فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
(فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
رجعك الله إلى المدينة سالما غانما، فالرجوع إلى الجميع مؤمنين ومنافقين، فلما خص سبحانه وتعالى الرجوع إلى طائفة منهم، والضمير في منهم يعود إلى(7/3395)
المنافقين؛ لأنهم موضع حديث الله تعالى في كتابه سبحانه إذ الكلام في أحوالهم النفسية وتخذيلهم للمؤمنين وخدعهم لهم، ونقول خص سبحانه الرجوع إلى طائفة من المنافقين؛ لأن هذه الطائفة هي التي اعتادت التثبيط، وبث روح التردد والهزيمة، وهي تعاود الاستئذان كلما اشتدت الشديدة وجد الجد، لَا ليقعدوا فقط، بل ليكونوا أسوة لغيرهم، فيقتدى بهم من ضعفاء الإيمان والجبناء من يصيبهم هلع عند الحرب، وفزع عند اللقاء.
هذا هو الذي بدا لنا. من التعبير في قوله: (فَإِن رَّجَعَكَ اللَّه إِلَى طَائِفَة مِّنْهُمْ) إذ هي التي اعتادت التخذيل والتثبيط، وبث روح التردد والهزيمة، وقوله تعالى: (فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ) الفاء هنا للترتيب والتعقيب، أي أنه بمجرد أن ترجع إليهم يفاجئونك بالاستئذان كعادتهم، وقد يكررون في هذه الحال معاذيرهم الكاذبة، وهذا يدل على أن هذه الطائفة منهم هي ذات المعاذير المتكررة المثبطة.
ولقد أمر الله تعالى نبيه بأن يسجل عدم الثقة معهم، وأنه لَا يعدهم في جماعته المؤمنة المجاهدة فقال تعالى: (فَقل لَّن تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدَا وَلَن تُقَاتلُوا مَعِيَ عَدُوًّا).
وأمر الله تعالى نبيه بأن يقول لهم: (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا) بالنفي المؤكد بـ (لنْ)، لأن لن لتأكيد النفي، ولقد قال الزمخشري في تفسير قوله: (لَنْ تَخْرُجُوا) إن لن لتأكيد النفي، وسواء أكان القول ما قال الزمخشري أم لم يكن، فإن النفي هنا للتأكيد بقوله تعالى أبدا.
وكان قرار منع الخروج الأبدي؛ لأنهم خرجوا في أحد، فهمت طائفتان أن تفشلا بتخذيل المنافقين ثم تركوا هم الغزوة، ليسلك غيرهم مسلكهم، وأفسدوا ما بين المؤمنين في غزوة بني المصطلق، وقال قائلهم: (. . . لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ. . .)، وهكذا فهم إذا خرجوا مع المؤمنين كان منهم السعي بالشر بينهم، وقال تعالى: (وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) وإن هذا(7/3396)
النفي المؤكد هو تقرير للواقع، فهم لَا يقاتلون أعداء النبي - صلى الله عليه وسلم - بل هم يوالونهم، ولا يعدونهم أعداء.
وإن الله تعالى العليم الخبير أعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأمرهم، ولكن أمر نبيه بأن يأخذ من ماضيهم دليلا على حاضرهم فكان أمر بقوله لهم: (إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أكد سبحانه وتعالى رضاهم بالقعود أول مرة بـ (أن)، وخاطبهم بهذا القول، وقالوا: إنما أول مرة، هي عندما دعاهم للقتال وتثاقلوا، ونقول: ليست هذه أول مرة، بل كانت أول مرة هو رجوعهم في غزوة أحد، وتثبيطهم للمؤمنين حتى همت طائفتان أن تفشلا، كما تلونا.
وإنهم إن خرجوا لَا يخرجون للجهاد والقتال، بل يخرجون للغنيمة كما قال تعالى: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15).
ويقول الله تعالى آمرًا نبيه بذلك القول: (فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ) (الفاء) للسببية، والأمر هنا للتهكم عليهم والنذير بهم، و (المخالف) اسم فاعل من خلف، أي كان وراء المجاهدين متخلفا عنهم مع القاعدين من النساء والضعفاء الذين لا قدرة لهم على قتال، وقيل إن معنى المخالفين الفاسدين في ذات أنفسهم وضمائرهم، ولقد قال ذلك القرطبي في كتابه أحكام القرآن، فقد قال: (قيل المعنى فاقعدوا مع الفاسدين، من قولهم فلان خالف أهل بيته إذا كان فاسدًا فيهم من خلوف فم الصائم، ومن قولك خلف اللين إذا فسد) وهذا يدل على أن استصحاب المخذل في الحرب لَا يجوز، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *(7/3397)
اجتناب المنافقين
قال تعالى:
(وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
* * *
إن الآية الكريمة(7/3398)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
(وَلا تصَلِّ عَلَى أَحَد مِّنْهم مَّاتَ أَبَدًا وَلا تَقمْ عَلَى قَبْرِهِ) قاطعة في النهي عن الصلاة على المنافقين؛ لأن الصلاة على الميت دعاء له بالخير يناله يوم القيامة، ولأنها استغفار، والاستغفار للمنافق منهي عنه كما تلونا قوله تعالى:
(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) وقوله تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ. . .)، (1) ولأنه يجب أن يتميز المؤمن عن الكافر، والصلاة عليه فارق بين المؤمن والمنافق.
والنهي ثابت ناه على وجه التأكيد، ولذلك قال: (أَبَدًا)، فلا مثنوية فيه ولا تجوز، (وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) داعيا بعد دفنه أو قبل دفنه، فمعنى قوله تعالى: (وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)، يتضمن الدفن، والدعاء له عند الدفن أو بعده؛ لأنه نهى عن الصلاة، وما في معناها من الدعاء.
هذا معنى الآية، ولكن روى في الصحاح وغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على عبد الله بن أبي رأس النفاق، والمفرق بين المؤمنين، والذي كان يوالي الكفار، من(7/3398)
مشركين وأهل كتاب، وقد خاضت في ذلك خوضا كثيرا كتب السيرة النبوية والمفسرون بالرواية.
وإننا من مجموعها نستخلص أمرين - أولهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى عليه، ويظهر أن ذلك كان قبل نزول هذه الآية.
وثانيهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفنه في قميصه (1)، وكان ذلك أيضا قبل نزول هذه الآية الناهية، وإن الصلاة عليه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان رفيقا بأصحابه، وقد كان ابن هذا المنافق صحابيا جليلا فكان - صلى الله عليه وسلم - يكرم الحي، بالسكوت عن إيذاء الميت، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما أسلم عكرمة بن أبي جهل لأصحابه: " لقد جاءكم عكرمة مسلما، فلا تسبوا أباه، فإن السب يؤذي الحي ولا يضر الميت ".
ويروى في ذلك أنه لما مرض عبد الله بن أبي بعث إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليأتيه، فلما دخل عليه قال - صلى الله عليه وسلم -: " أهلكك حب اليهود "، فقال: يا رسول الله بعثت إليك لتستغفر لي لَا لتؤنبني، وسأله أن يكفنه في شعاره الذي يلي جلده ويصلي عليه، فلما مات دعاه ابنه إلى جنازته (2).
وأما أنه - صلى الله عليه وسلم - قد كفنه في قميصه فقد قال الرواة: إنه عند أسر العباس، كان قميصه قد فُقد، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير قميص رق له، وقد ناصره بعد أبي طالب، فطلب صحابته أن يأتوا بقميص، فلما يوجد قميص على تفصيله إلا قميص عبد الله بن أبي؛ لأنه كان ضخما. والنبي - صلى الله عليه وسلم -أحق من أوفى بالمعروف معروفا ولو كان من رأس النفاق (3).
ولقد قال تعالى بعد ذلك: (إِنَّهمْ كَفَروا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) هذه الجملة في مقام
________
(1) الواقدى وابن سعد وابن عساكر عن عبد اللَّهِ بن الزّبير رَضِي اللَّهُ عَنْهُ. جامع الأحاديث والمراسيل - السيوطي: (9 - ص 276 (28212).
(2) جاء ذكر موت عبد الله بن أبي قبحه الله في البداية والنهاية لابن كثير (ج 5، ص 245).
(3) روى البخاري لي الجهاد والسير - الكسوة للأسارى (3008) عن جَابِرٍ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ أُتِيَ بِأُسَارَى، وَأُتِيَ بِالعَبَّاسِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، «فَنَظَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ قَمِيصًا، فَوَجَدُوا قَمِيصَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَقْدُرُ عَلَيْهِ، فَكَسَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ، فَلِذَلِكَ نَزَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ الَّذِي أَلْبَسَهُ» قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدٌ فَأَحَبَّ أَنْ يُكَافِئَهُ ".(7/3399)
التعليل لما قبلها، ولذا كان بينهما فصل، فكمال الاتصال بالعلة (إِنَّهُمْ كفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) وأكد سبحانه كفرهم بأن، وأنهم يحملون أوصافا تقتضي تحقق الكفر بالله وبرسوله، إذ يحاولون أن يخدعوا الله ورسوَله، وقد استمروا على ذلك حتى ماتوا ولذا قال تعالى: (وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) أي ماتوا على حال الفسق والتمرد على الحقائق، وأشد من التعبير بالفسق في حالهم بأنه أشد الكفر؛ لأنهم كافرون، ومخادعون، وغشاشون، فهم تمردوا على الله وتمردوا على كل خلق كريم، والله أعلم بهم.
وهم لَا يفاخرون إلا بما آتاهم الله من مال وولد، ولا يستطيعون المفاخرة بمكارم، وِلذا قال تعالى:(7/3400)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
(وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85).
تقدمت هذه الآية في هذه السورة عند الكلام على ما يتمناه المنافقون للمؤمنين، ومنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يقبل منهم نفقاتهم، فقد قال تعالى في ذلك: (ومَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كفَرُوا باللَّه وَبِرَسُوله وَلا يَأتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وهُمْ كُسَالَى وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهونَ).
ونرى الآيتين متلاقيتين فِى المعنى والألفاظ، إلا في حرفين: أولهما - أنه هنا عبر (بالواو) فقال تعالى: (ولا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُم) وفي الآية السابقة صر (بالفاء) ولها مناسبتها، والثاني - أنه في هذه الآية لم تذكر (لا) بعد (أَمْوَالُهُمْ)، وفى الآية السابقة ذكرت لَا وأيضا فالنص السابق " إنما يريد الله أن يعذبهم في الحياة الدنيا " وفي هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا).
وإن هذا الاختلاف في الألفاظ هو تصريف القول الذي هو من أسباب الإعجاز البياني، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ. . .)، فهل يعد هذا من التكرار؟ نقول إنه يكون من التكرار إذا كانت المناسبة التي ذكرت فيها الآيتان واحدة، أما إذا اختلفت المناسبة، فإنها تغير المقصود، وإذا تغير المقصود لَا يكون المعنى واحدًا من كل الوجوه.(7/3400)
وقد كانت المناسبة في الآية السابقة أن الله منع رسوله من أن يقبل منهم نفقات في الحروب، ومعاونات فيها، مهما تكن أموالهم كثيرة، وأنهم أعز نفرا، فالله هو الغني الحميد.
