهم القول الذي كانوا به يستهزئون، أي جزاؤه وحذف المضاف للإشارة إلى المساواة بين الجزاء والفعل كأنه هو.
ويصح أن نقول إن المراد، أن يحيط بهم الاستهزاء نفسه تقريعا ولوما، وإشعارا لهم بأنهم المستهزئون المحقرون، ومن كانوا موضع استهزائهم السخيف هم الأكرمون عند اللَّه.(8/4171)
وإن تفكير السيئين دائما أدب يحملوا أوزارهم وأوزار غيرهم، كما جاء سارق فقيل له لِمَ سرقت؛ فقال: ذلك قضاء اللَّه فكأنه يحمل اللَّه تعالى ما ارتكب، كذلك تفكير المشركين.(8/4172)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
(وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
إن الذين أشركوا وكانوا يخاصمون النبي - صلى الله عليه وسلم - قوم خصمون يحتجون على النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل ما يتوهمون أن فيه حجة لهم، غير مدخرين قولا ولو كان باطلا في ذاته، ولا يؤمنون به.
قالوا متحدينِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقولهم أن ينزل بهم عقاب ماحق، (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)، أي لو شاء ألا نشرك، وألا نحرم شيئا حلالا مما حرمنا، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام، لأنزل بنا عقوبة رادعة مانعة قاطعة، ولكنه لَا ينزل، وينذر ولا ينفذ، فهو تحد للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل بهم ما أنزل اللَّه على الأقوام قبلهم؛ ولذا قال تعالى من بعد ذلك: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)، أي لَا يملك إنزال العذاب، وإنما الذي يملكه اللَّه تعالى، وهو ليس عليه إلا البلاغ، وقد بلغ وأنذر.
هذا تخريج الحافظ ابن كثير، وهو تخريج مستقيم تتناسق فيه العبارات، وتتلاقى المعاني.
وهناك تخريج آخر يقاربه ولا يباعده، وهو أنهم يقولون ذلك استهزاء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وتهكما، بأنه لو كان يستطيع التغيير لغير، ولكن اللَّه رضي لنا ذلك، فيقول اللَّه (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) وهو قرب من الأول في معناه، وإن خالفه بعض المخالفة في مبناه.(8/4172)
وهناك تخريج ثالث، وهو الذي ضرب على نغمته الزمخشري، وسار في مساره غيره، وإن خالفوه في النتيجة، وذلك التخريج أنهم يسندون إلى اللَّه وزرهم في الشرك فيقولون: إن شركهم بمشيئة اللَّه وما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن فلو شاء ألا نعبدهم من دونه ما حرمنا، فكيف نحاسب على أمر شاءه اللَّه تعالى، وبذلك يربطون الأمر بالإرادة، فيقولون: إن أمرا يجب أن يكون ملازما لإرادته، ولا يأمر اللَّه بشيء لم يرده، فيقول لهم: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)، أي ليس على الرسل إلا البلاغ، وهو تبيين أمر اللَّه تعالى فلا تجادلوا، وأنهم قد بينوا الحق فلا سبيل للتخلص من أمر اللَّه، وأنكم تحسون في ذات أنفسكم بالاختيار وعلى ذلك يكون.
ونقول إن التخريج الأول تكون الآية متناسقة في ألفاظها وعباراتها ومعانيها، والتخريج الأخير يجعل قوله تعالى: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وفي ربطه ببقية الآيات تكلف، ولو كان المخرِّج له إمام البلاغة الزمخشري.
وهنا إشارات بيانية ترجح التخريج الأول ونشير إليها:
الأولى - في قوله تعالى: (كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ)، أي فعل ذلك الفعل الذي تفعلون فعل الذين من قبلكم، وهؤلاء لم يفعلوا بل قالوا ولم يقل: وكذلك قال الذين من قبلكم، فدل ذلك على أن ما كان منهم ليس مجرد قول بل هو فعل وهو التحدي أو الاستهزاء، وبذلك يترجح التخريج الأول أو الثاني ولا يترجح الأخير.
الثانية - قوله تعالى: (وَلا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءً)، أي ما حرمنا من غير اللَّه من شيء، بل من ذات أنفسنا.
الثالثة - قوله تعالى: (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الفاء للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر إذ تقديره إذا كنتم تتحدون وتطلبون إنزال العقاب فليس هذا لنا، إنما علينا البلاغ الواضح المبين الذي لَا يترك ريبة لمرتاب،(8/4173)
والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الو قوع، أي ليس على الرسل إلا البلاغ المبين، أي التبليغ الواضح وهذه الجملة السامية لَا تخلو من إنذار، ووصف البلاغ بأنه مبين يفيد أنه معلوم بإنذاره فمن اهتدى فلنفسه ومن عاند وخالف فعليه إثم عناده.
والآية هنا رجحنا أنها للتحدي أو الاستهزاء، وفي سورة الأنعام يرجح أنها لتعلاتهم في إثمهم وشركهم، ولذا كان الرد عليهم: (. . . قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148).
* * *
بعث الرسل بالتوحيد والبعث
قال اللَّه تعالى:
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
* * *(8/4174)
بعد أن أشار سبحانه إلى أن على الرسل البلاغ المبين الواضح بأدلته، وآيات اللَّه المقترنة به، بين سبحانه أنه ما ترك أمة من غير نذير، بل بعث في كل أمة رسولها بالحق، فقال عز من قائل؛(8/4175)
وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كلِّ أمة رَّسُولًا).
أكد سبحانه وتعالى بعثه للرسل بأن بعث لكل أمة رسولا، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يكن بدعا من الرسل، أكد ذلك باللام وقد، ولقد عين سبحانه رسالة كل رسول من هؤلاء الرسل فقال: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ).
(أَن) تفسيرية فهي مفسرة بمعنى الرسالة، وهي الأمر بعبادة اللَّه وحده واجتناب الطاغوت.
وقوله تعالى: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ) فيه أمر بالوحدانية ودعوة إليها وتحريض عليها؛ لأن عبادة اللَّه تعالى لَا تكون إلا إذا كان يعبد وحده لَا شريك له.
وقوله تعالى: (وَاجْتَنِبُوا الطَّاغوتَ)، أي ابعدوا عن أنفسكم الطاغوت، أي جانبوه، والطاغوت فعلوت من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، ويشمل مجاوزة الحد في العقول فيعبد ما لَا ينفع ولا يضر، ويشرك مع اللَّه غيره وتتحكم فيه الأوهام، فيرى الباطل حقا والحق باطلا، ويشمل ظلم العباد، والطغيان عليهم، ويشمل الطغيان في المعاملات والظلم، وغير ذلك.
فالدعوة أي الوحدانية واجتناب الطاغوت جامعة لكل معاني الرسالة من عقيدة، وتعامل الناس بعضها مع بعض، هذه رسالة رسل الله في الأرض، اعتقاد سليم، وتعاون وعمل عادل مستقيم.
وقد تلقى الناس رسالة الرسل الهادية المرشدة ما بين مهتد مقتنع مؤمن، وما بين ضالٍّ قد حقت عليه الضلالة، ولذلك قال سبحانه: (فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّه وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ) ومن هدى اللَّه هو الذي سلك طريق الهداية، وأعد قلبه لقبول الحق والاقتناع به، ولم تكن ثمة غواش من حب المادة أو السلطان أو الجاه أو التأثر بما كان عليه الآباء، فيتبع من غير تفكير ولا تدبر بل نقول:(8/4175)
(. . . بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)، فمن كانت حاله كذلك، وهو في هذا متساوق مع الفطرة فإن اللَّه يهديه، ويجعله يتم الصراط التي ابتدأ السير فيها.
وأما من حقت عليه الضلالة، أي ثبتت وتأكدت، فهو الذي لَا يتفكر ولا يتدبر لغواش غشيت قلبه من حب الدنيا وجاهها، وسلطانها، وسيطر على عقله التقليد، والعناد والاستكبار، وبذلك تفسد فطرته التي فطر الناس عليها، ولذا حقت عليهم الضلالة.
وإن أولئك أنزل اللَّه تعالى بهم الدمار في الدنيا، وصاروا عبرة للمعتبرين؛ ولذا قال تعالى: (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ).
(الفاء) الأولى دالة على الإفصاح عن شرط مقدر، أو كلام مقدر تقديره فنزل بهم الدمار والهلاك (فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ)، فستجدون الآثار لمن أهلكهم اللَّه، (فَانطرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُكَذِبِينَ)، أي انظر الحال التي آل إليها أمرهم بسبب تكذيبهم؛ ولذلك أظهر في موضع الإضمار للدلالة على أن ما أصابهم سببه التكذيب، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على أن يهتدي قومه، لرأفته بهم ولرغبته في مصلحتهم، ولأنه يرى إيمانهم من كمال تبليغ رسالته، ويخشى أن يكون قد قصر في التبليغ إن لم يؤمنوا، ولأنه - كصاحب كل دعوة - يريد للناس أن يتبعوها في غير عوجاء ولا اعوجاج، ولكن الهداية ليست بيده، إنما هي بيد اللَّه؛ ولذا قال تعالى:(8/4176)
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
(إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان حريصا على هداية قومه، والحرص هو الرغبة الشديدة في أمر من الأمور، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - راغبا في هداية قومه، والضمير في (هُدَاهمْ) يعود على الذين قالوا: ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء.(8/4176)
وجواب الشرط في (إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ) هو قوله تعالى: (فَإنَّ اللَّهُ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ) ويُضِلُّ هنا معناها من كتب عليه الضلالة، وقدرها له في قدره المحتوم، ولوحه المحفوظ، وذلك لأنه سلك سبيل الغواية ولم يتفكر ويتدبر، وسيطرت عليهم أوهام المادة، والجاه والسلطان وحب السيطرة فإنه تكتب عليه الضلالة، ولترك الله تعالى له سادرا في غلوائه يكون كمن يضله.
(وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ)، أي لَا أحد ينصرهم، وهذا يومئ إلى أنهم يعتريهم عذاب أليم، لَا ينقذهم منه ولي ولا ناصر لهم، وفيه دلالة على أنهم ما داموا قد رتعوا في الغي، فلا يمكن أن يكِون لهم هاد مرشد، وهذا كقوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي من يَشَاء. . .).
وإن هذا الجحود سببه أمران:
الأمر الأول - الاستكبار، وقد تكلمت الآيات القرآنية في آثاره.
والأمر الثاني - جحود اليوم الآخر، وقولهم: إن هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب، وقد بين الله تعالى حالهم في جحودهم اليوم الآخر فقال تعالى:(8/4177)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
(جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ)، الجهد مصدر بمعنى الطاعة والقوة، ومعنى أقسموا بالله جهد أيمانهم أي جاهدين بأقصى قوتهم في تأكيد يمينهم، والمقسم عليه (لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) مأسورين في ذلك بالحمال التي وقعت، وهي الوقت ويحسبونه فناء لَا حياة بعده، ويحسبون أنه لَا شيء غير المادة، ولا يؤمنون بالمنشئ الموجد، وإن كانوا يقولون: الله خالق كل شيء، ولكنه قول لَا يتغلغل في قلوبهم، ويستمكن في نفوسهم، روى البخاري أن رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - قال في حديث قدسي: " كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي، كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا وَأَنَا الأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفْئًا أَحَدٌ " (1).
________
(1) رواه البخاري: تفسير القرآن (4592). كما أخرجه النسائي: الجنائز (2051)، وأحمد: باقي مند المكثرين (7873).(8/4177)
رد اللَّه تعالى قسمهم الباطل بقوله تعالى - بلى - وهي تدل على الإجابة بالنفي وهو ما أكدوه، ثم أكد سبحانه وتعالى الجواب بالنفي بقوله تعالى: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) ووعدا مصدر، ووصفه بأنه حق ثابت مستقر لَا مجال لإخلافه، وقال تعالى: (عَليه)، أي أنه سبحانه التزمه، وكيف يترك ما التزمه ولا ملزم له، إنما هو الملتزم.
وبين سبحانه أن أكثر الناس غلبتهم المادة، وسيطرت عليهم الأحوال التي يرونها، وتركوا المغيب عنهم فلم يدركوه، ولم يؤمنوا بالغيب، ولذا قال تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الاستدراك هنا من الوعد المؤكد الثابت الذي ألزم اللَّه تعالى به نفسه، إذ كان الواجب عليهم أن يعلموا من قياس القابل على الحاضر ولكن أكثرهم لَا يعلمون، أي ليس من شأنهم أن يدركوا، وأن يعلموا لأنهم لم يؤمنوا بالغيب، ولم يعرفوا قدرة ربهم، وما المراد (بالناس)؟ إن أريد المشركون فكلهم لَا يعلمون ذلك، وقيل المؤمنون، وإن أريد الناس جميعا، فإن أكثرهم لا يؤمنون بالعودة، ومن اعتقد منهم لَا يذعن، وإلا ما كانت المعاصي التي ترتكب جهارًا، فهي لَا ترتكب إلا من غفلة في الإيمان باليوم الآخر، وقد بين اللَّه تعالى الغاية من البعث، فقال تعالى:(8/4178)
لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
(اللام) متعلقة بما قبلها، أي أنها في مقام التعليل لوعد اللَّه الحق الثابت المؤكد الذي ألزم اللَّه تعالى به ذاته العلية، والمعنى أن اللَّه تعالى ما خلق الناس عبثا كما في قوله تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)، فالله تعالى لم يخلق الإنسان، ولم يجعله كالبهائم، بل خلقه ومعه عقل يتفكر ويتدبر، وحيث كان التفكير، كان الحساب على الأفعال، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، والدنيا لَا تتسع لكل حساب الأعمال، فلابد من أخرى يحاسب فيها على جميع الأفعال، والأناسي منهم المظلوم المحروم، ومنهم الظالم(8/4178)
المجدود (1)، فلابد من يوم يستوفي فيه كل ذي حق حقه، ينال كل ثمرة ما كسب، ومن نوع ما كسب.
وذلك هو ما يكون بعد البعث، وهذا معنى ليبين لهم الذي يختلفون فيه من حق وباطل وعدل وظلم، ويكون كل ذلك أمام الحكم الذي يفتح بين الناس، ويفصل بينهم بالحق وهو خير الفاصلين، (وَلِيَعْلَمَ الَّذِين كَفَرُوا أَئهُمْ كَانوا كاذِبِينَ).
(اللام) هنا للعاقبة، بينما اللام الأولى للتعليل؛ ولذا كررت اللام لتغاير معناها، ومعنى العاقبة أنهم كانوا يكفرون بالبعث، ويكذبون الرسل في الدعوة إلى الإيمان، ويشركون ويكذبون الرسل في الدعوة إلى التوحيد، فإذا كان البعث والحساب والعقاب لمن أنكر وكابر وأشرك، والثواب لمن آمن وأطاع وصبر وجاهد فإن عاقبة ذلك الذي يرونه حسيا أن يعلموا أنهم كانوا كاذبين في كل ما ادعوا وأنكروا، وباهتوا الرسل والمؤمنين، وعبر بالموصول (الَّذِين كفَرُوا) لبيان أن كفرهم هو السبب في تكذيبهم، وأكد سبحانه وتعالى علمهم بكذبهم، أولا:
بـ (أن) (المؤكدة، وثانيا: بـ " كان " الدالة على دوامهم على الكذب بدوام كفرهم، وثالثا: بالجملة الاسمية، واللَّه سبحانه يعلم الغيب في السماوات والأرض وإليه ترجعون.
وإن السبب في إنكارهم البعث هو أنهم مأسورون بالمادة والحاضر الذي بين أيديهم وأنهم لَا يقدرون قدرة اللَّه تعالى حق قدرها؛ ولذا أشار سبحانه وتعالى إلى كمال قدرته على الخلق والتكوين، وأنه ليس إلا أن يريد الشيء فيكون، فقال اللَّه تعالى:
________
(1) المجدود: اسم مفعول بمعنى المحظوظ. الصحاح/ جدد.(8/4179)
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
(إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
(إِنَّمَا) " أداة قصر " أي أن خلق الله للأشياء محصور في هذه الطريق السهلة التي لَا تمتنع عليه بشيء، ولسنا نبحث في سر الخلق والتكوين، فنسأل(8/4179)
كيف خلق اللَّه الناس، إنما نتعرف ذلك من قوله سبحانه، وهو يدل على أن اللَّه تعالى يخلق الأشياء بإرادته المختارة، فلم تنشأ عنه الأشياء نشوء المعلول عن علته، فذلك وهم تعالى اللَّه عنه سبحانه، ولذا قال سبحانه: (إِنَّمَا قَولُنَا لِشَيْء)، أي حاله وشأنه في قدرته وتكوينه للأشياء (إِذَا أَرَدْنَاهُ)، أي أراده بإرادة حرة مختارة، وأنه فعال لما يريد (أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون)، أي احدث وكن شيئا مذكورا، فيكون، ومعنى هذا أنه سبحانه وتعالى لَا يصعب عليه شيء في الوجود، فلا يتكلف كائن في الوجود أكثر من قوله كن فيكون، وهذا تصوير لسهولة الخلق عليه تعالت قدرته، وذلك كقوله تعالى: (. . . وَمَا أَمْرُ السَّاعَة اٍلَّا كلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ. . .).
وهذا كله للعاقل المستبصر المدرك، ولقد كانوا يعجبون كيف يعودون. ولقد فنيت أجسام الأموات فقال تعالى مبينا أن شيئا لَا يصعب على إرادته، فقال: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52).
* * *
المؤمنون
قال اللَّه تعالى:
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
* * *(8/4180)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
(وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
الهجرة ترك الدار لغاية سامية أو لطلب الرزق، وقد حبب اللَّه تعالى في هاتينِ الحالتين، فقال تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثيرًا وَسَعَةَ. . .).
وقد كانت هجرتان: هجرة إلى الحبشة فرارًا بالدين من الذين ظلموا، ومن هؤلاء عثمان بن عفان وجعفر بن أبي طالب وعدد من الصديقين والصديقات بلغت عدتهم ثمانين أو يزيد، والهجرة الكبرى إلى المدينة وفيها هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن هذه السورة مكية، أي أنها كانت قبل الهجرة الكبرى فالذين هاجروا في الآية هم المهاجرون إلى الحبشة.
وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ) الفاء هنا للسببية، أي لأجل اللَّه تعالى، وذكر الفاء يومئ إلى أنهم فنوا في اللَّه فصاروا لَا يفكرون في غيره، وصار هو ملء قلوبهم ونفوسهم وعقولهم، وأحاسيسهم فكلهم له سبحانه وتعالى لا يفكرون إلا فيه، ويهون كل عذاب في سبيله.
وقال سبحانه وتعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا) و (مَا) هنا مصدرية، أي من بعد ظلمهم، وقد كتب اللَّه تعالى لهم الجزاء الحسن لصبرهم على الأذى، ونزول الظلم بهم، وهجرتهم ببعدهم عن الخلان والأحباب، والديار والأموال، وبيع أنفسهم للَّه تعالى حتى لَا يطلبوا إلا مرضاته.
وقد قال تعالى في جزائهم: (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً)، (اللام) لام أقسم وهي مؤكِّدة، والقسم مؤكد، ونون التوكيد مؤكدة، والحسنة الأمر الذي يكون حسنا لَا إساءة فيه في ذاته ولا في مغبته، و (نبوئنهم) نمكنهم في الحسنة كأنهم يفتقدونها ويستمكنون منها، والحسنة في الدنيا التي نالت المؤمنين والمهاجرين من بعد هي العيش الحسن، وقد نزلوا من بعد الحبشة المدينة هم ومن كانوا في مكة يلاقون الظلم والإيذاء بكل أنواعه والاستهزاء والسخرية، فالتقوا في دار الهجرة.(8/4181)
ومن حسنة الدنيا النصر على الشرك وأهله، وغنائم النصر، والتعاون والإخاء، وإقامة حياة فاضلة في المدينة.
هذه حسنة الدنيا (وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، (اللام) لام الابتداء للتوكيد، وأجر الآخرة أكبر لأنه نعيم مقيم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، فأكل الجنة دائم لَا ينتهي، وقال: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، والضمير في يعلمون يعود إلى المؤمنين، و (لَوْ) تكون للتمني، أي ليتهم يعلمون ذلك علم العيان والرؤية، لَا علم الخبر والذكر، وفي ذلك بيان لفضله، وعظم شأنه، كأنه فوق الخيال والتصور، واختار الزمخشري أن يكون للكفار ولكنه بعيد، وقد قال تعالى في سبب استحقاقهم ذلك الجزاء العظيم.(8/4182)
الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
(الذينَ) عطف بيان للمهاجرين، لقد صبر المهاجرون أبلغ الصبر، صبروا على الذي نزل بهم، والظلم الذي وقع عليهم والاستهزاء والسخرية بهم، وتصغير شأنهم، وتحقير أمرهم، وكأنهم الأرذلون، وهم الأكرمون، وصبروا على ترك الأحباب، وترك الأموال وترك الديار.
صبروا على كل ذلك، وعلى أن المشركين حاولوا أن يسدوا باب الأمل في نفوسهم لولا فضل من اللَّه ورحمة، ولكنهم مع ذلك كان أمامهم ربهم فتح لهم السدود، بالتوكل عليه؛ ولذا قال تعالى: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، أي على ربهم وحده، لَا على أحد سواه يتوكلون، وعبر بالمضارع لدوام توكلهم، وقدم الجار والمجرور على الفعل للتخصيص، أي على اللَّه وحده يتوكلون فهو الذي يفتح لهم الأبواب التي يسدها الشرك، ويكون من ورائها الانتصار.
ولقد كان المشركون يعترضون على الرسالة المحمدية بأنها لرجل، ويريدون ملائكة، فبين اللَّه تعالى أن الرسل جميعا من الرجال، فقال عز من قائل:(8/4182)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
ليس عجبا أن يوحي اللَّه تعالى إلى رجل منكم، وما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - بدعا في الرسل، بل كان الرسل من أقوامهم يحسون بإحساسهم، ويتألفونهم ويعرفونهم في ماضيهم الطاهر المنزه، ولم يرسل رسولا إلا إذا كان من قومه وكان رجلا منهم؛ ولذا قال تعالى: (ومَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا)، فما أرسلنا ملكا؛ لأن طبيعته ليست من طبيعة الإنسان، وهو روح غير جسد، (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ)، الأمر أهو ملك، أما إنسان، وإن امتياز هذا الرجل الرسول من بينهم أنه يوحى إليه، وينزل عليه جبريل الأمين برسالته؛ ولذا قال: (نُّوحِي إِلَيْهِمْ)، هذه قراءة بالنون المعظم للمتكلم، وهو اللَّه تعالى، وأي متكلم أكبر وأعظم من رب البرية، وهذا كقوله تعالى في آية أخرى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى. . .)، ولقد قال سبحانه وتعالى على لسان رسوله: (. . . قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا).
ولقد نبههم سبحانه إلى أن عليهم أن يتعرفوا الأمر من أهل المعرفة، فقد كانوا أميين منقطعين عن الرسالة فأراد سبحانه أن يوجههم إلى سؤال أهل المعرفة: (فَأسْألُوا أَهْلَ الذِّكرِ إِن كُنتمْ لَا تَعْلَمُونَ)، (الفاء) تفصح عن شرط مقدر، أو واقعة في جواب الشرط (إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) وأهل الذكر هم أهل التفكر والتدبر والعلم بالأشياء على وجهها، ويدخل في هؤلاء أهل الكتاب، أي إن كنتم لا تعلمون هذه الحقائق، فلا تعجبوا في الأمر لمجرد أنه يثير عجبكم واستغرابكم، بل تعرفوا الأمر من أهل الذكر والحكمة والمعرفة وأهل الكتاب ليزول عجبكم واستغرابكم، وذلك مع المعجزة الكبرى التي قدمها لكم، وتحداكم أن تأتوا بسورة من مثله، وما زال يتحداكم وهكذا نرى القرآن الكريم يصرف الآيات ليدركوا وليستبينوا الحق.(8/4183)
ولقد أشار سبحانه بعد ذلك إلى ما جاء به الرسل والأنبياء،(8/4184)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
(بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) بين هذه الجملة وما قبلها تمام الاتصال، لأنها في معنى البيان لها، (بِالْبَيِّنَاتِ)، متعلق بمحذوف دل عليه الكلام السابق، أي أرسلناهم بالبينات، وهي الآيات الدالة على رسالتهم، (وَالزُّبُرِ) الزبرِ جمع زبور، وهو الكتاب، يقولون زبرت الكتاب إذا كتبته، وقد قال تعالى: (وكُلُّ شيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ)، وكما قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ).
والمعنى أن هؤلاء أرسلوا رجالا ولا يكونون إلا رجالا مصحوبين بالبينات أي المعجزات الدالة على أنهم مبعوثون من عند اللَّه، وجاءتهم منهم الكتب التي تبين فيها الشرائع التي أراد اللَّه تعالى أن يعلموها للناس، وقد جئتهم بذلك وبالحق فما لهم يستنكفون عن قبول ما تدعوهم إليه، ويعجبون من أن يجيئهم الحق من اللَّه على لسان رجل منهم.
ثم قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكرَ)، الذكر هو القرآن الكريم، وسمي القرآن هنا ذكرا، لأنه مذكر الأنبياء السابقين ورسائلهم، ما نسخ منها وما بقي، ولأنه الذكر الدائم إلى يوم القيامة، ولأن الذين نزل فيهم القرآن شهدوا على الناس بأن ما نزل إليهم من شرائع حق، واللَّه شهيد عليهم، ألم تر إلى الذين ادعوا أنهم أتباع عيسى وحرفوا العقيدة، وجعلوها وثنية مثلّثة صحح القرآن عقيدتهم وردها إلى أصلها، وشهد القرآن والمؤمنون بالصادق، وبطل ما صنعوا وحرفوا وثلثوا.
وقوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، (اللام) هنا لام العاقبة، لتكون الثمرة والنتيجة والعاقبة أن تبين بالقرآن الذي نزل على قلبك للناس ما نزل إليهم من ربهم في الماضي والحاضر، وما هو شريعة ربهم الأزلية الخالدة الباقية، كما قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ(8/4184)
إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. . .).
وقوله تعالى: (وَلَعَلَّهمْ يَتَفَكَّرُونَ)، أي رجاء منهم أن يتفكروا ويتدبروا ويبتعدوا عن الجحود والكفر، وكان العطف بالواو للدلالة على أن هذه غاية وثمرة للنزول كتبيين النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
تنبيه وإنذار
قال تعالى:
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
* * *
كان المشركون من وقت أن بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم بأمر ربه لَا يفكرون فيما اشتملت عليه من حق، ولا في ماضيه الذي يدل على الصدق والأمانة، وأنه كان الأمين فيهم حتى سمي بذلك، ولا في حقيقة ما يدعو إليه، ولا في حقيقة ما هم عليه من عبادة الأحجار التي لَا تضر ولا تنفع لَا يفكرون في شيء من ذلك، إنما يفكرون في مقاومة الدعوة وصدوا عن غير المقاومة صدودا، ودبروا لإيذاء(8/4185)
المستضعفين، والسخرية بالمؤمنين، والاستهزاء بأهل الحق ويقتلون الذروة والغارب ليقضوا على الدعوة، حتى إنهم ليقتسمون مداخل مكة، ليشوهوا دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا الحجيج، يفعلون كل ذلك ونسوا أن اللَّه تعالى قد ينزل بهم العذاب؛ ولذا قال تعالى منبها لهم منذرا:(8/4186)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)
(الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها وهو حالهم التي هم عليها، ولكن تأخرت الفاء؛ لأن الصدارة تكون للاستفهام والمعنى أفعلوا ما فعلوا ودبروا السوء، وآذوا ودبروا الأمور المسيئة في نفسها أفأمنوا أن يخسف اللَّه تعالى بهم الأرض، بأن تنحط الأرض حتى تبتلع ديارهم وأموالهم، أغفلوا وأمنوا مكر اللَّه وقد دبروا السيئات وفعلوا وأرادوا، ويميل بعض المفسرين إلى أن السيئات وصف لموصوف محذوف تقديره " أفأمن الذين مكروا المكرات السيئات "، ونحن نرى أنه لَا حاجة إلى تقدير موصوف محذوف؛ لأن المكر وهو التدبير متجه إلى إنشاء السيئات فهم دبروا السيئات في إيذاء المستضعفين، ودبروا السيئات في الأقوال والأفعال طوال إقامة النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهم في مكة، لم يتركوا نوعا من السيئات إلا دبروها.
وهم يعلمون قوة اللَّه القاهرة، وأنه الذي يلجأ إليه في الملمات، فلم يكونوا جاهلين لها، وإن عبدوا مع اللَّه الأحجار والأوهام، فإذا نبههم اللَّه تعالى بأنه قادر على خسف الأرض من تحتهم فهم لَا يجهلون ذلك.
وقد قال تعالى منبها لهم، ومثيرا لعلمهم بقدرة اللَّه تعالى: (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17).
ثم قال تعالى:.(8/4186)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
(أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
(أو) عاطفة (الْعَذَابُ)، هو العذاب الدنيوي المدمر كالذي نزل بقوم لوط، فجعل اللَّه عالى الأرض سافلها، أو تأتيهم ريح صرصر عاتية، أو ريح فيها عذاب شديد، يكون(8/4186)
مفاجئا لهم لَا يعلمون بوقوعه، ولا يتوقعونه وهذا معنى لَا يشعرون، أي لا يعلمون ولا يتوقعون بل ربما كانوا يرجون الخير، كقوله تعالى في عاد: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24).
ثم يقول تعالى منذرًا بالعذاب الشديد:(8/4187)
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
(أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46)
إن أخذهم وهم لَا يشعرون يكونون وهم في مساكنهم مطمئنون أو قابعون في ديارهم وهم لَا يعرفون آثار مكرهم السيئات وتدبيرهم الفاسد لأهل الإيمان والكرامات، ولذا لَا يشعرون، وقد يأخذهم وهم متنقلون في الأسفار يسيرون في مسارها، ويتنقلون لمتاجرهم، وقد يأخذهم اللَّه وهم كذلك لَا يفكرون إلا في الكسب والخسارة والربح وسائر أبواب التجارة؛ ولذا قال تعالى: (أَوْ يَأخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ)، أي في انتقالاهم من بلد لبلد، يتقلبون في البلاد، والتقلب تعبير عربي قرآني يؤكد به الانتقال من بلد إلى بلد تاجرا، أو سائحا، وكان في ذلك مجازا إذ شبه التنقل من بلد إلى بلد بالكرة المتقلبة من وضع إلى وضع، وهي تنقله من مكان إلى مكان.
وإذا كانوا قد أحيط بهم، فهم في مأمنهم غير آمنين، وفي أسفارهم غير مطمئنين فهم في قبضة الله تعالى؛ ولذا فما هم بمعجزين الله تعالى أن ينزل بهم ما يريد، فاستقيموا على الطريقة، وإلا أخذكم أخذ عزيز مقتدر، كانت الصور السابقة في أخذ بالخسف أو العذاب من حيث لَا يشعرون، أو وهم في حال تقلبهم في البلاد بالمتاجر لَا يخافون، فقد ينزل العذاب وهم يتخوفون من العذاب، ولكنهم مصرون على سببه من مكر السيئات، وتدبير الموبقات للمؤمنين ضعفائهم وكبرائهم بالاستهزاء والسخرية.
ولذا قال تعالى: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ... (47)
أي تخوف من العذاب أن ينزل بهم كما نزل بالأقوام قبلهم فهم يعروهم الخوف، ولكن لَا يصل إلى حملهم على الإيمان، ولكن يتخوفون أن ينزل بهم، وقد يفسر التخوف بمعنى النقص، أي(8/4187)
ينقص اللَّه من أموالهم شيئا فشيئا. كما فعل سبحانه وتعالى بقوم فرعون إذ قال سبحانه: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْص مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)، فالتخوف هو النقص حتى يكون الهلاك من بعد ذلك.
ولقد ذكر الزمخشري في ذلك ما نصه: " وقيل هو من قولك: تخوفته إذا تنقصته، قال زهير:
تخوَّف الرحل منها تَامكا قَرِدا ... كما تخوف عود النبعة السَّفن
أي يأخذهم على أن يتنقصهم شيئا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا، وعن عمر رضي اللَّه عنه أنه قال على المنبر: ما تقولون فيها، فسكتوا فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا، التخوف التنقص قال: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم قال: شاعرنا وأنشد البيت، فقال عمر: أيها الناس عليكم بديوانكم، قالوا: وما ديواننا، قال: شعر الجاهلية ".
ومعنى النص السامي أن العذاب يأتيهم وهم لَا يشعرون وهم في مأمنهم قابعون، أو يأتيهم في متاجرهم ومتقلبهم مقبلين، أو يأتيهم بنقص وهلاك بطسء فينتهون وهم قد عرفوا الابتداء ولم يعرفوا الانتهاء.
وقد ختم اللَّه سبحانه آيات الإنذار بقوله: (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رحِيمٌ).
ووصف اللَّه سبحانه وتعالى ذاته بالرأفة والرحمة مع هذا التهديد الشديد، لأن رأفته بهم، ورحمته العامة، اقتضت ألا يعاجلهم بالعقاب، فهو سبحانه يبين لهم أنه قادر على العقاب ينزله بهم في أي باب من هذه الأبواب، ولكنه لم يعجل رأفة بهم وهو رحيم رحمة عامة للناس.
وفوق ذلك فإن الإنذار بالعقوبة، بل العقوبة نفسها رحمة بالكافة، فليس من الرحمة بالكافة أن يترك الظالم في غيه يرتع ويلعب ويعبث بالكرامة الإنسانية، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من لَا يرْحَمْ لَا يُرْحم " (1)، وقد ثبت في
________
(1) سبق تخريجه.(8/4188)
الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله أنهم يجعلون لله ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم "، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " (1).
ويوجه سبحانه وتعالى الأنظار إلى الخلق والمخلوقات ففيها الدلالة على وحدانية الخالق، وفيها الدلالة على قدرته القاهرة وإرادته الظاهرة وفيها الدلالة على خضوع الوجود كله له سبحانه ساجدا داخرا صاغرًا، فقال عز من قائل:
________
(1) رواه البخاري (4318)، ومسلم: البر واصلة تحريم الظلم (4680).(8/4189)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
الهمزة داخلة على فعل محذوف يقدره المقام والمعنى يفعلون ما يفعلون معاندين مجاهرين بالعصيان، ولم يروا ما خلق اللَّه من شيء، و (مِن) بيانية، أو لاستغراق النفي والاستفهام هنا إنكاري؛ لإنكار الوقوع وهو داخل على نفي، ونفي النفي إثبات، والمعنى انظروا (وفكروا) إلى ما خلق من أشياء تتفيأ ظلاله، أي لها فيء، ولهذا الفيء ظل، وتتداخل ظلاله، فالجبال لها فيء والأشجار لها فيء، وكل فيء له ظل، فتتفيؤ هذه الأفياء، ويكون ظلال كما ترى الشجر المتداخل تتفيأ الظلال ذات اليمين وذات الشمال، وعبر عن الجانبين المقابلين باليمين والشمال، فقوله عن اليمين والشمائل، عن الجانب اليمين من ناحية الشرق، وعن الشمائل من جهة الغرب، وذلك بالنسبة للكعبة فما يكون على شرقيها يكون يمينا، وما يكون عن غربيها يكون شمالا، وعبر عن اليمين بالمفرد ويراد به الجمع؛ لأنه أفياء مختلفة تطول ابتداء وتقصر عند الظهيرة، ثم تكون الأفياء ناحية الغرب تبتدئ قصيرة من فيء الزوال ثم تكبر شيئا فشيئا حتى تستطيل طولا كثيرا.
وفى التعبير عن اليمين بالمفرد إشارة إلى نهايته، وإلى أنه لَا يرى إلا قصيرا(8/4189)
بينما الشمال لَا يرى إلا طويلا، ويزداد شيئا بعد شيء؛ ولذا عبر فيه بالجمع وهو شمائل، والاثنان جمع، فهو أفياء كما ذكرنا.
والتعبير بفيء ليضمنها معنى المجاوزة، أي إن تجاوز إلى اليمين أو تجاوز إلى الشمائل تكون أفياء، وقوله تعالى: (سُجَّدًا)، أي أن هذه الأفياء ساجدة خاضعة للَّه تعالى، تسبح بحمده كما يسبح الرعد بحمده، وقوله تعالى:
(دَاخِرُونَ)، أي صاغرون خاضعون، وجمعت جمع عقلاء، تنزيلا لها هذه المنزلة لخضوعها وتسبيحها بحمده سبحانه وتعالى، وهو على كل شيء قدير.(8/4190)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
السجود هنا كالسجود في الآية السابقة الخضوع الكوني للَّه تعالى والتسبيح بحمده، ولكن لَا نفقه تسبيحهم، كما ذكر اللَّه تعالى في قوله تعالى: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15).
وذكر سبحانه ما في هذه الآية لعمومها ما في السماوات من كواكب ونجوم، وشمس وقمر وغير ذلك مما في السماوات ثم قال تعالى: (وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَابَّة)، (من) هنا دالة على البيان، أي أن كل دواب الأرض خاضعة تسبح بحمده ولكن لَا تفقهون تسبيحهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى نوعين خاضعين ساجدين له، وهما الأجرام السماوية، وكل ما هو جسم يبدو لنا غير حي، ثم ذكر الأحياء وهي الدواب، ثم ذكر بعد ذلك قسما ثالثا، وهم الملائكة الأطهار والأرواح فقال: (وَالْمَلائِكَةُ وَهُم لا يَسْتَكْبِرُونَ) فالملائكة خاضعون للَّه لَا يعصون اللَّه ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، أو وصفهم اللَّه تعالى بأنهم لَا يستكبرون، أي أنهم ليسوا كإبليس الذي أبى واستكبر وكان من الكافرين، وكما قال تعالى: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. . .).(8/4190)
وقال تعالى في أحوال الملائكة الأطهار:(8/4191)
يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
(يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ... (50)
وقوله تعالى: (مِّن فَوْقِهِمْ)، قيل معناها يخافون ربهم أن يرسل عذابا من فوقهم، أو يخافونه، وهو فوقهم بالقهر، كقوله تعالى: (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ. . .)، ونحن نرى أن الفوقية هنا فوقيتهم هم، لَا فوقية اللَّه، واللَّه تعالى فوق كل شيء، ومعنى فوقيتهم علوهم في الخلق والتكوين، وكونهم أرواحا طاهرة، وإنهم مع هذه الفوقية يخافون اللَّه تعالى، فكلما علوا في الروحانية كان خوفهم بمقدار علوهم، وبذلك يستقيم الكلام من غير تقدير (يرسل) أو نحو ذلك، ويكون متفقا على ما ختمت به الآية السابقة في قوله تعالى عنهم: (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).
وقد أكد سبحانه وتعالى نفي استكبارهم، وخضوعهم، وخوفهم من ربهم الذي خلقهم بقوله تعالى: (وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرونَ) وفيه إشارة إلى إبليس الذي استكبر، ولم يفعل ما أمره به ربه.
* * *
الله يأمر بالوحدانية
قال اللَّه تعالى:
(وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
* * *(8/4191)
بعد أن أشار اللَّه تعالى إلى خلق السماوات والأرض، وخضوع الجميع ساجدين، العقلاء وغير العقلاء، والأحياء والجماد على معنى جامع بينها، وهو الخضوع والتسبيح، وإن كنا لَا نفقه تسبيحها فخالقها عالم بها.
بعد ذلك بين أنه سبحانه واحد أحد، وهو إله وحده فقال:(8/4192)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
(وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
هذه الجملة السامية متصلة بما قبلها بالواو العاطفة، والواو العاطفة على (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ. . .)، أي اللَّه الذي يخضع الوجود كله له لَا فرق بين حي وجماد، ولا عاقل ولا غير عاقل، يقول لكم: (لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) وذكر (اثنين) مؤكدا معنى العدد المفهوم من المثنى؛ لأن المثنى في ذاته يدل على المثنوية، وكان التأكيد باثنين لأنه موضع النهي، إذ إن موضع النهي هو أن يكون إلهان اثنان، وذكر النهي عن اثنين، لأنه يتضمن النهي عن ثلاثة وأكثر؛ لأنه إذا كان الأقل منهيا عنه، فالأكثر أولى بالنهي؛ ولأن اتخاذ إلهين دلت الآية الأخرى على أنه يؤدي إلى الفساد في السماوات والأرض، إذ إن تعدد الآلهة يلغي معنى الألوهية ويفسد السماوات والأرض التي دلت الآيات المتلوة والآيات الكونية على أنهما منظمان أبلغ ما يكون النظام، قال اللَّه تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ)، وإن قياس البرهان على بطلان الشرك المبني على التنازع يفرض إلهين، فيقول لو كان إلهان لتنازعا، ولرجح أحدهما على الآخر على فرض التساوي بينهما، وإذا تنازعا مع هذا التساوي فسد الكون، وإذا لم يفرض على التساوي، كان المتفاضل منهما هو الإله.
ونقول: إن ذكر الإلهين الاثنين فيه إيماء إلى هذا الدليل العقلي، واللَّه(8/4192)
(إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ)، (هو) دالة على معنى الإله المطلق وهو اللَّه سبحانه، و (إنما) الدالة على القصر، أي قصر الألوهية على إله واحد سبحانه وتعالى.
بعد ذلك التفت عن الخطاب إلى ضمير المتكلم. فقال: (فَإِيايَ فَارْهَبُونِ) الفاء الأولى للإفصاح والمعنى: إذا كان الإله واحدا، (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) والفاء الثانية لربط الكلام، والمعنى إياي أنا وحدي فارهبون؛ لأنه لَا إله إلا أنا، وقد انتقل سبحانه من مقام التنبيه والتعليل بذكر أدلة الوحدانية في خلق السماوات والأرض والتوجيه، والبرهان إلى التخويف ومن لم يقنعه الخوف والإرهاب. وقد قال سبحانه وتعالى: إنه له الطاعة، والجزاء عليها والعبادة، والخضوع والعبودية وحده فقال تعالى:(8/4193)
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
(وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
سيق هذا الكلام الحكيم في سياق بياني، قد يؤخذ منه شكل منطقي، فقد قدم سبحانه وتعالى كلامه السامي، بقوله: (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، أي له السماوات والأرض، وما فيها من أحياء وأجرام، وعقلاء وغير عقلاء، وإذا كان مالكا للوجود كله وهو وحده المتصرف بمقتضى الاختصاص الثابت بالملكية، فله العبادة وحده، وله الطاعة وحده، وهو الذي يملك الجزاء وحده؛ ولذلك قال بعد ذلك ما هو كالنتيجة لهاتين المقدمتين: (وَلَهُ الدِّين وَاصِبًا) الدِّين يطلق ويراد منه العبادة وقد يراد منه الطاعة، وكلمة (واصب) قد يراد بها الدائم، وقد يراد المفروض، وقد يراد ما فيه مشقة محتملة، وهذه المعاني تراد جميعها من هذه الآية الكاملة، فله وحده العبادة، وله وحده الطاعة، وله وحده الجزاء، فهو الذي يجزي كلا بما يستحق، وهو الذي اختص باللَّه وحده دائم، ومفروض، ومنه تكليف للنفس بما يوجب الصبر، والمجاهدة.
وقد ختم اللَّه تعالى الآية من الإخبار إلى الخطاب فقال تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ)، الفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، ذلك أنه يترتب على(8/4193)
الوحدانية، فيما ذكرنا الآيتين غير اللَّه تعالى، وأخرت الفاء عن الهمزة، لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام للتنبيه، وإنكار الوقوع، أي لَا تتقون غير اللَّه، وتقديم غير اللَّه على الفعل للدلالة على أنه لَا يتقى سواه، والتقوى امتلاء القلب بخشية اللَّه تعالى وجلاله وخوف عقابه فلا يتقى سواه، لأنه له الجزاء وحده.
بعد ذلك أخذ سبحانه وهو المنعم بالوجود يبين بعض نعمه على الناس، فقال تعالت كلماته:(8/4194)
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
(وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
الكلام موصول لبيان نعم الله تعالى، وقد ذكر أولا نعم اللَّه تعالى على الوجود الكوني كله بخلق السماوات والأرض ومن فيهن من أجرام وأحياء، وعقلاء وغير عقلاء، ثم يذكر في هذه نعمه على الإنسان خاصة، فيقول مخاطبا الناس، (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَة فَمِنَ اللَّهِ) (ما) اسم موصول بمعنى الذي، وهو يكون أحيانا في معنى الشرط، ولذا تدخل الفاء فيما بعده على أنه جواب الشرط الذي تضمنه الموصول، والمعنى على ذلك: الذي بكم من نعمة في الصحة والعقل والغذاء والكساء والمأوى، والماء الذي تشربون، والدفء الذي به تستدفئون، كل هذا وغيره مما غمركم به من نعم سابغات فمن الله تعالى المنعم المتفضل على غيره، (. . . وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا. . .).
وهو مع هذه النعم السابقة كاشف الضر، ورافع الأذى، ولذا قال تعالى:
(ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) أتى بـ (ثم)، هنا للتباعد بين حال النعمة وحال الضر، أي أنه منزل النعم، وكاشف النقم، والضر هو ما يصيب الإنسان من ضرر في جسمه بمرض، أو يصيبه من تعرض للغرق أو الحرق، وهكذا من أسباب الضرر، ومسكم: أصابكم أو نزل بكم فإليه وحده تضَّرعون، ولذا قال: (فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)، يقال جأر يجأر جؤارا، أي تضرع ولجأ، وصاح لاجئًا إلى اللَّه تعالى، ولفظ جأر تدل الالتجاء إلى اللَّه تعالى لفزع وهلع، فإن كان الذي مسه مرضا جهش ودعا، وإذا كان الذي مسه ضررًا كان التجاؤه بصياح كخوار البقر.(8/4194)
ويقول تعالى: (فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ)، بتقديم الجار والمجرور على الفعل أي إليه وحده تجأرون ضارعين.
وإذا كان يقتضي عبادة اللَّه وحده في السراء، ولكن إذا كشف الضر كان من الناس من يشرك بربه، ولذا قال تعالى:(8/4195)
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
(ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
(ثُمَّ) هنا على موضعها اللغوي من التباعد بين ما قبلها وما بعدها؛ إذ إن ذلك كان يقتضي الإيمان، ولا يقتضي الكفر، لقد جاروا إلى اللَّه وحده، ولم يلتجئوا إلى غيره، ولكنهم بعد أن زالت كربتهم، وكشفت غمتهم أشركوا بربهم؛ ولذا قال: (إِذَا فَرِيقٌ منكُم بِرَبِّهِمْ يشْرِكونَ).
هذه (إذا) التي تسمى الفجائية، وهي التي يكون ما قبلها يدل على عدم توقع ما يجيء بعدها، إذ إن كشف الضر يوجب شكر المنعم والتضرع له وإفراده بالعبودية، فإذا كان الإشراك كاذا على مقتضى ما يتوقع، لقد ضرعوا إليه وحده في شدتهم، وفي رخائهم كفروا به وأشركوا مع غيره من أحجار أو ما يشبه الأحجار.
وعدل اللَّه في حكمه أن جعل ذلك الكفر بالنعمة في بعض منهم، وليس في كلهم، وهم أولئك المشركون بمحمد، وقد أشار إلى أن هؤلاء ليسوا بكثرة الناس، ولكن دون الكثرة.(8/4195)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
(لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
اللام هنا لام الأمر، كاللام في قوله تعالى: (. . . لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ. . .)، والأمر هنا معناه التهديد، ووصف أفعالهم بأنها سيئة، ومن أشرك بربه بعد نعمته التي أنعمها عليه بأن يؤمر بالسير في غيه، وهذا كقوله - صلى الله عليه وسلم - " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (1)، فالأمر ليس للطلب، ولكن لبيان أنهم
________
(1) سبق تخريجه.(8/4195)
قد فسدت فطرتهم وضلت عقولهم، حتى صاروا جديرين بألا يكون منهم إلا الشر.
أو نقول: اللام للعاقبة، ويكون المعنى لتكون العاقبة بأنهم كفروا بما آتيناهم من حق، وكتاب مبارك لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وإذا كانوا على ذلك النحو من الفساد والضلال النفسي فجدير أن يتمتعوا كما تتمتع البهائم من غير تفكر ولا تدبر؛ ولذا (فَتَمَتَّعُوا) (الفاء) للإفصاح إذا كنتم على هذا الضلال وكفران النعمة، والإشراك بربكم (فَتَمَتَّعُوا) والأمر للتهديد، وقوله تعالى: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي فيها بيان لما يستقبلهم، وسوف لتأكيد الفعل في المستقبل، أي إذا كنتم في حاضركم متمتعين بما تملكون من متع، فمستقبلكم المغيب عنكم ستعلمونه علم معاينة وهو عذاب شديد، فقوله تعالى: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) يتضمن تهديدا بعذاب مهين.
وقد بين سبحانه نوعا من الاسترسال في عبادتهم الأوثان، وهو أن يجعلوا مما رزقهم الله تعالى من بهائم الأنعام نصيبا، فقال تعالى:(8/4196)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
(وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
وذلك أن هؤلاء المشركين يسترسلون في شركهم، فيحسبون أن من القربى للأوثان أن ينذروا لهم نذورا من الأنعام والحرث، فيجعلون هذا بزعمهم للَّه وللأوثان بزعمهم، ويخافون الأوثان أكثر من خوفهم من اللَّه مع علمهم بأنه لا ينجيهم من كربهم إلا اللَّه تعالى، على ما تبين من قول، وقد قال تعالى في ذلك فى سورة الأنعام: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136).(8/4196)
وقوله تعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) يصح أن يكون الضمير عائدا على الأوثان، ويكون المعنى: ويجعلون للأوثان التي هي أحجار لَا تعلم شيئا، ولا تضر ولا تنفع، نصيبا مما رزقناهم، وأعيد الضمير إلى الأوثان على أنه ضمير العقلاء، لأنها كذلك في زعمهم، فيكون ذلك تهكما بهم.
ويصح أن يعود الضمير إليهم كالضمير في (وَيَجْعَلُونَ) والمعنى على هذا يكون: ويجعلون لما لَا يعلمون له حقيقة تسوغ لهم أن يعبدوها، إنما هو وهم قد سيطر عليهم من غير حقيقة ثابتة يعلمونها، أو هي صالحة لأن يعلموها إذ هو لا وجود له إلا على أنه حجر لَا يضر ولا ينفع، والخيال الناشئ هو الذي جعل لهم ذلك التصور الباطل.
وإن ذلك أعظم الافتراء على اللَّه وعلى الحقيقة، ولذا قال تعالى مؤكدا القول بالقسم بذاته العلية: (تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كنتُمْ تَفْتَرُونَ) وهذا تهديد شديد، قد أكده سبحانه بالقسم بذاته العلية وبتلك الصيغة القوية، وهي القسم بالتاء، وباللام، وبنون التوكيد الثقيلة، وأنهم مسئولون عن هذا الافتراء.
وسمى اللَّه سبحانه وتعالى ذلك افتراء وكذبا مقصودا؛ إذ أشركوا، وكذبوا على اللَّه وعلى أنفسهم، وضلوا إذ نذروا لما لَا يعلمون له حقيقة، وضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
* * *
ظلم البنات
قال تعالى:
(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ(8/4197)
بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
* * *
إن الأوهام إذا كانت هي مصدر علم طائفة من الناس فلا تعجب، والأمثال على ذلك واقعة بين أيدينا في هذا الزمان ومن شأن من تحكمه الأوهام أن يتخيل ثم يظن ثم يتوهم ثم يعتقد، كان العرب يعرفون الملائكة، ويعرفون اللَّه وإنه خالق كل شيء، وأنه المستغاث لكل مستغيث، وأنه الملجا في الشديد ولكن خلطوا بذلك أوهاما كثيرة أفسدت تفكيرهم، فأشركوا الأوثان مع اللَّه تعالى، ومن ذلك أنهم توهموا أن الملائكة إناث لَا ذكور، وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا، وجعلوها بنات اللَّه تعالى، ثم ذهب بهم فرط أوهامهم إلى أن كان منهم من عبدها؛ ولذا قال تعالى:(8/4198)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ)، أي أنهم جعلوا للَّه البنات - تنزه وتقدس عن ذلك - ولهم ما يشتهون، وهم الذكور، ومعنى يشتهون يختارون راغبين ملحفين في الدعوة حتى كأنهم شهوة يشتهونها؛ لأنهم يرونهم امتدادا لوجودهم، ولأنهم يرون فيهم النصرة في الحرب؛ ولذا كان الرجل يكون في قوة ببنيه ويكون أعز نفرا، ولقد نعى اللَّه تعالى عليهم أن قالوا لله تعالى ولدا، فقال تعالى: (أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)، وأن ذهب فرط أوصافهم أن يقولوا ولد اللَّه بنات (أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).
ويقول(8/4198)
سبحانه ردا عليهم: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22).
هكذا تدرج بهم الوهم من زعم أن للَّه ولدا، وإن هذا الولد من الإناث اللائي لَا يرغبن فيهن، ثم استرسل بهم الوهم حتى كان منهم من عبد الملائكة، وهم طائفة من الصابئة كانت تعبد الأرواح.
وإن رغبتهم في الذكور ورغبتهم عن الإناث تدفعهم إلى أن تسود وجوههم عند ولادة الأنثى؛ ولذا قال تعالى:(8/4199)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
التبشير معناه الإخبار بالأمر السار، أي بالبشارة، وعبر اللَّه تعالى عن ولادة البنت بالتبشير؛ لأنها بشرى بسلامة الأم ولأنها في ذاتها رزق من اللَّه تعالى، ولأنها قلب يكون له فضل حنان وشفقة لذا كان التعبير بـ (بُشِّرَ)، وقد كان يجب أن يُسرَّ لهذه المعاني الكريمة السامية، ولكنه بدل أن يستبشر، بهذه النعمة التي أنعم اللَّه تعالى بها، وهذا الرزق الذي ساقه اللَّه تعالى يكتئب ويحزن؛ ولذا قال تعالى في جواب الفعل الذي هو البشرى: (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًا وَهُوَ كَظِيمٌ)، أي صار ودام وجهه مسودا، وذلك كناية عن الحزن والكمد والغيظ، فكان حال الوجه المكفهر تشبه بحال الوجه الأسود، للقتامة، فالبؤس يوجد سوادا في القلب.
وقال: (وَهُوَ كَظِيمٌ)، أي وهو ممتلئ غيظا، وحزنا وغما، و (كَظِيمٌ) مأخوذ من الكظامة، وهو شد فم القربة، والمهموم الحزين ينطبق فاه فلا يتكلم كمدا، والمشابه حاله بحال الكظامة التي تشد بها القربة، ولكن القربة تسد على الماء وقد يكون قراحا، أما هذا فيشد فمه على أقراح الهم والغم والحزن.(8/4199)
وإنه يكون على هذا الغم محسا بعار، لخشيته على عرضها، ولخشيته من قهرها وذلها، وهي مهما تكن بضعة منه؛ ولذا قال تعالى:(8/4200)
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
(يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ... (59)
لَا يلقاهم خزيا وعارًا من سوء ما بشر به، وهنا جمع سبحانه بين السوء والبشرى، فسماه سوءًا بالنسبة له ولقومه، وسميت بشرى بشر بها في حقيقتها، لأنها نعمة، والإخبار بالنعمة بشرى.
وتحدثه نفسه في هذه النكبة في زعمه الفاسد، وإدراكه الباطل (أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ)، والضمير في (أَيُمْسِكُهُ) يعود على لفظ (مَا بُشِّرَ بِهِ)، فهو يعود
على (ما)، ولذا ذُكِّر الضمير، وإن كان موضوع (ما) هو الأنثى، (عَلَى هُون)، أي على ذل وهوان كهذا المبشر به، والهوان في لغة قريش، وعذاب الهون هو عذاب الهوان والذل، (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ)، أي يدفنه فيه، وعبر سبحانه بـ (يَدُسُّهُ)، بدل يدفن، لأن الدفن يكون للميت، وهذه على قيد الحياة وهي الموءودة، وكان يفعل ذلك قبائل من مضر ومن كندة وخزاعة وهي غلظة في الأكباد، وحمق في العقول وضلال في الفكر، وكان بجوار هؤلاء الحمقى القساة، فضلاء عقلاء رفقاء، فكانوا إذا علموا برجل يريد أن يوئد ابنته فدوها بالإبل، وقد قالوا: إن صعصعة بن ناجية عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت إبلا يستحييها، وقد قال الفرزدق مفتخرا بعمَه هذا.
وعمِّى الذي منع الوائدات ... وأحيا الوئيد فلم يوده
وإن امتهان المرأة ذلك الامتهان لم يكن عند العرب وحدهم، بل كان عند الفرس، وكان عند الرومان، ولم يكن في القانون الروماني أي حماية للمرأة، بل كانت تعد المرأة أمة في بيت أبيها، لو قتلها لَا يسأل لم قتلها، وإذا انتقلت إلى بيت زوجها كانت أمة أيضا، ولو قتلها لَا دية لها، ولا ملام، وقال تعالى: (أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) ألا للتنبيه وساء في فعل التعجب فالمعنى ما أسوأ ما يحكمون لأنه سخط وظلم وفساد في التفكير.(8/4200)
ولما جاء القرآن كرمها وجعل لهن من الحقوق مثل الذي عليهن من الواجبات، وواجب تأديبها وتعليمها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " من كانت عنده بنت فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها، وأسبغ عليها من نعم الله التي أسبغ عليه كانت له سترا أو حجابا من النار ".
وإن سبب ذلك الانحدار في التفكير بالنسبة للأنثى هو الكفر باليوم الآخر، ولذا قال تعالى:(8/4201)
لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
(لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
إن الإيمان بالآخرة إيمانا صادقا مذعنا يلقي في النفس الاطمئنان على المستقبل، فلا يكون في لهج وهلع من الناحية المالية؛ لأنه يعرف أن هناك يوما آخر، يعطي فيه من حرم من ملاذ الدنيا وشهواتها، ولا يكون حريصا شحيحا، ولا يكون خائفا من فقر ينزل به ما دام عاملا، وإن أصابه فقر فإلى ميسرة، وأما من لَا يؤمن بالآخرة فإنه في فزع، وخوف وتقتير، ويظن الظنون في قابله غير معتمد على اللَّه تعالى، فهو في الولد، يخشى الفقر فيئد البنت ويفرح بالولد؛ لأنه يكفيه عيشه، والبنت يخشى عليها القهر والذل، وفوات الكفء وغير ذلك.
ولذا قال تعالى في حال البشرى بالبنت، وخشية الفقر والعار والقهر لها مشيرا إلى أن سبب ذلك هو عدم الإيمان بالآخرة، فقال تعالى: (لِلَّذِين لَا يُؤْمِنونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ)، أي حال السوء دائما يخشون الفقر والقهر، والجوع كمثل الذين يحددون نسلهم الآن خشية الجوع، واللَّه تعالى يقول: (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ. . .)، فمن لَا يؤمن بالآخرة تكون حاله حال سَوْء وخوف، وهمٍّ دائم، وفي مقابل ذلك من يؤمن بالآخرة، فإنه مطمئن إلى ربه، طالبًا رضاءه يفوض أموره للَّه، وهو العزيز الحكيم، ولذا قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وللَّه الحال العليا التي لَا سَوْء(8/4201)
فيها، ولا خوف من الفقر، والمقابلة بين الذين لَا يؤمنون بالآخرة، وبين اللَّه وهي مقابلة بين كان منهم من الإنسانية في المنزلة الدنيا، واللَّه العلي القدير العزيز الحكيم، وأنى يكون ذلك؟ والجواب عن ذلك: إن المقابلة بين من هم في أدنى الإنسانية، ومن هم في أرقاها من بني الإنسان أيضا؛ لأن اللَّه تعالى يدعوهم إلى أن يكونوا مع اللَّه تعالى. ليؤمنوا بعظمته، ويتوكلوا عليه، فيكونوا في أحسن حال، وأعلى مثل وصورة، لأنهم يكونون مع اللَّه، متوكلون عليه ومتبعون لأوامره، ومجتنبون لنواهيه.
وختم سبحانه الآية بقوله تعالى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، أي وهو الغالب الحكيم الذي قدر كل شيء تقديرا (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا. . .).
وإن اللَّه تعالى يعلم ظلم الناس وظلمهم للنساء؛ ولذا قال تعالت كلماته:(8/4202)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
إن اللَّه تعالى هو الرزاق ذو القوة المتين، وهو القادر على كل شيء وهو العليم بما يفعله الناس، ولكنه لَا يؤاخذ الناس على ظلمهم، وقت نزول الظلم، بل يؤخرهم، ولذا قال تعالى:
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ).
(لو) حرف امتناع لامتناع، أي امتنع عذاب اللَّه تعالى لأنه سبحانه لَا يؤاخذ الناس بظلمهم، وإن الناس منهم من يشركون باللَّه، وإن الشرك لظلم عظيم ومنهم من يقترف الآثام المخزية المفسدة للجماعات، ومنهم من يعتدي، ولا يعد القوي قويا إلا إذا اعتدى كما قال الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سُلْمَى.
والظلم من شيم النفوس ... فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم(8/4202)
والظلم ماحق للخير، وإن اللَّه إذا آخذ الناس بظلمهم المستمر المتوالي لعمهم بعذاب من عنده، بريح صرصر عاتية، أو يخسف بهم الأرض، أو يجعل عاليها سافلها، أو بأن تجف السماء فلا تمطر، فيكون الجدب ثم الموت، وبذلك يهلك الناس والدواب، ولم يبق على ظهرها غاثية أو راغية، وبذلك يموت الجميع ولا تبقى دابة، وخلاصة المعنى أن اللَّه تعالى لو آخذ الناس لعمهم بعذاب لَا يترك منها دابة تدب على وجه الأرض، فنقمة الظالم تعم ولا تخصه، كما قال تعالى:
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذينَ ظَلَمُوا مِنكمْ خَاصَّةَ. . .)، والتعبير
بالمضارع في قوله تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ. . .) فيه نفي للمؤاخذة في المستقبل، كما لم يؤاخذ في الماضي، لأن الله عدل لَا يأخذ المطيع بجريمة العاصي، ولا يأخذ العجماء بجريمة الإنسان.
(وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)، حيث يمكن تمييز الظالم من العادل، والمسيء من المطيع، والمسئول من غير المسئول، فإذا جاء أجلهم الموقوت لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، والسين والتاء للطلب، والمعنى ليس لهم أن يطلبوا التأخير والتقديم، بل هو لاحقٌ بهم ما يستقبلهم واللَّه أعلم.
وبعد ذلك أشار سبحانه إلى ظلمهم في النساء، وهو ظلم مستمكن في نفوسهم.(8/4203)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
ويجعلون ما يكرهونه، أي ما كان غير مرغوب فيه منهم يجعلونه للَّه، فيجعلون للَّه البنات، لأنهن مكروهات عندهم، ويجعلون مما ذرأ من الأنعام والحرث ما يكرهون، ويجعلون لآلهتهم ما يحبون، ويستخفون برسله لأنهم يكرهونهم وفي الجملة كل شيء لَا يهْوَوْنه يجعلونه لِلَّهِ تعالى.
(وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ)، أي تقول ألسنتهم الكذب، وعبر عن القول بالوصف لأنهم يصفون الباطل، بأنه حق، فهو قول يتضمن وصفا باطلا، يصفون(8/4203)
(أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى)، الحال الحسنى التي لَا يعلو عليهم في الحسن شيء في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإنهم قد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا، وما هو بالحسن، وغرهم الغرور فاستطابوا ما هم عليه من فساد، وحسبوا أنهم بظلمهم الأعلون، وغرهم باللَّه الغرور، وأما في الآخرة فقد قاسوا حالهم في الدنيا على حال في الآخرة، كما قال اللَّه تعالى عن أحدهم: (. . . ولَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسنَى. . .).
وقد رد اللَّه تعالى قولهم بقوله سبحانه: (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ)، أي حقا لَا كسب لهم من خير أو حسن (أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) يدخلونها، وليس لهم الحسنى ينالون خيراتهم، وأكد سبحانه ذلك فقال: (وَأَنَّهُم مُّفْرَطونَ)، أي مقدمون في النار، كالمفرط إلى الماء أي المقدم، وهذا على قراءة فتح الراء مع تخفيفها، وقرئ بكسر الراء مع التخفيف، ويكون المعنى مفرطين في الظلم والمعاصي، وبذلك استحقوا النيران، وقرئ بكسر الراء مع التشديد ويكون المعنى أنهم مفرطون في طاعة اللَّه تعالى أهملوها، وتركوها فتركهم اللَّه تعالى وصاروا نسيا منسيا.
والقراءات الثلاث متواترة، فيصح أن تراد كلها، فهم في مقدمة أهل النار فيردونها كما يرد القوم إلى الماء، وهم مفرطون في المعاصي، ومفرطون في الطاعات، واللَّه من ورائهم محيط.
* * *
رسالات الله والعظة في خلقه
قال اللَّه تعالى:
(تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ(8/4204)
الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
* * *
الكلام مفصول عما قبله باللفظ، وإن كان المقام بيان أحوال الشرك، وكيف يزين للمشركين سوء عملهم، فيرونه حسنا، وهو السوء فقال تعالى:(8/4205)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
(تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
أكد سبحانه وتعالى بالقسم، وباللام وبـ قد، وكان القسم بالباء، لَا بالباء ولمعنى الشدة في مخرجها، كان في القسم بهذه الصيغة تشديدا، و (أَرْسَلْنَا) أضاف الإرسال إليه سبحانه وتعالى وليعلم أن الرسالة من اللَّه سبحانه وتعالى رب هذا الوجود، والأعلم بما يصلح الناس، وما يخاطبون به، وما يبلغون الرسالة عن طريقهم، وأنهم رجال يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق، ويموتون، كما قال اللَّه تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34).(8/4205)
وقوله تعالى: (إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) إلى أمم مختلفة أزمانهم متباينة مشاربهم وأجناسهم، ولكنهم التقوا على أمر جامع بينهم، وهو الشيطان يزين لهم أعمالهم الفاسدة المفرقة لجمعهم، ولذا قال سبحانه: (فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) و (الفاء) للترتيب والتعقيب، أي أن اللَّه تعالى أرسل إليهم الرسل بالهداية، فكان وراء الرسول الهادي تزيين الشيطان يهدم ما يدعو إليه الرسول يزين في قلوبهم الخبيث فيجعله حسنا في زعمهم، واللَّه تعالى يقرر على لسان رسوله أنه باطل ما يصنعون.
وتزيين الشيطان لهم، أنه يأتيهم من قبل أهوائهم وشهواتهم فيزين لهم الشر فيما نهى اللَّه عنه، كما قال جد الأبالسة لأبي الخليقة آدم (. . . مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20).
(فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ) الفاء لترتيب ولايته لهم، أي الولاء والمحبة على التزيين، أي أنه إذ زين لهم الشهوات فحسبوها المصلحة والحقيقة الحسنة العقبى صار صاحب الولاية، والولاء والمحبة منهم يسيرهم كما يشاء.
والضمير في (وَلِيهُمُ) يصح أن يعود إلى الأمم، أي أن الشيطان بعد هذا التزيين صار صاحب الولاية عليهم، يصرفهم اليوم كما يشاء فأسلموا زمامهم له، وفى ذلك سلوى للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، ويصح أن يكون الضمير يعود على قريش بقياسهم على من سبقوهم، وتقرير أنهم أولياء الشيطان بهذا التزيين المستمر، ثم ذكر العاقبة، فقال عز من قائل: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، أي مؤلم إيلاما لَا نعرف له في الدنيا حدودا، وولايتهم على أي حال في الدنيا، وأما في الآخرة فيتبرأ منهم.
وقد بين سبحانه وتعالى: أنه أنزل الكتاب على محمد - صلى الله عليه وسلم - ليكون جامعا لما سبقه مبينا الحق فيه فقال:
(وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)(8/4206)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
ولقد بين سبحانه وتعالى أن الكتاب مهيمن على الكتب قبله، وحاكم على الناس فيما اختلفوا فيه، وما يختلفون إلى يوم القيامة، فإن رجعوا إليه اهدوا إلى الحق، وإلا فهم في ضلال بعيد.
قال سبحانه: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ) فقد اختلفوا في البعث، وقالوا: عيسى ابن اللَّه، وقالوا: عزير ابن اللَّه، وحرفوا في الرسالات، وبدلوا وغيروا، وأحل اليهود الربا، وقد حرم عليهم وأكلوا السحت والرشا، فكان لَا بد من مرجع يرجع إليه في معرفة الحق فيما اختلفوا فيه، فكان محمد الذي نزل القرآن عليه هو المبين، وأسند البيان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أن المبين هو القرآن وذلك لسببين:
السبب الأول: بيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو من القرآن،) وإن القرآن نزل من عند اللَّه تعالى عليه.
والسبب الثاني: أن القرآن يحتاج إلى مبلغ يبلغ حقائقه، ويعلم الناس به، يبين مجمله، ويخص عمومه، ذلك المبلغ هو النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذا أضيف التبين إليه - صلى الله عليه وسلم -، وهو تكليف كلفه. وقوله تعالى: (وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ) هنا أمران في القرآن غير الأمر الأول، وهو أن فيه بيانًا للشرائع السائغة، وما اختلفوا فيه حولها، فهو شاهد على الكتب السابقة، ومبين الحقائق في الرسالات الإلهية، وحكم عليها، لأنه آخر لبنة في صرح النبوة، وهو كمال الرسالات كلها.
وهو أيضا هدى ورحمة - ففيه الهداية من الضلال في متاهات الأوهام، فيه التوحيد، وقد زينت الأوهام الشرك، وفيه تحريم ما لم يحله اللَّه، وإحلال الحلال وتبيين الحرام، فهو الهادي المرشد، كما قال الحق: (. . . إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2).(8/4207)
وفيه الرحمة، وهي شريعته المحكمة، فهي رحمة للناس، وهي الشفاء لأدوائهم والرحمة بالمهديين منهم؛ ولذا قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، ففيها الرحمة بالمجتمع، وفي عقوباتها الزاجرة رحمة بالكافة ووصفه سبحانه بأنه هدى كأنه ذاته هداية ورحمة لفرط ما فيه من هداية ورحمة.
وهنا أمران بيانيان يشير إليهما سبحانه:
الأمر الأول - أن قوله تعالى: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ. . .) فيه نفي وإثبات، وهو يفيد الحصر، أي ما أنزلنا عليك الكتاب إلا لبيان ما جاء به من رسالات للأمم، ولما فيه من هدى ورحمة، وشريعة محكمة صالحة، وفيه إشارة إلى أن هذا الكتاب خاتم الرسالات.
الأمر الثاني - أنه سبحانه وتعالى ذكر الكتاب معرفا بأل الدالة على كماله، وإنه الكتاب الجدير بأن يسمى كتابًا وحده، وقد بين سبحانه أن هدايته ورحمته لمن يؤمن به ويذل ويذعن لحقائقه، وينفذ أحكامه بحذافيرها لَا يغادر منها صغيرة ولا كبيرة إلا نفذها لأنه خير كله، واللَّه أعلم.
بعد أن بين سبحانه ما يحيي النفوس أخذ يذكر سبحانه ما منَّ به على خلقه مما يحيي الأجسام:(8/4208)
وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
(وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
ابتدأ سبحانه بما يحيي النفوس، وكان ذلك بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين رحمة من عنده، وأنزل الكتاب الكريم الذي هو حكم ومهيمن على كل ما أنزل قبله من كتب، وما كان من الناس راشدين أو ضالين، وكيف كان ضلالهم، وكان ابتداؤه سبحانه بما يحيي النفوس التي كانت ميتة من غير هداية، واتباع للنبيين كقوله تعالى: (أَوَ مَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ. . .)(8/4208)
لأن حياة الروح أزكى وأغلى، وهي التي تليق بالإنسان، وبغيرها يكون سدى، والجسم يشترك فيه مع البهائم التي هي مسخرة لخدمة الإنسان في هذه الأرض كما خلقها سبحانه.
(وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) المراد ما علا، وأنزل الله السماء من أعلى حيث تتكون السحب الثقال حاملة الماء عذبا فراتا في بخار يتكاثف، ويصير ماء ينزل مطرا مدرارا، ويكون غيثا، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43).
ينزل اللَّه سبحانه الماء فينبت الزرع، ويسقى به الشجر، ويكون منه الثمر، فمن الماء كل شيء حي، وقال تعالى: (وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) الإحياء بإنبات الزرع فيكسوها بخضرة ناضرة يجعلها ذات منظر بهيج تزيد به، كأنه حلية لحسناء، وتبسق به الباسقات من الأشجار تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
وسمى اللَّه تعالى الأرض من غير نبات بالميتة تشبيها للأرض القفر الجرداء بالميتة؛ لأنه ليس على ظهرها حياة، وجعل الماء سببا لإحيائها، كما قال تعالى: (. . . وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ).
إن إنزال المطر الذي فيه الحياة لآيات لقوم يسمعون الحق ويتبعونه، ويؤمنون به، وكان ظاهر السياق أن تكون هذه لقوم ينظرون، ولكنه عدل إلى السماع فقال عز من قائل: (لِّقَوْمِ يَسْمَعُونَ) للإشارة إن النظر لَا يبصر المعاني إذا لم يكن قد سمع الحق، وأذعن له، وكذلك العقل لَا يفكر إذا لم تكن هداية من السماء له، فلا يعتبر بنعم اللَّه تعالى إلا من سمع الحق وآمن به وأذعن له، وإلا فهي غاشية لا يبصر ولا يدرك، إن هو إلا كالأنعام أو أضل سبيلا.(8/4209)
وقد أخذ يقص اللَّه تعالى نعمة الأنعام التي تجيء من إحياء الأرض بالزرع والغراس التي تغرس من أشجار وفاكهة فقال تعالى:(8/4210)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً)، الأنعام جمع نعم أو اسم جنس للنعم على كلام سيبويه، والنعم هي الإبل والبقر والغنم، ويشبهها طائفة لها خواصها، وطهارة لحمها وأكله مثل الغزال، وذوات القرون وغيرها من الأنواع التي تشابه بها في الخلق والتكوين والأكل والمرعى، والذي كان معروفًا فى الدواجن عند العرب الإبل والبقر والغنم، وهي التي وجبت فيها الزكاة ابتداء، وثبتت في غيرها إذا أمكن اقتناؤها للنماء، وصارت ذات نتاج يكون نماء لها، فالزكاة سببها أو وعاؤها مال نامٍ.
والعبرة التي ذكرها القرآن الكريم في خلق النعم من نواحٍ كثيرة، فهي في خلقها وجمالها حين تريحون وحين تسرحون، وفي تذليلها للإنسان وإلفها له لتذل له وتخضع وتستكين فبها يحرث الحرث وعليها يحمل أثقلاء ومن أرواثها يكون السماد الصالح، ومنها يتخذ الدفء والغطاء ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها يتخذ متاعا إلى حين.
وهكذا تتكاثر أوجه الانتفاع وكل ذلك بتسخير اللَّه تعالى لمن أراد أن يعتبر ويؤمن بنعم اللَّه تعالى ويشكرها كما أنعم، وقد ذكر سبحانه وتعالى بعض العبرة في الخلق والتكوين، وفيما يكون منها من لبن سائغ للشاربين، فقال عز من قائل: (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ).
(نُسْقِيكُمْ) تقرأ بالضم وفعلها أسقى وهي لغة جاءت في قوله تعالى:
(وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)، وهناك قراءة بالفتح وفعلها سقى، وهي تستعمل بمعنى أسقينا، وبمعنى أسقى من البئر، كقوله تعالى:(8/4210)
(فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24).
وقوله: (نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَم لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ).
الضمير في (بُطُونِهِ) يعود إلى النعم، أو بعض هذه النعم، وهو الإناث منها، وفي عودته لبعضها لَا بد من مسوغ يدل عليه، فنقول: إن (من) الأولى تدل على التبعيض فهي تشير إلى أن الضمير يعود على بعض، وإن ذلك وإن كان جائزا هو بعيد في السياق، والأقرب منه أن يعود إلى الأنعام، والأنعام لفظ مفرد عند سيبويه، فصح أن يعود بلفظ المفرد المذكر، وذلك معقول، لأن الأنعام على فرض أنها جمع هي جمع النعم، ونعم اسم جنس يدل على الكثير، ولكن لفظه مفرد فصح أن تكون الأنعام بمعنى نعم، ولكن ورد مثل هذه الآية الضمير بلفظ المؤنث كما قال تعالى: (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21).
وقوله تعالى: (مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ)، و (مِن) للابتداء، أي تكون بين فرث ودم، والفرث فضلات الطعام، وقد قال ابن عباس: إن الدابة كل العلف فإذا استقر في كرشها طبخته، فكان أسفله فرثا، وأوسطه لبنا وأعلاه دما، وهذا معناه أنه في الوسط بينهما اللبن، وقد يكون ذلك التفسير من الناحية العلمية مقربا، ذلك أن أكل البهائم يهضم، ثم يتمثل جزء منه في الدم، وجزء ينزل لبنا درا.
وقد وصف اللبن بوصفين:
الوصف الأول - أنه خالص ليس فيه اعتكار بدم، ولا بقية من روث، بل هو صاف نقي لَا عكرة فيه.
والوصف الثاني - أنه سائغ للشاربين، أي يستسيغونه ولا يمجُّونه، وفيه إشارة إلى أنه طعام سهل سريع الهضم والتمثيل وكل طعام تقبله معدات بعض(8/4211)
الأشخاص، وتعافه الأخرى، إلا اللبن، فإنه سائغ للجميع، واللَّه ولي النعم، والمستحق وحده لشكرها.
وقد ذكر سبحانه نعمة أخرى للماء ينزل على الأرض فقال:(8/4212)
وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
(وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
فذكر سبحانه وتعالى أن المطر ينزل فيكون الزرع ويكون العشب الكثير ومن هذا العشب يأكل الغنم، وفيها أن اللَّه تعالى يسقينا من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين.
وقد بين بعد ذلك الثمرات التي تؤخذ من الأشجار فقال عز من قائل:
(وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ والأَعْنَابِ) هنا كلام محذوف تقديره يتخذون ما تتخذون مما يسخر لكم منها فتأخذون ثمرات طيبات وأكلها حلو دائم، وأنكم تتخذُونَ مِنهُ سَكَرًا، أي شيئا مُسكِرًا، والمسكر مبغض إلى أهل الإيمان، وهي تدل على أن الخمر مشروب غير مباح، وإذا كان قد ترك زمانا فهو في هذه الأزمان كان محل عفو، حتى جاء التحريم القاطع الذي لَا ريب فيه في آية سورة المائدة، كما بينا ذلك في موضعه.
وإن السكر مقابل بالرزق الحسن فيكون السكر رزقا غير حسن، وإذا كانت هذه السورة مكية فإن معنى مجيء هذا الكلام في سورة مكية يدل على أن القرآن الكريم ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لم ينظر إلى الخمر نظرة رضا، أو نظرة غير كارهة بل نظرته لها نظرة كارهة من أول مجيء الإسلام إلى أن بين اللَّه فيها بيانا شافيا بالتحريم القاطع.
ويلاحظ أن اللَّه تعالى ذكر النخيل والأعناب في هذه الآية ولم يذكر غيرهما لأنهما كانا الكثير عند العرب، وهناك نعم أخرى كثيرة في أغراس كثيرة، كالرمان والتفاح، وغيرهما من الأغراس التي يتخذ منها سكرًا ورزقًا حسنًا. وقد قال(8/4212)
تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً)، أي في هذا الذي ذكره اللَّه تعالى لآية دالة على قدرة الخالق (لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، أي يُعمِلون عقولهم، وذكر الفعل في نهاية الآية التي جاء فيها السكر، إيماء إلى ما يفعله السكر في العقول.(8/4213)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
(وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
الحيوانات كلها تسير بإلهام اللَّه تعالى، فأم الحيوان ترضع وليدها، وتحنو عليه وترعاه بفطرتها، وكأنها أم مثل أمهات بني آدم تدفئه وتقيه الحر والبرد.
وإن ذلك الإلهام يصح أن يسمى وحيا؛ لأنه إلهام من اللَّه تعالى، ولذلك قال تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ).
واختص سبحانه وتعالى النحل بتسمية إلهامها وحيا، لأنها ألهمت نظاما محكما دقيقا يعجز عنه بعض العقلاء، فهي ألهمت أن يكون لها رئيس وهو يسوسها وهو ينصف بينها ويحكم بالعدل، وينفي القذى حتى إنه لو رميت على إحداها نجاسة قتلها تطهيرًا للجماعة، وأن تعيش طهورا، وإذا ظهر فيها رئيس قاتل الأصيل ذلك الرئيس ونصروه عليه، وإنها لتبني بنيانها بإحكام فتجعله على شكل مسدسات لكي يكون البناء محكما، ولكي يكون كل فراغ مسدود، وتجتمع جموع النحل، تذهب مجتمعة في غدوها ورواحها وفي غذائها وفي ريها حتى إنها تكون ذات منظر بديع يدل على إحكام الاتحاد بحيث لَا تنأى عن الجمع واحدة، وهي تراقب نفسها بحيث إذا هلكت إحداها أخرجته، وكأنها تدفعها خارج الأحياء، وهكذا، وفي طبعه النظافة فرجيع النحل يخرجونه خارج الخلية، ويقول الغزالي في الإحياء " لا يأكل من العسل إلا مقدار شبعه، وإذا قل العسل في الخلية قذفه بالماء ليكثر، خوفا على نفسه من نفاده، وإذا نفد النحل أفسد بيوت الملكات، وبيوت الذكور، وربما قتلت ما كان منها هناك ".
ولهذا التنظيم العجيب الذي يعجز عن بعضه أصحاب العقول، قال اللَّه(8/4213)
تعالى بالنسبة للنحل، (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) وأضاف الإيحاء إلى الرب سبحانه، لأن ذلك الوحي فيه فائدة للإنسان، وهو من مقتضى الربوبية، ومن النعم التي أنعم اللَّه تعالى بها على عباده فيما تخرجه من بطونها من شفاء للناس.
(أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)، (أَن) تفسيرية، وما بعدها تفسير لما قبلها، فالوحي هو أمر الله تعالى لها أن تتخذ من الجبال بيوتا تعيش في كهوفها، وتبيض بيضها فيها، (وَمِنَ الشَّجَرِ)، أي تأخذ من فروع الأشجار بيوتا تصنع فيها ما يصنعه صاحب البيت فيه، (وَمِمَّا يَعْرِشُونَ)، أي مما يعرشون على سقوفهم، ومما يعرشونه لها من خلايا.