وأما المناسبة هنا فهي النهي عن الصلاة عليهم بسبب كفرهم، وتأكيد ذلك النهي، وكان قبل ذلك النهي عن الاستغفار لهم، وحلفهم الدائم، وقد كان يظن أن يكون مالهم وأولادهم توجب العطف، فبين الله تعالى أن ذلك كله لَا يسوغ العطف عليهم، ولا رجاء الخير منهم.
ولقد قال الزمخشري في تكرار يعض الآيات: وقد أعيد قوله تعالى: (وَلا تُعْجِبْكَ)؛ لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزَّل الله تعالى وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال المخاطب لَا ينساه، ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهم يفتقر إلى فضل عناية، ولا سيما إذا تراخي ما بين النزولين فأصبح الشيء الذي أهم صاحبه فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه.
وإن المنافقين قد استمروا على فرارهم من الجهاد، ولذا قال تعالى:(7/3401)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
(وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
كان المنافقون كلما نزلت آية جهاد، قبعوا قبوع القواقع في أصدافها، ورضوا بأن يكونوا من المتخلفين لَا يتقدمون إلى الجهاد، وإن كانت فيه العزة؛ لأن أسباب العزة من جهاد ومقاومة للباطل ثقل عليهم، ولذا قال تعالى فيهم: (وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ) السورة في عرف القرآن الكريم هي الجزء من القرآن الكريم المسورة المحدودة المبدوءة بـ " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " إلا سورة براءة، فقد بينا أنها ليست مبدوءة بها، ويصح أن يراد به هنا بعضها، وهي آية من الآيات، ويكون قد عبر(7/3401)
عنها بسورة لبيان كمالها، وأحكامها، وأن غايتها ثابتة قائمة، وهي الجهاد فالجهاد ماض إلى يوم القيامة (1).
وإن أريد بها سورة كاملة، فأوضح سور الجهاد سورة براءة؛ لأنها ابتدأت به، وتنظيمه مع العهود والمواثيق، وآياتها داعية إليه كاشفة تخاذل المنافقين عنه.
وقوله: (أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ) أن تفسيرية، وهي تبين أن ما بعد هو السورة، فتكون بمعنى جزء السورة، ويصح أن تكون مصدرية، والمصدر في مقام الجار والمجرور، أي نزلت السورة بـ (أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ)، ولم يذكر الإيمان بالرسول لأن الإيمان بالله حق الإيمان إيمان برسله؛ لأنهم جاءوا بمعجزات أيدهم الله بها، ولأن الإيمان بالرسول مذكور مطلوب في قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ).
فالمطلوب بالسورة أمران: أحدهما - الإيمان بالله حق الإيمان بأن يذعنوا لكل ما يكلفهم إياه، وأن يعلموا مؤمنين بأنه القادر القاهر، الناصر المعز المذل العليم الخبير، أي يؤمنون بأنه واحد في ذاته وصفاته التي هي الكمال المطلق، وأنه لا يعبد غيره.
والثاني - الجهاد مع رسول الهدى ودين الحق؛ لأن الجهاد معه سبيل العزة، ورفع الحق، وخفض الباطل، هذا هو الدين الحق، ولكن المنافقين يفرون من الجهاد، ولا يحتملونه في ذات أنفسهم، وينفرون منه ولو كانوا ذوي قدرة، ولذا قال تعالى نيهم: (اسْتَئْذَنَكَ أُولُوا الطوْلِ مِنْهُمْ).
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -مّ، و (اسْتَئْذَنَكَ) أي طلبوا إذنك في أن يتخلفوا وحالهم تنافى طلبهم، لأنهم (أُولو الطَّوْلِ) أي أصحاب الطَول والسَّعة والفضل في المال، والطاقة البدنية التي تتحمل الجهاد بالنفس والمال (مِنْهُمْ)، والضمير في منهم يعود على المنافقين، استأذنوك (وقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَعَ الْقَاعِدِينَ) أي اتركنا مع
________
(1) وهو مفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم: " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ".(7/3402)
القاعدين من النساء والأطفال والضعفاء، أي رضوا بالمنزل الدون والمكان الهون، وذلك لأنهم بخلاء جبناء، وبهم تفنى الأمم والجماعات.
وقد بين سبحانه وتعالى هوان هذه النفوس فقال تعالت كلماته:(7/3403)
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
وِإذا كان أولو الطول والسعة والقوة في أبدانهم قد قالوا (ذَرْنَا نَكن مَّعَ الْقَاعدين)، ولا تستنفرنا في جهادك الذي بعدت فيه الشقة، وعظمت فيه المشقة، فقدَ (رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ)، والخوالف جمع خالفة، وهي المرأة المتخلفة عن الجهاد، ويطلق على ما لَا خير فيه، أي أنهم رضوا أن يكونوا كالنساء القاعدات في البيوت، والأشياء التي لَا خير فيها ولا منفعة، أي رضوا بحياة الدعة والاسترخاء ولو كان معها الذلة، وتركوا حياة الكد والتعب ولو كان فيها العزة.
وقال تعالى: (وَطبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) أي أنه بهذه الحال وأخواتها، مما فروا فيها من الجهاد فرار الجبناء، فسدت نفوسهم، وأغلقت قلوبهم عن حب الخير والعيش الكريم، وبني للمجهول للإشارة إلى الأسباب المتراكمة التي توالت على نفوسهم، وطبعتها على النفاق، فطبع مع النفاق الذلة والاستهزاء والكذب، وإخلاف الوعد، وإن مدوا أعناقهم للذلة.
إن النفاق يولد الجبن، والجبن يولد المذلة والكذب وكل قبائح النفس، ولذا قال تعالى: (فَهُمْ لَا يَفْقَهونَ) و (الفاء) تفيد ترتب ما بعدها على ما قبلها؛ لأن طبع القلب على النفاق يفسد الفكر، فلا ينظر إلى عواقب الأمور، ولا ما تنتهي إليه، وأعيد الضمير في قوله تعالى: (فَهُمْ) لتأكيد وصفهم، وثبوت حالهم، والفقه كما ذكرنا هو العلم بلباب الأمور وغايتها، فهم لم يعرفوا أن موقفهم لو سلك المؤمنون مسلكه لذلوا، ولذهبت ربحهم، ولم يدركوا أنهم بما يفعلون يقون أنفسهم من شقة الجهاد، ولكن يكونون مهينين في الدنيا، وتنالهم جهنم وبئس المصير.(7/3403)
وبعد أن بين حالهم في فرار من الجهاد، وإبداء المعاذير الكاذبة، ورضاهم بأن يكونوا مع النساء والضعفاء وبأن يكونوا أشياء لَا خير فيها ولا فائدة - ذكر بعد ذلك الذين يريدون الحياة الحق، حياة الجهاد ومفتاح السعادة في الدنيا والآخرة، وهم الرسول والذين اتبعوه، فقال:(7/3404)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
(لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
الاستدراك هنا للانتقال ممن ارتضوا المنزل الهون إلى الذين لم يريدوا إلا العزة والكرامة والرفعة، ومن امتلأت قلوبهم بحب الله تعالى، فآثروه على كل الوجود، ورضوا بالمشقة وإن اشتدت؛ مرضاة له سبحانه وتعالى، فالاستدراك لبيان الرفعة التي وصل إليها المؤمنون في مقابل الذلة التي ارتضاها الآخرون، كقوله تعالى: (. . . فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكلْنَا بِهَا قَوْمَا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)، وكقوله تعالى: (فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالذِينَ عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأمُونَ) والمعنى فإن استرخى هؤلاء عن الجهاد، ورضوا بالقعود مع الضعفاء والنساء فالرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وقوله:
(لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. . .) التعبير بالرسول في هذا المقام للإشارة إلى أن مقام الرسول يوجب الجهاد؛ لأنه تبليغ للدعوة، وحماية لها، ودفع للذين يعاندونها، وذكر بجوار مقام الرسالة من معه، أي من آمنوا، وصاروا معه في جهاده الذي حمل عبئه بحمله عبء الرسالة، والرسول وما عطف عليه مبتدأ خبره ما جاء بعد ذلك، وهو قوله تعالى: (جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ) أي قدموا النفس والنفيس، وقدم سبحانه وتعالى الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس، مع أن النفس أغلى وأعز، والجود بها أقصى غاية الجود، قدم المال مع ذلك؛ لأن الإنفاق في سبيل الله هو عدة الجهاد ابتداء، وامتشاق السيوف هو نهايتها، ولأن ذلك يشير إلى أنهم باعوا أنفسهم لله تعالى واطرحوا الدنيا اطراحا، فالمال يطلب لغايات الدنيا، وقد اشترى الله من المؤمنين أنفسهم فلا حياة لهم إلا مع الله.(7/3404)
قوله تعالى: (وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ) الإشارات إلى الموصوفين بالأوصاف السابقة، أي أولئك الذين كانوا مع الرسول، ولزموه في جهاده، ولم يتخلفوا عنه، وأحبوا الله تعالى وبذلوا أموالهم وأنفسهم، ولم يريدوا شيئا إلا إرضاء الله، لهم الخيرات، الخيرات جمع خير، وعبر بالجمع للدلالة على كثرة ما يمنحهم الله من خير وتنوعه، فخير في الرزق، وخير في نيل المطالب، وخير في النصرة، وخير في العزة، وخير في منع تحكم الأعداء، وخير في رضا الله تعالى، وخير في صلاح الولد، وخير في الهداية. . . إلى آخره من الخيرات في الدنيا، والخير الأكبر في الآخرة.
ثم قال: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي المشار إليهم المتصفون بهذه الصفات هم الفائزون بنعيم الآخرة، ورضوان الله تعالى والقرب منه، وقد قصرا الله تعالى الفلاح عليهم بتعريف الطرفين، لأن تعريف الطرفين؛ يفيد القصر، وبضمير الفصل، أي أن الفلاح لهم، وليس لغيرهم.
وقد بين الله تعالى بعض ما فازوا به، وهو الجنة، فقال تعالى:(7/3405)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
هذا بعض الفلاح الذي ذكره الله، وهو أنه أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، أي أن الله تعالى أعطاهم نعيمًا فيه ثلاث خواص كلها يزكي بعضها بعضا. أولها: أنها جنات، وهي جمع جنة فيها الأشجار التي تظل من الحرور، وتتمتع النفس برؤيتها، وبهجتها، وفيها الثمار اليانعة، وفيها من كل فاكهة ما يشتهون، وفيها ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ففيها متعة النفس والجسم والروح.
الثاني أن الأنهار تجري من تحتها تدفع الحرور، وتسقى النفوس والأجسام، ويكون التمتع ببهجتها ومنظرها.(7/3405)
الثالث: أنها خالدة، ففي كل نعيم غير باق يكون الألم. بفنائه وانتهائه، أما نعيم الجنة، فهو للبقاء.
ختم الله تعالى الآية بقوله: (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الإشارة إلى هذا النعيم المقيم، وقصر الفوز عليه، أي فلا فوز غيره، فما يحسبه في الدنيا من أسباب الفوز إنما هو باطل لَا يجوز.
ودل على القصر تعريف الطرفين، وضمير الفصل، والله تعالى أعلم بما يجزي به عباده المتقين.
* * *
اعتذار الأعراب
قال تعالى:
(وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
* * *
كان الكلام في المنافقين الذين نبتت نابتتهم في المدينة عندما انتصر المؤمنون بدر الكبرى، وصارت لهم القوة والسلطان فيها، واستقر الأمر فيها(7/3406)
للتوحيد، والإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وحيث كانت القوة العادلة، اختفت العداوة الظاهرة، واستمرت عداوة النفوس مستكنة فيها فيكون النفاق الذي يكل القلوب، ويملؤها حقدا، ورغبة دانية في الكيد.
ولما صارت القوة للإسلام في الجزيرة العربية، وصارت الكلمة العليا لله ولرسوله، وجد سبب النفاق في داخل الجزيرة وحول المدينة كما قال سبحانه: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ. .).
وعندما يكون النفير العام، أو الخاص يظهر من الأعراب اعتذارات بعضها صادق، وبعضها كاذب، ويقعد بعضهم عن الجهاد كفرا ونفاقا، ولذا قال تعالى:(7/3407)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
(وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُم).
في الآية قراءتان إحداهما بتشديد الذال مع كسرها، والثانية بتخفيفها مع كسرها أيضا (1)، فقراءة التعذير في الأولى، يكون معناها التقصير وعدم الاهتمام، من قولهم عَذَر في الأمر إذا قصَّر فيه وتوانى، وذلك مقصور في الأعراب الذين هم أجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله تعالى، ولا فرق عندهم بين دعوة إلى الجهاد في سبيله، ودعوة إلى عادات كانت تجري بينهم للمنازعة على الكلأ، أو مواطن الماء، أو للعصبية الجاهلية.
ويصح أن يكون المعذِّرون هم المعتذرون، ويكون في الكلام إعلالا صرفيا، فأصل " المعذرون " المعتذرون من اعتذر، فقلبت التاء ذالا، وأدغمت الذال، ونقلت حركة التاء إلى العين، ويكون المعنى جاء المعتذرون الذين شددوا في اعتذارهم؛ لأن الادعاء ينبئ عن شدة الاعتذار، وإن معنى ذلك أنهم يعتذرون بأعذار مقبولة، ويدل على ذلك المقابلة، وقوله تعالى بعد ذلك: (وَقَعَدَ الَّذِينَ كذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)
________
(1) قراءة (المعْذِرون) ساكنة العين خفيفة الذال، قراءة يعقوب، والنهاوندي عن قتيبة عن الكسائي، وقرأ الباقون، بفتح العين وتشديد الذال. غاية الاختصار (963).(7/3407)
فإن المقابلة تقتضي التغاير بين القاعدين الذين لم يصدقوا الله ورسوله وكذِّبوا، وبين المعذرين، ولكن المقابلة لَا تكون إلا إذا كان اعتذار الأولين حقا وصدقا.
وقراءة " المُعْذِرون " بالتخفيف من الإعذار، وهو إبداء العذر الذي يكون مظنة القبول.
وإننا نجد أن الآية من قراءاتها المختلفة تفيد إبداء العذر، وإن المقابلة بين القاعدين الذين كذبوا الله ورسوله، والمعتذرين تفيد أن العذر مقبول اقتضى الأمر لهم.
وقد جاء بذلك التفسير المأثور، فقد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في المعذرين: هم الذين تخلفوا لعذر فأذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وروي عنه غير ذلك، والله أعلم، وقيل إنها نزلت في عامر بن الطفيل ورهطه، فإن رهطه قالوا عندما دعاهم - صلى الله عليه وسلم - إلى الغزو قالوا: لو غزونا معك أغارت أعراب طيئ على حلائلنا وأولادنا ومواشينا، فعذرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - (1).
وقوله تعالى: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) يفيد أولا أن الذين جاءوا هم المعذرون ولم يذكر الذين جاءوا مجاهدين؛ لأن منهم من جاء مجاهدا، وخصوصا أولئك الذين كانوا مع الرومان في مؤتة، وتخلفوا عنهم في تبوك وخذلوهم، ولكن ذكر المعتذرين فقط؛ لأن الكلام في المستأذنين في التخلف بأعذار غير صادقة وهم المنافقون، فناسب ذلك ذكر المعتذرين من الأعراب.
وتفيد ثانيا أنهم جاءوا للاعتذار وليؤذن لهم، ولو كانوا يعتذرون كذبا ما جاءوا بل قعدوا كما قعد غيرهم، وقال تعالى:
(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي قعد وتوانى الذين كذبوا الله ورسوله، وكذبوا بالتخفيف تتضمن معنى التكذيب لله ولرسوله، ولآياته البينات، ومعنى
________
(1) ذكره القرطبي: الجامع لأحكام القرآن - ج 8، ص 224. عن ابن عباس رضي الله عنهما.(7/3408)
الكذب على الله ورسوله والناس بإظهارهم الإسلام، وإبطانهم الكفر، وإظهار أعذار غير صادقة.
وبين الله تعالى عاقبتهم فقال تعالى: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وهنا إظهار في موضع الإضمار؛ لأن المؤدى أنه سيصيب هؤلاء القاعدين الذين كذبوا الله ورسوله عذاب أليم، وكان الإظهار لأمرين: أولهما - بيان أن منهم كافرين، وبسبب الكفر سينالهم عذاب أليم، وثانيهما - أن منهم من لا يصرون على الكفر فيتوبون، فهذا العقاب للذين يصرون ولا يتوبون.
و (السين) في قوله تعالى: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ كفَرُوا مِنْهُمْ) لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل.
وقد ذكر الله تعالى بعد ذلك أصحاب الأعذار المقبولة فقال:(7/3409)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
(لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ... (91)
في هذه الآية وما بعدها بيان الأعذار التي تبيح التخلف عن الخروج، ولم يذكرها القرآن الكريم بعنوان أنها أعذار، ولكن النص يفيد أنه لَا إثم إذا تخلفوا، وذلك للإشارة إلى أن الجهاد غير واجب على هؤلاء، والاعتذار إنما يكون عند الوجوب والتخلف، وإذا لم يكن وجوب فالتخلف حينئذ له رخصة، وهؤلاء عاجزون عن القيام بهذا، والله لَا يكلف العاجزين؛ لأنه تعالى يقول: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفسًا إِلَّا وُسْعَهَا. . .)، فالجهاد غير واجب عليهم، وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لهم فضل المجاهدين إذا نصحوا لله ورسوله، والنصح إخلاص القلب واللسان والعمل لله تعالى فالقلب لَا يحدث إلا بالله، واللسان لَا ينطق إلا مخلصًا، والعمل لَا يكون إلا لله تعالى، ويقال نصح له القول إذا أخلص له في قوله، ونصح له في العمل إذا أخلص له، ولقد روى مسلم في صحيحه عن تميم(7/3409)
الداري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " الدين النصيحة. ثلاثا، قلنا: لمن؟ قال: لِلَّهِ ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " (1).
وجاء في تفسير القرطبي: قال العلماء: النصيحة لِلَّهِ إخلاص الاعتقاد في الوحدانية ووصفه بصفات الألوهية وتنزيهه عن النقائص، والرغبة في محابه، والبعد عن مساخطه، والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبة آل بيته (أي الذين اتبعوا هديه) وتعظيمه، وتعظيم سنته، واحياؤها بعد موته بالبحث عنها والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها والتخلق بأخلاقه الكريمة - صلى الله عليه وسلم -.
والنصح لكتاب الله قراءته والتفقه فيه، والذب عنه وتعليمه، وإكرامه والتخلق به. والنصح لأئمة المسلمين بترك الخروج عليهم، وإرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغلوه من أجور المسلمين، ولزوم طاعتهم في الحق والفيام بواجب حقهم.
والنصح للعامة ترك معاداتهم، وإرشادهم، وحب الصالحين والدعاء لجميعهم، وإرادة الخير لكافتهم.
والمراد أنه لَا إثم في التخلف على من سقط عنه واجب الجهاد إذا نصحوا لله ورسوله، إن استقامت قلوبهم وألسنتهم، وقاموا بحق الإرشاد والتنبيه، وإن كان لهم رأى في الجهاد وجهوه، وكأنَّهم إذا سقط واجب الجهاد بالسيف، والاعتراك في المعركة، فإنهم يحملون واجبا آخر هو الإرشاد والتوجيه، والمعاونة بكل ما يستطيعون، وإنهم إذا كانوا كذلك فإن لهم فضل الجهاد.
________
(1) رواه مسلم: الأيمان - الدين النصيحة (55)، عن تميم الدارى، وليس فيه ذكر الثلاث عند مسلم، وإنما ورد التكرار في رواية تميم الداري عند أبي داود: الأدب - في النصيحة (4966)، وباللفظ المذكور أعلاه عند أحمد: مسند الشاميين - حديث تميم الداري (16494) كما ورد ذكر الثلاث في روايات أبي هريرة عند الترمذي: البر والصلة - ما جاء في النصيحة (1926)، والنسائي: البيعة - النصيحة للإمام (4199)، وغيرهم.(7/3410)
وروى أبو داود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لقد تركتم أقواما ما سرتم مسيرًا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد، إلا وهم معكم فيه "، قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة!! فقال: " حبسهم العذر " (1).
وهؤلاء الذين سقط عنهم واجب الجهاد بالسيف، والاشتراك في المعركة، ذكرهم الله تعالى فقال: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ) أي إثم أو أن يكلفوا أنفسهم العنت والضيق. والضعفاء هم الشيوخ الذي أثقلتهم السن، والنساء والصبيان، وغيرهم من الذين لَا تتحمل أجسامهم لضعف بنيتهم، وخور مُنَّتِهم (2)، والأعمى والأعرج، كما قال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17).
والضعفاء الذين عذرهم، وفيهم الأعمى والأعرج وعذرهم ثابت دائم، وهناك أمر ليس بدائم، وهو عارض، ولكنه يسقط الوجوب في مدة وجوده، وهو المرض الشديد الذي يقعد عن القيام بالواجب أو يزيده الجهاد مرضا.
وهناك عجز ليس في ذات الجسم دائما، أو عارض قابل للزوال، وهو ألا يجد ما ينفق منه على نفسه في رحلته، وقال تعالى فيه: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ).