و (مِنَ) للتبعيض، أي يتخذون بعض الجبال وبعض الشجر وبعض مما يعرشون، وما يخصص لها من خلايا يكون كله لها بهذا التخصيص، ثم قال تعالى:(8/4214)
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
(ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
عطف سبحانه وتعالى بـ (ثُمَّ) للتراخي بين اتخاذ البيوت من الجبال والأشجار ومما يعرشون، وذلك إشارة إلى أنها تبذل في البيوت نظاما محكما دقيقا مما يأخذ وقتا طويلا، والله تعالى يأمرها بمقتضى الفطرة التي فطرها تعالى: (ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ) فلا تفرق بين الزهور فكلها طعام لها، فتأخذ من نوار كل زهرة، لَا فرق بين زهر مر، وزهر حلو، وتأخذ من كل الثمرات تأخذ البنفسج والبرتقال والخوخ، والقطن ثم ينساغ في بطنها، ثم تخرجه بعد ذلك عسلا حلوا، مشتبه طعمه ويختلف لونه، ويكون لونه على حسب المرعى، فلون البنفسج يبدو إذا كان غذاؤه من البنفسج، ورائحته تكون مثله، ولون البرتقال إذا كان كذلك، وقال تعالى: (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا) وهي حال من السبل، أي أن طرائق الله التي ألهمك إياها مذللة سهلة غير مجهولة تغدو من هذه السبل، وتروح منها غير مجهولة لها، ولو ذهبت في طلب الرزق إلى آماد بعيدة.(8/4214)
وهذا كله على أن (ذُلُلًا) حال من السبل، ويصح أن تكون حالا من ضمير (فَاسْلُكِي) فيكون حالا من النحل، والمعنى اسلكي سبل ربك حال كونك مذللة لما خلقك اللَّه تعالى وهو أن تأخذي الثمرات وقد تمكنت منها ومن الطريق إليها، مسخرة لما خلقك اللَّه تعالى له سبحانه.
ويقول سبحانه: (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مخْتَلِفٌ أَلْوَانهُ) فما بين أبيض وأصفر وبنفسجي ووردي، وذلك على حسب الغذاء الذي يتغذى به النحل، وعلى حسب سن النحلة التي تخرجه.
وقد قالوا: إن العسل تمجه لعابا، ولا يخرج من بطنها، والجواب عن ذلك أنه ينساغ في بطونها عسلا ثم تمجه لعابا، وهو يتكون أولا في البطن، ومع اختلاف ألوانه ورائحته يجتمع فيه وصف الحلاوة له.
وقال تعالى: (فِيهِ شِفَاءٌ للنَّاسِ) والتنكير هنا للتعظيم، أي فيه شفاء عظيم للناس، ولقد قال بعض العلماء إن فيه شفاء عاما، لأن التنكير للتعظيم لأن فيه شفاء لكل الأسقام، وعن ابن عمر أنه لَا يشكو قرحة إلا جعل عليه عسلا، حتى الدمل إذا خرج عليه طلى عليه عسلا.
وحكى عن بعض التابعين أنه كان يكتحل بالعسل ويتداوى بالعسل في كل مرض.
وإن النص القرآني يدل على أن فيه شفاء عظيما، ولكن لَا يدل على أنه تعالى يشفى به كل الأمراض، وحسبه أن يكون فيه شفاء عظيم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يداوي به أمراض البطن، روى البخاري ومسلم أن رجلا جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أخي استطلق بطنه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " اسقه عسلًا "، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال: يا رسول اللَّه سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا، قال: " اذهب فاسقه عسلًا " ثم جاء فقال: يا رسول اللَّه ما زاده إلا استطلاقا، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلًا فبرأ (1).
________
(1) رواه البخاري: الطب - الدواء بالعسل (5252)، ومسلم، واللفظ له: الطلام - التداوى بسقي العسل (4107).
وهذا نصه في مسلم:
" جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اسْقِهِ عَسَلًا» فَسَقَاهُ، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَقَيْتُهُ عَسَلًا فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ جَاءَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: «اسْقِهِ عَسَلًا» فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلَّا اسْتِطْلَاقًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ اللهُ، وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ» فَسَقَاهُ فَبَرَأَ ".(8/4215)
ويقول ابن كثير في التعليق على هذا الحديث:
قال بعض علماء الطب: كان هذا الرجل عنده فضلات فلما سقاه عسلا وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع فزاده إسهلاء فاعتقد الأعرابي أنه يضره، وهو مصلحة لأخيه، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ثم سقاه فكذلك فلما اندفعت الفضلات الفاسدة استمسك بطنه وصلح مزاجه.
وختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)، أي أن في خلق النحل وإلهامه وتدبيره وخروج العسلَ المصفى من بطونه لآية دالة على قدرة اللَّه وعظيم خلقه لقوم يتفكرون ويتدبرون في آياته وما تدل عليه، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
أطوار الإنسان وأحواله
قال تعالى:
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
* * *(8/4216)
هذا بيان للأدوار التي يمر بها الإنسان وهي تدل على عظم قدرة اللَّه فيه، وفيها بيان واضح إلى قدرته على الإنشاء والإدبار وقدرته على الإخفاء، وتحلل جسم الإنسان شيئا فشيئا حتى يكون الموت، وفي ذلك إيماء إلى قدرته سبحانه على الإعادة (. . . كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).
قال تعالى:(8/4217)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
(وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَاكُمْ)، خلقكم أي أنشأكم من العدم، وجعل من الطين إنسانا في الخلق وفي عبارة (خَلَقَكُمْ) إشارة إلى إنشائه جنينا في بطن أمه من علقة فمضغة مخلقة وغير مخلقة، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15).
وإن هذا الخلق بعده الوفاة يعيش ما يعيش إن طويلا، وإن قصيرا والمآل الوفاة؛ ولذا قال تعالى: (ثُمَّ يتَوَفَاكُمْ)، (ثُمَّ) هنا للتفاوت بين الموت والحياة، ومنكم من يموت في صباه أو في شبابه أو كهولته، (وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ)، ومعنى الرد إلى أرذل العمر أن يرجع منكوسًا إلى ابتدائه، فهو في أرذل العمر يسير في السن إلى الأمام، ولكن في القوى يرد إلى الوراء فقواه تضعف، وتفنى بعض أجزاء جسمه شيئا فشيئا، كأنه من قبل الهرم كانت قواه تسير إلى الأمام حتى تقف، فإذا أرذل العمر أي أخسَّه وأعدم حمده يرجع إلى الصبا الذي لا يعلم شيئا.
قال تعالى: (لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا)، أي لتصير حاله ألا يعلم، بل ينسى، وأن يكون كل ما يعلمه من جديد مآله النسيان، فلا يزداد علمه، بعد أن كان عالما شيئا، وقد لوحظ أن الذين يصيبهم أرذل العمر ينسون ما كسبوه من علم بعد الشيخوخة ولا ينسون ما كان لهم من حوادث قبل ذلك، فهم يتكلمون عن الماضي ولا يتذكرون ما كان من حوادث بعد أن تصيبهم الشيخوخة، ونلاحظ هنا أمرين:(8/4217)
الأمر الأول - أن أرذل العمر يختلف باختلاف الناس، فمنهم من يصيبه الهرم مبكرًا، ومنهم من لَا يصيبه إلا مؤخرا.
الأمر الثاني - أن بعضهم يصيبه خرف الشيخوخة، والصادقون المؤمنون لا يصيبهم خرف الشيخوخة، وإن كانوا ينسون، ومهما يكن فإن الموت قبل بلوغ أرذل العمر أفضل، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ربه ألا يرد إلى أرذل العمر، فقد روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدعو " أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر " (1)، وإن ذلك كله بتقدير اللَّه تعالى وعلمه، ولذا قال بعد ذلك: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) إن اللَّه بمقتضى علمه قدر كل شيء ونفذه، وهو القادر العليم.
وإن اللَّه تعالى لم يجعل الناس على سواء في الغنى والفقر فقال تعالى:
________
(1) متفق عليه، رواه بهذا اللفظ: البخاري - تفسير القرآن (4338)، ومسلم: الذكر والدعاء - التعوذ من العجز والكسل وغيره (4879).(8/4218)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
(وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) هذه بيان حال الإنسان من الغنى والفقر، والسعة في الرزق، ومن قدر عليه رزقه، وفيه تهيأ الأسباب ليكسب رزقا وفيرا وخيرا عميما فقال: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) يسير الأسباب فمنكم من سلك السبيل فنال مالا، ومنكم من لم يكن له سبيل إلى مال فكان فقيرا، (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)، أي فما الذين أوتوا سعة في المال ومالا كثيرا وخيرا عميما بِرَادِّي رِزْقِهِمْ أي بجعلهم رزقهم عائدا على ما ملكت أيمانهم من الإماء والعبيد، ليكونوا هم وعبيدهم في المال على سواء فيكون المال لهم جميعا ويكونون فيه سواء.
يقول الزمخشري: إن هذا ما ينبغي، فالآية تدل على ما ينبغي أي يجب أن تكون النعمة التي ينالونها في الرزق تكون ثمرتها عامة بينهم وبين ضعفائهم فلا(8/4218)
يرفلون في النعيم، والضعفاء في الشقاء المقيم، يروى أن أبا ذر الغفارى عندما سمع قول النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة للعبيد: " أطعموهم مما تطعمون واكسوهم مما تكسون "، كان لَا يلبس رداء إلا ألبس عبده مثله، ولا يلبس إزارًا إلا ألبسه مثله (1) وقوله تعالى: (أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) الفاء مؤخرة عن تقديم أفبنعمة اللَّه يجحدون ويكفرون، فلا يشكروها فيصروفها في مصارفها، ويضنوا بها عن مواطنها.
هذا هو ظاهر الآية، وقد قال بعض المفسرين: إن المعنى أنكم لَا تسوون ما ملكت أيمانكم في الرزق الذي يرزقكم اللَّه تعالى إياه فكيف عبيد اللَّه والمخلوقات التي خلقها اللَّه تعالى في العبادة، إنكم تجحدون بهذا ويقولون: إن هذا مَثلٌ ضربه اللَّه تعالى (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ. . .)، وهذا تفسير ابن عباس.
وكان هناك تخريج ثالث، وهو أن المعنى أن الله رازق الناس جميعا غنيهم وفقيرهم فلا يحسب الموالي أنهم يرزقون، وأنا أرى أن الواضح البين هو الأول، وهو المتسق مع نظام الغنى والفقر، ويروى أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: إن الرحمن فضل بعض الناس في الرزق، بلاء يبتلى به كلا فيبتلى من بسط له كيف شكره، وأداؤه في الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وحوله.
وقد بين الله تعالى عمارة الأرض بالوجود الإنساني، فقال سبحانه:
________
(1) الحديث بهذا اللفظ رواه مسلم: الزهد والرقائق - حديث جابر الطويل، وقصة أبي اليسر (5328) وهو أصح أسانيده. وقد سبق تخريجه.
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)(8/4219)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
هذا بيان الخلق والتناسل، وأنه من الزوجين، وأن اللَّه جعل الزوج من الزوج، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)، وقوله تعالى: (جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفسِكُمْ)، أي خلق لكم من ذات أنفسكم أزواجا، فتضمنت معنى الخلق، وصيرورتها زوجا، كما في قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا. . .).
وإن هذه الآية وما يماثلها من الآيات تدل على أن الزوجة خلقت من ذات الزوج ونفسه، وأنهما أصل الوجود الإنساني وأن عمران الأرض ابتدأ بالأسرة، والأسرة هي وحدة الجماعة الإنسانية، واللبنة الأولى في بنانه، وقد ابتدأ بالأسرة ومنها تتوالد الأسر فقال سبحانه: (وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً)، والحفدة جمع حافد ككتبة جمع كاتب، والحافد هو المسرع في الطاعة والخدمة ومنه قول القانت في قنوته: " وإليك نسعى ونحفد "، والحفدة تشمل أولاد الأبناء وأولاد البنات.
والكلام في الذرية الذين يتوالدون من الزوجين، وحكى الزمخشري قولا غريبا فقد جاء فيه " وقيل وجعل لكم الغنى وجعل لكم حفدة، أي خدما يحفدون في مصالحكم ويعينونكم " وهو قول غريب بعيد عن معنى الآية، لأن الآية في بيان التوالد الإنساني منِ الزوجين والبنين والأحفاد كقوله فيما تلونا (. . . وَبَثَّ مِنْهُمَا مَا رِجَالًا كثِيرًا وَنِسَاءَ. . .)، فما مناسبته الخدمة وهم أناسي كسائر الأناسي، ولا يكون نعمة على الجميع أن يكون بعضهم خدما؟!.
وإنه سبحانه وقد عمر الكون الإنساني بهذا التناسل الذي باركه رب العالمين فلم يخرجهم إلى الوجود غير مرزوقين محرومين، بل خلق معهم أرزاقهم، (وَرَزَقَكم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ)، و (مِّنَ) هنا بيانية، والمعنى رزقكم الطيبات، والطيبات(8/4220)
هي الأطعمة والزِينة واللبس، والكسب الحلال، كما قال تعالى: (قلْ مَنْ حرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَج لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ. . .)، والطيبات هي غير الخبائث، وهي الأمور المقززة التي تعافها النفس كالميتة والدم ولحم الخنزير، كما قال الله تعالى في وصف النبي الأُميّ في بشارة التوراة والإنجيل به: (. . . الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتوبًا عِندَهُمْ فِي التَوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ. . .).
ومع أنه أنعم عليهم بنعمة الوجود ونعمة التوالد وأكرمهم بالرزق الطيب الحلال، كما قال تعالى: (وَمَا مِن دَابَّة فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا. . .).
مع كل هذا أشركوا باللَّه، واتبعوا الباطل وكفروا بالحق، فقال تعالى:
(. . . أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ)، الفاء للإفصاح عن شرط مقدر وتقديم (بالباطل) على الفعل للإشارة إلى أنهم لَا يؤمنون إلا بالباطل، ولا يؤمنون بحق قط، وبنعمة اللَّه نعمة الإيجاد والرزق يكفرون ولا يشكرون، وأكد سبحانه كفرهم بالنعمة بتقديم النعمة على الفعل، وبالضمير (هُمْ) والجملة الاسمية. قال تعالى في توضيح باطلهم:(8/4221)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
هذا باطلهم وهو أوضح باطل آمنوا به يعبدون غير اللَّه من دونه وهو إشارة إلى مقام معبودهم من اللَّه تعالى ما لا يملك لهم رزقا في السماوات والأرض فلا يملك في السماء مطرًا يحيي به الأرض بعد موتها، ولا في الأرض نباتًا يأكل منه الإنسان والحيوان، ولا النعم الذي تكون في الأرض، ولا الثمرات التي تثمرها الغراس والأشجار، (وَلا يَسْتَطِيعُونَ)، أي لا تستطيع تلك المعبودات المزعومة أن تأتي بشيء من هذا، ولكنه ضلال العقل والوهم الذي يسيطر، وأعيد الضمير لمن يعقل تهكما بهم وعلى زعمهم، إذ يعبدونهم.(8/4221)
و (شَيْئًا) مفعول مطلق، أي أي رزق كان ولو رزقا قليلا، لأنه حجر لا يقدر على شيء وليس فيه حياة فكيف يعبده حي؟! ويصح أن يكون في معنى الصفة لرزق، أي لَا يملكون في السماوات والأرض شيئا أي: أي قدرٍ كان.
وأنهم إذ يعبدون ما لَا يملك رزقا في السماوات والأرض ولا في شيء، يشبهونهم باللَّه سبحانه وتعالى، ويجعلونهم مثله تبارك وتعالى عن الشبيه والمثيل، ولذا قال تعالى:(8/4222)
فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
(فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) الأمثال جمع مثل أو مثل، ضرب بمعنى بين وجعل والمعنى فلا تبينوا وتجعلوا للَّه تعالى الأمثال، وهي الأنداد والأشباه والنظائر في زعمكم، فاللَّه أعلى وأعظم وأنتم لَا تعلمون مكانه بل أنتم جاهلون في ذات أنفسكم؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، أي واللَّه تعالى يعلم حالكم، وأوهامكم، وما يجيش في صدوركم، وأنتم لَا تعلمون مغبة زعمكم وإشراككم، وهو العذاب الأليم.
* * *
ضرب الأمثال الصادقة
قال اللَّه تعالى:
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)(8/4222)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
* * *
بعد أن نهاهم سبحانه وتعالى عن ضرب الأمثال التي شيدوا فيها الأحجار التي كانوا يعبدونها أخذ سبحانه وتعالى يبين لهم الأمثال التي تصور الحقيقة وتهدى إليها، فقال تعالت كلماته:(8/4223)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
العبد هو الفتى الملوك، وذكر وصف مملوك ليتميز عن الحر، الذي لَا مالك له، وكان التمييز ضروريا؛ لأن الجميع مملوك للَّه تعالى، يستوي في المالك، ومن يملكه من الرقيق، ومعنى (لَا يَقْدِرُ علَى شيْءٍ)، أي لَا يقدر على التصرف في شيء من الأشياء وفي ذلك بيان لأنه مقيد، قد وجد غل الرق في رقبته، وأثقله، فهو لا يقدر على شيء مادي، ولم تكن له إنابة من مالكه أو عقد مكاتبة، يستطيع به التصرف ليطلق نفسه، بل هو قن مقيد بالرق، ومقيد بأنه لَا سلطان له في التصرف، أي فيه العجز المطلق ".
(وَمَن رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا)، (من) هنا نكرة تدل على ما هو في مقابل المملوك، وهو إلى المالك لكل تصرفاته التي يقدر على كل شيء، ومع هذه القدرِة التي ثبتت له بمقتضى الحرية رزقه اللَّه تعالى رزقا حسنا؛ ولذا قال تعالى: (وَمن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا) والحسن هنا معناه الطيب في ذاته، في خبيثا في سببه فسببه طيب حلال لَا حرام فيه ولا شبهة حرام، وإضافته سبحانه وتعالى إليه لبيان أنه جاء إليه سهلا ميسرا من غير جهد، وإن كان حلالا، ولبيان أن كل الأرزاق من اللَّه وليست الأسباب مؤثرة بإيجاد الرزق إنما هي أسباب جعلية وليست بأسباب(8/4223)
حقيقية لأن كل شيء بيد اللَّه سبحانه وتعالى، فليس سبب الزرع والسقي والرعي والبذر وحدهما، بل السبب الأكبر هو رزق اللَّه العليم القدير، (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).
وقد جعل اللَّه تعالى الخير الذي يجيء من الرزق الحسن، فقال تعالى:
(فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا)، (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، الإنفاق هو صرف المال في مصارفه التي لَا يكون الصرف فيه إسرافا، وأطلق في القرآن على الصرف في سبيل الخير، فإذا أطلقت كلمة الإنفاق لَا يكون إلا في الصدقات إلا إذا عنى الموضوع غيرها، مثل قوله تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَة مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ. . .)، فالإنفاق هنا في نفقة الزوجية، وإن كان يومئ إلى أنها صلة وليست أجرا محضا، كما يقرر الفقهاء.
وقوله: (سِرًّا وَجَهْرًا)، يؤكد أنها للصدقات، وإن السرية لها موضعها، وخصوصا لأهل التجمل ذوي المروءات، والجهر في موضعه عندما تكون دعوة إلى البر فإن الجهر يدعو إلى المنافسة (. . . وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).
ثم قال تعالى مقررا النتيجة البديهية وهو أنهم لَا يستوون فقال: (هَلْ يَسْتَوُونَ) الاستفهام للإنكار، أي إنكار الواقع، وكان النفي بالاستفهام لتأكيد النفي كأن النفي مقرر بالبداهة، وعند المخاطب، فكانه قد جاء من عنده، (الْحَمْدُ لِلَّهِ) كان هذا تأكيدًا للنفي وهو عدم التساوي، أي أنه يحمد اللَّه تعالى للوصول إلى هذه النتيجة التي أخذت من إقرارهم، ثم قال تعالى: (بَلْ أَكثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)، (بَلْ) للإضراب، أي كان الإضراب عن علمهم البدهي الذي طمس فيه الهوى على مداخل الفكر والعلم، وكان القرآن الكريم منصفا لحكم على الأكثر لَا الجميع بأنهم لَا يعلمون أي طمس على قلوبهم بغشاء من الهوى المانع من إدراك الحقائق.(8/4224)
وكانت الموازنة بين اثنين في ظاهر اللفظ، وهما العبد المملوك، (ومَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا)، ولكن لأن (ما) يدخل في عموم ما تدل عليه كثيرون، كان الذين لَا يستوون كثيرين فعاد الضمير بالجمع.
وبعد ذلك يقول هذه هي معاني الألفاظ وما تدل عليه بمفرداتها، ولكن ما هو المثل؛ إن المثل تشبيه حال بحال فما موضع التشبيه، وما هو وجه التشبيه؟.
قال أكثر المفسرين: إنه تشبيه ففي حال عبادة الأوثان، والشرك باللَّه تعالى بحال من يسوي بين العبد المملوك، العاجز عن كل شيء والحر المالك الذي رزقه اللَّه رزقا حسنا، أنهم لَا يستوون بالبداهة، فكيف يسوي أولئك المشركون بين اللَّه خالق كل شيء وبين الأحجار التي يعبدونها.
واعترض على تخريج المثل هذا التخريج الرازي بأن العبد المملوك حي، والأحجار لَا حياة فيها، وقد أجيب عن ذلك بأن التشبيه ليس بين الأجزاء، إنما التشبيه بين حالين، لَا بين الأحجار والآدميين.
وقال ابن عباس: إن التشبيه بين الكافر والمؤمن، فالكافر كالمملوك الذي لا يقدر على شيء وهو عاجز، وبين من رزقه اللَّه تعالى رزقا حسنا، فهو كقوله تعالى: (. . . هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ. . .)، (. . . هَلْ يَسْتَوِي الَّذِين يَعْلَمُونَ وَالَّذينَ لَا يَعْلَمُونَ. . .)، وكذلك التشبيه في قوله تعالى في الآية الآتية:(8/4225)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ. . .) وهو فيها أوضح وكلاهما واضح، واللَّه أعلم.
ولولا أننا مقيدون إلى حد ما بما قاله من قبلنا لقلنا: إن اللَّه تعالى قال من قبل ذلك بآيتين (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ) وفي هذه الآية والتي تليها، يبين سبحانه كيف كان التفضيل في الرزق، وهو أن الفقير اختبره اللَّه تعالى بالعجز، وبتقدير منه سبحانه وتعالى، فضاقت أمامه السبل، وأن الغني آتاه الله تعالى قدرة على الكسب ومكن(8/4225)
له من أسباب الرزق، وبذلك ينتهي البيان القرآني في زعمنا إلى تقرير حقيقتين الحقيقة الأولى - أن العجز والكسب والكَيْس بتقدير من اللَّه وباختيار منه، فليس لأحد أن يستطيل أو يستكبر فاللَّه هو الرازق.
والحقيقة الثانية - أن الفقر والغنى حقيقتان ثابتتان؛ لأن اللَّه تعالى خلق القوي متفاوتة، والفرص متفاوتة، والأسباب في الحياة مختلفة فكان جهلا أن يدعي مغرور أنه يذيب الفوارق بين الغنى والفقر، وقد شاع هذا الغرور في هذه الأزمان كالذي جهل طبائع الإنسان فأفقر ناسا من ذوي الإنتاج، وأغنى العجزة، وكانت أسباب الرزق الحرام طاغية على الحلال المنتج.
قال تعالى في المثل الثاني، وهو في معنى الأول، وهو من تصريف اللَّه البيان في قرآنه المجيد.
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
وهذا مثل آخر كالمثل الأول، وكان الأول موازنة بين عبد مملوك لَا يقدر على شيء، وآخر حر قد رزقه اللَّه وهو ينفع الناس بما رزقه اللَّه تعالى يعطيهم سرا وجهرا على حسب ما يرى، وعلى حسب نيته المحتسبة، والثاني كان موازنة بين رجلين آخرين؛ ولكن أحدهما عاجز لَا يقدر على شيء وهو في حياته كل على قريب له هو مولاه لَا نفع منه، وآخر قادر في عقله مستقيم في خلقه عادل في ذاته.
قال سبحانه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلَيْنِ)، أي بين حالا لرجلين موازنا بينهما (أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ)، أي أخرس لَا يستطيع أن ينطق فلا يجيب إذا دعاه الداعي، والأخرس في أكثر الأحوال ناقص في مداركه؛ لأنه قد سدت عليه(8/4226)
مسالك العلم ولا يحس بمعنى الأشياء، والأخرس عادة يفقد النطق لأن النطق بالمحاكاة فهو لَا يعلم ولا يستطيع أن يبين هواجسه وخواطره فلا يحس بما حوله، وقد فقد المجلس والأنس، ولا يجلب لنفسه نفعا -، (وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ)، أي حمل وثقل، والمولى هنا القريب أو ذو الصلة به من أي أنواع الصلات الإنسانية، ومن كانت هذه حاله لَا ينفع الناس، وقد أشار مع ذلك إلى أنه ناقص المواهب ليس متفتح النفس والإدراك، وعبر اللَّه تعالى عن هذه الحال (أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لا يَأتِ بِخَيْر)، وثاني الرجلين الموازن بينهما رِجل فيه حكمه جعلته يلى بعض الأمر، وقد عبر سبحانه عن ذلك بقوله: (هَلْ يسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيم) الاستنهام هنا لإكار الوقوع أي للنفي المؤكد كأنه سئل السائل وأجيب بالنفي وكان الرجل الثاني الذي ينفي المقابلة بينه وبين الأول قد اتصف بصفتين جليلتين مما يعلو الرجال بهما في الأوساط الإنسانية:
الصفة الأولى - أنه يأمر بالعدل، ولا يأمر بالعدل إلا إذا كان هو عادلا في ذاته، والعدل صفة في النفس وهي الفضائل التي تدخل في تكوين المزاج الإنساني الكامل، فالعدالة في النفس تزكيها وتنميها وتتجه بها نحو الفضائل، فحيث كانت العدالة النفسية كان الصدق وكان الاعتدال وكانت القدرة على الصبر، فلا تحكمها الشهوات ويكون الانتصاف منها، ويكون تأديب النفس.
وربما يكنى بأنه يأمر بالعدل بتوليه أمور الناس أو بعضهم أو أن يكون الحكم، وهو يشير إلى أنه لَا يتولى أمور الناس إلا عدل يأمر بالعدل يأمر كل نوابه وحاشيته ويقوم بالقسطاس المستقيم بين الناس.
الصفة الثانية - من يكون مستقيم النفس مخلص القلب، وقد عبر سبحانه عن ذلك بقوله تعالت كلماته: (وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)، أي مستقيم النفس ذو طريق حسن وهذه أعلى صفات الإنسان، فهو مخلص وإخلاصه يوجهه إلى السبيل المستقيم، والإدراك المستقيم، والكلام المستقيم، والعمل المستقيم والسلوك العام المستقيم، وعبر سبحانه وتعالى بعبارة تؤكد استقامته بعدة إشارات:(8/4227)
الإشارة الأولى - أنه عبر بالجملة الاسمية.
الإشارة الثانية - أنه جعله كراكب صراط الاستقامة الجالس عليه؛ ولذا عبر بـ (على) الدالة على التمكن من صراط الاستقامة.
الإشارة الثالثة - أنه عبر بالصراط، وهو في ذاته مستقيم، إذ إنه الخط المستقيم، ووصفه مع ذلك بالاستقامة فكان هذا تأكيدا لفظيا لمعنى الاستقامة في النفس والخلق والعمل.
وإن الأقوال التي ذكرناها في المثل الأول تقال هنا، فأكثر المفسرين على أنه سبحانه ضرب حال عبادة المشركين، بحال من يسوي بين رجلين بينهما تمام التباين، فيسوي بين اللَّه تعالى والأحجار، كمن يسوي بين رجل ناقص الإنسانية ورجل آخر كاملها.
وإن كلام ابن عباس ينطبق هنا أيضا، فيكون نفيا للتساوي بين الكافر المشرك، والمؤمن الموحد.
وما بدر إلينا من أنه بيان لاختلاف القوى والأحوال، وتوافر أسباب الرزق وعدم توافرها، وقدر الله سبحانه وتعالى، وأنه يرزق هذا ويحرم هذا، لعدم السير أو عجزه عن السير في أسباب الثروة، وأن الوجود الإنساني يشتمل على هذه الحقيقة، وأن الناس فيهم الغني والفقير ومن يقول إنه يعمل على إذابة الفوارق بين الغنى والفقر جاهل مغرور، وإن فرض ذلك بالقوة كان ظالما غشوما، وسلب الحقوق ممن ينتجون الحلال، وترك الباب مفتوحا، ليغني طائفة أخرى بالحرام الذي لا ينتج شيئا.
وإنه من بعد ضرب الأمثال، ومنها يتبين أن اللَّه سبحانه وتعالى يدير العالم بحكمته، وأنه وحده القادر على كل شيء وأن الحساب يجيء لَا محالة، ولذا قال تعالى:
(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)(8/4228)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
أحسب أن هذه الآية تشير إلى ما قدره سبحانه وتعالى في علمه المكنون مما كتبه على الناس من غنى وفقر، وإن كل شيء بقدره، وفي غيبه حتى العجز والكيس، ومع ذلك فيها بيان لما يستعجله الناس من وعيد، ومن قيام الساعة مع أنه قريب وأنه ليس بعسير على اللَّه تعالى بل كلمح البصر أو هو أقرب، واللمح النظر السريع، يقال لمحه لمحًا ولمحانا إذا أدركه بطرف العين أو مجرد حركتها بحركة الرمش، وهو زمن لَا يتجاوز ثواني من دقيقة.
والمعنى وإن أمر الساعة وزمانها وإن استطلتم الزمن الذي يمضي هو عند اللَّه كلمح البصر، أي تحسبونه بعيدا، وهو عند اللَّه تعالى قريب كلمح البصر، فالأزمان تجري عليكم بالطول والقصر، أما عند اللَّه فإنه لَا زمان يحكمه، ولا ظرف يحيط إنما ذلك أعراض لَا تكون إلا عند الحوادث، وذلك كقوله تعالى:
(إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)، وكقوله تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمَا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ ممَا تَعُدُّونَ)، أي إن الزمن لَا يحكم إرادة اللَّه، بل إرادة اللَّه تعالى هي الخالقة للأفلاك والأزمان ومعنى (أَمْرُ السَّاعَةِ) مهما طال زمنها في نظركم، هو عند اللَّه قريب (أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)، (أو) للإضراب عن وصف أمرها بأنها كلمح البصر، بل هي أقرب من ذلك إن بالغْتُم في الاستغراب.
وإنه يراد مع استطالة الزمن أن الساعة إذا جاءت واضطربت السماوات والأرض وكورت الشمس وانفطرت الأرض والكواكب اندثرت، كل ذلك يتم في لمح البصر أقرب من ذلك، فاللَّه تعالى على كل شيء قدير؛ ولذا ختم الآية بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كلِّ شَيْء قَدِيرٌ) وقد أكد سبحانه وتعالى قدرته بعدة مؤكدات أولها الجملة الاسمية، وثانيها: (إن) الدالة على تأكيد الخبر وهو قدرة الله تعالى، وتقديم (كل شَيْء) على (قَدِيرٌ)؛ لأنه يدل على الاهتمام ووصف (قَدِيرٌ)، واللَّه أعلم.(8/4229)
وبعد أن بين سبحانه أن الغيب كله في علمه سبحانه وقدرته، وأن اللَّه تعالى قدير على كل شيء، وأنه خالق العاجزين والقادرين، والمنافقين، ومن لَا خير فيه، (أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَأتِ بِخَيْرٍ) بين سبحانه أنه خلق الإنسان وعلمه، فقال تعالى:(8/4230)
وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
(الواو) هنا عاطفة على قوله تعالى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ)، وقد عطف عليها من قبل قوله تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ
أَزْوَاجًا)، وعطف عليهم قوله تعالى: (وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً)، وما كان بعد كل جملة من هذه المعطوفات، إنما هو لبيان وجه العبرة فيها، وضلال الشرك وأهله، فهي تابعة لمعانيها، فلا يكون ثمة مانع من العطف عليها.
وإذا كانت معطوفة على قوله تعالى: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) فهي لإثبات أن الغنى والفقر أمران مقدوران لله تعالى، وإن الغنى من فضل الله، ويوجب الشكر، والفقر اختبار الله تعالى ويوجب الصبر، ومع الصبر الجزاء، وهو على صورة الصبر شكر للَّه تعالى.
(وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا)، أي شيئا من العلم بالحياة ومشاربها، ومن العلم بحق اللَّه على عباده من إدراك عظمة خلقه في تكوينه الإنسان من سلالة من طين، وجعله نطفة في قرار مكين، وجعل النطفة علقة والعلقة مضغة، وجعل المضغة عظاما، ثم أخرجه من ضيق الرحم إلى سعة الوجود، وهذا ما يشير إليه قوله: (مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ) يخرج الجنين من بطن أمه لا يعلم شيئا من طرق الحياة، ولكن يعطيه الله تعالى أسباب العلمِ بهذه الحياة وما يجري فيها، وهذا قوله تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدةَ).
(وَجَعَلَ لَكُمُ)، أي خلق لكم وصيره لكم (السَّمْعَ)، والسمع يتضمن النطق؛ لأن النطق لَا يكون إلا لسميع، إذ إن النطق لَا يكون بالفطرة التي فطر اللَّه(8/4230)
تعالى الناس عليها إلا بالمحاكاة، والمحاكاة لَا تكون إلا إذا سمع الكلام بحروفه وعباراته، وحاكاها؛ ولذلك من فقد السمع لَا يتكلم، وهو الأخرس كما أشرنا من قبل.
وبالسمع يسمع هداية اللَّه تعالى في كلام الرسل والصديقين، وكلام رب العالمين، (وَالأَبْصَارَ) بها يرى عظمة اللَّه تعالى في خلقه، فيرى السماء وقد زينها للناظرين، والجبال والوهاد، والشمس والقمر، والنجوم مسخرات لأمر اللَّه تعالى وإن كل هذه المعلومات الحسية يستودع اللَّه تعالى الأفئدة فتدرك، فالسمع والبصر يجمعان المسموعات والمرئيات والأفئدة تعتبر وتقدر وتدرك، وتستبصر، فيكون الإنسان المعامل في الحياة المدرك لمعناه الذي يدرك بالبداهة وجوب شكر المنعم؛ ولذا قال تعالى (لَعَلَّكمْ تَشْكُرونَ)، أي رجاء أن تشكروا لتوافر أسباب الشكر، ودواعيه، والرجاء من العباد، ولا من اللَّه سبحانه وتعالى.
* * *
نعم الله تعالى توجب الشكر
قال اللَّه تعالى:
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ(8/4231)
الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
* * *
في هذه الآيات بيان قدرة اللَّه تعالى في خلقه، وإحكامه وإبداعه، وبيان نعمته على الإنسان ظاهره وباطنه، وكيف سخر الحيوان للإنسان، فتمكن من اتخاذ المأوى، في الظعن وفي الإقامة، وجعل ظلالا تقيهم الحر والبرد، وسخر لهم النبات يتخذون منه لباسا يقيهم الحر، ومن الحديد سرابيل تقيهم في يوم البأس، وكان ذلك إتماما لنعمة الله رجاء أن يسلموا، وقد بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين وأقام الأدلة، وما عليه إلا البلاغ.
ابتدأ سبحانه بالإشارة إلى عجائب الخلق، والتكوين في الطير التي تسبح في الفضاء، كما تسبح السفائن في الماء من غير ماء يحملها، إنما خلقها تعالى لتحمل نفسها، وتتوقى السقوط بأجنحتها، وتسير في الفضاء كما تسير الدواب على الأرض لا عائق يعوقها، ولا عقبات تمنعها، حتى إن الإنسان عندما أراد أن يستخدم الفضاء تعلم منها، ولذا قال تعالى:(8/4232)
أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
الاستفهام هنا لإنكار الوقوع، فيكون بمعنى النفي المؤكد بإقرار السامع كأنه سئل وأجاب بالنفي؛ ولذا كان الاستفهام بمعنى النفي المؤكد، وقد دخلت أداة الاستفهام على حرف النفي، ونفي النفي إثبات.
والمعنى لقد رأوا الطير مسخرات، أي مذللات، سخرها الله تعالى لتسير في الجو، من غير حامل يحملها، ولا ممسك يمسكها، وهي مع هذا مسخرة لخدمة الإنسان، فمنها ما يحمل الرسائل من مكان إلى مكان والشقة بينها بعيدة، ولا يزال يستخدم إلى الآن، ومنه ما هو مسخر للإنسان، يكل الحشرات التي(8/4232)
هي آفة الزرع، وكان كذلك يمنع مغارم التنقية حتى أباده الإنسان ومنها ما يعلم الإنسان، ويحمي الزرع من صغار الطير، وقد أبدناه الآن بالمبيدات التي نسلطها، وصرنا ننفق النفقات الكثيرة، في الوقاية، ولا وقاء.
وهكذا نجد الطير قد كانت مسخرة في الجو لسيرها، ومسخرة للإنسان في وقد خلقها اللَّه تعالى مهيأة للطيران في الفضاء، وجعل كل أعضائها مناسبة بين كونها، فلم يخلق لها يدين، وخلق رجلين ليمكن ارتفاعها من الأرض، وكانت رجلاه واسعة، وأكثر قوته في صدره، وكان قوتها حبا يبلع؛ ولذا كان لها منقار، ينقي ما تختار، ولأن ما يبلع لَا يكون فيه تفتيت بالمضغ، كانت حرارة الحوية هاضمة، وجعل في أجنحتها ريشا قويا في خوافيه وقوادمه، حتى تكون الخوافي قوة للقوادم وكانت الأجنحة، لجلب الهواء الذي يحملها، وهي طائرة، فهي ترفرف بها لتجلبه، حتى إذا استوى سارت كأنها تسير على مكان صلب، أو ماء.
وهذا معنى قوله تعالى: (مَا يُمْسِكُهنَّ إِلَّا اللَّهُ) فهو خلق فيها هذه القوى التي تقوى بها على الطيران، ومع ذلك حاطها بكلاءته، وحمايته، كما أحاطها بفطرتها، تبارك الله الخلاق العليم، وقد بين سبحانه أن في هذا الخلق آيات، لمن يعتبر ويستبصر، ويفكر في خلق اللَّه تعالى وحكمته فقال تعالت قدرته: (إِن فِي ذَلِكَ لآيَات لِّقَوْم يُؤْمنُونَ) الإشارة إلى الخلق والتكوين والتسخير، واللام في قوله تعالى: (لآيَاتٍ)، (لام) التوكيد أو الابتداء بمعنى التوكيد، و (آيات)، أي دلالات قاطعة (لِّقَوْم يُؤْمِنونَ)، أي الجماعة تتضافر على الحق وتطلبه، وتتهداه، وتتعرفه، ومن شأنهم الإيمان بالحق إذا بدت دلائله، وقامت براهينه، وكان التعبير بالمضارع في قوله تعالى: (يُؤْمِنونَ) يعني من شأنهم وحالهم الإيمان دائما، أما غيرهم فقد غشيتهم غواشي الباطل وطمس عليهم الهوى، فصاروا كالصم البكم الذين لَا يعقلون ولا يدركون.(8/4233)
بعد ذلك بين سبحانه وتعالى نعمه على خلقه في الأنعام التي يتمكنون منها بتأليفها وغيرها فقال تعالى:(8/4234)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا)، أي صير لكم من بيوتكم التي تتخذوها منها من الحجر والمدر، والآجر، واللبن، أي موضع سكون واطمئنان، فهم في حركة دائبة دائمة كالكواكب والنجوم والأجرام السماوية، ولم يجعلكم في سكون كالأحجار والجبال، ولو في مظهرها وإن كانت ذاتها تمور، بل جعلكم في مضطرب تتحركون وتنامون وتستقرون، فكان من نعمته عليكم أن جعلكم تسكنون وتعملون، فالعمل والسكن كلاهما نعمة من اللَّه، ونرى من هذا التخريج أن جعل لكم ذلك السكن، والاطمئنان بعد اللغوب والتعب، كما أن بناء البيوت من موادها نعمة، وقد يقول قائل: كيف تكون نعمة أسبغها اللَّه، والعبد هو الذي بناها، وتقول: إن النعمة في أن مكنه من ذلك، وسخر كل شيء، فبعقله الذي خلقه اللَّه تعالى فدبر وبنى واهتدى إلى أساليبها، والخلاصة أن النعمة في أمرين: النعمة الأولى - في هدايته إلى البناء من مواده، وجعله مأوى، والثاني في أنه جعله يسكن بعد الكرب والتعب، وهذا يشير إلى أن الراحة لَا تكون إلا بعد جهد كما أن السكن لَا يكون إلا بعد عمل هذه نعمة كبيرة، وهي نعمة الحياة العاملة الكادحة.
والنعمة الثانية - هي تمكين الإنسان من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وقد ذكر اللَّه سبحانه نعمة فيها بعد نعمة أكلها وتأليفها، وتسخيرها للإنسان في حاجاته، فقال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْم إِقَامَتِكُمْ)، الظعن الارتحال والتنقل، وانتجاع مواطنِ الكلأ، واستخفافها هو طلب خفتها، أي تطلب لخفتها فالسين والتاء للطلب، (يوْمَ ظَعْنِكُمْ)، (وَجَعَلَ لَكُم مِّن(8/4234)
جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا)، كالأخبية والفساطيط، تستخفونها يوم ظعنكم، فهي بيوت محمولة، وتلك بخلاف البيوت المبنية من الآجر والأحجار واللبن على نحو ما أشرنا من قبل.
وهي خفيفة في الظعن وفي الإقامة فإذا ظعنتم جعلتموها على ظهور الإبل أو الخيل ونحوها، وإذا أقمتم أنزلتموها من فوق ظهور الإبل، فأقمتم تبتغون الماء والكلأ ما شاء اللَّه تعالى أن تقيموا، ثم ترتحلون.
ويشمل ذلك الذين يقيمون في الخيام في الصحراء، فإنها تكون موضع إقامة دائمة لهم، ويسمون " أهل الوبر "، كما يسمى سكان المدائن بـ " أهل المدر " كأهل مكة والمدينة والطائف.
ويثار هنا كلام، وهو أن الخيام والفساطيط، لَا تتخذ من الجلود، وهي الأدم فقط، بل تتخذ من الأصواف والأوبار والشعر أيضا، فليس ما يؤخذ من الجلود هو ما يأخذ من الأدم فقط، بل ما يؤخذ من الأخبية، في الأصواف والأوبار والشعر يؤخذ من الجلد أيضا؛ لأنه يجز منه أو يقص، وإنما خصت الأصواف وما يمثلها بالأثاث والمتاع، لأنها لَا تؤخذ إلا منها، ولم تكن عند العرب تؤخذ من الأدم، وذلك هو الغالب في عصرنا أيضا.
(وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ) الصوف هو للضان والأوبار للجمال، والأشعار للمعز وهي يتخذ منها أثاث، وهي الثياب والفرش، وقوله متاعا، أي ينتفع فيه بالبيع والشراء والاتجار بشكل عام.
وأظن بأن المتاع هو ما يستمتع به بالنظر والزينة ونحو ذلك مما يكون متعة للإنسان، ونختار ذلك لسببين:
السبب الأول - أن الانتفاع بالاتجار جائز في كل شيء حتى الإبل، ولحمها وعظامها وجلودها وإنما المذكور هو انتفاع شخصي بالاستهلاك لَا بالاتجار.(8/4235)
والسبب الثاني - أن اللَّه تعالى ذكر متعة النظر والبهجة، وطيب النعمة في آية أخرى، فقال تعالى: (أَثَاثًا وَمَتَاعًا)، أي يتخذون من الأصواف والأوبار والأشعار أثاثا وزينة، والزينة ليست حراما، كما قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ. . .).
ولعله مما يرشح لهذا المعنى ويقويه تعالى: (إِلَى حِينٍ)، أي أن ذلك الاستمتاع بهذه النعم، وخصوصا الأثاث والمتاع إلى حين حتى يجيء وعد اللَّه تعالى فيكون الحساب والعقاب والثواب.
كما أن البيوت تتخذ من الآجر والأحجار، ومن الأصواف والأوبار والأشعار والجلود تتخذ أيضا أكنان من الجبال ولذا قال تعالى:(8/4236)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
(وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
واللَّه سبحانه وتعالى (جَعَلَ) بمعنى صيَّر، بأن خلق لنا أشجارا تظل الناس في الحرور، وبيوتا يكون ظلها دافعا لوهج الشمس وفي الصحارى تجد الأشجار المظلة، والسحاب المطل، وقال سبحانه وتعالى مما خلق، ولم يذكر شيئا بعينه؛ لأن أنواع ما خلق وكان منه الظلال كثيرة، فالجنات تتفيأ ظلالها بالغدو والآصال والبيوت فيها ظلال، لمن يكون بجوارها، والغمام يكف وهج الشمس وحرارتها، والسحاب تظلل، والنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في رحلته إلى الشام كانت السحاب تظله في سيره، وحيثما انتقل انتقلت معه، وإن هذه الظلال نعمة من اللَّه تعالى في أرض صحراوية جدباء لَا ماء يرطب جوها، ولا نسيم عليل يطفئ حرها؛ ولذلك كانت من نعم اللَّه التي أنعم بها على سكانها الذين آتاهم اللَّه تعالى مع ذلك جلدًا وقوة احتمال، فكانت هذه نعما أنعم اللَّه بها عليهم ليستطيعوا أن يعيشوا وأن ينعموا في خيراتها.
وإن هذه ظواهر طبيعية قد يقول قائل: ما النعمة فيها؟، ونقول في الجواب عن ذلك: إنها نعم تغمرنا وتغمر سكان الصحارى ولا يحسون، ولكن إذا(8/4236)
حرموها يعرفون مقدار الإنعام، وهي أفعال مختارة يريد وضع الأمور في مواضعها، وكل شيء عند اللَّه تعالى بمقدار وبميزان محكم.
وقال تعالى: (وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكنَانًا)، وهي الكهوف والمغارات، وأكنان جمع كن، وهو ما يتقى بالاستتار فيه تتبع الأعداء، وتربص المتربصين، كما كمن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو وصاحبه أبو بكر في غار ثور ثلاث ليال سويا، وكما كان - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة يتعبد في غار حراء الليالي ذوات العدد، وإن هذا كله يدل على أنها أكنان، إما استتارًا للعبادة، أو فرارا من عدو متربص، أو كن من مطر غامر، أو استظلال، ولماذا سماها اللَّه تعالى أكنانا، ولم يسمها بيوتا؛ لأن الناس لم يتخذوها بيوتا يسكنون فيها تكون مطمأنا وسكنا لهم تسكن فيها نفوسهم، ويطمئنون بعد تعب ومكان راحة، لأن جبال البلاد العربية لم تكن موضع اطمئنان كالجبال الخضراء، فلم تكن مساكن تكون لسترة حالهم، بل كانت أكنانا للاستتار من عدو أو مطر منهمر، أو اتقاء لحرارة الشمس أو نحو ذلك، وإذا كان من العرب من ينحتون من الجبال بيوتا فارهين كما جاء ذلك في قصص القرآن الحكيم، فإن ذلك لم يكن عند أهل الحجاز ونجد ونحوها.
وقد مَنَّ اللَّه تعالى بما هيأهم به ومكنهم منه، وهو ما ذكره بقوله تعالى:
(وَجَعَلَ لَكمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأسَكُمْ)، و (جعل) بمعنى صيَّر وهيأ بأن مكنكم من أن تصنعوا ذلك لأنفسكم، و (السرابيل) جمع سربال وهو القميص، وذكر أن هذه السرابيل نوعان نوع يتقى به الحر، فلا يكون عاريا يتعرض للجو اللافح، كما يتعرض العراة من الزنوج الذين لم يتمكنوا من قمصان يتقون بها الحر، وقد قيل إن السرابيل يتقى بها الحر والبرد، فكيف ذكر الحر فقط، والجواب عن ذلك أن ذكر اتقاء الحر تستدعي لَا محالة ذكر اتقاء البرد، وإن لم يذكر بالنص فقد فهم بالاقتضاء، وقد ذكر سبحانه الدفء من قبل في قوله تعالى، (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأكلُونَ) وإجابة الزمخشري بأن ذكر الحر يناسبهم(8/4237)
دون البرد لأنهم لَا يحتاجون إلى اتفاء البرد، وعندي أن البلاد التي جوها قارِّي كبلاد العرب يكون بردها شديدا قارسًا.
والواقع أن الكلام - كله في اتقاء الحر، فذكر الظلال والبيوت والأكنان كل هذا في سياق اتقاء الحر فكان المناسب أن يذكر في مزايا السرابيل أن تقي من الحر.
والنوع الثاني من السرابيل وهو ما يتقى به البأس، وهو دروع الحرب، إذ البأس هو الحرب، كما في قوله: (. . . وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَاسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأسِ. . .)، وأضاف سبحانه وتعالى الباس إليهم، لأنهم في الجاهلية هم الذين كانوا يثيرونها حروبا شعواء، تدعو إليها العصبية الجاهلية، وتدفع الحمية غير المدركة العاقلة كحرب البسوس، وعبس وذبيان، وغيرهما مما كانوا يثيرونه من حروب، فلم تكن حروبا عادلة؛ ولذا أضيفت إليهم.
وإن هذه النعم كلها بتسخير هذه الأمور لهم، وتهيئتهم بالفطرة لها، وإن نعم اللَّه تعالى لَا تخص، وختم اللَّه تعالى الآية بقوله تعالت حكمته: (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)، أي كذلك التي هيأ سبحانه وتعالى لكم ومكنكم، وهداكم بفطرتكم إليه من جعل بيوتكم سكنا ومطمئنا، وعن اتخاذكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم وإقامتكم، ومن اتخاذكم من أصوافها وأوبارها وأشعارها، أثاثا يكون زينة ومتعة، ومن اتخاذكم الظلال مما خلق، ومن جعل البيوت ومن اتخاذكم السرابيل والدروع.
كذلك الذي هيأ لكم تكون نعمه الكلية عليكم دائما (لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)، أي تسلمون وجوهكم للَّه تعالى، وتتركون عبادة الأوثان لهذه النعم المتوالية عليكم، وأفرد سبحانه النعمة، وهي متعددة لأن المفرد المضاف يعم، ولأنها واحدة باعتبار مصدرها، وهو الله سبحانه وتعالى.
وقال تعالى بعد ذلك:
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)(8/4238)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
تقدير القول فإن علموا هذه النعم التي أسبغت عليهم، ومع ذلك كفروا فما عليك من كفرهم من شيء، و (الفاء) ما بعدها ترتب على ما قبلها، (تَولَّوْا)، أي أعرضوا ونأوا بجانبهم، وأنكروا هذه النعم المتضافرة، فإن العذاب نازل بهم لا محالة، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، لأنك قد بلغت وأنذرت، وإنما عليك التبليغ البين الواضح الذي لَا يماري فيه عاقل مدرك، و (الفاء) في (فَإِنَّمَا) واقعة في جواب الشرط، و (إنما) من أدوات القصر، (عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)، أي ليس عليك إلا البلاغ الواضح، وإنك لَا تهدي من أحببت، ولكن اللَّه يهدي من يشاء.
* * *
جزاء الكفر بنعمة الله
قال تعالى:
(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
* * *
ساق الله تعالى ذكر ما أنعم به عليهم، والإنسان كله في فيض نعمة اللَّه تعالى من يوم حمله جنينا في بطن أمه إلى أن يولد، ومن بعد أن يولد هو في حياطة اللَّه تعالى ورحمته، إن مرض كشف عنه الضر، ومنحه العافية، وإذا كان(8/4239)
في المخاطر تحطه رحمة اللَّه تعالى، وهو في مأواه، وملبسه، ونعيمه وراحته بعد تعبه في نعم الله تعالى، وهو يعرف هذه النعم، ويعرف أنها من عند اللَّه تعالى، وبفضل منِّه وكرمه، والعرب في عصر النبوة وقبله، كانوا أعرف الناس في جيلهم لربهم، فهم كانوا يعرفون الله تعالى الذي خلق الكون وما فيه ومن فيه وحده، وهو الواحد في ذاته وصفاته، ولكنهم بتسلط الأوهام يعبدون معه الأوثان؛ ولذا قال سبحانه:(8/4240)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
هم يعرفون اللَّه ومع ذلك يشركون، ويعرفون أنه الضار النافع، وإذا مسَّ الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما وإذا كانوا في شدة لَا يجأرون إلا إليه، ويعرفون هذه النعم واحدة واحدة ثم ينكرونها فما هي هذه المعرفة؛ إن للمعرفة مراتب ثلاث، تبتدئ بتصور الأمور والوقائع، ومنها النعيم فيتصور أن اللَّه رازقه وخالقه، فإذا تجاوز هذه المرتبة، انتقل من التصور إلى الاعتقاد بالصحة، فإذا اجتاز هذه المرحلة انتقل إلى المرحلة العليا وهي الإيمان، والإيمان مراتب، مرتبة التصديق الجازم المطابق للواقع عن دليل، ثم مرتبة الإذعان، والخضوع لما اعتقد ثم ينتقل إلى أعلى المراتب، وهي مرتبة العمل.
وهذه هي المعرفة الكاملة، ولقد قرر سقراط في الأخلاق أن المعرفة هي مقياس الفضيلة والرذيلة وهي المعرفة في أعلى درجاتها التي يصحبها عمل، وكمال الإيمان تصديق وإذعان وعمل عند العلماء المدركين.
وقوله تعالى: (يَعْرِفونَ نِعْمَتَ اللَّهِ) يبدو أنها مرتبة المعرفة الأولى، التصوير، ثم التصديق من غير إيمان وإذعان؛ ولذا ينكرونها، أي أنهم لَا يذعنون للاعتقاد بها، وتبدو في أعمالهم، و (ثُمَّ) في قوله تعالى: (ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا) لبعد ما بين مرتبة المعرفة والإنكار العملي، ولقد قرر سبحانه أن أكثر الكافرين هم من هذا الصنف الذي ينكر بعمله ما عرفه بتصوره وصدقه بواقعه؛ ولذا قال: (وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ)(8/4240)
الضمير في (هم) يعود إلى الذين (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا) وهم بعض أهل الجحود وقوله تعالى: (وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) فيه تعريف الطرفين، وهو يفيد القصر، أي أن أكثر هؤلاء لَا يكونون إلا كافرين، فإن الكفر يكون بإنكار الحق، وعدم الإقرار به كما في قوله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ. . .).
بعد ذلك بين الله تعالى حالهم بعد البعث فقال:(8/4241)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
الجملة موصولة بما قبلها، على جزاء للكفر، ومعرفة النعم ثم إنكارها، (وَيَوْمَ) منصوب لفعل محذوف أي اذكر اليوم، وذكر اليوم هو ذكر ما يجري فيه من أحداث وبعث ونشور، وحساب وعقاب وثواب، فإذا كانوا ينكرون النعمة، فليذكروا اليوم وما جرى فيه، وقوله تعالى: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا) والشهيد هو الرسول الذي بعث لها داعيا إلى الحق معرفا به نذيرا وبشيرا وهاديا إلى اللَّه بإذنه وذكر بعث الرسول، ولم يذكر بعث الأمة لأن بعث الشهيد الذي يشهد لها أو عليها هو بعث للأمة، فكان بعث الرسول عليه الدلالة صراحة، وبعث الأمة كان بدلالة الاقتضاء، أو كان ذكر بعث الرسول صراحة لبيان مقام الرسول عند اللَّه، ولبيان أن الرسول الذي يدعوكم هو الذي يشهد لكم وعليكم وعنكم يوم الحساب فأجيبوا داعي اللَّه إذ يدعوكم له لتنجوا من عذاب اللَّه تعالى، وقوله تعالى: (ثمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) التعبير بـ (ثُمَّ) هنا الدالة على التعقيب والتراخي للدلالة على أنهم بعد شهادة النبيين طلبوا أن يعتذروا، فلم يقبل منهم، ولمقام هذا الكلام المطوى كان العطف بـ (ثُمَّ) الدالة على التراخي، فلا يؤذن لهم لأنه لَا حاجة إلى مخاصمة كما هو شأنهم في الدنيا، بل إن اللَّه عليم بهم، وشهادة أنبيائهم فيهم صادقة غير مكذوبة كما كانوا يتوهمون في الدنيا.(8/4241)
وكما أنهم لَا يمكنون من القول والمخاصمة؛ لأن القيامة ليست مثل الدنيا مغالبة بالبيان، كذلك لَا يستعتبون، أي لَا يمكنون من الاستعتاب، وهو الاسترضاء، إذ الاستعتاب هو طلب العتب، وهي الرضا، فهم لَا يمكنون منها، لأنه قد انتهى وقت التكليف والإرضاء ولم يبق إلا الجزاء.
وفى قوله تعالى: (لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كفَرُوا) فيه إظهار في موضع الإضمار، وذلك لأن الموصول جاء في موضع الضمير، وذلك للإشارة إلى أن السبب في عدم الإذن لهم بالاعتذار، وأنهم لَا يمكنون من الاستعتاب، هو كفرهم الذي عاندوا به النبيين وقد قال تعالى في أحوالهم يوم القيامة:(8/4242)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
(وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
(وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ) جواب (إذا) محذوف يذهب فيه العقل كل مذهب، هالهم الأمر، وأحسوا بمقت اللَّه تعالى عليه، وحاولوا طلب التخفيف، وقد أجابهم اللَّه تعالى بقوله: (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ)، فالفاء عاطفة على محذوف مأخوذ من معنى الخوف والرغبة في التخفيف أو التأجيل عسى أن يعملوا عملا صالحا ينجيهم من ذلك العذاب العتيد، الذي كانوا يترقبونه، فالفاء هنا عاطفة على جواب الشرط المحذوف وليس ما بعدها جواب الشرط؛ لأن الفاء لَا تقع على لا النافية، إنما تكون بما النافية.
حالهم تدعوهم إلى طلب التخفيف إذ يرون عذابًا لم يكن في حسبانهم فتوجب طلب التخفيف أو التأجيل، فلا يخفف عنهم عذابهم، ولا يؤجلون، لأنهم انتقلوا من دار الابتلاء إلى دار الجزاء، فمعنى (لا ينظرون)، أي لا يؤجلون.
وعبر سبحانه بالذين ظلموا؛ لأنهم أشركوا، وإن الشرك لظلم عظيم، ولأنهم ظلموا أنفسهم بكفرهم وعنادهم، وظلموا عقولهم وإدراكهم، وإذا أشركوا مع اللَّه حجارة لَا تنفع ولا تضر، ولا تسمع ولا تبصر وظلموا المؤمنين بإيذائهم(8/4242)
وفسقهم في دينهم وظلموا الرسول باستهزائهم به، وتسبب هذا التكاثر كان العذاب الهائل الذي لم يعرفوا له حدا ولا نهاية.
هذه حالهم، فما هي حال الأوثان التي يعبدونها لتقربهم إلى اللَّه زلفى، أو لتكون شفعاء لهم، قال الله تعالى عنها في ذلك اليوم الذي لَا تنفع فيه شفاعة الشافعين.(8/4243)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
(وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86)
هذه حال الذين ظلموا الناس وظلموا أنفسهم وعقولهم بعبادة الأحجار مع اللَّه تعالى، فما هي حالهم من هذه الأنداد التي اتخذوها آلهة من دون اللَّه، أجاب اللَّه تعالى عن ذلك، فقال: (وَإِذَا رَأَى الذِينَ أَشْرَكوا شُرَكاءَهمْ) بالإضافة هنا لملابسة عبادتها شركاء لِلَّهِ، فهي إضافة لأدنى ملابسة، إذا رأى الذين أشركوا ما عبدوه من دونه ظنوا في ذلك فرجا؛ إذ يتحول جزء من العذاب الذي نزل بهم إليها، وكانوا بذلك ضالين في الآخرة، كما كانوا ضالين به في الدنيا، قالوا للأنبياء الذين شاهدوا اللَّه: هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوهم من دون اللَّه. ندعو معناها نعبد، أو نلجأ بأن كنا نحسب ما يقينا عن اللَّه، وكأنهم بهذا يحسبون أنها تكون شريكة في العذاب، فتكون هذه الشركة مخففة ما هم فيها، وقولهم: (مِن دُونِكَ)، أي غيرك، فردوا عليهم بأنهم ليسوا شركاء في العذاب، وإنكم أنتم الذين ارتكبتم بهواكم، ولغلبة الأوهام عليكم، فتصورتم ما ليس بحقيقة، وعليكم وحدكم وزر ما صنعتم وارتكبتم، وهذا قوله تعالى: (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ) القول هو إنكم لكاذبون، والضمير في ألقوا يعود إلى الشركاء، أي ألقوا ذلك القول إنكم لكاذبون، والشركاء فيها أحجار وأشخاص، وملائكة، وشياطين، وكل هؤلاء ألقوا تبعة ادعاء غير اللَّه تعالى على المشركين؛ لأن أحدًا من هؤلاء الشركاء لم يدع إلى عبادته، فالأحجار لَا تنطق ولا تدعو، والأشخاص الذين عبدوهم كعيسى وكالملائكة يتبرأون منهم، والشيطان، وإن قد أغواهم فهم(8/4243)
الذين غووا، وعليهم تبعة غوايتهم، كما قال تعالى عنه: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22).
وما هو الكذب الذي أسند إليهم، وأكد ذلك التوكيد؟ الكذب في أنهم ألقوا التبعة عن أنفسهم، وحمّلوها شركاءهم، والكذب في تضمن قولهم أن المسئول أولئك الشركاء، وكذبهم في زعمهم أن أولئك الشركاء أضلوهم، وإنما أضلتهم أوهامهم التي توهموها، وشهواتهم التي أركسوا فيها، حتى حسبوا أنه لَا بعث ولا نشور، فهم أضلوا أنفسهم ووجد الشيطان سربا لنفوسهم من وراء هذا الضلال، و (الفاء) في قوله (فَألْقَوْا) للترتيب والتعقيب.
وقد أكد شركاؤهم كذبهم بالجملة الاسمية، وباللام، وبـ إن المؤكدة، وهكذا يتبرأ منهم حتى الشياطين التي استجابوا لها، وصاروا أمام العذاب وجها لوجه.
وإذا كانوا أمام العذاب، ولا منجاة لهم فلم يبق إلا أن يستسلموا كارهين، ولذا قال تعالى:(8/4244)
وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
(وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
الضمير يعود على المشركين، أي أنهم بعد استسعفوا بالشركاء فلم يسعفوهم، واستصرخوا بهم فلم يصرخوهم، لم يبق إلا أن يستسلموا للَّه، وهذا معنى (وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ)، وتعدى بـ (إلى) لتضمن معنى هذا السلم الاستسلام إليه سبحانه بعد طول العناد (وَضَلَّ عَنْهُم)، أي غاب عنهم ما كانوا يفترونه من أن الشركاء تقربهم إلى اللَّه، وأنها تكون لممعفا عند اللَّه تعالى، و (ما) اسم موصول بمعنى الذي، أو مصدرية، وعلى الأول: غاب عنهم القول الذي كانوا يفترونه، وعلى الثاني: غاب افتراؤهم، ومعنى غيبة الافتراء غيبة موضوع الافتراء، إذ إن موضوع الافتراء، وهو شفعاؤهم قد صار لَا حقيقة له، قكان جديرًا بأن يغيب غيبة منقطعة.
* * *(8/4244)
الصد عن سبيل الله ومقام الرسالة المحمدية
قال تعالى:
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
* * *
إن المشركين كانوا لَا يكتفون بشركهم في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل كانوا يؤذون المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم، ويستقبلون وفود الحجيج، ليخبروهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد اقتسموا مداخل مكة ليمنعوا الناس عن تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهم لَا يكتفون بشركهم، بل كانوا يصدون الناس عن الحق، وهو سبيل اللَّه والطريق الصحيح الموصل لعبادته، فهؤلاء لهم عذابان: عذاب الشرك، وعذاب الصد عن سبيل الله، زاده اللَّه تعالى عليهم، لأنهم زادوا على أنفسهم رجسا بعد رجس؛ ولذا قال تعالى:(8/4245)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن لسَبِيلِ اللَّهِ) وهم الذين لم يؤمنوا بالرسالة المحمدية، والكفر يشمل الشرك باللَّه بعبادة الأوثان، وأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وبعض من نسميهم أهل كتاب يدخلون في الشرك من بابه، وهم الذين يعبدون المسيح، أو يقولون: إنه ابن اللَّه، ويصفونه بالرب ويعبدون روح القدس، ويقولون اللَّه ثالث ثلاثة، فكلمة الذين كفروا يدخل في عمومها أهل(8/4245)
الكتاب كما قال تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأتِيَهُمُ الْبَينَةُ)، وقد ذكر اللَّه تعالى ذلك الوصف للمشركين وأهل الكتاب؛ لأن الصد عن سبيل اللَّه وقع من المشركين، ووقع من أهل الكتاب في عصر تبليغ الرسالة، وهو الآن يقع على أشده من أهل الكتاب. وقد كان صد المشركين بالأذى ينزل بالضعفاء، وبالسخرية تنزل بأهل الشرف والمروءة، وبالتضليل ما استطاعوا بالرسالة المحمدية، وشاركهم في ذلك اليهود، وخصوصا بعد الهجرة إلى المدينة الطاهرة، وقد ذكرنا كيف كانوا يقتسمون مداخل المدينة، ليضلوا الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم أبو لهب بن عبد المطلب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - وحفيد هاشم رأس البيت الهاشمي المجيد.
وقد قال تعالى: في عقاب هؤلاء الصادين: (زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ)، أي أنهم يزاد عليهم عذاب بسبب ذلك التضليل والصد عن سبيل اللَّه، وذلك فساد في الأرض؛ ولذا قال سبحانه: (بِمَا كانُوا يُفْسِدُونَ)، أي بسبب فسادهم، وأي فساد أكبر من الصد عن سبيل اللَّه، وهو سبيل الحق، وتبليغ الرسالة الإلهية.
وقد ذكر سبحانه وتعالى وقت ذلك العذاب، فقال عز من قائل:(8/4246)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ)، (يوم) منصوب بفعل محذوف معناه، واذكر يوم نبعث في كل أمة شهيدا (مِّنْ أَنفُسِهِمْ)، أي منهم، ومن أنفس قومه كما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في العرب من أنفسهم، وكلمة (نَبْعَث) تدل على أنه يبعثه اللَّه تعالى مع قومه شهيدا لهم أو عليهم يوم القيامة، ويذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه بعث في كل أمة شهيدا عليهم يبلغهم في حياته، ويشهد عليهم يوم القيامة (وَجِئْنَا بِكَ شهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ) والجمع بين المضارع في قوله: (وَيَوْمَ نبْعَث(8/4246)
فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ)، والماضي في قوله تعالى: (وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ) يدل على أن البعث في الدنيا بإرسال الرسل مبشرين، ومنذرين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - شهيد على كل الرسل، لأن رسالته هي الكاملة، وهي المتضمنة لكل الرسالات الإلهية كلها، فالإسلام دين اللَّه، وهو دين النبيين أجمعين، وهو خاتم الرسالات كلها.
وتدل بهذا الجمع بين الماضي والمستقبل بأن الله تعالى يبعث مع كل أمة يوم القيامة شهيدًا عليها بأنه أدى الرسالة وشهيدا لمن آمن واتقى، وشاهدًا على من كفر وعصى.
وبالنسبة للبعث الدنيوي وشهادة الرسول على الرسل أجمعين ذكر القرآن الكريم الذيِ نزل مصدقا لما بينِ يديه مِن الكتب وشاهدا للرِسل أجمعين قال تعالى: (ونَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانَا لِّكُلِّ شيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ).
وصفه اللَّه تعالى بأربعة أوصاف كاملة.
الوصف الأول - أنه تبيان كل شيء أي فيه بيان كامل لكل شيء من شئون الرسالات الإلهية للبشر، ففيه خير رسالات النبيين السابقين، وفيه بيان الأحكام المحكمة التي لم يَعْرُها نسخ من الشرائع الإلهية كلها، وفيه المعجزات التي جاءت بها الرسل معجزة معجزة، ولولا القرآن الكريم ما علمت على درجة اليقين معجزة لنبي أو رسول، لأنه الكتاب المحفوظ المتواتر حقا وصدقا.
والوصف الثاني - أنه هدى، فهو يشتمل على الهداية، كما قال قائل الجن:
(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ. . .)، ويبين السبيل الأقوم والطريق المستقيم.
والوصف الثالث - أنه الرحمة، لأن شريعته رحمة للعالمين فهي بنظامها واقتصادها وحدودها، وكل عقوباتها رحمة للكافة من الأمة، وإن كانت فيها قسوة أحيانا على الآحاد، ففيها رحمة للعباد،(8/4247)
والوصف الرابع - (وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) فيه التبشير للمؤمنين بالجنة، والإنذار للكافرين بالنار، وذكرت البشرى دون النذر لأنها التي تتناسب مع الرحمة، واللَّه ولي المؤمنين.
* * *
من الاخلاق القرآنية
قال الله تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)(8/4248)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
* * *
وصف القرآن الكريم في الآية السابقة بأنه تبيان كل شيء وهدى ورحمة، وهو بذلك يشير إلى أنه جامع للشريعة وفيها الهداية، وفيها الرحمة، وقد بين اللَّه الهداية والرحمة وغيرها فقال:(8/4249)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
العدل يتضمن الرحمة بأعلى معاني الرحمة، وإن كان العدل يوجب الشدة والغلظة على الجناة، لأنه إذا كان فيه غلظة على الجاني، ففيه رحمة بالمجموع، والرحمة بالجرم تشجع الجريمة، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " من لَا يَرْحَمْ لَا يُرَحْمْ " (1)؛ لأن العطف على الجاني إيذاء للكافة، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرحمة المطلوبة: " هى الرحمة بالكافة " (2)، وإذا كانت شريعة اللَّه تعالى رحمة للعالمين، فلأن قوامها العدل.
* * *
العدالة في الإسلام:
تجري في الشرائع كلمات ثلاث المصلحة أو المنفعة، والواجب أو الفضيلة، والعدالة، ونجد أن كلمة العدالة أشملها، بل هي تشمل الأمرين الآخرين، فإن العدل يتضمن المصلحة العامة والمنفعة الشاملة، إذ يكون الجميع في أمن ويمنع الظلم والبغي والعدوان، وهو بذلك يدفع أضرار هذه الموبقات، والعدل فيه حماية للأنفس، وقمع للرذائل، فالرذائل في جملتها اعتداء، وكل دفع للاعتداء يكون عدلا، وإن كل شيء في الشريعة قام على العدل، حتى عقود المعاملات فإنها قامت على المساواة، فأساس التعاقد هو المساواة بين العوضين، فإذا دخل التعامل
________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه الحاكم في المستدرك (7386) ج 4/ 185 هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.(8/4249)
غُبن أو تغرير أو مماكسة أثر ذلك في صحة العقد مما أدى إلى كلام طويل بين الفقهاء في ذلك.
والعدل الذي يأمر اللَّه تعالى به ليس هو فقط الإنصاف بين الناس المأمور به في قوله تعالى: (. . . وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. . .)، بل إن العدل له شعب ثلاث:
1 - العدل في حق اللَّه تعالى بشكر نعمته، والقيام بما أمر من فرائض، والانتهاء عما نهى من منهيات، فذلك عدل مع اللَّه؛ لأنه في جملته من شكر النعمة، وهو عدل لأنه قيام بالواجب نحو ما أعطى سبحانه وتعالى.
2 - وعدل في ذات نفسه بأن يكون مستقيم النفس، لَا انحراف ولا تجانف، ولا ميل عن الطريق السوى.
3 - وعدل مع الناس بأن يحب لهم ما يحب لنفسه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " عامل الناس بما تحب أن يعاملوك "، وبأن ينتصف للناس من نفسه، ولا يلجئهم إلى الحاكم.
ثم أخيرًا إنصاف الناس إذا حكم.
وتعجبني كلمة قالها ابن العربي، فقد قال: " العدل بين العبد وربه إيثار حقه تعالى على حق نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والاجتناب للزواجر والامتثال للأوامر، وأما العدل بينه وبين نفسه، فمنعها مما فيه هلاكها، قال اللَّه تعالى:
(. . . وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)، وعزوب الأطماع عن الاتباع، ولزوم القناعة في كل حال ومعنى، وأما العدل بينه وبين الخلق فبذل النصيحة وترك الخيانة فيما قَلَّ أو كثر، والإنصاف من نفسه لهم بكل وجه، ولا يكون منك إساءة إلى أحد بقول ولا فعل، ولا في سر ولا في علن، والصبر على ما يصيبك منهم من البلوى، وأقل ذلك الإنصاف وترك الأذي ".(8/4250)
ولم يذكر العدالة في الحكم؛ لأن ذلك أمر لَا يحتاج إلى تنبيه بعد نص القرآن في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وإِذَا حَكَمْتُم بَيْن النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. . .).
هذا هو العدلى الذي أمر اللَّه تعالى به قد ذكرناه، وإن كان بيانه أعلى مما تشمله عقولنا، وقد ابتدأ سبحانه وتعالى به؛ لأنه يتعلق بالكافة، وهو مطلوب في كل حال، وهو إعطاء كل ذي حق حقه، ثم أمر بعد ذلك بالإحسان وهو أكثر من العدل فيوضأ، وخيره يمتد ويزيد؛ ولذا عقب العدل بالإحسان.
* * *
الإحسان:
والإحسان مصدر أحسن، وأحسن تتعدى بنفسها، وتكون بمعنى الإتقان والإحكام، ومنه الإحسان في العبادة كيفًا بأن ينصرف الوجه للَّه تعالى، ويقرب منه، ومنه أداء النوافل لإتقان الفرائض، ومنه حديث جبريل في التعريف بالإحسان " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (1).
وأحسن تتعدى بـ (إلى) بمعنى أعطاه حقه وزاد عليه فضلا من عنده، حماية لنفسه من الظلم ووقاية له من التعدي، والإحسان بهذا المعنى يكون في المال فيكون بإعطاء الزيادة عما يستحق، ويكون في القول فيقابل القول السيئ بالقول الحسن، كما قال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم)، ويكون بالصفح عمن ظلم، وبالعفو عمن أساء، ويكون بالربط بين الناس بالمودة والعفو فما زاد عبد بعفو إلا عزاء.
والإحسان يكون بين الخلطاء والعشراء، والتعامل الأحادي، ويكون الأمر بالإحسان بعد الأمر بالعدل انتقال من الأمر العام الذي هو صالح وواجب في كل الأحوال، وفي كل الأوقات إلى أمر آحادي تطيب له النفوس، وتتلاقى به بالمحبة والمودة، يكون التألف والتراحم والتآخي في الجماعة.
________
(1) سبق تخريجه.(8/4251)
إيتاء ذي القربى:
وبعد ذلك نزلت الأوامر إلى الأسرة بربط آحادها، فقال تعالى: (وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى) والقربى مؤنث أقرب، والمعنى إيتاء الأقربين ومعونتهم، وألا يضن عليهم بخير يقدمه لهم، وهو صلة الرحم التي أمر الإسلام بها، والإيتاء الإعطاء والأصل المال، ولكنه يشمل كل ما يكون خيرًا يسديه إليهم مالا أو معروفا.
والأسرة في الإسلام ليست مقصورة على الزوجين والفروع، بل هي الأسرة الممتدة الشاملة للأصول والفروع والحواشي من الإخوة والأخوات وأولادهم، والأعمام والعمات وأولادهم، والأخوال والخالات وأولادهم، وقد أوجبت الشريعة الإسلامية وجوب نفقة القريب على قريبه إذا عجز عن الكسب، ولم يكن ذا مال، ووضعت مقياسا دقيقا أساسه الغرم بالغنم فمن كان يرثه إذا مات، تجب عليه نفقته إذا عجز.
هذه هي التي أمر اللَّه تعالى بها، وعليها يقوم بناء المجتمع الصالح، وبعد ذلك نهى سبحانه عما يخرب ذلك المجتمع وينخر في عظام المجتمع الحمى، فقال تعالى: (وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْي).
نهى عن أمور ثلاثة هي أدوات الهدم في البناء الاجتماعي:
الأمر الأول - (الْفَحْشَاءِ)، وهي بمعنى الزيادة والإفراط فيها، وكل المعاصي فيها إفراط في الزيادة عن مقتضى الفطرة، ويقول البيضاوي في تفسير معنى (الْفَحْشَاءِ): هي الإفراط في متابعة القوي الشهوية كالزنى، فإنه أقبح أحوال الإنسان، ونقول إن الفحشاء تشمل كل متابعة للهوى الجامح الخارج عن حدود الاعتدال كشرب الخمر والقمار والزنى، ومجاوزة الحد في أي أمر من أمور الشهوة حسيا أو معنويا.
الأمر الثاني - (وَالْمُنكَرِ) هو ما تنكره العقول المستقيمة، ويخرج به المرء عن حد المعقول كقول الزور والبهتان، والإفراط في الاستهانة بحقوق غيره،(8/4252)
والاندفاع وراء غضب جامح يخرج عن حد المعقول، إلى حد ما ينكره المجتمع ويتجافاه، ويقطع المودة وينقض ما أمر اللَّه تعالى به أن يوصل.
الأمر الثالث - (وَالْبَغْي) هو الاعتداء على الناس، والتجبر والاستعلاء عليهم، وأن يمنعهم حقوقهم ويأخذها بغير حق، وإن ذلك من آثار الوهم بأنه من صنف أعلى من صنفهم، فيغالي في الاستهانة بهم، ويبغي عليهم في حقوقهم، ويبخسهم حقهم، كما نرى الآن من بغى بعض الناس على بعض باسم أنهم سود، أو باسم أنهم من الأمم النامية، أو باسم الطبقات، فكل ذلك من وهْم الاستعلاء والغلو في إعطاء أنفسهم حقوقا ليست لهم، ولكنهم يفرضونها لأنفسهم، وسببها بغيهم وظنهم أنهم من صنف فوق الناس وأن الناس دونهم، ولقد قال البيضاوي في البغي ما نصه: " والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم، فإنها الشيطنة التي بمقتضى القوة الوهمية، ولا يوجد في الإنسان شر إلا وهو مندمج في هذه الأقسام صادر بتوسط إحدى هذه القوى الثلاث (أي الشهوة أو الغضبية أو الوهمية).
وختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكمْ تَذَكَّرُونَ)، أي رجاء منكم بأن تذكروا هذه الأوامر فتطيعوها، وهذه المنهيات فتجتنبوها، وتكون لكم موعظة تتعظون بها، وتعتبرون في اتصالكم بالناس والحياة بها.
لقد قال ابن مسعود: إن هذه أجمع آية لمعاني الإسلام، ويروى عن عثمان ابن مظعون أنه قال: أسلمت حياءً من النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما سمعت هذه الآية آمنت بالإسلام حقا وصدقا.
ويروى أن أكثم بن صيفي حكيم بني تيم وخطيبهم، وكبيرهم في سنه لما بلغه مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يذهب وقد بلغه الكبر، فأبى عليه قومه، وقالوا: أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه، قال: فليأت من يبلغه عني، ويبلغني عنه، فدعا رجلين، فأتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك: من(8/4253)
أن)، وما أنت؟، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا فأنا عبد الله ورسوله، ثم تلا قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) "، قالوا: ردد علينا هذا القول فردده عليهم حتى حفظوه، فأتيا أكثم فقالا: أبى أن يرفع نسبه، فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب، وسطا في مضر - أي من أشرف مضر - وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعها أكثم قال: إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها. . كونوا في هذا الأمر رءوسا، ولا تكونوا أذنابا.
هذا ويجب التنبيه إلى أن أبلغ ما في المأمورات العدالة، فهي أقواها أثرا في بناء المجتمع، وأقبح المنهيات البغي، فكلها يمس ناحية فيه، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه وفي قطيعة الرحم: " ما من ذنب أحق أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم " (1).
* * *
العهد في الإسلام:
دعا اللَّه تعالى في هذه الآية إلى العدل في وسط الجماعة الإسلامية، ودعا إلى العدل بين المسلمين وغيرهم، وميزان العدالة الدولية الوفاء بالعهد؛ ولذا جاء الأمر بالوفاء بالعهد بعد الأمر بالعدل، فقال عز من قائل:
________
(1) سبق تخريجه(8/4254)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
أمر الله تعالى بأن يعدل المؤمنون مع غيرهم، ولو كانوا يبغضونهم، فقد قال تعالى: (. . . ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى. . .)، وإذا كان في بعض الديانات جاء عمن ينسبونها إليه: استغفروا لأعدائكم. فشعار الإسلام: اعدلوا مع أعدائكم، وشعار العدالة أقوى(8/4254)
وأثبت وأليق، وكيف يستغفر للعدو إذا مات على ضلالة، ولكن العدل معه معقول في ذاته، وتحقيقه وهو الأكرم والأنسب.
ومن العدالة مع الأعداء الوفاء بالعهد؛ ولذا قال تعالى: (. . . وَأَوْفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)، وقد قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ). قيل إنها جاءت في بيعة المسلم عند دخوله في الإسلام يبايع اللَّه ورسوله على الإسلام، وقيل: إن هذا في النذور، والحق إن الأمر في الآية عام في وجوب الوفاء بالعهد سواء أكان عهدا فرديا أم كان جماعيا أم كان دوليا، والوفاء بالعهد من العدالة، والعهد اتفاق بين طرفين يوجب على كل واحد منهما التزاما، وهو كأي عقد بين طرفين يوجب إلزاما والتزاما، فلا ينقضي إلا بتراضي الطرفين، وليس هذا داخلا في عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من حلف على شيء، فرأى خيرا منه فليحنث وليكفر " (1)، فإن ذلك في الأيمان التي هي التزام شخصي كان يحلف ألا يفعل كذا، أو ألا يصلح بين خصمين، فإن ذلك واقع تحت النهي في قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضةَ لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ. . .).
وقد سمى اللَّه تعالى العهد الذي يعاهد عليه، ويكون فيه التزام من الجانبين؛ ولذا كان بصيغة المفاعلة، (عَاهَدتُّمْ)، وسماه عهد اللَّه لأنه موثق بيمين اللَّه عادة، ولأنه بين دولة الإسلام وغيرها، فكان كأنه عهد اللَّه الذي وثقه المسلمون في ظل اللَّه تبارك وتعالى.