وكل لَا يجب عليهم الجهاد، ولكن يجب عليهم أن ينصحوا لله ورسوله، وقد بينا ما قال العلماء في ذلك، وإنهم بإخلاصهم ونصيحتهم، والقيام بالواجب الذي يقدرون قد أحسنوا في جنب الله، ولذا قال تعالى: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ).
________
(1) هذه رواية أبي داود: الجهاد - الرخصة في القعود من العذر (2508).
(2) المُنَّة: القوة. والمقصود ضعف قوتهم.(7/3411)
وهذا النص السامي من جوامع الكلم. . وهو يفيد أن هؤلاء الذين قعدوا بأعذار حقيقية إذا نصحوا لله ورسوله محسنون، أي قاموا بالواجب وزيادة، ومن أحسن لَا عقاب عليه، ومعنى قوله تعالى: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيل) أي طريق لتأثيم، أو لوم أو عتاب، أو تعييب لموقفهم؛ إذ إن موقفهم أنهم قاموا بالواجب على قدر طاقتهم.
وهناك صنف غير من ذكرنا ليسوا ضعفاء، ولا مرضى، ويجدون ما ينفقون، ولكن لَا يجدون ما يحملهم في هذه الشقة البعيدة، وهم يسقط الوجوب عليهم، وقد قال تعالى فيهم:(7/3412)
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
(وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
(الواو) هنا عاطفة عطفت ما بعدها على قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى. . .) وتكرار لَا لتأكيد نفي القدرة، وتحقق العذر وثبوته.
فهؤلاء الأصناف أربعة: الضعفاء، والمرضى، والذين لَا يجدون ما ينفقونه من زاد، والصنف الرابع الذين لَا يجدون ما يحملون عليه، وكان الرجل كما قال ابن عباس يحتاج إلى بعيرين، بعير يركبه، وبعير يحمل الزاد والماء في هذه الرحلة الشاقة.
وقد قال في هؤلاء مبينا حالهم: (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ) وهذا يدل على أنهم لَا يجدون ما يحملهم، ويدل على أنهم شكوا حالهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن الرسول لم يجد ما يحملهم، وذلك صريح، وهذا الكلام فيه من إيجاز الحذف ما لَا يمكن أن يكون إلا في أبلغ كلام وهو كلام رب العالمين، وما في قوله تعالى: (إِذَا مَا أَتَوْكَ) لتأكيد فعل الشرط، وهو مجيئهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعرض حالهم، ومحاولة النبي - صلى الله عليه وسلم - علاج(7/3412)
أمرهم، والبحث عما يحملهم عليه، وجواب الشرط هو قوله تعالى: (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) (تولوا) معناها انصرفوا، وحالهم مؤلمة باكية، وعبر عنه بقوله: (وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْع حَزَنًا)، وقوله تعالى: (قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ) جملة معترضة بين فعل الشرط وجوابه، أو حال الكاف في (أَتَوْكَ)، وهذا ما اختاره الزمخشري.
وقوله تعالى: (تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْع حَزَنًا).
(الواو) واو الحال، و (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْع حَزَنًا) فيه مجاز في إسناد الفيض إلى العين؛ لأن معناه أن العين ذاتها تفيض كأنها صارت دمعا، لامتلائها، واغروراقها، و (مِنَ) بيانية، أي أن تفيض العين من الدمع، والجار والمجرور في مقام التمييز، كما تقول فاضت العين دمعا، وقوله: (حزنًا) حال، أي فاضت العين دمعا لأجل الحزن الذي استولى بسبب الحرمان من الجهاد، وهو متعة نفوسهم، وغاية ما يبتغون عند ربهم.
(أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ) وألا يجدوا، المصدر المؤول، ويكون المعنى هم في حال حزن شديد، (أَلَّا يَجِدُوا) أي لأنهم لَا يجدون ما ينفقون، ولا يجدون ما يحملهم، ففيه تقدير حرف محذوف.
وهذا يتضمن أنهم لَا يجدون مركبا يركبونه، ولا نفقة ينفقونها.
وإنه يجب أن ننبه أن بعض الضعفاء الذين رفع عنهم الحرج بسبب ضعفهم، لم يرضوا بأن يكونوا قاعدين، وإخوانهم يجاهدون، بل ذهبوا وجاهدوا، وتقدم أحدهم وهو أعرج، قال لابد أن أكون بعرجي في الجنة، ولم يتراخ ولم يرض بالقعود، وذهب بعضهم وهو يهادَى بين رجلين، حتى وصل إلى الصف ليموت مجاهدا، رضي الله عنهم.
* * *(7/3413)
المؤاخدون في التخلف
قال تعالى:
(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
* * *
كان آخر الآيات السابقة التي بينت ذوي الأعذار أنهم لَا يجدون ما ينفقون على أنفسهم، وأنهم لَا يجدون ما يحملهم من إبل أو خيل، ولا يجدون من يمكنهم من الركوب بإعارة أو تبرع أو نحو ذلك.
فكان المناسب أن يذكر المقابل لهم الأغنياء الذين يجدون النفقة، ويجدون ما يحملهم، ومع ذلك يعتذرون عن الخروج بمعاذير كاذبة، ولذا قال تعالى:(7/3414)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ) (إنما) أداة قصر، أي لا سبيل للعتاب أو اللوم أو العقاب إلا على الذين يبادرون بالاستئذان، وهم أغنياء(7/3414)
يستطيعون الإنفاق ويجدون ما يركبون ويقطعون به الفيافي والقفار، وكلمة (السبيل) في البيان القرآني تطلق على الطريق للمؤاخذة، ثم العقاب من بعدها كما تقدم في قوله تعالى: (مَا عَلَى المُحْسِنِينَ مِن سبِيل) وأن مؤدى هذا التعبير بيان أن ما يرتكبون سينتهي بهم لَا محالة إلى عقاب شديد.
والقصر هنا إضافي؛ لأنه في مقابل أنه لَا سبيل على الضعفاء، الذين سبق بيانهم، فالسبيل خاص بالذين يستأذنون وهم أغنياء.
وقوله تعالى: (رَضُوا بِأن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ) هذه جملة مستأنفة لبيان سبب تخلفهم، وهو رضاهم بالمهانة والمذلة والاحتقار، إذ رضوا بأن يكونوا من الخوالف، وهن القواعد من النساء اللاتي لَا يقاتلن، اللائي يعبر عنهن بربات الخدور، والخوالف أيضا الأشياء الفاسدة التي ترسب في الإناء بعد تفريغه.
وقد ذكر سبحانه وتعالى السبب في هذا الرضا الذي لَا يرضى به عربي سليم في إدراكه لمعنى المروءة والكرامة، فقال تعالى: (وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) أي أنه بتوالي نفاقهم، وسيطرة الأحقاد على قلوبهم، ونسيانهم ما توجبه المروءة والأخلاق والكرامة والعزة، قد طبع الله تعالى على قلوبهم، وختمها على ما فيها من مفاسد نفسية وفكرية، فهم لَا يعلمون الخير من الشر وما تكون عاقبته وبالاً وما لَا تكون، لَا يعرفون أنه إذا نزلت نازلة الهزيمة أمام الرومان تكون على العرب وفيهم المنافقون، لَا فاصل بين البريء والسقيم.
وإن دأب هؤلاء الذين يعتذرون عن مواقف الشدة بغير عذر أو بعذر كاذب أن يحسبوا أن كل كلام يقبل، سواء أكان مقبولا أم كان غير مقبول، فكانوا يفعلون ما يفعلون، ويحسبون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل معاذيرهم الكاذبة، وإن فساد قلوبهم وعقولهم يجعلهم يتصورون أن طيِّب القلب يقبل كل ما يُدلون به، ولذلك أكثروا من الاعتذار عما يفعلون، كما يكثرون من الاعتذار عن النفور إلى الجهاد،(7/3415)
ولذا قال تعالى عنهم:(7/3416)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
ما كانوا يتوقعون أن يعود النبي - صلى الله عليه وسلم - موفورا منصورا، بل كانوا يتوقعون أن ينال منه الرومان هو ومن معه من المؤمنين، حتى لقد كانوا يقولون في مجالسهم، إن الرومان سيكبلون العرب، والمنافق مسرف في القول دائما، ولكنهم رأوهم قد جاءوا منتصرين، وتخاذل الرومان عن لقائهم، وقد راعهم ذلك، فبدءوا يعتذرون كاذبين، كما اعتذروا في التخلف كاذبين، ولذا قال تعالى: (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ) سالمين أقوياء مسيطرين على أنفسكم أحرازا غير مكبلين، والاعتذارات كاذبة كقولهم لو نعلم قتالا لاتبعناكم، فيأمر الله تعالى نبيه بقوله تعالت كلماته: (قُل لَا تَعْتَذِرُوا) فكان النهي عن الاعتذار؛ لأنه كذب، والتمادي في الاعتذار الكاذب تماد في الكذب، والتمادي في الكذب فجور وهو غير مقبول، ولذا بين السبب فقال: (لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ)، أي لن نسلم لكم بما تقولون من أكاذيب، ونحن نكذبها لأن النبأ اليقين قد جاءنا عن الله، ولذا قال تعالى في سبب التكذيب وعدم التسليم لهم (قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ) النبأ: الخبر الخطير، و (مِنْ) هنا للتبعيض، أي قد نبأنا الله تعالى ببعض أخباركم وهو ما يتصل بنياتكم وبقلوبكم، وبالأفعال التي تقصدون بها إفساد عزائم المؤمنين، وتخذيلهم عن المجاهدين، وحقيقة ما تقصدون باعتذاراتكم وأنها كاذبة.
ثم قال تعالى؛ (وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) (السين) لتأكيد وقوع أل في المستقبل، أي أنه ليس لكم أن تتكلموا في الماضي، فالله تعالى قد علمه من قبل، ونبأنا به، وإنما الأمر الحاضر، (وَسَيَرى) أي سيشاهد، أو سيعلم علم المشاهدة أو الواقع الله ورسوله.(7/3416)
وهذا الكلام السامي يفيد أمورا ثلاثة: أولها - أنه لَا يصح أن تشغلوا أنفسكم بما استدبرتم من أمور، بل اشغلوها بما تستقبلون من أموركم، وثانيها - التهديد بأن الله تعالى ورسوله يعلمان أموركم في المستقبل علما مؤكدا لَا مناص من أن تتخلصوا من تبعاته، وإن الله تعالى سيحبط أعمالكم، وثالثها - رجاء أن يدخل الخير قلوبكم، فتتوبوا عما أنتم عليه، ويصلح بالكم، فلا تعتذروا عن التخلف كاذبين.