وهو يشمل كل عهد عاهدته الدولة الإسلامية بعهد اللَّه تعالى، وهو عدل وقوة، أما أنه عدل فلأنه وفاء بما التزموا ومن العدل الوفاء لهم، وكما أنهم ملزمون بالوفاء فيجب علينا أن نلتزم به، وأما أنه قوة، فلأن من يطمئن إلى عدله
________
(1) سبق تخريجه.(8/4255)
يكون آمنا من جانب من عاهدهم، وينصرف لتنمية ثروته، وتمكين قوته، والانفراد بأعدائه الذين لم يعاهدوه، وانظر إلى عهد الحديبية الذي عقده النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين، فإنه انصرف في المدة التي كان فيها عهد الدعوة إلى الإسلام، حتى كان من دخلوا في الإسلام بعد العهد أضعاف من دخلوا من قبله بل أضعاف أضعاف وانفرد - صلى الله عليه وسلم - لليهود، فغزاهم في خيبر، وخرج للرومان في خيبر.
والعهد ليس أبديا بل ينقض إن كانت خيانة، أو مظنة خيانة كما قال تعالى:
(وَإِمَّا تخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ. . .).
وإن العهد لَا يكون بين دولة الإسلام وغيرها من الدول فقط، بل يكون في داخل الدولة الإسلامية كالإخاء الذي كان بين المهاجرين والأنصار والمهاجرين بعضهم مع بعض والأنصار بعضهم مع بعض.
وقد أكد سبحانه الأمر بالوفاء بالنهي عن النقض معللا النهي، فقال تعالت كلماته: (وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا).
أي لَا تنقضوا العهود لأنها نقض للأيمان بعد توكيدها، والتوكيد هو التأكيد، وهما لغتان جائزتان وتوكيد الأيمان معناها أن تكون باسم اللَّه، وبأن تكون أمام شهود وفي مجالس تقرها وتؤيدها، والكفيل هنا هو الرقيب الضامن، فمن عاهد بيمين اللَّه، فقد جعل اللَّه تعالى كفيلا له ضامنًا لقوله فعليه أن يحترم، وكفيلا - هنا تتضمنه معنى الرقابة؛ لأن الكفيل يراقب المكفول، حتى يؤدي ما التزم أداءه.
وقد بين سبحانه مضار النقض، وأشار إلى ذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)، أي عليم بما فعلتم وقد عقد العهد، ووثقتموه بيمين اللَّه تعالى، وعليم
بفعلكم إذا أردتم النقض، وقد أكد سبحانه وتعالى علمه الأزلي بالجملة الاسمية، وبـ إن، وبلفظ الجلالة، وبتقديم الجار والمجرور على الوصف؛ لأنه يفيد مزيد العناية بأفعالكم وشدة رقابته عليها.(8/4256)
وقد أكد اللَّه الأمر بالوفاء وإثبات أن الوفاء قوة فقال عز من قائل:(8/4257)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
(وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
الأنكاث: جمع نكث كنقض الفَتْل هو الشعر الذي كان مفتولا ثم نقض، وصار أجزاء متفرقة بعد الفتل وشد الفتل، والمعنى أن العهد قوة، وقد شبه القرآن الكريم الذي ينقض عهده بالمرأة التي تفتل غزلها فتلا شديدا، ثم بعد فتله تنقضه أجزاء وصوفا متناثرا، وهو مثل يضرب لكل من يعمل عملا يكون له ثمرة طيبة ثم ينقض ما تم من جهة ويبطل عمله، فتفقد ثمرة العمل الذي عمله بحقها وجهها، وقوله تعالى: (تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكمْ)، أي بهذا الحمل وإبرام العقد وتوثيقه بالأيمان تتخذون الأيمان والحلف باللَّه (دَخَلًا)، أي غشا وخديعة وتضليلا بينكم.
وقوله تعالى: (أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةِ)، (أَرْبَى) أي تكون أكثر عددا، وأوسع أرضا، وأكثر مالا، وأقول قوة فكلمةَ (أَرْبَى) تشمل كل هذا.
والأمة التي هي أربى هي الناقضة للعهد بعد الأيمان الموثقة، أو هي المنقوض للعهد بالنسبة لها، وعلى المعنى الأول أن النقض للعهد أو الرغبة فيه سببها إرادة أن تكون أمة هي أربى من أمة، فتنقض العهد ليتسع حيزها، وليكثر عدد من هم في ولايتها، فمعنى الآية على هذا التخريج لَا تكونوا كالتي نقضت غزلها رغبة في أن تكون أمة هي أربى من أمة، أو إرادة ذلك أي لتكون أربى عددا أو أكثر ولدا وأوسع أرضا، أو أقوى عدة من أمة.
وإذا كان المنقوض عهدها هي الأربى، فمؤدى ذلك أن يكونوا قد عقدوا معها لقوتها، وأنها أربى ويكون قد عقد دخلا وغشا لينقض في أول فرصة.
وإني أميل إلى التخريج الأول لأنه أوضح بيانا، وأظهر برهانا، ومؤدى القول أنه لَا يصح نقض العهد لإرادة الاستعلاء، كما كان يفعل المشركون، وكما(8/4257)
كان يفعل الذين لَا يرقبون في المؤمنين إلَّا ولا ذمة وإن هذا النص السامي يدل على ثلاثة أمور:
الأمر الأول - أن العهد قوة، وأن الوفاء به استمساك بما فيه قوة، وأنه يكون كالحمقاء تفعل ما هو سبب للقوة ثم تنقضه، وأن الأمم مهما تكت قوتها إذا استهانت بالعقود لَا يثق الناس في رجائها، فإذا كانت الشديدة تلفتت فلا تجد أحدًا حولها؛ لأنه لَا ثقة فيها، وقد رأينا ذلك رأي العين في أمم شرقت وغربت، ثم تزايلت حتى زال سلطانها.
الأمر الثاني - أن العهد إن زحم نقضه غشا وخديعة لَا يقدم عليه أهل المروءة والأعزَّاء، وعبث بأيمان اللَّه سبحانه وتعالى.
الأمر الثالث - أن علو الأمم في الوفاء بعهدها لَا يصح أن تتخذ النقض أمة لتنمو وتربو فإنها إن ربت ونمت بالإخلاف بالوعد، فهو نمو يحمل في نفسه ما يوجبه انحلاله وذهاب قوته.
وإن الوفاء بالعهد بين الأمم احترام الإنسانية التي يعقدون معهم، فهم يعدونهم أناسي مثلهم يعوفون حقوقهم ويراعون الواجبات نحوهم، والذين ينقضون العهد تسول لهم قوتهم أنه ليس لأحد حقوق قِبلهم، ولا يعاملونهم إلا كمن هم دونهم، وقد رأينا ذلك في حكومة عاتية أزالها فساد عهودها، ونراها الآن في وريثة لها تكبر من غير عهد ولا ذمة ولا ضمير ويحسبون الناس قد أباحتهم لهم قوتهم.
وإن الوفاء بالعهد، وهو من مكارم الأخلاق وملاحظة حقوق الإنسان لأخيه، ونقض العهد نقيض ذلك وكثرة الأمم وقلتها وهو من ابتلاء الله تعالى للأمم وللناس؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّمَا يَبْلُوكمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقيَامَةِ مَا كنتُمْ فِيهِ تَختَلِفُونَ)، الضمير في (بِهِ) يعود إلى أن تكون أمة أربى من أمة أو إلى نقض العهد لذلك، أي يختبركم اللَّه تعالى بأن تكون أمة كثيرة العدد واسعة(8/4258)
الأرض كثيرة المال وأخرى ضعيفة فإن صبرت القوية الرابية واستمسكت بالوفاء زادها اللَّه تعالى، وإن غلب عليها هواها، فاستهانت بالعهد لاستهانتها بمن عقدته معها، فإن مآلها الضعف والخذلان، واللَّه عليم بما يفعلون، هذا عقاب الدنيا، أما عقاب الآخرة، فقد ذكره سبحانه وتعالى بقوله: (وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتلِفُونَ)، وبيان اللَّه تعالى يوم القيامة يكون مقترنا بجزائه، إن خيرًا فخير، وإن شرا فشر، وقد أكد سبحانه وتعالى بيان ذلك الجزاء لهم أولا بلام القسم، وثانيا بنون التوكيد الثقيلة وبالقسم، وما كانوا يختلفون فيه هو الشرك والإيمان ثم الوفاء والنقض ثم احترام الإنسانية والاستهانة بها، فكل ذلك جزاؤه يوم القيامة، ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ولا الإيمان والكفر، ولا الوفاء بالعهد ونقضه.
وإن ذلك الاختلاف بين الحق والباطل هو إرادته سبحانه ليبلوكم أيكم أحسن عملا؛ ولذا قال سبحانه:(8/4259)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)
والمعنى لو أراد ذلك سبحانه وتعلقت مشيئته بأن أمة واحدة آخذة بالحق مهدية لجعلكم كذلك، ولكن خلقكم سبحانه، ولكم إرادات مختارة تسلك الحق أو الضلال، ويختبر أهل الباطل بأن يعطيهم قوة يهتدون بها، أو يضلون، ومعنى أمة واحدة أمة مهدية أو أمة شقية، وتكونون حينئذ على سواء في الهداية أو الشقاء، ولكن كانت لكم هذه الإرادات التي بها تضلون إن سرتم في طريق الضلال، وتهتدون إن سرتم في طريق الهداية.
ولكن إرادة اللَّه تعالى اتجهت إلى ذلك الاختلاف لتكون الحياة ولتكون المعاقبة بين الخير والشر، ويتنازع أهل الشر مع أهل الخير وليكون الخير بعمل أصحابه، والشر بعملِ أصحابه، ويكون الضلال وتكون الهداية؛ ولذا قال: (وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) إضلال الله هو كتابة العبد في أهل الضلال وهداية اللَّه كتابته في أهل الهدى، وذلك لأن العبد له إرادة يشعر بها،(8/4259)
وأنه ليس بمجبر فيها، وأنه يختار إما الضلالة ليشقى وإما الهداية فيسعد، وما يعمله مكتوب في اللوح المحفوظ، فهو في هذا اللوح، إما شقي وإما سعيد، وقد غيب عنه المكتوب ليفعل ما يفعل حرا مختارا، هذا أمر شعوري بدهي، لَا يحتاج إلى فلسفة أهل الجبر ولا أهل الاختيار.
والاستدراك في قوله تعالى: (وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ. . .) إنما هو عن خلقهم أمة واحدة بل هو للتفرقة بين الضلال والهدى فيما يكتبه اللَّه تعالى، ويقدره، ولقد قال سبحانه بعد ذلك (وَلَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، أي أن أعمالكم باختياركم وبقوتكم الذاتية وتسألون عنها: أهي خير فتثابوا أم هي شر فتعذبوا، وكل أعمالكم مكتوبة عليكم وبكتابتها يضلكم أو يهديكم.
وبعد أن بين سبحانه أن كون أمة أربى من أمة هو بمشيئة اللَّه وإرادته مع بقاء الاختيار للعباد أكد سبحانه وتعالى النهي عن نقض الوفاء بالعهد فقال:(8/4260)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
(وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
كان النهي عن اتخاذ الأيمان دخلًا أي غشا وخديعة في العهود؛ لأن الكلام كان في العهود ونقضها، إذ ابتدأ القول: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ) أما النهي في هذه الآية عن اتخاذ الأيمان دخلًا، فهو نهي عن الحلف الكاذب خديعة وغشا ومكيدة بعهد كان يعتزم فعل أمر أو يظهر اعتزامه ويوثقه بيمين، ولا يتجه إلى المعاهدة عليه، فإن ذلك منهي عنه، أو يؤكد كلامه عن أمر سابق باليمين وهو كاذب في يمينه، فإن اليمين في هذه الحال غش وخديعة ويكون ممن لَا يطاع ولا يستمع إليه إذ يقول اللَّه تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11).
وعلى ذلك يكون النهي عن اتخاذ الأيمان للغش والخديعة يشمل العهود والبيعات ويشمل توثيق يمين منعقدة لَا ينوي التنفيذ فيها، أو يمين غموس هو فيها كاذب، كشهادات الزور، ونحوها مما تتخذ اليمين للغش والخديعة، وضياع الحقوق والدعاء الباطل وتأكيده بهذه الأيمان.(8/4260)
ولقد قال تعالى فيما يترتب على اتخاذ الأيمان الباطلة غشا وخديعة وتثبيتا للكذب (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا)، هذا تشبيه جيد وهو استارة من قبيل تشبيه المعنوي بالحسي أي شبه الانحراف الديني الذي يؤدي إليه الأيمان الباطلة بعد الإسلام والاستظلال بظله كزلَّة القدم بعد ثبوتها قوية، فمعنى الزلل الانتقال من الخير إلى الضرر.
(وَتَذوقُوا السُّوءَ)، والسوء هو الأمر السيئ وشبه بالشيء الذي يذاق كأنه بعد أن ذاق حلاوة الإيمان ذاق السوء وهو الكفر، ذلك لأن الأيمان الكاذبة تفسد اليقين، وتضعف الإيمان بالحق، وفوق ذلك إذا شاعت ضاعت الثقة بين الناس، وصار الناس لَا يؤمنون بشيء، وإن ذلك يؤدي إلى الضلال، والضلال يؤدي إلى الصد عن الحق، والحق هو سبيل اللَّه المستقيم، وصراطه الهادي؛ ولذا قال تعالى: (وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) فإنه لَا يضيع الحق ولا يسير الناس في ضلال من أمورهم إلا الكذب، فإذا وثق بأيمان فاجرة كان الصد عنه بل ضياعه.
ولذا قال تعالى في عقابه: (وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، أي كبير شديد ونكر لإفادة أنه عظيم أبلغ العظم لَا يعرف مقداره، ونكرت (قَدَمٌ) وأفردت لأنه تتعدد الأقدام الزالة بتعدد الأيمان، وأكد سبحانه النهي عن نقض العهد مهما يكن الثمن، فقال تعالى:(8/4261)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
(وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95)
عهد اللَّه تعالى هو عهده سبحانه الذي أمر بالوفاء به في قوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ) فكل عهد تعاهد المؤمن أو دولة الإيمان عليه هو عهد اللَّه تعالى لَا يصح أن ينقض؛ لأنه يؤدي إلى الخذلان وإلى الصد عن سبيل اللَّه سبحانه، وتشتروا هنا معناها تبيعوا؛ لأن الباء داخلة على المتروك، وقوله تعالى: (ثَمَنًا قَلِيلًا) قد وصف سبحانه ما يترك لأجله العهد بأنه ثمن قليل مهما يكن مقداره؛ لأن ما يضيع بسبب ترك العهد من فقد الثقة والشك في العهود والمواثيق أمر كبير لَا يقدر بقدر؛ لأنه يكون الوهن والخزي والضياع وقد ضربنا الأمثال على(8/4261)
ذلك كثيرا، وفوق ذلك عذاب اللَّه تعالى يوم القيامة وجزاؤه على الوفاء في الدنيا والأخرة فقال تعالى: (إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).
(ما) اسم موصول بمعنى الذي، أي أن الذي ادخره اللَّه في الدنيا والآخرة خير لكم، ففي الدنيا تكون عزة الحق، وقوة الوفاء وهو في ذاته قوة، وخصوصا إذا كان العقد مع الضعفاء، وفي الآخرة نعيم مقيم.
* * *
الله أبقى وخيره أبقى
قال اللَّه تعالى:
(مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
* * *
في الآية السابقة، قال تعالى: (وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) وختم الآية بقوله تعالى: (إِنَّمَا عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).
وفى هذه الآيات الكريمات يبين وجه الخيرية لما عند اللَّه تعالى؛ ولذا قال تعالى:(8/4262)
مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
(مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
(ما) اسم موصول بمعنى الذي، أي الذي عندكم أعراض فانية فإن كانت مالا فإنها تنفدُ ينهيها الزمان مهما يكن الحرص، وإن بقيت فإنما تبقى بقدر حياة الذي يقتنيها، وإن حياته لقصيرة في أزمان الناس، (وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ)، أي والذي عند اللَّه باق يبقى ببقاء الجنة، وإن نعيمها الخالد والذين ينالونها خالدون فيها أبدا، والفرق بين ما عند الناس حلالا وحراما وما عند اللَّه هو الدوام فنعيم الآخرة مقيم، ونعيم الدنيا فأقصى مدته هي مدة الدنيا.
وقد بين سبحانه وتعالى الذين يستحقون ما عند اللَّه وهو الباقي فقال:
(وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُم بِأَحْسنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، و (صَبَرُوا) صلة الموصول، وهي تشير إلى أن الصبر سبب هذا النعيم الباقي الذي لَا ينفد، فالصبر وهو ضبط النفس في ظل الأوامر والنواهي، فضبط النفس عند الأمر بالوفاء بالعهد يوجب ألا يتدفع الناس وراء بارقة تحمل على النقض، ويوجب ألا يستطار وراء مطمع فلا يفي، والصبر هو الذي يضبط النفس فيحملها على الطاعة، ويحملها على اجتناب المعاصي، والجهاد بالصبر على كف أهواء النفس ونزعاتها جهاد سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - الجهاد الأكبر.
وقال تعالى: (أَجْرَهُم) جزاء بأحسن الأعمال التي عملوها فقال:
(بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)؛ أي بأحسن الأعمال التي عملوا، يعني يتخير اللَّه تعالى لهم من أعمالهم أحسنها، ويغفر لهم اللمم والهنات، والجزاء على أحسن الأعمال يتناول الجزاء الأوفى على كل عمل يعملونه، وإن اللَّه لَا يضيع أجر المحسنين، وإن الصابرين لهم أجران: أجر الصبر وهو جهاد، وأجر العمل وهو إحسان، وهنا أمران بيانيان:
الأمر الأول - في المقابلة بين ما عند الناس، وما عند اللَّه، فقد وصف ما عند الناس بأنه ينفد، وما عند اللَّه بأنه باق، أي له صفة البقاء والدوام والاستمرار وفرق بين ما يوجد لينتهي وما يوجد ليبقى.(8/4263)
الأمر الثاني - أن اللَّه تعالى أكد جزاء الصابرين بالقسم ولامه، ونون التوكيد الثقيلة فقال: (وَلَنجْزِيَنَّ الَّذِين صَبَرُوا) وإن الجزاء يتخير فيه أحسن الأعمال ويعفو عن كثير. . . . .
وقد بين سبحانه وتعالى جزاء العالمين الصابرين فقال عز من قائل:(8/4264)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ. . .).
(مَنْ) هنا شرطية أو موصولة، و (الفاء) تدخل في خبر الموصول لما بينه وبين الشرط من صلة إذ هو في معناه، و (مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثَى) بيانية ليعمها الجزاء بعد أن عمها الفعل، وذكر (صَالِحًا) والموصوف والعمل غير مذكور سواء أكان مقدرا أم كان غير مقدر، وذلك ليتجه النظر إلى نية الصلاح والمصلحة في العمل، فإن الاعتبار للنية ككل خير في قانون الأخلاق العبرة فيه إلى النية، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى " (1).
وذكر هنا الذكر والأنثى مع أن الكل تشملهم التكليفات، والخطاب يشمل الذكر والأنثى، فيدخل الذكر ابتداء، ويدخل الأنثى بقانون المماثلة من حيث التساوي بينهما، ذكر الأنثى في هذا؛ لأن الجزاء بالحياة الطيبة والاطمئنان وهذه تهم الأنثى بالذات فكان ذكر الأنثى فيه فضل حث وتحضيض للأنثى على عمل الصالح لتطيب حياتها بسعادة واطمئنان في ظل زوج صالح.
وقال تعالى في جزاء الصلاح بنيته المعتزمة للخير، والحال أنه مؤمن ثابت الإيمان قوى اليقين استمر في إيمانه حتى لقي ربه راضيا مرضيا: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، أي يحييه اللَّه تعالى حياة طيبة في الدنيا، و (الفاء) في جواب الشرط أو ما هو في معنى الشرط، وهو الموصول وقد أكد سبحانه أنه يحييه حياة طيبة بالقسم
________
(1) سبق تخريجه.(8/4264)
وباللام الموطئة للقسم، وبنون التوكيد الثقيلة، وما الحياة الطيبة التي وعد اللَّه بها عباده المؤمنين الذين يعملون العمل الطيب بقلوب قاصدة الخير والصلاح، والصلاح غايتها ومبتغاها؛ الحياة الطيبة هي أن يكون رزقها حلالا، وأن يجملها اللَّه تعالى بالرضا بكل ما يأتي به، والقناعة في حال العسر، والرزق الحلال، أو طلب الحلال في اليسر، والصبر في الضراء والشكر في السراء، وبرد اليقين وذكر اللَّه تعالى دائما، في حال البأساء والضراء وحمال الباس (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، وفي الجملة الحياة الطيبة هي الحياة الراضية القانعة الشاكرة الصابرة ولا يكون ذلك إلا لمؤمن، وإن هذه الحياة الطيبة جزاء عاجل للإيمان والصالح من الذكور والإناث فلا سعادة خير من سعادة الرضا بالعمل الصالح، واطمئنان القلب بذكر الله والتوكل عليه في الشديدة والكريهة بعد أخذ الأسباب والاتجاه إلى اللَّه، أما الجزاء الآجل المؤكد الذي لَا مرية فيه، فهو في الآخرة، وقد قال تعالى فيه: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ)، ولم يذكر في الحياة الطيبة أنها أجر، بل ذكرها على أنها ملازمة للعمل الصالح الصادر من قلب سليم، فهي ثمرة للصالح كثمرة الشجرة، وكإنتاج الزرع وحيثما وجد العمل الصالح كانت الحياة الطيبة ولو كانت جهادًا مستمرا، ومع ذلك له أجر هو ثواب الآخرة يجزيهم اللَّه تعالى بأحسن ما يعملون، وقد ذكر أنه سبحانه يجازي (بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فجعل سبحانه وتعالى عملهم الصالح أو أحسنه هو الجزاء، لأنه يماثله أو يساويه كأنه هو، وهو سبحانه وتعالى مانح النعم ومجريها، وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد صالح الأعمال والأقوال وهو أعلاها، قراءة القرآن وذكره فقال تعالى:(8/4265)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
(فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
ذكر اللَّه تعالى بعد الصالح من الأعمال والأقوال، والإصلاح يين الناس قراءة القرآن، فقال: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).(8/4265)
ذلك لأن قراءة القرآن ذكر للَّه، واستماع لحديث اللَّه وترداد له فهو إصلاح للقلوب وللنفوس، ولم يطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين قراءته بل إن الإيمان يقتضي قراءته؛ لأنه أحسن الحديث، بل كان الأمر بقراءته ضمنيا في ضمن الأمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم، وكان أمرا بالقراءة والاستعاذة معا، وفيه فائدة أن القراءة لَا تجدي جدواها إلا إذا كانت معها الاستعاذة الحقيقية من الشيطان بإبعاد وساوسه في تمنيات الإنسان إذ إن الأماني ذريعة الشيطان، يدخل قلب المؤمن من جانبها كما أتى قلبي آدم وحواء بالأماني، ثم سول لهما الأكل من الشجرة، (الفاء) في قوله: (فَاسْتَعِذْ) هي فاء الإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر، أي إذا اتجهت بالعمل الصالح والقول الصالح إلى القرآن (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ. . .).
و (قَرَأْتَ) هنا تطوى في ذاتها نية القراءة أي إرادتها، فمعنى فإذا قرأت أي أردت القراءة، كما في قوله تعالى: (. . . إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. . .)، وكقوله تعالى: (. . . وَإِذَا قلْتُمْ فَاعْدِلُوا. . .)، وكقوله تعالى:
(. . . وَإِذَا حَكمْتم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. . .)، وقوله في شأن حجاب نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - عن السائلين متاعًا (. . . وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ. . .)، ففي كل هذه الآيات ذكر الفعل وطويت النية والإرادة لأنها ملازمة له ومقترن بها لَا بتحقق من غيرها، بل الإرادة والنية هما الحقيقتان والقول مظهرها ولا ينفصل الباعث عن المظهر إذا كانا متصلين في الوجود، ولذا كانت الاستعاذة مقدمة على القراءة بإجماع العلماء، ومنهم من جوز الاستعاذة بعد القراءة، والاستعاذة معناها الالتجاء إلى اللَّه تعالى، والابتعاد عن وسوسة الشيطان وقت القراءة، ووسوسته تجيء من بث الأماني في النفس، وقد قلنا إنها ذريعة الشيطان وطريق دخول الهوى إلى النفس و (الرَّجِيمِ) معناه المطرود الملقى عليه الحجارة، تثبيتا للإبعاد والطرد، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء، ولأمته تبعا، وهم من يقتدى ويتبع، فالأمر بالاستعاذة أمر للأمة كلها، وهي بها أجدر وأحق.(8/4266)
وقد أكد سبحانه معنى الاستعاذة ببيان أنه ليس له سلطان على الذين آمنوا فقال عز من قائل:
(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
يحصن المؤمنين من الشيطان أمور ثلاثة:
الحصن الأول - الاستعاذة منه بالقلب واللسان كما أمر الله تعالى: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " علمنيها جبريل " (1) فإن الاستعاذة تحصين للقلب من وساوس الشيطان ودخول هذا الحصن قراءة القرآن الكريم.
والحصن الثاني - الإيمان فإن الإيمان حصن الحق من الغرور والأوهام والأهواء، وكلها ذرائع الشيطان؛ ولذا قال في وعيده بالإغواء: (. . . وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40).
والحصن الثالث - التوكل على الله حق توكله، وأخذ الأسباب وتفويض الأمر إليه تعالى، وهو العلي القدير.
وهذا هو مؤدى قوله تعالى:
________
(1) سبق في مستهل سورة الفاتحة.(8/4267)
إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)
(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) والضمير في (إنه) يعود إلى الشيطان المذكور في قوله تعالى: (فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ) والسلطان الحجة والبرهان والاستيلاء على النفس المؤمنة، ولا يمكن أن يكون له ذلك عليها؛ لأنها تعرف أنه عدوها ومرديها ومفسدها، وماضيه في ذلك عندها معروف علمها إياه الحكيم العليم، وهي تتوكل على الله وحده، فلا يمكن أن يستولي عليها، فالنفس المؤمنة ليست فارغة حتى يتولاها.
وقوله تعالى: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)، فيه تقديم الجار والمجرور على الفعل يفيد القصر، أي لَا يتوكل المؤمنون إلا على الله فليس في قلوبهم فراغ للشيطان يحتله، والتعبير بـ (رَبِّهِمْ) يزكي: توكلهم، لأنه الذي ذرأهم ورباهم(8/4267)
وكوَّنهم، وإنما الشيطان يحتل بولايته من لَا ولاية له مع اللَّه، وفي نفوسهم فراغ من سلطان اللَّه تعالى، ولذا قال تعالى:(8/4268)
إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
(إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
قصر سبحانه سلطانه (عَلَى الَّذِين يَتَوَلَّوْنَهُ)، أي على الذين جعلوا ولايتهم له فاختاروا الهوى على الحق والأوهام على الفعل، وكان سلطانه بمعنى حجته عليهم، لأنه أغواهم أولا بالأوهام الضالة والأهواء الجامحة المغيرة فكانت حجته الباطلة رائجة عندهم، وإنما أداة قصر، أي لَا سلطان ولا ولاية على غيرهم إذا ضلوا سواء السبيل، فأضلهم وفرغت نفوسهم عن الإيمان فملأها بالأوهام.
وقد قال تعالى في وصفهم إذ صار سلطانه عليهم: (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) وفي هذا توكيد لتوليهم له، فهم مشركون بسببه أن اعتقدوا في الأحجار الوهمية وهي لَا تضر ولا تنفع بسببه، وأشركوهم مع اللَّه بسبب تحكمه بأوهامه فيهم.
* * *
معجزة القرآن وقولهم فيها
قال اللَّه تعالى:
(وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)(8/4268)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
* * *
كان المشركون لَا يعدون القرآن معجزة تساوى معجزات النبيين السابقين كعصا موسى وإبراء عيسى للأكمه والأبرص، وإخبار الناس بما في بيوتهم وما يدخرون فيها وإحياء الموتى، وإخراجهم من قبورهم بإذن الله وإنزال المائدة من السماء ليأكلوا منها، كانوا يطالبون النبي - صلى الله عليه وسلم - بمعجزات مادية حسية، ولا يقنعون بأن تكون المعجزة قرآنا يقرأ فبين اللَّه تعالى أنه الذي يأتي بالمعجزات الدالة على أنه أرسل الرسل فهي إمارات الرسالة يعلم بها من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه من عنده.
فقال تعالى ردا على طلبهم آية: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا. . .).(8/4269)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
(وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ)، أي إذا جئتنا بالقرآن آية على صدق الرسول مكان آية أخرى حسية رفضناها وجئنا بهذه الآية المعنوية مكانها، واللَّه صاحب الآيات والرسالات أعلم بالصالح منها، و (أعلم) أفعل تفضيل على غير بابه لأنه لَا مفاضلة بين علم الله تعالى، وعلم غيره.
وعلم اللَّه تعالى بما ينْزل البالغ أقصى كمال العلم اقتضى أن تكون معجزته قرآنا يقرأ، وباق يتحدى الأجيال جيلا بعد جيل إلى يوم القيامة، وهو القادر على كل شيء؛ لأن المعجزات الحسية، إعجاز وقتي ينقضى بعد وقته، ولا يعجز إلا من رآه أو تواتر خبره من بعده، وإن القرآن المعجزة الكبرى الخالدة الباقية إلى يوم القيامة هي التي سجلت معجزات النبيين من قبله.
يقولون غير مصدقين محجزة النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّمَا أَنتَ مفْتَرٍ) أي إنما أنت كذاب قد افتريت الرسالة وادعيتها من غير حجة ولا برهان، وقد رد الله تعالى(8/4269)
قولهم بقوله سبحانه: (بَلْ أَكرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)، (بَلْ) للرد عليهم، والإضراب عن قولهم الناشئ عنه، وقال سبحانه: (أَكْثَرُهُمْ)، للدلالة على الذين صدقوا وآمنوا بالمعجزة هم الأقل عددًا، وإن كانوا الأكثرين إدراكا وعلما.
ذكرنا في كلامنا أن معنى الآية المعجزة الدالة على رسالة الرسول، وأن اللَّه تعالى يرفع معجزات كانت قد جاءت مؤيدة رسالات الأنبياء السابقين قد بدلها اللَّه تعالى، وأتى بمعجزة صالحة للبقاء تتناسب مع رسالة خاتم النبيين الذي تكون رسالته حجة على العالمين إلى يوم القيامة فتكون قائمة ثابتة تنادي بحجية ما يدعو إليه يوم القيامة.
ولكن أكثر المفسرين يفسرون الآية بالآية المتلوة حتى الزمخشري، ويقولون إن معنى الآية، وإذا بَدَّل الله آية فنسخها ورفعها وجاء بآية أخرى لمصلحة في الأولى في حكمها في زمانها، والإتيان بآية أخرى لمصلحة حكمها في هذا الزمان الذي جاءت، وإن ذلك جرى على أقلام أولئك المفسرين لرواج فكرة النسخ تلاوة وحكما، وحكما لَا تلاوة، وتلاوة لَا حكما كما ادعى في الرجم، وإن ذلك أداهم إلى التساهل في دعوى الرجم، ولو كان الجمع بين الآيتين ممكنا لَا تخالف بينهما.
وإن الذي ذكرناه أولا هو المقبول عندنا، فلا نسخ في هذا الموضع على الأقل في آية من القرآن للوجوه الآتية.
الوجه الأول - أن الكلام في موضوع القرآن ذاته وكونه مفترى أو قام الدليل على صدقه لظاهر قوله عنهم: (قَالوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ) فحصروه في الافتراء فنفوا الرسالة كلها، ويناسب ذلك أن يكون التبديل في المعجزات السابقة، ووضع القرآن في موضعها.
الوجه الثاني أنه تعالى قال بعد ذلك ردا على الافتراء وعلى الاعتراض بقوله:(8/4270)
قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ... (102)
فتبين أن موضوعها القرآن كله، لَا نسخ آية، واستبدال آية أخرى بها.(8/4270)
الوجه الثالث - قوله تعالى بعد ذلك:(8/4271)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
الوجه الرابع - أن هذه السورة مكية، والآيات المكية تتجه نحو التوحيد وإثبات الخالق، وأحكامها قليلة، والتجربة فيها قليلة.
لهذا كله سمحنا لأنفسنا بأن نخالف كثرة المفسرين، وإن كان لهم أجر فيما اجتهدوا، وهو أجر واحد.
وقد رد اللَّه تعالى افتراءهم بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم:
(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ).
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالأمر من ربه والضمير في (نَزَّلَهُ) للقرآن المذكور آنفا في قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)، و (نَزَّلَهُ) مصدره التنزيل، وهو الإنزال المتدرج على حسب المناسبات، وليتمكن الذين يكتيون من كتابته، وهم أميون، لَا يستطيعون الكتابة الطويلة، وليحفظوه فيسجل في الصدور بدل السطور فيصعب بل لا يمكن تحريفه، وقد تواتر جيلا بعد جيل، و (رُوحُ الْقُدُسِ) وهو الروح الطاهر، وهو جبريل - صلى الله عليه وسلم -، وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، كقولهم حاتم الجود، وعليٌّ البيان، ونحو ذلك، وهذا مبالغة من اللَّه في وصفه بالطهر والصدق، وأنه رسول من اللَّه صادق أمين وهو الذي نزل بالقرآن على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194).
وقد ذكر سبحانه أن غاية نزوله أن يزيد الذين آمنوا تثبيتا على الحق، ولذلك قال تعالى: (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) التثبيت زيادة ما يكون ثابتا قوة وثباتا، (الَّذِينَ آمَنُوا) الذين يدركون الحق بمداركهم الفطرية، ويتجهون إليه اتجاها مستقيما،، فيدركونه بمواهبهم، والشرائع السماوية تثبت الحق في قلوبهم، (وَهُدًى وَبُشْرَى)، أي أنه ذاته هدى، وهذا(8/4271)
تأكيد لمعنى أنه يهدي، فهو يهدي إلى الخق وإلى صراط مستقيم، وكأنه الهداية ذاتها (وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ)، أي هو بشرى للذين يسلمون وجوههم للَّه تعالى، ويخلصون للحق من غير مراء ولا جدال.
وهنا إشارات بيانية نشير إليها، فإنها تبين معاني التنزيل:
الإشارة الأولى - قوله تعالى: (مِن رَّبِّكَ)، أي من الخالق البارئ الذي ربك ورباك، وربَّى الوجود كله، وهو الحي القيوم.
الإشارة الثانية - في قوله تعالى: (بِالْحَقِّ)، أي متلبسا بالحق، فهو الحق، وما جاء به هو الحق من عند اللَّه، وكان في ذاته لَا يمكن أن تتمادى فيه العقول المستقيمة، فهو في ذاته حق، كما هو في ذاته هداية.
الإشارة الثالثة - الإشارة إلى أنه نازل من عند اللَّه تعالى، ونزل به أمين طهور صادق.
ولقد راعهم ما اشتمل عليه من قصص صادق للنبيين، وعظات مرشدة هادية، وتوجيه إلى الكون، وما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق ونهيه عن ملائم الضلال، وأمره بالوفاء بالعهد، وغير ذلك.
راعهم ذلك، وبدل أن يذعنوا للحق إذ جاءهم ماروا فيه، فإن المبطل المماري لا تزيده الحجة إلا عنتا وإمعانا في الضلال؛ لذلك كذبوا وافتروا، وادعوا أمرًا غير معقول، فزادوا بعدا عن الحق، وزادوا ضلالا؛ ولذا قال عنهم، إذ رأوا القرآن واسترعاهم.
(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ... (103)
تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا، ولكن لم يقولوا إنه من عند اللَّه، بل بالغوا في الكذب، وأوغلوا في الكفر، ولقد أكد اللَّه تعالى قولهم هذا لأن غرابته تسوغ تكذيبه بادئ ذي بدء، ولذا أكد علمه سبحانه بـ (اللام) وبـ (قد)، وتأكيدًا للمعلوم، والتأكيد حيث مظنة عدم التصديق.(8/4272)
و (بَشَرٌ)، أي لم يجئ من عند اللَّه، فلم يعلمه اللَّه تعالى إياه، ولكن الذي علمه بشر، وعينوا ذلك البشر إنه رجل رومي كان غلاما لبعض العرب، وقيل رجلان كان يصنعان السيوف بمكة، ويقرءان الإنجيل والتوراة، وقيل غيرهما من أسماء سماها بعض المفسرين.
وقد رد الله تعالى قولهم بقوله تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)، و (يُلْحِدُونَ)، أي يشيرون إليه مائلين بكلام مضطرب نحوه، والمعنى لسان هذا الرجل أعجمي فكيف يأخذ منه النبي - صلى الله عليه وسلم - علما؟! وإذا كان يأخذ منه علما فكيف يمكن أن يكون هذا الكلام المبين، أي البين في ذاته، والذي أعجزكم ببيانه حتى إنكم تقولونه فيه، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق.
إن دليلكم يلتوي عليكم بمقدار نتائجه، فلا يجديكم شيئا أي شيء.
وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك لجاجتهم في الباطل وسببه، فقال عز من قائل:(8/4273)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
(إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
آيات اللَّه تعالى ثلاثة أقسام:
القسم الأول - الآيات الكونية وهي الآيات الدالة على أنه وحده الخالق لكل شيء، وفي كل آية دلالة على الوحدانية فالسماء وبروجها، والقمر ونوره، والشمس وضياؤها، والليل والنهار، والنعم وما فيه خلق وتكوين، كل هذه آيات اللَّه الكبرى الدالة على أنه فعال لما يريد مختار.
والقسم الثاني - المعجزات التي تقترن بدعوى النبوة ويتحدى بها النبي من يكذبونه أن يأتوا بمثلها كعصا موسى، وبياض يده من غير سوء في تسع آيات أجراها اللَّه تعالى على يديه لقوم فرعون، فلم يؤمنوا إيمانا مستقرا، وإن كانوا في(8/4273)
ضعفهم يقولون ادع لنا ربك، فيدعو اللَّه تعالى فيرفع عنهم المقت، ويذهب عنهم السوء، ولكن ما إن يرفعه عنهم ويؤمنهم حتى يعودوا إلى كفرهم المقيت. والقسم الثالث - الآيات القرآنية، والإيمان بها فرع الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، لأن الإيمان بها الإيمان بالقرآن، والإيمان بالآيات الذي نفاه القرآن عنهم، وترتب على نفيه نفي الإيمان والهداية هو الإيمان بالآيات الكونية، والإيمان بالمعجزة الكبرى معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي المعجزة التي تحداهم أن يأتوا بمثلها لعجزوا.
وإنما كان عدم الإيمان بآيات اللَّه مؤديا إلى ألا يهديهم؛ لأن الهداية إنما تكون لمن يفكرون في آيات اللَّه ونعمه، ومن لَا يفكر لَا يهتدي فلا يهديه، ولأن المعجزة الكبرى ضل من لَا يؤمن بها، وهي واضحة بينة، وهي وحدها تدل على أن من يبلغها يبلغ عن اللَّه فلا يهديه اللَّه إلى الحق؛ لأنه ضل سواء السبيل، ولم يبق إلا أن يسير في طريق الضلال إلى نهايته، ويكون له العذاب الأليم يوم القيامة، والأليم: المؤلم.
ولقد قالوا للرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - (إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ)، وهو المعروف بينم قبل البعثة بالصدق والأمانة، حتى إن اسم الأمين إذا أطلق لَا ينصرف إلا إليه، وكان لا ينادي إلا به، حتى بعث رسولا، ولما سأل هرقل أبا سفيان عن صفات النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، قال: لَا. قال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس، ويكذب على اللَّه " (1).
فلما قال المشركون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه مفتر رد اللَّه قولهم بقوله تعالت كلماته:
________
(1) جزء من حديث هرقل الطويل، وقد أخرجه البخاري: بدء الوحي - بدء الوحي (16، والبخاري: الجهاد والسير - كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل (3322).(8/4274)
إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
(إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
حيثما كان إنكار الحقائق الثابتة كانت مظنة الكذب، فمن لَا يؤمن بالآيات الثابتة لَا يؤمن باللَّه ولا يكون صادقا أبدا؛ لأن الكذب مباهتة الواقع الثابت، ولا(8/4274)
يسكن الكذب إلا حيث يكون إنكار بدهيات الأمور؛ ولذلك كان الكذوب بهاتا يبهت الناس بغير الواقع، ويكابر وتشتد مكابرته للواقع الثابت بالفطرة.
ولهذا يقول تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ)، و (إنما) أداة من أدوات القصر، فهي تتضمن نفيا وإثباتا، أي لَا يفترى الكذب إلا الذين لا يؤمنون بآيات اللَّه تعالى في الكون ومعجزات النبيين الذين يثبتون بها إرسال اللَّه تعالى لهم، وهي واضحة لائحة يراها المبصر ببصره، والمدرك بقلبه، فحيث كان الإنكار لما هو ثابت بالبرهان يكون الكذب؛ لأن الكذب إخفاء للحقائق، وإنكار الآيات إنكار للحقائق فهما ينسابان من نبع واحد، ويسيران في خط واحد.
وقد أكد كذب المشركين الذين لَا يؤمنون بآيات اللَّه بقوله: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) بالإشارة إلى ما هم عليه من إنكار للبدهيات التي تومئ إليها الفطرة، والجملة تفيد القصر بأنه مقصور عليهم، ولا يمكن أن يكون الكذب في المؤمنين، فهذا نفي للافتراء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وتأكيد الكذب عليهم، وإفادتها قصر الكذب عليهم بتعريف الطرفين وبضمير الفصل، وكذبهم أكده سبحانه بالجملة الاسمية، وبضمير الفصل، وبوصفهم الكذب، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابا " (1).
* * *
الإكراه لَا يمنع الإيمان، والردة كفر بعد إيمان قال اللَّه تعالى:
(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا
________
(1) سبق تخريجه(8/4275)
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
* * *(8/4276)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
(مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
(مَن) في قوله تعالى: (مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ)، (من) هنا شرطية أو اسم موصول بمعنى الذي، دخلت الفاء في الحكم، والاستثناء هنا استثناء منقطع؛ لأن من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان لم يكفر، فلا يمنع في عموم المستثنى منه.
وجواب الشرط أو الحكم على الوصول هو قوله: (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ منَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
وهنا تجد الاستثناء المنقطع المانع من يعد المكره كافرا، ما دام قلبه مطمئنا بالإيمان، وقد عطف عليه ما يدل على الكفر الحقيقي وهو (وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا)، أي فتح قلبه للكفر، (صَدْرًا)، تمييز محول عن الفاعل، وكأن الكلام، ولكن من شرح صدره بالكفر، وكان في الموضوع حقيقتان لشخصين مختلفين؛ أولهما اطمأن قلبه بالإيمان بأن استقر فيه وارتضاه واطمأنت نفسه، فقلبه ممتلئ بالإيمان، والآخر لم يعمر قلبه وضاق عنه، وشرح صدره وفتحه للكفر، فالأول يعد مؤمنا، لم يغادر الإيمان قلبه، بل هو قار فيه، وثابت لا يتزلزل.(8/4276)
وإن المعركة بين الكفر والإيمان كانت قائمة بمجرد البعث المحمدي، فكان الإيمان بدلائله يغزو القلوب ويعمرها، وكان الشرك بإيذائه وفتنه، وتحويل الناس عن إيمانهم بالله ورسله والملائكة، والجنة والنار، فحذر اللَّه تعالى المؤمنين من أن يرتدوا بعد إيمان، وذلك ببيان عاقبة ردتهم وكفرهم بعد الإيمان.
ومن الناس من لم تكن لهم همة أهل الإيمان، ولا ثباتهم، ولا مروءتهم وقوة يقينهم فذلوا بعد أن استقاموا، وهانوا بعد أن اعتزوا باللَّه، وهؤلاء هم الذين ينطبق عليهم الحكم الصارم، وهو قوله تعالى: (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
ومن الناس من استقاموا على الطريقة، وثبتوا وصبروا ولو أداهم ذلك إلى أن يموتوا في سبيل اللَّه تعالى بعذاب أليم - كما قتل آل ياسر - الذين استمروا على الآلام حتى ماتوا من شدة العذاب، ومنهم من نطق بكلمة الكفر تحت شدة العذاب، وهؤلاء هم الذين أخرجوا من زمرة الكافرين لأنهم، أُكرهوا، وقلبهم مطمئن بالإيمان.
ومنهم من صبروا تحت الآلام فلم ينطقوا بكلمة الكفر، كبلال رضي اللَّه تعالى عنه، فإنه كان يعذب بالوضع في الرمضاء في شدة الحر، ويضعون على صدره الصخرة العظيمة في شدة الحر، ليحملوه على الشرك وهو مصرّ على الإيمان مطمئن القلب معذب الجسم وهو في هذا العذاب المؤلم الممض لَا يني عن أن يقول: أحدٌ أحدٌ، ويصر عليها إغاظة لهم، ويقول رضي الله عنه لهم وهم يعذبونه: لو كنت أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها، واستمر على هذه المغالبة وتحمل الشدة حتى اشتراه أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه وأعتقه فكان ذلك أغيظ لهم، وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري عذبه مسيلمة الكذاب لكفره به، وإيمانه بمحمد، فلم يزل يقطعه إربا إربا، وهو ثابت لَا يتزعزع.
وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبلغه من نطق بكلمة الكفر، وهو مطمئن بالإيمان، فبلغه خبر عمار، فقال: " إن قلب عمار مليء بالإيمان ولحمه ودمه ".(8/4277)
وبلغه خبر من صبر حتى قتل، فأثنى عليهم، والحق أن النطق بالكفر مع اطمئنان القلب رخصة مع بقاء العزيمة قائمة، ومن لم ينطق فقد أخذ بالعزيمة، ولكل ثوابه، ولكن ثواب من صبر ثوابان: ثواب الصبر وثواب إغاظة الكفار.
وقد ذكر سبحانه عقاب من كفر بعد إيمان وقد شرح صدرًا للكفر، فذكر له عقابين:
العقاب الأول - (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ منَ اللَّهِ)، أي أن الغضب ينزل عليهم نزول الصاعقة؛ إذ إنهم شارفوا، فجذبهم الكفر، وولاهم الشيطان فنزل عليهم غضب اللَّه، وذكر الغضب في هذا المقام، فيه إثارة أي بإرضائهم للمشركين بعودتهم إلى الكفر، قد أغضبوا اللَّه، وشتان بين إرضائهم للكافرين، وإغضابهم لرب العالمين، ولا يرجى، ولا أحق بالرضوان غيره.
العقاب الثاني: أن لهم عذابًا عظيما فقال: (وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) التنكير في عذاب ووصفه بأنه عظيم يفيد أنه عذاب عظيم جدير بأن يهدد به ويهول أمره، وقوله تعالى: (لهم) فيه إشارة إلى أنهم لَا يملكون بهذه الردة خيرا، بل يملكون عذابًا عظيما أكبر وأعظم مما كان ينزل بهم من عذاب لو استمروا على الإيمان.
وقد ذكر سبحانه سبب ذلك العذاب فقال:(8/4278)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
الإشارة إلى الغضب من اللَّه تعالى الذي ينزل بهم، والعذاب العظيم يحل بهم بسبب أنهم (اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) استحبوا إنما طلبوا حبها، فاستغرقت نفوسهم، ولم يفكروا في غيرها، وآثروها على الآخرة، فابتغوها بأي ثمن يقدم، ورضوا بأن يحطوا على هوى المشركين، ولو أغضبوا رب العالمين، وذكر اللَّه سبحانه وتعالى سببا ثانيا، غير استحباب الدنيا وإيثارها على الآخرة وذلك السبب أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) وذلك أنهم(8/4278)
ساروا في طريق واستمروا في حياة اللهو والعبث وأغواهم الشيطان، حتى سد كل مسالك الهداية إلى قلبه، فكفر بأنعم اللَّه، وأنكرها بعد معرفتها، ولم يشكر، واللَّه لا يهدي القوم الكافرين، فقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) تومئ إلى كل هذا، سبحانه وتعالى، وتقدست كلماته، وأعجز بيانه.
ذكر الله تعالى ما سجله عليهم، وهو عقاب في ذاته، وسبب لعقاب، فقال تعالى:(8/4279)
أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)
إن أولئك هداهم اللَّه إلى الإيمان، ثم كفروا تمرد نفوسهم على الباطل وتلج فيه، فتفسد فيها مسالك الإدراك، ولذا قال تعالى فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137).
ولذا وصفهم الله تعالى بقوله.
(أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ).
الإشارة إلى هؤلاء الذين كفروا بعد إيمان، والإشارة إلى الموصوف بصفة إشارة إلى هذه الصفات، والإشارة إلى الصفات تفيد أن هذه الصفات هي علة الحكم، وإن الكفر بعد إيمان إذا تكرر تجعل النفس تمرض بفساد الإدراك لأن الكفر بعد الإيمان من شأنه أن يضعف في القلب معنى الإيمان، فيضعف إدراك الحق، ويصبح الشخص حائرا بائنا لَا يتحرك ضميره، ولا تستيقظ نفسه، ولا يستبصر بما تبصر، ولا يدرك حق الإدراك ما يسمع، فكأنه قد طبع على مداركه بطابع يمنع المدارك من أن يصل إليها شيء من الفهم والعلم فيبصر الكائنات ولا يعلم ما تدل عليه، ويستمع إلى القرآن، ولا يعلم ما يهدي إليه، ويحق عليهم قول اللَّه تعالى:(8/4279)
(. . . لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ. . .).
وإن هذه عقوبة طبيعية لما أركسوا فيه، فهي نتيجة لما تردوا فيه من كفر بعد إيمان، وهي سبيل لعقاب دائم، وعذاب واصب، وهذا يؤدي إلى أن يكونوا في غفلة دائمة عن كل ما يعلو بالإنسان، فهم قد فقدوا معنى الإنسانية العاقلة المدركة التي تتحمل التبعات، وتعرف التكليفات التي هي ضريبة الإنسانية ومعناها، ولذا قال تعالى: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) حكم اللَّه تعالى عليهم بهذا النص، والإشارة إلى الموصوفين بالكفر بعد الإيمان، والصفة هي علة الحكم، وهو الحكم عليهم بالغفلة الدائمة التي تصير وصفا لهم منحصرا فيهم، وهم محصورون فيه، وقد أفاد القصر أي قصوهم في الغفلة، وقصر الغفلة عليهم، تعريف الطرفين، وتأكيد القول بضمير الفضل، مع تأكيد القصر.
وإنهم مع هذه الغفلة التي صارت وصمة لازمة قد خسروا كل شيء، ولذا قال تعالى:(8/4280)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
(لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
(لا جَرَمَ) ذكرنا أصل معناها، وأن تنتهي إلى أن معناها حقا، وهي تأكيد لهم بأنهم في الآخرة هم الخاسرون، والعبادة تفيد قصرهم على الخسارة، فهم إذا كانوا قد خسروا في الدنيا مداركهم فطمس عليهم فخسارهم في الآخرة أشد وأعظم، وهم مقصورون في الخسارة، والخسارة مقصورة عليهم. . . اللهم قنا عذاب النار.
* * *(8/4280)
إِنَّ رَبَّكَ للمؤمنين يوم الحساب قال اللَّه تعالى:
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
* * *
ذكر سبحانه وتعالى حال الذين كفروا بعد إيمانهم، وكيف نزل عليهم غضب وطبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم. بأنهم غفلوا واستغرقتهم الغفلة، وكانوا هم الخاسرين، وحدهم، بعد ذلك ذكر حال الذين آمنوا وفتنوا، وأوذوا وهاجروا في سبيل اللَّه، فقال تعالى:(8/4281)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) (ثُمَّ) هنا للعطف، والتباين بين فريقين شرح صدر الكفر آذي غيره، وفريق ثبت على الإيمان، وصبر على الأذى، وهاجر.(8/4281)
و (إِن رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا)، فيها معنى الحماية الكاملة، والاعتماد على ركن لَا خلل فيه فقط، كما يقول القائل للسارقين ما سرقوا، ولذي المال ما ملكوا، ولكل إنسان ما يملك من مال ونسب، وأما المؤمنون الصادقون في إيمانهم فلهم الجنة، فمعنى هذه الجملة السابقة أن قوتهم وحمايتهم من الله فقط؛ ولذا قدم قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ) على الجار والمجرور، لبيان مكانة ناصرهم، وأنه فوق النصراء جميعا، فإذا كان الأقوياء قد آذوهم، وأعنتوهم، وحرموا الهناءة، إلا أن تكون قلوبهم عامرة بذكر الله وقوله: (لِلَّذِينَ) بـ (اللام) للاختصاص، أي أنهم مختصون به دون غيرهم.
وقال تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا) الفتن يكون للمعدن ليخرج ما خالطه من مواد مغايرة لجوهره، وفتن المؤمل تمحيصه، وأن تذهب كل ما عساه يعلق به من أدران الدنيا، والهجرة الواضحة هنا أنها هجرة الأولين إلى الحبشة، ويصح أن يراد الهجرة إلى الحبشة والمدينة وإذا كانت السورة مكية، فهي تتبئنا بالهجرة إلى المدينة التي كانت أول الجهاد ومن كان الجهاد، وقوله تعالى بعد ذلك: (ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا) إخبار أنه سيكون جهاد بحمل السيف، والغزوات المباركة، والسرايا التي كان يبعثها النبي - صلى الله عليه وسلم - للجهاد والدعوة وإن عطف وصبروا على الجهاد مع أن الجهاد عدته الصبر أولا، وإعداد الأدوات بالمحل الثاني، إن هذا العطف يفيد أن المؤمن يختبر بأمرين الصبر، وهو مختبر به دائما، وقد كان قوة المؤمنين وهم بمكة، وثاني الأمرين الجهاد في سبيل الله بحمل السيف مدافعا، محاربا، وهذا يحتاج الصبر، كما قال اللَّه تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200).
وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى أنه للمؤمنين، في مقابل أن الذين كفروا بعد إيمانهم للشيطان ذكر سبحانه أخص صفات الذات العلية وهو أنه غفور رحيم، (قال: (إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفورٌ رَحِيمٌ) الضمير في (بَعْدِها) يعود إلى الهجرة، ذلك لأن الهجرة بعد صقل النفوس بالفتنة تتجه إلى الله، وقد سترت كل ذنوبها،(8/4282)
فيكون الخلاص للَّه تعالى، ومن بعد ذلك يكون الغفران، وتكون الرحمة بالنصر في الدنيا، والجنة في الآخرة.
وفى قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رحِيمٌ) يفيد أمورًا أربعة:
الأمر الأول - تكرار الربوبية، وفي ذلك دلالة على أنه مع المؤمنين دائما ولا يتركهم، وهو ربهم والتولي أمورهم.
الأمر الثاني - تأكيد هذه الصلة بالعبودية والربوبية بعد الهجرة، كما كانت الأمر الثالث - تأكيد المغفرة والرحمة، فقد أكد بالجملة الاسمية، وإن واللام.
الأمر الرابع - دوام الرحمة والمغفرة؛ ولذا كان بصيغة المبالغة الدالة على دوام رحمة اللَّه بالمؤمنين، وذكر الغفران لما عساهم يكون منه من عبارات موهمة لمطاوعة المشركين وقد خص الغفران والرحمة بيوم لَا يجدي فيه غير غفران اللَّه تعالى ورحمته، ولذا قال:(8/4283)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
يوم منصوب على الظرفية، للوصفين السابقين، أي إن ربك غفور رحيم، في هذا اليوم الذي يحاسب كل إنسان على ما قدم في الدنيا من عمل، وكل إنسان يدافع عن نفسه؛ ولذا قال تعالى: (يوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا)، أي تدافع كل نفس أو تبين كل نفس، والمجادلة: المحاجة، أي تحاج كل نفس عن نفسها فيما نسب إليها فتحاج كل نفس بنفسها عن نفسها فلا يكون معها ولي ولا شفيع، ولا نصير، ولا فدية ولا عدل، بل تكون هي المسئولة عما فعلت وارتكبت، وأعمالها محصية ثابتة، كما جاء في قوله تعالى: (وَكُلَّ إِنسَانً أَلْزَمْنَاهُ(8/4283)
طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14).
وقوله تعالى: (تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا)، أي يحضر الأنفس، وتسأل عما قدمت، وتنطق عليهم أيديهم وألسنتهم، فالحساب تكون أدلته مهيأة ثابتة، ولا يكون إلا الحكم، والحكم للَّه الواحد القهار فلا نقض لحكمه.
(وَتُوَفَى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ)، والمراد جزاء ما عملت، ولكن الأن الجزاء عدل وفاق للعمل، ويساويه تمام المساواة عبر بالعمل بدل الجزاء، إذ هي شيء واحد، أو متساويان تساويا مطلقا، وأكد الله سبحانه المساواة والوفاق بين العمل وجزائه فقال، (وَهُمْ لَا يُظْلَمُون)، أي لَا ينقص من عملهم شيء، فلا ظلم؛ لأن الحاكم هو اللَّه، وهو خير الفاصلين.
ولقد ضرب اللَّه تعالى المثل للكفران بالنعمة ومآلها والأمثال تضرب للناس لعلهم يعقلون، فقال:(8/4284)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
(وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
جعل حال قرية مثلا مصورا لمن يكون في رغد العيش والأمن والاستقرار، ثم يكفر بنعمة اللَّه لينزل عليه البلاء فيحرم نعمة الاطمئنان، ويستبدل بها خوفا، أو يحرم رغد العيش، ويستبدل به جورًا، وجعل المثل حال قرية - وهي المدينة الكبيرة لمكة - الدنيوي خسفا أو زلزالا، أو أمطار الحجارة فقط، بل قد يكون العقاب الدنيوي ضيقًا في الرزق بعد السعة، وخوفا بعد أمن، وهذا مجمل معاني النص القرآني؛ (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) (وَضَرَب)، أي بين، (مَثَلًا)، أي حالا ثابتة، (قَرْيةً) وهي مفعول وأخرت عن (مَثَلًا)، وهي المفعول الأول؛ وذلك لأن الأوصاف التي تجيء بعد ذلك كانت أوصافا في القرية، وهو مورد المثل وموضعه، ولأن ذكر المثل بها ثم ذكر مورده وموضعه يكون بعد ترقب واستشراف فيكون أمكن في النفس والفؤاد.(8/4284)
وهذه القرية وصفها اللَّه تعالى بأنها كانت آمنة كما كانت مكة، فقد كان فيها حرم آمن يتخطف الناس من حوله وكان يأتيها رزقها رغدا واسعا كثيرا إذ كان يجبى إليها من الثمرات استجابة لدعوة إبراهيم - عليه السلام -، وإذ قال سبحانه: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37).
وقال تعالى في هذه القرية: (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، (الفاء) للترتيب والتعقيب، أي أنها بدل أن تشكر نعمة اللَّه إذ منحها الأمن والعيش الرغد الهنيء، وهذا أقصى ما يطلب لمثل هذه القرية، بدل هذا كفرت، أي رتبت على النعمة الكفر بها، وهذا عكس ما يترقب، ويتوقع منها. فكان هذا فيه معنى التوبيخ أو التهكم بأمرها، والأنعم جمع نعمة، أو جمع نعمى، والمعنى النعم العالية التي بلغت أقصاها.
وقوله تعالى: (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوع وَالْخَوْفِ)، في الكلام استعارتان:
الاستعارة الأولى: - أنه شبه الجوع والخوف باللباس السابغ الذي يغشى الداخل والخارج، وذلك بجامع اشتماله على الجسد والنفس، وكل الجوارح، فإن اللباس يغشى الجسم كله، والخوف والجوع يغشيان الجسم كله، فالخوف يغشى الجسم بالاضطراب والهلع والجزع، والجوع يغشاه بالضعف والحاجة، وهي كالعرى، أو كالثوب الذي لَا يستر.
والاستعارة الثانية - هي تشبيه الجوع والخوف بالشيء الذي يذاق جريًا على ما يجري على الألسنة من قول فلان ذاق مرارة الجوع، وقد قال في ذلك إمام البلاغة الزمخشري: " أما الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة في البلايا والشدائد، وما يمس الناس منها، فيقولون: ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه العذاب شبه ما يدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من طعم المر.(8/4285)
هذه خلاصة ما يقال في هذا المثل الرائع، وتلك الحكمة المباركة، وهو مثل يعطي صورة بيانية رائعة لمحكم القول.
وقد أسهب الزمخشري في بيان الاستعارة حتى قال الناصر أحمد بن المنير الذي يتعقبه بالنقد اللائم: قال أحمد: " وهذا الفصل من كلامه يستحق أن يكتبوه بذوب التبر، لَا بالحبر ".
وقد ذكر ابن كثير أن المثل ينطبق على أهل مكة، قد كانوا يعيشون آمنين في رغد، ولكنهم اضطهدوا المؤمنين وآذوهم واستعصوا على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فنزل بهم البلاء، وحق فيهم قول اللَّه تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّه كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)، ودعا عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم اشدد وطئك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " (1)، وقد أصابهم الجوع الشديد - دع عنك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سد عليهم مسالك تجارتهم حتى أحسوا بنعمة اللَّه عليهم، وذلك كله بين اللَّه بسببه بقوله تعالت كلماته: (بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، أي بسبب الذي كانوا يصمنعونه من شرك وصد عن سبيل الله تعالى، ولعنتهم للمؤمنين، وحملهم على الردة بعد إيمان.
وإنهم مع هذه الحال أرسل إليهم رسولا من أنفسهم فكذبوه، وقد قال تعالى في ذلك:
________
(1) صحيح البخاري: الأذان - يهوي بالتكبير حين يسجد (؛76)، ومسلم: الجهاد والسير - الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة (2715).(8/4286)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
(وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
جاءهم رسول منهم عرفوا صدقه، وأمانته، إذا انشأ بينهم وليدا عفا لم يُزَنَّ بريبة، ولم يسجد لصنم حتى بُعث فيهم رسولا، هذا ما تتضمنه كلمة (مِّنْهُمْ)،(8/4286)
فليس غريبا عنهم، وذلك كقوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128).
ولقد أكد سبحانه بعثه - صلى الله عليه وسلم - فيهم بـ (اللام) وبـ (قد)، وقال: (جَاءَهُمْ)، أي بعث ابتداء فيهم، وتنكير (رَسُولٌ) للتعظيم، وإلى مكانته عند اللَّه، وعندهم لأمانته وعفته ولصدقه، ولكنهم بدل أن يعاجلوا بالإيمان عاجلوا بتكذيبه، فـ (الفاء) للترتيب والتعقيب، أي أن النتيجة جاءت على نقيض المقدمات؛ إذ أنه كان معروفا بالصدق والأمانة، فكان الواجب أن يبادروا بتصديقه، ولكنهم بادروا بتكذيبه، وعقب التكذيب أخذهم العذاب، إذ أخذوا في أسبابه، وهو التكذيب والصد عن سبيل اللَّه وإيذاء المؤمنين.
والعذاب هو عذاب الدنيا بالتقتيل فيهم وهزيمتهم، وذهاب سيطرتهم، وقيام الحق رغم أنوفهم، هذا في الدنيا، أما في الآخرة فبالعذاب الأليم، وإلقائهم في الجحيم.
ثم قال تعالى: (وَهُمْ ظَالِمُونَ)، الواو للحال، أي والحال أنهم ظالمون، فالعذاب نزل بهم، وهم أحق به، فهو بما كسبوه من تكذيب الحق، وتجاوزوا حد التكذيب إلى الظلم إذ صدوا عن سبيل اللَّه وفتتوا المؤمنين في إيمانهم وعذبوهم، وحاولوا أن يردوهم عن دينهم فارتدوا خاسئين.
* * *
الرزق الحلال الطيب
قال اللَّه تعالى:
(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا(8/4287)
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
* * *
إذا كانت نعمة اللَّه لأهل القرى في الأمن ورغد العيش، فهي نعم لإباحتها، لا لمنعهم منها ولذا كان النص بإباحتها لتتم سبحانه نعمته على عباده، وكان ابتداء القول بالفاء، لأنه مترتب على النعمة، فقال سبانه:(8/4288)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
(فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا) الأمر للإباحة لَا للوجوب، إلا إذا كان الأمر يطلب الأكل بالكل لَا بالجزء فالأكل بالجزء مباح أي له أن يأكل من نوع كذا أو كذا أو في وقت كذا، دون وقت كذا فهذا مباح فيه أن يختار ما يشاء، أما ترك الأكل بالكل بألا يأكل قط فحرام، ولذا كان الأكل مباحا بالجزء أو النوع، ومطلوبا طلبا لأمر بالكل، كما أنه محرم أن يحرم صنفا معينا من الحلال على نفسه كالذين حرموا البحيرة والوصيلة والحام، وقد وصف سبحانه وتعالى الأكل الذي وصفه اللَّه تعالى وأعطاه ومكن منه بوصفين:
أعف الأول - أنه حلال، والثاني: أنه طيب، والحلال أن يكون كسبه لا خبث فيه، فالكسب بالربا أو الرشوة والميسر، أو التغرير، أو السرقة أو الاغتصاب، أو الخمر كل هذا ليس برزق حلال، لأنه كسب خبيث، وكذلك أكل ما سمي عليه اسم غير اللَّه من صنم أو صليب، أو معبود غير اللَّه أيا كان.
وأما الوصف الثاني - فهو أن يكون في ذاته طيبا لَا خبيثًا في ذاته، فلا يؤكل الخنزير ولا الميتة، ولا الدم ولا ما تعافه النفوس، ومن ذلك سباع الطير،(8/4288)
وسباع البهائم، فإن لحم هذه وما يشبهه لحم خبيث، فكل ما حرمه سبحانه من مأكول خبيث الذات يضر الجسم وتعافه النفس.
وإن هذه النعم التي هيأها الله تعالى وأباحها توجب الشكر، ولذا جاء الأمر بالشكر بعد الإباحة، فقال تعالى: (وَاشْكُروا نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) وشكرها بالقيام بالواجبات، من عبادة وامتناع عن الشرك، والتصدق منها للَّه تعالى، وإطعام القانع والمعتر، وأن يكون كل ذلك لوجه اللَّه تعالى لَا يبتغي سواه، ولا يطلب إلا وجهه الكريم.
ولذا قال بعد ذلك: (إِن كنتُمْ إياهُ تَعْبُدُونَ) تقديم الضمير يفيد التخصيص فالمعنى إن كنتم لَا تعبدون إلا اللَّه سبحانه وتعالى. وذكر الوحدانية بعدها فيه إشارة إلى أن تناول هذه النعم من غير تحريم لبعضها، هو من عبادة اللَّه تعالى، ذلك أن الانتفاع بأي نعمة مع الشعور بعظمة المنعم واستحقاقه الشكر، والتناول طاعة لأمره، واستجابة لطلبه هذا في عباده، ففي الانتفاع بكل نعمة منحها للاستجابة للمنعم عبادة، حتى في بضع أحدكم صدقة.
وبين اللَّه تعالى المحرمات من الخبائث فقال:(8/4289)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
(إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)
(إِنَّمَا) أداة قصر أي أن المحرم عليكم من النعم ونحوها الميتة والدم ولحم الخنزير، إذا أهل لغير اللَّه به، أصناف أربعة هي: الميتة وهي التي كانت قد حبس دمها فيها، ويدخل فيها الموقوذة والنطيحة، فإنها كالتي ماتت حنف أنفها، إذ لم تذكَّ التذكية الشرعية، وحبس الدم فيها ولم يرق، والدم، وهو الدم المسفوح، وقد ذكر هنا مطلقا، وذكر مقيدا في آية الأنعامِ في قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. . .).
ولحم الخنزير إذ إنه نجس بذاته، وما أهل به لغير الله وهو المذبوح لغير الله.(8/4289)
ومن المقورات أنه إذا اتحد المسبب والحكم، وجاء اللفظ في أحد الموضعين مطلقا، وفي الآخر مقيدا حمل المطلق على المقيد.
وهذه الآية الأخيرة تفيد أن تحريم هذه الأشياء لأنه رجس، وفيها ضرر جسمي إذ هي قاذورات خبيثة، وما أهل لغير اللَّه كان تحريمه لأنه فسوق وخروج عن التوحيد؛ لأنه ذكر غير اسم اللَّه تعالى عليه.
وهذا التحريم في حال الاختيار، أما في حال الاضطرار فإنه يرخص فيه الأكل، ولذا قال تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ)، أي فإنه يرخص الأكل، وإن اللَّه تعالى يغفر الإثم لأنَّ اللَّه يرفعه بمغفرته وبرحمته وقد اشترط للإباحة شرطان، أو ذكر الترخيص مقرونا بوصفين:
الوصف الأول - أن يكون (غَيْرَ بَاغٍ) طالب له يشتهيه، وهذا الوصف تحقيق للضرورة؛، لأنه إذا كان يبتغيه وهو في فسحة من العمل لَا يكون مضطرا، ولأنه إذا كان يبتغيه يتجاوز حد الضرورة.
والوصف الثاني - (وَلا عَادٍ)، أي متجاوز حد الضرورة.
وقد قالوا إن هذه رخصة إسقاط؛ لأنه قد سقط عنه التحريم بهذه الضرورة، وقالوا إن الأكل في هذه الحال واجب، وليس بمباح فقط؛ لأنه يتردد بين أمرين أحدهما أقوى تحريما من الآخر:
الأمر الأول - الأكل.
والأمر الثاني - تلف النفس ولا شك أن تلف النفس أقوى تحريما من الأكل.
وقال أهل الطب إن تحريم هذه الأشياء لما فيها من رجس وقذر، وذلك يضر الجسم، فإذا كان الجسم في حال جوع شديد ومخمصة كان هذا الجوع مخففا لأضرارها، وكان الأخذ منها لَا ضرر فيه لحال الجوع الشديد، فيأخذ من غير تعد ولا شهوة أكل، ولا تجاوز لحد الضرورة، فإن تجاوزها كان الضرر، وتحقق الرجس والقذر.(8/4290)
وقد كان المشركون يحرمون على أنفسهم بعض المحللات من الأنعام فنهى اللَّه عن ذلك وقال:(8/4291)
وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
(وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
كان المشركون يحرمون على أنفسهم بعض ما تخرجه الأرض وبعض النعم، وينسبون ذلك كذبا إلى اللَّه، ولنرجع إلى ما في سورة الأنعام إذ يقول اللَّه سبحانه: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)، (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139).
قد بين سبحانه ما أحله وما حرمه، ولكنهم كانوا يحرمون ما أحل اللَّه، وينسبون التحريم إليه سبحانه وقد كذبهم اللَّه تعالى في هذه الآية الكريمة: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) نذكر أوجه التخريج النحوي في الآية الكريمة وننتهي إلى وجهين نذكرهما:
الوجه الأول - أن (الْكَذِبَ) مفعول لقوله تعالى: (وَلا تَقُولُوا)، أي لا تقولوا الكذب للذي تصفه ألسنتكم، وقوله تعالى: (هَذَا حلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) و (هَذَا) بدل من (الْكَذِبَ)، ويكون المعنى ولا تقولوا الكذب للذي تصفه ألسنتكم بالحل والحرمة، وهذا حكم عليهم بالكذب في ادعائهم الحلال والحرام من غير حجة ولا علم.(8/4291)
الوجه الثاني - أن يكون الكذب مفعولا للمصدر، ويكون المعنى ولا تقولوا لوصفكم الكذب هذا حلال وهذا حرام ومؤدى التوجيهين أنه لَا يصح أن تقولوا هذا حلال وهذا حرام، فإن ذلك الوصف هو الكذب بعينه ما دام لم يجئ من اللَّه بيان فيه، ولأنه قد ثبت ما أحل وما حرم، فما عدا ما قاله اللَّه باطل باطل، ولذا قال تعالى: (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)، (اللام) هنا هي لام الصيرورة أو لام العاقبة، والمعنى لَا تفعلوا ذلك؛ لأن العاقبة أن تفتروا على اللَّه الكذب. (افترى) أي قصد باهتا الكذب وتعمده وأزاد، وقد ختم اللَّه تعالى الآية بقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) أكد سبحانه بأنه لَا يفلح الذين يقصدون الكذب على اللَّه تعالى ويتعمدون ويبهتون الناس بالكذب عليه سبحانه، وذلك لأنهم يكونون قد مردوا على الكذب، وفسدت مداركهم إذ ماعت نفوسهم فصارت لَا تتجه إلى الحقائق ولا تستقر فيها الحقائق، ولا يؤمنون بحق، ولا يرفضون الباطل، إذ من تصل حاله إلى الكذب على اللَّه لَا يمكن أن يفوز في أمر من الأمور؛ ولذا قال: (لا يُفْلِحُونَ)، أي ليس من شأنهم أن يفوزوا.
وقد ذكر الموصول للدلالة على أن الصلة هي السبب في عدم الفوز، وأكد سبحانه عدم الفوز بالجملة الاسمية وإن المؤكدة، وإذا كنا نراهم قد مردوا على الكذب وصار شأنا من شئونهم فلا مانع يمنع من الكذب على اللَّه سبحانه وتعالى، أي كذب أعظم من أن يحرموا ويدّعوا أن اللَّه هو الذي حرم عليهم.
وقد بين سبحانه في تأكيد عدم فوزهم أنهم يحسبون بريق الحياة ومتاعها هو المتاع، وبين اللَّه تعالى أن متاعها قليل؛ لأنه في ذاته قليل وزمانه قليل ومتاع الآخرة هو الأبقى ومن طلب متاع الدنيا بغير الحق فالآخرة تكون له عذابًا أليمًا؛ ولذا قال تعالت كلماته:(8/4292)
مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
(مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
التنكير في (مَتَاعٌ) يدل على قلته في ذاته وقلته في زمانه وهو بجوار الكذب الذي يكذبونه لَا يعد متاعًا؛ لأن المتاع ما يقوم على متاع النفس، والنفس(8/4292)
الكذوب تكون في اضطراب مستمر ولا تملك نفسها كما لَا تنضبط في ذاتها، ودأبها على الكذب يؤدي إلى ضلال الفكر فيها حتى يصيبها خرف الكذب وفساده.
(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) بعد هذا المتاع الضئيل وهو عذاب دائم ليس له وقت محدود بل هو محدود بحدود اللَّه، وما من قارئ يقرأ هذه الهداية إلا امتنع عن الهجوم بقوله حلال وحرام إلا إذا كان النص على التحريم من قرآن أو أحاديث النبوة، ولقد كان إبراهيم النخعي، وهو من أئمة فقه الرأي كان إذا وصل برأيه إلى حكم يفيد التحريم لَا يقول: حرام، ولكن يقول أكره، وإذا وصل بقياسه إلى حكم يفيد الحل قال ليس من بأس، أو استحسن هذا متحرجا أن يقول حرامًا أو حلالاً لكي لَا يكون ممن دخلوا في حكم هذه الآية.
وقال ابن العربي: " كره مالك وقوم أن يقول المفتي: هذا حلال، وهذا حرام في المسائل الاجتهادية، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومئ هذا "، وقد رأينا في هذا الزمان من يقول في أمور هي حرام بالنص إنها حلال، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلى العظيم.
بين اللَّه ما أحل وما حرم، ثم حرم اللَّه تعالى على اليهود بعض أمور، وكان التحريم خاصا بهم دون غيرهم فطْمًا لنفوسهم الشهوانية الظالمة، وقد أشار سبحانه إلى هذه المحرمات في قوله تعالى:(8/4293)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
وقوله تعالى: (مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبلُ)، أي ما أخبرناك بتحريمه من قبل، وهذا يدل على أن هذه الآية في سورة النحل متأخرة عن التحريم على اليهود في سورة الأنعام، وذلك النص في سورة الأنعام:(8/4293)
(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146).
وفى هذه الآية التي سبقت في سورة الأنعام ذكر سبحانه أن ذلك كان فَطْمًا لأهوائهم وشهواتهم وبغيهم، فكان التحريم تأديبا لهذه النفوس أو تقوية لإراداتهم ومنعا لأهوائهم وشهواتهم، ولذا قال في الآية الكريمة التي نتولى ذكر معانيها الحكيمة (ومَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، أي وما ظلمنا بذلك المنع الجزئي، بل هم الذين بغوا، وأكثروا فيها الفساد، وأدى ذلك إلى ظلمهم؛ ولذا قال تعالى: (ولَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلمُونَ)، الاستدراك هنا لتأكيد نفي الظلم، وإثبات الظلم عليهم هم، وتقديم (أَنفُسَهُمْ) على (يَظْلِمُونَ) للدلالة على الاختصاص، أي لَا يظلمون أحدا غير أنفسهم.
* * *
التوبة بعد العصيان ومكانة إبراهيم
قال اللَّه تعالى:
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
* * *(8/4294)
إن اللَّه تعالى يغفر الذنوب جميعا لمن تاب وآمن وعمل صالحا؛ ذلك أن بتوبته في وقتها عبادة، وقد قال تعالى:(8/4295)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
(ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا).
(إِنَّ رَبَّكَ) الذي خلق الناس أجمعين ورباهم وهذبهم (لِلَّذِينَ عَمِلُوا)، أي هو لهم يمنعهم من الاسترسال في الشرور والفساد، كما تقول: السلطان لفلان هو ينصره، ويحميه من أعدائه ولا يسلمه لهم، وقد ذكر أنه سبحانه لهؤلاء الذين عملوا السوء، بشرطين:
الشرط الأول - أن يكون بجهالة.
والشرط الثاني - أن يتوبوا ويعملوا الصالح بأن يصلحوا في ذات أنفسهم، بأن يزول من نفوسهم، كل أدران السوء، وترحض عن قلوبهم كل ما عملوا من آثام مبطنة، وأن يذهب ما اربدت به نفوسهم، وتطهُر.
والسوء كل ما هو في ذاته ليس بطيب، ويسوء النفس وغيره، والجهالة هي عدم تدبير الأمر، وعدم تعرف عواقبه بأن يندفع تحت تأثير شهوة جامحة، أو هوى متبع، فإذا تدبر تاب من قريب، وهذا قوله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18).
وقال تعالى في الشرط الثاني: (ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا)، أي قاموا بحق التوبة النصوح، وهي تقتضي أمورا ثلاثة:
الأمر الأول - الندم على ما حصل من سوء، وذلك علم بالحق بعد الجهالة، وثوب إلى اللَّه تعالى بعد الابتعاد.
والأمر الثاني - العزم على ألا يعود إلى ذنب أبدا، ذلك لأجل غسل ما اعترى القلب من أدران، وتنظيفه من السيئات وآثارها.(8/4295)
والأمر الثالث - أن يكون ذلك من قريب؛ لأن القدم يثبت الشر في النفس، ويجعل إزالة درنه ليس يسيرا.
ثم بعد هذه التوبة بشروطها لَا بد من العمل الصالح، لأنه لَا يزيل عمل السوء إلا العمل الصالح فيحل الخير محل الشر، وإنه عند تحقق هذه الأمور، وتوَّجها العمل الصالح كان الغفران وكانت الرحمة، ولذا قال: (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفورٌ رحِيمٌ) وهنا عدة أمور بيانية:
الأمر الأول - التعبير بـ (ثُمَّ) في أول الآية لما بين الذين يصرون على الذنوب ويعاندون الحق، ويسرفون على أنفسهم، وبين الذين يتوبون من قريب عن فعل فعلوه بجهالة، فكان لـ (ثُمَّ) موضعها في هذا، وكذلك الأمر في (ثُمَّ) الثانية، (ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رحِيمٌ) في التعبير بـ (ثُمَّ) يفيد التراخي بين التوبة والغفران؛ لأنه ليس كل توبة توجب الغفران، بل لابد من زمن تعتاد النفس فيه فعل الخير حتى يكون الخير منها حالا من أحوالها.
الأمر الثاني - في قوله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) (اللام) تفيد اختصاص اللَّه بهم وأنه قريب منهم.
وإن في ذلك تشجيعا للتوبة لمن يقعون في معصية، كما قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا. . .)، وقال تعالى: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ. . .)، الأمر الثالث - في قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رحِيمٌ) ذ كر البعدية في هذه الحال فيه معنى الفورية، وأن اللَّه يحب توبة عبده ليغفر له، فإن اللَّه يحب التوبة ويحب المغفرة.
وقد ذكر اللَّه بعد ذلك أبا الأنبياء إبراهيم لأنه أبو العرب وعزهم، ويعيشون ببركة دعائه، ولأنه تواب أواه حليم، فقال سبحانه:
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)(8/4296)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
(أُمَّةً) إما أن تكون بمعنى إمام، أي أنه عليه السلام كان إمام الموحدين المقتدى بهم أو مذهبا متبعا، كقول الله تعالى: (. . . إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ).
وفسره الزمخشري بأنه وحده أمة كأنه جماعة جمعت الفضائل كلها، وقد قال في ذلك: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كانَ أُمَّةً) لكماله واستجماعه فضائل لَا تكاد توجد إلا متفرقة في أشخاص كثيرة، كقوله:
ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد وهو رئيس الموحدين وقدوة المحققين الذي جادل في المشركين، وأبطل مذاهبهم الزائفة بالحجج الدامغة، وهذا وجه وقال الزمخشري: والثاني أن يكون أمة بمعنى مأموم أي يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير، أو بمعنى مؤتم كأمة كالرُحْلة والنخبة وما أشبه ذلك مما جاء من فُعله بمعنى مفعول، فيكون مثل قوله تعالى:
(. . . إنِّي جَاعِلُكَ لِلناسِ إِمَامًا. . .)، ويروى الشعبي عن نوفل الأشجعي عن ابن مسعود أنه قال: إن معاذًا كان أمة قانتا لله، فقلت: غلطت إنما هو إبراهيم، فقال: الأمة الذي يعلم الخير، والقانت المطيع لله ورسوله وكان معاذ كذلك. وعن عمر رضي الله عنه أنه قال حين قيل له استخلف: لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته، ولو كان معاذ حيا لاستخلفته، ولو كان سالم حيا لاستخلفته، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أبو عبيدة أمين هذه الأمة، ومعاذ أمة قانتا لله ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلون وسالم شديد الحب لله لو كان لا يخاف الله لم يعصه "، وهو ذلك المعنى أي كان إماما في الدين؛ لأن الأئمة معلمو الخير.