وينذرهم الله سبحانه وتعالى الإنذار الشديد فيقول سبحانه: (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) (ثم) للترتيب والتراخي، والتراخي هنا في موضعه، لأن فيه الانتقال من الدار الفانية إلى الدار الباقية، فيه الانتقال من دار العمل إلى دار الجزاء، وقوله تعالى: (تُرَدُّونَ) تفيد أمرين: أحدهما - أنهم يذهبون إلى هذه الدار غير مختارين، بل يردون إليها مدفوعين، ثانيهما - في التعبير بلفظ ما يفيد معنى الرجوع إليها بعد هذه الحياة، وكأنهم في الدنيا في سفر يعود بعدها المسافر إلى حيث إقامته وموطنه، فالإنسان ما خلق عبثا، إنما خلق لأجل البقاء في الآخرة، فهي وطنه الأصلي إما نعيما مقيما، وإما عذابا أليما.
والمرد في الآخرة إلى الله تعالى حيث يلقاه العباد ويلقاهم بأعمالهم التي لا تخفى عليه منها خافية، فلا نفاق ولا كذب ولا مراءاة، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) الغيب هو المغيب أو المستور، وعالم الشهادة هو العالم الظاهر، فهو يعلم السر والجهر ويعلم الحاضر والغائب، يعلم ما كان وما يكون. (فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كنتُمْ تَعْمَلُونَ) و (الفاء) للترتيب والتعقيب، إذ إن الإنباء يكون عقب الرجوع إلى الله تعالى، وذلك دليل على تأكد وقوع ما وعد به وتحققه وأنه لَا مفر من قيام القيامة، ونزول ما وعد الله تعالى به.
والإنباء في هذا الحال، ليس بالأقوال، ولكن بالرؤية والأفعال فهو مجاز، يرون أعمالهم، تنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يفعلون، وتشهد عليهم ألسنتهم(7/3417)
وجوارحهم وأفعالهم، فالإنباء فيه وعد ووعيد، فيه أن يعلم الناس ما فعلوا ويروا جزاء ما فعلوا حاضرا مهيأ يستقبلهم ويستقبلونه.
ابتدأ المنافقون بالاعتذار ليصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين معاذيرهم؛ لأنهم رأوهم جاءوا سالمين، وسولت لهم نفوسهم أنهم سيجيئون مقهورين مكبلين في الأصفاد وزين ذلك في قلوبهم، فلما جاءوا بالظفر والقوة ابتدءوا فاعتذروا فلم يقبل لهم عذر، فنزلوا عن بعض ما رغبوا إلى أن يعوضوا عنهم، وينسوا ذلك الأمر الذي وقع ليستقبلوا معاملة جديدة كما يجري في وهمهم، وكما يريدون أن يوهموا به المؤمنين، وحكى الله تعالى عنهم بقوله تعالت كلماته:(7/3418)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
(سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
(السين) لتحقق الفعل في المستقبل، و (انقَلَبْتمْ) معناها رجعتم، وعبر عن الرجوع بالانقلاب؛ لأن المجاهد سائر في طريقه إلى الأمام فإذا أراد العودة انقلب من السير إلى الأمام إلى العودة إلى الوراء، والتعبير بالانقلاب يفيد العودة مختارًا غير مقهور ولا مهزوم ولا متراجع.
وحلفهم ليس للاعتذار، بل هو لطلب السكوت عنهم، ولذا قال تعالى: (لِتعْرِضُوا عَنْهُمْ) أي تسكتوا عنهم فلا تلوموهم ولا تعيروهم ولا تذكروهم بما رضوا به من قبل من القعود مع الخوالف، وقولهم ذرنا نكن مع القاعدين. طلبوا أن يسكتوا عنهم فأمر الله تعالى المؤمنين بأن يستجيبوا لهم لَا إرضاء لنفوسهم، ولكن لأنه لَا جدوى في لومهم، ولأن الله تعالى يريد أن يسكتوا عنهم حتى لا يكثر قول النفاق منهم، ولذا قال: (فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ. . .) فأعرضوا عنهم، فلا تلوموهم، ولا توبخوهم لأنهم رجس، أي أنجاس قذرهم لَا يطهره لوم ولا عتاب، كالشيء الذي يكون نجس العين مثل الخنزير، لَا يطهره الماء، بل الماء ينجس به، وكثرة القول معهم في أنجاسهم يشيع قول السوء في الذين آمنوا.(7/3418)
وأنهم وراءهم العذاب الأليم، فقال تعالى: (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) أي مستقرهم الذي يستقرون فيه ويأوون إليه جهنم جزاء بما كسبوه في الدنيا من آثام في أقوالهم وبثهم الشر والفساد بين المؤمنين وسعيهم وتثبيطهم لهمم المؤمنين.
وقلنا: إن التعبير فيه نوع من التهكم عليهم؛ لأن المأوى مكان الاطمئنان والراحة، وإن المنافقين يرتعدون من الإعراض عنهم ويسعون إلى طلب رضى النبي والمؤمنين، فيحلفون لهم بما يقرب قلوبهم، ولذا قال تعالى:(7/3419)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
(يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
لقد أعرضوا عنهم ولكنه إعراض من لَا ينسى ما كان منهم ولكن لَا يذكره، أعرضوا عنهم بوجوه مكفهرة، وما في قلب المؤمن يظهر في لمحات عينه وعلى وجهه فهو في اشمئزاز منهم، وإن كان لَا يتكلم بسوء، وهذه الحال لوم شديد، وهم يريدون إرضاءهم، فأخذوا عدتهم من القول، وهو الحلف ليدنوا منهم ويتقربوا من نفوسهم، وتتلاقى مشاعرهم وإحساساتهم، فيتمكنوا منهم، ويعرفوا دخائل نفوسهم، وقد نهى الله تعالى عن ذلك، ولذا قال: (فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).
والمؤمن يطلب رضا الله دائما، ويتبع ما يرضي الله، ولا يفعل قط ما لا يرضي الله، فإذا كان الله لَا يرضى عنهم، فالمؤمن اتباعا لحكم الله تعالى لَا يرضى عنهم.
وإن رضا المؤمنين من غير رضا الله تعالى لَا يجديهم؛ لأنه هو الذي يعاقب وهو الذي ينعم، ويشقى، فإن أرادوا الرضا، فليطلبوا رضا الله تعالى لَا رضا المؤمنين وحدهم، ورضا الله في أن يخلعوا أنفسهم من النفاق، ويخرجوا من إهابه، فبئس الإهاب يلبسونه.(7/3419)
وقد بين الله سبحانه وتعالى السبب في أنه لَا يرضى عن المنافقين ما داموا مستمرين على حالهم، وذلك في قوله: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) فإن الإظهار والمقام مقام الضمير، كأن يقول تعالت كلماته " فإنه لَا يرضى عنهم " وفى ذلك تعليل سبب عدم الرضا، وهو فسقهم وتمردهم على أوامر الله ونواهيه وتضافرهم على ذلك، حتى صاروا بذلك التفاهم على النفاق بينهم قومًا قائمين عليه راضين به، اللهم اكف أمتك شر النفاق والمنافقين.
* * *
الأعراب
قال تعالى:
(الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
* * *(7/3420)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
لقد تم نزول القرآن الكريم قبل وفاة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والكلام على هذه الآية يدل على أن القرآن من عند الله تعالى علام الغيوب؛ لأنه يدل على أمرين وقعا بعد وفاة الرسول صلوات الله تعالى وسلامه عليه:
الأمر الأول: أن الأعراب أشد كفرًا ونفاقا، ولذا ارتدوا أو أكثرهم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أحاطوا بالمدينة، ولولا وقفة الصديق خليفة رسول الله، والصحابة الأولين من المهاجرين والأنصار لاقتلعوا الإسلام.(7/3420)
الأمر الثاني: أنه عندما قويت دولة الإيمان عليهم، وهزموا هزيمة منكرة، رضوا بالصلاة دون الزكاة لأنهم اتخذوها مغرما، ولم يتخذوها قربات عند الله وتعاونا بين المؤمنين، وهو تعاون على البر والتقوى، ولذا لم يقبل خليفة رسول الله إلا الإسلام الكامل، والطاعة، وقالها مؤمنًا: إما حرب مجلية، وإما سلم مخزية.
ولقد تربص أولئك الأعراب الدوائر بالمؤمنين فانتهزوا فرصة وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وارتدوا فدارت عليهم دائرة السوء.
وإن ذلك كله دلائل على أن القرآن من عند الله تعالى العزيز الحكيم.
الأعراب هم سكان البوادي في خلقهم جفوة، وفي طبائعهم خشونة، وفيهم نفرة لَا يأنسون بالناس ولا يانس بهم الناس، وإن كان فيهم يقظة وسرعة حركة ونجدة، وهم لذلك أقل الناس علما وفكرا، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: " من سكن البادية جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى السطان افتتن ".
ولقد قال ابن كثير في تفسيره: ولما كانت الغلظة في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولا، وإنما كانت البعثة من أهل القرى، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى. . .)، والقرى: المدن العظيمة، وخير القرى ما يكون قريبا من البادية أو في وسطها كمكة والمدينة. . . فهي تجمع بين قوة نفس البدوي وأنس الحضري، وكذلك كان يبعث النبيون فموسى بعث بمدين، وعيسى بعث على مقربة من البادية، ومحمد بعث بمكة عليهم الصلاة والسلام، وقد وصف الله تعالى الأعراب بثلاثة أوصاف: أولها: أنهم أشد كفرا، وثانيها: أنهم أشد نفاقا، وأفعل التفضيل ليس على بابه؛ لأنه لم يذكر الفضل عليه، وحيث لم يذكر الفضل عليه يكون المعنى أنه كفر بلغ أقصاه(7/3421)
وأشد أحواله فهو كفر يلتقى فيه الجحود، وعدم التفاهم، والجهل الشديد، والغلظة الجافية.
ونفاقهم ليس كنفاق أهل المدينة، ولكن نفاقهم يكون بعدم الإيمان المطلق مع التسليم الظاهر، وعدم الإلف، وهم كما قال الله تعالى؛ (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ. . .).
والوصف الثالث هو قوله تعالى: (وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ) إنهم بإقامتهم في البادية كانوا جديرين وخلقاء ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله بألا يعرفوا أحكام الشريعة والفرائض، وتوابعها وأحكام الجرائم، وعقوباتها، والمحرمات من النساء والأنكحة والمواريث، وغير ذلك من أحكام الشريعة التفصيلية.
(وَأَجْدَرُ) أفعل تفضيل على غير بابه، إذ إن المفضل عليه غير موجود، والمعنى أنهم لبعدهم عن المدائن والقرى حيث العلم والفقه - صاروا في أغلب الأحوال جديرين بالبعد عن العلم بحدود الله تعالى.
وفى مذهب مالك لَا تقبل شهادة البدوي على الحضري، ولا تجوز إمامته له، وذكر هذا القرطبي في تفسيره وهو مالكي، ونقول إنه غريب عن مالك إمام دار الهجرة رضي الله عنه، وإن المؤمنين عدول فيما بينهم، والإمامة للأعلم فالأقرأ، وقد يكون فيهم أعلم وأقرأ، ووصف مجموعهم لَا يقتضي وصف كل واحد منهم.