ونقول: إن الوجهين اللذين ذكرهما الزمخشري يصح أن يوادا معا، فهو في ذاته أمة لأنه جامع لكل صفات الكمال البشري، ومستجمع لكل أسباب الرفعة عند الله، وهو مع ذلك إمام يؤتم ويقصد إذ هو إمام الموحدين والله أعلم؛ ولذلك عقب ذكره بتزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن والنبوة، وتحريم ما أحله الله، ولأنه كان وحده أمة موحِّدا، وكان سائر الناس مشركا.(8/4297)
هذا هو الوصف الأول لإبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، والوصف الثاني: أنه قانت للَّه أي خاضع مطيع مسلم وجهه للَّه تعالى، والوصف الثالث: أنه كان (حَنِيفًا)، أي طاهرا نقيا في نفسه وقلبه مائلا للحق أي متجها بكل نفسه إلى الحق لَا ينحرف إلى الباطل، الوصف الرابع: وهو وصف سلبي ناف عنه الشرك؛ ولذا قال: (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، الوصف الخامس إيجابي، فقال:(8/4298)
شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
(شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
كان الذين يدَّعون الانتساب إليه في ملته ويقولون إنهم على دين إبراهيم وحنيفيته، يعرفون نعمة اللَّه ثم ينكرونها ويكفرون بها، أما إبراهيم - عليه السلام - فقد ذكر سبحانه أنه كان في حاله التي تحيط به، وتستغرق كل أفعاله (شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ) وأنعمُ جمع نعمة جمع قلة، وإذا كانت حال شكر دائم لأنعمه القليلة فهو بالأولى شاكر لأنعمه السابغة الكثيرة، وفي هذا دعوة إلى أن يكونوا كأبيهم في ملته وهديه وحنيفيته السمحة.
وإنه بهذه الصفات العليا من جمعه للفضائل الإنسانية التي كان بها أمة وحده، ومن أنه كان قانتا حنيفا، وشاكرا لأنعمه اصطفاه اللَّه تعالى خليلا، كما قال تعالى: (. . . وَاتَّخَذَ اللَّهَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)؛ ولذا قال تعالى:
(اجْتَبَاهُ)، أي اصطفاه نبيا مرسلا، وهداه إلى صراط مستقيم إلى طريق للحق مستقيم، وهو صراط اللَّه تعالى كما قال سبحانه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِه. . .).
وإنه من ثمرة هذه الخصال الكريمة، وأنه هو الذي وفَّى، وأتى بكل الطاعات أتاه الله تعالى خير الدنيا والآخرة.
فقال تعالى:(8/4298)
وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
(وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)
الحسنة هي النعمة التي تحسن فيها أمور الدنيا من حياة فاضلة هي الخير كله، وقد أعطى الله تعالى إبراهيم تلك الحياة الحسنة الطيبة فرزقه الولد، بعد حرمان(8/4298)
طويل، ولم يهبه إلا على الكبر، كما قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ. . .)، وشكر النعمة، واختبر بالفداء بذبح ولده فقبل راضيا، ثم فداه رب العالمين بذبح عظيم ووفقه في بناء الكعبة وأمده بعمر طويل كله كان في الخير وعمل الصالحات، و " خير الناس من طال عمره وحسن عمله " (1)، وجعله أبا الأنبياء وشعر بذلك في حياته فقد كانوا من أولاده، وقد نالوا منزلة النبوة فكان إسماعيل من ذريته النبي الهاشمي الأُميّ، ومن ذرية إسحاق كان أنبياء بني إسرائيل، وجعل اللَّه له كما طلب (. . . لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ)، فكان كل أهل الديانات يتولونه، ويعتزون بالنسب إليه وأنه مع النعم التي أنعمها سبحانه وتعالى عليه كان شاكرا لأنعمه.
ولذلك حسنت حياته فقال تعالى: (وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) ذكر ذلك الكريم الحنان المنان على أنه خبر لَا إيتاء وكأنه نتيجة لما كان منه في الدنيا ولم يذكر أنه عطاء من اللَّه تعالى، وإن اللَّه له المَنُّ والفضل، ولم يذكر ذلك ليبين سبحانه وتعالى أن اللَّه تعالى يعطي الناس على قدر شكرهم: (. . . لَئِن شَكَرْتُم لأَزِيدَنَّكُمْ. . .)، وأن خير الآخرة ثمرة عمل الدنيا وكله بفضل اللَّه وعطائه (. . . وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).
وقد أكد أنه في الآخرة من الصالحين بالجملة الاسمية، وإن المؤكدة ولام التوكيد، وأنه في صف الصالحين، والصالحون في الآخرة هم المقربون الذين يفوزون بنعيم الجنة وينظر إليهم ويرضي عنهم ورضوان من اللَّه أكبر. وإن ما دعا إليه إبراهيم - عليه السلام - هو ما يدعو إليه محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذا قال تعالى:
________
(1) أخرجه الترمذي: الزهد - ما جاء في طول العمر للمؤمن (2252)، وقال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، وأحمد: أول مسند البصربن (19519)، والدارمي: الرقاق: (2625).
(ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)(8/4299)
ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
إن المشركين كانوا يفاخرون الناس بأنهم من ذرية إبراهيم، فالنبي يقرهم على هذا الشرف النسبي، واللَّه تعالى يدعوهم إلى اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الإسلام الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - الأُميّ هو ملة إبراهيم ودينه، والقرآن وحي اللَّه تعالى هو الذي يدعو إلى اتباع ملة إبراهيم، فأنتم إذ تشركون، وإذ تعاندون النبي - صلى الله عليه وسلم - تعاندون إبراهيم وتكفرون بشرف انتسابكم إليه عليه السلام، وتمسككم بإقامة نسكه، واعتزازكم ببيت الله الحرام الذي بناه، وجعله اللَّه مثابة للناس وأمنا، وقوله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) فيه ثلاثة أمور بيانية تجب الإشارة إليها:
الأمر الأول - في قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) فيه أن ما يدعوكم إليه من عدم الشرك هو وحي من اللَّه باتباع إبراهيم الذي يعتزون به، فذلك الوحي هو مما تفخرون وتعتزون فلا تنافروا الداعي ولا تعادوه، وهو على ملة إبراهيم فسيروا في مفاخركم باتباعها، وهو مائل عن الشرك غير منحرف إليه.
الأمر الثاني - التعبير بـ (ثُمَّ) فإن مؤداها أن إيحاء اللَّه لنبيه - صلى الله عليه وسلم - باتباع ملة إبراهيم هو سمو بإبراهيم أعلى من كل ما سبق، لأن المؤدى في كلمة (ثُمَّ) التي تفيد التراخي أنه سما الأمر بإبراهيم أنه علا حتى صار محمد سيد الخلق تابعا له في ملته، فالتراخي هنا معنوي بالعلو بين مرتبة خاتم النبيين ومرتبة سيدنا إبراهيم، وإنه جده، ولكن محمد فخر نبي عدنان وفخر الإنسانية كلها، أشار إلى ذلك الزمخشري وقال في التعليق عليه الناصر أحمد:
و (إنما) تفيد ذلك لأن (ثُمَّ) في أصل وصفها التراخي المعطوف عليه في الزمان، ثم استعملت في تراخيه عنه في علو المرتبة بحيث يكون المعطوف أعلى مرتبة وأشمخ محلا مما عطف عليه، فكأنه بعد أن عدد مناقب الخليل عليه السلام قال تعالى وها هنا ما هو أعلى من ذلك كله قدرا وأرفع مرتبة، وأبعد رفعة، وهو أن النبي الأُميّ - صلى الله عليه وسلم - الذي هو سيد البشر متبع ملة إبراهيم مأمور باتباعه بالوحي(8/4300)
متلو أمره بذلك في القرآن الكريم العظيم، ففي ذلك تعظيم لهما لكن نصيب النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذا التعظيم أوفر وأكبر.
الأمر الثالث - أن قوله تعالى: (أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) (أن) هنا بيانية، أي تبين معنى الوحي، فقوله تعالى اتبع ملة إبراهيم تفسير لـ أوحينا، فهي أمر باتباع ملة إبراهيم.
وقد ختم اللَّه تعالى النص بقوله تعالى: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهذا تحريض للمشركين على منع الشرك؛ لأن إبراهيم لم يكن مشركا من وقت نشأته غلاما صبيا إلى أن توفي بعد عمر مبارك طويل مديد عليه السلام.
* * *
الإشارة إلى اليهود والدعوة بالحكمة
قال اللَّه تعالى:
(إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
* * *(8/4301)
بين اللَّه تعالى حال المشركين من كفرهم، وعنادهم وكفرهم بالنعمة يعرفون نعمة اللَّه ثم ينكرونها، أشار سبحانه إلى الذين يماثلونهم في الكفر وإنكار النعمة، وهم يكفرون، وهم اليهود فهم والمشركون أشد الناس بغضا للذين آمنوا، وقد أشار سبحانه إليهم بيوم السبت؛ لأنهم الذين اختصوا بتحريمه وإفراده للعبادة وتحريم الصيد فيه، وفي ذكر المشركين إشارة إلى هذه المماثلة وإلى بيان ما يستقبله النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن له أياما منهم كأيام المشركين معه فلتصطبر لهم كما صبر من قبلك من الرسل حتى اليوم. يقول تعالى:(8/4302)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
(إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ).
أي صير السبت مانعا لهم من مزاولة شئون الحياة للذين اختلفوا فيه، أي لليهود الذين اختلفوا فيه، والاختلاف أمارة أن فيهم من لم يذعنوا للحق ويؤمنوا، فإنه حيث كان الاختلاف كان الذين يلوون ألسنتهم بالقول من غير إذعان للحق والإيمان، فإن الإيمان يجعل النفوس تقر وتطمئن ولا تنازع ولا تلاحى.
منعوا من الصيد في يوم السبت، وابتلاهم اللَّه بكثرة السمك فيه، فيوم يسبتون يأتيهم الصيد، ويوم لَا يسبتون لَا يأتيهم، كما قال تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)، فمن صبر على البلاء وهم قليلون، كما قال اللَّه تعالى فيهم: (. . . مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ منْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ)، وكثيرون تمردوا واختلفوا في تمردهم فمنهم من أعمل الحيلة وفتح قنوات يأوي إليها السمك في يوم سبتهم ليأخذوها يوم لَا يسبتون، ومنهم من تمرد كليا، ولم يطع من غير محاولة التحايل. هذا انخلافهم قى يوم السبت بين صابر لابتلاء اللَّه، ومتمرد عليه، ومتحايل كأنما يخدع اللَّه، وهو معقول في ذاته ومتفق مع طبائع اليهود المادية الذين يأخذون الأحكام بظاهر من القول والعمل، ويكفرون بالحق في لبابه وصميمه.(8/4302)
وقد قيل إن اختلافهم كان عندما أمرهم موسى بأن يكون يوم الانفراد للعبادة والامتناع عن الصيد يوم الجمعة فأبوا إلا أن يكون يوم السبت، يروى في الصحيحين عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ اليَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ " (1)، وإنا نميل إلى الله، ولا نخالف السنة.
ثم ختم اللَّه سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) وإن اللَّه رب الأنبياء ورب محمد، ورب الوجود (لَيَحْكُمُ)، (اللام) في خبر إن، و (لَيَحْكمُ)، أي يفصل وهو خير الفاصلين، وذكر (رَبَّكَ) في هذا المقام للدلالة على عالم محيط، فحكمه هو الفيصل لعلمه وقدرته وإحاطته بكل شيء علما، وموضوع الحكم قال سبحانه وتعالى فيه: (فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)، أي ما كانوا يختلفون فيه بشكل عام، فقد اختلفوا اختلافا كثيرا، فاختلفوا في عبادة العجل، واختلفوا بين (فروشيم)، أي مفسرين وصدوقيين، ومفوضين، واختلفوا على موسى ومن جاء بعده من الأنبياء، ولا يزالون مختلفين، وهم بعيدون عن رحمة اللَّه تعالى.
بعد أن ذكر حال اليهود، وأشار إلى عنادهم، وفصل القول في حال المشركين وإيذائهم أمر اللَّه رسوله أن يستمر في دعوته لَا يألوا، فهو مكلَّف بالتبليغ مهما تكن مناوأة المناوئين، فقال تعالت قدرته:
________
(1) رواه البخاري: الجمعة - فرض الجمعة (827)، ومسلم: الجمعة - هداية هذه الأمة ليوم الجمعة (1412)، من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه.(8/4303)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
صدع النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه بعد أن أنذر عشيرته وعمت دعوته ربوع البطحاء، وتجاوبت أصداؤها في أرض الجزيرة العربية، وصار الناس يتعرفون أمر هذه(8/4303)
الدعوة، وتجردت قريش مناوئة بكل مما أوتيت من قوة آذت الضعفاء وفتنتهم عن دينهم وهاجر إلى الحبشة من هاجر فرارا بدينه وحماية ليقينه، فهل يضعف ذلك من ندائه بقوة الحق والإيمان، وهل يخرجه ذلك عن حد الحكمة، بل إنه يستمر هاديا مرشدا؛ ولذا جاء أمر اللَّه بأن يستمر في دعوته بالحكمة والموعظة ولا يخرجه ما يفعلون إلى غير الحكمة، فقال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمًوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ادع مبلغا رسالة ربك ومتبعا سبله وهدايته إلى سبيل ربك، وسبيل اللَّه هو الصراط المستقيم وهو التوحيد وشريعته التي لَا عوج فيها ولا أمتَ بل وهو سبيل الحق الهادي المرشد بالحكمة والموعظة، والحكمة هي القول المحكم الذي يشتمل على الدليل الهادي والبرهان القاطع، والموعظة هي بيان العبر، وضرب الأمثال بما وقع للماضين، وهي المثلات التي وقعت للناس، والموعظة تشمل هذا وتشمل بيان منافعهم في إجابة دعوة اللَّه، والمضار التي تنزل بهم إن أعرضوا وضلوا عن سواء السبيل.
وبيان الفرق بين الحكمة والموعظة أن الحكمة ذكر الأدلة على التوحيد التي لا يفهمها إلا الراشدون الذين يدركون الدليل ومقدماته، والموعظة ذكر عواقب الضلال من الحوادث الماضية التي وقعت بالضالين المضلين، والقرآن الكريم قد اشتمل على الحكمة والموعظة، ففيه بيان آيات اللَّه في الكون من خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم المسخرات بأمره وإنزال الماء وإنبات النبات وفلق الحب والنوى، فهذا كله من الحكمة، وفيه قصص الأمم السابقة وما نزل بالعصاة من خسف وزلزال وريح صرصر عاتية، وهذا من الموعظة الحسنة؛ ولذا قال بعض المفسرين (بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) القرآن لأنه يشتمل عليها، ووصفت الموعظة بالحسنة لسهولة قبولها، أو يتخير الرسول أسهلها على النفس، وأحسنها توصيلا للحق الله الهادي إلى سبيل الرشاد.
أمره سبحانه أن يدعوهم بالحكمة والموعظة وأن يجادلهم بالتي هي أحسن فقال تعالى: (وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، أي بالطريقة التي هي أحسن في التوصيل إلى الإقناع، فإن لم يكن إقناع فتقريب، فإن لم يكن تقريب لَا يكن(8/4304)
تنفير، فهو يبين لهم الحق في غير مخاشنة وإن خاشنوه، وفي غير غضب وإن غاضبوه، فالنبي لَا يغضب ولكن يهدي فلا يفجؤهم يما لَا يحبون، بل يأتيهم بالحق مما يحبون ما دام لم يكن باطلا، ولا يكون جافيا في قول أو خلق، ولا يكون غليظا بادي الغلظة، بل يكون ودودا بادي الودة، من غير أن يكون مداهنا في حق، فإن المشركين يودون أن يكون مداهنا في الحق كما قال تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
أمر اللَّه نبيه بأن يبذل غاية الجهد في الدعوة من غير مغاضبة بل بالمودة والملاينة والرفق في القول والعمل، والمجادلة من غير مشاحنة ولا مخاصمة، بحيث يكونون في جانب، وهو في جانب، ولا يظن أنه بذلك يتأكد إيمانهم فإن منهم من يضل، ومنهم المهتدي، وعليه التبليغ، وليس عليه الهداية؛ ولذا قال: (. . . فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغ. . .)، وقال في هذه الآية: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) هذا النص السامي كأنه جواب عن استفهام مقدر في القول: أبعد الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن يكون الإيمان لَا محالة؟، فأجاب سبحانه: فيهم من كتب عليه الضلال وفيهم المهتدي.
(إِنَّ رَبَّكَ) الذي يعلم كل شيء لأنه رب الإنسان والوجود (أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ)، أي بمن سلك سبيل الضلالة وأوغل فضل، (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
ونقول: إن أفعل التفضيل ليس على بابه؛ لأنه لَا مفاضلة بين علم اللَّه وعلم أحد، وإنما الذي يقصد من أفعل التفضيل أن علمه بلغ أقصى درجات العلم فلا علم فوق علمه سبحانه.
ويلاحظ أنه يعبر عن الضالين بالفعل، (ضَلَّ)، وعن الذين هداهم اللَّه تعالى (بِالْمُهْتَدِينَ)؛ للإشارة إلى أن الضلال مخالف للفطرة حادث عارض لها،(8/4305)
ولذا عبر عنه بالفعل الماضي، وأما الهداية فهي الفطرة، ولذا عبر عنها بالوصف الذي يدل على الدوام، فقال: (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
وإذا لم تكن هداية لَا تكون مغاضبة، بل يكون عقاب إن اعتدوا فقال تعالى:(8/4306)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
هذه السورة سورة النحل مكية كلها، وقيل إن ثلاث الآيات الأخيرة منها، وهي هذه الآية، واللتان تليانها مدنيات، وهي بالمدنيات أشبه؛ لأن المسلمين لم يملكوا القدرة على العقاب إلا بعد الهجرة، وبعد أن أذن لهم بالقتال في قوله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40).
فبعد الهجرة والإذن بالقتال يكون للعقاب موضع؛ إذ كانتا لهم القدرة، ويكون معنى الآية على هذا، وإن عوقبتم أي آذوكم على إيمانكم، وهاجموكم في دياركم وأموالكم، أو أردتم أن تأخذوا منهم حقكم على إيذاء آذوه فعاقبوهم بمثل ما آذوكم، وتسمية فعلكم عقابا هو من قبيل المشاكلة اللفظية، فما كان منهم لم يكن عقابا بل كان إيذاء ابتداء اعتدوا به عليكم كما سمي رد الاعتداء من قبيل المشاكلة اللفظية في قوله تعالى: (. . . فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، فما كان دفع الاعتداء اعتداء إنما كان دفع الاعتداء انتصافا.
وما موضع الصبر في هذه الحال، وقد أقسم اللَّه تعالى بأنه (خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ)، ونقول: إن موضعه في أنه لَا يجهز على جريح، ولا يقتل النساء ولا الذرية، ولا تنتهك الفضيلة، وفي ألا يبادروهم بالقتال، ولا ينتهكوا الحرمات(8/4306)
ولا يمثلوا بالقتلى كما يمثلون، روي أنه في غزوة أحد قتل سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وقد ذكر الرواة في السيرة أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد. .
بقروا بطونهم، وقطعوا مذاكيرهم، ما تركوا أحدًا إلا مثلوا به حتى حمزة عم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقد مثلوا به، فرآه مبقور البطن، ققال: " أما والذي أحلف به لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك "، ولكن أمر بالنهي عن المثلة.
وموضع الصبر أيضا في أنه إذا تمكن منهم المسلمون يعرضون عليهم الإسلام، كما يعرضونه قبل القتال، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أرسل معاذ بن جبل وعلي بن أبي طالب إلى اليمن كل بمفرده: " لا تقاتلهم حتى تعرض عليهم الإسلام، فإن أسلموا فخذ من أغنيائهم صدقة وردها على فقرائهم، فإن لم يسلموا فلا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم، فإن قاتلوكم فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم رجلا فإن قتلوا منكم رجلا، فقولوا لهم: أما كان خيرا من هذا أن تقولوا لَا إله إلا الله ".
ونرى أن الصبر كان له موضع ليس في الجهاد، بل في تحمل أذى المشركين عسى أن يهتدوا، هذا إذا كانت الآيات الثلاث مدنية، أما إذا كانت مكية فكيف يكون مبادلة العقاب بعقاب مثله، والمسلمون لم يكن لهم قوة بل كانوا يفرون بدينهم مهاجرين أحيانا ومتحملين أبلغ الأذى أحيانا ومنهم من يُكْرَه وقلبه مطمئن بالإيمان، والجواب عن ذلك أن المسلمين لم يكونوا جميعا مستضعفين، بل كان فيهم أقوياء وإن كانوا نادرين، كعمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب فإنه عندما أسلم عمر ذهب إلى البيت، ونكل بكل من كان فيه حتى إنه كان فيه رجل من المشركين كان قد آذي أبا بكر الصديق فجاء إليه عمر وصرعه، وجلس عليه وأراد أن يفقأ عينيه فاستغاث بالمشركين فما استطاعوا إلى عمر سبيلا وهو باركٌ عليه كما يبرك الفحل، وكان قوي الجسم مديد القامة عملاقا.
ويقول علي بن أبي طالب في هجرة عمر: كان المسلمون يهاجرون خفية إلا عمر فإنه عندما هاجر لبس لأْمته وشد عنزته ونادى: شاهت هذه الوجوه، وأرغم(8/4307)
اللَّه هذه المغاطس، من أراد منكم أن تثكله أمه، وييتم ولده وترمل امرأته فليلقني وراء هذا الوادي.
وما أظن أنهم كانوا يستطيعون أن ينالوا من حمزة وأمثاله، وإلا ذاقوا بدل الكأس أكؤسا، ولكن الصبر كان خيرا للصابرين، ولكن ما سبب ذلك؟ السبب أمران:
الأمر الأول - أن هؤلاء الأقوياء كانوا قلة نادرة قد ادخرهم اللَّه للشديدة، ولو استرسلوا لتكاثفوا عليهم وأبلغوا في إيذائهم، ولشغلت مكة بهم عن الالممتماع لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الأمر الثاني - أن وقت المغالبة بالقوة لم يحن بل كانت المغالبة بالمصابرة ليثير الصبر على الأذى قلوب ذوي المروءات كما كان يحدث أحيانا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان أقوى في شخصه وهيبته من كل هؤلاء، ولكنه لم يفرض هيبته ليدخل الناس في الإسلام مختارين غير هيابين.
وقد حبب اللَّه تعالى إليه الصبر فقال: (وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصَّابِرِينَ) فأكده سبحانه أولا بالقسم، واللام الدالة عليه، وبـ (لام) القسم الواقعة في جوابه، وبالضمير (هو)، وبالإظهار في موضع الإضمار للدلالة على أن الصبر خير في ذاته لمن يصبرون.
وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في عامة أموره وفي دعوته، وفيما يلقاه من المشركين فقال تعالى:(8/4308)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
(وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) أمره اللَّه تعالى بثلاثة أمور:
الأمر الأول - الصبر، والصبر في الناس ضبط النفس وفي النبي - صلى الله عليه وسلم - تحمل الأذى بصدر رحيب، وقلب مطمئن ورضا بالتكليف (وَمَا صَبْركَ إِلَّا بِاللَّهِ)، أي إلا بتوفيقه وعونه وهو نعم العون ونعم النصير.(8/4308)
الأمر الثاني - ألا يحزن على ما يصيب المؤمنين وكفر الكافرين (. . . فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ. . .).
الأمر الثالث - ألا يضيق صدره بمكرهم فالرسالة توجب تحمل كل ما يجيء في سبيل الدعوة، وضيق صدره بما يمكرون بأن يظن أن لمكرهم، أثَّر أي أثر في دعوته، فاللَّه غالب على أمره.
وختم اللَّه تعالى السورة بقوله تعالت كلماته بأنه مع المؤمنين دائما.(8/4309)
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
(إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
إن اللَّه مع الذين امتلأت قلوبهم تقوى، وجعلوا بينهم وبين غضب اللَّه وقاية (وَالَّذِينَ هْم مُّحْسِنُونَ)، وأكد إحسانهم بالضمير وبالجملة الاسمية، وهو معهم بالصحبة السامية وبالتأييد وبالنصر وبالعزة لهم في الدنيا والآخرة، واللَّه ولي المؤمنين.
* * *(8/4309)
(سُورَةُ الْإِسْرَاءِ)
تمهيد:
سورة الإسراء سورة مكية، وعدد آياتها 111 إحدى عشرة ومائة آية، وقد قيل: إنها مكية نزلت بعض آياتها بالمدينة وهي قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
وقوله تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
إلى قوله تعالى: (وقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)
وكذلك قوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88).
وقد ابتدئت السورة الكريمة بذكر خبر الإسراء والإشارة إلى المعراج في قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
وذكر سبحانه أن أهل مكة وبيت المقدس وغيرهم هم ذرية من حملهم اللَّه مع نوح.
ثم بين سبحانه أنه قضى لبني إسرائيل أن يفسدوا في الأرض، ففي الأولى يبعث الله لهم قوما أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار، ثم يجعل الله تعالى لأهل الإيمان من أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - من رد الكرة عليهم، وأمد اللَّه المؤمنين بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيرا، فإذا جاء وعد المرة الآخرة من فسادهم يدخلون المسجد كما دخلوه أول مرة، وخاطب سبحانه المؤمنين بقوله تعالى: (. . . لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) ويشير سبحانه إلى أن سبب ذلك فساد أحوال المسلمين، وأنهم إن صلحوا صلحت الأمور، فيقول (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)(8/4310)
ويشير سبحانه إلى أن خسارة المسلمين ترجع إلى ترك القرآن، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
وبين أحوال الإنسان فقال: (وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11).
ويذكِّر الله سبحانه المؤمن المدرك بأنه خالق الليل والنهار ليبتغوا فضلا من ربهم، وليعلموا عدد السنين والحساب، ويذكر اللَّه تعالى الناس بيوم الحساب، وأن كل إنسان يكون معه كتابه قد سجلت فيه حسناته وسيئاته (مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
ويبين سبحانه أن هلاك الأمم وضعف المسلمين أمام بني إسرائيل في جولتهم الأخيرة سببه الترف والتراخي: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)، وبين اللَّه سبحانه وتعالى بعد ذلك سنته في القرون الماضية الذين أهلكهم اللَّه سبحانه، ويقرر سبحانه أن (مَن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ).
(وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
ونهى سبحانه عن عبادة غير اللَّه مع اللَّه (فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22).
ويأمرنا سبحانه وتعالى أمرا: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)،
ثم يوصى سبحانه وتعالى بالقرابة كلها، وبالتوسط في إنفاق المال، ولا ينفقه إلا في خير، ثم ينهى عن قتل النفس وعن الزنا، وأن قتل النفس يجعل للمولى سلطانا في طلب الدم، ثم ينهى سبحانه عن أن يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، ويأمر سبحانه بالوفاء بالعهد وبالوفاء بالكيل والميزان،(8/4311)
(ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)، وأمر سبحانه أن ألا يَقْفُ الإنسان ما لا علم له به، أو ما لَا سبيل إلى العلم، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36).
ويعلم الإنسان الأدب واللياقة حتى لَا ينفر الناس منه، (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
وإن ذلك له في المجتمع عواقب سيئة مكروهة مقطعة لأوصال الجماعة.
وينهى سبحانه عن أن يكون مع الله إله آخر، ويندد بعادات أهل الجاهلية في كراهيتهم للبنات (أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وقد بين اللَّه تعالى تصريفه سبحانه في القرآن ليتذكر الناس ولكنه يزيدهم نفورا؛ لأنهم يرون فيه قوة الحق، والمبطل المعاند كلما وضحت الحجة نفر وما اهتدى، ثم يبين سبحانه أنه لو كان معه آلهة كما يقولون لنازعوه سبحانه وتعالى في عرشه فيفسد الكون.
ثم ذكر سبحانه تسبيح كل ما في الوجود له، ثم بين سبحانه هداية القرآن وضلال الناس: (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
وإن الأمر الذي يشغلهم عن الحق هو كفرهم بالبعث فهم يقولون: (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49).
فيرد الله تعالى كلام هؤلاء فيقول: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51).
وبين سبحانه أن هذا كله من نزغ الشيطان بينهم، وإن ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم وإن يشأ يعذبكم، وما أرسلناك (يا محمد) عليهم وكيلا، وقد بين(8/4312)
سبحانه أنه فضَّل بعض النبيين على بعض، وآتى الله داود زبورا، ويبين سبحانه عجز الأوثان في كشف الضر، ويصف المؤمنين فيقول تعالت كلماته: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57).
ويضرب اللَّه تعالى الأمثال بالقرى التي فسقت عن أمر ربها، فيقول سبحانه: (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58).
طلب المشركون آيات حسية بدل القرآن، فيقول سبحانه: (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60).
ثم يشير سبحانه إلى قصة الخلق والتكوين ويذكر تكريم آدم بالأمر بالسجوِد له، وموقف إبليس، ويأمره سبحانه بأن يبذل أقصى ما يملك (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
وبين سبحانه أن عباده المؤمنين ليس للشيطان عليهم سلطان، وكفى بربك وكيلا.
ثم بين سبحانه نعمه في البر والبحر وكشف الضر إذ يسمغيثون به، فإذا كشف الضر عنهم أعرضوا وكان الإنسان كفورا.
وأشار سبحانه إلى قدرته القاهرة: (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
أي مطالبا ينتصر لكم، ولقد ذكر بعد ذلك تكريم اللَّه تعالى لبني آدم وذكر أن من تكريمهم أن يبعثوا، (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ(8/4313)
فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72).
ولقد ذكر سبحانه وتعالى محادَّة المشركين أن يفتنوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - عن دينه، وأنه لولا أن اللَّه ثبته لركن إليهم، (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75).
ثم أشار سبحانه إلى أن المشركين يستفزون محمدا وأتباعه ليخرجوه (وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
ويأمره سبحانه بإقامة الصلاة في أوقاتها فيقول: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81).
وبعد ذلك ذكر نزول القرآن وأنه يكون تنزيلا وقتا بعد آخر، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82).
وبين سبحانه وتعالى طبيعة الإنسان غير المؤمن، حيث يعرض عن اللَّه عند النعمة (وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا) وكل يعمل على شاكلته (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) وبعد ذلك بين القرآن وأن الله سبحانه وتعالى يتحدى به الخليقة إلى يوم القيامة.
ولقد ذكر سبحانه أنهم طلبوا آيات أخرى حسية، طلبوا أن تفجّر لهم الأرض يناييع، وأن تكون لهم جنات من نخيل وعنب، أو أن يسقط السماء عليهم كسفا، أو يأتي باللَّه والملائكة قبيلا، أو يكود له بيت من زخرف، أو يرقى في السماء ويرسل إليهم كتابا من السماء.(8/4314)
وكلها آيات مادية حسية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يجيبهم (سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93).
ولقد كان المشركون يعجبون ويقولون أبعث اللَّه بشرا رسولا! فيقول سبحانه: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95).
ويأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل اللَّه شهيدا بينه وبينهم.
وإن من يهديه اللَّه فهو المهتد ومن يضلل اللَّه فلن تجد له أولياء من دونه، (وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98).
ثم يذكر سبحانه أنه خلق السماوات والأرض فهو قادر على أن يخلق مثلهم، (. . وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100).
وإن المشركين يلحون في أن يأتيهم الرسول بآيات حسية، ولا يقتنعون بالقرآن معجزة مع أنه تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، فذكر اللَّه تعالى أن اللَّه آتى موسى تسع آيات بينات (. . فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102).
فهم مع هذه الآيات التسع لم يؤمنوا، فأخرجهم من الأرض فأغرقه اللَّه ومن معه جميعا.
وقد بين سبحانه وتعالى مقام القرآن والرسالة المحمدية، فقال عز من قائل: (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106). وأنه لَا يغض من شأن القرآن إلا من به(8/4315)
أشرك: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109).
وكان المشركون يقولون لَا نعرف الرحمن، فقال لهم رب العالمين: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111).
* * *
معاني السورة الكريمة
قال اللَّه تعالى:
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
* * *
جهدت نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ييأس من رحمة اللَّه عندما ماتت زوجه المواسية الحانية التي كان يسكن إليها بعد لغوب الحياة ومعاندة المشركين وإيذائهم له وللمؤمنين فهي التي واسته عندما نزل الوحي، وذهب إليها يرجف فؤاده، فقالت له: إنك تكوم الضيف وتحمل الكل، وتعين على نوائب الدهر، ولن يضيعك اللَّه أبدا، وذهبت برسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى ابن عمها الذي كان على علم بالكتاب فقال له:
إن هذا هو الناموس الذي نزل على موسى من قبل، ليتني أكون فيها جذعا إذ(8/4316)
يخرجك قومك فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أو مخرجي هم " فقال: ما أتى قوم بمثل ما أوتيت إلا أخرجوه. (1)
وفى سنة وفاتها توفى الحامي الحاني أبو طالب الذي كان درئة (2) من قريش، فسمى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك العام عام الحزن.
وذهب إلى الطائف يعلن الدعوة في ثقيف عسى أن يكون منهم النصراء المستجيبون ولكنهم ردوه ردا قبيحا وأحس أنه فقد المعين، فقال داعيا ربه: " اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدو ملكته أمري إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي إلا أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل عليَّ غضبك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك ".
استجاب اللَّه تعالى لنبيه الكريم فأعطاه القوة بالبراهين الحسية التي لَا يماري فيها إلا المثبورون، فشق له القمر ورآه السارُون (3) فماروا وقالوا سحر مستمر مع أنه رؤى رأي العين، وأعطاه اللَّه قوة الحيلة فتحايل للدخول إلى مكة فى جوار بعض القرشيين، فدخلها بين أولاد من نزل في جواره، وقد خرجوا ليناصروه، وإذا كان فقد العم البار الحاني، والزوجة المؤنسة الواسية الحانية فإن اللَّه تعالى أشعره بأن اللَّه معه ومؤنسه، وكان ذلك بالإسراء والمعراج، فآنسه اللَّه تعالى في وحشته.
________
(1) أخرجه البخاري: بدء الوحي - بدء الوحي (3)، ومسلم: الإيمان - بدء الوحي (231).
(2) الدَّرِيئةُ: الحَلْقَةُ يُتَعَلَّمُ الطَّعْنُ والرمْي عليها، وكُل ما اسْتترَ به من الصيْدِ ليخدع. القاموس المحيط (درأ)، والدرئة كذلك.
(3) سرى: سار ليلا، والسارون: السائرون بليل - الصحاح.(8/4317)
قال تعالى:(8/4318)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... (1)
(سبحان):
اسم في معنى المصدر، وهو غير متصرف فلا تجري عليه وجوه الإعراب وليس له فعل، وقد يعده بعض العلماء مصدرا من سبح يسبح تسبيحا وسبحانا، ومعنى هذه اللغة تنزيه اللَّه تعالى وتقديسه وبراءته من كل نقص لَا يليق بالذات العلية المكرمة، وقد روي أن طلحة بن عبيد اللَّه أحد العشرة المبشرين بالجنة سأل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ما معنى سبحان اللَّه فقال: " تنزيه الله من كل سوء "، وصدرت الآية أو السورة بالتسبيح وتتزيه اللَّه تعالى عن كل عيب؛ لأنه سيكون فيها إسراء ومعراج، واتجاه إلى اللَّه واستشراف بالملأ الأعلى فكان لَا بد من الابتداء بما يدل على التنزيه عن التجسيم والأغراض التي لَا تليق بذاته الكريمة، و (سبحان) منصوبة على أنها مفعول مطلق؛ لأنه في معنى المصدر أو مصدر كما ذكر.
وأسرى: أي سار ليلا، فالإسراء لَا يكون إلا بالليل، وذكر (ليلا) للتبعيض فكان التنكير للدلالة على البعضية، فالإسراء كان في بعض الليل لَا في الليل كله، فما استغرق الليل كله، بل كان في بعض، وكان ذكر ليلا للإشارة إلى أنه حين يكون السير ليس سهلا، إذ إن الانتقال إلى مكان بعيد لَا يكون ليلا، بل يكون نهارا، ولا يكون بعض الليل بل يكون بعض النهار، فذكر " ليلا " اللدلالة على موضع الغرابة، أنه كان بأقصى السرعة، وكان ليلا.
وذكر " عبده " في قوله تعالى (أَسْرَى بِعَبْدِهِ)، للإشارة إلى قرب من نبيه فقد خلص له، ولم يكن بينه وبينه حجاب إلا العبودية، وأضافه إليه سبحانه لمعنى الاختصاص وأنه صار خالصا للَّه سبحانه وتعالى، وفي ذلك إشارة إلى معنى دعائه - صلى الله عليه وسلم -: " إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي " فقال له ربه: أنت عبدي، أي أنت لي خالصا.
وقد عين ابتداء السير، وانتاءه فقال سبحانه: (مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا) فالابتداء من المسجد الحرام لَا من مكة كلها، وصحت الرواية(8/4318)
عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه أسرى به من الحِجْر في المسجد (1)، وقيل إنه أسرى به من بيت أم هانئ بنت أبي طالب، ونحن نرى أن الأولى أن يكون ابتداء الإسراء من الحجر، لصحة الرواية ولأنها التي تتفق مع النص، لأن النص ذكر أنه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ومكة وإن كانت حرما آمنا لأجل المسجد الحرام، فليست كلها الكعبة ولا المسجد الحرام.
والمسجد الأقصى هو بيت القدس، قيل إن الذي بناه يعقوب بن إسحاق عليهما السلام، ومهما يكن تاريخ بنائه فهو مسجد مقدس كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: البيت الحرام، ومسجد الأقصى، ومسجدي هذا " (2).
وهو إحدى القبلتين - أولهما - اتجه إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة، فقد كان في صلاته يصلي متجها إليه غير مستدبر الكعبة، ولما هاجر استمر يتجه إلى بيت المقدس وحده نحو ستة عشر شهرا (3).
وكان الإسراء قبل الهجرة بعام، وبعد موت أم المؤمنين خديجة، وعمه أبي طالب، وقد ذكرت في أول القول ما كان للإسراء من أثر نفسي في التسرية عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد ذكر اللَّه تعالى بعد المسجد الأقصى وصفا كريما له فقال: (بَارَكنَا حَوْلَهُ)، ففيه آثار النبيين من أولاد إسحاق - عليه السلام - وفيه كانت الإمامة الكبرى بأرواحهم، وقد قال الزمخشري في قوله تعالى: (بَارَكْنَا حَوْلَهُ) يريد سبحانه بركات الدين والدنيا، لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى، ومهبط الوحي، وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة، وكانت بركته أيضا في أنه إلى هذا الوقت كان قبلة المسلمين.
________
(1) عن أنَس بْنَ مَالِك يُحَدِّثُنَا عَنْ لَيْلَة أُسرِي بِالنبِي - صلى الله عليه وسلم - مِنْ مَسجِدِ الْكَعْبَةِ. . الحديث. رواه البخاري: المناقب - تنام عينه (305)
(2) متفق عليه، وقد سبق تخريجه، ورواه بهذا اللفظ البخاري: الصوم - صوم يوم النحر (1858) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3) متفق عليه، سبق تخريجه.(8/4319)
وقوله تعالى: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) أي يُرى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من آيات ربه الكبرى ومن إمامته لأرواح الأنبياء أو للأنبياء أنفسهم قد أحضرهم اللَّه تعالى له بأجسادهم، كما يبعثهم يوم البعث بأجسادهم، وتلك آيات من آيات اللَّه تعالى، وعرج به إلى السماوات العلا، كما قال تعالى في سورة النجم: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18).
هذه آيات المعراج لَا نتعجل الكلام في ذكر معانيها، فنؤجل ذلك إلى الكلام في معاني هذه السورة التي تصور الرحلة النبوية إلى السماوات العلا سواء أكانت هذه الرحلة بالروح فقط أم بالروح والجسد، واللَّه على كل شيء قدير، بقي أن نتكلم في الإسراء والمعراج أكان بالروح أم بالجسد والروح؟.
اتفق علماء السلف على أن الإسراء كان بالروح والجسد، وأنه كان ليلا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - مستيقظ يرى ويسمع، ولذا وصف عير قريش وذكر أنه يتقدمها جمل أورق.
ولم يخالف في ذلك إلا ما روي عن عائشة وعن معاوية من الذين لقوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ونقول: إن عائشة رضي اللَّه عنها ما كانت زُفت إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وما كانت في سن تسمح لها بالرواية، إلا أن تكون قد روت ذلك عن غيرها، ولم تذكر من روت عنه، ومهما يكن فهي الصِّدِّيقة بنت الصَِّدِّيق، ولكنا لا نأخذ برأيها وقد كان رأيا لنا أن نخالفه، وأما معاوية فماله ولهذا وقد كان هو وأبوه ممن كذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصل الإسراء، فلم يكن وقت الإسراء إلا مشركا ككل المشركين.(8/4320)
ونحن نرى أن الإسراء كان بالجسد في حال يقظة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يكن في منام:
أولا: لأن اللَّه تعالى قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا) والعبد جسد وروح.
وثانيا: أنه وصف لهم ما رأى وعاين.
وثالثا: أنهم ما كانوا يختلفون عليه لو كانت الرؤيا منامية.
وأما المعراج، فإن بعض العلماء قال: إنه بالروح دون الجسد، وقد قال في ذلك القرطبي: " قالت طائفة كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح، واحتجوا بقوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِه لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا) فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء " (1)، وإننا نميل إلى هذا الرأي، واللَّه أعلم.
وختم اللَّه سبحانه وتعالى آية الإسراء بقوله تعالى: (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الضمير يعود إلى اللَّه تعالى، وذكر (السمِيعُ الْبَصِيرُ) في هذا المقام للإشارة إلى أن اللَّه تعالى عليم علم من يسمع بما قيل لك من مشركي قريش وأهل الطائف، والعليم علم من يبصر بما رد به سفهاء ثقيف وما أوذيت به من أذى رق له قلب بعض المشركين، وهو تعالى مؤنسك في وحشتك وناصرك في وحدتك، فإذا فقدت النصير من أهل الدنيا والمواسي منهم فاللَّه معك، وهو أعز نصير وأَرحم بك.
تنبيهان:
أولهما: أن المشركين عندما كانوا يطلبون آيات حسية كانوا يريدون الإعنات لا الإقناع، فهذه الآية الحسية قد جاءتهم فزادوا خسرانا، جاءتهم في الإسراء وشق القمر، فزادوا كفرا فقالوا: سحر مستمر.
________
(1) الجامع لأحكام القرآن: 10/ 204.(8/4321)
ثانيهما: أن بعض الناس يذكرون الإسراء مع ما يقال الآن في الخروج إلى الفضاء والارتفاع إلى السماء وهذا تهجم على المعجزات، إن الارتفاع إلى الفضاء أو القمر أو المريخ بأسباب حسية مادية هي رافعة كروافع لأحمال لَا فرق بين صغيرها وكبيرها، أما معجزة الإسراء فهي انتقال من مكان إلى مكان في وقت كان الانتقال يستغرق أربعين يوما من غير سبب ظاهر، أو دفعة حسية بل بسبب آخر وهو قدرة اللَّه تعالى ولا شيء سوى قدرته ولا يوجد مثل هذا الآن ولا في أي زمان إلا أن يكون معجزة، فلا يستطيع ذلك أحد إلا اللَّه العلي القدير الحكيم العليم (1).
_________
(1) الإسراء والمعراج: (من كتاب خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - للإمام محمد أبو زهرة - الجزء الأول، ص 596 - 610).
كان الإسراء في السنة التي كانت قبل الهجرة، وروى البيهقي عن ابن شهاب الزهري أنه كان في السنة التي قبل الهجرة، وروى الحاكم أن الإسراء كان قبل الهجرة بستة عشر شهرا.
واختلف على ذلك في الشهر الذي أسرى به فيه، فالسدي قال إنه في ذي القعدة، والزهري قال في ربيع الأول.
وروي عن جابر وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات.
وفى رواية أن الإسراء كان في ليلة السابعة والعشرين من شهر رجب، ويقول ابن كثير: " وقد اختاره الحافظ ابن سرور المقدسي، وقد أورد حديثا لَا يصح سنده، كما ذكرناه في فضائل شهر رجب، وأن الإسراء كان في ليلة السابعة والعشرين من رجب والله أعلم. ومن الناس من يزعم أن الإسراء كان في أول ليلة جمعة من شهر رجب، وهي ليلة الرغائب التي أحدثت فيها الصلاة المشهورة، ولا أصل لذلك، واللَّه أعلم.
وقد جاء في نهاية الأرب أن الإسراء كان في ليلة السبت، ليلة سبع عشرة من رمضان، قبل الهجرة بثمانية عثر شهرا، وقد أُسرِي به - صلى الله عليه وسلم - وسنه إحدى وخمسون سنة وتسعة أشهر!! وننتهي من هذا إلى أن علماء السيرة النبوية مختلفون في تعيين اليوم الذي كان فيه الإسراء، ولكن الواقعة ثابتة. وقد اتفقوا على أنها كانت بعد ذهاب النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم إلى الطائف، وردهم له الرد المنكر، وأن كونها في ليلة السابع والعشرين من رجب ثبتت بخبر لم يصح سنده في نظر الحافظ المحدث ابن كثير، وقال من بعد ذكره: واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
وقد وجدنا الناس قبلوا ذلك التاريخ، أو تلقوه بالقبول، وما يتلقاه الناس بالقبول ليس لنا أن نرده، بل نقبله ولكن من غير قطع ومن غير جزم ويقين.
واتفقت الروايات أيضا على أن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة على الأقل، ويظهر أنها كانت في السنة التي قبل الهجرة في ثلثها الأول أو الأخير واللَّه سبحانه تعالى أعلم.(8/4322)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= ومن سياق التاريخ ومناسبات الحوادث نرى أن الإسراء كان بعد انشقاق القمر.
وهنا قد يسأل السائل ما المناسبة لمسألة الإسراء والمعراج، وتعيين الله تعالى لزمانها، والله سبحانه وتعالى حكيم عليم، يضع الأمور بموازينها وفي أوقاتها، وأجلها المعلوم، ولنا أن نتعرف حكمة الله تعالى من غير أن نقطع بأن هذا هو مراد الله تعالى، فهو العليم الخبير الذي لَا تخفى عليه صغيرة أو كبيرة في السماء أو في الأرض.
ونجيب عن هذا التساؤل بما قررنا، وهو أن الله سبحانه وتعالى استجاب لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم في ضراعته بالدعاء الذي دعا ربه عقب خروجه من الطائف، شكا ضعف قوته فأمده الله تعالى بالقوة، وقلة الحيلة فأمده بحسن التدبير لدخول مكة آمنا مطمئنا، وأيده بآية حسية من نوع ما يطلبون، وإذا كانوا لم يستجيبوا لداعي الله تعالى، فلأن المعاند لَا يقنعه الدليل، ولو كان حسيا، فقالوا سحرنا، مع أن انشقاق القمر رأته الركبان في أسفارها، ثم كان من بعد ذلك الأنس بلقاء الله تعالى في المعراج، سواء أقلنا إن لقاءه باللَّه تعالى، كان بالروح في الرؤيا، أم كان بما هو أكثر من الرؤيا (السيرة العطرة للأستاذ عبد العزيز خير الدين، ونهاية الأرب جـ 16، ص 283، 284).
لقد أحس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالوحشة بعد وفاة الحبيبين خديجة العطوف، وأبي طالب الشفيق. فقال اللَّه تعالى له بالفعل أُنس اللَّه أكبر، ورحمته أعظم، وحياطته أكرم، وإن عنايته بك وبرسالتك هي التي ستبلغك أمرك، وتحقق لك شأوك، وتصل بك إلى غايتك، وهو المهيمن الرءوف الرحيم، لذلك كان الإسراء، ومن بعده عروجه إلى السماء.
والآن ننتقل إلى الآيات الكريمات التي صرحت بالإسراء، ثم كانت الإشارة الواضحة إلى المعراج قال اللَّه تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ. ففي هذا النص الإسراء صريحا، وكانت الإشارة إلى المعراج بقوله تعالى: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا).
وقال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا)، فقد ذكر المفسرون أن الرؤيا هي المعراج.
وقال تعالىٍ في سورة النجم: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18).
ولقد قرر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في المعراج، وإن ذلك لواضح، وإذا كانت العبارات السابقة لم تصرح بالعروج إلى السماوات العلا فإن الإشارات واضحة تكاد تكون تصريحا، والإشارات الواضحة في قوة الدلالة تكون كالألفاظ الصريحة.
وقد قال بعض علماء السيرة: إن الإسراء بالنبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم ابتدأ من شعب أبي طالب، وإن كان السند في ذلك صحيحا، فإنه يشير إلى أن أبا طالب قد مات، وأن مهمته قد انتهت، وأن اللَّه تعالى وهو الباقي الدائم. الأول والآخر والظاهر والباطن به تكون النصرة الدائمة المتجددة في الشدائد - ولكن الثابت في البخاري أنه ابتدأ من الحطيم بالمسجد الحرام (البداية والنهاية جـ 3، ص 110). =(8/4323)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= الإسراء بالجسم: إن ظاهر الآية القرآنية التي أثبت الإسراء وهي قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)، أن الإسراء كان بالجسد والروح؛ وذلك لأنه سبحانه وتعالى قال: (أَسْرَى بِعَبْدِهِ)، والعبد هو الروح والجسد، وما دام الظاهر لَا دليل يناقضه من عقل أو نقل، فإنه يجب الأخذ به، فإنه من المقررات أن الألفاظ تفسر بظاهرها إلا إذا لم يمكن حملها على الظاهر لمعارض، ولا معارض.
وفوق ذلك فإن النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم عندما أعلن خبر الإسراء بين قريش ففتن بعض الذين أسلموا وارتد من ارتد، ويقول في ذلك ابن كئير فيما رواه عن قتادة: " انصرف رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم إلى مكة، فأصبح يخبر قريشا بذلك؛ فذكر أنه كذبه أكثر الناس، وارتدت طائفة بعد إسلامها، وبادر الصديق إلى التصديق، وذكر أن الصديق سأله عن صفة بيت المقدس، وقال: إني لأصدقه في خبر السماء بكرة وعشيا، أفلا أصدقه في بيت المقدس، فيومئذ سمي أبو بكر الصديق.
وإنه روي أنه عند مروره صلى الله تعالى عليه وسلم على عير لقريش فَندَّ بعير لهم نافرا، فأرشدهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إلى مكانه، وقد أخبروا أهل مكة بذلك (الروض الأنف، جـ 1، ص 244).
وإنه روي أن أهل مكة الذين ردوا القول استوصفوه عيرا لهم فوصفها، وقد قال صلى اللَّه تعالى عليه وسلم في إخبارهم، والاستدلال على صدقه: " وآية ذلك أني مررت بعير بني فلان، بوادي كذا وكذا، فأنفرهم حسن الدابة (هى البراق التي سنذكر الروايات عنه من بعد) فندَّ لهم بعير، فدللتهم عليه، وأنا متوجه إلى الشام، ثم أقبلت، حتى إذا كنت بصحنان مررت بعير بني فلان، فوجدت القوم نياما، ولهم إناء فيه ماء، قد غطوا عليه بشيء، فكشفت غطاءه، وشربت ما فيه، ثم غطيت عليه كما كان، وآية ذلك أن عيرهم تصوب الآن من ثنية التنعيم (هو المكان) البيضاء يقدمهم جبل أورق عليه غرارتان، إحداهما سوداء، والأخرى برقاء، فابتدر القوم الثنية. . . وسألوهم عن الإناء وعن العير فأخبروه، كما ذكر رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم.
وإن هذا كله يدل على أن الإسراء كان بالروح والجسد، فإن تلاقى مع المارين بين مكة والشام وأخبر عن التلاقي، وصدق خبره - صلى الله عليه وسلم -، وإذا كانت بعض هذه الروايات في إسنادها كلام، فإن بعضها يقوي الآخر، ونص القرآن ظاهر في تأييد الدعوى، بل لَا يدل على غيرها حتى يقوم الدليل.
ولو كان الإسراء بالروح أو الرؤيا الصادقة ما كانت ثمة غرابة تمنع التصديق، ولبادر النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم بإخبارهم إلى أن ذلك رؤيا في المنام، أو هذا وحي أوحى به إليه.
ولقد كان بجوار هذا القول الذي تنطق به الآية الكريمة قول آخر روي عن أم المؤمنين عاثشة رضي اللِّه تبارك وتعالى عنها وعن أبيها الصديق، وروى أيضا عن معاوية بن أبي سفيان، وقد كان إبان ذلك هو وأبوه من المكذبين الذين يناوئون الدعوة، ولكن لعله نقل عن غيره ممن شاهدوا، وعاينوا، كما نقلت عائشة عن غيرها، وما كانت في ذلك الإبان قد زفت إلى النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم.
وقد كان معاوية مسلما من بعد أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها وعن أبيها الصديق، واحتج بقول عائشة هذا، وقد أثر عن النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم أنه أمر بأن يؤخذ الدين عن عائشة.
ولكن الخبر عنها يحمل في نفسه ما يوهم عدم صدقه عنها، ففيه أنها قالت: " لم تفقد بدنه " وإن ذلك يوهم أنها كانت معه في مبيت واحد، مع إجماع المؤرخين والمحدثين على أنه لم يبن بها إلا في المدينة. =(8/4324)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= وقد استدل أصحاب هذا القول بما روى الحسن البصري عن أن قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) وقالوا إن الرؤيا هي ما يكون في المنام، كما حكي عن سيدنا يعقوب: أنه قال لابنه يوسف بعد أن قص عليه ما رآه في المنام: (. . . لَا تَقْصصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ. . .).
وجاء في كتاب البصائر للفيروزابادى: " الرؤيا ما رأيته في منامك، والجمع رؤى كهدى، وقد تخفف الهمزة من الرؤيا، فيقال بالواو " (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز ج 3، ص 177). وهذا وغيره نصوص صريحة في أن الرؤيا منامية. ولكن أهي كانت في الإسراء أم كانت في المعراج؛ إن رواية الحسن رضي اللَّه عنه تقول: هي ما كان في ليلة المعراج، نعم إن الليلة كانت واحدة، ولكن النص على ليلة المعراج يدل على أن كلام الحسن ومن معه في المعراج لَا في الإسراء.
ويستدل أصحاب هذا القول، وهو أن الإسراء كان بالروح بحديث البخاري عن أنس بن مالك قال: ليلة أسرى رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام. فقال أولهم: أيهم هو، قال أوسطهم: هذا، وهو خيرهم، فقال آخرهم. خذوا خيرهم. . . فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه، وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم، ولا تنام قلوبهم، ولم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند زمزم، فتولاه منهم جبريل. . . والحديث طويل وقال في آخره واستيقظ وهو في المسجد الحرام، ويرى صاحب الروض الأنف أنه نص لَا إشكال فيه.
ونرى أن فيه إشكالا؛ لأنه نص فيه على أنه كان قبل أن يوحى إليه، ونرى أنه لم يتعرض لذكر الإسراء والمعراج، ولعلها كانت إذا صحت الرواية في موضوع آخر.
ويرى صاحب الروض الأنف أن الأدلة قد تعارضت بالنسبة للإسراء، وأنه يوفق بينها بأن الإسراء كان مرتين: إحداهما بالروح والأخرى بالجسد والروح.
ونحن نرى أن الأدلة لم تتعارض، بل الأدلة على أن الإسراء كان بالجسد والروح هي التي لَا ريب فيها، ولا يمكن أن يعارض الضعيف القوي.
ولذا نرى أن الإسراء كان بالجسد والروح، ولا نجد فيما استدل به على ما يدل على أنه كان بالروح فقط، وإن الآية (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) لَا نرى أن موضعها هو الإسراء، بل إن موضوعها هو المعراج.
ولا غرابة في أن ينقل اللَّه تعالى نبيه من مكة إلى بيت المقدس وأن يعود به في ليلة واحدة، فإن هذا ليس ببعيد على اللَّه تعالى؛ لأن المسافات في الزمان والمكان، إنما هي بالنسبة للعبيد، ولا تكون قط بالنسبة للَّه سبحانه وهو القادر على كل شيء، وهو خالق الأماكن والأزمان.
المعراج بالروح: إن الاكثرين من العلماء على أن المعراج كالإسراء كان بالجسد والروح، وأخذوا ذلك من ظواهر الأحاديث الصحيحة التي روتها السنة، ففيها التصريح بأنه لقي آدم في سماء، وإبراهيم في مثلها وإدريس، وعيسى ويحيى وموسى، وهذه الظواهر آثروا الأخذ بها.
ولكن أولئك الأكثرين وقفوا عند رؤية اللَّه تعالى، فقال فريق منهم إنه رأى ربه وخاطبه، وكان ذلك تكريما له لمخاطبة اللَّه تعالى اختص به محمد صلى اللَّه تعالى عليه وسلم تعظيما وتقريبا له، وهو فوق =(8/4325)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= المذكور في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا. .)
، وليس من هذه الثلاثة رؤية الله تعالى، وتلقي الرسول منه مباشرة من غير حجاب.
وقد رأى ذلك الرأي الإمام أحمد بن حنبل وقاله أيضا أبو الحسن الأشعري، وقالت طائفة أخرى لم يقع ذلك لحديث مسلم عن أبي ذر رضي اللَّه تبارك وتعالى عنه: " قلت يا رسول الله هل رأيت ربك فقال عليه الصلاة والسلام إنه نور أنى أراه، وفي رواية رأيت نورا ".
والذين قالوا إن الإسراء كان بالروح وفي رؤيا صادقة قالوا ذلك في المعراج، بل هو أولى، فالرحلة كلها كانت رؤيا صادقة، وقد بينا القول في أدلة هذا الرأي بالنسبة للإسراء من قول.
وقد انضم إليهم غيرهم ممن يرون أن الإسراء كان بالجسد والروح، فمنهم من قال إن المعراج كان بالروح وليس في الموضوع نص قرآني يدل بظاهره على أنه كان بالجسد والروح، حتى لَا يكون مناص من اتباعه أو تأويله، بل نجد الألفاظ تقبل أن يكون المعراج بالروح، وبالظاهر المتبادر، لَا بالتأويل المنتزع انتزاعا.
ولننظر في الآيات الكريمات الدالة على المعراج:
دلالة آية الإسراء على المعراج بالإشارة لَا بالعبارة، وذلك في قوله تعالى: (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) فتلك الآيات التي أراها الله عبده هي المعراج، وإمامة الأنبياء السابقين.
والآيات الآخرى التي دلت على المعراج، كانت ألفاظها لَا تدل على المعراج إلا بالإشارات البيانية، ولننظر فيها عبارة عبارة، وكلها من السمو البياني في المكان الأعزل الذي لَا يصل إليه بيان قط.
(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)، فقد قالوا إنه جبريل عليه السلام، وإذا كان الله تعالى، فتعليمه لا يكون بالتلقين بل يكون بالإرشاد والإيحاء.
وقوله تعالى: (وَهُوَ بِالأفقِ الأَعْلَى)، يراد جبريل. عليه السلام، (ثمَ دَنَا فَتَدَلَّى)، أي نزل وقرب من النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)، عن طريق جبريل، (وَلَقَدْ رَآهُ نزلَةً أُخْرى)، وهو جبريل أيضا، وقوله تعالى: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)، تومئ إلى أن الآيات الكبرى التي رآها كانت بفؤاده لَا ببصره، وقوله تعالى: (مَا زَاغَ الْبَصَر وَمَا طَغَى)، أي ما كلَّ وما تجاوز حده، والنفي فيه ما قد يكون لأنه لم تكن رؤية بالبصر، حتى يكل المبصر أو يتجاوز حده، وقد يكون لبيان أن البصر لم يتجاوز حده ليطغى، ويحاول أن يرى ما لا يمكن أن يراه، ويزيغ بأن يكل ويمل، ويلقى في النفس ما لم ير.
وإننا عند هذا النظر الفاحص ننتهي إلى أن الإسراء إذا كان بالجسد والروح، فإن المعراج كان بالروح فقط، وأنه كان رؤيا صادقة، وقد اتجهنا إلى ترجيح ذلك لما يأتي:
(1) أنه ذكر في المعراج أنه التقى بالأنبياء آدم وإبراهيم وموسى ويحيى، وغيرهم، والباقي منهم هو أرواحهم، وأجسامهم سيبعثها اللَّه تعالى يوم البعث والنشور، وفرض أنه بعثها ثم أفناها فرض بعيد لم يذكر في حديث من الأحاديث، ولا خبر من الأخبار، ولو ضعيفا، وكل فرض في أمر غيبي لَا دليل عليه من المنقول فهو رد على قائله إلا أن يكون أمرا يؤدي إليه البرهان العقلي، ولا يوجد شيء لَا من المنقول ولا المعقول يقرر إعادة أجسام الأنبياء الكرام أحياء، ثم إعادتها إلى الفناء. =(8/4326)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= (ب) إن العبارات القرآنية الواردة في المعراج تومئ بل تصرح بأن الأمر في هذه الرحلة السماوية كان روحيا وأن الإدراك لم يكن بالحس، بل كان بالقلب والفؤاد، فالله تعالى يقول: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)، فالحديث القرآني كله كان في إثبات رؤية الفؤاد، وأنه لَا تجوز المماراة فيما رأى الفؤاد الذي لَا يكذب، وذلك لَا يتحقق إلا بأن تكون الرؤية روحية؛ لأنَّ روية القلب لَا تكون إلا روحية، وإنه عندما ذكرت حاسة البصر ذكرت بالنفي، لَا بالإيجاب، وقد بينا مؤدى النفي في هذا.
(جـ) أن أخبار المعراج تصرح بأنه رأى ربه، والرؤية القلبية باستحضار عظمته، وبالسبحات الروحية المتجهة إلى اللَّه سبحانه وتعالى، وأن النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم قد قرر أنه لم ير ربه في حديث أبي ذر الغفاري، فقد قال عليه الصلاة والسلام في إجابة سؤال الصحابي الجليل أبي ذر: " إنه نور، فأنى أراه ".
إننا لَا نتعرض في ذلك لكون رؤية اللَّه تعالى يوم القيامة ممكنة، أو غير ممكنة، فذلك يوم القيامة بعد البعث والنشور، وذهاب أهل الجنة إليها، وإبقاء أهل النار فيها، فإن الكلام فيها غير الكلام في الدنيا، ونحن نحس ونرى، فإن كانت رؤية اللَّه الآن فهي بالعين الفانية، ورؤية أهل الجنة عند من يثبتونها تكون بالعين الباقية، والله أعلم كيف يرى.
وننتهي من هذا إلى تقرير حقيقتين نراهما:
الأولى: أن الإسراء كان بالجسد والروح بظواهر النصوص المثبتة، ولا معارض لها.
الثانية: أن المعراج كان بالروح فقط لعدم وجود الأدلة المثبتة أنه كان بالجسد والروح من القرآن، ولوجود المعارض من النقل والفعل.
والآن نعود إلى قصة الإسراء والمعراج كما هي في الصحاح على أن نفسر الألفاظ على ضوء هاتين الحقيقتين اللتين قررناهما.
الإسراء والمعراج في صحاح السنة: كان من الممكن أن نقف بالنسبة للإسراء والمعراج عند هذا الذي قررناه، ولكن يجب أن نستأنس بالمنقول عن الرسول صلى اللَّه تعالى عليه وسلم على أساس أن كل ما ذكر في المعراج أنه بالروح.
وقد رويت روايات مختلفة تتعلق بواقعة الإسراء ثم العروج، نختار منها رواية البخاري.
روى البخاري بسنده عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: " بَيْنَمَا أَنَا فِي الحَطِيمِ، - وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الحِجْرِ - مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ، فَقَدَّ: قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ - فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ - فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ، ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ البَغْلِ، وَفَوْقَ الحِمَارِ أَبْيَضَ، - فَقَالَ لَهُ الجَارُودُ: هُوَ البُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ أَنَسٌ: نَعَمْ - يَضَعُ خَطْوَهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ، فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَاسْتَفْتَحَ، فَقِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا فِيهَا آدَمُ، فَقَالَ: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ السَّلاَمَ، ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ =(8/4327)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ فَفَتَحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى، وَهُمَا ابْنَا الخَالَةِ، قَالَ: هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ فَرَدَّا، ثُمَّ قَالاَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ، قَالَ: هَذَا يُوسُفُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: أَوَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ فَفُتِحَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ إِلَى إِدْرِيسَ، قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي، حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الخَامِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا هَارُونُ، قَالَ: هَذَا هَارُونُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ فَاسْتَفْتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا مُوسَى، قَالَ: هَذَا مُوسَى فَسَلِّمْ عَلَيْهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ، وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى، قِيلَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لِأَنَّ غُلاَمًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي، ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: مَرْحَبًا بِهِ، فَنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ: هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، قَالَ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ السَّلاَمَ، قَالَ: مَرْحَبًا بِالِابْنِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ المُنْتَهَى، فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الفِيَلَةِ، قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ المُنْتَهَى، وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا البَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالفُرَاتُ، ثُمَّ رُفِعَ لِي البَيْتُ المَعْمُورُ، ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ: هِيَ الفِطْرَةُ الَّتِي أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلَوَاتُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ المُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ =(8/4328)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
_________
= قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ المُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، قَالَ: سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ، وَلَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَى مُنَادٍ: أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي، وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي ".
وفى رواية البخاري في كتاب التوحيد أنه بعد أن راجع به بمشورة موسى عليه السلام، وجاء في مراجعة الخامسة أنه قال لربه: " يَا رَبِّ إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ فَخَفِّفْ عَنَّا، فَقَالَ الجَبَّارُ: يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: إِنَّهُ لاَ يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، كَمَا فَرَضْتُهُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الكِتَابِ، قَالَ: فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الكِتَابِ، وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ " (البداية والنهاية جـ 3 والتفسير لابن كثير أول سورة الإسراء).
وإنه من المتفق عليه بين العلماء أن النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم أَمَّ الأنبياء جميعا، وعلى مقتضى الذين قالوا إن الإسراء كان بالروح تكون الإمامة روحية ثبتت بالرؤيا الصالحة، وكذلك يرى الذين قالوا إن المعراج كان روحيا.
ولكن من الرواة ما يدل سياق روايته على أن صلاة النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم بالأنبياء إماما كان مقدمه إلى المسجد الأقصى، ومن الرواة ما يدل سياق الرواية على أن الإمامة كانت وهو يعرج إلى السماوات العلا.
واختار ابن كثير في تاريخه أن إمامته للأنبياء كانت بعد أن نزل من العروج، ويقول في ذلك:
" وهبط رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم إلى بيت المقدس، والظاهر أن الأنبياء هبطوا معه تكريما له وتعظيما، عند رجوعه من الحضرة الإلهية العظيمة، كما هي عادة الوافدين، لَا يجتمعون بأحد قبل الذين طلبوه إليه، ولهذا كان كلما سأل على واحد منهم يقول له جبريل: هذا فلان فسلم عليه، فلو كان قد اجتمع بهم قبل صعوده ما احتاج إلى تعرفه بهم مرة ثانية، ومما يدل على ذلك أنه قال - صلى الله عليه وسلم -: " فلما حانت الصلاة أمَمْتُهم، ولم يجئ وقت إذ ذاك إلا صلاة الفجر، فتقدمهم إماما بهم عن أمر جبريل فيما يرويه عن ربه عز وجل) (البداية والنهاية جـ 3، ص 13).
وإن هذا الكلام يدل على أن إمامة النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم للأنبياء كانت بعد أن تنزل من الأفق الأعلى، وإن المعراج كما انتهينا كان بالروح، وكانا رؤية صادقة.
هذه قصة الإسراء والمعراج، كما نص عليها في القرآن، وكما جاءت بها السنة الصحيحة، وقد ذكرناها بشيء من الإطناب، لكثرة الكلام حولها، ولاختلاف الروايات، فكان لَا بد من أن نصفي القول فيها.
وخصوصا أنها وانشقاق القمر أعظم خوارق للعادات الحسية التي كانت في حياة النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم ومع ذلك لم يتحد بها كما تحدى بالقرآن الكردم؛ لأن النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم إنما تحدى بما يتناسب مع خلود شريعته، ودوام رسالته وهو ما يبقى مخاطبا الأجيال كلها إلى يوم الدين، وهو القرآن الكريم.(8/4329)
بعد أن ذكر بيت المقدس ذكر موسى الذي أراد أن يدخل الأرض المقدسة فقعد بنو إسرائيل، وقالوا مقالة الجبن والنذالة: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24).
قال اللَّه تعالى:(8/4330)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
(وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
إن الواو هنا عاطفة وعطفت (آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ) على (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا) ويكون المعنى أكرم اللَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالإسراء والمعراج، وجعله حجة على الناس، إذ يكفرون با الآيات وقد طلبوها، وأكرم موسى بالكتاب أتاه فيه الشرائع، (وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) أي كفيلا، أو ربًّا تكلون إليه أموركم، أو وليا ونصيرا.
وإن هنا على قراءة التاء (تَتَّخِذُوا) تفسيرية، أي هو ألا تتخذوا من دونه وليا، وهناك قراءة بالياء (يتخذوا) (1) وعلى هذه القراءة يكون المعنى جعلناه هدى لبني إسرائيل فلا يتخذوا من غير اللَّه وكيلا أي وليا وربًّا، كقوله تعالى: (وَلا يَأمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا).
وأنه بهذا العطف يتبين أن شرائع اللَّه متصلة وأن أنبياء اللَّه تعالى مكرمون، كما أن الإسراء جمع النبيين عند بيت المقدس فقد جمعهم الله تعالى في التكريم هذا بالكتاب والإسراء والمعراج، وذاك بالكتاب الذي كان هداية لبني إسرائيل ألا يتخذوا شريكا، ثم بين سبحانه وتعالى صلة الأنبياء من عهد نوح فقال: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
________
(1) (ألا يتحذوا) بالياء غيبا: قراءة أبي عمرو، وقرأ الباقون بالتاء خطابا. غاية الاختصار: 2/ 544.(8/4330)
هذه الآية الكريمة موصولة بما قبلها للدلالة على أن النبوة متصلة متحدة في غايتها، وفي نهايتها،(8/4331)
ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
(ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ) منصوب على الاختصاص والمعنى نخص بالذكر ذرية من قد حملنا، ويصح أن تكون نداء، والمعنى يا ذرية من قد حملنا مع نوح، والخطاب لأتباع محمد أو من بعث فيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وبني إسرائيل، وإنه قد أكد سبحانه وتعالى أنهم من ذرية من حمل مع نوح، وكان الذين حملوا مع نوح في السفينة هم المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، ولم يكونوا مشركين، كما قال تعالى عند النجاة فوق السفينة، (. . . وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَق عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ).
والمعنى أن أصلكم قد اختاره من بين المشركين ليكون الإيمان هو الباقي، وقد كرم الله من تبع نوحا، والذين آمنوا به بتكريم نوح وذكر فضله فقال: (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا)، الضمير يعود إلى نوح - عليه السلام -، وذكر له سبحانه وصفين كريمين: الوصف الأول: أنه كان عبدا يحس بنعمة العبودية لله تعالى فلم يكن ذا جبروت، بل كان خاضعا لله سبحانه وتعالى، والخضوع لله تعالى وحده هو العزة التي لَا ذل فيها ولا استكبار.
والوصف الثاني: أنه شكور، أي كثير الشكر لله تعالى على نعمائه في سرائه وضرائه، جاء في الكشاف للزمخشري ما نصه: " إنه كان إذا أكل قال الحمد لله الذي أطعمني، ولو شاء أجاعني، وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني، ولو شاء أظمأني، وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني، ولو شاء أعراني، وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذاني، ولو شاء أحفاني، وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني أذاي في عافية، ولو شاء حبسه "، وروي أنه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به، فإن وجده محتاجا آثره ".(8/4331)
وسواء صحت نسبة هذه المعاني إلى أبي البشرية الثاني أم لم تصح فإن هذا الكلام يدل على أن في كل أمر من أمور الإنسان نعمة توجب الشكر.
وإن ذكر هذه الأوصاف لنوح - عليه السلام - فيه تعليل لشرف الاتباع له وبيان أن من حملهم معه جديرون بالتكريم، وفيه مع ذلك دعوة لأن يجعلوه أسوة فقد جعله من حملهم معه أسوة لهم فاتخذوه أيضا أسوة.
بعد ذلك بين اللَّه ما فعله بنو إسرائيل في المسجد الأقصى، فقال عز من قائل:
* * *
(وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
* * *
بعد أن ذكر سبحانه مكانة بيت المقدس وأنه مَسْرى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومنه عرج بروحه إلى السماوات العلا ذكر سبحانه ما صنعه بنو إسرائيل حوله، وما صنع به(8/4332)
فى حكمهم حتى أسلموه إلى غيرهم، أو انتزعوه منهم، وجاء الإسلام فأنقذه من أعدائهم، وكان في المسلمين قوة، وكان الإيمان قوتهم، فلما ضعفوا وهانوا كان الحكام من غيرهم، فآذاهم فيه النصارى أولا ثم تدرع اليهود بدرع غيرهم وتنمروا.
قال تعالى:(8/4333)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
(وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
أي تقدم إليهم في كتابهم الذي نزل عليهم، كما قال تعالى:
(وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ)، وقيل أوحينا إليهم علما مقطوعا مبتوتا، ولا شك أن الوحي هنا توجيه نفسي، وتصريف
للقلوب؛ لأنها غوت وضلت، وما كان اللَّه تعالى يوحي بفساد وإنما هو من إغواء الشيطان. والكتاب هو ما قدره الله تعالى في اللوح المحفوظ.
وقد التفت سبحانه وتعالى في تصريف بيانه الحكيم من الغيبة إلى الخطاب فقال: (لَتًفْسِدُنَّ فِي الأَرْض مَرَّتَيْنِ) وهذا موضع الإعلام الذي هو معنى ما قضاه اللَّه وتقدم به إليهم في لوحه المحفوظ، واللام لام القسم، والنون نون التوكيد الثقيلة التي تقترن بالقسم وجوبا، والقسم من اللَّه تعالى تأكيد لوقوع الأمر، كما أقسم سبحانه وهو أنهم " يفسدون في الأرض مرتين " وذكر سبحانه أن فسادهم تكون عاقبته أنه يعم الأرض، أي أرض بيت المقدس، أو يسري في الأرض التي تقاربه، أما ما حول بيت المقدس فهو مبارك ببركة اللَّه تعالى، كما قال في أول السورة: (الَّذِي بَارَكنَا حَوْلَهُ)، والفساد بأن لهم، ممن على شاكلتهم في الأرض، وقال سبحانه وتعالى مقسما: (وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا) فقرن علوهم بفسادهم، وذلك لما استمكن في قلوبهم من الحسد والحقد، وإن اقتران علوهم بالفساد يفيد أمرين: الأمر الأول: أن علوهم يعقبه طغيان، والطغيان يعقبه الفساد.(8/4333)
الأمر الثاني: أن علوهم فيه اعتداء فاجر فاعتداؤهم بقتل الأنبياء وأكلهم الربا والسحت وأن يقتل بعضهم بعضا، ويلاحظ أنه ذكر الفساد مرتين، ولم يذكر عدد العلو لأنه لَا عدد له إن وجدت أسبابه.
ووصف اللَّه تعالى علوهم بأنه يكون علوا كبيرا؛ وذلك لأنه يكون على أيدي أنبياء، وسرعان ما تعود إليهم نفوسهم الآثمة فيقتلون ما أعلاهم به الأنبياء إلى فساد وانحراف، ألم تروه بعد أن أنقذهم اللَّه تعالى من فرعون، وأغرقه وملأه رأوا قوما يعكفون على أصنام لهم (. . . قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ. . .)، وعبدوا العجل في غيبة موسى وقد ذهب على موعد من ربه.(8/4334)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
أولاهما: هي المرة الأولى التي يفسدون فيها، وأكد اللَّه تعالى الإفساد فيها في ضمن تأكيد الإفساد مرتين.
و (وَعْدُ) معناها - ميعاد - وعبر سبحانه وتعالى بوعد دون التعبير بميعاد؛ لأن ميعاد اسم للزمن، ويتضمن الوعد؛ وذلك لأن المصدر فيه إيذان بتوكيد ما وعدهم اللَّه به، وقد قرن سبحانه وتعالى فساد المرة الأولى ببعث الجيوش المخربة الهادمة أو المذلة لهم أو المذهبة لاستقلالهم.
وقد جعل سبحانه (بَعَثْنَا) جواب شرط لقوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا) وهي المرة الأولى للفساد، وهذه القضية الشرطية تفيد أن الفساد في الأمم يتردى إلى أن تكون نهبا للمغيرين عليهم، وأن الحصن الحصين لمنع غارات المغيرين هو استقامة الأمة في ذات نفسها وإقامة العدالة والحكم بالأمانة والعدل، وأما فسادها فإنه يؤدي إلى الانهيار وأن تكون طُعْمة للمغيرين يجدون فيها مغانم يغنمونها.(8/4334)
وقوله تعالى: (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا) وعبر سبحانه بـ (بَعَثْنَا)، أي أنهم جاءوا إليهم كأنهم مبعوثون لهم مسلطون عليهم، وأسند سبحانه البعث إلى ذاته العلية؛ لأنه جاء على سنة الوجود التي سنها، ولن تجد لسنة اللَّه تبديلا، وهو أن الفساد يغري بالهجوم على الفاسدين، ولأن المغالبة الإنسانية تجعل القوي يأكل الضعيف ولا ضعف أكثر من استشراء الفساد فإنه يهدم كيانها ويعرضها للفناء، سنة اللَّه تعالى في الوجود.
وقال تعالى: (عِبَادًا لَّنَا) هنا إشارتان بيانيتان:
الإشارة الأولى: أنه عبر بـ (عباد) وذلك إشارة إلى أنهم خاضعون لإرادة اللَّه تعالى فيهم.
والإشارة الثانية: إضافتهم له سبحانه وتعالى بما يفيد الاختصاص، ومؤدى ذلك أن اللَّه جعلهم له لَا لأجل العبودية والطاعة، بل ليكونوا آلة تأديب وتهذيب لمن يخرجون عن الهداية ويقعون في الفساد، وهؤلاء الجبارون هم طُعْمة لغيرهم إذا فسدوا، وهكذا يتدافع الشر، ويدفعه أخيرًا الخير، (. . . وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251).
ووصف سبحانه وتعالى أولئك العباد، بأنهم (أُوْلِي بَأسٍ)، الباس: القوة، و (شَدِيدٍ)، أي فيه بطش وعتو، ولا يرحمون أعداءهم وقد نزعت منهم النواحي الإنسانية العاطفة كالتتر في طغيانهم، وإذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة.
وإنهم في حروبهم لَا يقنعون بأماكن الجند ومعسكرات الحرب، بل يدخلون المدائن ويجوسون خلال دورها، ويتردون خلال هذه الدور، وفي ذلك إشارة إلى أنهم يقتلون النساء والذرية والضعفاء من العجزة فلا يعرفون قانونا مانعا، ولا نظاما حاجزا، إنما شهوتهم إلى الدماء والمجازر البشرية.
ولقد بين سبحانه وتعالى أن ذلك كان وعدا مفعولا، فقال سبحانه وتعالى: (وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعولًا)، أي كانت غارات هؤلاء الغلاظ الأشداء وعدا؛ لأنه(8/4335)
بمقتضى السنة الإلهية أن من كان فاسدا من الجماعات والأمم يكون فريسة لمن هم أقوى قوة، وأكثر عددا وأشد بأسا، ووصف سبحانه وتعالى الوعد بأنه مفعول، أي واقع وقائم، ومنجز لَا تتخلف الإغارة عن الفساد، كما لَا يتخلف السبب عن سببه، ولا المقدمة عن نتيجتها.
هذه هي المرة الأولى من الفساد التي ادلهمت على بني إسرائيل بسببها المدلهمات ونجوا منها بقيادة داود عليه السلام، إذ قتل داود جالوت، كما ذكر القرآن الكريم على بعض الأقوال، ولْنُشِرْ بكلمة نقبض منها قبضة يسيرة من تاريخهم.
لقد ثبت في تاريخهم أنه بعد أن قتل داود جالوت، وآتى اللَّه داود حكم بني إسرائيل ثم خلفه سن بعده ابنه سليمان واتسع ملكه واستولى على اليمن، وقدمت إليه ملكتها وسخر الله تعالى له كل شيء. جاء من ذريته من كان سببا في انقسام الاثنى عشر سبطا، إلى سبطين سيطرت في حكمهما الوثنية، والعشرة الآخرون ترددوا بين الوثنية أحيانا قليلة والوحدانية أحيانا كثيرة، واستمرت مملكة بني إسرائيل نحوا من ألف وخمسين ومائتي سنة، وفي نهاية فسادهم أغار عليهم ملك آشور وفتح السامرة وأغار على السامرة وسباهم إلى آشور وأحل محلهم قوما من بلاده.
وبعض من الأسباط الذين انفصلوا استمر ملكهم أمدا حتى انقض عليهم - بختنصر - ملك بابل فسباهم وقتل من قتل وحرق التوراة وبذلك انقرضت مملكة بني إسرائيل وأقام اليهود في بابل.
ثم جاء الإسكندر المقدوني ومن بعده، والإسرائيليون أحيانا يكونون تحت حكم غيرهم وأحيانا تحت تسلط سوريا، ثم استولى الرومان على أرض فلسطين وجرت بينهم وبين الرومان حروب انتهت إلى تسلط الرومان عليهم.
هذه قبضة يسيرة من تاريخهم ثم نعود إلى القرآن.(8/4336)
قال اللَّه تعالى:(8/4337)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
(ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
أكثر المفسرين على أن الخطاب لبني إسرائيل وعلى أن الكرَّة التي كروا بها على أعدائهم كانت في عهد داود - عليه السلام -، وأن السلطان آل إليهم وتوطد في عهد سليمان - عليه السلام -، كما قال تعالى: (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40).
وإن ذلك بلا ريب واضح ولكن مؤداه أن بني إسرائيل تمكنوا في الأرض من بعد انتصار داود على جالوت ولم يكن منهم فساد من بعد، مع أن النص القرآني أثبت أنهم أفسدوا مرتين فما هو الفساد الثاني؛ وإذا لم يكن فساد ثان، أو مرة ثانية فهل تكون الآية غير صادقة! معاذ اللَّه، إنه كتاب لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولذلك نذكر رأيا نميل إليه، وهو أن قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ) خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون في الكلام التفات من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب محمد وأصحابه، ورد الكرةَّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - معناه رد الدولة إليه - صلى الله عليه وسلم -، وقوله تعالى: (وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا)، والنفير من ينفر مع الرجل من جند وجيش، وقد كان مع محمد وصحبه الأكرمين الأموال من غنائم الحروب والجند الكثيف، والبنون الذين جاءوا من ذرية المؤمنين.
وقد سوغ لنا أن نقول: في هذا القول أمور:
الأمر الأول: تحقيق الفساد من بني إسرائيل مرتين، وأنه لَا يتحقق الفساد في المرة الثانية إلا بدخولهم المسجد كما دخلوه أول مرة، وأنهم ما أخرجوا منه في المرة الأخيرة إلا في عهد الرومان.(8/4337)
الأمر الثاني أن المرة الثانية هي التي دخلوا فيها المسجد مرة ثانية وخربوا ما علوا تخريبا وذلك ما أضافه المسلمون إلى المسجد.