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي يعلم الله تعالى أحوال الجماعات ونفوسهم مؤمنهم وكافرهم قويهم وضعيفهم، وهو المتصف بالعلم الكامل، وحكيم يدبر الوجود بمقتضى الحكمة.
فإذا كان الجهل في البادية لبعدها عن العمران ففيها البأس والقوة، والصبر على مصاعب الحياة وشدائدها، ولذلك لما قضى الصديق على الردة، وأخلى(7/3422)
الأرض العربية منها - جيَّش الجيوش إلى كسرى وقيصر، وكان أكثرهم من أهل الأعراب الذين ارتدوا فوجه قوتهم إلى الأعداء.
بعد أن بين سبحانه أخلاق الأعراب أخذ الحكم العدل اللطيف الخبير يبين أهل الشر منهم، وأهل الخير فقال تعالى:(7/3423)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
(وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
إن الأعراب الذين هم أشد كفرًا ونفاقًا يرون المسلمين لهم القوة والسيطرة فما يدفعونه من زكاة يقدمونها على أنها مغرم أي مال وجب عليهم أداؤه، ولأنهم لا يؤمنون باللَّه ورسوله ولا اليوم الآخر يعدونه مغرما - والمغرم: الغرم أو الغرامة، والغرامة هي المال الذي يدفع في غير مقابل، ولأنهم لَا يؤمنون ولا يرجون خيرًا في عطائهم، وأصل الغرام الشيء الملازم، وأطلق على المدين الغارم، لأنه ملازم دائما من الدائن ولذا قال تعالى: (. . . إِنَّ عَذَابَهَا كانَ غَرَامًا).
فهؤلاء الأعراب لَا علاقة لهم بالمجتمع، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، يعدون ما ينفق من زكاة مفروضة غرامة، وينتظرون أن ينخلعوا من هذا المال المفروض عليهم، ولا يؤمنون بوجوبه عليهم؛ لأنهم لَا دين لهم وقال: (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ) أي ينتظر ذلك الفريق من الأعراب أن تنزل بكم النكبات، " والدَّوَائِر " وهي جمع دائرة، والدائرة النائبة وهي في أصلها مصدر كالعافية، وقد تكون اسم فاعل من دار يدور، أي نكبة دائرة، وتتعاقب على الناس، أي أن أولئك المنافقين غير المؤمنين من الأعراب ينتظرون أن تنال المؤمنين دائرة تذهب بقوتهم، فيتحللون من تلك النفقات المفروضة، وقد انتظروا حتى توفى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فحسبوها فرصة فارتدوا، ثم لما زادت الشدة من أهل الإيمان عليهم رضوا بالصلاة، وامتنعوا عن الزكاة، حتى دفعوها صاغرين بسيف الله الذي رفعه الصديق رضي الله تعالى عنه.(7/3423)
ويقول سبحانه: (عَلَيْهِمْ دَائِرَة السَّوْءِ) أي أنه ينزل عليهم نكبة السوء، وهنا في (السوء) قراءتان، إحداهما بضم السين (1)، وهي المصدر بمعنى ما يسوءهم، فالدائرة نازلة ومقبلة، ولكنها ليست على المؤمنين بل على المنافقين من الأعراب، ولذلك هزمهم الصديق وخضد شوكتهم، وتقرأ السين في القراءة الثانية بالفتح (2)، والسوء: الضرر والفساد وكل قراءة من القراءتين قرآن متواتر.
وبجمعها يكون المعنى أنه يصيبهم نكبة تفجعهم وتسوءهم، وعاقبته مضرة شديدة عليهم أن يشرد جمعهم ويتفرق أمرهم وتسبى نساؤهم ثم يعتقن، وأن يقتل رجالهم وينهزموا.
ثم ختم الله تعالى الآية ببيان أن ما ينوون وما يتربصونه يعلمه الله تعالى ويدبر الأمور على غير ما يريدون، بل على ما يريد الحق جل جلاله، ولذا قال تعالى: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) صدَّر الجملة السامية بلفظ الجلالة، لتربية المهابة في نفوس القارئين والمستمعين، وملء القلوب برقابة الله تعالى، لأنه (سَمِيعٌ) يسمع ما تحدث به النفوس، وما تهمس به الأفئدة (عَلِيمٌ) بكل شيء، يدبر الأمر على مقتضى علمه، وقد أحاط بكل شيء علما.
وأن الله يعلمنا الإنصاف في الأقوال والأفعال، ولله المثل الأعلى، فيذكر تعالت كلماته بجوار المنافقين من الأعراب الأبرار فيقول عز من قائل:
________
(1) قراءة (السوء) بضم السين والمد، قراءة ابن كثير وأبو عمر، وقرأ الباقون (السَّوء). غاية الاختصار (964).
(2) السابق.(7/3424)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
(وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
هذا هو الصنف من الأعراب الذي أخلص لله تعالى، وسلمت قلوبهم من النفاق، وآمنوا بالله وأقاموا الصلاة، وقد ابتدأ سبحانه وتعالى بالإيمان بالله تعالى،(7/3424)
فقال: (وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) ذكر سبحانه وتعالى الإيمان بالله تعالى وهو الإيمان بوحدانيته، وأنه الخالق من غير شريك، والواحد في صفاته من غير مثل، والمتفرد بالألوهية والعبادة وحده سبحانه وتعالى، والإيمان بأن له رسلًا أرسلهم إلى خلقه ويؤيدهم بمعجزات باهرة تدل على أنهم يتحدثون عن الله، وأنه أرسل محمدًا بالهدى ودين الحق بشيرًا ونذيرًا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.
فذكر الإيمان باللَّه تعالى يقتضي الإيمان برسله عامة ورسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاصة، وقال تعالى: (وَالْيَوْمِ الآخِرِ) وهو يوم القيامة وما قبله من بعث ونشور وحساب وثواب وعقاب، فكل ذلك إيمان باليوم الآخر، وهو إيمان بأن الإنسان لم يخلق عبثا، وأن الدنيا قنطرة الآخرة.
وقوله تعالى وهو ما يتبع الإيمان: (وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَات) ومعنى (يَتَّخِذُ) يفعلها قاصدا أن تكون قربات، لَا كالذين فعلوها على أنها مغرم من المغارم يغرمونها، (قُرُبَاتٍ) أي يفعلونها متقربين بها إلى الله تعالى، فالقربات جمع قربة، وهي ما يتقرب به إلى الله تعالى، وجمعها لتعدد الخير في الصدقات فهي طاعة لله تعالى وهذه قربة، ووقاية النفس من شحها وهذه قربة أيضا، ومعاونة اجتماعية وهذه قربة رابعة، وعلاج لأدواء المجتمع الإسلامي بإعطاء السائل والمحروم حقهما، وتلك قربة خامسة، وطب لنفوس المحاويج حتى لا يحقدوا على المجتمع، وهذه قربة سادسة. وهكذا تجتمع القربات في الزكاة وهي الإنفاق في سبيل الله.
(وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ) معطوفة على ما ينفق قربات للرسول، وصلوات الرسول قال أكثر المفسرين إنها جمع صلاة بمعنى دعاء أي دعوات الرسول التي يدعو الله تعالى بها عند قبول الصدقات، أي أنهم يتخذون الزكاة قربات لهم(7/3425)
ودعاء الرسول بالبركة يتخذونها قربات أيضا، ويزكي ذلك قوله تعالى بعد ذلك: (أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ).
وقد خطر على ذهني أن قوله تعالى: (وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ) معطوفة على قوله (مَا يُنفِقُ قُرُبَات) أن الظاهر الصلوات المفروضة وليس الدعاء المقرون من الرسول بقبول الصدقات وإضافتها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - باعتبار الصلاة فرضت في القرآن، وبينها النبي - صلى الله عليه وسلم - بيانا عمليا، فقال معلما للمؤمنين " صلوا كما رأيتموني أصلي " (1) فكانت صلوات المؤمنين جميعا هي صلوات النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكانت إضافتها إليه - صلى الله عليه وسلم - باعتباره المبين لهذه الفرائض ويكون هؤلاء المتقون من الأعراب قد قاموا بالصلاة والزكاة معا، لَا يفرقون بينهما كما أراد المرتدون. ثم قال تعالى: (أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لهُمْ).
الضمير - على ما قلنا - يعود إلى الصلوات، وعلى قول أكثر المفسرين يعود إلى ما ينفقون في سبيله، ولا شك أن عوده إلى الصلوات أوضح؛ لأن الضمير مؤنث، وهو أجدر بأن يعود على جمع مؤنث.
و (ألا) هنا أداة تنبيه، وهي تفيد معنى القربة وتؤكده، وتغني عن ذكر وصف الصلوات بأنها قربة أيضا.
وقوله تعالى: (سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ): (السين) لتحقق الدخول في الرحمة، والرحمة إما أن يراد بها الجنة وعبر عنها بالرحمة؛ لأنها نعيم مقيم وأعلى رحمة يعلو الإنسان إليها، وإما أن يراد بها الرحمة الشاملة المذكورة (. . . وَرَحْمتِي وَسِعَتْ كلَّ شَيْء. . .)، لتشمل الجنة وغيرها ويكون المعنى أنهم باتخاذهم ما ينفقون والصلوات - تحيط بهم رحمة الله تعالى لا يخرجون منها إلا إليها.
________
(1) سبق تخريجه.(7/3426)
وقد ختم الله تعالى الآية بما يفتح باب التوبة للأعراب، وهم أقرب المنافقين في المدينة الذين مردوا على النفاق فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُور رَّحِيم) أكد غفران الله تعالى ورحمته بـ (إن) المؤكدة، وبالجملة الاسمية، وبصيغة (غَفُور رَّحِيم).
وبعد أن بين الله أحوال الأعراب ما بين مؤمن ومنافق، ذكر أحوال الذين سبقوا إلى الإيمان.
* * *
السابقون
قال تعالى:
(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
* * *
بعد أن بين سبحانه أحوال المنافقين في المدينة بين أصنافا ثلاثة من الذين يحيطون بصاحب الدعوة: أولهم وأتقاهم: هم الذين قامت عليهم دعامة الإسلام، وآمنوا باللَّه ورسوله واليوم الآخر.(7/3427)
وثانيهم المنافقون حول المدينة، والذين مردوا على النفاق في داخلهم، والله تعالى يعلمهم.
وثالثهم: فريق خلط عملا صالحا وآخر سيئا، وأفاقوا واعترفوا بذنوبهم فعسى الله تعالى أن يتوب عليهم، وهو التواب الرحيم.
الصنف الأول ذكره الله تعالى بقوله:(7/3428)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
(وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) السابقون الأولون هم الذين سبقوا إلى الإسلام، والنبي - صلى الله عليه وسلم - منفرد قد أنذر عشيرته الأقربين، فأعرض بعضهم وأنكروا شديد النكير. ومن لم يعرض وقف حائرًا بين غرابة ما يدعى إليه وماضي الصديق الأمين.