الأمر الثالث: أنه لَا يمكن أن يكون المخاطبون اليهود؛ لأنهم ما ساءت وجوههم بدخول المسجد بل ساء وجوه غيرهم، وهم الذين يعلمونهم ساسة المسلمين، وخصوصا لمماسة العرب، وبالأخص ساسة مصر والأردن.
الأمر الرابع: قوله تعالى: (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ) لَا يمكن أن يكون لليهود إنما يكون للمسلمين لينشطوا من عقال وليرتفعوا بَعْد عزة، وليذهبوا المذلة.
يقول عز من قائل:(8/4338)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
الخطاب للمسلمين، حثا لهم على أن ينفضوا عن أنفسهم غبار الذل والعار (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ)، لأنه يزيل العار ويجلب الفخار، والإحسان إجادة العمل، والاستعداد لإخراج الأشرار من المسجد وتطهيره من طغاة أهل الأرض ورفع المذلة عن أهله - وإعادة مسرى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المؤمنين.
(وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا)، وإن أساتم فمغبة الإساءة عليكم، وقال سبحانه:
(لكم)، ولم يقل عليكم؛ للإشارة إلى تمام التبعة، فكأنهم الذين اجتلبوها لأنفسهم كأنهم طلبوها وأرادوها، بكسلهم وفساد نفوسهم، وتفرق أمرهم وتركهم المعاني الإسلامية مفرطين في أمرها، بل مفرطين في أنفسكم لأنه لَا قوة لكم إلا بها.
والفاء في قوله: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ)، بعد قوله (وَإِنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا) فاء الترتيب والتعقيب. والمعنى " فإذا جاء وعد الآخرة بعد أن أسأتم، ليسوءوا وجوهكم " (ليسوءوا): متعلق بفعل محذوف تقديره جاءوا أي جاءوا ليسوءوا وجوههم، وعبر بالوجوه لأن الوجه تبدو عليه مظاهر السوء والكآبة والحزن،(8/4338)
ومعالم العار والخزي من أتباع محمد الذين يدينون بدين العزة والكرامة، والبعد عن الذل والمهانة، وليدخلوا المسجد كما دخلوه، أي ليدخلوه بعد أن أخرجوا منه، إذ أخرجهم الرومان، وأخرجهم المؤمنون فكان من عهد عمر لأهل إيلياء ألا يدخل عليهم اليهود، وقد دخلوه أول مرة حتى أفسدوا فيه، فأخرجهم منه على أيدي النصارى والمسلمين، (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا) التتبير: التخريب، أي مدة علوهم وغلبهم يخربون كل قائم، ويحرقون ويدمرون مدة علوهم وبقائهم في أرض الله المقدسة، ما بقوا فيها.
وقد قال اللَّه تعالى:(8/4339)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
(عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
الخطاب أيضا للمؤمنين ولا يتصور أن يكون لليهود لأنه دعوة إلى الهمة، والأخذ في أسباب النصر واستنقاذ أرض الله المقدسة من أيدي طغمة اليهود، ومن يعاونونهم من وحوش الأرض الذين لَا دين لهم ولا خُلُق، ولا أية ناحية من النواحي الإنسانية، والرجاء في (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يرْحَمَكُمْ) من الناس، ومعنى الرجاء منهم أن يتخذوا الجهاد سبيلا، ويعدوا القوة، ويتسربلوا بالصبر والإقدام، عندئذ يرحمكم اللَّه تعالى بالنصر والتأييد، (وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا)، أي وإن عدتم بالإيمان والصبر وإخلاص النية والجهاد لاستنقاذ الأرض الطاهرة عدنا إليكم بالنصر والتأييد والله معكم ولن يترككم أعمالكم.
ثم ذكر أن اليهود الذين كفروا بالله وقتلوا الأنبياء لهم جهنم فقال تعالت كلماته: (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) أي بساطا مفروشا يتقلبون عليه من جانب إلى جانب، فهو فراش لهم يتقلبون عليه بجنوبهم وفي مضاجعهم، وهو جزاؤهم، وللمؤمنين النصر إن أخذوا في أسبابه.
* * *(8/4339)
القرآن يهدي
قال اللَّه تعالى:
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
* * *
ذكر اللَّه تعالى قصة الإسراء، وهي في ذاتها معجزة حسية مادية لَا تقل عن معجزة إحياء الموتى بإذن اللَّه، وقارنها في الزمن معجزة شق القمر، وإنه انشق قسمين رآه أهل مكة، ورآه المسافرون، ومع ذلك ازدادوا كفرا، وقالوا: (. . . سِحْرٌ مسْتَمِرٌّ)، وفي معجزة الإسراء ازدادوا كفرا.
ودل هذا على الخوارق التي تحدث ثم تنقضى ولا تدوم لَا تكون لخاتم النبيين الذي تكون حجته دائمة بدوام دعوته، واستمرار هدايته، ولا يكون ذلك إلا لقرآن يتلى، ويكون حجة دائمة لَا تنقضي؛ لأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين يتحدى الإنسانية كلها بالمعجزة الكبرى التي تتضاءل عندها كل المعجزات من قبل، وهي القرآن، فقال تعالى يعد الإسراء وما تبعه:
(إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)(8/4340)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
الإشارة (هَذَا) كانت بالقريب، ولم تكن بالبعيد للإشارة إلى قربه من المؤمنين، وقربه إلى أذهان الذين يجادلون في آيات اللَّه تعالى؛ لأنه من وقت البعثة وابتداء نزوله، والمشركون يفتلون الذروة والغارب (1) ليردوا دعوته، وهو مع ذلك يسري في أوساطهم سريان النور المبصر في وسط الضلال المظلم فهو قريب من أذهانهم، وإن لم يؤثر في قلوبهم لغلبة الهوى والجاهلية.
وقد ذكر سبحانه الأثر لهذا القرآن الذي يكون وصفا ملازما له فقال تعالى (يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) أقوم أي أعدل وأكثر استقامة وتوجيها دليلا، فيحمل في نفسه برهان صدقه، والموصوف محذوف ويقدره القارئ بكل ما يكون قويا في ذاته خيرا في نتيجته وهدايته، وقال الزمخشري: إن حذفه يجعل الكلام أعظم وأفخم من ذكره. ونقول: إنه لم يذكر لهذه الإشارة التي أشار إليها إمام البلاغة، ولم يذكر لعموم المحذوف لكل أنواع مناهج الخير والرشاد، فيشمل المحذوف الشريعة التي تهدى للتي هي أقوم، وملة التوحيد التي هي أقوم، ومناهج الخير التي هي أقوم في سلوك الإنسان، وهكذا يشمل تقدير المحذوف كل ما هو خير في ذاته، وخير في دلالته، وقد قدره بعض العلماء بما يقرب من هذا الشمول، فقال يهدي للحال التي هي أقوم لتشمل الحال حال المجتمع، وحال الأسرة، وحال الإنسانية، وكل حال هي خير للإنسان في عاجلته وآخرته، معاشه ومعاده.
هذا هو الوصف المؤثر في التوجيه الإنساني للقرآن، وفيه وصف إيجابي هو السبب في هدايته مع إعجازه، وهو أنه مبشر ومنذر فهو مبشر للمؤمنين ومنذر للكافرين، فقال تعالى: (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) ذكر سبحانه وتعالى حالتين أولاهما: الإيمان، وثانيتهما: العمل الصالح، وقرن الإيمان بالعمل الصالح لتلازمهما، وإن الإيمان الكامل والإذعان الصادق
________
(1) مثل يضرب في الخداع والمماكرة، والذروَة: أعلى السَّنام، وأعلى كل شَىء. أصل فتلَ الذَّروة في البعير: هو أن يَخْدَعه صاحبهُ ويتلطف له بفَتْل أعلى سَنامه حكّا ليسكن إليه فيتسلقَ بالزمام عليه، قَاله أبو عبيدة، معجم الأمثال - الميداني - الباب العشرون - فصل الفاء (2730).(8/4341)
يلزمهما العمل الصالح لَا محالة، وقال تعالى (يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ) بالجمع لتنوعها وكثرتها فهي وإن ضبطها ضابط الصلاح مفترقة متنوعة، فالإصلاح بين الناس، والمعاملة الحسنة، والوفاء بالعهد، وغير ذلك من مكارم الأخلاق، والبعد عن ضلالها.
وذكر سبحانه أنه يبشر المؤمنين الصالحين ببشارتين:
البشارة الأولى: أجر كبير، ونكَّر الأجر لعظمه، ولتذهب النفس في تقديره مذاهب شتى، مع ملاحظة أنه أجر وثواب، ثم وصفه سبحانه وتعالى بالكبر الذي لا حد له.
البشارة الثانية: وهي قوله تعالى:(8/4342)
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
(وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
وكيف تكون هذه بشارة لأهل الإيمان؟ الجواب عن ذلك أن البشارة بالنجاة منها، وأنهم لم يتردوا تردية الذين لَا يؤمنون بالآخرة، بل وقاهم اللَّه تعالى، وبذلك يتبين أن ذكر عذاب الذين لَا يؤمنون جاء تبعا لإيمان الذين آمنوا وعملوا الصالحات.
ونذكر هنا أمرين يتعلقان ببيان الذكر الحكيم:
الأمر الأول: قوله تعالى: (وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بالآخِرَة) معطوفة على قوله تعالى: (أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كبِيرًا) فالباء مقدرة في قوله: (وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ) أي وبأن الذين لَا يؤمنون، فالبشارة لأهل الإيمان ابتداء، وهي تتضمن الإيذاء للكافرين، فهي قد اشتملت على التبشير والإنذار، ويبدو أن ما سبق له القول هو التبشير، والإنذار جاء بالتضمن.
الأمر الثاني: أنه سبحانه وصف الكافرين بأنهم لَا يؤمنون بالآخرة، فلم يذكر شركهم وفسادهم وفتنتهم للمؤمنين مع أن هذه جرائم الكفر، والجواب عن ذلك أنه ذكر السبب، وذكر السبب ذكر للمسبب، ذلك أن كفر الكافرين وشركهم وعنادهم، وفتنتهم المؤمنين، وغوايتهم، سبب ذلك كله أنهم لَا يؤمنون بالبعث(8/4342)
واليوم الآخر، ولو آمنوا به لاتجهوا إلى الحق كما اتجه المؤمنون، وقلنا: إن فيصل التفرقة بين قلب المؤمن وقلب الكافر، أن المؤمن سكن قلبه الإيمان بالغيب وما وراء الحس والمادة واليوم الآخر، أما قلب الكافر فلا يسكنه إلا المحسوس والمادة، فلا يؤمن باليوم الآخر.
وقد ذكر عذاب الكافرين، فقال سبحانه: (أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) أي هيأنا لهم عذابا أليما أي مؤلا، وهو عذاب الجحيم، وكان التنكير لتكبيره، وتهويلهم به، وإنه لصادق.
بعد ذلك ذكر اللَّه سبحانه وتعالى وصفا للطبيعة الإنسانية سواء كانت كافرة أم مؤمنة، فقال:(8/4343)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
(وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
كُتبت العين مجردة من الواو، أي الواو محذوفة في الكتابة تبعا لحذفها في النطق بسبب التقاء الساكنين، فحذفت في الكتابة، وهذا ينبئ عن حقيقة مقررة، وهو أن القرآن الاعتماد فيه على القراءة، وعلى حفظه في الصدور، لَا في السطور وذلك هو الذي حفظه إلى يومنا وحتى يوم القيامة.
وقوله تعالى: (دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ)، أي أن دعاء الشر من الإنسان كدعاء الخير، لَا يتدبر فيه ولا يتريث، ولا يضبط نفسه بالتروي والتدبر، كما يدعو بخير واضح الخيرية نتيجته حسنة، وثمراته بادية، وقد وصف اللَّه تلك الحال بأنها من طبيعة الإنسان، فقال: (وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا).
ونريد أن نقف قليلا عند تفسير معنى " يدعو " ومعنى الشر والخير، أما معنى الشر فهو كل أمر لَا نفع فيه ويسوء، ويؤدي إلى فساد وضرر، كالشرك، والعذاب، والإيذاء، والفتنة في الدين، وتعجل كل ما هو مؤذ لنفسه أو لغيره، والخير كل ما فيه نفع عام أو خاص أو رفع ضرر، أو ما هو حق في ذاته كالتوحيد، والإيمان باللَّه ورسوله والملائكة واليوم الآخر، هذا هو معنى الشر والخير، أو هذا نظر بيِّن يقرب معنى الخير والشر، والشر والخير الحكم الديني(8/4343)
والخلقي فيهما إلى النية المحتسبة، كما قال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتواتر المعنى: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته لله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته لما هاجر إليه " (1).
ونتكلم في معنى يدعو، أهي من الدعاء، أم من الدعوة. فإذا كانت من الدعاء تكون بمعنى دعاء اللَّه بالشر كدعائه بالخير لَا يتروى فيه، ففي الخير المسارعة فيه خير؛ لأنها مبادرة إليه، والمسارعة إليه مطلوبة، لقوله تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ. . .)، وأما المسارعة بالدعاء إلى الشر فذلك ممقوت، كالدعوة على النفس بالهلاك عند الغضب، وكدعاء إنزال العذاب، كقول الله على لسان المشركين (. . . فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، وقد قال تعالى لائما على ذلك، (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11).
هذا إذا كان يدعو من الدعاء، أما إذا قلنا إنها من الدعوة وتجيء بمعنى الدعاء فالمعنى أن الإنسان يدعو نفسه وغيره متلبسا بالشر، كدعوته إلى الخير، وإذا كانت الدعوة إلى الخير محمودة العاقبة في ذاتها لأنها خير مآلا، ولأنها مرئية في ذاتها فالدعوة المتلبسة بالشر تحتاج إلى تعرف عواقبها ونهايتها، والتروي والتدبر في دواعيها، وإذا فكر وتدبر لَا يفعل إلا ما يؤدي إلى النفع، ولكنه لَا يفعل، ولذلك قال تعالى بعد ذلك: (وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا) وذلك كقوله تعالى: (خُلِقَ الإِنسَان مِن عَجَلٍ. . .)، فهو في طبعه التعجل إلى الأمور، والعاقل من يتأنى ويتدبر ويصبر، ويدرس الأمور، فإذا كانت العجلة من غرائزه، فالإدراك يهذب هذه الغريزة، ويجعلها متناسقة مع مواهبه، وكذلك كل غريزة تشذب
________
(1) متفق عليه، سبق تخريجه.(8/4344)
بغيرها من الغرائز، فإذا كانتا فيه الغريزة الجنسية، فالعقل يجعلها في الحلال، وإذا كانت غريزة العجلة، فالعقل يضبطها بالصبر.
هذا مقام القرآن، وهذا هو الإنسان، وقد انتقل سبحانه من الإنسان إلى الكون وفيه آيات الوحدانية، وبرهان الألوهية، فقال عز من قائل:(8/4345)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
ابتدأ سبحانه من الكون بما يمس الإنسان من أوقات فذكر الليل والنهار، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَآيَتَيْنِ)، أي هما في ذاتهما آيتان، إذ يقبلان بأمبر اللَّه ويذهبان، وإذا كانا يرمزان إلى دوران الشمس حول الأرض، وأن القمر يستمد نوره من انعكاس ضوء الشمس على الأرض، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدِّرَهُ مَنَازِلَ. . .)، فإن هذا أبين في أن الليل والنهار آيتان؛ لأنهما مظهران للفلك السماوي، وهو يسير بقدرة اللَّه تعالى وإرادته، وكل شيء عنده بمقدار، ثم هما يقصران ويطولان، فإذا قصر أحدهما طال الآخر، فإذا طال الليل في الشتاء قصر النهار، والعكس بالعكس.
هذا على أن الليل والنهار ذاتهما آيتان وترمزان إلى آية كونية هي دوران الأرض حول الشمس، وانعكاس ضوء الشمس على الأرض فتجعله منيرا من غير ضياء كالشمس.
وقد يراد بآيتي الليل ما يظهر بالحس في كل منهما، فالشمس تكون بالنهار، وهي آية، والقمر يكون بالليل، وهو آية، والقمر قدره اللَّه تعالى منازل.
ومعنى محو آية اللمل ما قاله الزمخشري: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ) أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسه مظلما لَا يستبين فيه شيء، كما لَا يستبان ما في اللوح الممحو.(8/4345)
وقوله تعالى: (فَمَحَوْنَا آيَةَ اللًيْلِ) في الكلام مجاز على تخريج الزمخشري مؤداه أنه شبه الليل الممحو نوره بالكتاب المطموس كتابته لعدم الوضوح والاستبانة فيهما.
وقوله تعالى: (وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً)، أي يبصر الناس فيها، فيكون في الكلام مجاز أيضا فأسند الإبصار إلى الآية باعتبارها منها الإبصار، وذلك مجاز في الاشتقاقات، فأطلق اسم السبب على المسبب، وهو ما يكون فيه من استبانة.
(لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ)، أي لتطلبوا فيه أسباب رزقكم، ولتقيموا الصناعات، وتسيروا في الأرض وتفلحوا الأرض فتمتلئ بالنبات، والغرس، وتكون منافع هذه الدنيا إذ تتولون أسبابا وفضلا من اللَّه، ولتعلموا عدد السنين والحساب، وذلك بتجدد الأيام، فيعرف اليوم، ويعرف الشهر، ويعلم عدد السنين وما يجري في حساب الناس.
فبتجدد الليل والنهار يكون السكون وتكون الحركة، وطلب المعاش، والسعي في الأرض، وذلك كله يدل على الفاعل المختار ووحدانيته، قال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62).
وقال تعالى: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5).
بعد أن بين اللَّه طبيعة الإنسان، وأشار إلى ما يحيط به أخذ يشير سبحانه إلى الحساب.
* * *(8/4346)
الحساب يوم القيامة
قال اللَّه تعالى:
(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
* * *
لم يخلق الله تعالى الإنسان سدى، ولم يخرج الحياة لتكون عبثا من غير حساب، بل إن اللَّه تعالى خلق الإنسان مسئولا عما يعمل، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ومن فاته حظ الحياة الدنيا مظلوما، فينال في الآخرة حظا موفورا، ومن اكتسب الإثم وأحاطت به خطيئته، فإن له جهنم، إن صلاح الإنسان لَا يكون إلا بالثواب والعقاب في الآخرة، كذلك قدر الله تعالى ولذا كان الحساب، وقال تعالى:(8/4347)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
الطائر هنا كناية أو مجاز عن العمل، فالمعنى وكل إنسان ألزمناه عمله الذي عمله وطوقنا به عنقه، بحيث لَا يمكن الخلاص منه، كما يطوق العنق بأي شيء لا يمكنه الفكاك، بل يلازمه ملازمة الطوق للعنق، وقد شبهت ملازمة العمل للنفس حتى تنال جزاءها خيرا أو شرا بملازمة الفوق للعنق حلية أو قيدا.
هذا هو المعنى الإجمالي للآية الكريمة.(8/4347)
وفى التعبير عن العمل بالطائر إشارة إلى ما كان عند العرب من التشاؤم والتفاؤل، فاللَّه سبحانه وتعالى يبين أن العمل كهذا الذي كنتم تتخذونه للتشاؤم والتفاؤل، ولكنه عمل هو خير لكم أو شر عليكم، وعبر عنه بملازمته الأعناق؛ لأن العنق هو الذي تكون به القلائد، فكان ذلك ترشيحا للاستعارة، ولنستعر توضيح هذا المعنى من شيخ المفسرين الطبري، فهو يقول: إذ أعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم ألزمه ربه طائره في عنقه نحسا كان الذي ألزمه وشقاء يورده سعيرا، أو كان سعدا يورده جنات عدن، وإنما أضيف إلى العنق، ولم يضف إلى اليد أو غيرها من أعضاء الجسد، قيل لأن العنق هو موضع السمات، وهو موضع القلادة والأطوقة ونحو ذلك مما يزين به أو يشين، فجرى كلام العرب على نسبة الأشياء الملازمة سائر الأبدان إلى الأعناق، كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد، فقالوا: ذلك بما كسبت يداك، وإن كان الذي يجري عليه لسانه أو فرجه، فكذلك قوله تعالى: (أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) اهـ بتصرف قليل.
وخلاصته، أن قوله تعالى: (أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) كناية عن ملازمة أعماله له لَا تزايله ولا تفارقه يوم القيامة، وقد أكد سبحانه ذلك المعنى بأن أعماله الملازمة له ملازمة القلادة للعنق محصية عليه إحصاء دقيقا في كتاب لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فقال: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا) فيه قراءات لـ (يلقاه) أولها بنون المتكلم العظيم في نفسه وذاته العلية، وهو اللَّه سبحانه وتعالى، وثانيها بالياء، ويعود بالضمير على اللَّه تعالى، وهو حاضر في النفس دائما، وهناك قراءة بالقاف المشددة (يلقَّاه)، فيه مبالغة في لقائه أو حمل له على التلقي، وهذا الكتاب هو صحيفة أعماله التي يحاسب على خيرها، بالجزاء الأوفى، وعلى شرها بالعذاب الأليم، ويفهم من كلام البيضاوي أن هذا الكتاب هو ما ينقش على نفسه من الأعمال التي تتكرر، فتكون بتكرارها خطوطا منتقشة، وتعرض هذه النُّقُش صحيفة منشورة مكشوفة، ولننقل عبارته: " هى أي الكتاب صحيفة عمله أو نفسه، المنتقشة بآثار أعماله، فإن الأعمال الاختيارية تحدث في(8/4348)
النفس أحوالا، ولذلك يفيد تكريرها لها ملكات " (1)، أي أن الأعمال بتكررها تحدث نقوشا بهذه الأعمال فتكون كتابا يكشفه اللَّه، فتكون كتابا منشورا ظاهرا معلوما مكشوفا.
________
(1) تفسير البيضاوى: ج 3/ 435. وذكره من أئمة التفسير الآلوسي، وأبو السعود في تفسير الآية (14).(8/4349)
اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
(اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
مقول لقول محذوف، أي يقول اللَّه تعالى أو الملائكة المطهرون: اقرأ كتابك المسجل عليك، الذي هو صادر عن نفسك أو منقوش عليها، فإنه دليل لك أو عليك، ففيه حسناتك وفيه سيئاتك، وحاسب نفسك بمقتضى هذا الكتاب الذي هو صورة منها، قد حفظت وبقيت حتى ظهرت، " كتابا منشورا " أي معروفا، وإنه يكفي حساب نفسك؛ فإنها وحدها كاشفة، وقوله تعالى: (كَفَى بِنَفْسكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا)، أي كفى بنفسك حسيبا عليك يحصي عليك ما عملت إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وحسيبا؛ تتضمن الإحصاء والحساب والرقابة، فضميرك شاهد عليك، ونفسك بما نقش عليها وحفظ أقوى برهان على عملك، واللَّه بعد ذلك يتولى الجزاء، مع قيام الدليل من نفسك أنت.
وقد بين بعد ذلك أن الجزاء من جنس العمل، فقال:(8/4349)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
(مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
حقائق تؤكدها هذه الآية الكريمة: الحقيقة الأولى: أن الإنسان في الأعمال الدنيوية إن اهتدى فهدايته عائدة بالخير عليه، وإن ضل فضلاله مغبته عليه.
الحقيقة الثانية: أن الإنسان ليس له إلا ما سعى، فوزره هو الذي يتحمله، ولا يتحمل وزر غيره. الحقيقة الثالثة: أنه لَا عذاب إلا بعد الإنذار، (. . . وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِير).(8/4349)
ولنتكلم في استخراج هذه الحقائق من نصوص الآية.
الحقيقة الأولى:
(مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) الفاء هنا مترتبة على ما ذكر قبلها، ذلك أنه إذا كان الحساب بكتاب منشور لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعمال الدنيا، إنه من يهتدي فهدايته لنفسه فلا يعذب، وينال الجزاء من عند اللَّه جنات تجري من تحتها الأنهار، ورضوان من اللَّه أكبر، ومن سلك طريق الضلالة وكتبت عليه دونت في كتابه فإن عاقبة ضلاله تكون على نفسه جزاء لما قدمت يداه من عذاب عسير، ولا ينظر اللَّه إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب مقيم دائم، لهم جهنم خالدين فيها أبدا بما كانوا يكسبون.
الحقيقة الثانية:
هي كما أشرنا ما دل عليه بقوله تعالى: (وَلا تَزِر وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، أي لا يحمل إنسان وزر غيره، و (وَازِرَةٌ) وصف لنفس، أي لَا تحمل نفس وازرة إثم نفس أخرى، وعبر سبحانه عن حمل الوزر بالوزر، فقال: (وَلا تَزِرُ) لأن الوزر سبب حمله، فأطلق السبب وأريد المسبب، ألا يقال كيف ذلك واللَّه تعالى يقول: (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)، ونقول في الجواب عن ذلك، إنما يحملون أثقال غيرهم إذا كانوا سببا فيها كالذين يصدون عن سبيل الله يحملون أثقال من صدوهم؛ لأن نوعا من السببية في كفرهم بصدهم عن سبيل اللَّه وضلالهم.
ويلاحظ في النص السامي أمران:
الأمر الأول: قوله تعالى: (فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) أي وزر ضلاله عليها.
الأمر الثاني: أنه سبحانه يقول: (فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا) فذكر هنا القصر والاختصاص، للإشارة إلى أن الضلال لهم وحدهم، فلا يجديهم أن يقولوا (إِنَّا(8/4350)
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونْ)، فعليهم أن يتحملوا تبعة أعمالهم، وأن يقدموا على ما يقدمون عليه بتفكير من غير تقليد، فلا يتحمل من يقلدونهم شيئا من أوزارهم.
والحقيقة الثالثة:
أنه لَا عذاب من غير إنذار، ودل على ذلك قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) إن العقل يدرك الخير والشر، ولكن لأن الغرائز البشرية متشابكة يؤثر بعضها على بعض، فالغريزة الجنسية توجد الهوى، والهوى يجعل غشاء على القلوب فلا تفقه، وعلى الآذان فلا تسمع سماع هداية، ولا يبصر بصر اعتبار، يكون ذلك، فلا بد من منبه يزيل غشاوة الأعين وضلال القلوب، ووقر الآذان، وهذا هو النذير، والعذاب من غير النذير لَا يكون من رحمة اللَّه تعالى بعباده، (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ) نفي مؤكد حتى تكون الغاية، أي ما كان من شأننا ولا من رحمتنا أن نعذب إلى أن نبعث رسولا يعلم الحق ويبينه، والباطل ويزهقه، وقال تعالى: (. . وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24).
* * *
الترف مآله الدمار
قال اللَّه تعالى:
(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ(8/4351)
سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
* * *
الترف أن يسترخي الإنسان في إرادته وعزيمته وصبره، فيكون كل شيء فيه مسترخيا، فإرادته مسترخية، وعزيمته لَا قوة فيها ونفسه غير منضبطة، والشهوات حاكمة، والأهواء جامحة، والمترف يختص بثلاث خصال: ضعف في الإرادة، واندفاع وراء الأهواء والشهوات، وأثرة تجعله يعيش في محيط نفسه ولا يخرج عن دائرتها، ولذا كان المترفون دائما هم أعداء الأنبياء، لأنهم أوتوا أثرة مقيتة، وكل حق يحتاج إلى فداء، وجهاد وبلاء وجلاد، وكان أتباع النبيين من الفقراء الذين لا يعيشون عيشة راضية، وكان أعداء النبيين من المترفين يقولون: (. . . وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ. . .).
وهذه الآية الكريمة:(8/4352)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
إن إرادة اللَّه تعالى لهلاك الأمة تكون إذا سارت الأمة في أسباب الهلاك، وانتهت إليه، فيريد اللَّه تعالى لها ما أخذت في أسبابه وسارت في طريقه قاصدة الغاية مريدة لها، فمعنى إرادة اللَّه تعالى سيرها في طريق الهلاك حتى ترد موارد الهلكة، وذهبت أسباب قوتها، وحلت محلها أسباب انهيارها.
والقرية المدينة العظيمة، ويصح أن يراد بها الدولة أو الأمة، أو الجماعة أيا كان عددها، وقوله تعالى: (أَمَرْنَا مُترفِيهَا) فيها قراءات ثلاث، وكلها متواترة، وكلها ذات معنى صادق مستقيم:
القراءة الأولى: (أمَرنا) بفتح الميم وهمزة من غير مد، والأمر هنا مجازي، ليس المقصود به الطلب، وإنما المقصود تسهيل أسباب الترف، وأسباب الاسترخاء(8/4352)
الذي يلازمه، ولا يفترقان، ويتبعهما سيطرة الأهواء والشهوات، وغمر العقل والإدراك بهما حتى لَا يدرك إلا من ورائهما، فإن تسهيل ذلك يكون كالأمر؛ لأنه يؤدي مؤدى الطلب، وقد قال في ذلك الزمخشري كلمة حكيمة، قال: والأمر مجازي، حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم افسقوا، وهذا لَا يكون فبقي أن يكون مجازا، ووجه المجاز أنه سبحانه صب عليهم النعمة صبا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إملاء النعمة فيه وإنما خولهم إياها ليشكروا ويعملوا فيها الخير، ويتمكنوا من الإحسان والبر، كما خلقهم أصحاء أقوياء وأقدرهم على الخير والشر، وطلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق، فلما فسقوا حق عليهم القول، وهو كلمة العذاب فدمرهم. هذا هو المعنى على قراءة الفتح بتخفيف الميم.
والقراءة الثانية: هي تشديد الميم، أي (أَمَّرْنَا) مترفيها بأن جعلناهم أمراءها، وحكامها فكانوا أمراء أشرارا؛ لأن الترف كما بينا يؤدي إلى الشر والأثرة، وحيثما كانت الأثرة بَعُدَ الخير، والأمراء الأشرار هم أساس الفساد، ولقد قال النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -: " إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم أسخياءكم، وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من باطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأموركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها " (1).
والمترفون الذين أترفوا في ذات أنفسهم، وعمتهم الأثرة، والرخاوة، وحب الشهوات إن كانوا أمراء كانوا، ولقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن لكل شيءآفة، وآفة هذا الدين حكامه " (2).
القراءة الثالثة: أن الميم مفتوحة بالتخفيف ومد الهمزة أي (آمَرْنَا) ويكون المعنى كَثُر أي إذا أكثر اللَّه تعالى المترفين في الأمة عمها الفساد والفسق فدمرها اللَّه تعالى تدميرا.
________
(1) رواه الترمذي: الفتن - ما جاء في سب الريح (2192).
(2) مسند الحارث بن أبي أسامة (62) - ج 2/ 641، وأورده السيوطي في الجامع (17278) ج 6/ 17.(8/4353)
وهنا أمران بيانيان نشير إليهما:
الأمر الأول: في قوله تعالى: مترفيها - فيه إشارة إلى أن السبب في التدمير هو الترف والاسترخاء، ولذا قال تعالى: " ففسقوا " والفاء هنا لبيان أن ما قبلها سبب لما بعدها، أي أن تمكين المترفين مؤد إلى الفسق لَا محاله.
الأمر الثاني: أن التدمير: الهلاك وهو نوعان: النوع الأول ذهاب قوتها، وأن تكون طُعْمة سهلة لغيرها، فذلك فناء لشخصية الأمة وضياع لقوتها، وصيرورتها تابعة لغيرها، فتفقد عزتها، والنوع الثاني: أن ينزل اللَّه تعالى عليها عذابا من عنده، كريح حاصب صرصر عاتية، أو يجعل عاليها سافلها، ويمطرهم حجارة من سجيل، كما فعل بقوم لوط، إذ فسقوا عن أمر ربهم.
وأيا كان نوع التدمير، فقد رتبه سبحانه على الفسق، وأكده بالمصدر الذي هو مفعول مطلق، فقال سبحانه: (فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)، وقوله تعالى: (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ)، أي فوجب عليها القول أي أمر اللَّه تعالى بتدميرها، إما بسبب عادى أدى إليه الترف، وإما بعذاب من عنده، واللَّه تعالى أعلم.
وقد أشار سبحانه إلى أن ذلك كان السبب في هلاك القرون من قبل، فقال تعالى:(8/4354)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
(وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
اللَّه سبحانه وتعالى يضرب الأمثال بالأمم السابقة من نوح إلى البعث المحمدي، فإن الترف هو الذي دفع المترفين إلى معاندة الأنبياء، واندفاعهم في الأهواء والشهوات، ثم دفعهم ذلك إلى أن غشى قلوبهم فاهلكوا بما أترفوا وبما فسقوا و " كم " في قوله تعالى: (وَكمْ أَهْلَكْنَا) دالة على الكثرة، فهي ليست استفهامية، والمعنى كثيرا أهلكنا من القرون، وموضع (كم) النصب بأهلكنا، و (من) بيانية، والقرون جمع قرن، وهو الجيل من الناس، والمعنى كثيرا أهلكنا من الأجيال التي بعد نوح. في أمم الأنبياء الذين أترفوا وفسقوا وعاندوا الأنبياء(8/4354)
وكفروا بهم وبأمر ربهم، وذكرت الأجيال من بعد نوح؛ لأن نوحا الأب الثاني بعد آدم عليهما السلام، كما قال تعالى: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3).
ولقد أهلكهم على علم بحالهم، واستحقاقهم للهلاك، ولذا قال تعالى: (وَكفَى بِرَبِّكَ بِذنُوب عبَاده خَبيرًا بَصِيرًا) الباء في (بِرَبِّكَ) لتأكيد كفاية علم اللَّه
تعالى كقوله تعالى (. . . وَكفَى بِاللَّه شًهِيدًا)، والباء في قوله تعالى: (بِذنوبِ) متعلقة بقوله تعالى: (خَبِيرًا بَصِيرًا) وقدمت هي ومجرورها على خبيرا بصيرا، لكمال العناية، وللإشارة إلى أن العلم بالذنوب كان دقيقا مبصرا، وذلك لبيان أنه لَا ظلم، (. . . وَمَا ظَلَمَهُم اللَّهُ وَلَكِن كانُوا أَنفسَهُمْ يَظْلِمُونَ). والخبرة: العلم الدقيق الذي لَا يغيب، وهو علم واضح بيِّن عنده، كالعلم بالأشياء المبصرة عند الناس، وللَّه المثل الأعلى في السماوات والأرض.
وإن اللَّه تعالى هو المعطي الوهاب يعطي عباده ما يريدون من حظوظ الدنيا والآخرة، ولذا قال سبحانه:(8/4355)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
(كانَ) هنا للدلالة على الرغبة المستمرة، والإرادة الدائمة ما دام على قيد الحياة، والعاجلة وصف للدنيا أي الدنيا العاجلة ومتعها، وجعلها غايته، ومرمى همته، ومطرح نظره، ولم يكن له هَمٌّ سواها، وذكر الوصف دون الموصوف للإشارة إلى سبب الرغبة، وهو كونها قريبة دانية، فصاحب هذه الإرادة لَا يريد إلا المنافع العاجلة، وإن كانت زائلة، ولا يريد المنافع الآجلة، وإن كانت هي الباقية، وقد كان جواب الشرط (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ)، وفي الكلام جناس بين (عاجلة)، و (عجلنا)، وإنه يتلهف للعاجلة، فيشبع اللَّه تعالى نهمته(8/4355)
بالتعجيل بما أراد، ولكنه سبحانه يُستتر خلقه بحكمة؛ فهو يعطي بحكمة، ويمنع لحكمة، ولذا لم يقل سبحانه إنه يعطيهم من العاجلة بما يشاءون، ولا أنه يعطي الجميع، بل يعطي من يريد تسجيلا لمشيئته ولحكمته، وتثبيتا لإرادته واختياره، ولذا قال (عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ)، فقيد العطاء بمشيئته، بالنسبة للعطاء فقد يعطي هذا المال، ولا يعطيه الصحة، وقد يعطيه السلطان، ولا يعطيه العزة، وقد يعطي هذا الجاه، ولا يعطيه إلا الذل والهوان، والعيش الدون في ذلة، وفي الجملة يعطي العاجلة، ولكن ليست كلها، ولا يعطي العاجلة كل من يريدها بل يعطيها من اتخذ أسبابها، ولم يتنكب طريقه فيجتمع له مع كفره ذل الدنيا وعذاب الآخرة.
فيعطي طالب الدنيا هذا، وينال ما يشاء اللَّه وبعض كما يتمناه، وهو في الآخرة ينال الحسرة والعذاب، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمومَا مَّدْحُورًا)، أي جعلنا له ومن اختصاصه بشكل دائم جهنم يتخذها مثوى دائما ومستقرا، ويصلى نارها، ويقال له (ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِير الْكَرِيمُ)، حال كونه (مَذْمُومًا) لَا يمدح أبدا، و (مَّدْحُورًا)، أي مطرودا من رحمة اللَّه، ورضاه فلا ينظر الله إليهم، ولا يكلمهم. .
هذا من أراد الدنيا، ومن أراد الآخرة قال تعالى فيه:(8/4356)
وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
(وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
من أراد الآخرة، وكان التعبير بالآخرة في مقابل التعبير بالعاجلة لفرق ما بين الاثنين؛ ذلك يريد أمرا عاجلا لَا يصبر ولا يضبط نفسه، وهذا يريد الآخر، ولو كان مؤجلا، فينال فضيلة الصبر والعمل، ويترقب الآجل ترقب المدرك العامل.
ولم يكتف بالترقب والانتظار، بل سعى لها سعيِها، أي عمل لها العمل المقرب لنعيمها والمبعد عن جحيمها، وفي التعبير بـ (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا)، إشارة(8/4356)
إلى أنه يسير لها، ويعمل ما يطلبه من بر وصدق وأمانة، وحسن معاملة، واستقامة نفس، وسير على صراط مستقيم، وقال تعالى: (وَهُوَ مُؤْمِن) فالإيمان أصل الأعمال الصالحة ولبها وذروتها وسنام الحق، وقد بين اللِّه تعالى جزاءهم فقال: (فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) الفاء في جواب الشرط، والإشارة في أولئك إلى السابقين الموصوفين بإرادة الآخرة بالسعي بالعمل الصالح، وبالإيمان الذاعن الصادق، والإشارة إلى الأوصاف بيان أنها سبب الجزاء، والجزاء هو شكر ذلك السعي الظاهر الفاضل، وشكره من اللَّه تعالى بالجزاء عنه، وهو النعيم المقيم، وبالرضا، وهو أعظم ما يثاب به العبد، وعبَّر سبحانه بِأنه شكور، أي أنه في ذاته يستحق الشكر، وهاتان الآيتان في معنى قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20).
وإن اللَّه خالق الناس ورب الناس يمدهم بما يريدون من رغبات بما يشاء، ولمن يريد، ولذا قال عز من قائل:(8/4357)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
(كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
أي كل فريق من هؤلاء وهؤلاء، وقالوا: إن التنوين هنا عوض عن المضاف إليه، ونمد نعطي المد، كمدد الجيش، لَا تذهب نعمة إلا أمدهم اللَّه تعالى بنعمة أخرى، والإشارة في (هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ) إلى الذين أرادوا العاجلة وتعجيل اللِّه لهم بمشيئته ومن يريد اللَّه أن يعجل له فهؤلاء هم الأولون، والآخرون يعطيهم اللَّه حرث الآخرة إذا قصدوا ما عند اللَّه وسعوا سعيها بالبر والعمل الصالح، وكان الإيمان يظلهم، فالإشارة في الحالين إلى صفات كل منهما في طلبه، وثنى هؤلاء، فقال: (هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ)، لأنهما نوعان مختلفان في الطلب والجزاء والأوصاف، وما ترتب على هذه الأوصاف.
وقال: (مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ) والإضافة إلى الرب فيه إشارة إلى أنه عطاء لا ينفد ولا ينتهي، فاللَّه هو رب الوجود وهو الذي يمده بالحياة، ويمده بالمدد المستمر(8/4357)
الذي لَا ينقطع، (وَمَا كانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا)، أي ممنوعا؛ لأنه ليس فوقه أحد يمنعه، وهو مُعْطٍ لَا يمنع، ولكن يجازي كلا بجزائه، فإن شكر كان له النعيم المقيم، وإن كفر بنعمته وأنكرها فإن له عذاب الجحيم.
ونرى من هذا أن اللَّه تعالى فضل بعض الناس بما سلكوا من سبل الخير، وعاقب بعض الناس بما سلكوا من الشر، وكيف من طلب العاجلة أخذ منها بما يشاء ولمن يشاء، ومن طلب الآخرة زاده في حرثه إن قصد الآخرة، وسعى لها وآمن، ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك:(8/4358)
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
(انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
أمر من اللَّه تعالى بأن ننظر نظرة تأمل في الحال التي فضل فيها بعض الناس على بعض في الرزق والمال، وأن اللَّه سبحانه يعطي في الدنيا كلا على حسب رغبته مع أن مشيئة اللَّه فوق هذه الرغبة، وأنه بهذا التمكين الرباني يكون من أعطاهم أفضل حالا من غيرهم فيكون من الناس الأغنياء والفقراء، ويفضل بعضهم على بعض في الرزق من غير أن يتبع تفضيل في الشرف أمر أو أية تفرقة طبقية، فالناس عند اللَّه سواء وأمام شرعه سواء، ولا فضل لغني على فقير، (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ. . .).
وإن ذلك الذي أشار إليه في الدنيا فقط، أما في الآخرة فطالبوها (أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا) والمعنى أن الذين أرادوا حرث الآخرة، فقصدوها مخلصين، وسعوا لها سعيها مؤمنين أكبر درجات أي أعلى وأسبق وهم في درجات عليا، وكلمة درجات لَا تكون إلا في العلو والشرف الرباني، وكذلك كان التعبير في قوله تعالى: (. . نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا. . .)، أي في الحياة الآخرة.
وقال (أَكْبَرُ تَفْضِيلًا) أفعل التفضيل ليس على بابه فلا موازنة في كثرة الفضل، بل المراد أنهم يلقون من الفضل كثرة ليس وراءه فضل لمستزيد، ونفينا(8/4358)
المقابلة؛ لأن طلاب العاجلة لَا فضل عندهم، لَا بقدر قليل، ولا بقدر كبير، بل هم يوم القيامة في العذاب الهون، والمنزلة الدون.
والاستفهام في (كَيْفَ) للتنبيه، وتقرير تلك الحقائق الثابتة.
* * *
وصايا الله وأوامره
قال اللَّه تعالى:
(لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
* * *(8/4359)
إنه بلا شك كانت أكثر الأحكام بالمدينة حيث اقتضت العدالة وتنظيم الجماعة، وإقامة بنائها على أحكام اللَّه تعالى، وعلى الفضيلة، والخلق العظيم، وكان بمكة أحكام قليلة كلها تمليها خصال المروءة والفضيلة، وإن لم تكن تنظيما لأحكام مفصلة تقوم عليها المدينة الفاضلة إلا أنها بمقتضى الفطرة الإنسانية في مبادئها الأولى، وأولها إفراد اللَّه تعالى بالعبودية، وقد ابتدأها بها لأنه كانت البعثة ابتداء لأجلها، ثم ثنى بالإحسان إلى الوالدين، وإيتاء ذي القربى، وإقامة الأسرة بالبر والمودة وصلة الرحم؛ لأن الأسرة أصل بناء المجتمع، والأسرة في الإسلام هي الممتدة لَا المقصورة على الزوجين والأولاد كما هو الشأن عند من لَا يعرفون الرحمة والبر بهما، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، وقد ابتدأ سبحانه بالوحدانية فقال:(8/4360)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
(لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ونبي الوحدانية كيف يخاطب بهذا، وهو بعث له ابتداء، والوحدانية أولى دعوته، ولها أوذي، ولها حورب، ولها جاهد، والجواب عن ذلك أنه خطاب له أولا ولمن بعث فيهم ثانيا، وذكر هو في القول ليكون مع من يدعوهم على سواء، وأنه مطالب بما تطالبون به، وأنه ما جاء ليكون مسيطرا، فذاته مصونة، لَا بل هو مطبق عليه ما يطبق على كل مؤمن، وينذِر كما ينذَر، ويخاف ويخوف، وهو مستقيم على الطريقة، وفي هذه التسوية التي يطويها الكلام دعوة إلى التوحيد بأقصى البلاغة وتحريض عليها، وقوله: (فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا)، أي فتقعد عن السمو إلى المكارم مذموما، لأنك لم تسم إلى علو الوحدانية، ويخذلك اللَّه تعالى يوم لَا تجد نصيرا سواه.
قد أمر اللَّه تعالى بعبادته سبحانه وحده، وهو مقتضى ألا يجعل مع اللَّه إلها آخر، فإذا كان النهي سلبيا في الآية السابقة فالأمر هنا إيجابي،(8/4360)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
(وقَضى ... (23)
هنا بمعنى حكم، وحكم اللَّه تعالى لَا يحتاج إلى إبرام مبرم، ولا يتطاول إليه نقض ناقض سبحانه وتعالى،(8/4360)
(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) هنا باء محذوفة، دل عليها دخولها بعد ذلك في قوله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) وهي معطوفة على (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) والمعنى حكم الله تعالى حكما دائما ثابتا بأدلته القاطعة، وآياته البينة بألا تعبدوا إلا إياه فلا يصح عبادة غيره، وهي إذا كان الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - فالحكم عام خوطب به الناس أجمعون، وأسند الحكم إلى (رَبُّكَ)؛ لأنه الخالق المنشئ المربي الذي خلقه وربه، وهو الذي أنزل الآيات، فذكر الرب ليكون الحكم مشتملا على أسبابه، وبعد أن حكم حكما تسجله كل الآيات في الوجود بألا يعبد إلا الله أعقبه بما يدخل في مضمونه، وهو الإحسان إلى الوالدين، ونجد دائما النهي عن الإشراك يقترن به دائما الإحسان إلى الوالدين فيقول سبحانه وتعالى مثلا: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. . .)،، وقوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا. . .)، وذلك كثير والحمد لله.
وكأنه في هذا يقرن حق الله تعالى الخالق بديع السماوات والأرض، بالمنشئ نسبيا بإذن الله، وهما الأبوان، والإحسان إلى الأبوين ليس هو كفالتهما، وإمدادهما بما يحتاجان إليه فقط، بل هو أعمق من ذلك في القول والعمل والحيطة بهما، ولعل أجمع تعبير عن ذلك هو تعبير النبي - صلى الله عليه وسلم - بحسن الصحبة، فقد سأله بعض الصحابة من أحق الناس بحسن صحبتي يا رسول الله؟ قال: " أمك " قال:
ثم من؟ قال: " أمك " قال: ثم من؟، قال: " أمك "، قال: ثم من؟ قال: " أبوك " (1) وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) لمزيد الاهتمام بهما ولإثبات أنهما أولى من دون الناس بالإحسان، فلا يكون الرجل كريما مفاخرا بالعطاء بين الناس، ولا يحسن إلى أبويه.
وقوله: (إِمَّا يَبْلُغَن عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا) (إما) هي إن المؤكدة بما، والتي يبلغ في تأكيد التعليق مبلغ القسم، ولذا تدخل معها نون التوكيد الثقيلة،
________
(1) متفق عليه، رواه البخاري: الأدب - من أحق الناس (5514)، ومسلم: البر والصلة - بر الوالدين (4621).(8/4361)
ولا تكون كذلك من غيرها، و (أَحَدُهُمَا) فاعل يبلغن، أو كلاهما معطوفة على أحدهما، والمعنى إن يبلغن عندك الكبر واحد منهما أو الاثنان فلا تقل لهما أُفٍّ.
والتوكيد في بلوغ الكبر، ذكو لحالهما الضعيفة التي تقتضي الرعاية والإكرام في القول والعمل، وقوله تعالى: (عِندَكَ) للدلالة على أنهما لجآ إليه لضعفهما ولشيخوختهما يعيشان في كنفه وظل قوته، ونعمته يرعاهما، ولا ظل لهما غير ظله، وقد تكون هذه الحياة المستمرة، مع ضعف الشيخوخة، واستقذار بعض ما يكون منهما أو من أحدهما داعيا لبعض الضجر، فتتفلت منه عبارة تضجر أو تأفف، فنهاه سبحانه وتعالى عن مثل هذا فقال: (فَلا تَقُل لَّهمَا أُفٍّ) وهو صوت يصدر عن الإنسان في حالة ضجره، فنهى حتى عن ذلك، وإذا كان صوت التأفف أو التضجر منهيا عنه، فغيره أولى، ولذا أردفه بقوله: (وَلا تَنْهَرْهُمَا) بأن يلومهما عن بعض ما يقع منهما، فإن ذلك منهي عنه، وذلك لأنهما تضعف مسئوليتهما لضعفهما في كل قواهما، وقال بعض العلماء: إن معنى النهر هو النهي، فهما من مادة واحدة، وكأنه لَا يتضجر منهما ولا ينهاهما؛ لأن النهر فيه منافاة لحسن الصحبة، فإن كان منهما ما يوجب النهي لَا ينهى، بل يتلطف في القول منبها إلى ما يريد من غير مصارحة بالنهي، ولذا قال: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا) بدل التأفف والنهي والنهر، والقول الكريم: هو القول الجميل الذي يكون فيه تنبيه إلى ما يجب من غير أن يظهر من التضجر أو التأفف أو النهر أو النهي، أو اللوم فإنهما قد بلغا سنا علت بهما عن التأديب والنهي. والنهر واللوم من أعمال التربية والتهذيب، ولا يليق بهما ذلك، بل يوطئ كنفه في الفعل والقول، ويصح الاستعاضة في التنبيه بالإشارة عن العبارة، وألا يتكلم إلا بما يرضيهما.
وإن الحياة واستمرارها في بيته قد توقعهما في شيء من ذلك، فلا بد أن يدَّرع بدرع يكون وقاية له من أن يقع في شيء من هذا، والدرع هو أن يملأ نفسه برحمتهما، وعين الرحمة عاطفة، ولا تكون لائمة أبدًا ولا تكون متأففة، ولا متضجرة أبدا، ولذا قال نعالى:(8/4362)
وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
(وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
الجناح هنا هو الحياطة والرعاية، وشبهت هذه المعاني بالجناح الذي يكون به قوة الطائر، وإضافة الذل إليه لتكون الرعاية ذلا لهما، وتواضعا من غير استكبار، وإن ذلك التطامن والانكسار من الرحمة لَا من الذلة، وكان خفض جناح من ذل، لا من الذلة، بل من الرحمة، وفوق بين ذل الرحمة، فهو عطف ورفق وتطامن، وذل الاستخذاء والمذلة، فهو ذل خنوع، وضعف من غير قوة، وإن هذا التعبير أعلى ما يمكن من تعبير العطف والرحمة، ولكنه كلام الرحمن الرحيم، وإن اللَّه تعالى طلب من عبده أن يقول داعيا لهما بالرحمة في كبرهما، فيقول تعالى: (وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، أي إنك لَا تملك أن تصنع لهما ما صنعاه وأنت صغير، فقد حدبا عليك في محبة يريدان بقاءك وأنت لَا تملك هذا فتملك ما يقبله اللَّه منك، وهو الكريم اللطيف الخبير، وهو الدعاء لهما بالرحمة مخلصا طيب النفس راضيا لعشرتهما مهما تكن حالهما من ضعف.
ولقد كتب الزمخشري صفحة في إكرام الأبوين ننقلها بحروفها لجمال لفظها، وكريم معناها - يقول - رضي الله عنه -: " ولقد كرر اللَّه تعالى في كتابه الوصية بالوالدين، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - " رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سحْطهما " (1)، وروي " يفعل البار بوالديه ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار، ويفعل العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة " (2)، وروي سعيد بن المسيب أن البار لَا يموت ميتة سوء، وقال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن أبوي بلغا من الكبر أن ألي منهما ما توليا مني في الصغر فهل قضيتهما؟ " قال: " لا، إنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما " (3).
________
(1) رواه الترمذي، ورجح وقفه، وابن حبان في صحيحه والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وانظر الترغيب والترهب للمنذرى (3768): 3/ 221.
(2) رواه ابن عساكر في تاريخه، كما في جامع الأحاديث للسيوطي: (18324) - ج 6/ 0 0 22 عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - مرفوعا.
(3) راجع الكشاف للزمخشري: 2/ 444.(8/4363)
وشكا رجل إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به، فإذا شيخ يتوكأ على عصا، فسأله فقال: إنه كان ضعيفا وأنا قوي، وفقيرا وأنا غني فكنت لَا أمنعه شيئا من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غني، ويبخلُ عليَّ بماله، فبكى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وقال: " ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى "، ثم قال للولد: " أنت ومالك لأبيك، أنت ومالك لأبيك " (1)، وشكا إليه آخر سوء خلق أمه فقال - صلى الله عليه وسلم -: " لم تكن سيئة الخلق حيث حملتك تسعة أشهر "، قال: إنها سيئة الخلق، قال الرسول الكريم: " لم تكن كذلك حتى أرضعتك حولين "، قال: إنها سيئة الخلق، قال - صلى الله عليه وسلم -: " لم تكن كذلك حين سهرت لك ليلها، وأظمأت نهارها "، قال: لقد جازيتها. قال: " ما فعلت؟ "، قال: حججت بها على عاتقي، قال - صلى الله عليه وسلم -: " ما جزيتها ". انتهى كلام الزمخشري في الكشاف.
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إياكم وعقوق الوالدين، فإن الجنة توجد ريحها مسيرة ألف عام، ولا يجد ريحها، لَا عاق ولا قاطع وحم ولا شيخ زانٍ، ولا جار إزاره. . . " (2).
وأن بر الأبوين أمر مستتر خفي يظهر في العمل، فهو إخلاص وفاء وإيمان بالحق، ووفاء وإكرام، وهو دليل على صلاح النفوس، وقد قال تعالى:
________
(1) رواه ابن ماجه: التجارات - ما للرجل من مال ولده (2282)، كما رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن عمرو بن العاص (6608).
(2) كنز العمل (44000) - ج 1/ 3295.(8/4364)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) إن اللَّه سبحانه وتعالى نهى عن أمور، نهى عن التضجر، وعن النهي لهما عن أي عمل، وأمر بأن يقول لهما قولا كريما وربما يكون فيهما المسيء وربما يكون منهما الظالم، فبين اللَّه سبحانه في هذا المقام وغيره مما يشابهه، فقال سبحانه وتعالى: إن الاعتماد على النفوس، وصلاحها، واللَّه تعالى يغفر هنات الأفعال،(8/4364)
وما لَا تقصد فيه، ولا يعمد فيه إلى الشر مقصودا، وإنما يحاسب على ما تكسبه النفس ويربد به القلب، ولذا قال: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكمْ) وأفعل التفضيل ليس على بابه، لأنه لَا مفاضلة بين علمه سبحانه وعلم غيره، فلا يعلم خفي النفوس إلا خالقها الرقيب على كل شيء، العالم بكل شيء، وإنما المراد من أفعل التفضيل أنه سبحانه عالم بالنقوس علما لَا يصل إليه علم قط.
وإذا كان يعلم النفوس، فهو يعلم ما تكسبه النفس، وتسوء به النية ويسود به القلب، ويعلم ما لَا يقصد سوءا، وليس فيه إساءة إلا أن تجيء عفوا من إيراد الشر، ولا نية.
وصدَّر الكلام بقوله: (رَبُّكُمْ) للدلالة على علمه الدقيق، لأنه هو الذي خلق وأبدع، وربى ونمى، (إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ) إن تكونوا في ذات أنفسكم صالحين بقلوبكم وأنفسكم، فإن اللَّه كان للأوابين غفورا، والصالح هو المستقيم النفس، المملوءة نفسه بالإخلاص، والطاهر القلب، فالاستقامة هي الصلاح كله والاستقامة تقتضي النية المخلصة والنفس النيرة، سأل بعض الصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرشده إلى كلمة يقولها فتهديه، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: " قل آمنت بالله ثم استقم " (1).
وجواب الشرط (إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ) هو كما أشرنا قوله تعالى: (فَإِنَّهُ كانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا) الأواب هو الذي يرجع إلى الحق دائما، فإذا ضل عن الطريق آب إليه، وإذا ابتعد قليلا عن العمل الصالح آب إليه، لَا يركس نفسه في شر أبدا، وبذلك يكون سريع التوبة لَا يعصي، ولا تريد نفسه معصية، فإن المعصية إذا عرضت على النفس نكتت نكتة سوداء، فإذا تكررت أربد القلب، فالأواب التواب لا تنكت في قلبه نكته سوداء، فيتوب، فيغفر له اللَّه، وقد وصف اللَّه تعالى ذاته الكريمة، فقال: (فَإِنَّهُ كَان لِلأَوّابِينَ غَفُورًا) وقد أكد ذلك سبحانه بـ إن وبـ كان، وبصيغة المبالغة، كما قال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى).
________
(1) رواه أحمد: مسند المكيين - حديث سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه (14869).(8/4365)
وبعد أن بين سبحانه حق الأبوين، وهو الإحسان في أعلى درجات الإحسان بين حق ذوي القربى فقال:(8/4366)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
(وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
وذو القربى هو ذو القرابة؛ لأن القربى مؤنث الأقرب، أي يعطى ذا القربى الأقرب فالأقرب حقه، وحق ذي القربى نوعان: حق العطاء إن كان فقيرا فإن عليه نفقته إذا احتاج، كما أنه يرثه إذا مات غنيا، وقد قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61).
ولا يقتصر العطاء على المحارم، بل ذوو الأرحام جميعا لهم حق في ماله إذا احتاجوا، وقد قال تعالى: (. . . وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبعضٍ فِي كتَابِ اللَّهِ. . .).
والنوع الثاني من حقهم أن يصلهم بالمودة الواصلة فيزورهم ويعودهم، ويتعرف أحوالهم، ولو كانوا لَا يصلونه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس الواصل بالمكافئ إنما الواصل من يصل رحمه عند القطيعة " (1)، ولقد قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن صلة الرحم تبارك في الرزق، وتبقي الأثر بعد الموت، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " من أراد منكم أن يبارك له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه " (2). وذكر الزمخشري
________
(1) رواه البخاري: الأدب - ليس الواصل بالمكافئ (5532)، والترمذي: البر والصلة - ما جاء في صلة الرحم (1831)، كما رواه أبو داود وأحمد.
(2) متفق عليه؛ رواه البخاري: البيوع - من أحب البسط في الرزق (1925)، ومسلم: البر والصلة - صلة الرحم وتحريم قطيعتها (4638).(8/4366)
حقهم غير المالي فقال: (حقهم صلتهم بالمودة والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة ونحو ذلك).
هذه إشارات إلى حق ذي القربى، وأما حق المساكين وابن السبيل، فهو إطعامهم، وكسوتهم، وإيواؤهم، وذلك بالصدقات يعطيهم، وألا يبت شبعان وغيره جوعان.
ونجد أن النص القرآني يشير إلى أن الأسرة ممتدة، وإلى أن الضعاف لهم حق في المال، وهو حق السائل والمحروم وأي مال في سبيلهم لَا يعد تبذيرا ولا إسرافا، إنما التبذير والإسراف في غير هذه الحقوق التي يجب سدها، وإن الحق الذي يلي حق الأسرة في المال حق المساكين وأبناء السبيل والفقراء بشكل عام، سواء أكانوا مساكين أم كانوا متجملين لَا يسألون الناس إلحافا.
وقد نهى سبحانه عن التبذير فقال عز من قائل: (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا)، وتبذير المال ليس هو صرفه في حقه، بل هو تفريق المال فيما لَا ينبغي وبالأولى إنفاقه في الحرام، ومما لَا ينبغي ويعد تبذيرا إنفاقه في المفاخرات، وكل إنفاق في حرام أو ما لا يحسن للفخر ولو قليلا يعد تبذيرا وإسرافا، ولقد روي عن مجاهد أنه قال: (لو أنفق إنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا، ولو أنفق درهما في غير حق كان مبذرًا).
وإن التبذير، وهو كما ذكر: الإنفاق في غير ما يكون: من سيطرة هوى المفاخرة، والمباهاة، وعدم احترام حق غيره، فلا يسرف من يعرف حق غيره عنده، ولذا قال تعالى:(8/4367)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)
والأخوة التي تعقد بين المبذرين والشياطين تكون من وجوه:
الوجه الأول: أن الإسراف يضيع الحقوق، والشياطين يحرضون على ذلك ويرضونه، كما روي عن ابن عباس أنه قال: ما من مسرف إلا وراءه حق مضيع.(8/4367)
الوجه الثاني: أن التبذير إضاعة رزق اللَّه تعالى، في غير نفع، بل في ضرر مؤكد، وهذا يرضي الشيطان، ويقرب المبذر إليه.
الوجه الثالث: أن التبذير كفر للنعمة والشيطان يحث على المعاصي، والمعاصي كلها كفر للنعم، وختم اللَّه سبحانه الآية بقوله: (وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)، أي أنه كافر بنعمة اللَّه كفرا بلغ فيه أقصاه فلعنه اللَّه.
وإذا كان الإسراف منهيا عنه، فالبخل أيضا منهي عنه، والاعتدال هو المطلوب ولا يكلف إنسان ما لَا يقدر عليه، ولذا قال تعالى:(8/4368)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
(وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
الإعراض عن العطاء ألا يعطي، ولا يمنع بل يسكت كأنه المعرض، ولا يستحسن المنع؛ لأن المنع فيه إيئاس من العطاء، ولا يريد ذو المروءة ألا يلقى اليأس والرد القاطع المؤيس في نفمص طالب، ولكنه لَا يعطي عجزا، أو لعدم استحقاق الطالب، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن وراء خطابه خطاب أمته، والآية تأديب كريم وتوجيه إلى ما يكون عندما لَا يكون مال يجب العطاء منه، أو عندما لَا يكون موجب للعطاء.
و (إِمَّا) هي (إن) المدغمة في (ما) التي تفيد توكيد الإعراض بتوكيد حاله أو توكيد موجبه، ولذلك كانت نون التوكيد الثقيلة، كما تكون عند القسم.
وفى قوله تعالى: (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ من رَّبِّكَ تَرْجُوهَا) تخريجات ثلاثة، وكلها يؤدي إلى معنى سليم في ذاته:
التخريج الأول: أن يكون (ابْتِغَاءَ) تعليلا للإعراض أي أن الإعراض لتبتغي رحمة بهم من ربك ترجوها؛ كأن ينفقوها في معصية أو خمر، فالرحمة التي يبتغيها بالإعراض هي منعهم من المعاصي أو عدم تسهيلها لهم، بعدم المعاونة عليها، وهذا حسن في ذاته، وربما يكون بعيدا بالنسبة للمسكين وابن السبيل، وهو القريب المنقطع عن ماله، وقد يكون مقصودا بالنسبة للقريب، وأولئك هم موضوع الإعراض، - لأن الضمير في قوله تعالى: (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) يعود إلى هؤلاء.(8/4368)
التخريج الثاني: أن يكون قوله تعالى: (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا) متعلقا بجواب الشرط، أي فقل لهم قولا ميسورا طلبا لرحمة من ربك ترجوها، برجاء يسر بعد عسر، أو لأن الجواب الجميل عند الإعراض فيه رحمة بهم لَا تقل عن رحمة العطاء.
والتخريج الثالت: أن يكون قوله تعالى (ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ من رَّبِّكَ تَرْجُوهَا) متعلقا بالشرط لَا بالجواب، على أن يكون المعنى هكذا: إما تعرضن عنهم لفقد القدرة على العطاء مع رجاء رزق هو رحمة من ربك ترجوها، لتعطيهم عند تحقيق الرجاء وهذا هو أقربها؛ إذ مؤداها أنك ترجو رزقا، وقد طلب منك العطاء في وقت لَا مال معك، فلا تردهم ردا قاطعا مانعا، رجاء الرزق.
وجواب الشرط (فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا)، أي قولا سهلا لينا من غير جفوة، بل في عطف يدنيهم ولا يبعدهم، والميسور بوصف اسم المفعول من يُسر، بالبناء للمجهول كُسعَدَ في قوله: (وَأَمَّا الَّذِين سُعِدُوا ففِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا. . .)، وَالقول الميسور لَا يكون فيه قطع عن العطاء بل فيه رجاء لهم، كقوله يسر اللَّه لي ولكم، أو أعطاني اللَّه وأعطاكم.
وبعد أن نهى سبحانه عن التبذير، وأمر بالعطاء أمر بالاعتدال فقال:(8/4369)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
(وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
معنى النهي في قوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ)، نهى عن البخل بأبلغ تعبير، وفيه استعارة، وهو تشبيه البخيل بمن شد يده بغل من حديد إلى عنقه، فلا تمتد بعطاء قط، ولا تستطيع سد حاجة معوز، ولا إمداد مستغيث بقوت، والجامع في التشبيه هو عدم العطاء؛ لأن البخيل غله بخله فلم يعط، والمشدود شدت يده فلا تتحرك، والبخل يؤدي إلى الذم من الناس.
وقوله تعالى: (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) ومعنى بسط اليد فتحها بحيث لا تقبض شيئا يستولي على ما فيها من يستحق ومن لَا يستحق فلا ينضبط عطاؤه،(8/4369)
بل ينفق من غير ضابط يضبط، وقد شبه المسرف بمن تبسط يده يؤخذ ما فيها من غير إرادة صاحبها ومن غير تقديره، ومن غير تعرف من يستحق فيعطيه، ومن لا يستحق فيمتعها، بجامع ضياع المال من غير إرادة حكيمة مقدرة، تضع الندى في موضع المندى، وتمنع من يستحق المنع.
وقد بينِ اللَّه تعالى نتيجة البخل والإسراف، فقال تعالت كلماته، (فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وما قبلها هو البخل والإسراف، فقوله تعالى: (فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)، و (تَقْعُدَ) هنا أي تصير في حال قاعدا فيها ملوما على بخلك، محسورا بضياع مالك في غير حقه، ففي الكلام لف ونشر مرتب، كما قال ابن كثير: أي فيكون ملوما في حال البخل، ومحسورا في حال الإسراف، ومحسورا، أي أصابته الحسرة على ضياع ما في يده، وصيرورته فقيرا بعد أن كان غنيا، ونقول محسورا من حسر في السفر لا يستطيع الحركة، ويكون في الكلام تشبيه حال من أصبح لَا مال له بحال المحسور في السفر، الذي انقطع عن أهله، كما انقطع هذا عن ماله.
أو نقول إنه محسور، أي كليل عاجز كالدابة المحسورة العاجزة، كما في قوله تعالى: (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ)، أي كليل.
والواقع أن الإسراف يجعل المسرف في حسرة على ماله الذي أضاعه ويجعله مقطوعا عما كان له من مال كالمسرف المحسور ويجعله كليلا متعبا، لأن اللَّه أعطاه رزقا فأضاعه.
روى في الصحيحين أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من يوم يصبح العباد إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا " (1).
________
(1) متفق عليه، رواه البخاري: الزكاة (1351)، ومسلم: الزكاة - في المنفق والممسك (1678).(8/4370)
وإن بخل البخيل سببه حرصه على المال، وأنه يضيع إن ذهب، وإسراف المسرف سببه عدم احترامه لحق المال، فبين الله تعالى خطأ البخيل في تقديره، وخطأ المبذر في تبذيره، فقال تعالى:(8/4371)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
(إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
إن اللَّه سبحانه وتعالى هو مانح من يرزقه، وهو مقدر الرزق، وإذا كان الأمر كذلك فلا محل للبخل؛ لأنه يعطي الرزق فربما يعطي خلفا لما ينفق ولا محل للإسراف؛ لأن الإسراف ينافي شكر النعمة، ومعنى يبسط يوسع أي يجعله موسعا مبسوطا، (وَيَقْدِرُ)، أي يجعله محدودا ليس بكثير، وقد قال في شأن الإنفاق: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ. . .).
إن الأرزاق بيد اللَّه يعطي من يشاء عن سعة، وهو له مختبر، فإن أنفقها في خير كان شكرا لها، واللَّه يقول: (. . . لَئِن شَكَرْتُم لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، وإذا كان كله من اللَّه السعة والفقر، فإن ذا السعة لَا يغتر فيسرف، أو يبخل، والذي قدر عليه رزقه فليعلم أنه عطاء اللَّه أعطاه لحكمة أرادها، والشكر حينئذ هو الرضا بها، والصبر، وقد وصف اللَّه تعالى المؤِمنين فقال تعالت كلماته: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُروا وَكَانَ بَيْن ذَلِكَ قَوَامًا)
وإن ذلك لحكمة أرادها، فربما يعطي ليظهر طغيان من أعطاه، أو شكره، ولذا ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله: (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) الضمير يعود في (إنه) إلى اللَّه العليم علم الخبير الذي أنشأ، علم من يرى ويبصر، فهو الذي قدر وأعطى، وهو الذي قدر وقلل، وللغني الشاكر فضله عند الله، وللفقير الصابر قدره.
وقد صدر الآية الكريمة بقوله سبحانه: (إِنَّ رَبَّكَ يَبسُطُ. . .) فذكر الرب المنشئ القائم على كل شيء الذي يعطي كل إنسان قدره من هذه الحياة ويهديه.
* * *(8/4371)
نواهي الله لتطهير الجماعة
قال اللَّه تعالى:
(وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
* * *
بين الله أنه لَا يصح أن يبخل خوفا على المال وشحا به، وإنه لَا يصح أن يسرف، فالإسراف تفريق للمال في غير مصارفه، ثم بين أن اللَّه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأشد أنواع الحرص والخوف من الفقر قتل الولد خشية الفقر، ولذا جاء النهي عن قتل الأولاد خشية الإملاق وتلك مناسبة واضحة بين الآيات، وترى أن الآيات غير مقطعة بعضها عن بعض، بل هي موصولة يأخذ بعضها بحجز بعض، وهنا أمر آخر، وهي أن الآيات السابقة كان فيها بناء الأسرة على المودة والمحبة، وبناء المجتمع على رعاية الضعفاء كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " ابغوني في ضععفائكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم " (1) وبعد بيان
________
(1) سبق تخريجه.(8/4372)
الأسرة وحماية الضعفاء، وفي ذلك بناء المجتمع بناء صالحا ثابتا، أخذ ينهى عن آفاته، وابتدأ بأشدها نكرا، وهو قتل الأولاد خشية الإملاق، فقال:(8/4373)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
(وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا).
الإملاق هو الفاقة، وشدة الفقر، وأصلها اللغوي أملق الرجل إذا لم يبق له مما يملك إلا الملقات، وهي جمع ملقة، وهي الحجر الأملس الذي لَا يقف الماء عليه، ولا ينبت زرعا، وذلك كناية عن أنه لَا يملك ما يقوتهم به.
أي لَا تقتلوا أولادكم خشية الفاقة، وألا تملكوا لهم ما لا تنفقون عليهم منه، و (خَشيَةَ إِمْلاقٍ) تفيد أنهم الآن مالكون ما ينفقون منه، ولا يقتلونهم لذلك بل يقتلونهم خشية أن يتكاثروا فيكون الإملاق، ولذا قال تعالى: (نَّحْنُ نَرْزُقُهُم وَإِيَّاكُمْ) بتقديم رزقهم عليهم؛ لأنهم يخافون موتهم من جوع، فيسارعون بقتلهم، فاللَّه تعالى أمنهم على رزق هؤلاء الأولاد، وفي تقديم رزق الأولاد إشارة إلى أمرين: أن رزقهم يتبع رزق الأولاد، فإن قتلوهم فقد حرموا هم أيضا الرزق ثم إن الأولاد ذاتهم رزق من اللَّه.
وبعد هذا الترغيب، وتسهيل الأمر عليهم، بين أثر ذلك القتل أو أشار إليه فقال تعالى: (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا) أي إثما، فالخطأ: الإثم والوزر، وقرئ بفتح الخاء (1) على أنه من الوزر أيضا، لأنه من خطئ يخطَأ خطأ، كأثم يأثم إثما يقال: إثما، ويقال خِطأ بمعنى الوزر، كما يقال حَذِرَا وحِذرا بفتح الحاء والكسر.
ووصفه سبحانه بالكبر منكرا، دليل أنه خطأ عظيم أشد ما يكون الإثم إذ إنه يؤدي إلى فناء الأمة أو ضعف نسلها، وفي ضعف النسل ذهاب ريحها وقوتها.
والقتل المنهي عنه في الآية يشمل ما كان في عصر نزول القرآن وما قبله من أعمال الجاهلين، من وأد البنات، وما يقوم به الآن بعض المنحرفين المعاندين الذين
________
(1) قراءة (خطئا) بفتح الحاء والطاء: يزيد (أبو جعفر المدني) وابن ذكوان. غاية الاختصار: 2/ 546.(8/4373)
يمنعون النسل، أو يحددونه، أو يضبطونه، أو ينظمونه، أو غير ذلك من العبارات المقلدة التي يدعون إليها المسلمين ولا يدعون إليها النصارى واليهود. روي في الصحيحين عن عبد اللَّه بن مسعود: " قلت يا رسول اللَّه: أي الذنب أعظم قال: " أن تجعل لله ندا وهو خلقك "، قلت: ثم أي؟ قال: " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك "، قلت: ثم أي؟ قال: " أن تزاني بحليلة جارك " (1).
وقد قال تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9).
قالوا إن في الآية نهى عن القتل، وضبط النسل أو تحديده أو تنظيمه، هو بمنع الحمل، لَا بالقتل بعد أن يولد حيا، ونقول في الجواب عن ذلك إن ذلك وأد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر أخبار العزل: " العزل هو الوأد الخفي " (2) ومهما يكن فإنه محاربة لإرادة اللَّه وتحد؛ لأن اللَّه هو الرزاق، ومعاندة لصريح الآية (نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ).
ولقد رخص الإمام الغزالي في العزل لأسباب كثيرة، ولكنه قرر أمرين:
الأمر الأول: أنه لَا يجوز العزل لحال الخوف والفقر؛ لأن ذلك يكون مصادمة صريحة للنص القرآني، وإن الأرض لم تضق بسكانها، فلم ينل من خيرات إلا بعضها القليل، وأرض المسلمين واسعة.
الأمر الثاني: أن العزل في أي حال رخص فيها مما لَا ينبغي أي أنه لَا ينبغي بالجزء فلا يجوز بالكل، واللَّه أعلم. بعد النهي عن قتل الأولاد رجاء ما يؤدي إلى قتل الأولاد أو ضياعها أو فيه بشكل عام إضعاف للنسل فقال تعالى:
________
(1) متفق عليه، رواه بنحو من ذلك البخاري: البخاري: تفسير القرآن - قوله تعالى: (فلا تجعلوا لله أندادا) (4117)، كما رواه في خمسة مواضع أخرى بالفاظ متقاربة، ومسلم: الإيمان - كون الشرك أعظم الذنوب (124)، (125). عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه.
(وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)(8/4374)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
النهي عن قرب الزنى، وهو يتضمن النهي، فلم يقل سبحانه: لَا تزنوا، بل قال: لَا تقربوا، وهذا يتضمن النهي عن الزنى وعن كل ما يؤدي - أو يظن أنه يؤدي - إليه، كالقبلة والملامسة، ورؤية الأجزاء المغرية من جسم المرأة، والرقص الذي يثير الغريزة الجنسية، وأصوات النساء المغرية التي تتلوى فيها المرأة بما يثير ويدفع، ونشر الصور العارية، وغير ذلك مما نراه ونسمعه كل يوم، فكل هذا منهي عنه، وهو حرام، لأنه قرب من الزنى أو ذريعة إليه، وكل ما كان حراما في ذاته فذريعته ممنوعة، وهذا باب يسمى في الفقه سد الذرائع، فكل ما يؤدي إلى حرام لذاته يكون حراما لأنه يؤدي إليه.
والزنى يؤدي إلى ضياع النسل، فإذا كان وأد الأولاد محرما؛ لأنه يضعف النسل، فالزنى يضيع النسل، ويذهب بقوة الأمة، وما كثر الزنى في أمة إلا عمها الخراب، وضاعت فيها الأنساب بل ضاع نسلها، واعتبر ذلك بالأمم التي تنحل بشيوع الزنى فيها، فإنه يقل عددها، ويضيع نسلها، ويكثر فيها الأولاد الذين لا آباء لهم، وإن البلاد الأمريكية والأوربية لكثرة الزنى فيها، وانحلالها قل نسلها، والمسلمون مهما تكن حالهم في القرب من الإسلام أو البعد لَا تزال هذه الفاحشة ليست كثيرة فيهم ولكثرتها عند الأمريكان والأوربيين يعملون على إضعاف النسل بين الذين تغيظهم كثرتهم بأمرين:
الأمر الأول: إشاعة اللهو والمجون لتفرغ من الحقائق الإسلامية ولتميع نفوسهم كما ماعوا.
الأمر الثاني: العمل على منع النسل أو منع كثرتهم بدعايات منظمة وأموال يبذرونها في المسلمين لتعم هذه الدعاية فيهم.
وقد وصف اللَّه الزنى بقوله تعالت كلماته: (إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) وصفه اللَّه سبحانه بأنه فاحشة، أي أنه حال قبيحة مفرطة في القبح زائدة زيادة زيارة، (وَسَاءَ سَبِيلًا)، ساء تستعمل بمعنى أفعل التعجب أي ما أسوأه سبيلا وطريقا في الحياة؛ لأنه اعتداء على الفضيلة، ويؤدي إلى انحلال الأسرة،(8/4375)
وانحلالها انحلال للمجتمع. وبعد بيان أسباب قتل الأمة نهى سبحانه عن القتل المباشر فقال سبحانه:(8/4376)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
(وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
تدرج في النهي، فالنهي الأول كان عن قتل الأولاد، ثم حرم ما يؤدي إلى ضياع الأولاد وموتهم، وضياع النسل وانحلال الجماعة ثم نهى النهي الصريح، (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ) وعبر بالنفس؛ لأن القتل، وإن اتجه إلى الجسم، غاية الاعتداء عليه، وإزالتها من الوجود، وقد صرح اللَّه تعالى بأنه محرم قتلها، فهو وصف كاشف مبين دل على التحريم القاطع الذي لَا مسوغ له، وقوله تعالى: (إِلَّا بِالْحَقِّ)، استثناء من النهي، وقد صرح اللَّه تعالى ببعض المسوغات أو الحال التي يكون فيها القتل فقال: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا. . .).
وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى القتل بالحق فقال: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، وزنية ثيب، وردة بعد إيمان " (1).
وإن القتل أشد الجرائم، فقد قال: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93).
والنبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشافعي: " لزوال السماوات والأرض أهون عند الله من قتل امرئ مسلم بغير حق " (2).
ولذلك سوغ اللَّه تعالى لولي المقتول أن يطالب بدمه، (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) ووليه هو قريبه بالعصبة، ويكون ولي الأمر وليا في المطالبة
________
(1) رواه البخاري: الديات - قول الله تعالى أن النفي بالنفس (6370)، ومسلم بنحوه: القسامة والمحاربين - ما يباح من دم المسلم (3175).
(2) كما رواه بنحوه ابن ماجه عن البراء بن عازب، والترمذي والنسائي عن عبد الله بن عمرو. وقد سبق تخريجه.(8/4376)
بدمه إذا لم يكن له ولي عاصب، وإذا كان قاتله هو ولي الأمر الأكبر وعجز وليه العاصب عن المطالبة بدمه فإن المسلمين جميعا عليهم أن يطالبوا بالدم، لأنهم أولياؤه؛ ويكونون عصاة مذنبين إذا لم يطالبوا بدم من قتل مظلوما، ولو كان القاتل هو الخليفة الأعظم، ولو خذلوه، ولم يطالبوا بدمه يكونون آثمين وعصاة، وبترك ذلك الواجب المقدس ذهبت قوة المسلمين.
وقد روى التاريخ الكثير عن قتل الحكام الظالمين لبعض أهل الإيمان، وسكوت المؤمنين، ورأينا في عصرنا من قتل المؤمنين قتلة فاجرة والمسلمون ساكتون ينظرون، ومن يتسربلون بسربال الدين يبررون ويحثون، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم، وإنه من مقررات الإسلام أنه لَا يهدر دم في الإسلام، كما روي عن علي كرم اللَّه وجهه أنه لَا يُطَلّ دم في الإسلام.
وقوله تعالى: (فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّه سُلْطَانًا)، أي تسلطا على القاتل، يتتبعه حتى يقتضي الحاكم منه، وقوله تعالي: (فَلا يُسْرِف فِي الْقَتْلِ) بقتل غير القاتل أو بقتلِ كثيرين في واحد، كما كان يفعل أهل الجاهلية، ومن الإسراف المُثلة، (إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا)، أي إن اللَّه ناصره، وقد خذله حقه فلا يتجاوزه، وقد خيره النبي - صلى الله عليه وسلم - بين القود أو العفو أو الدية فإن زاد عن الثالثة فخذوا على يديه.
وإن اللَّه سبحانه بين حق القرابة، وحق الضعفاء من المساكين وأبناء السبيل، ثم بين بعد ذلك من يجتمع فيهم أحيانا حق القرابة والضعف، وأحيانا لَا تكون لهم قرابة راحمة، بل يكونون في رحمة اللَّه، والجماعة تكنفهم، فقال تعالى:(8/4377)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
(وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
اليتيم إما أن يكون قوة بانية في الجماعات أو قوة هادمة، فإن روعي حق رعاية، وحوفظ عليه بالصيانة والتربية والتنشئة نشأة صالحة يحس بأن من حوله يرعاه، ويكلؤه ويحميه نشأ محبا رحيما بغيره، لأنه عاش برحمة غيره، وإن نشأ(8/4377)
في بيت لا يؤنسه ولا يكرمه، ولا يعطيه محبة ورفقة نشأ عدوا للجماعة، وكان فيه ما يسمى عقدة النفس، أو مركب النقص، ولذا عني به الإسلام أبلغ عناية بنصوص القرآن الكريم مثل قوله تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)، وقوله تعالى: (. . . وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ. . .)، وترى القرآن الكريم قد حث على المخالطة لأن المخالطة مع الإكرام تؤنسهم وتبعد عنهم الوحشة، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " خير البيوت بيت يكرم فيه يتيم وشر البيوت بيت يقهر فيه يتيم " (1).
وإن اليتيم إن كان فقيرا كان في رحمة المجتمع بأمر اللَّه تعالى، ولقد قال تعالى: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17).
وإذا كان اليتيم ذا مال، تهافت عليه الطامعون، كما يتهافت الذباب على الطعام الحلو الذي لَا حامي له، فتعقد نفس اليتيم بما يحص به من طمع الناس، وأكلهم ماله أَكْلًا لَمًّا، ويحس كأنه في مذأبة لئام، ولأنه يناله الحرمان والقهر، وهو ذو مال، ولذا نهى اللَّه تعالى عن أخذ ماله ووجوب رعايته، والمحافظة عليه، ولذا قال تعالى: (وَلا تَقْرَبوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ونهى سبحانه عن القرب من ماله إلا بالتي هي أحسن، وذلك يتضمن ثلاثة أمور:
الأمر الأول: ألا يأكله أو ينهبه أو يأخذه بغير حق، وإنه لضعيف يسهل أخذ ماله من غير حسيب إلا اللَّه.
الأمر الثاني: أنه إذا قربه يقربه بالتي هي أحسن أي بالطريقة التي أحسن، وأدعى لحفظه، وذلك بالمحافظة عليها وإعطائها اليتامى في وقت قدرتهم على
_________
(1) سبق تخريجه.(8/4378)
إدارتهم، كما قال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ. . .).
الأمر الثالث: أن يعمل على تنميتها، فإن ذلك من الطريقة التي هي أحسن، وأن يدفع زكاة أمواله، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اتجروا في مال اليم حتى لا تأكله الصدقة " (1).
نهايته أن يبلغ أشده، ويؤنس رشده، ويختلف ذلك باختلاف العصور والمعاملات، فيبلغ الرشد حيث لَا تكون المعاملات، معقدة بحجر كبلوغ النكاحِ، ثم تعلو سن الرشد كلما تعقدت المعاملات وهذا ما يرمي إليه قوله تعالى: (حتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)، أي أعلى قواه العقلية والبدنية ويستطيع أن يدير ماله بنفسه من غير رقابة، والأشد هو القوة العالية على صيغة الجمع من غير مفرد وقيل له مفرد وهو شدة بمعنى قوة ولكن لم يعهد جمع فعلة على أفعل، وقيل جمع شد يجمع على أشد مثل كلب وأكلب.
وأطلقت كلمة أشد على بلوغ الأربعين، كما في قوله تعالى: (. . . حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. . .)، وهي التي تجمد فيها العادات والتقاليد ويعلو صاحبها عن الردع، ولذا قال بعده: (. . . وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ. . .).
ولقد قال في ذلك الأصفهاني: " إن الإنسان إذا بلغ هذا القدر يتقوى خلقه الذي هو عليه، فلا يكاد يزايله بعد ذلك ". وما أحسن ما قاله الشاعر:
إذا المرء في الأربعين ولم يكن ... له دون ما يهوى حياء ولا ستر
فدعه ولا تنفِس عليه الذي مضى ... وإن جر أسباب الحياة له العمر
وقد قرن سبحانه أنهى عن القرب من مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن بالأمر بالوفاء بالعهد فقال تعالى: (وَأَوْفُوا يِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْئولًا)، العهد هو عهد
________
(1) سبق تخريجه.(8/4379)
اللَّه تعالى بالإيمان به والقيام بحق التكليف، والعهد الذي يعاهد الناس عليه في معاهدة أو عقد أو غير ذلك مما يرتبط به أمام الناس موثقا العهد بيمين اللَّه تعالى أو غير موثق، وعلل الأمر بقوله تعالى: (إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئولًا)، أي أنه يسأل إذا نكث فيه، ويسأل إذا لم يوف به على الوجه الكامل وهو تحت رقابة اللَّه تعالى وكفالته، فلا يصح التفريط فيه، وقد بينا طلب الإسلام للوفاء بالعهد في قوله: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91).
وقد يسأل سائل لماذا اجتمع الأمر بالوفاء بالعهد مع النهي عن قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن في آية واحدة؟ ونقول: إن ذلك يشير أولا أن اليتيم مع كافله كأنه في عهد أمانة عاهد اللَّه تعالى عليه فلا يضيع ذلك العهد، ويشير ثانيا إلى أن العقد في مال اليتيم يجب الوفاء به كما يجب الوفاء في مال غيره، ويشير ثالثا إلى أنه مسئول أمام اللَّه عما فعل في مال اليتيم، واللَّه أعلم.
بعد أن بين اللَّه تعالى ما يقوم عليه بناء الأسرة، والمجتمع وما يحفظه من الآفات بين ما ينميه وهو العدالة في التعامل فقال:(8/4380)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
أوفوا الكيل: قدموه وافيا إذا كلتم، وزنوا بالقسطاس المستقيم، القسطاس هو الميزان، والقسطاس كلمة في أصلها رومي، ولكنها عربت وما يعرب يكون عربيا، وإن اللغات تنمو بزيادة ألفاظ فيها ولو كانت مستعارة من غيرها، ولا يطعن في القرآن بأن فيه عربيا على ذلك النحو؛ لأنها صارت عربية بتعريبها ما دام النحو سليما والبناء قويما.
والقسطاس المستقيم أي السوي الذي لَا يميل ميلا غير سليم، فيزن بالباطل و (ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأوِيلًا)، أي ذلك خير في ذاته لأنه عدل في المعاملة، وبه(8/4380)
تستقيم أمور الناس، ويطمئنون (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)، أي أحسن مآلا، فإن العدل والتساوي في المعاملة مآله في الأمم حسن دائما.
وإن ذكر الكيل والميزان لأنهما حسيان، ولكنهما رمز لكل المعاملات التي تكون بين الجماعة، فالمعاملة العادلة تربط الناس برباط من القوة لَا تنفصم، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " عامل الناس بما تحب أن يعاملوك " (1)، فذلك هو القانون العادل الذي يصلح الناس في هذه الحياة.
* * *
طلب الحق هو السبيل إلى الخير
قال اللَّه تعالى:
(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
* * *
هذا بيان للطريق السوي الذي يسلكه المؤمن للوصول إلى الحق، وهو ألا يتبع الأوهام، فما ضل الناس إلا باتباع الأوهام، ووراء الأوهام ودأب العقول غير المدركة تكون الأهواء والشهوات وضلال الأفهام، ووراء ضلال الأفهام عبادة الأوثان، ولذا قال تعالى:
________
(1) سبق تخريجه.
(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)(8/4381)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
القفو معناه التتبع، وأصله ما يؤدي إلى الكذب أو القذف أو البهتان، ومنه القائف وهو المتتبع للآثار، وأصله القياس وهو العلم بالحدس والتخمين وإلا كان كما يعبر الشافعي، الظن الذي لَا يبنى على أساس علمي، وقد قال تعالى:
(. . . وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا).
والآية تنهى عن أن يتبع ما ليس عنده أسباب للعلم به، أو ما ينافيه العلم الصحيح والوقائع البينة كشهادة الزور، وقذف المحصنات وتتبع عورات المؤمنين ليعلنها، وقد سترها الله تعالى عليهم، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله تعالى في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج " (1).
ويقول ابن كثير بعد أن روى أقوال الصحابة في قفو ما ليس له به علم، ومضمون ما ذكره: أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم بل بالظن الذي هو التوهم والخبال، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ. . .)، وإن تتبع الأمور من آخذ العلم من غير مظانه يحل عرى العقل، حتى يتوهم ما ليس بحق، ويفتري ما لم ير، ولم يسمع، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن أفرى الفرى أن يُرى الرجل عينيه ما لم تريا " (2)، وإن نتيجة قفو الإنسان والحكم بغير علم يؤدي إلى ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يرى عينيه ما لم تريا بعين خياله، وإن ذلك هو الخبال، وقد سمعنا في مصر منذ بضع سنين شائعة بين الناس أشاعها النصارى أنهم رأوا صورة العذارء، وادعوا أنهم رأوها، وما رأوها.
وإن اتباع الأوهام يجيء دائما من أن يقفو الرجل ما لم يكن عنده أسباب العلم به، فيتخيل ثم يخال، وذلك هو الخبال، وكذلك تنشأ العقائد الباطلة من عبادة الأوثان، والتثليث، وغير ذلك من العقائد الباطلة التي تنشأ من الأوهام وأن يرى العين ما لم تر، فذلك هو الضلال المبين.
________
(1) رواه أحمد: مسند المكثرين (5285).
(2) رواه أحمد - مسند المكثرين (5453).(8/4382)
وقد بين اللَّه طريق العلم الهادي المرشد، وهي هبات اللَّه تعالى التي وهبها للإنسان فقال: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)، هذه طرائق؛ فالسمع ينقل العلم الغيبي وينقل العلم الحسي، والفؤاد وهو هنا العقل يربط بين ما سمع وأبصر من آيات، ويكون حكمه القطعي الرشيد.
وإنها مسئولة فيسأل السمع لماذا لم يسمع الحق وينصت إليه، ويسأل البصر لماذا لم ير الآيات وينظرها نظرة إدراك وتعرف، والعقل لماذا لم يفكر فيما تنقله إليه الحواس، ولماذا لم يأخذ بأسباب العلم ويتبع الأوهام فيكون الخبال ووراءه الضلال.
وقوله: (كُلُّ أوْلَئِكَ) الإشارة إلى السمع والبصر والفؤاد، وكل واحد منها كان مسئولا بمفرده، ومسئولا في جماعته و (أولئك) يشار بها إلى الجمع مذكرا كان أو مؤنثا، أو كان خليطا واللَّه تعالى أعلم.
ونهى الله تعالى بعد ذلك عن العُجْب والخيلاء، وهو سبيل الضلال كالأوهام:(8/4383)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
(وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
" المرح " الخيلاء والعُجْب، والفرح بما أوتي من صحة أو كل مال أو جاه أو سلطان، ومرَحا مصدر أي ذا مرح، وهناك قراءة بالكسر (1)، وتكون حالا أي مَرِحا معجبا مختالا متزينا معتزا بما أعطيه.
قال تعالى: (إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ)، أي تخترقها بوطائك مهما تكن قوتك، (وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا)، أي لن تتناهد السماء وتناصبها، حتى تبلغ طولها، وتعلو عليها، أي إنك مهما تكن في قوتك لن تكون قادرا على خرق الأرض أو التطاول إلى السماء، وهذا يدل على عجزه مهها زعم نفسه قويا، وأنه
________
(1) قراءة (مرحا) بكسر الراء، لم أجدها في العشر المتواترة.(8/4383)
مهما يتفاخر فهو قمىء (1) لَا يقدر على شيء مهما يعط نفسه من فخار، وكأن في الكلام تشبيها لحاله بحالة من يحاول أن يخرق الأرض بقوته أو يعلو إلى السماء بغروره، وإن ذلك مستحيل فكذلك ما يزعمه لنفسه مستحيل.
وإن هذا من الكبر والخيلاء، وهما يؤذيان الناس ولا ينفعان صاحبهما، ولقد قال النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -: " من تواضع لله رفعه " (2) فهو في نفسه حقير وعند اللَّه كبير، ومن استكبر وضعه اللَّه فهو في نفسه كبير وهو عند اللَّه حقير.
وإن الكبر يسيء إلى الناس؛ لأن المتكبر يستعلي عليهم ويضيع حقوقهم، ولا يباليهم ولا يحس بإحساسهم ويشمخ بنفسه كأنه فوق التبعة، ولا يسأل عن فعله وحاله، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " الكبر بطر الحق، وغمط الناس " (3).
________
(1) القمىء: الذليل الصغير حجما أو قدرا. القاموس المحيط (ق م أ).
(2) رواه مسلم: البر والصلة والآداب (4689)، كما رواه الترمذي وأحمد ومالك والدارمي.
(3) سبق تخريجه.(8/4384)
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
(كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
الإشارة إلى المذكور قريبا هو المشي مختالا مرحا معجبا بنفسه، (سَيِّئُهُ) يقرأ بالضمير أي يسوء في ذات نفسه ويسيء لغيره وهو عند اللَّه مكروه مبغوض، فيلتقي فيه أمران مذمومان:
الأمر الأول: أنه في ذاته عمل سيئ ويسوء الناس.
والأمر الثاني: وهو الأهم: مكروه مبغوض عند اللَّه تعالى.
إن الكبر ينبعث من إحساس بأنه أوتي ما لم يؤت غيره.
وإننا نشاهد ذلك في بعض المنتسبين للعلم، إذ أعطوا لأنفسهم مكانا ليس لهم أو اتصلوا بالحكام الظالمين، وقد رأينا ذلك في عصرنا، ورأيناه يذكر عمن كانوا قبلنا، قاك الناصر أحمد الذي مات في القرن السابع، فقد قال في قوله(8/4384)
تعالى: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا): وفي هذا من التهكم والتقريع لمن يمشي هذه المشية كفاية في الزجر عنها، وقد حفظ الله عوام زماننا عن هذه المشية، وتورط فيها بعض قراؤنا وفقهاؤنا، فبينما أحدهم قد عرف مائتين أو أجلس بين يديه طالبين، أو شد طرفا من رياسة الدنيا، إذ هو يتبختر في مشيته، ويترفع ولا يرى أنه يطاول الجبال، ولكن يحك بيافوخه عنان السماء، واللَّه ولي التوفيق:(8/4385)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
(ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
الإشارة في (ذَلِكَ) إلى المذكور من الآيات من قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ. . .)، إلى قوله تعالى: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا) وإن اللَّه تعالى ذكر ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة، والحكمة هي العلم النافع، وفي هذا أعلم نفع كبير، فقد ابتدأ بتطهير العقل والنفس من أدران الشرك، ورجس الأوثان ثم بين بناء المجتمع على دعائم الأسرة، وعلى ألا يجعل يده مغلولة إلى عنقه ولا يبسطها كل البسط ونهى عن الإسراف وما من إسراف إلا ووراءه حق مضيع، ثم طهر المجتمع من أوزاره فنهى عن الفحشاء، وقتل النفس أو قرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، وأمر بأن تقوم العلاقة بين الناس على أساس الوفاء بالعهد، وعلى أن يجب الإنسان لنفسه ما يحب لغيره، وأن العلاقة على أساس المقام الذي لَا اعتداء فيه هي خير وأحسن، ونهى عن السير وراء الأوهام، وهذه كلها علوم نافعة، لأن فيها نفع الإنسان وإقامة مجتمع صالح قد حُلِّي بمكارم الأخلاق وخلي من ملائم الناس.
وعن ابن عباس هذه الثماني عشرة كانت في ألواح، أولها (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ. . .) إلى هذه الآية.
ويقول الزمخشري في الكشاف: " وسماها حكمة، لأنها كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه " وأقول: لأنها معان محكمة لَا تقبل النسخ، بحال من الأحوال، وقال الزمخشري أيضا: " ولقد جعل الله فاتحتها وخاتمتها النهي عن(8/4385)
الشرك؛ لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها ومن عدمه لم تنفعه حِكَمُه وعلومه وأن بذَّ فيها الحكماء، وبلغ بيافوخه السماء، وما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم، وهم عن دين اللَّه أضل من النعم ".
وختم اللَّه الآيات بقوله: (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا)، أي يجتمع عليك عذابان:
العذاب الأول: أنك ملوم لأن فعلت فعلا لَا يليق بالعقلاء وهو في ذاته مذموم عند من يدرك الحقائق.
العذاب الثاني: أن تدحر أي تهلك بالإبقاء في نار جهنم، وقد ابتدأ سبحانه ببيان أن الشرك يقعد به عن الوصول إلى الحق ويقعد مذموما مخذولا، لَا ينصره أحد، وختم الآيات بأنه يلقى في جهنم هالكا مذموما ملوما لَا يبرر كفره أحد.
* * *
آثار الشرك ضلال العقول
قال اللَّه تعالى:
(أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
* * *
إنهم يجرون وراء الأوهام ويقفون ما ليس لهم به علم، فيدعون ما لَا دليل عليه من نقل ولا من عقل، ومن ذلك أن جعلوا الملائكة الذين هم عباد اللَّه إناثا،(8/4386)
وكان ذلك غريبا لأن مؤداه أنه سبحانه اصطفى لهم البنين، وجعل له الإناث وهذا غير معقول في ذاته، لأن الناس في شئونهم العادية يؤثرون أنفسهم بالخير ويختارون لغيرهم دونه، وكذلك قال سبحانه وتعالى في استفهام إنكاري:(8/4387)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
(أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40).
(الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي ترتب على أنهم يقولون ما ليس لهم به علم أن ساروا وراء أوهام لم يبنوا علمهم على علم علموه، ولكن على أوهام توهموها.
و (الفاء) مؤخرة عن تقديها، لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي مع التوبيخ) (أَفَأَصْفَاكُمْ)، أي اختار لكم الصفو الخالي من الشوب، الذي لَا يخالطه ضعف، أي هل اختار لكم البنين واتخذ الملائكة إناثا، وهذا يتضمن ادعاءين ادعوهما بأوهامهم:
الادعاء الأول: أنهم قالوا: إن الملائكة إناثا.
والادعاء الثاني: أنهم بنات اللَّه تعالى، وإنهم بذلك قد افتروا على اللَّه تعالى أعظم الفرية، وزينت لهم أوهامهم أعظم الباطل، إذ جعلتهم في خبال، ولذا قال تعالى: (إِنَّكُمْ لَتَقُولُون قَوْلًا عَظِيما)، أي عظيم في أنه بهتان عظيم، لأن الله تعالى ليس من جنس الحوادث، (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ. . .)، وإن الولد من صفة الحوادث، واللَّه سبحانه وتعالى منزه عن المشابهة بالحوادث، (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4).
وقد أكد سبحانه أن هذا القول
منهم عظيم أولا بـ (إن) التي للتوكيد، وثانيا بـ (لام) التوكيد.
ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى معجزته الكبرى وهو القرآن فقال تعالى:
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)(8/4387)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
أكد اللَّه تعالى أنه يصرف القول في القرآن، فقال: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ)، أي صدقنا عباراته ومعانيه، فأحيانا تكون قصصا فيها العبر، وأحيانا تكون بالأمثال يضربها، وأحيانا يقرر الحقائق بطريق الاستفهام، وأحيانا ينفيها، ويستنكرها، وهو في كل ذلك ينتقل من إقرار حكيم معجز إلى مثله، وقد قال بعض العلماء في تصريف القرآن: لم يجعله نوعا واحدا بل وعدا ووعيدا ومحكما ومتشابها وأخبارا وأمثالا، مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، وهكذا كان التصريف من أسرار الإعجاز وهو أعلى درجات البلاغة وأسرارها.
وإنك وأنت تقرأ القرآن وهو مأدبة اللَّه تعالى تنتقل فيها من طيب سائغ إلى طيب سائغ، في حلاوة طعم، وجمال منظر وكله هنيء مريء، لأنه مائدة رب العالمين.
وقد صرف الله سبحانه في القرآن ذلك التصريف (لِيَذَّكَّرُوا)، أي ليملأوا قلوبهم بذكر اللَّه وليعتبروا بعبره، وليروا فيه الكلام المعجز الذي يذكرهم برسالة النبي ليؤمنوا.
ولكن المتعنت المعاند لَا يقنعه الدليل ولا يزيده إيمانا بل إن عناده وطغيانه يزيده استمساكا بضلاله وإصرارا على كفره، ولذا قال: (وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا)، أي إلا بعدا عن الحق نافرين منه.
والتذكر هنا هو التدبر كما قال تعالى: (. . . قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)، والنفور كما أشرنا الإيغال في الضلال والإمعان فيه، وأي ضلال أشد من النفور من الحق واجتنابه.
ولقد قال تعالى موجها القول إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لإبطال شركهم:
(قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)(8/4388)
هذه الآية الكريمة متصلة بقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا) وتوسط بينهما وهم أن الملائكة بنات، وتصريف القرآن ليتذكرون وذلك للإشارة إلى أن الذين يجعلون مع اللَّه آلهة أخرى يتبعون الأوهام ويصيبهم الخبال بهذه الأوهام، ولا يجد الدليل الإيجابي مجازا إلى قلوبهم، فصرف اللَّه تعالى القرآن ليتذكروا فأبوا إلا نفورا كشأن أعداء الحق، ويبين اللَّه تعالى على لسان نبيه بطلان ما يعبدون، فيقول سبحانه:(8/4389)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
(قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
ذو العرش هو اللَّه تعالى، وعبر بهذا التعبير لبيان كمال سلطانه في ملكه وأنه لَا شريك له، فأظهر بعد الإضمار لذلك، والمعنى كما يقرر ابن عباس: لو كان مع الله تعالى آلهة غيره كما يدعون لنازعوه السلطان في الوجود، ولعاندوه في خلقه، ولكن لَا يمكن ذلك، وإلا فسد الكون، كما قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22).
ويكون هذا الكلام لإبطال زعمهم بدليل يؤدي إليه من نزاع وذلك باطل، وقد خرج الآية آخرون تخريجا فيه مثل هذه من حيث إنه إبطال الدعوة التي يدعونها، وذلك التخريج الآخر أنهم قالوا: إن المعنى أنه لو كان هناك آلهة كما يقولون (لَابْتَغَوْا)، أي لطلبوا سبيلا لذي العرش ليعبدوه، كما قال تعالى في آية (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِم الْوَسِيلَةَ. .. ) فأتى سبحانه ببرهان التوحيد من دعواهم، أي أن التي يدعون لها الألوهية خاضعة للَّه؛ لأن كل من في الوجود خاضع للَّه تعالى؛ لأن له السلطان الأعلى في ملكوت السماوات، والأرض.
ومهما يكن التخريج فإن الآية إبطال لعبادة الأوثان وأنها من الأوهام وأنها من أنهم يقفون ما ليس لهم به علم، فيقعون في الباطل وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
ولقد قال تعالى منزها ذاته العلية عن هذه الأوهام:(8/4389)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
(سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
أي تقدست ذاته العلية عن أن له شريكا، وتعالت وسمت. (عُلُوًّا كَبِيرًا)، أي علوا بعيدا في علوه، كبيرا في ذاته بحيث لَا يكون ثمة علاقة بأي نوع من أنواع العلاقة بينه وبين رب البرية، لأن الوجود كله يخضع له، ويسبح بحمده، ولذا قال تعالى:(8/4390)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ)، أي طبقات النجوم وبروجها، وكل سماء زينت بمصابيح هي نجومها، والتسبيح الخضوع له سبحانه وتعالى، وكونها طائعة له سبحانه فكل الوجود في قبضته، وإن هذا التسبيح يرشح للتفسير الثاني، لقوله تعالى: (إِذًا لَّابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا)، أي الذي يقول: إن المعنى أن آلهتهم خاضعة للَّه يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة.
والتسبيح هو بمعنى الخضوع الكامل للَّه تعالى، لَا يخرج شيء مما في الوجود أو أحد عن طاعته سبحانه، ويصح أن يراد بهذا الخضوع مع ذكر اللَّه تعالى بالتنزيه عن الشريك وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، وإنه يكون خاشعا مسبحا عابدا، وإن كان غير مكلف كما يكلف العقلاء وإن الحجارة طوع يمينه سبحانه، ولقد قال تعالى: (. . . وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. . .).
وإذا كانت هذه حال الوجود كله من أنه يسبح اللَّه تعالى، وإن كنا لَا ندرك تسبيحه فكان ذلك دليل وجوب عبادته وحده لَا يعبد سواه، وقد استدرك اللَّه تعالى على حكمه سبحانه بتسبيح الوجود بقوله: (وَلَكِن لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ)، أي لَا تنفد بصائركم ومدارككم إلى إدراك تسبيحه، لأنه لَا يعلمه إلا اللطيف الخبير (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، سبحانه وتعالى.(8/4390)
ولقد ذكر الزمخشري أن معنى يسبح بحمده أنها تسبح بلسان الحال، حيث تدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته، فكأنها تتعلق بذلك وكأنها تنزه الله عز وجل مما لَا يجوز عليه من الشركاء وغيره، ويقول: إن قوله تعالى: (وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) خطاب للمشركين من حيث إنهم لم يأخذوا بمقتضى دلالة الحال، وما توجبه من إيمان باللَّه وحده.
وفى الحق، إن الزمخشري أخرج النص من ظاهره إلى مجاز صحيح في ذاته، ولكنه بعيد من جهة، ولا ينقل الكلام من الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة توجب الخروج، وإلا بتعذر الحقيقة أو يكون في المجاز جمال لفظي خاص يليق بمقام البيان القرآني، وقد فند الناصر كلام الزمخشري بقوله: " ولقائل أن يقول فما تصنع بقوله تعالى: (كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) وهو لَا يغفر للمشركين ولا يتجاوز عن جهلهم وإشراكهم، وإنما يخاطب بهاتين الصفتين (حَلِيمًا غَفُورًا) المؤمنين والظاهر أن المخاطب المؤمنون، وأما عدم فقهنا للتسبيح الصادر من الجمادات، فكأنه والله أعلم من عدم العمل بمقتضى ذلك، فإن الإنسان لو تيقظ حق التيقظ إلى النملة والبعوضة، وكل ذرة من ذرات الكون لوجدها تسبح اللَّه وتنزهه وتشهد بجلاله وكبريائه وقهره، وعندي أن قوله تعالى: (وَلَكِن لَا تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ) خطاب لكل من هو أهل للخطاب.
وقوله تعالى:، (إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) لَا يعاجل بالعقوبة ويفتح الغفران لمن يتوب، ولو كان مشركًا يتوب عن شركه، كما قال: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ. . .)، وأكد سبحانه وصفه بهذين الوصفين بـ (إن) المؤكدة، وكان الدالة على الاستمرار، وصفة التشبيه الدالة على كمال الاتصاف.
* * *(8/4391)
القرآن حجاب مستور عن المشركين لشركهم
قال اللَّه تعالى:
(وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
* * *
يقول اللَّه تعالى مخاطبا نبيه الذي يدعو إلى الحق والقرآن بالقرآن:(8/4392)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
(وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
وذكر سبحانه الذين لَا يؤمنون بالآخرة؛ لأن الذين لايؤمنون بالبعث تجمد قلوبهم على الحس فلا يؤمنون بغيره، وتغلظ على الهدى، لأنهم يحسبون أنه لا حياة غير هذه الحياة، فيرتقبون ويلعبون ويلهون وكأنما خلق الإنسان عبثا، وذلك أداهم إلى الكفر فصاروا لَا يؤمنون بشيء.
و (حِجَابًا مَسْتُورًا): الحجاب هو الحاجز عن الوصول إلى أمر أو اعتقاد، وقال بعض العلماء: إن مستورا معناه ساتر، وإن ذلك مجاز أساسه تلاقي المشتقات، وأحسب أن ذلك مبالغة في ستره، حتى إنه من ستره للحقائق عليهم صار هو كأنه مستور عندهم، ويصح أن يقال: إنه مستور عليهم لَا يدركونه ولا يعرفونه ويحسبون أنهم يعرفونه، أو أن القرآن مستور عليهم بحجاب، فهم لا يعرفون مغزاه ولا مرماه، أو أن هذا الحجاب ليس بمحسوس بل أمر معنوي مستور(8/4392)
عليهم، وكلها معان تتجه إلى بيان أنهم لَا ينتفعون من القرآن ولا يتدبرون معانيه لهذا الحجاب الذي يسترهم عنه، ويسترون بفعلهم وبأهوائهم أنفسهم، وكان التعبير يقوله تعالى: (مَّسْتورًا) إشعار بأنهم الذين صنعوا الحجاب بإعراضهم وهم الذين ستروه عن أنفسهم بأنفسهم، وقد أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى وهو ستره عنهم وكونهم محجوبين عنه بقوله تعالى:(8/4393)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
(وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
الأكنة جمع كنان، و (جعلنا) معناها صيرنا وأنشأنا أكنة تكون غلافا مانعا قلوبهم عن أن تدرك وتصل إلى النور، (وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا)، أي صمما وثقلا فيها يمنعها من أن تستمع إلى القرآن الحق، فالأكنة تمنع أن يفقهوه لأن غلافا وضع بينها وبين النور، فلم تفقه أي لم تدرك وتتدبر في بلاغته، ومعانيه، وقصصه، وعبره، وما فيه من نور الحق فلا تراه، وجعلنا في آذانهم وقرا عن سماع القرآن وتذوق ألفاظه ونغمه، وجمال عباراته ونسق بيانه.
ويصح أن نقول إن الكلام السامي ممثل لحالهم في عدم فقههم للقرآن وعدم سماعهم لآياته سماع فهم وتدبر وتعرف لبلاغته بحال من جعل اللَّه تعالى على قلبه. غشاوة فلا يصل إلى الحق، وحال من في آذانه ثقل فلا يسمع، ثم يصور سبحانه نفورهم من الحق وتأثرهم بالأصنام التي جعلتهم يعتقدون فيها الألوهية فقال تعالى: (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا).
وإذا ذكرت ربك الذي خلقك وخلقهم وربهم وحده من غير ذكر آلهتهم على أنه المتفرد وحده بالألوهية اعتراهم إعراض أشد، فأعرضوا سائرين على أدبارهم نافرين من الحق كما يفر ذو الرمد من ضوء الشمس، أي يسارعون بالتولي والإعراض نافرين مدبرين، سائرين بظهورهم لَا بإقبالهم، وهذا النص يصور شخصا رأى شيئا فهاله ما رأى فولى مدبرا، رجع مدبرا نافرا كأنه رأى شيئا مخيفا، اقشعر له بدنه، وهذا يصور مقدار نفورهم من التوحيد الحق، وإقبالهم(8/4393)
على الوثنية الباطلة، فالأوهام التي استكنت في نفوسهم صورت لهم الحق مخوفا مرهوبا، والباطل طيبا حسبوا فيه السلامة وما وراءه إلا الحسرة والندامة وساء ما كانوا يصنعون.
وإن هذه النفوس التي تنفر من الحق هذا النفور نفوس مريضة، عرتها آفة حولتها عن الحق وصرفت فطرتها وطمست فؤادها فقال تعالى:(8/4394)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
(نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
يتكلم اللَّه تعالى معبرا عن ذاته العلية فيذكر أنه يعلم علما ليس فوقه علم يالحال التي يكونون عليها ومتلبسين بها، إنهم حين يستمعون إليك تكون قلوبهم مصروفة عنك، وعما تقرأ وذلك باستهواء باطل، وهم في نجوى مع إخوانهم الكفار فيودعون نفوسهم المنحرفة، وعقولهم المستهواة بالباطل التي تريهم الباطل حقا والحق باطلا، إذ يقول أولئك الظالمون (إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا) هو مريض في ذاته، (مَّسْحُورًا) يحتاج لأن يطبب من الخبال الذي أوجد السحر في نفسه.
هذه الخلاصة الواضحة المنيرة لمعنى الآية، وكلام اللَّه تعالى أسمى وأعلى وهو ذروة البيان وأعلاه، ولنعرج باستقاء هذه المعاني من ألفاظها التي هي نور على نور.
(نَحْنُ أَعْلَمُ) أفعل التفضيل ليس على بابه؛ لأنه لَا مفاضلة بين علم الله تعالى وعلم أحد من خلقه، وإنما المراد به أقصى العلم الذي ليس فوقه علم، (بِمَا يسْتَمِعونَ بِهِ) " ما " هنا دالة على الحال، (به) الضمير عائد على لفظ " ما "، ويكون المعنى أعلم بالحال التي يكونون متلبسين بها عند سماعهم هذا القرآن الكريم، وقد صور اللَّه سبحانه وتعالى هذه الحال، إذ يستمعون إليك وهم في نجوى يتذاكرون فيها القول الصارف عن الحق، إذ يقول الظالمون في هذه النجوى، (إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا) والسرية مدرجة الفتنة فهم يسرون إليهم في النجوى(8/4394)
ظالمين للحق وللنبي لَا تتبعوه، (إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا) والمسحور هو الذي أفسد تفكيره السحر، وجعله في خبال يحتاج إلى طب الأطباء، إن النجوى دائما تكون أفعل في نفس الذين لَا يريدون اتباع الحق، ألم تر أنك إذا أردت أن تخدع إنسانا تخفت في صوتك، وتتسار معه فيؤثر فيه، هؤلاء الذين ينفرون من الحق نفورا يتولون على أدبارهم لَا يكونون في حال طبيعية بل يكونون قد استهوا بالباطل استهواء، فعندما يذكر اللَّه وحده في القرآن يولون الأدبار نفورا.
* * *
الداء الذي يسبب الكفر عدم الإيمان بالبعث
قال اللَّه ثعالى:
(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
* * *
إنهم في نجواهم يقول الظالمون بسبب ظلمهم: (إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا)، فهم يشبهون حاله بما لَا يشابهها، ونقيض ما كانوا يعرفونه عنه من الكمال الإنساني من صدق وأمانه وعدالة، واستقامة في القول والعمل، ولقد قال تعالى في قولهم:(8/4395)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
(انظُرْ كيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا).
المثل هو تشبيه حال بحال أو وصف بوصف، وضربه: بيانه، فالمعنى انظر كيف شبه حال الرسول أحيانا بالشاعر، وأحيانا بالساحر، وأحيانا بالمسحور وأحيانا بالكاهن، وكلما ضربوا مثلا باطلا أوغلوا في الفساد النفسي والفكري، وانحرفوا عن الحق، فإن كل مثل بالباطل تنحرف به النفس عن الطريقة المثلى، ولذا قال تعالى مرتبا على كثرة الأمثال الباطلة (فَضَلُّوا)، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنهم أكثروا من التشبيهات الباطلة، وكلما ضربوا مثلا زادوا انحرافا وضلالا، وكلما أوغلوا لَا يستطيعون سبيلا فإن مثارات الضلال تبعد عن الطريق المستقيم فلا يهتدون، وأنهم يعجبون من أن يكون هناك بعث بعد أن يصيروا عظاما نخرة، ولذا قال تعالى:(8/4396)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
(وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
العظام هي العظام التي خلت من اللحم الذي كسيت به، وهو عظام الموتى، والرفات ما تكسر وبلي، وعن أبي عبيدة والفراء والأخفش تقول منه رفت الشيء رفتا أي عظم مرفوت.
وهنا في الآية الكريمة كأنهم تعجبوا من ثلاثة أمور:
الأمر الأول: التعجب من أنها بعد أن تصير عظاما مرضوضة مكسورة محطومة تجتمع وتكون إنسانا سويا.
الأمر الثاني: التعجب من البعث في ذاته.
الأمر الثالث: أن هذه العظام النخرة تكون خلقا جديدا.
فالتعجب الأول هو قولهم (أَئِذَا كنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا)، وأفرده بالاستفهام، لأن بعثه خلقا جديدا بعد أن صار عظاما ورفاتا فكان إفراده بالاستفهام مع أنه مع البعث خلقا جديدا كل مثار تعجب، للإشارة إلى أنه موضع عجب في ذاته، وكذلك كان إفراد (أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا).(8/4396)
والتعجب في الأجزاء جزءا جزءا وفي الهيئة الاجتماعية.
والاستفهام إنكاري يفيد الاستبعاد والتعجب، ولا عجب في خلق الله تعالى، إذ يقول: (. . . كَمَا بَدَأَكمْ تَعودُونَ).
وقال تعالى ردا لتعجبهم:
(قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
قالوا في مثلهم الذي ضربوه: (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا)، هذا مثلهم الذي ضربوه ناسين حقائق الوجود وحقيقة نشأتهم كما قال
تعالى: (وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ. . .)، (وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا. . .)، أنبعث بعدها؛ فأمر اللَّه تعالى نبيه(8/4397)
قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50)
(قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا) و (كُونُوا) هنا من معنى كنا، أي أئذا صرنا عظاما ورفاتا فيكون المعنى صيروا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم، أي إنكم تعودون لَا محالة، ولو صرتم حجارة أو حديدا فاللَّه على ذلك قادر، ولا يعجز.
ولنا في هذه الآية الكريمة نظران غير متباينين:
النظر الأول: أنه يشير سبحانه إلى أنه لَا يعجز عن الحجارة والحديد، ومما يكبر في صدوركم أي في قلوبكم فتأخذكم به رهبتكم، وإذا كان اللَّه تعالى لا يعجز عن أن يوجد الحياة في حجارة أو حديد، أو نحو ذلك فأولى أن يعيد الحياة فيكم، وقد كانت من قبل، فالإعادة أسهل من الإنشاء في نظر الإنسان وإن كانت كلها عند اللَّه سواء، هذا هو النظر الأول.
أما النظر الثاني: فهو أن المعنى صيروا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم وادخلوا في أجزائها وكونوا في صلابتها، وتظنون أنه يصعب(8/4397)
استخلاصكم منها فإنه سيعيدكم كاملي الأجسام منها، ويقوي هذا قوله تعالى:(8/4398)
أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
(فَسَيَقولُون من يُعِيدُنَا. . . (51)
إلى آخر الآية الكريمة.
وقد بين اللَّه تعالى ما يثير استغرابهم فقال سبحانه: (فَسَيَقُولُونَ) الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كنا حجارة أو حديدا. . . فقد أمر اللَّه تعالى نبيه أن يقول لهم: (قلِ الَّذِي فَطَرَكُم أَوَلَ مَرَّةٍ)، أي الذي أنشأكم النشأة الأولى وهي الفطرة أول مرة، وإذا كان أنشأ هذا الإنسان الأول فهو على الإعادة أقدر، كما جاء في سورة " يس " (. . . قَالَ مَن يُحْصيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) ق ل يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مرَّةٍ. . .) وبعد أن رد عليهم ذلك الرد المقنع لمن يتدرن قلبه بالشرك ويتعصب له ويعاند فيه، فإنهم يستمرون في عجبهم واستغرابهم، ولذا قال اللَّه تعالى عنهم: (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ) ويقولون في تحد جاهل (مَتَى هُوَ).
والإنغاض تحرك الرأس من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى استغرابا وتعجبا فما زادهم الدليل إلا إيغالا في الاستغراب وما زادهم الحق إلا ضلالا، والفاء في (فَسَيُنْغِضُونَ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي ترتب على بيان الحق أن استهزءوا وتهكموا، وهؤلاء لَا يجدي معهم الدليل ولا يزيدهم إلا خسارا، ويقولون متحدين: (مَتَى هُوَ)، أي متى يكون أي يستعجلون تحديا وإمعانا في الكفر، فأمر اللَّه تعالى نبيه: (قُلْ عَسَى أَن يَكونَ قَرِيبًا)، أي أنه يرجى أن يكون قريبا.
ونرى في هذه الآيات وما قبلها يأمر اللَّه تعالى نبيه أن يتولى المجاوبة معهم؛ لأنه الداعي إلى الحق المبلِّغ عن اللَّه تعالى الهادي المرشد.
وقد بين اللَّه تعالى ذلك اليوم فقال:(8/4398)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
(يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
(يَوْمَ) هو جواب للمشركين عن تحديهم (مَتَى هُوَ) ويكون الخطاب للمشركين، ويكون قوله تعالى: (يَدْعوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) معناه الإشارة إلى(8/4398)
أن إعادتهم لَا تكون إلا بأمره سبحانه وإجابتهم كقوله تعالى: (. . . كن فَيَكُونُ)، فالدعوة لَا مجاز فيها، والاستجابة تكون بالإيجاز كما ذكرنا في الآية الكريمة.
وقال طائفة من المفسرين وعلى رأسهم الزمخشري: إن هذا كناية عن سرعة الإعادة كما يدعو الداعي فيجيب المدعو فور الدعوة، والاستجابة هنا معناها الرغبة في الإجابة وطلبها كأنهم كانوا وهم خامدون في قبورهم يتوقعونها، ولا يستغربونها، وقوله تعالى: (بِحَمْدِهِ)، أي حالهم تكون حال الحامد الراغب العالم بقدرة اللَّه تعالى لَا حال المستنكر أو المستغرب، وكأنهم يكونون في حال غير الحال التي كانوا عليها في الدنيا من كفر وإنكار، بل هم على حال الإقرار باللَّه تعالى وأنه وحده المستحق للألوهية سبحانه وتعالى.
(وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا)، أي أنهم يحسبون أنهم مكثوا قليلا في الدنيا على حسب ما قرره قتادة وتبعه الزمخشري، فاللبث القليل في الدنيا، وكما قال قتادة تقاصرت مدة الدنيا في نظرهم واعتقدوا أنها متاع وأن الآخرة هي الحياة وأنها أبقى، وفي ذلك إيمان بما لم يكونوا آمنوا به قبل، أي أنهم أدركوا الحقائق على وجهها ولكن كان حمدهم وإدراكهم بعد فوات الوقت، فلم ينفعهم في إبانها ولم ينفعهم حمد، ولا إيمان.
هذا على أن اللبث القليل في الدنيا، ولكن نرى كما رأى كثيرون من علماء السلف أن اللبث القليل كان في القبور قبل البعث، ولقد قال تعالى في ذلك: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104).
ونريد أن نقول كلمة في إعراب قوله: (وَتَظُنُّونَ إن لَّبِثتُمْ إِلَّا قَلِيلًا) إن (إنْ) نافية، أي " ما لبثتم إلا قليلا " ويكون ذلك خبرا لـ (أنَّ)، وتقدير الكلام ويظنون أنكم ما لبثتم إلا قليلا، والآية بينة لَا تحتاج في بيانها إلى هذا الإعراب ولكنه تخريج نحوي ذكرناه حيث لم يذكره المعنيون بإعراب القرآن واللَّه أعلم.
* * *(8/4399)
دعوة الله الحق
قال الله تعالى:
(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
* * *
كانت العلاقة بين المشركين والمؤمنين إيذاءً مستمرا من جانب المشركين، وصبرًا ومصابرة من المؤمنين حتى اضطروا إلى الهجرة إلى الحبشة مرتين، وقد أفرط المشركون في أذاهم، وربما حسب بعض المؤمنين أن ذلك صغار للمؤمنين، وتفريط في حق الإيمان، فكان منهم من دعا إلى المقاومة، وإن المصابرة حسبها استرخاء يغريهم، وإن من له عصبية لَا تسلمه، وروي أن رجلا من المشركين شتم عمر بن الخطاب، فهمّ عمر بأن يقتله وكان على ذلك قديرا، فأمر اللَّه تعالى نبيه والمؤمنون بأن يصبروا، وأن يقولوا التي هي أحسن، فقال تعالى:(8/4400)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
(وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا).(8/4400)
قل يا محمد مطمئنا ومهدئا لعبادي: (يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحسَنُ) و (يقولوا): مجزوم في جواب الأمر، وهو في معنى المعلل لأمر بالقول، أي قل لهم داعيا إلى الصبر، وألا يقابلوا الإساءة بمثلها، ليقولوا التي هي أحسن، أي الكلمة التي هي أحسن، والفعلة التي هي أحسن، وإن رد الإساءة لكون عندما يكون للمسلمين قوة يؤدبون بها المعتدين، ويحملونهم على الحق وتكون كلمة اللَّه هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وكان ذلك قبل الهجرة إلى المدينة كما يدل السياق، وقد استشرفت النفوس لمعرفة السبب في ذلك الأمر وفي نتيجته، فهدَّأ اللَّه هذه النفوس المستشرفة بقوله: (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ)،، أي إن الشيطان ينزغ بينهم، أي يهيج الشر بينهم فتكون المخاشنة داعية إلى الجفوة والمهاترة، والجفوة تبعد النفوس عن الحق أو تزيدها بعدا، بينما الكلمة الطيبة والمعاملة الجسنة، والمودة في غير إثم تقرب، ولا تنفر، وأكد اللَّه هذا النزغ الشيطانى بقوله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)، أَى إن الشيطان كان مستمرا للإنسان عدوا مبينا للعداوة.
ظاهر العداوة وإن حكمة اللَّه تعالى اقتضت كَما ذكرنا أن يصبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الأذى لأتباعه، والأذى لشخصه، حتى تستمر المودة من جانبه موصولة، فإن المودة تدني، وتجعل المؤذي يتردد في استمرار أذاه، بينما المخاشنة أو المغالبة تجعل للكافر معذرة فيلج في كفره، وقد كان في المؤمنين من يستطيع المغالبة بشخصه وعشيرته، ولكن لم يرد اللَّه؛ حتى لَا تضيع دعوة الحق وسط المنافرة فيكون النفور، وقد خاطب الله تعالى المشركين مقربا منذرا، فقال:(8/4401)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54)
صدّر الكلام بقوله تعالى: (رَبُّكمْ) للإشارة إلى أنه الذي خلقهم وربهم، وهو الحي القيوم الذي قام على حياتهم وشئونهم، وهو يهدي؛ لبيان علمه (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ. . .)، (أَعْلَمُ بِكُمْ) أي يعلم أنفسكم وأحوالكم، وما أنتم إليه علما ليس فوقه علم، وهذا معنى أفعل التفضيل؛ إذ إنه ليس على بابه،(8/4401)
لأنه لَا مفاضلة بين علم اللَّه تعالى وعلم غيره، والمراد كما أشرنا يعلم علما لا يسامى ولا يناهد.
وإن مع علمه المحيط بحالهم يعمل بمشيئته المطلقة، (إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ) ورحمته سبحانه وتعالى بأن يهديكم إلى السير في طريق الإيمان، وإذا سرتم فيه رحمكم بالإيمان، وهو أكبر رحمة للإنسانية، (أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ)، بأن تسيروا في طريق الضلالة فتصلوا فيه إلى غايته، فيكون منكم الضلال والشرك، فيكون ذلك الضلال عذابا لكم في الدنيا باضطراب نفوسكم وبعدكم عن الفطرة، وفي الآخرة يكون العذاب الأليم، ألا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا يزكيهم.
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على إيمان المشركين، حتى قال له ربه: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، ولذا قال تعالى: (وَمَا أَرْسلنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا)، أي موكولا إليك أمورهم بقسرهم على الإيمان، بل إنا أرسلناك بشيرا ونذيرا، وقد بشرت وأنذرت فما عليك بعد ذلك تبعة كفرهم وضلالهم:
(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
ولقد بين سبحانه بعد ذلك أن اللَّه يعلم من في السماوات ومن في الأرض، وأنه هو الذي يعلم حيث يجعل رسالته فقال:(8/4402)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
صدر الكلام بـ (ربك) للإشارة إلى أنه الخالق والقائم على خلقه، وهو الذي يعلم ما خلق، وقلنا: إن أفعل بالنسبة للَّه تعالى لَا يكون على بابه؛ لأنه لا مفاضلة بين الذات العلية وغيرها، وذكر سبحانه علمه بمن في السماوات ومن في الأرض، وذكر العقلاء في السماوات إشارة إلى الملائكة، وعقلاء الأرض هم بنو الإنس والجن.(8/4402)
يعلم الله تعالى طبيعة من في السماوات، وهم الملائكة أرواح طاهرة مطهرة لا تنزل إلى الأرض بطبعهم وحالهم، بل لو كان ملك في الأرض لجعله اللَّه تعالى في صورة إنسان، كما قال تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ)، ويعلم سبحانه وتعالى من في الأرض، ويجعل الأنبياء من جنسهم، ليكونوا أقرب إلى إرشادهم، ويتعذر على من في السماء بمقتضى طبعهم أن ينزلوا، وليس في طاقة أهل الأرض أن يتلقوا الإرشاد من الملائكة، فالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - كان يتصبب عرقا، عندما يخاطبه جبريل الأمين، وعند أول لقاء به رجع إلى خديجة يرجف فؤاده.
اللَّه يعلم من في السماوات ومن في الأرض، ولذلك كان اختيار الرسل من أهل الأرض، وبيان اللَّه لعلمه من في السماوات ومن يشير إلى اختياره الأنبياء منهم، ولذا قال بعد ذلك:
(وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ) ففضل اللَّه تعالى أولي العزم من الرسل وهم نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى ومحمد - صلى الله عليهم وسلم -، وقد ذكرهم بأسمائهم في القرآن، فقال تعالى في سورة الأحزاب: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. . .) وقال تعالى في سورة الشورى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13).
وإن أولئك الأنبياء أمروا بشرائع إلا ما كان من أمر عيسى، فإنه أحيا شريعة التوراة، وزاد عليها، وإن ثمة كتبا ثلاثة كانت قبل النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي التوراة والإنجيل، وقد ذكرهما القرآن في عدة مواضع، وذكر التحريف فيهما، وقال سبحانه وتعالى: (. . . يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِرُوا بِهِ. . .).(8/4403)
ولقد ذكر سبحانه كتاب داوود فقال: (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) وهو لم يكن فيه أحكام غير التوراة، ولكن كانت فيه أدعية للَّه تعالى أوحى بها.
وإن داود كان حاكما كما قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ. . .)، وكان له مع شرف الحكم الخلافة من اللَّه في الأرض، قد أنزل عليه الزبور، وهو بهذا شرف أعظم، وأكرم.
وفى ذكر الزبور إشارة إلى التوراة والإنجيل، وكان بعد التوراة وقبل الإنجيل.
في ذكر هذا وذكر تفضيل بعض النبيين، وذكر محمد خاتم النبيين إشارة إلى كمال الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض برسالة محمد خاتم النبيين، وأنه لَا نبي بعده، واللَّه أعلم.
وإن الأوثان التي يعبدونها، والآلهة التي يقدسونها من ملك أو بشر أو جن لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا يغيثون، ولذا قال تعالى:(8/4404)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)
(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)
من صفات الربوبية القدرة المطلقة، ولا يعبد إلا من يكون قادرا على كشف الضر، والعرب كانوا يعرفون الله تعالى وأنه القادر وحده على كل شيء، فكانوا يستغيثون به إذا أصابهم بأس في البر والبحر، ويعتقدون أنه لَا ينجيهم سواه، وإذا مسهم ضر لَا يلجأون إلا إليه كما قال: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ. . .)، ولكنهم عند العبادة يعبدون مع اللَّه غيره من الأوثان، أو الملائكة، أو عيسى كالصابئة، والنصارى لَا يعرفون المسيح على أنه عبد خَلَقه اللَّه.
لهذا يقول لهم: (قُلِ ادْعُوا الَّذينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ) الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول لهم (ادْعُوا الَّذِينَ زعمْتُم مِّن دُونِهِ)، أي زعمتم أنهم آلهة من دون اللَّه سبحانه وتعالى: ادعوهم ساعة أن ينزل بكم الضر أو الشدة في البر أو البحر، أو عندما(8/4404)
يداهمكم ريح صرصر عاتية، (فَلا يَمْلِكُونَ كشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ)، الفاء هنا للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر يبين ما قبله وبعده يأن يزول عنكم أو تحويله لغيركم، ولذا قال تعالى: (وَلا تَحْوِيلًا).
وإذا كانوا لَا يستطيعون لكم جلب نفع، ولا دفع ضر، فكيف تعبدونهم، والعجز ظاهر حالها، وعجيب أمركم عبادتها مع هذا العجز.
وأن بعض الذين يدعون كالملائكة، والجن، والمسيح، وعزير، وكانت عبادة هؤلاء من صابئة العرب ويهودهم ونصاراهم، يتضرعون إلى اللَّه ويعبدونه، ولذا قال تعالى فيهم:(8/4405)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
يقول ابن جرير الطبري: إن هذه الآية نزلت في بعض مشركي العرب الذين كانوا يعبدون الملائكة وعزير والمسيح وهؤلاء جميعا كانوا في أطراف الجزيرة العربية في اليمن والأقاليم التي تصاقب العراق، من الصابئة وغيرهم الذين كانوا يعبدون النجوم والأرواح، وكانوا إلى النصرانية أقرب، ومنهم إلى المجوسية أقرب.
وهذه المعبودات المزعومة لَا تضر ولا تنفع، وينطبق عليها بالنسبة للضر والنفع ما ينطبق على الأوثان تماما، ولكن فيها عباد مكرمون كالمسيح، فلن يستنكف أن يكون عبدا للَّه، ولا الملائكة المقربون.
قوله تعالى: (أوْلئِكَ) الإشارة إلى المعبودات غير اللَّه تعالى، والمخصوص منهم بالقول من يعبد اللَّه تعالى، (الَّذِين يَدْعُونَ) والدعاء هنا بمعنى العبادة أو الالتجاء إلى اللَّه تعالى، (يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ)، أي يبتغون الوسيلة إليه وهي الطاعة، والمعنى يبتغون الطاعة، ومجيء الوسيلة بمعنى الطاعة جاءت في آية أخرى وهي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ. . .)، أي اطلبوا الطاعة، وهي الوصيلة الموصلة إليه سبحانه وتعالى.(8/4405)
وقوله تعالى: (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ)، " أي " اسم موصول بدل من الواو في يبتغون والمعنى على هذا من غير افتيات على النسج القرآني الكريم، يبتغون (أُخصُّ) الذين هم أقرب، أي أن هؤلاء الذين يبتغون الطاعة ويطلبونها ويريدون عبادة اللَّه وحده هم الأقرب إلى اللَّه.
فإذا كان أولئك المقربون الأطهار يبتغون إليه الطاعة، ويرجونها فكيف تكون حال من يعبدونهم أنهم بذلك أولى أو أجدر.
ثم ذكر سبحانه، وصفين أو حالين ينافيان أن يكونوا معبودين، فقال:
(يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ) الواو عاطفة، عطفت (يَرْجونَ) على (يَبْتَغُونَ)، أي أن أولئك العباد المقربين يدعون اللَّه وحده، ويبتغون مزدلفين إليه بالطاعات، ويرجون رحمة اللَّه لأنه هو الغفور الرحيم، ويخافون عذابه، لأنه هو المنتقم الجبار: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا) كان من شأنه أن يحذر أن يخاف، وإن مقام الربوبية والعبودية أن يرجو الرحمة ويخاف العذاب، ومن الأتقياء من يغلب الرجاء على العذاب، ومنهم من يغلب الخوف على الرجاء، وكلاهما في طاعة اللَّه وفي أعلى مقامات العبادة للَّه تعالى.
وإذا كان ذلك شأن من يعبدونهم، فأولى بالمشركين ثم أولى أن يعبدوا اللَّه وحده لَا يشركون به شيئا.
* * *
العبرة في الماضين
قال اللَّه تعالى:
(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58) وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ(8/4406)
وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
* * *(8/4407)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
" إن " هنا نافية، و " من " لاستغراق النفي، والقرية: المدينة العظيمة التي يبعث فيها الأنبياء، والحصر في الهلاك قبل يوم القيامة، أو العذاب في يوم القيامة، إنما هو في القرية الظالم أهلها الذين يكفرون بالنبيين، والهلاك هو اجتثاثهم في الدنيا بخُسُوف تجعل عاليها سافلها كما فعل بقوم لوط، أو بريح صرصر عاتية، كما فعل بعاد وثمود، أو بالغرق كما فعل بقوم فرعون وملئه، وغير هؤلاء، هذه هي الحال التي يكون فيها الاستئصال وقطع الدابر، وذلك يكون قبل يوم القيامة الحالة الثانية أن يتركوا في الدنيا يعصون ويفسدون ويرتكبون المآثم، وأولئك لَا يهلكون في الدنيا، ولكن يعذبون في الآخرة عذابا شديدا، (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا) والكتاب هو اللوح المحفوظ الذي يسجل فيه ما يقضى به بين عباده.
وإن هذا التنويع لحكمة اللَّه تعالى وتقديره، فإنه إذا كانت الدعوة خالدة باقية، وهي دعوة نبينا - صلى الله عليه وسلم - استأنى بهم لأن فيهم الطائعين، وليسوا قليلين، وفيهم من طغى وبغى، وفي ذرية الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - من كانوا مجاهدين كعكرمة ابن أبي جهل، وكخالد بن الوليد، وغيرهم ممن كان لهم في الجهاد باع مشهور، وقوله: (إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا) أو (معذبوها) فيها تنوع حالهم، (أَوْ مُعَذِّبُوهَا) و " أو " مانعة خلو، لَا مانعة جميع، فكان منهم من أهلكوا قبل يوم القيامة ومن عذبوا بعدها، وأمة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يهلكها اللَّه بعاصف يقتلعها من الأرض، ولكن أهلك العصاة لينالوا عذاب الآخرة.(8/4407)
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصنفا ذهبا، فأوحى إليه قد سمعت الذي قالوا، فإن شئت أن تفعل الذي قالوا، فإن لم يؤمنوا نزل العذاب، فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة، وإن شئت أن تستأني بقومك استأنيت بهم، قال: " يا رب استأن بهم " (1).
وقد ختم اللَّه سبحانه الآية بقوله: (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا)، أي أنه مسجل في اللوح المحفوظ كما أشرتا من قبل، لقد تبين من هذا أن المشركين كانوا يطلبون آيات حسية كآيات النبيين السابقين كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لعيسى، وكإخراج الموتى من القبور أيضا، وقد أجابهم اللَّه تعالى بأنه أنزل هذه الآيات، ومع ذلك لم يؤمنوا، وإن هذه الآيات لَا تبقى بقاء المعجزة الكبرى، وهي القرآن الكريم التي ما زالت تغالب كل باطل، وتؤيد كل حق، ولذا قال تعالى:
________
(1) هذه رواية أحمد عن ابن عباس: مسند بني هاشم - بداية مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (2217).(8/4408)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
(وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
المنع هنا هو الترك، وهو لازم لمنع، فأطلق الملزوم، وأريد لازمه وما أحد بمانع رب البرية أنى هو ترك، لحكمة أرادها، وأمر قدره، وهو أنه يعلم - وهو علام الغيوب أن الآيات الحسية لَا يؤمنون بها كما لَا يؤمن بها من سبقهم، ولأن الآيات الحسية، كحاصب من اأسماء، أو خسف أو ريح صرصر ينقضي بعد ساعته، ويكون خبرا من الأخبار، ولو أن القرآن سجل معجزات عيسى وموسى ونوح وإبراهيم ما علم بها أحد علما متواترا لمن غير تحريف.
وقوله تعالى: (أَنْ نُرْسِلَ) مصدر منسبك من " أن " وما بعدها في المفعول للمنع، وقوله تعالى: (إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ) وهم الذين نزلت إليهم، و " أن " وما بعدها في مصدر منسبك في موضع الفاعل للمنع، وقد علمت أن المنع أريد به الترك وإنما عبر بالمنع ولا يوجد من يمنع؛ للإشارة إلى أن الحكمة التي أرادها رب(8/4408)
العالمين من الآيات هي التي تمنع، فاللَّه تعالى هو الذي منع ذاته العلية، كقوله تعالى: (. . . وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).
وقد ذكر اللَّه تعالى آية كان العرب يعلمون بها، وقد كانت في أرضهم، وقريبا من دارهم، فقال تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً)، أي مبينة هادية ليبصروا بها الحق، ولكنهم بعد أن أبصروه تجنبوه، وقال تعالى: (وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ)، أي أنه سبحانه آتاها لثمود، مع أنه آتاها لصالح حجة له، ولكن ذكر الإيتاء لهم، وقد كفروا وضلوا بها، ولأنها نزلت فيهم حجة عليهم؛ لأنهم هم الذين طلبوها.
(فَظَلَمُوا بِهَا)، أي بسببها، أو تضمُّن الظلم معنى الكفر، فيكون المعنى فكفروا بها، ولم يصدقوا، ولم يذعنوا لما تهديهم إليه، ويقول: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)، أي ما نرسل الرسل مؤيدين بالآيات إلا تخويفا، إلا ليعلموا رسالة الرسل الذين جاءوا مبشرين ومنذرين، فمعنى التخويف هو ما تدل عليه من الرسالة المنذرة المخوفة من عذاب اللَّه تعالى.
ويقول تعالى في آيات حسية جاء بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانت فتنة فقال:(8/4409)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
(وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
" إذ " متعلقة بمحذوف تأويله " اذكر "، أي اذكر الوقت الذي قلنا: (إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ)، الناس إما أن يريد بهم الناس جميعا، وهو الظاهر، فالعام لَا يراد به بعض من يشملهم إلا بقرينة تدل على الخصوص، ومعنى الإحاطة العلم أو القدرة أو الإهلاك، فمن العلم قوله تعالى: (. . . أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)، والقدرة أي أن كل شيء في قبضته، والإهلاك مثل (. . . وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ. . .)، أي تعرضوا للهلاك.
والمعنى إنا أعلمناك بوحي أن الناس قد أحيط بهم، وأنهم في قبضة اللَّه تعالى، واللَّه عاصمك منهم فبلغ دعوتك غير خائف، فإنه سبحانه وتعالى(8/4409)
عاصمك من الناس كما في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. . .).
ويفسر الزمخشري الناس بأنهم أهل مكة، والإحاطة الإهلاك، وقد بلغ اللَّه نبيه يوم بدر بأن يهلكهم، ويفسر الرؤيا المنامية بأنها رؤياه أنه مهلكهم في هذه الغزوة، وأنه إن لم يهلكهم بالإبادة فقد أضعف سلطانهم، وقد قال في ذلك: " واذكر إذا أوحينا إليك أن ربك (أَحَاطَ بالنَّاسِ)، أي بقريشِ، يعني بشرناك بوقعة بدر، وبالنصرة عليهم، وذلك قوله: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُولُّونَ الدُّبُرَ)، (قُل لِّلَّذِين كفَرُوا سَتُغَلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ. . .)، وغير ذلك، فجعله كأنه قد كان وجد، فقال أحاط بالناس على عادته في إخباره، وحين تزاحف الفريقان يوم بدر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في العريش مع أبي بكر - رضي الله عنه - كان يدعو ويقول: " اللهم إني أسألك عهدك ووعدك " (1) ثم خرج وعليه الدرع يحرض الناس إلى آخر ما جاء في أخبار بدر ".
وخلاصة تفسير الإمام الزمخشري أنه يفسر الناس بأهل مكة، وأن الرؤيا رؤيا منامية، وأنه رؤيا النبي - صلى الله عليه وسلم - التي رآها عندما التقى الجمعان في يوم الفرقان، وأن الهلاك ذهاب شوكة المشركين، وإن أخبار القرآن الكريم تكون عن وقائع المستقبل كأنها وقعت الآن، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر بذلك عندما اشتد أذاهم وإثباتهم، وكانت الفتنة في أنهم كذبوا.
ونحن مع إجلالنا لمقام الإمام الزمخشري في البيان لَا نرى رأيه.
أولا: لأنه تأويل بعيد، ولأنه لَا تكون فتنة، ولم يحدث كفر لهذه المناسبة.
ثانيا: لأن الأصل إطلاق العام على عمومه، حتى يقوم دليل أو قرينة على إرادة التخصيص.
________
(1) رواه البخاري: الجهاد والسير - ما جاء في درع النبي - صلى الله عليه وسلم - (2699)، وأحمد: مسند بني هاشم (2885).(8/4410)
ثالثا: أن الآية مكية، وقد أجاب عن ذلك بأن الكلام كان تبشيرا بما سيكون يوم بدر، ونقول: إن الالفاظ لَا تساعده، ولا تومئ إليه، والقرآن كتاب عربي مبين.
ولذلك نرى أن اللَّه أحاط بالناس، وأنهم في قبضته، وأنه قادر على كل شيء، وعاصم نبيه منهم، وحافظه حتى يؤدي رسالة ربه تعالى.
ولكن ما هي الرؤيا؟ قال أهل اللغة: الرؤيا تستعمل في الرؤية البصرية في اليقظة، والرؤيا المنامية في النوم، ويصح أن يراد بها هنا البصرية في اليقظة، وهي الإسراء، " فقد أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ".
وقد كانت فتنة للناس؛ لأن من أهل مكة من ذهب به الاستغراب والدهشة إلى حد الردة بعد الإيمان، أو على الأقل الشك بعد اليقين، ويصح أن يراد الرؤيا التي تكون بالروح، وهي ما كان بالعروج إلى الملأ الأعلى على ما اخترنا واتبعنا فيه كثرة من السلف الصالح.
ونلاحظ هنا أن المشركين كانوا يطالبون بآيات كآيات عيسى وموسى، فلما جاءتهم كفروا، فلما جاءتهم في انشقاق القمر، قالوا سحر مستمر ولما جاءتهم في الإسراء كفروا فصدق فيهم قول اللَّه تعالى: (وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ)؛ لأنهم طبع على قلوبهم فلا يفقهون، هذا ما نراه، ولا مانع من أن نذكر أمرا يتعلق بتاريخ الإسلام، وإن كنا لَا نرى ذلك في هذه الآية، وربما نراه في غيرها.
لقد قال سهل بن سعد: إنما هذه الرؤيا هي أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يرى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فاغتم لذلك، وما استجمع ضاحكا من يومئذ حتى مات رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - (1). وإن ذلك يؤيده التاريخ، فقد صيروا الحكم ملكا
________
(1) رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير مُصعب بن عبد الله بن الزُّبير، وهو ثقة، كما رواه اليهقى في الدلائل، وابن عساكر. كنز العمال (31763) - ج 1/ 2263.(8/4411)
عضوضا، وذهبت الشورى، وقد قال الحسن البصري في شأن بيعة معاوية (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ).
قال تعالى: (وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ) وذلك لسوء مذاقها، وقبح مكانها، وأنها تخرج من أصل الجحيم، فليس معنى لعنها أنها مطرودة كما يطرد العصاة المسئولون، لأنها لَا توصف بالعصيان والمسئولية، وإنما هي مذمومة، فيقال للطعام القبيح المذاق ملعون، وهي معطوفة على قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ) فهي فتنة لهم كما أن الرؤيا كانت فتنة لهم، وقال تعالى مشيرا إلى أنها فتنة: (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65).
وإنها كانت فتنة لهم، لأنهم بدل أن يعتبروا بما فيها من إرهاب، وإفزاع فتنوا بالألفاظ، فقالوا: إنها تخرج في أصل الجحيم، ونار الجحيم تأكل الحجارة فكيف تنبت فيها الأشجار، وأخذوا مفتونين يرددون هذا القول كأنهم أخذوا على القرآن أمرا مختلفا، فكانت هي الأخرى فتنة لهم، والضال لَا يتجه إلى الحق اتجاها مستقيما، فهو يتعرج به في المعارج من غير اتجاه إلى صراط مستقيم.
وقد ذكر الزمخشري أن النار ربما لَا تحرق في طبائع الأشياء، فقال: " قالوا إن محمدا يزعم أن الجحيم تأكل الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر، وما قدر اللَّه حق قدره من قال ذلك، وأنكروا أن يجعل اللَّه الشجرة من جنس لَا تأكله النار فهذا وبر السمندل، وهو دويبة ببلاد الترك تتخذ منه مناديل إذا اتسخت طرحت في النار، فيذهب الوسخ ويبقى سالما لَا تعمل فيه النار، وترى النعامة تبتلع الجمر، وقطع الحديد المحمر كالجمر بإحماء النار فلا تضرها، ثم أقرب من ذلك أنه خلق في كل شجرة نارا فلا تحرقها ".
وقد قرب الزمخشري وجود شجر ينبت أصلها بالجحيم بالواقع المشاهد، ولكن تقرر أن قدرة اللَّه تعالى فوق ما يتصور المشركون، وكل شيء عنده بمقدار،(8/4412)
وكل أمر يذكر لغاية يتخذونها على النقيض، ولذا قال عن الشجرة الملعونة، (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا) بهذه السخرية والاستهزاء والتهكم على أهل الإيمان.
* * *
إبليس والكرامة الإنسانية
قال اللَّه تعالى:
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
* * *
نبه سبحانه وتعالى إلى أصل الخلق والتكوين، ونبه إلى أن أصل عداوة إبليس لآدم هو أنه يحسد آدم على ما أتاه اللَّه تعالى من تكريم حرم إبليس وذريته منه، فناصب آدمَ العداء لهذه الكرامة، وحاول أن يفض (1) فيها بالإغراء بالمعاصي، وبذلك فهم أنه بمقتضى الفطرة أن الكرامة والعصية نقيضان لَا يجتمعان فمن كان
________
(1) الفض: الكسر بالتفرقة. الصحاح.(8/4413)
عاصيا يتفحش في المعاصي لَا كرامة له، وإن ظهر بين الناس متغطرسا طاغيا، فإن الكرامة ليست هي السلطان، إنما هي الحق، فإن كان مع السلطان الحق توافرت الكرامة، وإن خلا منها فهو المهين المتغطرس، وهذا يشير إلى أن المشركين في إشراكهم لَا كرامة لهم، وإن تعصبوا وغلبت عليهم العنجهية الجاهلية.
ولذا قال تعالى:(8/4414)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ).
" الواو " لوصل الكلام، إذ إنهم يتغطرسون ويطيعون الشيطان فيبين اللَّه أنهم إذ يطيعونه يذهبون بالتكريم الذي كرمهم اللَّه تعالى، وينزلون برءوسهم وأجسامهم، إلى كرامة أبيهم آدم، و " إذ " متعلقة بمحذوف، ويذكر اللَّه تعالى أمره للملائكة بالسجود مضيفا الأمر إلى ذاته العلية بيانا لمركز آدم، واللَّه تعالى بذاته العلية وجه الأمر إلى الملائكة بالسجود، وإن إبليس كان يدخل في عموم المخاطبين بهذا الأمر أكان من الملائكة أم كان من الجن، كما صرحِ بأنه من الجن في آية أخرى، إذ قال: (. . . إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. . .)، والسجود كان لآدم بوصف الآدمية، فكأن الآدمية مكرمة لذاتها، والمهانة تعتريها من المعصية، (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ)، أي أطاعوا، وخروا ساجدين إِلَّا إِبْلِيسَ، فقد تمرد، وفسق عن أمر ربه، وقال متمردا متعاليا من غير علو، كشأن أتباعه (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ) الاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الوقوع أي النفي، أي: لَا أسجد، معترضا على ربه، كما قال سبحانه في آية أخرى: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ منْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)، وقوله: (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا)، أي لمن خلقته من طين، ولكنه أتى بكلمة (طينا) على أنه حال، أي: أأسجد لمن خلقته من طين، أي أنه ينكر أن اللَّه سوَّاه، وكأنه إلى وقت السجود كان طينا حتى إلى هذه الحال، وكان هذا من مظاهر الاستكبار.
وقد بين نية الشر الذي دفع إليه الحسد، وسبب ذلك الحسد، قال:(8/4414)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
(أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ... (62)
الكاف لتأكيد الخطاب، ويقول بعض اللغويين، لَا محل لها من الإعراب، وأرى أنه لَا مانع من أن تكون في موضع(8/4414)
المفعول لرأى، والهمزة للاستفهام، ومعنى الكلام أخبرني أهذا الذي كرمت على، وفى هذا معنى التصغير لآدم، والاستكبار عليه، كأنه يقول ما هذا الذي كرمت عليَّ، أي كرمته مفضلا له عليَّ، وأنه لَا يستحق التكريم دوني، ويقول إبليس: أنا الجدير بالتكريم، كما توهم أن كونه من نار يجعله أكرم ممن هو من طين، وذلك من فرط الغرور؛ لأن الذي أمر بذلك الأمر الجازم هو الذي جعلك من نار وجعله من طين، وذلك من تغفيله، واستعلائه بالباطل، وكان قياسه هذا باطلا، واستدل نفاة القياس على بطلانه بقياس إبليس.
ثم يقول متوعدا آدم وذريته، ومتحديا ربه عن جهالة:
(لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)
اللام للقسم، ولأحتنكن جواب القسم، ودخلته نون التوكيد الثقيلة، وهو يؤكد ذلك، كقوله في آية أخرى: (. . . وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، والاحتناك: الاستئصال، من احتنك الجراد الزرع إذا لم يبق منه شيئا، وكقولك: الرجل احتنك شاتين أي أكلهما، ويصح أن يكون من احتنكت الفرس وضعت في فمها الرسن أو الحبل، يجرها منه، والمعنيان يصلحان، إذ يكون المعنى استأصلهم بالإغراء والإغواء حتى يجرهم كما يجر الرجل دابته، ويجعلهم له تبعا، وقد استثنى من ذريته فقال: (إِلَّا قَلِيلًا)، أي إلا عددا قليلا، وهو كقوله: (إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، وفي هذه الآية قال: إلا قليلا، وباجتماع يكون المخلصون من عباد اللَّه عددا قليلا.
وكيف علم ذلك؟، نقول: إنه اعتزم أن يفعل ذلك، ويريد أن يكون أتباعه عددا كبيرا، وأطمعه في ذلك أن الملائكة عندما قال الله تعالى لهم: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ. . .)، ولأنه أدرك أنه يؤتى من قبل شهوته وهواه وأنه أوتي غِرَّة بحيث يكون قابلا للانخداع لَا يستمسك، كما قال اللَّه تعالى في آدم: (. . . ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا).(8/4415)
ولقد أجاب اللَّه سبحانه إبليس على ما قاله بقوله:(8/4416)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
(قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
(اذْهَبْ) معناها هنا امض فيما أنت معتزم عليه فإن لهم اختيارا وإرادة، فلا نستمكن منهم إلا بإرادة يريدونها، ويبتغونها، ولذا قال تعالى: (فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ) والفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، والمعنى إن ذهبت وأغريت، وحاولت السيطرة على نفوسهم فمن تبعك إلى ما تدعوه إليه: (فَإِنَّ جَهم جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا) فمن يتبعك مختارا مستجيبا لإغرائك، فأنت وهم قد صرتم جمعا واحدا، جزاؤك وجزاؤهم واحد، ولذا خاطبهم جميعا باعتبار أنهم جميعا صاروا جمعا واحدا، وكان الخطاب بالجمع، لأن الخطاب له ابتداء، ولهم بالتبع، ووصفت بأنها جزاء موفور أي كامل على قدر ما أساءوا، وهي كاملة ووفاق لما أجرموا، وقد قال في وصف جزائهم في آية أخرى في قوله تعالى في سورة الحجر: (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44).
وكان الخطاب بالجمع لما ذكرنا من الخطاب لإبليس، وهم له تبع.
وقد دعاه سبحانه لأن يبذل أقصى جهده، لأن اللَّه تعالى قضى أن يهبطوا منها جميعا، بعضهم لبعض عدو، وأنه خُلِق لإغواء من يستطيع إغواءه من ذرية آدم، ولذا قال تعالى:(8/4416)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
أي استخفهم، وحرضهم، وحركهم إلى اتباعك ليجيئوا إليك تابعين، لصوتك الداعي، وجاهر به في الدعوة إلى المعاصي، (وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم)، أي صِحْ عليهم بجلبة وصياح كما يُدعَى الجيش للقتال، فأعد عدتك وأجلب من يكونون في جلبة لك (بِخَيْلِكَ) بالذين يناصرونك من خيالة، (وَرَجِلِكَ) اسم جامع لراجل، وفي الكلام تشبيه، وهو تشبيه حال الشيطان في دعوته الغاوية الضالة(8/4416)
والمستعد للشر والإغواء بحال جيش من الأشرار يستفز الأنصار والأتباع، ويكون جلبة من خيَّالة وراجلين، فهذه الحال تشبه حال جيش فساد مستعد للإغارة على الخير، وجاء فى أمر اللَّه تعالى: (وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ) في الأموال التي يكتسبونها بالسحت، ومن غير الحلال، وفي الأولاد الذين يجيئون أيضا من غير طريق حلال، وقال الزمخشري في هذه الجلبة وهذا الاستفزاز ما نصه: " مثلت حاله في تسلطه على من يغويه بمغوار أوقع على قوم وصوَّت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم، ويقلقهم من مراكزهم، وأجلب عليهم بجند من خيالة ورجالة حتى استأصلهم " أي حتى أزال كل ما فيهم من عناصر، أو غلب عليهم عناصر الشر، ثم تكلم عن المشاركة في الأموال، فقال: " وأما المشاركة في الأموال والأولاد فكل معصية يحملهم عليها، كالربا والمكاسب المحرمة، والبحيرة والسائبة والإنفاق في الفسوق، والإسراف، ومنع الزكاة. والتوصل إلى الأولاد بالسبب الحرام، ودعوى ولد بغير سبب ".
ومعنى هذه المشاركة في الأموال أنه يشاركهم في إثمها، والعذاب عليها لا أنه يشاركهم فيها بالأخذ، إنه لَا يريد منهم إلا الإغواء، فهو يغويهم، ويشاركهم في كل ماثم الإغواء.
(وَعِدْهُمْ) المواعيد الباطلة من المعبودات الأخرى غير اللَّه التي تشفع لهم - في اعتقادهم - عند اللَّه، وتمنع عنهم، وأن ذوي الأنساب هم يوم القيامة لهم المنزلة، كما هي لهم في الدنيا، واذكر لهم أيضا أن الحياة الدنيا هي كل شيء، (وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)، أي إلا أمورا تخدعهم، ولا يكون فيها جزاء، بل هي أوهام في أوهام، وإن الشيطان يولد فيهم الأوهام الكاذبة فيتصورون غير الواقع واقعا، وبذلك يُدَلون بغرور.
هؤلاء هم الذين رضوا بأن يكونوا أتباعا للشيطان حيث أغواهم، أما عباد اللَّه المخلصون فليس للشيطان عليهم سلطان، وقد تخلصوا من غوايته، وقال اللَّه تعالى فيهم:
(إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)(8/4417)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
أحس الشيطان بأنه لَا يستطيع إغواء عباد اللَّه المخلصين، وقد قال: (. . . وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ منْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، وقال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، وفي التعبير عنهم بـ (عِبَادِي) فيه إشارتان:
الإشارة الأولى: أن لهم شرف الانتساب إلى اللَّه تعالى؛ لأنهم قاوموا غرور الشيطان وخداعه وإغواءه، فكانوا جديرين بأن يختصهم اللَّه بأنهم عباده، وإن كان الجميع عبادا لأنه خلقهم، فالطائع والعاصي عباد اللَّه، لكن الاختصاص هنا للطائعين.
الإشارة الثانية: الإشارة بأن الآخرين أتباع الشيطان، فهم كعبادهم، ولذلك يقال عنهم عبدة الشيطان وعبدة الطاغوت. . .
ويقول سبحانه: (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ)، أي تسلط، لأنهم تحصنوا بالعزيمة والإرادة والعزم القوي، والاتعاظ بعظات اللَّه تعالى، والاهتداء بهدْي رسله: (وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا)، أي كفى ربك وكيلا يتوكلون عليه، ويكفيهم غرور الشيطان ويرد إغواءه عنهم؛ لأنهم استمسكوا بالعروة الوثقى وارتضوا طريق الخير طريقا.
* * *
في الوجود آيات الله تعالى ونعمه
قال اللَّه تعالى:
(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ(8/4418)
بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
* * *
هذه آيات اللَّه البينات تحوطنا فيما حولنا وفي ذات أنفسنا، وفي مجريات أمورنا توقظنا فلا نستيقظ، وهي تذكير من اللَّه سبحانه وتعالى، وروي عن ابن مسعود أنه جفت الكوفة، فقال: " يا عباد اللَّه إن يستعتبكم فأعتبوه ".
ذكر اللَّه تعالى نعمته على الناس في الفلك المشحون فقال سبحانه:(8/4419)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِه)، وإزجاء الفلك سوقه وإجراؤه، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43).
فكلمة يزجي تتضمن أن اللَّه يسوق السفينة وأحمالها، وهو الذي يجريها في وسط الأمواج المتلاطمة، وهو سبحانه حفيظ عليها في وسط الرياح التي تهزها هزا، والأمواج التي تعلو حتى تكون كالجبال، وتهبط حتى تكون كأنها تسير على بساط الأرض.
وقال تعالى: (لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلهِ) ويصف سبحانه وتعالى الفلك بأنه الفلك المشحون، أي المملوء بالأمتعة والبضائع التي تنقلها من بلد إلى بلد، أو إقليم إلى إقليم.
وهنا نذكر معجزة للقرآن الكريم، في إخباره عما يكون في المستقبل، فكل ملم بالتاريخ يعلم أن المتاجر في بلاد العرب كانت تسير بالقوافل في باطن الصحراء، حتى كان المثل: الجمل سفينة الصحراء، ويندر من العرب من كان يرى(8/4419)
البحر، ولكن القرآن تنبأ بأن الفلك ستكون هي الطريق لنقل البضائع من إقليم لإقليم، من أقصى الأرض إلى أقصاها، والآن نرى أن البلد يكون مقدار اقتصاده تبعا لمقدار سواحله، ومقدار المنشآت التي تمر بمراسيه، وتمخر عباب البحر إليه.
ولا تكاد تجد سورة من القرآن خلت من وصف البحر والجواري المنشآت، ولقد اطلع بعض البحارة على بعض تراجم القرآن - وإن لم تكن قرآنا - فعجب عندما علم أن محمد - صلى الله عليه وسلم - لم يركب البحر، فآمن.
وقوله تعالى: (لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ)، أي لتطلبوا مبتغين مريدين بعض فضله، ومن هنا للتبعيض؛ لأن الفضل الذي يبتغى بالسفائن، إنما هو سبب واحد من أسباب الكسب الحلال، وهو الاتجار، ونقل البضائع بين الأمصار عمل ذي أخطار، وهناك فضل كثير للَّه غيره، فهناك الزراعة، وهناك استخراج المعادن من باطن الأرض، واللآلئ والجواهر من باطن البحار، فكل أولئك من رحمة اللَّه، ولذا ختم الآية بقوله تعالت كلماته ونعمه: (إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) الضمير يعود إلى (رَبُّكُمُ) الذي صدر به القول و (كَانَ) دالة على الاستمرار، وقدم (بِكمْ) على (رَحِيمًا) لكمال العناية بخلقه، وللاهتمام بالإنعام وبالرحمة بهم، فالإنسان محوط بنعمه مغمور بها، ولكن قليل الشكور من بين عباده، وكثير الكفور.
وإن اللَّه كما يجري السفائن في البحار يحفظ راكبيها من كل ضر يسببه ركوب البحار أو لَا يكون به، ولذا قال تعالى:(8/4420)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
(وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
الضر هو ما يصيب الإنسان في جسمه من مرض أو خوف أو اضطراب، وإن أهوال البحر كثيرة، وخصوصا عندما كان السير فيه بالمراكب الشراعية، ولا تزال الأهوال قائمة، فمنها دوار البحر، ومنها تلاطم الأمواج وعلوها أحيانا(8/4420)
حتى تصير كالجبال، ومنها المرض حيث يكون منقطعا عن أهله، فإنه يكون في هذه الحال منقطعا عن الناس لَا يعلم به أحد ممن يستغيثهم فيغيثونه، فهل يذكر الأوثان التي يدعوها من دونه قال سجانه: (ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ)، أي غاب عن خواطركم من تدعونها آلهة وبدت لكم حقيقتها وهي أنها أحجار لَا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تبصر ولا تغيث ولا تستغاث، ولعلكم لَا تدركون هذه الحقيقة وقت سرابكم وتغمركم الأوهام التي أضلتكم وقوله تعالى: (إِلَّا إِيَّاهُ)، أي غاب كل ما تزعمون قوة، ولا يحضر اللَّه سبحانه وتعالى، و (إياه) ضمير منفصل في محل النصب، والكلام يشير إلى وحدانية اللَّه تعالى في الخلق والتكوين والعبادة.
وقوله تعالى: (وَإِذَا مَسَّكُمُ) معناه أصابكم، وقال سبحانه وتعالى: (وَإِذَا مَسَّكُم) للإشارة إلى أن البحر مخوف مرهوب، فالمس يشمل الإصابة التي تصيب الأبدان، ويشمل خوف الغرق والفزع عندما تضطرب الأمواج ويعلو الفلك وينخفض، وقد وجفت القلوب واضطربت الأفئدة.