والذين كانوا من الضعفاء ولم يكونوا من الأقوياء إلا نفر قليل، والضعفاء كان منهم الرومي، ومنهم الفارسي ومنهم الحبشي، وكونوا الخلية الأولى للإسلام، ولكنهم وإن كانوا قليلا كانوا بإيمانهم واستمساكهم وتفديتهم للإسلام كانوا أقوى وأشد، وكانوا يتبعون النبي - صلى الله عليه وسلم - سرا ولا يجهرون حتى انضم إليهم عمر فأعز الله نبيه وأولئك الضعفاء، وكان أن صدع بأمر الله كأمر ربه. (فَاصْدَع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)، ولما علم أهل المدينة بدعوة محمد قابلهم في العقبة الأولى ثم في العقبة الثانية، وهاجر ومن معه إليهم فآووا ونصروا، وإذا كان الأولون قد سبقوا إلى الاستجابة، فقد سبق الأنصار إلى إنشاء دولة الإسلام، وإذا كان الأولون قد سبقوا ابتداء ولهم فضل الهجرة، فقد سبق الأنصار إلى بناء الدولة، ونالوا أفضل الإيواء والنصرة.
والذين اتبعوهم بإِحسان في هذا الدين ممن أسلموا وهاجروا ثم اشتركوا في الإيواء.
وهناك قراءتان إحداهما بالواو (1) (والذين اتبعوهم بإحسان)، ويكون هذا لبيان فضل من جاء بعدهم ممن نهجوا منهاجهم في حياتهم، ومن جاءوا بعدهم،
________
(1) قراءة العشرة. وهي المتواترة.(7/3428)
ومن في قوله تعالى: (مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) بيانية، أي هم المهاجرون والأنصار.
وهناك قراءة من غير الواو (1)، ويكون من تبعوهم بيان لفضل الأنصار وتكون بدلا أو عطف بيان، أي أن المهاجرين سبقوا وتلقوا الأذى والبلاء، والأنصار نصروهم واتبعوهم بإحسان أي اتبعوهم بإتقان وإجادة، ورضا وتقبل بقبول حسن، ولقد ذكر الله تعالى مناقب المهاجرين والأنصار وجزاءهم.
فذكر الجزاء الأعلى وهو رضاهم بالله وليا ونصيرا، ورضا الله تعالى عنهم أحباء لله تعالى، فقال: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) ورضوان الله تعالى أكبر جزاء على الطاعات، فقد ذكر الله تعالى الجزاء من جنات ونعيم مقيم، ثم قال: (. . . وَرِضْوَان مِّنَ اللَّهِ أَكْبَر. . .) وقد قدمه تعالى على كل جزاء من بعده، فالإحساس برضا الله أعلى درجات الجزاء، ووصفهم الله بأنهم رضوا عنه، رضوا بتكليفاته، وتقبلوها بقبول حسن، وقاموا بحق طاعته، وأحبوا الله لَا خوفا من ناره، ولا طمعا في جنته، بل لكمال محبته، وتلك هي المنزلة العليا في العباد، لا يعبده سبحانه خوفا ولا طمعا، ولكن محبة، وسعادة بعبادته.
ومع هذه المرتبة العليا من المكانة التي لَا تعلوها مكانة، ولا ينهد إلى مثلها جزاء (وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا).
في هذا النص السامي قراءتان متلاقيتان في المعنى، ففي المصحف المكي زيادة " من " وفي غيره خلو منها (2)، وفي الجنات الثمار الطيبات وتعدد الجنات لتعدد ثمارها، ففيها فاكهة ونخل ورمان، وغيرهما مما لَا عين رأت ولا أذن
________
(1) قراءة: (الذين) بغير الواو، ليست في العشر المتواترة.
(2) (تجري من تحتها)، بإثبات (من) قراءة ابن كثير، وكذلك رسم هذا الحرف في مصحف أهل مكة، وقرأ الباقون (تجري تحتها)، وكذلك رسمها في بقية المصاحف، انظر المقنع - ص 104، السبعة - ص 317، والنشر - / 1802. غاية الاختصار - برقم (967).(7/3429)
سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولا يخاف فيها الفوت، ولا الانقطاع، ولذا قال تعالت كلماته (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) والخلود ذاته نعمة؛ لأن البقاء نعمة، والفناء فيه الخوف.
(ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الإشارة إلى هذا الجزاء العظيم من رضوان منه، ورضا بأمره ونهيه، وقضائه خيره وشره وجنات متعددة الثمار مختلفة الألوان والأنواع، هو الفوز العظيم، ولا فوز يقابله أو يناهده، ومن ناله فقد نال خير الدنيا والآخرة.
ذكر الله تعالى السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين جاءوا من بعدهم واتبعوهم بإحسان في وسط الكلام في المنافقين؛ ليتميز الخبيث من الطيب، وليكونوا قدوة لهم إن أرادوا الهداية، ولقد عاد القول إلى المنافقين فقال تعالى:(7/3430)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
هذا هو الصنف الثاني ممن شملتهم الآيات الكريمة، وهم الذين شغلوا الكثير من الآيات الكريمات، وشغلوا أفكار المسلمين بتخلفهم المرة بعد الأخرى، واعتذارهم الكاذب في كل مرة ويحلفون بالله كاذبين مجترحين الأثام بعد الأثام، ويكرر الله تعالى ذكرهم لأنهم آفة الجماعات، وداؤها الدوى، ولا تنهض جماعة إلا بإبعادهم عن بيئتها الفكرية.
(وَمِمَّنْ حَوْلَكم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقونَ) وهم قبائل مختلفة - ذكر بعض المفسرين قبائلهم، فقال من مزينة وجهينة، وأسلم وغفار وأشجع، ناس منهم وليسوا كلهم، ولذا ذكر بعضهم فـ " مِنْ " في قوله: (مِمَّنْ) أي (مِنْ) المدغمة في (مَنْ)، أي بعض من حولكم من الأعراب منافقون أتقنوا النفاق وأجادوه، حتى إنهم ليحسنون إخفاء ما في بطونهم، فلا تعرفهم في لحن القول، كما تعرف(7/3430)
غيرهم ممن تكشف بعض أمرهم، فقال الله تعالى عنهم: (. . . وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. . .)، ولقد قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تَعْلَمُهُمْ) أي مع فطنتك وقوة حسك، (نَحْنُ نَعْلَمُ) المتكلم هو الله جل جلاله، وهو يعلم ما تسره النفوس، وما يناجون به فيما بينهم، وهذا نفاق فيمن حولكم، أي يحيطون بدياركم ويجب الحذر منهم والاحتياط لهم، وتكشف أمرهم حتى لَا يخدعوكم.
(وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) الذين يتتبعون عورات المؤمنين، ويتسمعون مواضع الضعف فيكم، وهؤلاء أصلاء في النفاق من وقت أن رأوا القوة فيكم، فأسرُّوا الكفر وأظهروا الإسلام، ودأبوا على النفاق ولجوا فيه، حتى صار النفاق عليهم سهلًا ميسرا، وعبر الله تعالى عن دأبهم في النفاق (مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ) وتجردوا له حتى خلصت نفوسهم له حتى صاروا لَا يستطيعون الصدق لو أرادوه، والإخلاص لأمر من الأمور، ولقد صاروا مهرة، من مرد فلان على العمل، إذا مهر فيه.
ولذلك رتب على مرد أن الرسول الفطن الأريب لَا يعلمهم، والله علام الغيوب، وما تحدث به النفوس يعلمهم، وإن الله إذ يعلمهم يعذبهم في الدنيا والآخرة، ولذا قال: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) وقوله تعالى: (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ) غير العذاب الأليم الذي يردون إليه، وأن توزيع العذاب عليهم يجعل العذاب مرتين، والعذاب الذي يردون إليه في الآخرة.
وقد اختلف المفسرون فيه، فقيل العذاب مرتين عذاب الفضيحة، وعذاب القبر، وقيل العذاب مرتين الفضيحة، وتنفيذ الحدود فيهم وأخذ الفرائض منهم.
وإني أرجح أن العذاب مرتين هو الفضيحة، ورد كيدهم في نحورهم، وفساد تدبيرهم، وغيظهم من أن المسلمين بقيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرجون من كل تدبير دبروه سالمين، وأميل إلى الذين فسروا قوله تعالى: (سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ) إلى أن مرتين كناية عن كثرة العدد، وترادف المرة بعد المرة، مثل قوله تعالى: (ثُمَّ ارْجِع(7/3431)
الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ)، وقد عذبوا مرات، كل مرة تتلوها أختها، عذبوا بعد أحد، وبعد الخندق، ومن قبل وبعد بدر، وفي كل غزوة كانوا يتمنون فيها الخسارة للمؤمنين، ولقد قال تعالى فيهم: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126).
و (السين) في قوله تعالى سنعذبهم لتأكيد وقوع العذاب المتكرر بهم، وهو عذاب نفسي وعذاب بدني كما وقع لقريظة، وعذاب مالي كما وقع لبني النضير وكل ذلك مع العذاب النفسي المستمر لغيرهم في كل الغزوات حتى تبوك.
قال تعالى: (ثُمَّ يُرَدُّونَ) ثم ينقلبون إلى عذاب عظيم في نار جهنم، و (ثم) هنا في معناها من حيث التفاوت بين عذاب الدنيا وهو مكرر، وعذاب الآخرة الدائم الذي لَا ينتهي، ويردون فيها معنى الدفع لهم عن الذي كانوا يحسبونه إلى عذاب عظيم، والتنكير هنا لتكثيره وشدة آلامه، كما قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. . .).
وبعد أن ذكر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ذكر الذين تابوا واعترفوا بذنوبهم.
فقال تعالى:(7/3432)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
هذا هو الصنف الثالث، وهم الذين تخلفوا في غزوة تبوك، فالقسم الأول من المهاجرين والأنصار ومن اتبعوهم بإحسان واقتدوا بهم، وإن لم يسبقوا سبقهم وهؤلاء ما تخلفوا عن غزوة غزاها النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقسم الثاني المنافقون الذين تخلفوا وكانوا يتمنون الهزيمة للمؤمنين.
والقسم الأخير تخلفوا من غير معذرة، ولم يدنسوا ألسنتهم بكذبهم، وأحسوا بكبر ما فعلوا فاعترفوا بذنوبهم وأحسوا بوخز الإثم يحيك في صدورهم، وكبر أمرهم في أنفسهم عندما نزلت الآيات للمتخلفين، فجاء بعضهم وربطوا(7/3432)
أنفسهم على سواري المسجد وأقسموا ألا يحلوا أنفسهم إلا إذا حل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رباطهم، فلما جاء من سفره وإنه كان من سنته أنه إذا جاء من سفر صلى لله ركعتين، فلما رآهم أبي أن يحل وثاقهم حتى يجيء أمر الله بذلك، وقد نذروا أن يتصدقوا بأموالهم إن غفر الله لهم تخلفهم، فغفر الله تعالى لهم بهذه الآية التي فيها (عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) (1).