وقال تعالى: (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنسَانُ كَفورًا).
الفاء هنا عاطفة لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهو ترتيب عكسي، أي أنه كان يترتب على هذا الشكر، ولكن ترتب العكس، فهذا دليل على الجحود، وعمقه في نفوسهم وتغلغله بسبب قلوبهم الكافرة غير الشاكرة.
وقوله تعالى: (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ) يشير إلى أنهم وهم في البحر هم في مخاطره، ولذلك جعلت غاية النجاة البر، (نَجَّاكُمْ) فيها معنى الإنقاذ، وأنهم ما داموا في البحر فهم عرضة لأهواله، وبعد أن جاء عصر البخار الذي تسير به السفن وسائر المراكب من قطر إلى قطر وغيرها ما تزال في البحر مخاطرة.
ويقول سبحانه: (أَعْرَضْتُمْ)، أي انصرفت نفوسكم عن معاني الضراعة ونسيتموها وكأن لم يكن ضر ولا صرف، وكذلك شأن الإنسان دائما لَا يذكر الأهوال إلا وقت نزولها فإذا زالت نسيها، كما قال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10).(8/4421)
وقد قال البيضاوي في معنى (أَعْرَضْتُمْ): اتسعتم، أي صرتم في سعة بعد ضيق واستشهد بقول ذي الرمة:
عطاء فتى يمكّن في المعالي ... فأعرض في المكارم واستطالا
وقد ذكره على أنه احتمال في المعنى، ونرى أن المعنى بعمومه يشمله.
هذا، وإن السير بالمراكب في البحار أمر شديد أو كان شديدا جدا في العصر الأول، وكان يدفع للإيمان إذا كانت النفس مدركة، ويروى أنه عند الفتح الإسلامي لمكة نفر ناس من أن يخضعوا لحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهربوا وركبوا الفلك إلى الحبشة ومنهم عكرمة بن أبي جهل، فركب البحر، فجاءتهم ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لَا يغني عنكم إلا أن تدعوا اللَّه وحده، فقال عكرمة في نفسه: واللَّه إن كان لَا ينفع في البحر غيره، اللهم لك على عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد، فلأجدنه رءوفًا رحيما، فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فأسلم وحسن إسلامه.
وإذا كانوا قد أعرضوا بعد أن زالت عنهم شدة البحر، فإن اللَّه يذكرهم، وهو العليم الحكيم أنه ينزل بهم الشدة في البر أيضا، إذ هم في قبضة الله تعالى فيقول:(8/4422)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
(أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
(الفاء) عاطفة على فعل محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم. . . . والهمزة للاستفهام الإنكاري بمعنى إنكار الواقع، لأنهم زعموا أنهم إذ نجوا أمنوا الخسف في الأرض، أو الريح الحاصب من السماء.
وإذا كانوا كذلك فهذا توبيخ لهم على هذا الغرور وظنهم الآمن المطلق بعد النجاة من البحر، وهكذا الغرور دائما تحكمه الساعة التي يكون فيها، وهي التي توحي إليه بالغرور.(8/4422)
ومعنى قوله تعالى: (أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ)، أي أن غرورهم ليس في موضعه وأنهم أمنوا حيث لَا مأمن، وظنوا أنهم قد خرجوا عن قدرة اللَّه تعالى مع أنهم قد دخلوا في قدرته، وما هم بخارجين منها، فإذا نجوا من البحر وأهواله، ففي البر أهوال، والخسف أن تنهار الأرض، ويقال: بئر خسيف إذا انهدم أصلها، وجانب البر ناحية الأرض، والخسوف يقع في جانب منها، وقال الله تعالى في قارون عندما بغى على قومه: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ. . .).
فإذا نجوا من البحر فلن ينجوا من خسف الأرض، أو يرسل اللَّه تعالى حاصبا، أي ريحا شديدة، وهي التي ترمي بالحصباء وهي الحصى الصغيرة، والحجارة من السماء تحصبهم كما فعل بقوم لوط، فقد جاء الخسف والحاصب معا، قال اللَّه تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83).
فجاءهم الخسف، وجاءهم الريح الحاصب معا وكانوا يستحقون.
وقوله تعالى: (جَانِبَ الْبَرِّ) منصوب مفعول لـ (يَخْسِفَ)، وعلل الزمخشري ذكر الجانب بقوله: " معناه أن الجوانب والجهات كلها في قدرته، وله في كل جانب برا كان أو بحرا مرصد من أسباب الهلكة ليس جانب البحر وحده مختصا بذلك، بل إن كان الغرق في جانب البحر، ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف، فهو تغيب تحت التراب كما أن الغرق تغيب تحت الماء ".
ويستفاد من هذا أن ذكر الجانب في البر في مواجهة الجانب من البحر، وليس جزءا خاصا من الأرض إنما الأرض، كلها جانب في مقابل جانب البحر كله، وكان على العاقل المدرك أن يعرف أنه لَا يغيب عن قدرة اللَّه تعالى في بر أو(8/4423)
وإذًا فهو تحت سلطان اللَّه تعالى في البحر والبر، فلا يتوهمن أنه يوجد من ينجيه من عذابه إلا إياه، وليس لأحد قدرة في أن يمنع قدر اللَّه تعالى فقال: (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا) تتكلون عليه، ويصرف عنكم ما يقدره عليكم.(8/4424)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
(أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
(أَمْ) هي أم المعادلة، أأمنتم أن يخسف بكم جانبا من البر، أم أمنتم أن يعيدكم إلى البحر تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا إلى آخره، والمعنى واضح أن غير المؤمن في غرور دائم، لَا يفكر إلا في الحال الوقتية كشأن كل مادي فيه قصر فكر وإدراك، لَا يفكر في العواقب، إنك إذ نجوت من البحر وأهواله، ونجوت من ضره وأسقامه فقد حسبت أن الوجود قد استقام كله لإرادتك وهواك، وإنه لا يجيء ما يجعلك تلجأ إلى اللَّه تعالى وحده، أفأمنت جانب البر أم أمنت أنك لا تعود إلى البحر مرة أخرى فتتعرض لعقاب على كفرك.
(تَارَةً)، أي مرة أخرى لرغبة قويت في نفوسكم أنسيتم ما أصابكم أولا، كما نسيتم رحمة اللَّه وأن ذلك بإرادة اللَّه فهو وحده الذي يعيدكم بتقوية هذه الرغبة (فيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا) (الفاء) عاطفة تفيد الترتيب والتعقيب، أي أأمنتم أن يعيدكم فيرسل، فهو في قضائه وقدره قد رتَّب على إعادتكم أن يرسل عليكم قاصفا؛ وهي الريح التي يكون لها صوت شديد مزعج كأنها تنقصف أي تنكسر، وهي لَا تمر بشيء إلا قصفته فتهز الدوح (1) وتكسرها وكل ما يقف في سبيلها تكسره، ويترتب على قصفها الفلك وشراعها أن تغرق بمن فيها، ولذا قال تعالى: (فَيُغْرِقَكُم) ولا منجاة لكم بسبب كفركم بالنعمة التي أنعمها عليكم في النجاة إذ مسكم الضر وبسبب كفركم باللَّه تعالى.
(ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا) أي مطالبا بحق لكم لأنه لَا حق لكم، إنكم بكفركم أُخذتم، فالتبيع هو من يتبع الغريم المطلوب منه أداء ما عليه، كقوله
________
(1) جمع دَوْحة، وهي الشجرة العظيمة من أي شجر كان. الصحاح.(8/4424)
تعالى: (. . . فَاتِّبَاع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ. . .)، والمعنى أنهم يصنع بهم ما يصنعه اللَّه فيهم ولا مطالب لهم بحق أو ما يشبهه.
* * *
كرامة بني آدم
قال اللَّه تعالى:
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
* * *
كرم اللَّه بَنِي آدَمَ من وقت أن خلق آدم وأمر الملائكة أن يسجدوا له، ولأن اللَّه خلق شهوة، ومَلكية فإن غلبت ملكيته فهو أفضل من الملائكة وإن غلبت شهوانيته، فهو أحط من البهائم فكان من تكريمه تكليفه، فإن ذلك التكليف علو به من البهيمية إلى الملكية أو إلى خاصة الإنسانية، ومن هذا التكريم أن كان يُبعث ويُنشر؛ لأن هذه ضريبة العقل، ولا يكون الحساب والعقاب إلا للعقلاء المختارين الذين يميزون بين الخبيث والطيب، وإن العلاقة بين هذه الآيات وما سبقها من آيات أن الآيات السابقة كانت تتعرض لاعتراض إبليس على تكريم اللَّه تعالى لآدم دونه، ثم ذكرت فضل اللَّه ونعمه وكفر المشركين بهذه النعم، وعدم شكرها.
وفى هذه الآية يذكر تكريمه للإنسان في هذه الدنيا كما كرم أباه منذ النشأة الأولى.(8/4425)
قال تعالى:(8/4426)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) التكريم يتناول التكريم الأول بأمر الملائكة بالسجود لآدم، فإن ذلك تكريم للخلق الإنساني منذ الابتداء، وليس معناه أن كل إنسان أكرم عند اللَّه من الملائكة، بل معناه أن آدم ذاته قبل أن يعصي كان مستحقا للكرامة فوق الملائكة، ولكنه بعد ذلك عصى آدم ربه فغوى، وهذا يشير إلى أن آدم يستحق الكرامة التي كرمه بها إلا إذا عصى.
وإن تكريم اللَّه للإنسان ابتداء كما رأيت منذ النشأة الأولى، ثم كان من تكريمه أن خلقه في أحسن تقويم، ثم كان من تكريمه أن أعطاه سبحانه وتعالى العقل المميز، ثم كان من تكريمه أن جعل له إرادة يختار بها الخير والشر فيعلو عن الملائكة إن اختار الخير، وذلل كل الصعوبات التي تعترض طريقه، ثم كان من تكريمه أن سخر له السماوات والأرض والنجوم وصار كل من في الوجود له، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا. . .).
وذكر اللَّه تعالى من تكريمه أنه تمكن من الأرض يُحمل فيها بالركائب التي سخرها له من بغال وحمير وخيل مسوقة وغير مسوقة وجِمالٍ له فيها جَمَالٌ حين تريحون وحين تسرحون، وكان حمله في البحر بالفلك المشحون كما ذكر سبحانه في آيات أخرى.
وإن الحمل في البر يدخل فيه الحمل في الجو بالطائرة التي تسبح في الهواء كما يجري الفلك في الماء، كما قال تعالى: (. . . وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمونَ)، وقوله تعالى: (فَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ ممَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) وإن كل المخلوقات التي لم تؤت مثل ما أوتي ابن آدم من عقل مدبر وإرادة للخير والشر وابتلاء بالخير والشر، كما قال تعالى: (. . . وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتنَةً. . .)، كل هؤلاء فضل الإنسان عليهم بالفعل والتمييز والإرادة لما يفعل وتحمل التبعة.
وقوله تعالى: (مِمَّنْ خَلَقْنَا)، (من) بمعنى بعض وهم كثرة، فالإنسان من بين ما خلق قليل محدود، وغيره كثير غير محدود، وإن هذه الكرامة يستحقها(8/4426)
الإنسان بوصف كونه إنسانا لَا لأنه عربي أو أعجمي أو أبيض أو أسود أو متخلف أو متعلم، فهي حق كل إنسان، وإن البعث والنشور والحساب والعقاب والثواب من أسباب تكريم الإنسان؛ لأنه يكون مسئولا عما يفعل، والمسئولية تكريم للإنسان لأن غير المسئول هَمْل، والمسئول من له كرامة وأدَّته إلى الجحيم، ولذا قال تعالى:(8/4427)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
(يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
(يَوْمَ) منصوب بفعل محذوف تقديره (اذكر) (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ)، ومجيء هذا بعد آية التكريم يدل على أن ذلك له صلة بالتكريم فكان من تكريم الإنسان أنه لم يخلق سدى، بل خلق متحملا التبعة التي لَا يتحملها إلا الكرماء، فمنكرو البعث رافضون للكرامة التي أكرمهم اللَّه تعالى إياها لو كانوا يعقلون.
وقوله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ) أضاف سبحانه الدعاء إليه للإشارة إلى أنهم يلقونه، وقد كذبوا من قبل بلقاء ربهم، وخسروا بذلك خسرانا مبينا كما قال تعالى: (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلقاءِ اللَّهِ)، و (إمامهم) أي بما يأتمون به ويتبعونه من بين هاد أو مرشد أو كتاب تدارسوه واتبعوه، وغير ذلك مما يكونون له تبعا، وفسره ابن كثير بأنه كتاب أعمالهم، فإنه فى هذا الوقت تكون الأعمال هي الناطقة التي تقدم أصحابها، كما قال تعالى: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29).
وإنه يرشح لذلك قوله تعالى: (فَمَنْ أُوتِيَ كتَابَهُ. . .).
ولكن كيف يسمى كتاب الأعمال في الدنيا إماما، وهو نتيجة لاتباع غيره من هاد أو ضال، ولهذا رجح الأكثرون بأن الإمام هو القدوة المتبع هاديا مرشدا، أو غاويا مضلا.(8/4427)
وقد يجاب عن الرأي الأول بأن الكتاب سمي بذلك، لأنه حجة عليه لا يستطيع معه إنكارا، (فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) الفاء تشير إلى أن هناك من يعطى بيمينه، ومن يعطى بشماله، أو هي تفصح عن كلام مقدر، (أُوتِيَ)، أي أعطي كتابه بيمينه وإعطاء الكتاب بيمينه يشير إلى أنه من أهل اليمين وهم أهل الجنة كما قال الله تعالى: (وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9)، ويقول سبحانه عن أصحاب الشمال: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44).
وقوله تعالى: (فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ)، أي أنهم يقرءون كتابهم مستمتعين بهذه القراءة مدركين جزاءهم متوقعين له، (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا)، أي مقدار فتيل، وهو ما يكون بين جزأي النواة وهو ضئيل، كما قال تعالى: (. . . وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا)، وكما قال تعالى: (. . . فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا).
وقد ذكر سبحانه أن أهل اليمين يقرءون كتابهم ولم يذكر أهل الشمال أنهم يقرءون كتابهم، لأنهم لَا يقرءونه استخزاء من أفعالهم وهو كتاب لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وإن هذه حال أهل اليمين، أما حال أهل الشمال فقد أشار سبحانه وتعالى إليها بقوله تعالى:(8/4428)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
(وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
العمى هنا هو عدم إدراك النعمة أو عدم شكرها والكفر بها، ففي الكلام استعارة حيث شبه عمى القلب بعمى البصر بجامع عدمِ الإدراك في كُلٍّ، فمن عمى في الدنيا لَا يدرك النعم أو يدركها ولا يشكرها (فَهُو فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا)، أي فهو في الآخرة أكثر عمىً وأضل سبيلا، أي أبعد عن إدراك الطريق المستقيم؛ لأنه في الآخرة قد انتهى وقت العمل وفيها الجزاء، أو لأن عمى الدنيا(8/4428)
قد يعوض بجارحة أخرى كالسمع واللمس، أما عمى الآخرة فلا يوجد فيه معوض عن البصر، ولأن عمى الدنيا قد تدركه التوبة ففي الزمان متسع لها، أما الآخرة فالعمى فيها لَا يستدرك بتوبة، إنما زمن الاستدراك في الحياة الدنيا، وإن التعبير بالعمى في الدنيا مجازي كما أشرنا وفي الآخرة هو مجازي أيضا، وقيل:
إن كلمة (أَعْمَى) الثانية هي أفعل تفضيل ويجوز ذلك في عمى القلب، ولعل ذلك أخذوه من العطف عليها بـ أضل وهي أفعل تفضيل.
ولقد روي أنه جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسألوه عن هذه الآية، فقال اقرأ ما قبلها (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) إلى قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) قال ابن عباس: من كان في هذه النعم والآيات التي رأى أعمى، فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا.
* * *
محمد يحاول هدايتهم وهم يريدون تحويله
قال اللَّه تعالى:
(وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
* * *(8/4429)
كان محمد - صلى الله عليه وسلم - محبوبا في قومه يألفونه، ويكبرونه ويعدونه فيهم خيرهم أمانة وصدقا وقوة خلق، حتى إذا بعث رسولا، فرق شعور بعضهم بينه وبينهم بسبب الحق الذي جاء به، وما هم عليه من باطل يستمسكون به، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - كان يحب هدايتهم، لأنهم قومه ولأنه داعية الحق يريد أن يؤمن الناس به فهو يحاول أن يستدنيهم ويتمنون بجدع الأنف أن يترك هداية اللَّه إلى ضلالهم، ولذا قال تعالى:(8/4430)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
(وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
الكلام موصول لما قبله بالواو، وإن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، واللام هي اللام الفارقة وهي مؤكدة، يفتنونك معناها يزيلونك عما أنت عليه أو يصرفونك، وقال الراغب الأصفهاني إن معناها يوقعونك في الفتنة، بالنزول على ما يريدون.
وأوضح المعاني أن تكون بمعنى يصرفونك عن الذي أوحينا إليك وهو القرآن الكريم، بأن تنصرف عن أحكامه وعن شريعته وعن المبادئ المقررة فيها التي تسوي
بين الغني والفقير، (لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا)، أي لتكذب على اللَّه وتدعي أنه نزل عليك غيره، وفي هذه الحال تكون خليلهم وحبيبهم كما كنت، ولذا قال سبحانه:
(وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا)، أي إذا كان ذلك منك وتحولت عن اللَّه تعالى إليهم يتخذونك وليا وخليلا، و (اللام) هي الواقعة في جواب (إذًا).
ويذكر المفسرون روايات تدل على هذه المحاولة منهم، فيقولون إن ثقيفا حاولوا أن يستنزلوا من أحكام الإسلام ما يهوون فأرادوا أن يكون الربا حلالا لهم إذا كانوا دائنين وأن يكون حراما إذا كانوا مدينين، وأن يستمتعوا بعبادة اللات إلى آخر ما ذكروا، ونقول: إن وفد ثقيف الذي طلب ما طلب كان بعد الهجرة بسنين فهو كلام يحمل في نفسه دليل بطلانه.(8/4430)
وقيل: إنهم منعوه من استلام الحجر الأسود إلا إذا كان معهم فلان، وهذا أيضا كلام يحمل في نفسه دليل بطلانه ولا يوجد من الصحاح ما يؤيده أو يشير إليه.
ولعل أقرب الروايات في أسباب نزول هذه الآية هو ما ذكر أن قريشا خلوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة يكلمونه ويفخمونه ويسودونه ويقاربونه، فقالوا: إنك تأتي بشيء لَا يأتي به أحد من الناس، وأنت سيدنا، وما زالوا به حتى يقاربهم في بعض ما يريدون فعصمه الله، وخير من هذا هو قول أكابر قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اطرد عنا هؤلاء السقاط والموالي حتى نجلس معك ونستمع منك فهمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك (1)، هذه أصح الروايات في محاولاتهم، ولها شاهد من القرآن الكريم فقد قال تعالى: (وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52).
وقوله تعالى: (وَإِن كَادُوا) ذكر محاولتهم ولم يذكر استجابة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعاذ الله أن يستجيب خاتم النبيين، ولكن رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يجذبهم إلى الإسلام ربما كانت سببا في أن يقارب بما دون الاستجابة، ولذا قال تعالى:
________
(1) انظر ما جاء في ذلك في مسلم: فضائل الصحابة - في فضل سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - (4434).(8/4431)
وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
(وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
(لولا) يقول علماء اللغة أن (لولا) حرف امتناع لوجود، أي امتناع الجواب لوجود، أي امتنع أن تركن إليهم لوجود التثبيت، أي أن إغراءهم لتعدل عن دعوتك دائم مستمر، ولكن لَا جدوى لأن تثبيت الله دائم مستمر.
وإن هذا يفيد أمورا ثلاثة:
الأمر الأول: تحريض النبي - صلى الله عليه وسلم - على الاستمرار على دعوته الحق غير مباليهم في شيء وأن يصر على قوله، ولا يتهاون قيد أنمله فيما يدعو إليه.(8/4431)
الأمر الثاني: أن اللَّه مؤيده في الحق وفي دعوة الحق المستمرة والله تعالى عاصمه منهم نفسيا وماديا، فهم لَا ينالون من جسمه ولا يمكن أن ينالوا من نفسه، فالله معه، وحامي الحق.
الأمر الثالث: أن إرادتك هدايتهم لَا يصح أن يأتوك من قبلها.
وقد أكد الله تعالى أن إغواءهم من شأنه أن يميل إليهم، ولكن محمدا في عصمة ربه وتثبيته، واللَّه تعالى يثبت القلوب كما يثبت الألسنة: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27).
ويقول: (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا).
أكد سبحانه أنه كاد يميل إليهم، وكان التأكيد باللام وبقد، ولكنه وصف الكيدودة بأنها شيء قليل لم تَمِل معه النفس، وكان تأكيد الميل لقوة الإغراء وقوة ما يحاولون أن يميل قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، و (تَرْكَنُ) معناه تميل، ولم تكن استجابة ولكن مظنة الاستجابة لولا عصمة الله تعالى.
وقد حذر اللَّه تعالى نبيه من هذه الاستجابة بقوله تعالى:(8/4432)
إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
(إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
(إِذًا)، أي إذا كان منك أنك ركنت إليهم، وجرَّك هذا إلى الاستجابة لهم (لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) اللام جواب (إِذًا) أذقناك عذابا هو ضعف عذاب الحياة بعجزك عن التبليغ والخزي، والهوان والذلة، فيكون عذابا مضاعفا يكون معه الخزي والهوان وهذا ضعف عذاب الحياة، أما ضعف الممات فهو أن العذاب يكون يوم القيامة مضاعفا، والعذاب يكون على مقدار العلم ومقدار ما أوتي من بيان وأي علم أعظم من علم النبوة، وأي آيات أعظم من تأييد الحق، وإن العذاب يكبر بكبر من وقع في سببه.(8/4432)
ولقد قال الزمخشري في هذا المقام: في ذكر الكيدودة وتقبلها مع إضافة العذاب الشديد المضاعف في الدارين دليل بين على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته، وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة مضادة للَّه تعالى، وخروج عن ولايته وسبب موجب لغضبه ونكاله، فعلى المؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها فهي جديرة بالتدبر وأن يستشعر الناظر فيها الخشية.
وإنه إذا كان قد ذكر القرآن الكريم أنه كاد يركن، فليس معنى النص يفيد أنه ركن، وقد ذكر اللَّه عقابا مضاعفا للركون لَا لقرب الركون، فمعنى (إِذًا لأَذَقْنَاكَ. . .)، أي إذا ركنت أذقناك، وهذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يمكن أن يكون منه ركون، وهو تحذير لأمته من أن يخطوا مع الظالمين وأن يركنوا إليهم، كما قال تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113).
ولقد قال تعالى محذرًا محمدا وأمته: (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا)، العطف بـ (ثُمَّ) بعد النصرة إذا كان منه الركون، وقال: (عَلَيْنَا)، أي ليس لك علينا أن ننصرك إنما نتركك لمن ركنت إليهم، وإن ذلك تحذير للأمة من أن تركن لظالم قط، أو تقع تحت إغوائه، وأنهم كانوا يحاولون إخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة، ولذا قال تعالى:(8/4433)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
(وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
كان كفار مكة يكيدون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأصحابه، فلقد آذوا أصحابه إيذاء بالغا، حتى إن منهم من مات تحت حر العذاب كأم عمار بن ياسر وأبيه، وحتى إن منهم من نطق بالكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، وقد هاجر منهم فرارا من الأذى إلى الحبشة طائفة من المؤمنين استنقاذا لإيمانهم وقد هاجروا مرتين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ثابت في مكانه مقيم يشارك من لم يستطع السفر الأذى والمصابرة، ولو خرج لضاقوا في أنفسهم، واشتد بهم الألم بعدم من يشاركهم، وهو قطب الدعوة.(8/4433)
رأى المشركون ذلك ورأوا أن يزيدوا في إيذائه ليزعجوه ويستفزوه ليخرج، وبلغ ذلك أقصاه عندما هموا بقتله أو تثبيته أو إخراجه، وإلى هذا يشير قوله تعالى: (وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا) و (إن) هنا هي المخففة من الثقيلة كما هي في الآية السابقة في التلاوة، واللام لام التوكيد فارقة بينها وبين (إنْ) النافية، ومعنى استفز، أي طلب الفزَّ بألا يكون قارا ثابتا، وهؤلاء طلبوا أن يفز النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأرض بألا تكون مستقرا له يأمن فيها ويسكن حتى لا يبقى بها؛ لأنهم علموا أنه لَا محالة مضيع شركهم قاضٍ على أوثانهم مزعج لهم فأزعجوه منها ليخرج، والأرض هي أرض مكة؛ لأنها المعهودة، فـ (أل) للعهد، ولأنها الجديرة بأن تسمى الأرض الحرام؛ لأنها الحرم الآمن الذي يُجبى إليه ثمرات كل شيء ولأنها أم القرى، إنهم يفعلون ذلك ليخرجوك من أرض مكة، ولكنه إن خرج فإنه يبتدئ زوال سلطانهم وهي تضطرب من تحتهم، ولذا قال تعالى: (وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا)، أي أنه نتيجة لخروجه من بينهم لن يستمروا بعده إلا زمنا قليلا فإن دولتهم تأخذ في الزوال، وذلك بأحد أمرين:
الأمر الأول: أن يجد قوما غيرهم يستجيبون لدعوته وتكون له بهم قوة فيردون اعتداءاتهم، وفتنهم وقد كان ذلك، فإن اللَّه تعالى أمره بالهجرة في ميقاتها عندما وجد من استجاب من أهل يثرب، فكانوا هم ومن هاجروا قوة الإسلام استنصفوا منهم، ثم زالت دولة الأوثان بعد ذلك ويئس الشيطان أن يعبد في هذه الأرض.
الأمر الثاني: أن ينزل اللَّه بهم ما أنزل بالذين آذوا أنبياءهم وأخرجوهم أو سدوا سبل الحق عليهم حتى يئسوا من أن يؤمنوا، وقال اللَّه لكل نبي منهم: (. . . لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ. . .)، فإنه ينزل عليهم من آياته خسفا، أو زلزالا، أو حاصبا، أو ريحا صرصرا عاتية.
وقد كان الأول وإن ذلك سنة الأولين، وقد قال تعالى:
(سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)(8/4434)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
(سُنَّةَ) منصوبة على أنها مفعول مطلق كمصدر، والفعل المحذوف سننا سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا، أو نسُنُّ لك سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا، وهو أنه لَا يخرج قوم أنبياءهم إلا أدلنا منهم؛ فآل لوط أخرجوا نبيهم فجعل عليهم الأرض عاليها سافلها، وثمود عقروا الناقة وآذوا صالحا فدمدم عليهم ربهم بذنبهم، وموسى أخرجه فرعون وملؤه فأغرقهم اللَّه تعالى وأدال منهم، كما قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5).
(وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا)، أي تغييرا؛ لأنها لها منهاجا معلوما لَا تتحول عنه، وهو أن ينصر رسله، وقال تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رسُلَنَا. . .)، وقد كان الأمر بالنسبة كذلك لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه بعد بضع سنين من هجرته دخل مكة محطما أوثانها، وقد آمَن أهلها وذهبت دولة الشرك.
* * *
في شريعة محمد دواء النفس ونصر الحق
قال الله تعالى:
(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)(8/4435)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
* * *
نحسب أن هذه الآيات كانت قبيل الهجرة، بل إن سورة الإسراء كلها كانت قبيل الهجرة؛ إذ فيها الإسراء، وقد كان قبيل الهجرة إيناسا للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد أن فقد عمه أبا طالب الذي كان يحميه، وزوجه خديجة التي كانت السكن المواسية، ولذا نقول: إن قوله تعالى:(8/4436)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
(أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
وإن الآيات السابقة تدل على ما كان يحاوله المشركون ليفتنوا المؤمنين في دينهم، وتطاولوا فحسبوا أنهم يفتنون محمدا - صلى الله عليه وسلم - عما أوحى اللَّه تعالى به إليه، ثم أشار إلى ما كانوا يفعلونه لكيلا تكون له مكة مقاما ومستقرا، بعد ذلك أمره بالصلاة مبينا أوقاتها له ولأمته، فقال: (أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) والصلاة فيها ابتلاء النفس بالقوة لأنها انصراف ولجوء إلى اللَّه تعالى واستحضار ذاته العلية، والصلاة هي ركن الإيمان السديد، ولقد قال تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98).
ويقول تعالى: (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)،
فكان الأمر بالصلاة والإشارة إلى أوقاتها؛ لأنها مادة الصبر. والإيمان وفيها أعلى درجات السلوان عن متاعب الحياة ولأوائها.
اللام في قوله تعالى: (لِدُلُوكِ) للتوقيت، كما تقول في توقيت أعمالك أو الحوادث كان هذا لخمسٍ خَلَوْنَ من جمادى أو نحو ذلك، ويصح أن تكون(8/4436)
للتعليل، أي أقم الصلاة لأجل دخول وقت دلوك الشمس إلى غسق الليل. . . . ولهذا يقول علماء الأصول: إن الوقت سبب وجوب الصلاة، من حيث إن الصلاة لا تجب إلا بدخوله.
وإقامة الصلاة التي هي مصدر أقام، و (أَقِمِ) معناها أداؤها مقومة مستقيمة مستوفية الأركان الظاهرة، من قيام وركوع وسجود وقراءة ودعاء وأركانها الباطنة من خشوع واستحضار لمعانيها، ومعاني قراءتها وأدعيتها حتى تكون كلها ذكرًا للَّه تعالى، وهو لب معناها.
و (دلوك الشمس) معناه ميلا من وقت زوالها، وكونها في كبد السماء إلى غسق الليل، وبهذا تشمل الآيات الأوقات كلها؛ لأنها شملت الظهر والعصر والمغرب والعشاء في غسق الليل، والفجر في قوله تعالى: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا).
وفسر بعض الصحابة الدلوك بالغروب لأنه نهاية ميل الشمس؛ إذ تختفي.
ومن فسر الدلوك بميلها في الزوال، فسرها بابتدائه، وقال الماوردي: من جعل الدلوك اسما لغروبها، فلأن الإنسان يدلك عينيه براحتيه لتبينها حالة الغروب، ومن جعله اسما لزوالها فلأنه يدلك عينيه لشدة شعاعها.
ونرى أن تفسير الدلوك بميلها، وقت الزوال هو الأوضح؛ لأن الآية بهذا التفسير تشمل كل أوقات الصلاة، ولأن (دَلَك) معناها (مال). جاء في تفسير البيضاوي ما نصه: " وأصل التركيب للانتقال، ومنه الدلك فإن الدالك لَا تستقر يده وكذا كل ما تركب من الدال واللام كدلج، ودَلَحَ، ودلع، ودلف ".
وقوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)، أي ميلها من الزوال شيئا فشيئا، فيكون الظهر ثم يشتد الميل فيكون العصر، واتساع الميل علامته طول كل الأشياء، ويكون العصر، ثم تغيب وينقطع الميل فيكون المغرب وتختفي الشمس وآثارها، فيكون غسق الليل وهو اجتماع ظلمته، وذهاب كل شفق ينير، فيكون(8/4437)
العشاء ثم نبه سبحانه وتعالى إلى الفجر وصلاته، فقال: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) عبر عن صلاة الفجر بقوله: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ)؛ لأن القراءة ركنها ولأنه يجب أن يكون الجهر بها، ولأنه يندب أن تكون القراءة فيها بطوال السور أو ببعضها، ولأن القرآن فيها مشهود مستحسن، وقوله تعالى: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)، أي تشهده الملائكة إذا لم تدرن النفس بعوجاء الحياة، واختلافات الأهواء والمنازع؛ ولأن الفجر ينبغي أن يؤدي في جماعة، ويجب أن يشهده أكثر المؤمنين القريبين من المسجد، ولأنه أول ما تستقبل به الحياة، ويصح أن نقول: إن (مَشْهُودًا) كناية عن رفعته ومقامه عند اللَّه وعند المؤمنين، وهذه الأوقات تتلاقى مع قوله تعالى في سورة الروم المكية: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18).
وبعد ذكر اللَّه تعالى الفرائض، أشار سبحانه وتعالى إلى النوافل فقال:(8/4438)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
من هنا للتبعيض، والفاء عاطفة على فعل محذوف وتقدير الكلام قم جزءا من الليل فتهجد به نافلة (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مُّحْمُودًا)، أي رجاء أن يبعثك ربك مقاما محمودا، والتهجد معناه قطع الليل في العبادة وخاصة الصلاة، وقالوا: إنه سلب الهجود أي النوم فمادة تفَعَّل تأتي أحيانا بمعنى سلب الفعل، فالتهجد سلب الهجود وهو النوم والاستراحة كالتأثم سلب الإثم أو إبعاده، والتحرج إبعاد الحرج إلى آخر أمثال هذه الألفاظ.
والمقام المحمود هو المقام الذي يحمد قائمه، وهو مقام العبادة، وهو بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - مقام الشفاعة يوم القيامة، فهو المقام الذي يشفع فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن يؤمر بالشفاعة، كما قال تعالى: (. . . وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ).
وقوله تعالى: (نَافِلَةً لَّكَ)، أي هذا التهجد نافلة أي زائدة، أي أن هذا التكليف بالتهجد كنافلة زائدة هو لك أنت مثل قوله تعالى: (. . . وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن(8/4438)
وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِي إِنْ أَرَادَ النَبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. . .).
ولقد قدمت هذه النافلة في الذكر عن قراءة الفجر وتأخرت عن صلاة الغسق، وكانت بينهما؛ لأن التهجد ليس فرضا على المؤمنين، ولقد قال تعالى في هذه النافلة المطلوبة من النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8).
وإن العبادة إذا أديت على وجهها وخصوصا الصلاة كان العبد قريبا من ربه، يدعوه فيستجيب له، ولذا قال تعالى:(8/4439)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
(وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
الإدخال متعدي دخل، والإخراج متعدي خرج، وقيل: إن هذه الآية نزلت عندما أذن للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخرج من مكة مهاجرا، وأن يدخل المدينة داعيا مستنصرا، ويصح أن يفسر الإدخال والإخراج بهذا المعنى الخاص، ونرى أنه عام في كل أمر يقدم عليه الإنسان ويريد منه خيرا، وهو بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو الدخول في تبليغ رسالة اللَّه سبحانه وتعالى، وأداؤه لها والاستمرار في أدائها والزود عنها، حتى يقبضه اللَّه سبحانه وتعالى إليه.
وما معنى الصدق في هذا المقام، يقال قول صدق، وعمل صدق، وموقعة صدق، ووقفة صدق، ونقول: الصدق هو الكمال في الأفعال والأقوال والواقع، والمواقع ومعنى صدقها أي يبتدئ بها الشخص مخلصا متجها إلى الغاية في أكمل صورها، مالكا الحق في طلبها سلوكا مستقيما من غير التواء ولا مراء، معطيا ما يحتاج إليه الأمر من وسائل الاستقامة والخلق الكريم، وفي الصدق صدق النفس بالإخلاص، وصدق العمل بالنية الطيبة، وصدق اللسان والجوارح.
فالدعاء بأن يدخله مدخل صدق، وأن يخرجه مخرج صدق دعاء بأن يحاط في المدخل والمخرج بالفضائل الإنسانية، والمكارم كلها، والحق من كل نواحيه،(8/4439)
هذا الدعاء الذي علمه اللَّه تعالى، وكل خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو خطاب لكل أتباعه لأنه الأسوة المتبع.
وآخر الدعاء قوله تعالى: (وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا) كان الدعاء الأول بلفظ المتكلم المفرد، أما في هذا الدعاء فكان بلفظ المتكلم الذي معه غيره، و (لَدُنكَ)، أي من عندك، وهي تكاد تكون في اللغة العربية خاصة بالعندية لدى الذات العلية.
وكان الدعاء بأن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه غيره بأن يهبه ومن معه السلطان أي القوة، و (نَّصِيرًا)، أي قوة تنصره وتؤيده ويستعمل السلطان بمعنى الحجة، وبمعنى التسلط، وبمعنى القوة، وهي في هذا الموضع تشمل الحجة والقوة الناصرة التي لَا تنهزم، وقد أعطاه اللَّه سبحانه وتعالى كل ما طلب، وأعطاه سلطانا له ولمن معه فأجيبت دعوته وعصمه اللَّه تعالى من الناس وجعل حزبه هو الغالب وقال: (. . . فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)، وأظهر دينه على الدين كله، واستخلفهم في الأرض ونزع اللَّه ملك فارس وممالك أخرى، وهكذا.
ونلاحظ أنه عندما طلب القوة، لم يطلبها لنفسه، بل طلبها لمن معه وهو بينهم، لتكون القوة الجماعية، ومن يطلبها لنفسه فإنما يطلبها للغلبة وقهر المؤمنين كما رأينا من رؤساء المسلمين في هذا الزمان. وإن وراء المدخل الصدق والمخرج الصدق، والسلطان للجماعة المؤمنة يكون انتصار الحق، وخذلان الباطل، ولذا قال تعالى:(8/4440)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
(وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
هذه الآية تؤذن بما سيقع بعد أن يكون الخروج الصدق من مكة بالهجرة والدخول بالمدينة وهو النصرة والإيواء.
وبعد أن أعطاهم السلطان النصير، والقوة ومجابهة الشرك، أمر اللَّه تعالى نبيه أن يقول ذلك مقررا مثبتا جاهرا بهذه الحقيقة وإن لم يكن ذلك ظاهرا، ولكن(8/4440)
أسباب النصر القريب قد وجدت وتضافرت، وكان اشتدادهم في الإعنات بشيرا للمؤمنين بقرب الفرج، وكان دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يدخله مدخل صدق وأن يخرجه مخرج صدق، إيذانا بالهجرة التي كان من بعدها النصر المؤزر.
يروى أن المؤمنين ابتدءوا الهجرة من بعد أن بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - الأوس والخزرج البيعتين على النصرة، وأن يحموا محمدا ودعوته كما يحمون نساءهم وأولادهم (1)، ومن هذا الوقت ابتدأت الهجرة فرادى وجماعات صغيرة يستخفون بها ولا يعلنون، ويظهر لمن المساق التاريخي أن دعوة الرسول بأن يدخل مدخل صدق، ويخرج من مكة مخرج صدق كان في هذا الإبان وكانت قريش تأتمر به لتقتله أو تثبته أو تخرجه وانتهت إلى قتله في مؤامراتها، وهذا في قوله تعالى:
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30).
هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقاتل المؤمنون وقوتلوا ثم كان النصر بأمر اللَّه، فقوله تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ)، أي قل مبثرا مثبتا جاء الحق غالبا منصورا وزهق الباطل أي ذهب وضاق من زهوق الروح، (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا)، أي مضمحلا غير ثابت.
ولو أننا نأخذ من روح النصوص القرآنية ما اقترن بها من حوادث، لقلنا إن هذه الآيات، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد التقى بوفد الأوس والخزرج وبايعهم بعد أن آمن من آمن منهم ولكن لم نجد في كتب التشمير ما يؤيد ما نقول وحسبنا القرآن مبينا أو مُسَيِّرا.
ولقد قال تعالى في القرآن الذي هو الحق، وبه علا الحق وكل ما فيه حق، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
________
(1) انظر في ذلك ما رواه أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - (14126).(8/4441)
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى إشراق النفوس بالحق وطمس الباطل أشار سبحانه إلى مصدر الحق في الإسلام وهو القرآن فليس فيه إلا الحق، ولا يلتمس إلا منه ولا يطلب إلا من آياته، فقال تعالى:(8/4442)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ)، (من) هنا يقول بعض علماء اللغة: إنها بيانية، أي ننزل القرآن الذي هو شفاء للناس ورحمة للمؤمنين؛ لأن القرآن كله شفاء ورحمة، وإذا جعلنا (مِنْ) للتبعيض يكون معنى الآية أن بعضه ليس فيه شفاء ولا رحمة وذلك باطل فيبطل ما يؤدي إليه.
وقال ابن عطية من المفسرين: " إن جعل (من) للتبعيض لَا ينافي أن القرآن كله شفاء؛ لأن (ننزل) معناه النزول شيئا فشيئا فيكون المعنى على هذا " وننزل من القرآن شيئا فشيئا ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين " فالتبعيض في طريقة النزول لَا في الحكم بأنه كله شفاء ورحمة للمؤمنين ".
والشفاء والرحمة للمؤمنين؛ لأنهم الذين ينتفعون به، والشفاء الذي اشتمل عليه القرآن هو شفاء النفوس من أوهام الباطل، وشفاء العقول من رجس الوثنية والأخلاق الجاهلية ومفاسد الأخلاق والرذائل الأثيمة، وتلك تخلية وبعدها التحلية، وتلك هي الرحمة، فتملأ النفوس بمكارم الأخلاق وتنظم المعاملات بين الناس في شريعة محكمة وحقائق ثابتة، وتنظم أعمال الناس بنظم اجتماعية واقتصادية تحفظ للفرد حقه في التصرف والامتلاك، وتصريف أموره في ظل جماعة عادلة رحيمة مترابطة غير متقاطعة، ولا متنازعة لَا تسلب فيها الحقوق بكلام لَا معنى له.
وإن هذا النص الكريم يتقارب في مؤاده مِن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَوْعِظَةٌ من رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِين)، وإن المؤمنين هم الذين ينتفعون بالغذاء الطيب الذي يغذي النفوس والدواء الناجع الذي يزيل أمراض القلوب، أما غير المؤمنين فلأنهم أعرضوا عن الحق، وصموا آذانهم عنه إذا سمعوا القرآن لَا يشفيهم ولا يُغذيهم بل يزيدهم خسارا، ولذا قال:(8/4442)
(وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا)؛ لأن الكافر لجوج في كفره معاند ولا تزيد الحجة المعاند إلا عندا وخسارا.
ولقد قال في وقع نزِول القرآن على المنافقين: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125).
وإن الإنسان تطغيه النعمة فيبطرها ويوئسه البلاء، إلا الصابرون، وهذا قوله تعالى:(8/4443)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
(وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
(الإِنسَانِ) (أل) للجنس، أي جنس الإنسان أنه تبطره النعمة وتطغيه، وتوئسه النعمة وتضعفه، وإن هذه طبيعة الإنسان إلا من هداه اللَّه تعالى بالصبر والإيمان، أو (أل) للعهد، وهو كما يدل عليه آخر الآية السابقة وهو الظالم الذي لا يزيده علم القرآن إلا خسارا، وإن هذه طبيعته الضالة التي جانف بها الفطرة ومال عنها.
ويقول في توجيه الحق في ذلك: إن الغريزة الإنسانية تنشأ منفعلة بما أحاطها وما منحت، فإن منحت القوة والصحة والمال ربما تطغى وتعرض عن الحق إلا أن تتهذب بتهذيب الدين، ويصيبها اليأس من روح اللَّه إن أصابها أمر يضرها ويسرها إلا أن تؤمن وتصبر.
وهذا قوله تعالى: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ) بنعمة الصحة والمال وتوفير الرزق، والسكن (أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبهِ)، أي أعرض عن الحق والتطامن له، وعن الطاعة للَّه تعالى، وقد صور سبحانه وتعالى فقال: (وَنَأَى بِجَانِبِهِ)، أي ثنى وجهه واستدبر من يخاطبه وأدار وجهه وواجه بظهره؛ وهذه صورة حسية لمن يعرض مطرحا الأمر وراء ظهره، غير ملتفت إليه.(8/4443)
(وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا)، أى كان يائسا يأسا شديدا من روح اللَّه وإنقاذه مما نزل به يأسا شديدا، (. . . إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
والشر هو ما يسوء ويؤلم ولو كانت عاقبته خيرا، وقوله تعالى: (مَسَّهُ) إشارة إلى أنه يصيبه ولو قليلا يجعله يائسا من رحمة اللَّه، فالقوة تغريه وتطغيه، والضعف ولو صغيرا يهده ويوئسه.
وهذا كقوله تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11).
معنى الآيات السابقة والقرآن الكريم في محكم آياته يبين أن الناس على أصناف شتى فمنهم المهتدي الذي يتجه إلى الحق اتجاها من غير اعوجاج، ومنهم الضال المعرض عن الحق إعراضا، ومنهم المنافق، ومنهم الذين يسلمون ولم يؤمنوا أو يرجى لهم الإيمان، وكل يسير في طريقه مختارا منتهيا إلى ما كتب له، وهذا قوله تعالى:(8/4444)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
(قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
(قُلْ) يا نبي اللَّه (كلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)، أي كل فريق، فالتنوين في (كُلٌّ) قائم مقام المضاف إليه الذي يقدر بما يناسب المقام، والشاكلة الناحية أو الطريقة أو المذهب، أي كل يعمل على ناحيته التي اختارها والمذهب الذي اعتنقه، وهذا كقوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6).
لقد حاولوا أن يفتنوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن دينه، فكأن هذه الآية رد عليهم؛ ومعناها قد اخترتم ما اخترتموه فاتركوا الناس أحرارا في اختيارهم، ولا تفتنوهم(8/4444)
عن دينهم والحكم في هذه الشواكل عند اللَّه تعالى، ولذا قال تعالى: (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا).
وربكم الذي خلقكم ورباكم هو العالم علما ليس فوقه علم بمن هو أهدى وأسلك طريقا، وهو الذي يحكم بينكم يوم القيامة وهو خير الحاكمين، وأفعل التفضيل ليس على بابه كما ذكرنا مرارا.
* * *
الروح والقرآن
قال اللَّه تعالى:
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ(8/4445)
لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
* * *
إن المشركين كانوا يعنتون في أسئلتهم وإجاباتهم، ويستعينون بأهل الكتاب في إحراج النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ويروى أنهم قد قالوا لهم: سلوه عن ثلاثة: عن الروح، وعن العبد الصالح، وعن ذي القرنين، فإن أجاب عن بعضها فهو نبي (1)، وقد بين سبحانه وتعالى حال العبد الصالح الذي صحب موسى، وعن ذي القرنين في سورة الكهف، وعن الروح فقال:
________
(1) رواه البخاري: تفسير القرآن - ويسألونك عن الروح - (4352)، ومسلم: صفة القيامة والجنة والنار (5002). العبد الصالح.(8/4446)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
سألوه عن الروح ما ماهيتها أهي عرض أم جوهر، والروح أهي الروح التي تكون في الأجسام فتجعلها تتحرك بإرادتها وتسير باختيارها، ويقصد من الناس، ويصح أن يراد منها النفس التي تتجه بالحق إلى مقاصده وغاياتها، سألوه عنها فأجاب سبحانه، أو أمر نبيه أن يجيب بقوله: (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)، أي أنها خلق من خلقه والعلم بها من شأنه وأمره الخاص به، (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)، أي ما الذي أوتيتموه من العلم إلا قدرا ضئيلا، والعلم بها فوق طاقتكم إنما اختص الخلاق العليم، وعبر بـ (رَبِّي) للإشارة إلى أنها سر خلقه وتكوينه، وقد شرف اللَّه تعالى الروح فقال تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ)، فأضاف سبحانه روح آدم إليه تشريفا وتكريما للروح الإنسانية.(8/4446)
وإن التوراة التي بأيدينا فيها النص على أن نفس كل إنسان دمه، أما القرآن كلام اللَّه الصادق الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فهو يقرر الحقيقة الثابتة الخالدة وهي أن الروح من أمر إنشاءِ اللَّه وخلقه وسر اللَّه تعالى في إبداعه وتكوينه، وما أوتي الإنسان إلا العلم بالمحسوسات واستخدام قواها، وهو لا يعرف حقيقة الأشياء ولكن يعرف مظاهرها وقوانينها الظاهرة لديه، وهذا مؤدى قوله تعالى: (وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) وهو العلم بالمحسوسات وظواهرها البيئية التي تتكشفها العقول وتعرفها الفهوم.
ألم تر الإنسان قد علا من الأرض وجعل النجوم له مراما، ووصل إلى القمر والمريخ، ويحاول أن يتعرف ما وراء هذا الفضاء فهل تراه استطاع أن يخلق ذبابا، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73.
قولوا للذين يقتعدون الفضاء وينقلون أجهزة العلم إليه: أيستطيع أحد أن ينشئ روح إنسان أو حيوان أو بعوضة في الأرض أو هامة من هوام الأرض؟ إن ذلك من شأن منشئ الوجود بديع السماوات والأرض والأجسام والأنفس والأرواح وكل شيء عنده بمقدار.
وإن القرآن هو روح الشريعة، وأنه من أمر اللَّه ومن شأنه، ولذا جاء ذكره بعد ذكر الروح التي من أمر اللَّه تعالى، فقال تعالى:(8/4447)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
(وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86)
ذهب به يستعملها القرآن الكريم بمعنى أذهبه وكأن الباء تنوب عن همزة التعدية، كقوله تعالى: (. . . وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ. . .)، أي لأذهبها ذهابا مؤكدا ومعناه ذهب بالذي أوحينا أي محاه وصحبه وأخذه معه فهو يتضمن المحو عند الناس والأخذ به عند اللَّه.(8/4447)
واللام في قوله تعالى: (وَلَئِنْ شِئْنَا) اللام الموطئة للقسم، واللام في قوله تعالى: (لَنَذْهَبنَّ) هي اللام الواقعة في جواب القسم، ولنذهبن القسم وهو قائم مقام جواب الشرط.
والمعنى أن الله تعالى يؤكد أن اللَّه تعالى قادر على أن يذهب بهذه المعجزة التي بهرت العقول والأفهام وعجز العرب عن أن يأتوا بمثلها لو شاء ذلك وأراده، ولكنه لم يشأه ولم يرتضيه وقوله: (بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) التعبير بالموصول فيه إشارة إلى أنه لَا يشاء ذلك لأنه هو الذي أوحاه سبحانه وتعالى إليه، وقال تعالى: (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا)، (ثُمَّ) هنا في موضعها من التراخي المعنوي، أي لو ذهبنا به، بَعُدَ أن تجد من يتوكل بإعادته علينا، أي بإلزامنا وبغير مشيئتنا، فالباء متعلقة بـ (وَكِيلًا)، أي لَا تجد لك وكيلا به يرده إليك علينا من غير مشيئتنا يلزمنا، معاذ اللَّه تعالى أن يكون ذلك.
وإن هذا النص الكريم يفيد أمرين:
الأمر الأول: منزلة القرآن ومكانه العظيم ومَنَّ اللَّه تعالى على الخلق به؛ لأن فيه الشفاء والرحمة والهداية والموعظة وهو فضل اللَّه على عباده وأنه لو شاء لاسترده.
الأمر الثاني: سنة بقائه إلى يوم القيامة نور الوجود الإنساني وهاديه ومرشده عندما تفسد الضمائر وتطمس القلوب.
والنص فوق دلالته المحكمة على مكانة القرآن الكريم وهدايته الدائمة يدل على أنه فاعل مختار وعلى أن قوله تعالى:(8/4448)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
(إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
(إِلَّا) الاستثناء فيها من النفي في الجملة الأخيرة من الآية السابقة [لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا] (1)، ويكون المعنى لَا تجد لك من يوكل باسترداده علينا إلا رحمة من ربك ويكون الاستثناء متصلا، أي أنه إن شاء سبحانه إذهابه
_________
(1) في هذا الموضع اضطراب في النسخة المطبوعة، ولعله خطأ مطبعي، والله أعلم.
والتصويب من مصحح النسخة الإلكترونية.(8/4448)
لا يعود، إلا رحمة من اللَّه رب العالمبن بنبيه وبالناس لينتفعوا من شفائه وهدايته ورحمته ومواعظه، فهو القرآن العظيم، ويصح أن يكون الاستثناء منقطعا ويكون متعلقا بالآية السابقة كلها، ولكن (إلَّا) بمعنى (لككن) ويكون سياق الكلام فيما نعلم هكذا: " (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا) لكن رحمة من ربك الذي علمك ما لم تكن تعلم، وشفى صدرك واصطفاك، وهذه الرحمة قامت فلم يشأ أن يذهب به ".
ولقد ختم اللَّه تعالى الآية بقوله: (إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) وإن فضل اللَّه تعالى على هذه الأمة ونبيها كان عميما بإنزال القرآن الكريم وبقائه حجة قائمة إلى يوم القيامة وبما اشتمل عليه من شفاء ورحمة وهداية، والضمير يعود إلى اللَّه، وقوله: (كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) قدم (عَلَيْكَ) للاهتيام بمنزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضل اللَّه تعالى عليه، وقد أكد سبحانه وتعالى فضله بـ (إنَّ) المؤكدة و (كان) الدالة على الاستمرار.
ولماذا أكد سبحانه وتعالى فضله في نزول القرآن على قلبه، وأن يكون معجزته الكبرى؛ الإجابة لأن المشركين حسبوا أن المعجزات. الحسية التي انقضت بانقضاء أزمانها مثل معجزات عيسى تدل على فضل هؤلاء الرسل، فبين سبحانه أن فضله عظيم على نبيه في أن اختصه بمعجزة القران الخالدة الباقية التي كانت هي المعجزة الكبرى وسجلت كل المعجزات السابقة، فلولا القرآن ما عرفتها الأجيال التالية.
ثم بين سبحانه أنه معجز للأجيال كلها إنسهم وجنهم، فقال:(8/4449)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا الخطاب فيه إعلام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكانة القرآن وأنه ليس كمثله كتاب قط، وأنه معجز يستطيع أن يتحدى به الإنس والجن في كل الأجيال،(8/4449)
ولو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله لَا يأتون ولو كان بعضهم يظاهر بعضهم الآخر، وفيه أيضا أن القرآن يعجز الجميع من الجن والإنس لَا العرب وحدهم ما توهم بعض الناس أنه لَا يعجز غيرهم، ولا يخاطب به غيرهم؛ لأنه ليس بلغتهم وأن حَسْبه أن يعجز عن الإتيان بمثله العرب.
(لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ)
(اللام) هي الموطئة للقسم، والتي تدل على أن في الكلام قسما مطويا في القول، وجواب القسم لَا يأتون، ولولا اللام لكان جواب الشرط؛ لأنه لَا يجزم الجواب إذا كان فعل الشرط ماضيا، وقوله اجتمعت يتضمن معنى انقضت واجتمعت في صعيد واحد وأرادوا أن يأتوا بمثله أو كتاب مثله لا يأتون (وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)، أي لو تعاونوا جميعا ولظاهروا على أن يأتوا بمثله؛ وذلك لأول معجز بذاته في ألفاظه وعباراته ونظمه ونسقه ونغمه، حتى إن كل جملة من جمله لها نغم وموسيقا منفردة، ولا يوجد في أية لغة من اللغات مثل هذا النغم الذي يسمع في عباراته ومعانيه، وكل ذي ذوق موسيقى يرى فيه من روائع النغم ما ليس في أي كلام بأي لغة، حتى إن كاتبا أوربيا كان يعلم العربية بعض العلم حكم بأنه لا يزال معجزا بتآخي عباراته، وموسيقا فواصله من غير أن تعتدي الألفاظ على المعاني، بل إنه يتآخى في أداء المعاني، ألفاظه وعباراته وفواصله ونغماته، ولا تدري أيها أشد تأثيرا في نفسك، وفوق هذا كل شيء فيه معجز، فشرائعه إذا قيست بشرائع عصره كان معجزا، وعلمه من أخبار وتنبيه إلى الكون معجز لأنه ينبه إلى أمور من شئون الكون لم تكن معلومة عند علماء الكون في عصره، وغير ذلك مما أحاط به علم القرآن، ثم ذكر سبحانه وتعالى معرض إعجاز القرآن فقال:(8/4450)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
(اللام) لتوكيد القول، و (قد) لتوكيده، (صَرَّفْنَا) أي حولنا فيه ضروب القول من خبر إلى إنشاء ومن استنكار إلى إقرار ومن قصص فيها الموعظة الحسنة(8/4450)
والعبرة المرشدة إلى أحكام شرعية مصلحة للآحاد والأسر والجماعة والأقاليم، رابطة بين الإنسانية في مجتمعات إلى آيات مبينة للحقائق الإنسانية والطبائع في الجواب والكون والإنسان، وكان ذلك التصريف في هذا القرآن للناس من كل مثل، و (من) هنا بيانية، أي صرفنا لهم كل مثل، أي كل حال ذكرناها لتشاكلها مع الوجود الإنساني.
وكان حقا على الناس أن يؤمنوا به، ولكنهم لم يؤمنوا، ولذا قال سبحانه:
(فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) وموضع الاستثناء هنا أن الإباء دخل على في فيقدر هكذا: فأبى أن يكثر كل شيء (إِلَّا كُفُورًا)، أي إلا أن يكونوا كافرين كفورا لازمهم، وصار وصفا من أوصافهم ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.
إن القرآن معجزة غير مزعجة ولا قارعة، ولكنها مخاطبة للعقل الذي يذعن الحقائق والقلوب المشرقة بنور الهداية ولذا طالب أهله بمعجزات قارعة، لَا لنقص في معجزة القرآن، بل لأنهم لَا يؤمنون ولأنهم ناقصون في مداركهم، ولذا قال سبحانه عنهم:
(وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
لم تصل أفهامهم إلى القرآن حتى يقتنعوا به معجزة، أو اقتنعوا به معجزة ولكنهم يمارون ويستمسكون بما هم عليه من جهل وضلال، ويتعللون بالرفض وهم في ذات أنفسهم غير رافضين، أخذوا يطلبون ما يحسبونه يعجز النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا عجز يعدل عن دعوته ويستريحون منه، ومن هذا الدين الجديد.
(وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)(8/4451)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)
(وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ) " أكدوا بـ (لَنْ نُؤْمِنَ) أي لن نؤمن مسلمين بصدق ما تدعونا إليه، حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، الينبوع العين التي يخرج الماء منها، (تَفْجُرَ)، أي تشق لنا هذا الينبوع المستمر، وكانت أرضهم جافة من الماء وهي صخرية فهم يطلبون منه أن يشقق هذه الأرض الصلبة فيخرج منها الماء المستمر الذي يكون كالغيث يشربون منه، ويسقون زرعهم.
فإن لم تكن هذه يكون الأمر الآخر الذي ذكرته الآية التالية:(8/4452)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)
(أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)
أو تكون لك (جَنَّةِّ) حديقة من نخيل وعنب تجري خلالها الأنهار لتكون ذات منظر بهيج، والتفجير بالتضعيف يفيد كثرة الأنهار وأنها تجري من خلال النخيل والكروم.
وإن هذين الطلبين أو أحدهما فيه تشبيه لحال النبي - صلى الله عليه وسلم - بحال موسى إذ ضرب بعصاه، فانفجر من الحجر اثنتا عشرة عينا فهم يطلبون معجزة كمعجزة موسى - عليه السلام -، وقد علموها فهم يطلبون مثلها، وقد جاءتهم الآيات بأقوى منها كشق القمر، فقالوا سحر مستمر، وأسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ففتنوا الناس في دينهم، حتى ارتد من ارتد من ضعاف الإيمان ومرضي القلوب.
هذا الطلب الأول أو أحد مطالبهم، وهو أولها: وهو ذو شعبتين إحداهما فَجْر ينبوع يسح بالماء طول الزمان، الثانية: أن تكون حديقة من نخيل وعنب تجري خلالها الأنهار، وهذه الشعبة يتضمن أن يكون غنيا له حدائق غناء تجري من تحتها الأنهار ليكون عظيما، والعظمة عندهم بالمال الوفير والتنعم والترفه لأنهم حسيون لا يعرفون إلا الحس والمادة والنعيم المادي الحسي.
والمطلب الثالث: الذي جعلوه أحد المطالب وكان التخيير بينها بأمر قد نقل القرآن تعبيرهم بقوله تعالى:(8/4452)
أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
(أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
هذا هو التحدي الثالث المخير فيه (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ) والمراد الكسف، وهي بدل بعض من كل من السماء، والكسف جمع كسفة وهي القطعة من السماء التي تنزل فتلقي الرعب، وقد تكون نارا تلهب وتفزع، وعبر بالسماء ثم البدل منها للإشارة إلى أن نزول القطع تساوى من حيث الرعب والإفزاع والإنذار نزول السماء كلها، وقوله: (كَمَا زَعَمْتَ) من أن السماء تنشق وتنفطر يوم البعث في مثل قوله تعالى: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)، وكما زعمت من أنه فيه نزل ذلك بنا، كما في قوله تعالى: (. . . إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِم الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ. . .).
(أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا) وهو اسم جنس جمعي لقبيلة، أي تأتي بهم قبيلة قبيلة ليشهدوا بصدق نبوته ويتضافرون على الحكم بصدقها.
وهذا الطلب فيه تحَدٍّ للرسول - صلى الله عليه وسلم - من ناحيتين:
الناحية الأول: أن قوله: (. . . إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ. . .) فيه إنذار فهم يتحدون بأن يكون ذلك الإنذار.
الناحية الثانية: أنهم يتحدون النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ينزل عليهم الملائكة قبيلا يشهدون بالصحة وهم يعلمون أن الملائكة لَا ينزلون أفواجا بهذا الشكل، وهذان مطلبان وإن كانا في آية واحدة.
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فقيرا يتيما، فطلبوا منه للمرة الخامسة واحدا من أمرين كما في المطلب الرابع: أولهما: أن يكون له بيت من زخرف أو يرقى إلى السماء عارجا، وأن يرسل كتابا يقرءونه، وهذا ما عبر اللَّه سبحانه عنه بقوله تعالى:
(أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)(8/4453)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
صدرت الآية بـ (أَوْ) الدالة على التخيير، يتحدون به النبي - صلى الله عليه وسلم - وكرر (أو)، وكلاهما مزدوج، وهذا الأمر الثالث مكون من جزءين: الجزء الأول أنهم رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتيما ثم كان فقيرا، وقد حسبوا أن النبوة مقترنة بالثروة، فالنبي يجب أن يكون ثريا ليكون عظيما، فالعظمة عندهم بالمال ولا عظيم من غير مال، ولذا قال سبحانه وتعالى عنهم: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرآنُ عَلَى رَجُلٍ منَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمً)، أي الطائف أو مكة.
هم يعيبون نبوة محمد بأنه فقير، فيقولون له: أما كان يغنيك بالمال ما دمت في الأرض، أو يرفعك إلى السماء إذا كنت ذا منزلة عند ربك (أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ) الزخرف هو الذهب، أي بيتا مموها بماء الذهب مزخرفا، فإن لم يعطك هذا ويجعلك غنيا من الأغنياء وعظيما من العظماء فليعرج بك إلى السماء (وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ) ونعلم منه أنك ارتفعت وعلوت، ونعلم هذا الكتاب رقيك إلى السماء.
والمعنى الذي يتحدون به رسالة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنك إن كنت رسولا من أهل الأرض فليجر عليك حكم أهل الأرض وأهل الأرض العظمة فيهم بالمال والثروة، وليكن لك بيت مزخرف كأهل الترفه والتنعم، وإن كنت لَا تريد أن تكون كأهل الأرض فلتكن من أهل السماء، ولترق إلى السماء لنؤمن برسالتك ولن نسلم بأنك ارتفعت إلى السماء إلا إذا نزل علينا كتاب نقرؤه.
هذا هو تحديهم وهو إلى الهزل أقرب، وقد أمر اللَّه تعالى نبيه أن يجيبهم عن هذه المطالب المتحدية بقوله: (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا) تقدست ذات ربي الذي خلقني ورباني وكملني (هَلْ كنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا).
والاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي، فهو إنكار للوقوع، معناه ما كنت إلا بشرا أرسلت من عند اللَّه تعالى. وكانت صيغة النفي على شكل الاستفهام تقريرا للنفي والإثبات وانحصار الوصف الكامل للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه بشر رسول، وليس وصف غير هذا وهو أعلى أوصاف الكمال الإنساني.(8/4454)
هذه اعتراضات المشركين ومطالبهم التي يتحدون بها النبوة، والآيات الكريمات صور من المجادلات التي كانت تقع بين النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولنقبض قبضة من السيرة الطاهرة تبين وقائع هذه الآيات الكريمات الساميات:
ذكر ابن إسحاق في السيرة أن رؤساء قريش الذين كانوا يقودون الشرك اجتمعوا عند ظهر الكعبة، ثم قال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فكلموه وخاصموه حتى تُعذروا، فبعثوا إليه فجاءهم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهو يظن أن قد بدا لهم بَدْو، وكان حريصا يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، فلما جلس إليهم قالوا له: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنكلمك، وإنا واللَّه لَا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وفرقت الجماعة، فما من أمر قبيح إلا قد جئته فيما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا فنحن نسودك علينا، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب شفائك حتى يُبرئك منه أو نعذر فيك.
قال لهم رسول - صلى الله عليه وسلم -: ما بي ما تقولون، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم، ولكن بعثني اللَّه إليكم وأنزل عليَّ كتابا أمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر حتى يحكم اللَّه بيني وبينكم.
قالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس من أحد أضيق بلدا ولا أقل ماء ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسيِّر عنا هذه الجبال التي ضيَّقت علينا وليبسط لنا بلادنا، وليخرق لنا أنهارا كأنهار الشام، وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث قصي بن كلاب فإنه شيخ صدق.(8/4455)
قال لهم الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه إنما جئتكم من اللَّه تعالى بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر اللَّه حتى يحكم بيني وبينكم.
قالوا: سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، واسأله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تَقْدُم الأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.
قال لهم الرسول صلوات اللَّه تعالى وسلامه عليه: ما أنا بفاعل وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت بهذا إليكم ولكن اللَّه بعثني بشيرا ونذيرا، فإن تقبلوا منى ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر اللَّه حتى يحكم اللَّه بيني وبينكم.
قالوا: فأسقط علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل.
قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ذلك إلى اللَّه عز وجل إن شاء أن يفعله بكم فعل.
قالوا: يا محمد فما علم ربك أننا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب فيقدم إليك فيعلمك بما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك.
وقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.
وقد انصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - وانفض جمعهم ولكن تبعه بعضهم وهو عبد اللَّه بن المغيرة ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب ولم يكن قد أسلم، فقال كلاما ختمه بقوله: فواللَّه لَا أومن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلَّما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتي ثم تأتي معك بصكٍّ معك يصحبك معه أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم اللَّه لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك (1).
________
(1) البداية والنهاية: فصل في مبالغتهم في الأذية لآحاد المسلمين المستضعفين - ج 3/ 182.(8/4456)
هذه كلمة عبد اللَّه بن أمية بن المغيرة تصور لك أنهم ما طلبوا الذي طلبوا إلا عناتا، فيقول: إنه إذا أجيب إلى كل ما طلب ما أظنه يؤمن ولكنه من بعد ذلك آمن وحسن إيمانه.
* * *
الرسالة لَا تكون إلا من البشر
(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
* * *
إن المشركين لم يكونوا يطلبون حجة غير القرآن لنقص في الحجة إنما لنقص في إدراكهم وعمى في قلوبهم، إنما يعنتون بما يطلبون، ولقد قال تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، ولقد قال تعالى: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15).(8/4457)
ولقد رأينا منهم من يقول: لو جاء ما نطلب ما ظننا أننا نؤمن. إنما الداء الذي أمرض نفوسهم هو استبعادهم أن يبعث اللَّه تعالى رسوله من البشر، ولذا قال تعالى:(8/4458)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
كان الوحي قد غاب عن العرب أمدا طويلا بعد إبراهيم وإسماعيل ولوط وصالح وهود، فكانوا يجهلون النبوات ولا يعلمون الرسالات السماوية إلا ما بقي لهم من ملة إبراهيم أبيهم، وقد كانت العصبية الجاهلية مسيطرة عليهم، وقد جعلتهم أوزاعا متفرقين، وقد جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - من أوسطهم نبيا بشيرا ونذيرا، فاستغل الذين ينافسون بني هاشم الشرف وينافسون بني عبد مناف الشرف ذلك الاستغراب أن يكون من البشر رسول وأثاروها به عليهم.
(وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا).
أي ما منع الناس الإيمان أن يدخل قلوبهم، فـ (أنْ) وفعلها ينسبك منهما مصدر هو المفعول الثاني، و (الناس) المفعول الأول، والفاعل (أنْ) التي بعد (إلا) وفعلها هو قولهم، ومعنى الكلام وما منع الناس الإيمان إلا قولهم أبعث اللَّه بشرا رسولا، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي ما منع الناس الإيمان إلا قولهم لم يبعث اللَّه بشرا رسولا، وجاء النفي على صورة الاستفهام لبيان معنى الاستغراب والتساؤل الذي أدى إلى النفي، ويلاحظ هنا أمران:
الأمر الأول: قوله تعالى: (إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى) هذه إشارة إلى أنهم لا يؤمنون بالرسالة مع أنها تحمل في نفسها دليلها؛ لأنها هادية مرشدة مقنعة مع ما تقتضيه أحكام العقول ومكارم الأخلاق.(8/4458)
الأمر الثاني: أن نفيهم لأن يكون البشر رسولا إنما هو قولهم لَا حقيقة أمرهم، فهم لَا يؤمنون بألا يكون البشر رسولا ولكنهم يقولونه قولا من غير برهان ولا إيمان.
وإذا كانوا مستبعدين أو مستغربين أن يكون البشر رسولا فهلا تكون رسالة أو يكون الرسول من الملائكة، لَا جائز أن يترك الإنسان من غير رسالة، وإذن فعلى زعمهم يكون من الملائكة، ولكن الملائكة لَا يتجانسون مع البشر فلا يهدوهم، ولذا قال تعالى:(8/4459)
قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
(قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
أمر اللَّه نبيه الكريم أن يعلمهم أن الطبيعة الملكية لَا يمكن أن تعيش قارة ساكنة مع طبيعة الأرض، وأن كل جنس في هذا الوجود له ما يشاكله، فالأرض تشاكل الإنسان والملائكة يشاكلهم مكانهم الذي يعيشون فيه، والرسول يكون من بين المرسل إليهم بل من قومهم، ولذا بين الرسالة لهم هذه الاستحالة قال قل لهم يا نبي اللَّه (لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ. . .)، أي لو كان في الأرض مكان مهيأ للأرواح الطاهرة المطهرة يمشون فيه مطمئنين، أي ساكنين سكونا يتفق مع طبائعهم الروحية (لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا)، أي رسولا من الملائكة.
و (لَوْ) كما يقول علماء البيان: حرف امتناع لامتناع، أي امتنع أن ينزل الله عليهم ملكا رسولا لامتناع أن يكون لهم في الأرض مكان يمشون فيه ويسكنون ويتفق مع روحانيتهم.
أما وجه امتناع المقدَّم، وهو الشرط؛ فذلك لأن الأرض مادة فيها زرع وغرس وفيها أحجار ورمال وغير ذلك من شئون المادة، والملائكة أرواح لَا تُرى، فكيف يمكن أن يكون لهم مكان في هذه الأرض المادية يروحون فيه ويغدون(8/4459)
ويخاطبون من أرسلوا إليهم، إنه لابد من أن تجسد هذه الأرواح ليمكن أن تُرى وأن تسير في الأرض وفي هذه الحال لَا يكون ثمة فارق بينهم وبين الآدميين، وقد قال تعالى في سورة الأنعام: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9).
ولو كان المشركون يريدون أن يخاطبوهم وهم أرواح لَا يرونها ويسمعونها فإن الأوهام تسيطر عليهم ويقول الضالون المضلون: رئى من الجن خيل لهم.
إذا كان ذلك كذلك، فمن المستحيل أن يجد الملائكة في الأرض ما يصلح لدعوتهم، وألا يكون المرسل إليهم صالحين لخطابهم والاستماع إليهم، وإذا إمتنع المقدم (لو) فإن الثاني يمنع أيضا بهذه البدهيات العقلية، يأمر اللَّه تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يرشدهم إن كان في قلوبهم متسع للإرشاد ولكنهم لَا يطلبون دليلا جديدا لنقص في الدليل، أو تغيير للرسول لعجز فيه، بل يكابرون ويعاندون.
وإذا كانوا معاندين فلا جدوى وكفى باللَّه شهيدا، وقد قامت دلائل شهادته، ولذا قال تعالى:(8/4460)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
(قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه قام الجدل بينهم وبينه، واللَّه من ورائهم محيط، وهو المؤيد والناصر لنبيه، ويقول اللَّه تعالى لنبيه: قل يا أيها النبي لهؤلاء المعاندين الضالين الذين يطلبون دليلا على رسالتك غير القرآن أو يريدون رسولا من الملائكة (كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) الباء هنا لتأكيد معنى الكفاية بشهادة اللَّه تعالى، و (شَهِيدًا) إما أن تفسر الشهادة بمعنى الحكم، وهي تستعمل في ذلك، كقوله تعالى: (. . . وَشَهِدَ شَاهِدٌ منْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ. . .)، إلى آخر الآية، ويكون معنى النص السامي، وكفى باللَّه حاكما بيني وبينكم، بأني رسول، وأن المعجزة الكبرى وهي القرآن كافية ملزمة وقد ألزمتكم الحجة، وإن حكم اللَّه واضح، وشَهادته قائمة بصدق ما جئتكم به.(8/4460)
وإما أن نقول: إن شهيدا معناه شاهد، للفصل بيني وبينكم، وحاسمة لخلافكم، والشاهد حاكم، لأن الحكم يبنى على شهادته، كما قال علي كرم اللَّه وجهه: إنما قتلك شاهداك.
والمعنى على ذلك إنما يشهد اللَّه وحده فيما بيني وبينكم، وإن شهادة اللَّه تعالى هي المحكَّمة، ولذا قال سبحانه: (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِه خَبِيرًا بَصِيرًا)، أي عليما علما دقيقا، و (بَصِيرًا) علم من يبصر، فيعرف ما يَصلح لكم وما لَا يصلح، ومن يكون رسولا ومن لَا يكون وهو على كل شيء قدير.
ثم قال تعالى:(8/4461)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
(وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
بعد أن بين سبحانه أن شهادته كافية لصدق الرسول، وصحة معجزته في الدلالة على نبوته، أشار سبحانه إلى أنه قد قام الدليل، وما بقي إلا أن يسير المهتدي فى ضوئه، ويتردى الضال في مهواة الضلالة (وَمن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ).
(الواو) عاطفة جملة على جملة، كانت الأولى بمثابة مقدمة الدليل للثانية، ومعنى (وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ)، أي من اهتدى بنور الحق، وسار في طريقه، فهو المهتد حقا وصدقا وهو البالغ الكمال في الهداية، والآخذ بالرشاد، والسالك طريق النجاة، وقد عبر عن هداية المهتدي بقوله تعالى: (وَمَن يَهْدِ اللَّهُ)، أي من سلك سبيل الحق مستقيما فإن اللَّه يهديه، فهداية الله تعالى ليس معناها الإجبار على الهداية، وإلا ما كان الجزاء الوفاق، فإنه لَا جزاء إلا مع الاختيار، وإن المهتدي يكون مختارًا في ابتداء السير، ثم أخذه في النهاية إلى الطريق الموصل للغاية بلطف اللَّه تعالى وتوفيقه، ثم قال سبحانه: (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ) الإضلال ليس معناه الإجبار على الضلال، وإلا ما ساغ العقاب بعد(8/4461)
الحساب، وإنما الإضلال معناه أن يسير الضال في طريق الضلال متبعا هواه وإغواء الشيطان، فيصل إلى نهايته بتقدير اللَّه تعالى وكتابته في سجل الضالين، وقوله تعالى: (فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دونِهِ)، أي أنصارا غير اللَّه من الآلهة التي كانوا يعبدونها أو غيرها، إنما هم يهوون إهواء في طريق الضلال من غير منجٍ منه.
والضمير يعود على معنى " مَنْ "، ومعنى (من) جمع، وكان عود الضمير في (وَمَن يَهْدِ اللَّهُ) على لفظ، وهو مفرد ومعناه جمع، وإنما أعيد في حال الضلال على المعنى لتعدد الضلال وكثرته وتشعب مسالكه، وأعيد على لفظ (من) في الهداية لتوحد طريقها، إذ يقول تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. . .)، ولقلة المهديين بالنسبة لكثرة الضالين، ولأن (أل) التي للجنس تدل على الكمال والعموم، فهي مغنية عن لفظ الجمع.
وجواب الشرط يشير إلى أن أوثانهم لَا تجديهم شيئا، ولا يصلحون لأية ولاية، ثم بين بعد ذلك عقاب اللَّه تعالى (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) فسرها بعض المفسرين بتقدير محذوف، أي مسحوبين على وجوههم، وذلك لأنهم يسحبون فعلا على وجوههم إذلالا لهم وهوانا بهم، وإظهارا لمقت اللَّه تعالى عليهم، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيسيرون على وجوههم، فقال ما مؤداه: كما سيرهم على أرجلهم سيرهم على وجوههم (1)، ويصح أن يكون ذلك مجازا لإذلالهم وأنهم لَا إرادة لهم في سير، بل يدفعون دفعًا إلى جهنم.
وقال بعض المفسرين: إن معنى (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهمْ) أنهم يسيرون منكسي الرءوس، خائفين، فالوجه يعبر به عن الذات، وذلك معقول في ذاته، ويستقيم عليه معنى النص القرآني السامي.
________
(1) قَالَ أبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حَسَنٌ. كما رواه أحمد: باقي مسند المكثرين - باقي مسند أبي هريرة - رضي الله عنه - (8293).(8/4462)
ومعنى قوله: (عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا) أنهم يكونون في عماء من أمورهم، ولا يسمعون ما تطيب به نفوسهم، ولا يتكلمون بحجة فهم يصيبهم العمى والصمم والبكم، كما عموا عن الحق فلم يبصروه، وعن الاستماع إليه، وعن النطق.
ويقول البيضاوي في معنى ذلك:
" لا يبصرون ما تقر به أعينهم، ولا يسمعون ما يلذ لهم سماعه ولا ينطقون بما يقبل منهم؛ لأنهم في دنياهم لم يستبصروا بالآيات والعبر، وتصاموا عن اسنماع الحق، وأبوا أن ينطقوا بالصدق " وقد نقله عن الكشاف، وهذا كقوله تعالى: (وَمن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا) وقد بين سبحانه الغاية من حشرهم، وهو أن يصلوا إلى مأواهم، فقال: (مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا).
أي أنهم يسكنون جهنم، والتعبير بالمأوى، وهي عادة موضع القرار والاطمئنان فيه تهكم بهم لأن جهنم لَا تكون موضع استقرار واطمئنان بل تكون موضع قلق وآلام.
وإن العذاب فيها مستمر، (كُلَّمَا خَبَتْ)، أي سكنت أو أطفئت لاستغراقها كل العظام ولحومهم (زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا) وبدلناهم جلودا غيرها، كما قال تعالى: (. . . كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا. . .).
وقد بين اللَّه تعالى سبب ذلك العذاب الأليم المباشر، وغير المباشر فقال:(8/4463)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
(ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
" ذلك " إشارة إلى ما مضى من جزاء المشركين أنهم يحشرون منكسي الوجوه لا يبصرون ما يلذ لهم أن يبصروه، ولا يسمعون ما يطيب لهم سماعه، ولا ينطقون بما يدفعون له عن أنفسهم، ومأواهم جهنم يذوقون العذاب فيها دفعة بعد(8/4463)
دفعة، والإشارة إلى هذه الصفات تتضمن أنها العقاب، وقد صرح اللَّه فوق الإشارة بالسببية، وهو الكفر بالآيات الدالة على وحدانية اللَّه، والمعجزات الدالة على إرسال الرسل وخصوصا معجزة القرآن، وهو المعجزة الكبرى.
وأشاروا إلى السبب الأصلي لكفرهم بكل الحق، وهو إنكارهم للبعث، وأشار إلى ذلك بقوله تعالى عنهم: (أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا).
أي أنهم ينكرون البعث، ويستغربونه، كيف يعودون وقد صاروا عظاما نخرة، ورفاتا ورميما، أيكونون خلقا جديدا؟! وقد ذكرنا ذلك، ورد اللَّه تعالى ذلك الاستغراب.
* * *
قدرة الآيات والكفر بها من المشركين
قال اللَّه تعالى:
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ(8/4464)
فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
* * *
أنكروا الإيمان باليوم الآخر، وعجبوا من أن يُعادوا خلقا جديدا، وقد صاروا عظاما ورفاتا، وأنكروا أن يكون القرآن معجزة، وطلبوا معجزات حسية محادة للَّه تعالى، ولتكون معجزته - صلى الله عليه وسلم - كمعجزات الأنبياء السابقين فرد اللَّه قولهم في الأمرين، ففي الأمر الأول أشار إلى قدرته على خلق أمثالهم، وأن قدرة اللَّه واسعة ولا يحاسب بها خشية الإنفاق، وفي الأمر الثاني ذكر اللَّه تعالى قدرته أنه أعطى موسى تسع آيات بينات، وقد قال فرعون بعد أن رآها، وعاينها آية بعد آية: (. . . إِنِّي لأَظنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا).
قال تعالى في الأمر الأول:(8/4465)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) (الواو) عاطفة على فعل مقدر بما يناسب الكلام، وتقديره أقالوا ذلك ولم يروا أن اللَّه الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم، والاستفهام داخل على لم يروا، ومعناه النفي مع التنبيه، يعني قد قالوا قولهم، وقد رأوا أن الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم، وإذا كان قادرا على أن يخلق مثلهم، فبالأولى وهو قادر على أن يعيد بعضهم أو كلهم، فهذا إثبات لإعادتهم خلقا جديدا بطريق دلالة الأولى، ذكر مقدم الدليل، وترك لهم أن يأخذوا التالي من المقدم.
وقوله تعالى: (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ) (الواو) عاطفة " جعل لهم أجلا " على " خلق السماوات والأرض ". . . فهو جعل لهم أجلا ينتهي ولا يتغير في نهايته، (. . . فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةَ وَلا يَستقْدِمُونَ)، فمعنى (لَا رَيْبَ) أنه لَا شك فيه؛ لأنهم يرون الناس ينتهون ولا يخلدون، ولا ريب فيه أيضا؛ لأن اللَّه أخبر أن له نهاية ينتهي إلى أجل مسمى، فالنجوم مسخرات لأجل مسمى، وقد قدم سبحانه وتعالى قوله: (قَادرٌ عَلَى أَن(8/4465)
يَخْلُقَ) على قوله (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا) للمبادرة بالنتيجة قبل أوصاف الفعل الأول، لأنها ثابتة بالرؤية والحس، وكل ما في الوجود له دور ينتهي عنده، فالليل والنهار في ميقاته، والشمس والقمر، يظهران كل في ميقاته.
والأجل الذي يذكره اللَّه تعالى أجلان: أحدهما أجل يرى ويحس، وهو أفول النجوم والكواكب، ونحوهما بالنسبة لكل ما تراه في السماء ذات البروج، والموت بالنسبة للإنسان والأحياء بشكل عام، وهو أجل تراه ينتهي كل يوم، والأجل الثاني هو أجل هذه الدنيا فإنها إلى أجل محدود هو يوم القيامة، وقد أقام القرآن الأدلة القاطعة على نهاية هذا العالم، وهو أيضا لَا ريب فيه، لقيام الأدلة بالنقل والعقل على أن الدنيا إلى فناء وبعدها الآخرة.
ومع قيام هذه الأدلة القائمة الثابتة لم يؤمن أكثر الناس، ولذا قال تعالى (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا) الفاء هنا للترتيب والتعقيب، وهي بهذه الدلالة فيها توبيخ لهم على كفرهم، لأن مؤدى القول أنه كان يترتب على هذا النظر والعلم الذي لَا ريب فيه أن يؤمنوا، ولكنهم بدل ذلك كفروا كأنهم يرتبون على الحكم المؤيد بالدليل نقيضه، والناس هنا أهل مكة أو الناس جميعا، فإن أكثر الناس لا يذعنون للحق إذا تبين، (فَأَبَى)، أي لم يرتب على ذلك أكثر الناس (إِلَّا كُفُورًا)، أي إلا كفرا بهذه الحقائق البينة، فـ (كُفُورًا) معناه كفر ملح لاح في الكفر، فزيادة المبني تدل على زيادة المعنى.
هذه حقائق ونتائجها في قلوب الكافرين، وهي عند اللَّه أوسع وأعظم هم يضيقون مدلول الآيات التي تحت أيديهم، واللَّه يريد أن يوسعوا عقولهم وتفكيرهم، ولا يقترون في مداركهم، وإن كان من أوصاف الإنسان أنه قتور ولذا قال تعالى:
(قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)(8/4466)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
كان الكلام من اللَّه تعالى؛ لأنه ذكر لحقائق الوجود، ولطبائع الأشياء والخلق والتكوين فلما اتجه سبحانه إلى بيان الطبائع الإنسانية أمر من وجب عليه التبليغ أن يبلغهم طبائعهم، فقال عز من قائل: (قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي. . .)، قل لهم يا رسولي إليهم لو كنتم تملكون خزائن رحمة اللَّه إذًا لأمسكتم، أي إنكم تضيقون على أنفسكم دانما ولا توسعون في مدارككم وتفكيركم، فلو أنتم بهذا التفكير الضيق تملكون أو تسيطرون على خزائن رحمة اللَّه على أصحابها كما ضيقتم عقولكم، ومدارككم وتفكيركم، وخزائن رحمة اللَّه هي الرزق والصحة، والقوة، وكل ما ينعم اللَّه به تعالى على عباده، وقوله: (إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ)، أي إذا كان ذلك لأمسكتم، و (اللام) هي الواقعة في جواب (إِذًا)، أي، أمسكتم على الناس ما رزقوا من رحمته (خَشْيَةَ الإِنفَاقِ)، والإنفاق هنا معناه الافتقار بمعنى الإملاق، كقوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ. . .)، أي إنكم تبخلون حتى في مال غيركم، وتمنعون أصحاب الحقوق من حقوقهم، ثم قال تعالى: (وَكَانَ الإِنسَانُ قَتُورًا)، أي بخيلا، لأنه يطلب دائما المعاوضة، وهو بالخير ضنين، وإنه يشعر بالاحتياج دائما؛ لأنه بالنسبة للدنيا يخشى النفاد، ويحرص على أن يبقى لنفسه في كل الأزمان، وهو لَا يحض على طعام المسكين خشية الفقر، وهذا في طبع الإنسان، ولكنه لَا يمنع أن المؤمنين منهم الجواد السخي الذي يعطي المال على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، ولذا قال تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)، وإن الإنسان إذا لم يهذبه دين الحق، ولا مجتمع فاضل يبدو فيه أمران: حرص شديد ليحفظ لنفسه في عزمه نفقته في القابل، وخوف الفقر، حتى تتحقق الحكمة: " الناس من خوف الفقر في فقر " فهم فقراء في ذات أنفسهم إذا خافوا الفقر، وإن هذا النص الكريم يدل على أمور ثلاثة: الأمر الأول: أن خزائن رحمة اللَّه تعالى لَا تنفد تشمل البر والفاجر، وتعم الغني والفقير، والقادر والعاجز.(8/4467)
الأمر الثاني: أن العبد هو الذي يقتر، ويحس بالفقر دائما إلا أن يكون مؤمنا يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة.
الأمر الثالث: أنه على الإنسان أن يهذب غرائزه، فإذا كان قتورا يجب أن يُعَوَّدَ السخاء والإيثار.
ذكرنا أن الآيات من قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ. . .) تدل على قدرة اللَّه على البعث، وإعادة الخلق كما بدأه، وتدل على طبيعة الإنسان وخلقه، وأنه حريص على هذه الحياة الدنيا، ومن حرصه عليها أنه قتور ضنين، ومن ضنه أنه لَا يؤمن باليوم الآخر؛ لأنه لَا يؤمن إلا بما في قبضة يده، ويحرص عليه.
وذكر أن الآيات من بعد هذا رد بالوقائع الصادقة على الذين يقولون لو جاءتهم آية حسية لآمنوا، فبين اللَّه تعالى لهم أن من سبقوكم جاءتهم آيات حسية كثيرة.
ولقد ضرب اللَّه مثلا من ذلك فرعون مع موسى فقال تعالى:(8/4468)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
(الواو) واصلة الكلام بما قبله، وهي عاطفة جملة على جملة، و (آتَيْنَا) معناها أعطيناه حجة ودليلا (تِسْعَ آيَاتٍ)، أي معجزات بينات في دلالتها على رسالة موسى إلى فرعون وبني إسرائيل، وتلك الآيات التسع كما ذكرها ابن عباس إجمالا فيما روي عنه هي: العصا التي لقفت ما ألقاه السحرة إذ أمره بأن يلقى السحرة حبالهم وعصيهم، (فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأفِكُونَ)، واليد إذ قال اللَّه تعالى: (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى)، كما قال تعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133).(8/4468)
والآية الثامنة أنه سبحانه وتعالى أخذهم بالجدب والسنين الشديدة، التي يقل الخير والثمر، ولذا قال تعالى: (ولَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ منَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).
والآية التاسعة، فلق البحر، وفتح الطريق لبني إسرائيل، وكان عليهم أن يعتبروا بهذه الآية، ولكنهم اغتروا فاتخذوا الشق سبيلا ليتبعوا بني إسرائيل، فاتبعوهم فكانوا من المغرقين.
هذه آيات، واجه موسى بها فرعون، (فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ)، أي إذ واجه بها موسى فرعون (فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا)، أي أنه بدل أن يذعن بها ويؤمن بالحق إذ جاءته بينات، كابر واستمر في غيه، وضلاله القديم وما أجدت تلك الآيات الحسية شيئا، بل قال مؤكدا، (إِنِّي لأَظُنُّكَ) الظن هنا بمعنى العلم، وقد أكد علمه بسحر موسى بـ " إن " و " اللام " و (مَسْحُورًا) قال الفراء والزجاج: إنها بمعنى ساحر، وأقول: إن معناها بمعنى مفعول لأن معناها أنك فيما تدعيه مسحور، أي مخدوع أو مخيل لك، فأنت لَا تقول الحق، بل إنك واهم.
أجابه موسى عليه موسى مستيقنا بما يقول، ومبينا له أنه يناقض حسه بما زعم من أنه مسحور أو واهم.(8/4469)
قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
(قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
ضمير الفاعل يعود إليه، لأنه المتحدث عنه في الآيات التي أُعطيها (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ) (التاء) ضمير المخاطب بالفتح على قراءة الأكثرين (1)، وفيه تأكيد موسى لفرعون أنه علم أنه ما أنزل هذه
________
(1) قراءة (لقد علمتَ) بفتح التاء، كلهم، ما عدا (الكسائي)، والأعشى عن بكر بن عاصم، فقد قرآها بضم التاء. غاية الاختصار: 2/ 551.(8/4469)
الآيات إلَّا رب السماوات والأرض بصائر، أي آيات مبصرة، وبصائر جمع بصيرة، أي من شأنها أن تبصر من له بصيرة ينظر فيها بعين قلبه متذكرا متدبرا مؤمنا مذعنا غير متمرد، وقد يقال: كيف يعلمها وينكرها كافر به وبأنعمه؛ والجواب عن ذلك أنه علم ولم يذعن لقوله تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ. . .)، من شأنها أن تلقي باليقين في نفس كل من يراها، ولكن ألْقَت في نفوسهم بالجحود، والجحود يزداد قوة كلما قويت أسباب العلم.
وقرأ علي بن أبي طالب (علمتُ) بضم التاء على أنها للمتكلم، والمعنى على هذه القراءة لقد علمت أنا بأنها نزلت من رب السماوات، والبصائر منيرة للحق، ومعجزات مثبتة للحق، وحسبي اللَّه تعالى شاهدا بها، وأما أنت يا فرعون فقد قدمنا الحجة، ولك أن تؤمن، وإن كفرت فالإثم عليك، ولذا ختم موسى - عليه السلام - بقوله: (وَإِنِي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا)، أي هالكا وملعونا وناقص الإدراك؛ والثبور الهلاك والمنع من الخير، يقال ثبره اللَّه تعالى يثبره ثبرا، أي أهلكه ومنعه.
وهنا نلاحظ أن قوله: (وَإِنِّي لأَظُنُّكَ) المراد بالظن العلم المحقق، وعبر عن العلم بالظن مجاراة لما جاء عن فرعون، وقد أكد هذا العلم أولا بـ (إن)، وثانيا بـ (اللام)، وذلك بالقسم.
ويلاحظ أنه ناداه باسمه لأنه إذا كان فرعون قد استعلى بجبروته فموسى قد أعلاه اللَّه تعالى بمقام الرسالة، فحق له أن يخاطبه باسمه الصريح، وألاحظ أن فراعنة هذا الزمان الذين مات آخرهم قريبا كان يظن نفسه أكبر.
زادت فرعون الآيات الحسية عتوا في الأرض وفسادا، ولم تقنعه، وكذلك لم تقنع أشباه فرعون من طواغيت ملكه، ولقد خرج فرعون عن عهده، فحاول إخراج موسى وبني إسرائيل بزيادة طغيانه عليه، ولذا قال تعالى:(8/4470)
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)
(فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103)
(الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه ترتب على إيتاء موسى الآيات التسع التي أقام بها الحجة أمام فرعون، ترتب عليها أن اشتد طغيان(8/4470)
فرعون، ولم يترك العناد إلى الإيمان، بل ازدإد ولوجا في الإعنات، ففيه تهكم بهم، وبمن يسلكون مخرفه، وهو طريق الشيطان. واستفزازهم إزعاجهم بالأذى، والاستخفاف: القتل والذبح، والنفي في الأرض، وقد هموا بالخروج، فأتبعهم فانفلق البحر، وكان كل فرق كالطود العظيم فدخلوه، وهذا قوله تعالى في سورة الشعراء الآيات المبينة للاستفزاز وتنجية موسى ومعه بني إسرائيل، قال تعالى:
(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68).
هذه نتائج الآيات الحسية التسع، فهل آمن فرعون بها، لم يؤمن، ولكن ازداد إعناتا وطغيانا، وكذلك يفعلون، ثم قال تعالى في آل بني إسرائيل:(8/4471)
وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
(وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
أي بعد أن نجاهم من فرعون إذ خرجوا من البحر ناجين، وغرق هو وجيشه الذي يسيطر به، ويقول لقومه بقوته: (. . . مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلًهٍ غَيْرِي. . .)، مغترا باغترارهم، ومستقويا بضلالهم، يقول قلنا لهم بلسان الحال والواقع من بعده (اسْكُنُوا الْأَرْضَ) والأرض هنا أهي أرض مصر، ومن يحكمهم فرعون بعد أن زال هو وجنوده، وصاروا عبرة للمعتبرين أم هو جنس الأرض؟.
إننا نميل إلى أرض مصر، لعلهم دخلوها مستباحة لهم ثم عادوا طالبين الأرض؛ لأن ظاهر الآيات في سورة القصص يفيد ذلك، إذ يقول اللَّه تعالى:
(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ(8/4471)
وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6).
وهذا الفساد لبني إسرائيل وأهل مصر وملأ فرعون، والخلق أجمعين لأمد محدود، وهو يوم الآخرة، ولذا قال تعالى: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) وهو الميعاد الذي تنتهي به هذه الدنيا، ويجيء وعد الحياة الآخرة (جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا)، أي مختلطين من أشتات شتى سود وبيض وصفر وحمر، وحاكم ومحكوم، وطاغ وعادل، فاللفيف ما اجتمع من الناس من قبائل شتى، أي يجيء الأذلاء والطلقاء، والأعزاء والكرماء، وكل يقوم في مقام، ويحاسبون بميزان الحق الذي لَا شطط فيه، ولا نقص ولا بخس، فأما من كان قد جاء بالخير فله الحسنى، وأما من جاء بالأخرى فله عذاب مقيم.
بعد ذلك بين اللَّه مقام القرآن وأنه بعد أن بين أن الآيات الحسية لَا تجدي مع الضلال.
قال اللَّه تعالى:
* * *
(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
* * *(8/4472)
بعد أن بين اللَّه تعالى أن المعجزة الحسية لم تُجد مع من سبقوهم، وضرب مثلا بفرعون وكيف زادته الحجة الحسية التي كثر عددها حتى صارت تسعا لما تزده إلا إعناتا واستمرارا في غيه، وهم يقلدون فرعون في طغيانه، فاتخذوه أسوة لهم في كفره بالآيات التسع، وليقصدوا القرآن، فهو حجة اللَّه تعالى الخالدة إلى يوم القيامة، ولذا قال تعالى:(8/4473)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)
(وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)
أي بالحق وحده نزل، وأفاد القصر، هو تقديم الجار والجرور على الفعل أنزلناه، أي أنزلناه من عندنا بالحق حكمة ثابتة أردناها، فإن كل معجزة تكون مناسبة لرسالة الرسول، ولما كانت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - للناس أجمعين، وهو خاتم النبيين فناسب أن تكون معجزة ليست حادثة تقع، ثم تنقضي بانقضاء زمانها، بل تبقى خالدة باقية تتحدى الأجيال إلى يوم الدين، فاللَّه تعالى هو الذي اختار بحكمته لنبيه هذه المعجزة، وهذا كقوله تعالى: (لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)، (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) يفيد الاختصاص، أي نزل مشتملا على الحق لَا بعضه، فقد اختاره الله معجزة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بالحق، وللحكمة العالية التي قدرها رب العالمين، وهو وحده الذي يشتمل على الحق من بين الكتب السماوية، فهو مهيمن عليها يبقي منها من يستحق البقاء، وينهي ما يبقى من أحكام نسخها، كالتي كانت فرضت على بني إسرائيل تهذيبا لنفوسهم، وفطما لشهواتهم.
وإذا كانت معجزة القرآن هي التي اختارها سبحانه لك، فما عليك إذا لم يؤمنوا بها، وما عليك إذا لم يهتدوا إذا قام الدليل، وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا، أي مبشرا للمؤمنين الذين آمنوا بالحق واهتدوا، ومنذرا للذين كفروا وأصموا آذانهم عن الحق، وعميت أبصارهم عن رؤيته، وضلت أفئدتهم سواء السبيل.(8/4473)
وإن هذا الكتاب الحكيم الذي هو معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - نزل مقروءا ليبقى إلى يوم القيامة حجة خالدة، ويحفظ في الأجيال بحفظ اللَّه تعالى كما قال: (إِنَّا نَحْن نَزَّلْنَا الذكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، ولقد قال تعالى في نزول القرآن.(8/4474)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
(وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
(قُرآنًا) مفعول لفعل محذوف يناسب المقام، ويبينه ما جاء بعده، وتقديره، ونزلنا قرآنا، أي نزلنا كتابا مقروءا، لَا مكتوبا فقط، ولقد علم اللَّه محمدا - صلى الله عليه وسلم - طريق قراءته، وهو ترتيله، فقال تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19).
أي إن علينا أن نقرأ القرآن قراءة مرتلة مبينة، كما قال تعالى: (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا).
فالقرآن الكريم محفوظ بكل عباراته، وكلماته وقراءاته، وتلاوته، ومنهاج هذه التلاوة؛ لأن ذلك كله متواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تواترا يُعَدُّ العلم به علما ضروريا لا يرتاب فيه إلا كافر. والتنكير في قوله تعالى: (قُرْآنًا) للتعظيم، وليذهب العقل في عظمته كل مذهب، ولأن المقصود وصفه بأنه مقروء غير مكتوب فقط، بل هو محفوظ في الصدور قبل السطور، وكان حفظه في الصدور حماية له من التحريف.
وقوله تعالى: (فَرَقْنَاهُ) فيها قراءة بالتخفيف، وأخرى بتشديد الراء، والمعنى واحد، ومتلاق، وهو أنه نزل مفرقا، ولم ينزل دفعة واحدة، بل نزل منجما نجما بعد نجم على حسب ما تقتضيه حكمته تعالى وإرادته فكان ينزل مع الحوادث، وهي تشير إلى بيانه، وليستطيع النبي وصحابته حفظه، ولو نزل دفعة واحدة ما وجد من يكتبه، لأنهم قوم أميون، ولأن الكتابة قد يصيبها التحريف، وما في الصدور لَا يحرف، ولا يصحف، ولا يذهب حفظه كشأن الكتب السابقة التي حرفت، ونسي النصارى واليهود حظا مما ذكروا به.(8/4474)
وذكر سبحانه السبب في نزوله مفرقا بقوله تعالى: (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) أي على تمهل وتطاول في المدة، فيحفظوه حفظا بدل أن يلقوا بكتابته على رقاع أو قطع من مواد أخرى كما في الشجر، وهكذا.
و (مُكْثٍ) تتضمن امتداد الزمن امتدادا يمكثون فيه من قراءته وحفظه، وتفهمه، وتعريف غاياته ومراميه، وكان الصحابة كلما جمعوا عدة آيات حفظا وترتيلا، سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن جملة معانيها إن كانوا لم يفهموها.
ثم قال تعالى: (وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا)، أي نزلناه متدرجا منجما، وآكد نزَّل بالمصدر ليعلموا أنه تنزل بمعانيه وألفاظه، ولعل في هذا ردا على الذين افتروا الكذب، وقالوا إنه نزل بمعناه، والعبارة كيف نزل، ولقد كذبوا في ذلك وأعظموا الفرية، وإن ذلك من افتراء الكفار عليه، ووهن إيمان بعض من ينتسبون للإسلام.
هذا ما ساقه اللَّه تعالى لبيان مقام القرآن وسط آيات اللَّه تعالى، وأنه أعظم آيات اللَّه تعالى في الدلالة على رسالة الرسول، وأدومها، وأتقاها، وبين أن الآيات الحسية قد جاءت في أحوال كثيرة، ولم تنتج إيمانا بل تبعها من الطغاة عتوا واستكبارا، وتوالي المظالم، وبعد هذا البيان قال اللَّه تعالى:(8/4475)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
(قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
أمر اللَّه تعالى أن يبين لهم أن إيمانهم وعدم إيمانهم عند اللَّه على سواء، فما يضير القرآن أن يؤمن به الجهال، ولا يرفعه فوق منزلته التي وضعه اللَّه فيها ألا يؤمنون، ويقول الزمخشري في هذا: " أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عنهم واحتقارهم والازدراء بشأنهم، وإنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن، وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيرا منهم وهم العلماء الذين قرءوا الكتاب، وعلموا ما الوحي وما الشرائع وقد آمنوا به وصدقوه، وثبت عندهم أنه النبي العربي الموعود في كتبهم فإذا تلي عليهم خروا سجدا، وسبحوا اللَّه تعظيما لأمره، ولإنجاز ما(8/4475)
وعد في الكتب المنزلة، وبشَّر من بعثه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وهو المراد بالوعد في قوله تعالى: (إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
وقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَجرُّونَ للأَذْقَانِ سجَّدًا) هذا النص الكريم في مقام التعليل لقوله: (آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تؤْمِنُوا)، أي سيان إيمانكم وعدم إيمانكم بالقرآن، فإنكم إن كفرتم فقد وجد من يؤمن به، ويدرك منزلته، وكان من أولي العلم قبله من يعرف قدره ويؤمن به، وينزل في قلبه المنزلة التي أرادها اللَّه تعالى.
وأولو العلم هم أهل الكتاب كما ذكر الزمخشري وغيره من المفسرين إذ أوتوا علم الكتاب السماوي، وعلم النبوات، والعلم بأنه سينزل كتاب مصدق لما بين يديه، ولعله لَا مانع من التوسع في معنى أولي العلم بأنهم أولو الإدراك والتأمل والعلم بكل ما يتعلق بالله تعالى من أهل الكتاب، وأهل الحكمة والمعرفة الذين أوتوا المعرفة، فإن هؤلاء قد يكونون من أوساط لَا إيمان فيها كإيمان مؤمن آل فرعون، وكإيمان السحرة وكإيمان الأوس والخزرج، وقوله تعالى: (مِن قَبْلِهِ)، أي من قبل البعث المحمدي، فإن هؤلاء يكونون، حيث يكون العقل والتفكير، لَا حيث الكتب السماوية فقط، ولكن الظاهر أنهم أهل الكتاب المدركون.
وقد قال تعالى في وصف أهل العلمِ عندما يتلى عليهم (يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا) (سُجَّدًا) جمع ساجد كركع، و (يخِرُّونَ) ينزلون في خشوع وخضوع ساجدين، وقوله تعالى: (يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ)، أي يخرون بوجوههم وهو أعلى موضع شرفهم البدني والتعبير بـ (يَخِرُّونَ) من قبيل تسمية الكل باسم الجزء، فهو عبر عن الوجه بأبرز أجزائه، وهو الذقن، وهو موضع الشرف، ويظهر أنها الأذقان بما يشتمل عليه من اللِّحا؛ لأن اللحية من كمال جمال الوجه.
ويقول سبحانه بعد ذلك في أوصاف أهل العلم:(8/4476)
(يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا)
ذكر سبحانه وتعالى أنهم يخرون ساجدين، وإنهم مع سجودهم يملك التأثر نفوسهم(8/4477)
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108)
(وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا (108) أي تقديسا وتنزيها وخضوعا لربنا الذي خلقنا، وأمدنا برحمته بنزول القرآن، وذكر اللَّه تعالى باسم ربنا، بيانا لامتثالهم، وبيانا لأنه رباهم، وأن القرآن من كمال تهذيبهم (إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا) (إنْ) مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، أي إنه الحال والشأن وعد ربنا، و (اللام) في قوله (لَمَفْعُولًا) لام التوكيد، وهي الفارقة بين (إنْ) النافية، و (إنْ) المؤكدة، و (كان) دالة على الاستمرار، ووعد اللَّه تعالى هو بإنزل القرآن وبعْث محمد - صلى الله عليه وسلم -، وتكرار ربنا لكمال معنى الخضوع والربوبية والعبودية، وقوله لمفعولا، أي واقعا يفعله اللَّه تعالى بإرادته المختارة وهو على كل شيء قدير، فوعد سبحانه وما أخلف.
الوصف الثالث من أوصاف أولي العلم عندما يستمعون القرآن ذكره سبحانه بقوله:(8/4477)
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
(وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
هذا هو الوصف الثالث من أوصاف أولي العلم عندما يتلى عليهم القرآن، وكرر خرورهم الأول أي سقوطهم للأذقان باكين من تأثرهم به، وإحساسهم بأن اللَّه تعالى يخاطبهم بكلامه، وأنهم يستمعون إليه فيتغلب عليهم البكاء من فرط إدراكهم، ولعلو إحساسهم، ويقول: (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)، أي خضوعا للَّه تعالى وإيمانا بحق عبوديته، فكلما تلي عليهم ازدادوا علما، وكلما ازدادوا علما ازدادوا إيمانا وخشوعهم يستمر في نمو، وإيمانهم بحق العبودية يزداد كلما تلي عليهم.
وإن هذه الآيات تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكر الزمخشري، فإذا كان المشركون قد أنكروا آيات اللَّه، فهناك أهل العلم المدركون الذين يعلمون الوحي، والرسالة(8/4477)
والرسل، ويدركون نعم اللَّه تعالى، ويعرفون رسالتك، ويقدرون معجزتك حق قدرها فلا تأس عليهم، ولا تلتفت، فاللَّه معك وأهل العلم يشهدون لك.
وإنه بعد بطلان قولهم فيما طلبوا من آيات، وبيان مقام القرآن بين اللَّه سبحانه دعوة اللَّه وأشار إلى أسمائه الحسنى فقال:(8/4478)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
(قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
(ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ) ناده باسم اللَّه أو باسم الرحمن، فإنهما صفات اللَّه تعالى، وله أسماء غيرهما تدل على جلاله وكبريائه، واتصافه بكل كمال، وذاته العلية واحدة وقوله تعالى: (أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) الأسماء التي تبلغ أعلى درجات الحسنى، التي ليس فوقها درجة، الحسنى مؤنث الأحسن، وأفعل التفضيل ليس على بابه، لأنه لا مفاضلة بين أسماء اللَّه تعالى، وأسماء غيره، (أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)، (أَيًّا) مفعول لـ (تَدْعُوا)، والتنوين عوض عن المضاف المحذوف و (مَا) صلة لتوكيد الكثرة في (أَيًّا)، أي أيَّا من الأسماء تدعو مهما يكن قدرها؛ فذلك سائغ لأن له الأسماء فإنه سبحانه له الأسماء الحسنى، على ما شرحنا.
وكان ذكر الدعاء بالرحمن أنه كالدعاء، واختص ذكر الرحمن بالذكر من صفات أللَّه تعالى وأسمائه الحسنى؛ لأن العرب كما قيل لَا يعرفون الرحمن إلا رحمان اليمامة، أو كما روي، وفي صحاح السيرة أن المشركين عندما أخذ علي يكتب العهد في صلح الحديبية قال: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، قالوا أما الرحيم فنعرفه، وأما الرحمن فلا نعرفه اكتب باسمك اللهم (1)، فاللَّه سبحانه بين بهذا أن الرحمن اسم اللَّه، وأن غيره من الأسماء الحسنى.
________
(1) انظر ما رواه مسلم: الجهاد والسير - صلح الحديبية في الحديبية (3337)، وأحمد: باقي مسند المكثرين - باقي مسند أنس - رضي الله عنه - (133325). وراجع رواية البخاري: الشروط - الشروط في الجهاد (2529)، عن المسور بن مخرمة ومروان يصدق كل منهما حديث صاحبه، وفيها طول.(8/4478)
قال تعالى: (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا) وفي هذا قرينة على أن الدعاء المذكور في النص ليس هو مجرد نداء أو دعاء إنما هو عبادة، وقالوا في سبب نزول هذه الآية، أو هذا النص، إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ القرآن فيسب المشركون كلام اللَّه تعالى فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بألا يجهر، ولا يخافت، وروي أن أبا بكر كان يخافت ويقول إنما أناجي ربي، وهو يعلم حاجتي، وكان عمر يجهر ويقول: أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، فلما نزلت هذه الآية قيل لأبي بكر ارفع قليلًا، ولعمر اخفض قليلا (وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)، أي اطلب طريقا وسطا بين الجهر والمخافتة، وفي الكلام مجاز، في إطلاق وسط القراءة التي بين الجهر والخفت على الطريق الوسط.
وقيل تفسير الجهر والخفت بألا يجهر المصلي في كل صلاته، ولا يخافت في كلها، بل يجهر في صلاة الليل، ويخافت في صلاة النهار وذلك هو الوسط بين السبيل البين بعد ذلك.
وقد أنهى سبحانه وتعالى سورة الإسراء بتكبير اللَّه تعالى كما ابتدأت بالإسراء، فقال تعالى:(8/4479)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
أمر اللَّه تعالى نبيه أن يحمده ويكبره، فإنه لَا يوجد من يستحق الحمد والتكبير غيره. قل يا رسول اللَّه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، أي الحمد كله للَّه سبحانه وتعالى، فلا يستحق، ولا يختص بالحمد سواه على ما خلق وأنشأ وكون، (الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا)، وهذا يشير إلى أنه ليس مماثلا للحوادث في أي حال من أحوالهم، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وقد قال تعالى: (بَدِيعُ السَّمَوَات وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ. . .)، وقوله تعالى: (لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) يشير إلى أن جميع خلقه على سواء، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)(8/4479)
ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا، فليس هناك أبناء كما ادعى اليهود، وليس عيسى ابنه.
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)، فهو المالك الخالق لكل شيء، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ)، أي لم يكن ولي يناصره ويحميه من الذل، (وكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا)، أي تكبيرا يليق بذاته العلية.
نفى اللَّه تعالى كما ذكرنا عن ذاته العلية ثلاثة أمور، وأثبت بعد هذا النفي وجوب التكبير، أما الأمور الثلاثة، فهي اتخاذه ولدا كما ذكرنا، ونفاه؛ لأن الولد ينبئ عن الحاجة، واللَّه تعالى غني حميد، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، ونفَى سبحانه أن يكون له شريك في سلطانه فلا ينازعه أحد؛ لأنه الخالق، وهو المالك (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفونَ)، ونفى أن يكون له ولي من الذل، (الولي) النصير، ومن يكون في جواره لحمايته، وقال: (مِّنَ الذُّلِّ)، أي بسبب ذله، واحتياجه إلى النصير، وذكر لفظ الذل ليؤكد النفي فإن ذلك محال على اللَّه، ونسبته إليه سبحانه لَا يليق بذي الجلال والإكرام، وإن نفي ذلك كله ينتهي بوجوب تكبيره تكبيرا مؤكدا. فاللَّه أكبر كبيرا، والحمد للَّه كثيرا وسبحان اللَّه تعالى بكرة وأصيلا.
* * *(8/4480)
(سُورَةُ الْكَهْفِ)
تمهيد:
سميت هذه السورة بسورة الكهف، لأن أهل الكهف وقصتهم أخذت شطرا كبيرا، وعدد آياتها عشرة ومائة آية، وهي مكية، وجاء في المصحف أن الآية الثامنة والثلاثين مدنية وكذلك الآيات من 83 إلى 101، واللَّه أعلم وكلها قرآنه الحكيم.
ابتدأ سبحانه وتعالى السورة الكريمة بحمد اللَّه تعالى الذي أنزل على عبده الكتاب، كما اختتم سورة الإسراء بالتكبير، ونفى اتخاذ الولد، وبين أنه شيء نكر لا يقع من عقلاء، (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) ثم أشار سبحانه إلى زينة الأرض.
وبعد ذلك ذكر قصة أهل الكهف، وهي دليل على صبر أهل الحق، وعلى قدرة اللَّه تعالى على الإحياء بعد الموت، أو شبهه، وعلى عجائب اللَّه تعالى في خلقه، وقد استغرقت قصتهم وأحوالهم إلى قوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28).
بينِ سبحانه وتعالى الحق، وما يكون من عقاب على الباطلِ: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29).
ثم بين سبحانه جزاء المؤمنين الذين عملوا الصالحات، ويذكر سبحانه وتعالى قصة تُصَوِّر غرور غير المؤمن وإيمان المؤمن وألا يغتر باللَّه غرورا، وأن نعيم الدنيا عرضة للزوال وينصح الغرور فيقول: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ(9/4481)
لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
ولكنه بعد هذه النصيحة يستمر في غيه وغروره حتى يزول ثمره، (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44).
وقد ضرب اللَّه تعالى مثل الحياة الدنيا بما يدل على فنائها وذهاب زخرفها.
ويذكر سبحانه أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا، وخير أملا، ويذكر لهم سبحانه حالهم يوم القيامة والميزان والحساب.
ثم يذكرهم سبحانه بأصل خلق الإنسان وعداوة إبليس لآدم وذريته، وفسقه عن أمر ربه، وقد اتخذ بنو آدم إبليس وذريته أولياء من دون اللَّه، (وَهُمْ لَكُمْ عَدُو بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا).
إن اللَّه خلق السماوات والأرض، وإن لم يشهدوا خلقها، ثم ذكرهم سبحانه بيوم القيامة وما يكون فيه، ورؤية المجرمين النار وظنهم أنهم مواقعوها، ولم يجدوا عنها مصرفا.
ولقد ذكرهم سبحانه بالقرآن وتصريفه سبحانه فيه، وأنذرهم بسنة الأولين أو أن يأتيهم العذاب قبلا، ويجادل الذين كفروا بالباطل.
وبين سبحانه وتعالى ظلم من ذكر بآيات ربه فأعرض عنها، ثم ذكر سبحانه ظلم القرى وهلاكها بسبب الظلم.
قصة موسى - عليه السلام - مع العبد الصالح:
ثم ذكر سبحانه وتعالى، (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60).
حتى وجدا عبدا من عباد اللَّه صالحا، (قَالَ لَهُ مُوسى(9/4482)
هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)، ثم كانت بينهما المحاورة، وسارا فانطلقا حتى إذا أتيا سفينة فركباها فخرقها، (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) سارا (حَتَّى إِذَا لَقيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ)، قال موسى: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا) فانطلقا حض إذا وجدا أهل قرية فأراد أن يضيفوهما (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)، وقد أجابه بعد ذلك عن السفينة بأن (وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا)، وعن قتل الغلام بأن أبوِيه كانا صالحين (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا)، (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا).
ذو القرنين:
بعد ذلك جاء ذكر ذي القرنين: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)، ثم ذكر سبحانه أعماله الصالحة وكيف مكَّن اللَّه له في الأرض وهيأ له الأسباب، وبلوغه مغرب الشمس، وعدله مع من ظلم ومع من عدل، وعندما يلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم يجعل لهم من دونها سترا، ثم كان ما من يأجوج ومأجوج، وقد أقام بيضه وبينهم سدا، (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98).
وقد ذكر سبحانه جزاء جهنم للظالمين وجزاء المتقين، وقال في جزاء الكافرين: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) وبين أن جزاء المؤمنين جنة الفردوس خالدين فيها لَا يبغون عنها حولا، واختتم السورة بهاتين الآيتين: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110).
* * *(9/4483)
معاني السورة الكريمة
قال اللَّه تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
* * *(9/4484)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
ابتدأت السورة الكريمة بالتحميد بعد أن ختمت السورة السابقة بالأمر بالتكبير، فهو المحمود الكبير الذي ليس فوقه أحد سبحانه وتعالى و " ال " في (الْحَمْدُ) للاستغراق، أي استغراق كل الحمد وأعلاه، فهو المحمود ولا محمود بحق سواه وكل آحاد الحمد تعود إليه بإطلاق، وليس لغيره حمد إلا نسبي، وفي دائرة محدودة، هي دائرة المخلوق الذي لَا يملك شيئا إلا من اللَّه تعالى، (الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) هذه جملة تشير إلى سبب الحمد أو بعض أسبابه، فإن الحمد لَا يكون إلا بنعمة، وهذه النعمة أجَّل النعم، وأعظمها؛ لأنها نعمة إنزال الكتاب على عبده، وتقديم الجار والمجرور (عَلَى عَبْدِهِ) على الكتاب لمزيد الاهتمام بكونه عبده. فإنه عبد اللَّه ومبلغ رسالته ومن اختصه لنبوته وهو أعلم(9/4484)
حيث يجعل رسالته، وقوله تعالى: (الْكِتَابَ) للدلالة على كمال الكتاب في ذاته، فهو الجدير بأن يسمى كتابا، وليس غيره جديرا بهذه التسمية، وله ذلك الشرف الداني، لأنه يشتمل على كل ما يصلح البشر في معاشهم، ومعادهم وما تقوم به مدنية سليمة فاضلة تنفي خبثها، وتدعم خيرها، وله شرف آخر إضافي وهو أنه منزل من اللَّه العزيز الرحيم الرءوف الغفور الذي رحمته وسعت كل شيء.
هذه صفات ذاتية وإضافية، ومن صفاته الذاتية أيضا أنه لَا عوج فيه، ولذا قال تعالى: (وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا)، أي أنه سبحانه خلقه متجها إلى الحق من غير انحراف، وأنه كالجسم الذي لَا يعوَّج حسيا، فإن الجسم قد يكون في ذاته مستقيما، ولكن قد يتعرض لبعض الصدمات التي تجعله يسيخ (1) أو ينقبض، وإن هذا القرآن لَا عوج فيه، لَا من وخارجه ولا من أصل تكوينه، فهو كونه قويما ولا يمسه شيء يزيغ أو ينحرف، فهو قويم غير قابل للاعوجاج.
________
(1) يسيخ - هكذا بالخاء - يرسخ. القاموس المحيط (ساخ).(9/4485)
قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
(قَيِّمًا ... (2)
أي أنه مستقيم في ذاته كما أنه لم يعره اعوجاج في أي ناحية من نواحيه، ولا أي معنى من معانيه وهو قيِّم على الكتب السابقة كلها؛ لأنه مهيمن عليها يبين ما نسخ منها، وما لم ينسخ، وما كان فيه تحريف، وما نسي، وما بقي، وهو قيم على مصالح الناس، ودفع مفاسدها، وقيام بنائها الصالح، ومنظم الجماعات الإنسانية على قواعد الأخلاق والفضيلة، وإبعاد المفاسد والرذائل.
وإذا كان لإقامة بناء اجتماعي سليم، وليستقيم الناس في معاشهم ومعادهم، ففيه بيان الأحكام التكليفية لهم وما يجب يوم القيامة، فإن العصاة لَا يستقيمون إلا إذا كان أمامهم عذاب يوم القيامة، قال تعالى: (لِّيُنذِرَ بَأسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ)، أي أن نزوله بما فيه من أخبار البعث والنشور وبما فيه من أحكام تصلح الناس في عامة أمورهم، كان لَا بد أن ينذر بأسا شديدا، والإنذار له مفعولان وهو هنا له مفعولان: أولهما محذوف مع تقديره في الكلام، وهو (الناس)، وثانيهما(9/4485)
موجود، وهو (بَأْسًا شَدِيدًا)، والمراد العذاب الموصوف بأنه بأس شديد، فأطلق الوصف وأريد الموصوف، وفسر بعض العلماء البأس بأنه العذاب العاجل الذي لا يتأخر لحظة عن ميقاته، وهو آت لَا محالة وكل آت فهو لَا بد عاجل، لَا يتخلف أبدا.
وقوله تعالى: (مِّن لَّدُنْهُ) الضمير يعود على اللَّه تعالى؛ من عند اللَّه تعالى، وفي الحكم بأنه صادر عن اللَّه تعالى آت من عنده إرهاب بهذا العذاب؛ لأنه آت من عند الواحد القهار، وبيان لشدته، وتأكد وقوعه، فلا مناص منه، ولا سبيل للابتعاد عن وقوعه.
وكما أنه منذر لمن عصى، فهو مبشر لمن أطاع، فلا جدوى في الإنذار إن لم يكن معه تبشير؛ لأنه يكون تحذيرا لمن يغوى وتبشيرا لمن يفعل الصالحات، فهو تخويف وتشجيع وتحريض؛ ولذا قال تعالى: (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا) التبشير الإخبار بما يسر ولا يضر، وعبرنا بالموصول للإشارة إلى أن الصلة هي السبب في هذا الجزاء، والصالحات هي الأعمال التي يقصد بها وجه اللَّه، وطلب الخير والنفع وأن تكون القلوب طيبة سليمة، فهي التي تصلح بها الأعمال وهي التي بها تفسد، ويلاحظ هنا أنه ذكر الأعمال الصالحة ولم يذكر الإيمان؛ لأن الإيمان مقدر لأنه أساس الخيرات، ولأنه عمل القلوب فهو داخل في عمل الصالحات، وذكر سبحانه الجزاء فقال: (أَجْرًا حَسَنًا)، تكرم اللَّه تعالى فسمى الجزاء أجرا وكأنه ثمن لخير قُدِّم مع أن الهداية من فضل اللَّه ورحمته، للإشارة إلى أن اللَّه كريم حليم، يمن بالخير ويجازي عليه، ووصف الأجر بأنه حسن، أي أجر يستحسن ويحب ويرغب فيه، ويطلب لأنه في مظهره حسن، وفي حقيقته نعمة دائمة، ولقاء للَّه ورضوان منه، وهو أعظم، وكل ذلك تشمله كلمة حسن.
وإن هذا الأجر الحسن هو الجنة التي يخلدون (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا. . .)؛ ولذا قال تعالى:(9/4486)
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
(مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
المكث البقاء مع الاطمئنان وألا يكون نزاع قط، وإنه دائم ما دامت السماوات والأرض كما قال تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ. . .).
وقد خص سبحانه وتعالى بالذكر من إنذار العصاة إنذار الذين اتخذوا للَّه ولدا، فقال تعالى:(9/4487)
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4)
(وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5).
بعد إنذار عامة الكافرين العصاة من وثنيين وغيرهم خص الذين اتخذوا الولد، وقالوا: (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا)؛ لأنهم لم يفهموا ذات اللَّه، ولا خواص الألوهية، وأنها منافية للحوادث منافاة تامة، وعبر سبحانه بقوله: (قَالُوا)، ولم يقل اعتقدوا؛ لأنهم لَا يؤمنون ومن اتبع الأوهام لَا يؤمن بشيء، ولا يعتقد اعتقادا جازما، لأن الأوهام تساوره فتزلزل اعتقاده بل هو في ريب دائم مستمر، وعبارة اتخذ اللَّه ولدا، فهم نسبوا الاتخاذ للَّه، وهي فرية على اللَّه تعالى وتدل على عدم كماله سبحانه؛ لأن اتخاذ الولدان يترتب عليه أمران باطلان لَا يليقان بذات اللَّه:
الأمر الأول - مشابهته للحوادث، وأن يكون للَّه سبحانه نظير مثله، لأن الولد مثيل أبيه، فكيف يكون للَّه تعالى شبيه ومثيل.
الأمر الثاني - أنه ينبئ عن احتياج اللَّه للولد لنصرته، واللَّه تعالى غني حميد لا يحتاج لشيء ويحتاج إليه كل شيء سبحانه تعالى عما يقولون علوا كبيرا.(9/4487)
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
(مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ ... (5)
كلمة (مِنْ) هنا لاستغراق النفي، أي ما لهم أي علم، بل يرمون القول من غير تفكر، ولا تدبر، من سيطرة الأوهام التي أوجبتها الفلسفة التي قارنت تحريف النصرانية من مسيحية إلى وثنية متبعين الأفلاطونية(9/4487)
الحديثة التي كانت في آخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع الميلادي، وقد خلت ألوهية المسيح في هذه العقائد المنحرفة حتى سنة 325 من الميلاد، وأخذت تسري في الجموع النصرانية حتى اختفى الحق وظهر الباطل.
وإن أدعاء النبوة هذا ما نشأ إلا من الجهل، ولسيطرة الوهم؛ ولذا قال سبحانه: (مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ)، إنما هو الهوى والوهم، وهما يفسدان كل تفكير.
وقال تعالى: (وَلا لآبَائِهِمْ) لَا لتأكيد النفي، فنفي عنهم العلم لعدِّهم مقلدين متبعين، وعن آبائهم الذين قلدوهم لأنهم الذين سهلوا تلك الأوهام في نفوسهم، فضلوا وأضلو كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
وإن هذه الفرية أشد فرية أضلت العقول حتى أنه بعد ما فهموا بعض الفهم أخذوا يتأولون، ويدعون أنهم لَا يقولونها لَا فرار منها ولكن هو تلبيس على الناس ليدفعوا عن أنفسهم أنهم يتكلمون بغير معقول.
ولقد قال تعالى في عظم ما توهموا ثم افتروا: (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ هِنْ أَفْوَاهِهِمْ)، (كلِمَةً) تمييز وهي منصوبة على أنها تميز، وهناك قراءة بضم التاء.
وعلى تخريج أن القراءة بنصب التاء تكون بمعنى الذم الشديد، ويكون المعنى بئست كلمة تخرج من أفواههم، والأحسن أنها تكون بمعنى التعجب. أي ما أكبر فظاعتها وفسادها، وقوله تعالى: (تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ)، أي أنها ثقيل خروجها من الأفواه لبعدها عن كل معقول، ونفرة أي فكر منها، ولكنهم يستطيبونها فإن سألتهم عن مدلولها لم يحيروا جوابا، واضطربوا كل مضطرب إلا أن يقولوا حقا أو معقولا وسبحان من خلق المهتدي والضال.
(إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا)، إن للنفي، أي لَا يقولون إلا كذبا لَا مساغ وله من حق، ولا يقوله مدرك فاهم يعرف حقيقة الألوهية وللَّه في خلقه شئون.
القرآن هو النعمة الكبرى كما هو المعجزة الكبرى ففيه شفاء للناس ورحمة وهداية وموعظة للمؤمنين، ومن كانت عنده هذه النعمة يريد أن ينتفع بها الناس،(9/4488)
وأن يكون مصدر هذه الرحمة إليهم؛ ولذلك كان حفيا بأن يؤمنوا، ويحسب أن كفرهم ربما يرجع إلى نقص في تبليغه لَا إلى نقص في نفوسهم؛ ولذلك قال تعالى:(9/4489)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
الفاء تنبئ عن تقدير قولي مطوي، معناه إذا كنت حريصا على إيمانهم فلعلك باخع نفسك إلخ. . .، والبخع: جهد النفس حتى تتلف، وباخع نفسك، أي مؤدى بها إلى التلف ومهلكها من شدة همك وتحميل نفسك ما لَا حاجة إلى تحميله (عَلَى آثَارِهِمْ)، أي على آثار توليهم؛ لأنك لَا تتوقعه، إذ إن نضوح الدليل ووضوح الصدق وقوة الإعجاز يجعلك تتوقع إيمانا، فجاء إعراضا وتوليا عن الحق البين وقوله تعالى: (عَلَى آثَارِهِمْ) فيه استعارة وترشيح لها، كأنهم محبوب يفارقك فيدفع الفراق إلى ألم ولوغة كأنه باخع نفسه لهذا الألم ولذلك الفراق، وأنه يبرح به البعد والفراق حتى يكاد يبخع نفسه، هذا تخريج الزمخشري أو معناه في قوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ) وهو معقول في ذاته وربما يكون أقرب من هذا التخريج أن تقول لعلك باخع نفسك على آثار توليهم وإعراضهم ودخولهم النار (إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ)، والحديث هو القرآن الكريم، كما قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. . .).
والإشارة في قوله سبحانه: (بِهَذَا الْحَديثِ) إشارة إلى ما سبق في قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) فهو كتاب اللَّه الذي سجلت فيه شرائعه، وهو حديث اللَّه إلى رسوله وإلى خلقه المؤمنين، بل إلى الخليقة أجمعين.
و (لعل) معناها الرجاء، والرجاء ما يتوقع وقوعه سواء أكان مرغوبا أم كان مرهوبا، فهو الأمر المتوقع على كلتا حاليه، وهو هنا يبين اللَّه تعالى لنبيه أن حاله حال من يتوقع منه بخع نفسه (إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) و (أَسَفًا)(9/4489)
مفعول لأجله، أي يبخع نفسه هما وحزنا إن لم يؤمنوا، كقوله تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمنينَ)، والأسف هو الهم الشديد الذي لا يذهب، بل يبقى كقوله: (. . . غَضْبَانَ أَسِفًا. . .)، أي مهموما هما يسكن في القلب ولا يكون كالغضب يعرض ثم يزول، كالزوبعة تثور ثم تهدأ، أما الأسف والهم فيبقى.
بعد ذلك بين سبحانه أن الإنسان يرى في هذه الدنيا العبر، وعجائب الوجود ولكن لَا يعتبر؛ ولذا قال تعالى:(9/4490)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
بعد ذلك ذكر سبحانه وتعالى عذاب القلوب وروح النفوس فأخذ سبحانه يبين غذاء الأجسام ومتعة الأعين، وزخرف الحياة فقال: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا) فزروعها وثمارها وبواسقها ودوحاتها، وأوتادها وحيوانها، ترى القطعان تنفث في المراعي ذاهبة عائدة، (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حينَ تُرِيحونَ وَحِين تَسْرَحُونَ)، هذه زينة الدنيا، كما قال تعالى: (. . . وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5).
وكما قال تعالى في سورة ق: (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11).
هذه المتع التي تشرق بها النفس فتجد فيها سعادة النفس وغذاء الجسم مكن اللَّه تعالى بني آدم منها لغاية، وهو الاختبار؛ ولذا قال تعالى: (لِنَبْلُوَهُمْ أَيهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، أي لنعاملكم معاملة المختبر الذي يريد أن يظهر ما قدره لكم محسوسا واقعا، وقوله تعالى: (أيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، أي حالهم حال من يُسأل أيكم أحسن عملا، فالاستفهام هو معنى الابتلاء، فمن اغتر بالدنيا واستولت عليه(9/4490)
زينتها، وبهرته ونسي الآخرة، فإنه لَا يحسن عملا، ومن أدرك حقيقتها، وهي أنها ظل زائل، وأنها لهو ولعب، والحياة الآخرة هي الحيوان لو كانوا يعلمون، فإنه هو الذي يحسن العمل ويستحق الجزاء الأوفى.
وقوله تعالى: (أَحْسَنُ عَمَلًا)، أفعل التفضيل ليس على بابه، والمعنى بلغ أقصى درجات الحسن، أو هو على بابه ويكون الاختبار لتنزيل الناس منا فمن اتجه إلى الخير ناله بقدره، ومن اتجه إلى غيره تردى في منحدر المعصية.
وإن زينة الدنيا تنتهي كما تنتهي الحياة، وتكون غثاء أحوى؛ ولذا قال سبحانه:(9/4491)
وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
(وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
الصعيد التراب: والصعدة الأكمة من التراب، والجُرز بالضم من الجَرز وهو القطع قطع الزرع والثمار، وغيرها، وتطلق الجُرز على الأرض التي لَا نبات فيها ولا شجر، كالصحراء التي لا تنبت. والمعنى في هذا أن اللَّه تعالى خلق الأنواع كلها، فخلق الأرض التي جعلها اللَّه زينة وفيها الخصب والنماء، وأنها تتحول إلى غثاء أحوى، فكذلك يخرج الحي من الميت، والميت من الحي، فليس عجيبا أن يعود الناس أحياء بعد موتهم، فلا غرابة ولا عجب في أن يكونوا ترابا ثم يكونوا من بعد ذلك خلقا جديدا (. . . كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).
قصة أهل الكهف
تصدى القرآن الكريم لبيان أهل الكهف بما لم يتصد به كتاب مقدس، ولا نريد أن نخوض في أمر لم يخض فيه القرآن فلا نريد أن نرجم بالغيب، ولا أن نسير وراء الظنون، والقرآن ليس كتاب تاريخ ولكنه كتاب عظة واعتبار، وكل ما فيه صدق لَا مجال للريب فيه.
أكثر الذين تعرضوا لبيان من هم أهل الكهف يقولون: إنهم من النصارى المؤمنين كانوا في عهد اضطهاد النصارى، فقد كانوا موضع اضطهاد من وقت انتهاء حياة المسيح في الدنيا، وجاءت عصور اضطهاد شديدة كانوا يفرون بدينهم،(9/4491)
وكان بعض أباطرة روما يبالغون في الاضطهاد حتى أن نيرون إمبراطور روما كان يجعل جلودهم تطلى بالقار ويجعل منهم مشاعل إنسانية تسير في موكبه، ازدراء لهم، ومبالغة في إهانتهم، فكان يفر منهم من يفر إلى الكهوف والمغارات فرارا بدينهم وبنفسهم.
وقد جاءت عبارات ابن كثير بما يفيد أنهم من اليهود لَا من النصارى، وحجته في ذلك أن اليهود هم الذين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الروح وعن أهل الكهف، وعن ذي القرنين، وأن ذلك يدل على أن وقائع قصة أهل الكهف كانت قبل النصرانية لَا بعدها.
ونقول في الجواب عن ذلك:
أولا - إن التوراة ليس فيها ذكر لأهل الكهف، ولا من كان محيطا بهم.
وثانيا - أن أخبار أهل الكهف مذكورة في شهداء النصارى وفي كتبهم ككتاب " الكنز الثمين ".
وثالثا - أن ابن كثير نفسه ذكر أنه في عهد ملوك الرومان وهو دقلديانوس، فقد جاء فيه ما نصه: " لقد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوما في بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد، اسمه دقلديانوس وكان يأمر الناس بذلك، ويحثهم عليه، ويدعوهم إليه، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع دومهم بعين بصيرتهم، وعرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا للَّه الذي خلق السماوات والأرض، فجعل كل واحد بتخلص من قومه، وينحاز منهم، ويتبرز عنهم ناحية، فكان أول من جلس منهم أحدهم، جلس تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس إليها عنده، وجاء الآخر فجلس، وجاء الآخر، والآخر، ولا يعرف واحد منهم الآخر، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان. . . . ".(9/4492)
لا يهمنا الخبر كله، وإنما يهمنا منه أنه ذكر دقلديانوس وقد ذكره، وكان من أشد أباطرة الرومان على النصارى وخصوصا أهل مصر، فقد أوقع بهم مقتلة عظيمة كانت سنة 284 من الميلاد، ومنها كان التاريخ القبطي، وهذا يدل على أنهم كانوا بعد النصرانية، ولم يكونوا قبلها.
وما ذكر في كتب السيرة من أن اليهود حرضوا المؤمنين على أن يسألوا عن الروح وأهل الكهف وذي القرنين فهو متزيد فيه، والثابت برجحان الأسئلة كانت عن الروح، وعن العبد الصالح صاحب موسى وعن ذي القرنين كما ذكرنا أولا، وأن الاضطهاد للنصارى استمر حتى حرفوا دين المسيح - عليه السلام -، وكانت سيادة التثليث بعد سنة 325 عقب مجمع نيقية وكان الاضطهاد قبل ذلك للموحدين، وأهل الكهف منهم، وكانت معجزة اللَّه تعالى فيهم.
ولكن ما عددهم، وما المدة التي مكثوها؟، أما عددهم فكما تدل الآيات سبعة، وحكى اللَّه تعالى عنهم ذلك، فقال عز من قائل: (سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22).
وربما يكون هذا النص مشيرا إلى أنهم سبعة، لأنه ذكر في الثلاثة والخمسة أنه رجم بالغيب، ولم يذكر ذلك في السبعة، ولكنه سبحانه وتعالى نهى عن المماراة في ذلك، وعدم الاستفتاء فيه؛ لأنه لَا جدوى في معرفته، وكل علم لا يترتب عليه اعتقاد أو عمل لَا فائدة فيه ولا في شغل الذهن به.
وأما المدة التي مكثوها في الكهف، فإنها كما قال اللَّه تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)، أي أنهم مكثوا تسع سنين وثلاثمائة،
بالسنين القمرية، وبعض العلماء قدرها بالشمسية بثلاثمائة سنة، ويأتي بعد ذلك في أي عصر من العصور كانت هذه المدة، وكنا نظنها في عهد دقلديانوس الذي أشار إليه ابن كثير، ولكن رجَّعَنَا النص القرآني إلى الحق، وهو تسع وثلاثمائة، ولا يمكن أن يكون ابتداء المكث في عهد دقلديانوس؛ لأن معنى ذلك أنه استمر(9/4493)
إلى آخر القرن السادس تقريبا، وأنها في هذا الوقت كانت النصرانية قد ثلثت، ولم تعد ديانة توحيد، ولا مسيحية لأن المسيح بريء منها.
وكان حقا علينا أن نفهم، حيث أفهم القرآن مصدقين مذعنين، ولكن لا مانع أن نقول إنها ابتدأت من عهد الاضطهاد الروماني بعد أن انتهت حياة المسيح في الدنيا، واستمرت المدة التي ذكرها القرآن الذي (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ منْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
* * *
قال اللَّه تعالى:
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
* * *(9/4494)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا).
(الْكَهْفِ) مكان متسع في الجبل، و (الرَّقِيمِ) اسم للجبل، أو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم، أو واد بالجبل، وأيا ما كان فهو تعريف بمكان كهفهم بجبله أو بواديه أو رصاص كتبت أسماؤهم عليه.
و (أَمْ) للاستفهام مع الإضراب لمن عجبته، وأنها ليست أكثر من عجائب الوجود والخلق بإرادة اللَّه، فليس بقاء أجسام إنسانية حية أمدا طويلا، كما أنه ليس وجودهم راقدين أكثر من ثلاثمائة سنة أمرا عجبا في ذاته من خلق السماوات والأرض وما فيها، أو من خلق الإنسان من طين، أو من أدوار خلق الإنسان من نطفة من ماء إلى علقة إلى مضغة، ليس بقاؤهم أحياء رقودا أعجب من هذا الخلق العظيم.
والاستفهام مقصود منه التنبيه وتوجيه الأنظار أولا إلى أن هذا كان عجابا، أي أحسبتم أن أصحاب الكهف والمقام الذي كان كهفهم على مقربة عجبا من آيات اللَّه، إنها ليست بعجب من آيات اللَّه تزيد على آياته في خلقه، إن كل خلق اللَّه تعالى آيات لأولي الألباب، وإذا كان في أهل الكهف شيء فهو في دلالته على قدرة اللَّه تعالى في الإحياء والرقود، وهو دال على البعث بعد الموت؛ لأنه إذا كان قادرا على الإبقاء فهو قادر على الإعادة، وإذا كان قادرا على الإنشاء والإبقاء فهو قادر على الإعادة.(9/4495)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
عرفهم القرآن الكريم بأوصافهم، وأول وصف من هذه الأوصاف أنهم فتية جمع فتى، أي أنهم شبان في باكورة أعمارهم، نفوسهم غضة لم ترهقها الأوهام، ولا العادات والتقاليد، وموروثات الآباء العتيقة التي عششت في رءوس من قبلهم، بل إنهم على الفطرة السليمة، والشباب دائما أسرع الناس إلى الحق إن لم يكن في توجيههم ما يعوق عنه أو يسد الحجاب دونه، وقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير: الشباب هم أقبل للحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا(9/4495)
وانغمسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين للَّه ورسوله - صلى الله عليه وسلم - شبابا، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلا القليل.
هذا هو الوصف الأول الذي وصف اللَّه به أهل الكهف، أما الوصف الثاني، وهي نتيجة لسلام الطوية أنهم اتجهوا إلى اللَّه تعالى بقلب محسّ بقدرة اللَّه ومعجزته، وبأنه سبحانه وتعالى المنعم الهادي دون غيره فقالوا: (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) نادوا ربهم قائلين، (رَبَّنَا)، أي الذي خلقتنا وكونتنا وطهرت قلوبنا، وخلصت نفوسنا من الشرك وأوهامه، (آتِنَا مِن لَّدُنكَ)، من حضرتك القدسية، وخزائنك التي لَا تنفد، (رَحْمَةً) وإنعاما وتوفيقا، وسلوكا مستقيما، ودواما للتوفيق. ورحمة اللَّه وسعت كل شيء وهي تعم كل حياة الإنسان، والدعوة الثانية المنبعثة من إيمان عميق موجه، وإذعان صادق يملأ القلب نورا، (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)، أي الأمر الذي اخترناه لأنفسنا من الإيمان في وسط الوثنية، والرشد هو إدراك الأمور إدراكا مستقيما لَا عوج فيه، وهذا الطريق المستقيم يقتضي تجنب الشرك وطلب الحق، والابتعاد عن كل مهاوي الرذيلة، والاتجاه إلى طريق الفضيلة ومحاسن الأخلاق، وألا يكون شطط ولا إفراط، ولا تفريط، إلا أن يدفع إلى ذلك الحق وتجنب الهوى.
يظهر أن أولئك الفتية طوردوا حتى أووا إلى الكهف، فالإيواء لَا يكون إلا عن منازعة يحسون فيها بأنهم لَا قِبَل لهم بمن يريدون أن يفتنوهم عن دينهم، وقد كان ذلك واقعا في عهد اضطهاد النصارى، كما أشرنا وكما بينا في غير هذا الكتاب (1).
وإن النوم يكون فيه سكون النفس، ولقد أنامهم اللَّه سنين عددا لينجوا بدينهم، وليكونوا حجة حسية على البعث، وليكونوا من آيات اللَّه تعالى في الوجود.
(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
________
(1) راجع كتاب محاضرات في النصرانية للإمام محمد أبو زهرة.(9/4496)
كان الإيواء إلى الكهف فرارا من أذى المشركين، ولهم في ذلك الوقت القوة والسلطان، والعذاب مسلط على رقاب المؤمنين، وخصوصا القلة الشابة منهم، ولكن النجاة قد وفرها اللَّه تعالى لهم فأبعدهم عن الأحياء المشركين - وإن كانوا أحياء - ولتتم لهم الطهارة التامة، وتتم بهم الحجة الكاملة، وهو صنيع اللَّه تعالى، فقال:(9/4497)
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا).
(الفاء) لعطف ما بعدها على ما قبلها من غير تراخ، فهم أووا إلى الكهف فضرب اللَّه على آذانهم وقد عرَّف اللَّه الفتية فقال: (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) وتعريفهم لأنهم معهودون في الذكر في قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا).
والضرب على الآذان مجاز، فإنه يقال ضرب الحجاب إذا أغلق البيت، ويقال بنى الخباء إذا سده، فكنى بقوله تعالى: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ)، أي سددنا هذه الاذان بحجاب وضربنا عليه ضربا محكما لكيلا يصل إلى داخلها أي صوت ينبههم من رقادهم، ويصح أن يقال شبهت حالهم في عدم السماع لأي صوت مع حياتهم بمن سدت آذانهم بحجاب قد ضرب عليها، فلا يصل إليها صوت مهما يكن عاليا أو مزعجا، فهم أحياء لَا يحسون بالأحياء، وقوله تعالى: (فِي الْكَهْفِ) فيه إشارة إلى أن في الكهف ذاته يصعب عليهم فيه الإحساس بما عند الأحياء من عذاب وإيلام، وقد استمر ذلك أمدا طويلا، ليس يوما ولا شهرا، ولا سنة بل سنين عدة، ولذا قال تعالى: (سِنِينَ عَدَدًا) فجعل العدد وصفا للمعدود، أي سنين كثيرة بالنسبة لنا، أما بالنسبة للَّه تعالى فهي ليست شيئا مذكورا، ويقول الزمخشري ومن تبعه: إن معنى (عَدَدًا)، أي ذوات عدد، أي أنها تعد بالسنين عدا، وقد قالوا إنه إذا قلَّ العدد لَا تحتاج إلى عد، لأن الأصابع تحصيها، أما إذا كثر العدد، فإنه يحتاج إلى العد والحساب بعد هذه السنين الطوال التي لَا تحصى إلا بالعد والحساب أيقظهم اللَّه من رقادهم فقال تعالى:
(ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)(9/4497)
ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
العطف بـ) (ثُمَّ) في موضعه، لأن الزمن تطاول بين دخولهم الكهف وضرب اللَّه تعالى على آذانهم فقد كانت سنين كثيرة لَا تعرف إلا بالعد والإحصاء، وسمى اللَّه تعالى سماعهم بعد أن ضرب على آذانهم بعثا، مع أنه ليس إلا أن يسمعوا بعد أن لم يسمعوا من غير أن يفقدوا حاسة السمع، ولكن كان هناك حجاب يمنع من السماع بإرادة اللَّه تعالى، وسمي ذلك بعثا؛ لأنه مظهر الحياة بعد أن اختفت، فمع أنهم أحياء واستمروا أحياء طول هذه المدة، وقد يقال في اللغة: بعثه، إذا أيقظه من نومه، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته لأهله وعشيرته: " والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون " (1)، فبين البعث واليقظة بعد النوم مشابهة تجعل أحدهما كالآخر، وخصوصا أن البعث هنا مع بقاء الحياة، وإنما الذي غيَّب الكلام والسماع هو الرقاد.
وإنهم عندما استيقظوا بعد طول الرقاد، اختلفوا على فريقين ففريق منهم قال: (لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)، وقالت كثرتهم: (رَبُّكُمْ أعْلَمُ بِمَا لَبِثتُمْ)، سمى اللَّه تعالى الفريقين حزبين، لأن الحزب ما ينحاز إلى أمر معين من دين أو حرب أو نصرة، وحزب اللَّه في دينه هم المفلحون، كما قال تعالى: (. . . أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
كانوا في رقادهم لَا يشعرون كم أمضوا من الوقت فقسم حدد وعيَّن، وقسم أكثر أربا، وأشد تفويضا لم يهتموا، فاللَّه تعالى بين أن البعث سيعرفهم الحقيقة، لأنهم يختبرون بالحياة، ويعلمون في أي زمن يعيشون وفي عهد أي حاكم يكونون بعد هذا الرقاد، ولذا قال تعالى: (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا) إن اللَّه تعالى يعلم كل شيء يعلم ما كان وما يكون وما هو كائن، فاللَّه تعالى لَا يعلم جديدا، ولكن المراد أن يظهر ما يعلمه اللَّه تعالى واقعا يعلمونه، فمعنى (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ)، أي ليظهر علم اللَّه تعالى واقعا محسوسًا يعلمه الناس، بعد أن كانوا يظنون ويحدسون.
________
(1) سبق تخريجه.(9/4498)
وإن ذلك تنبيه إلى طول الأمد حتى تظنن أهله، ولرقودهم الذي يشبه الموت اختلفوا فيه، وليعلم الناس أن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون، وأن الأزمان أمرها نسبي وهي بالنسبة للَّه تعالى ليست بشيء يحصى.
والاستفهام هنا جعل ما بعد (أَيُّ) يَسُدُ مَسَدَّ مفعولين، ومعنى الاستفهام التنبيه إلى أن الزمن طال حتى اختلفوا في قدره، وبعثوا من مراقدهم ليتعرفوا الزمان، وفي أي زمان هم، وبذلك يعرفون أي القائلين أصدق قيلا.
و (أَحْصَى) قيل: إنها أفعل تفضيل، ولكن أفعل التفضيل لَا يكون إلا من فعل ثلاثي مجرد، ولكنه جاز استثناء، والقرآن لَا يحاكم أمام قواعد النحو لأنه فوقها، وهو يوجهها، ولا توجهه، وقد كثر أفعل التفضيل في الرباعي كقولهم ما أعطاه للمال، وآتاه للخير، ويقال إن أفعل التفضيل يجوز بعد تجريده من الزوائد، إذ يصير ثلاثيا، وفيه معنى الإحصاء، وقوله تعالى: (أَمَدًا) معناه زمانا، أي أعلم بمقدار الزمن الذي أحصى أهذا الذي قال يوما أو بعض يوم، أم الذي فوض. وقد قص سبحانه وتعالى قصصهم بالحق فقال:(9/4499)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
يقص الله سبحانه قصصهم بالحق من وقت أن نشئوا وخوطبوا بالوحدانية في وسط الوثنية بعد بعث عيسى - عليه السلام - ومجيء بعض رجاله إليهم في الرومان داعين إلى التوحيد، والنبأ هو الخبر الخطير الشأن، وأي خطر وشأن أكبر من عدد من الناس ينام نحو ثلاثمائة سنة أو تزيد، وهو حي، ويتكفله اللَّه تعالى حتى يوقظه من مرقده، وهو لَا يدري على التعيين متى رقد، وقوله: (بِالْحَقِّ)، أي مصاحبا للحق لَا يغادر شيئا من الصدق، ولا يبعد، ثم أخذ سبحانه يقصص ذلك القصص الذي فيه أدل شيء على القدرة بعامة، والبعث بخاصة (إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ) الجملة منفصلة بيانية عما قبلها؛ لأنها في مرتبة البيان فهي بيان للقصص الحكيم، (فِتْيَةٌ) كما ذكرنا جمع فتى، وهو الشاب القوي غض النفس التي كانت على الفطرة، وهؤلاء فيهم فتوة الشباب وفتوة الإيمان، وهي جماع مكارم(9/4499)
الأخلاق، والابتعاد عن محارم اللَّه تعالى، وإطاعة أوامره، ففيهم فتوة الجسم وفتوة الإيمان، والسلوك القويم، وإن الاستقامة تسير بالمكلف في الخط المستقيم.
ولذا قال تعالى: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) ذلك أنهم سلكوا طريق الحق، وكلما وجدوا صعوبة في اعتناق الحق في وسط الوثنية رأوا ما هداهم اللَّه تعالى إليه، وما عليه غيرهم من عبادة الأوثان، فما اندغموا فيهم، بل أصروا إصرارا، فزادتهم المقارنة بين ما هم عليه وهدوا إليه، وما عليه الوثنيون من عبادة الأحجار، فكلما وازنوا ازدادوا إيمانا وكلما عُوِّقوا وفُتنوا صبروا، زادهم اللَّه قوة في دينهم، وإيمانا في صدورهم؛ ولهذا قال سبحانه: (وَزِدْنَاهُمْ هُدًى)، أي بسبب ما سلكوه وأصروا عليه، ومعاناتهم من الفتنة ما عانوا زدناهم هدى، لأن من دخل مكان النور ازدادت الأمور له وضوحا، وازداد ضلال الضالين انكشافا، فكانت الهداية على بينة، وازداد بها علما ووثوقا وجاهروا بالحق، ورضوا بترك الأهل وترك العمران والإقامة في الكهوف والمغاور.
وإن اللَّه سبحانه وتعالى ثبَّت قلوبهم وجعلهم يقفون أمام جبابرة الأرض؛ ولذا قال سبحانه:(9/4500)
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
(وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
أي زدناهم هدى، وثبَّتناهم وربطنا على قلوبهم إذ قاموا، أي وقت أن قاموا مجاهرين بإيمانهم مجابهين طاغية من طواغيت الدنيا، (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا) قالوا للطاغية لست ربنا، ولا حَجَرُك إلهنا، إنما ربنا الذي خلقنا وكوننا عقولا ونفوسا ومدارك، وهو رب هذا الوجود كله، (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)، (لَن نَّدْعُوَ)، أي لن نعبد إلها غيره؛ لأنه لَا إله غيره، هو الواحد الأحد الحي القيوم، ونراهم بهذا يربطون بين الخلق والتكوين والربوبية والعبادة، فالخالق هو المعبود، ولم يكونوا كالعرب يؤمنون بأن اللَّه خالق السماوات والأرض ولكن يعبدون معه أحجارا وأوثانا، أما هؤلاء الفتية، فهم يقولون جازمين(9/4500)
لن ندعو من دونه إلها، أي لن نعبد غيره إلها قط فلا نقر بالعبودية لغيره، ويفرضون أنه وقع منهم ذلك، فيقولون مؤكدين بما يشبه القسم: (لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)، أي قولا شططا، والشطط الإفراط في الظلم والإمعان فيه، من قولهم شطَّ في القول إذا بعد عن حد العقول. وهنا ملاحظتان بيانيتان:
الملاحظة الأولى - أن قوله تعالى: (وَرَبَطْنَا) تدل على قوة ما أودعهم اللَّه تعالى من إيمان لَا يتزعزع فقد شبه قلوبهم بالحقبة الممتلئة إيمانا، وقد ربط عليها رباطا محكما كالوكاد (1) يشد عليهم فلا تضطرب أمام جبار كائنا من كان، لأنه عامر بالإيمان لَا يضطرب.
الملاحظة الثانية - أنهم أكدوا قولهم، وأصروا على إيمانهم بقولهم: (لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا)، فإن هذا الكلام يشير إلى أمرين:
الأمر الأول - تأكيد القول باللام الموطئة للقسم وقد الدالة على التحقق.
الأمر الثاني - أنهم أكدوا نفي الألوهية عن غير اللَّه سبحانه وتعالى نفيا مؤكدا، فقالوا: (لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا).
وأنهم لم يكتفوا بمجابهة الجبار بعقيدتهم، بل ذكروا بطلان عقيدة غيرهم فقالوا مبطلين الشرك:
________
(1) الوكاد: الوثاق. لسان العرب - وكد.(9/4501)
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
(هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
(هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا)، الإشارة إلى الذين عاصروهم ممن كانوا على دين الجبابرة في عصرهم الذين يعبدون التماثيل ويعددون الآلهة بتعدد التماثيل، فيقولون إله الحب، وآلهة العدالة، وغير ذلك من أسماء سموها ما أنزل اللَّه تعالى بها من سلطان، وذكروا قومهم للإشارة إلى ما يربطهم بهم من صلات الجوار والنسب(9/4501)
أحيانا، وفي ذلك إشارة إلى أن واجب هذه الصلات أن يرشدوهم ويهدوهم، وقالوا: ما يفعل هؤلاء، (اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ)، أي من غيره (آلِهَةً)، يشيرون بذلك إلى أنها ليست آلهة، ولكنهم عدُّوها كذلك وليس لها أي قدرة على الخلق والتكوين، ولا تنفع ولا تضر، إنما هي أوهامهم التي زينت لهم أن لهم ألوهية على ما تصوره خيالاتهم، والخالق المستحق للعبودية وحده هو اللَّه الواحد القهار.
وليس عندهم برهان يدل على استحقاقهم للألوهية؛ ولذا قالوا: (لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ)، أي هلا يأتون ببرهان قاطع منتج يدل على ألوهيتهم، فالسلطان معناه البرهان الدال على هذه الألوهية الىْ ادعوها، وعبدوها، وهي لا تنفع ولا تضر، فقام الدليل لمنع عبادتها، ولم يقم برهان على جواز عبادتها إنما هي أوهام توهموها.
ولقد أكدوا نفي الدليل بقولهم: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) الفاء للإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، وتقدير الكلام: إذا كانوا قد اتخذوها من غير برهان صحيح، فقد ظلموا، والاستفهام للنفي، أي لَا أحد أظلم ممن تعمد الكذب على اللَّه، بنسبة الشريك إليه سبحانه، و (كَذِبًا) مفعول افترى، بمعنى قصد إلى الكذب، أو نقول إن (كَذِبًا) حال موكدة لمعنى الافتراء.
وإنه إذا كان من كلام هؤلاء الفتية فهو تبكيت مقولهم؛ لأنه لَا دليل على الباطل المحال، فهو لوم وتأنيب لهم، ويقول تعالى: (. . . أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ. . .) فهي أسماء لا مسميات لها.
وقد خاطبهم اللَّه سبحانه وتعالى بالوحي والإلهام عندما كانت المفارقة الفكرية بينهم وبين قومهم، واعتزالهم لهؤلاء الأقوام أن يجعلهم آية لمن بعدهم فألهمهم أن يأووا إلى الكهف؛ ولذا قال تعالى:
(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)(9/4502)
لقد صاروا في عزلة فكرية، ويُخشى أن يغيروا تفكيرهم وقد أصرُّوا على الإيمان إصرارا، كما أصرَّ قومهم على الشرك، و (إِذِ) ظرف متعلق بـ أووا، وهو في معنى السببية لذلك الاقتران الزمني بجواب الأمر (ينشُرْ).
هذا حديث نفوسهم، وهو إلهام من اللَّه بثلاثة أمور:
الأمر الأول - الإيواء إلى الكهف حيث يبتعدون عن أذى الجبارين.
الأمر الثاني - أنهم لقوة إيمانهم باللَّه أحسوا بأن اللَّه تعالى لن يضيعهم أبدا، بل إنه ينشر لهم من رحمته، إذ يبسط لهم.
الأمر الثالث - أن قوة إيمانهم باللَّه جعلتهم يحسون بأنه سيجعل لهم مرفقا يرتفقون به في وسط الكهف الذي لَا يأوي إليه الآدميون إلا فرارا من أقوامهم.
قال تعالى:(9/4503)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ)، أي اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم، بل إن اعتزالكم عبادتهم هو السبب الجوهري، والباعث على اعتزالهم فإيمانكم قدمتموه على القرابة والقومية، وقوله: (إِلَّا اللَّهَ)، قال الزمخشري: استثناء متصل؛ لأنهم كانوا يعبدون اللَّه وغيره، فالاعتزال كان لعبادتهم غير اللَّه، ويحتمل عنده أن يكون الاستثناء منقطعا، وعندي أن خيرا من هذا ما قاله قتادة أن (إِلَّا) بمعنى (غير)، من غير تقحم في المتصل أو المنقطع، ومن غير ادعاء لا دليل عليه، وهو أنهم كانوا يعبدون مع اللَّه غيره، فإن ذلك يحتاج إلى سند تاريخي، كما هو ثابت عند العرب.
وقوله تعالى: (يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِن رَّحْمَتِهِ)، مجزوم بجواب الأمر، أي إن تأووا إلى الكهف فلا تخافوا جوعا ولا عطشا ولا عريا، فإن اللَّه واسع الرحمة، يبسط لكم من رحمته وينشرها عليكم، وشبه في هذه الرحمة السالفة بالثوب المبسوط، التي ينشر عليكم فيعمكم ويحفظكم ويستركم، ويقول تعالى: (لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ)، أي ينشره لأجلكم وهو من رحمته التي وسعت كل شيء.(9/4503)
(وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا)، أي مكانا ترتفقون، وتجدون فيه كل مرافقكم وحاجاتكم، ويكون مطمئنا لكم، ذلك ما جاشت به نفوسهم، وقد كان لهم ما تصوروا وتمنوا، فقد استراحوا من ملاحاة أقوامهم وطغيان حكامهم، وكفل لهم نوما هادئا اطمأنوا واستغنوا عن حاجات الدنيا وأهلها، وكان خير اللَّه يمد به أولياءه ولا يضيعهم أبدا.
* * *
عناية الله بهم في رقودهم
قال اللَّه تعالى:
(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
* * *(9/4504)
إن اللَّه الذي ألهمهم أن يأووا إلى الكهف فرارا بدينهم، وخضوعا لأمره ألهمهم أيضا أن ينزلوا في كهف يحفظ أبدانهم من أن تمزق جلودهم الشمس أو تغير ألوانهم، ألهمهم أن ينزلوا وفتحته إلى الشمال فيجيء إليهم هواء الشمال العليل، وينعش أجسامهم ويرطب أنفاسهم، ولا تمسهم الشمس ولكن تدفئ الكهف من ورائه بمرورها من الشرق إلى الجنوب، حتى تعود إلى الغرب، وقد اجتازت ما وراء الكهف، وإن الشمس تصيبهم بأشعتها الحمراء في الصباح في طرف من الكهف، وتصيبهم بأشعتها الصفراء في طرف من الكهف أيضا في الغروب، وخير الأشعة المنعشة للأجسام الحية تكون في حمرتها في الصباح، واصفرارها في الغروب، وهكذا هو قوله تعالى:(9/4505)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
أي أنها إذا طلعت تميل عن الكهف متجهة ناحية اليمين فلا تمسهم الشمس بل تميل عن الكهف، لَا ينالهم إلا شعاع قليل منها، لَا تلفحهم بسخونة، بل يكون هادئا منيرا، وتسير الشمس من وراء الكهف من جنوبه، حتى تصل نازلة إلى الغروب، مائلة إليه، فتقرضهم على شمائلهم، كما تزاورت لهم عن أيمانهم في الصباح، ومعنى (تَقْرِضُهُمْ)، أنها تتجاوز بهم قاطعة حتى تصل إلى شمالهم في الغروب، وتقرضهم من القرض بمعنى القطع، أي أنها تقطع جنوب الكهف حتى تصل إلى شماله، والفارسي يقول: إنه مِن قرض الدراهم والدنانير، والمعنى أنها تعطيهم من تسخينها شيئا ثم يزول بسرعة كالقرض المسترد، ونرى في هذا تكلفا، وخير القول أن تقول: إن معنى تقرضهم تعدل بهم وتتجاوزهم شيئا فشيئا فشيئا حتى يتم الغروب، (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ) أي مكان متسع (مِّنْه).
(ذَلكَ منْ آيَاتِ اللَّهِ)، أي إن ذلك كله من آيات اللَّه، فإلهامهم الالتجاء إلى الكهف، وإلى كهف مفتوح من الشمال، وكون الشمس تميل إليه ولا تدخله ليحفظ اللَّه أجسامهم من البلى والعفونة، وكونهم أحياء ليكونوا حجة على أن(9/4505)
الحياة بيد اللَّه تعالى، وهو مانحها، يهبها لمن يشاء، كل هذا من آيات اللَّه، وهي تبصِّر الناس بالحق وتهدي إليه، وإن الآيات البينات كثيرة هادية، ولكن الناس عنها منصرفون (مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ)، أي من يسلك سبيل الحق يأخذ اللَّه بيده، ويهديه سواء الصراط، وهو المهتدي حقا وصدقا ولا أحد يضله، (وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا) ومن يسلك طريق الضلالة فإن اللَّه تعالى يكتبه من الضالين، ولن تجد له من يتولى أمره ويرشده إلى الصراط السوي.
وإنهم في الكهف يبدون أيقاظا وهم نائمون، ولذا قال تعالى:(9/4506)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
(وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
من يراهم بادي النظر يحسبهم أيقاظا، أي يظنهم أيقاظا، والحقيقة أنهم رقود، والأيقاظ جمع يقظ، والرقود جمع راقد، أو هو مصدر وصف به والمصدر الذي يوصف به يلتزم المصدرية، فلا يثنى ولا يجمع، وإن هؤلاء الفتية عندما أصابهم الرقود كانت عيونهم مفتوحة فيظنهم الناظر أنهم أيقاظ ليسوا نائمين، ولأنهم بإرادة اللَّه يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال، ويقول تعالى: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ)، أي يتقلبون بإرادة اللَّه تعالى إلى اليمين وإلى الشمال، وتلك حال من يكونون بين اليقظة والنوم، ويقلبهم اللَّه ذات اليمين وذات الشمال لكيلا تتعفن أجسامهم إذا بقوا على حال واحدة، ولأن أحسن الأحوال للنائم ألا ينام مضطجعا ولا يلتزم جانبا واحدا يمينا أو شمالا، بل يتقلب بينهما، لكيلا تكون الأعضاء الداخلية من كبد وقلب ومعدة على ثقل واحد، بل تتغير أثقالها.
وهم في هذا التقلب الذي يكون كالنائم المعتاد، وما يقوله بعض المفسرين من أنهم كانوا يتقلبون كل سنة أو سنتين أو سنين رجم بالغيب، ولا أساس له من رواية صحيحة ولا نقل عن معصوم.
(وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) و (كَلْبُهُم) بفناء الكهف أو على عتبته باسط ذراعيه، يحس الرائي أنه يحرس قوما أيقاظا، وهكذا كل مظاهر الحياة كانت بادية(9/4506)