فلما تاب الله تعالى قدموا من أموالهم، وبعضهم قدم كل أمواله تكفيرًا عما اجترِح من سيئة التخلف وهو قادر، ويقول تعالى في شأنهم: (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا) وهو الجهاد السابق والإيمان، والإحساس بالذنب، والتوبة النصوح، والتصديق، والآخر السيئ؛ وهو التخلف في الجهاد الذي بعدت فيه الشقة، وهذا أمر سيئ؛ لأنه عصيان لأمر الله تعالى؛ ولأنه تخاذل في وقت الشدة؛ ولأنه إيثار للراحة على الجهاد.
وقوله: (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا)، أي جمعوا بين الخير والشر، ولم يقل سبحانه وتعالى - ولكلامه المثل الأعلى - خلطوا بعمل صالح آخر سيئا من غير تمييز بين المخلوط والمخلوط به؛ لأنه ليس المقصود معرفة المخلوط من المخلوط به، إنما المقصود أنهم جمعوا بين الصالح والطالح، وقوله تعالى: (عَسَى اللَّه أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) الرجاء ليس من الله إنما هو من العباد، يرجون أن يتوب الله عليهم أي يرجع عليهم بقبول التوبة.
أو يقال إن الأمر ما دام قد اختلط الخير بالشر وكان الترجى فإن الأمر يرجى فيه قبول التوبة؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات، ولأن الخير الغالب برحمة الله يذهب بالشر المغلوب، وأن غفران الله ورحمته يطلبان قبول التوبة حيث كان لها مسوِّغ، لأن الله تعالى يقبل التوبة من عباده، ولأنه غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب، وختم الله تعالى الآية بقوله: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في هذه الجملة
________
(1) راجع ابن جرير الطبري: جامع البيان (11/ 110). كما أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل. الدر المنثور (4/ 274).(7/3433)
السامية تأكيد لمعنى الغفران وقبول التوبة رحمة بعباده، وذلك لأن الجملة السامية مؤكدة الغفران والرحمة بـ (إنَّ) الدالة على التوكيد، وبالأوصاف للذات العلية (غَفورٌ رحِيم) وبالجملة الاسمية.
وقد كان أولئك التائبون المعترفون بذنوبهم يقدمون أموالهم تكفيرا عن ذنوبهم، فأمر الله تعالى نبيه الأمين أن يأخذها فقال تعالى:(7/3434)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
يحسب بعض الكتاب في التفسير القرآني أن في هذا النص (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) به فرضية الزكاة، ونحسب أن الزكاة قد فرضت قبل ذلك، وإنما هذه الصدقة المطلوبة من الصدقات التي تكفر المعاصي، أو من المطلوبات التي تعم المفروض والمندوب ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الصدقة تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار " (1)
ولقد كان من بعض الخطائين الذين تخلفوا في تبوك من أراد التصدق بكل ماله تكفيرا عن خطئهم في التخلف، وإحساسا بكبر ما ارتكبوا، وقوله تعالى: (تطَهِّرُهُمْ) وهناك قراءة بسكون الطاء، وعدم الإدغام في الهاء من أَطْهَر والمعنى في القراءتين أن الصدقة تطهر نفوسهم من شحها، لأن من تخلف محافظة على أن الزمان كان زمان إثمار وإنتاح زراعي، فالصدقة علاج الشح، ومطهرة النفس منه، وقوله تعالى: (وَتُزَكِّيهِم) قال الزمخشري: إن التزكية تصح أن تكون بمعنى المبالغة في التطهير حتى تكون نفوسهم بتطهيرها نامية بسبب التطهير، فتكون مشتملة على معنى النماء، لأن المبالغة في التطهير نمتها أو نمَّت النزوع إلى الفضائل فيها، أو تقول: إن معنى التزكية من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أي يصفهم بما يكون تزكية لهم وثناء عليهم، أي يزكيهم - صلى الله عليه وسلم - بهذه الصدقات الطاهرة.
________
(1) سبق تخريجه.(7/3434)
و (مِنْ) في قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ) للتبعيض أي خذ بعض أموالهم، وليس من المستحسن أن يأخذ كل المال، بل يبقي لأهله ما يكفيهم بالمعروف، والآثار الصحاح قد وردت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان لَا يستحسن الأكثر من الثلث، فقد قال سعد بن بن أبي وقاص عندما استأذنه في الوصية قال - صلى الله عليه وسلم - " الثلث، والثلث كثير، إنك إن تدع أولادك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس ".
ومع هذه الصدقة التي أمره الله تعالى أن يأخذها منهم أمره سبحانه بأن يصلي عليهم، فقال تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ) الصلاة هنا بمعنى الدعاء والاستغفار، والتعدية بـ (على) للإشارة إلى أنها سابقة لهم فائضة بالخير عليهم نازلة بالبركات عليهم، وقد ذكر الله سبحانه الغاية الواضحة من الصلاة وهي أنها (سَكَنٌ لهمْ)، والسكن معناه الاطمئنان وقرار النفس، وذلك الاطمئنان يكون بردا وسلاما عليهم؛ لأنهم كانوا شاعرين بعظم جرمهم فيتوهمون بفرط إحساسهم وإيمانهم بأن ذنبهم غير مغتفر، فصلاته - صلى الله عليه وسلم - اطمئنان لهم، وقرار لنفوسهم، ثم ختم الله تعالى الآية بقوله عز من قائل: (وَاللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي سمع اعترافهم المطهر لنفوسهم وندمهم على تخلفهم عليم بضمائرهم الطاهرة التي زادها الاعتراف طهارة، واستحقوا تزكية النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
الله يقبل التوبة عن عباده
قال تعالى:
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ(7/3435)
وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
* * *
يؤكد الله سبحانه قبوله للتوبة حتى لَا يسرف العصاة ولو كانوا منافقين على أنفسهم، ويظنون أنه لَا رجعة إلى الله وإلى الحق، فإن اليأس يولد النفرة والنفرة تولد الكفر، والرجاء في الله يكون معه الرجوع إليه، والرجوع إليه يكون معه الإيمان، ولذا قال: (قلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفسِهِمْ لَا تَقْنَطوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ. . .).(7/3436)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
(أَلَمْ يَعْلَمُوا) فيه قراءتان إحداهما بالياء والأخرى بالتاء (1)، فأما التي بالتاء فتكون خطابا للمؤمنين، وتقريرا لحقيقة دينية يجب الإيمان بها، وأن يعلموا أن الله تعالى لَا يترك المذنب في ردغة الذنب، بل إنه سبحانه يفتح له الباب لتطهير نفسه من الذنوب وتخليصها منها، والله تعالى منه قريب يستجيب دعوته إذا دعاه، ويغفر له إذا استغفره بقلب سليم لم يركس، ولم يستغلق باب التوبة، وعلى القراءة بالياء تكون الآية الكريمة في شأن العصاة الذين تابوا، والذين لم يتوبوا، وترجى توبتهم، فهي دعوة لمن لم يتب ألا ييئس من روح الله، ويعود إلى الله ورسوله والمؤمنين، إن الإسلام يستجر الناس إلى الخير فقد جاء داعيا إليه، ولا يستجرهم إلى العصيان حيث يكون العقاب.
و (أَلَمْ) - في قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا) فيه (الهمزة) للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، و (لَمْ) للنفي، ونفي النفي إثبات، فيكون المعنى تأكيد علمهم بأن الله يقبل التوبة عن عباده، ويأخذ الصدقات التي يريدون بها تكفير سيئاتهم، والله تعالى هو المتصف بأنه التواب الرحيم، الذي يكثر قبوله للتوبة رحمة بهم؛ لأنه الرحيم الغفور الودود.
________
(1) قراءة (ألم تعلموا) بالتاء خطابا: قراءة جبلة عن المفضل عن عاصم، وقرأ الباقون بالياء. غاية الاختصار (960).(7/3436)
والتقرير هنا لتطمئن نفس التائب، فهو تقرير لقبول التوبة، واطمئنان العاصي إلى أن التوبة جتت ذنبه، والتعدية بـ (عن) في قوله تعالى: (يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) لتضمن قبول التوبة معنى التجاوز عن المعصية التي عصاها المحبود، فالمعنى على ذلك: يقبل التوبة متجاوزًا عن سيئات عباده، شأن القادر العليم الحكيم الذي هو فوق عباده، وفوق الوجود كله.
وفى قوله تعالى: (وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) مع أن الذي ينتفع بها العباد، ويأخذها النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوزعها عليهم - تشريف لمن يعطيها؛ لأن الذي يأخذها رب العباد، وكأنما العبد يعطيه هو جل جلاله، وذلك مثل قوله تعالى: (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً. . .)، فهذا النص السامي فيه حث على الإكثار من الصدقات.
والخلاصة في ذكر أن الله يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات أن ذلك تهييج للحث على المسارعة بالتوبة، والمسارعة إلى الصدقات، فكلتاهما خير يتلقاه الله تعالى بالقبول، ووصف الله تعالى صفة مؤكدة بأنه التواب الذي يكثر قبول التوبة؛ لأنه الرحيم.
ولذا قال تعالى بعد ذلك مترقبا أن يعملوا الخير ويتوبوا:(7/3437)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
أمر الله تعالى نبيه بأن يخاطب المؤمنين الذين أخطأوا والذين لم يخطئوا بأن العبرة بالعمل الحاضر، فإن كانوا عصاة فليتوبوا، وإن كانوا من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم فليستمروا على المنهاج الذي ارتضاه لهم ربهم، أمر نبيه بأن يقول لهم: (اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).(7/3437)
إذا كان الله تعالى يقبل توبتكم، وباب التوبة مفتوح لَا يغلقه الغفور الرحيم، فاعملوا أيها الناس، اعملوا لما يرضي الله تعالى ولا يمنعكم ذنب أذنبتموه، أو خطأ وقعتم فيه من أن تعملوا، والخطاب عام للمؤمنين وغيرهم وليس للتوابين وحدهم، ولا للمتخلفين وحدهم، ولكنه موجه للجميع، ليعمل المذنب الخير ويستر غيره.
وقوله تعالى: (فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنونَ) قال بعض المفسرين إن في ذلك تهديد أو إنذار، ولكنا نرى أن فيه تحريضا على العمل الصالح ورؤية الله تعالى يعقبها جزاؤه إن خيرًا فخير وإن شرا فشر، والرسول يرى العمل فإن كان خيرا أقره، وإن كان شرا نبَّه إليه ودعاهم للإقلاع عنه، ورؤية المؤمنين ليعلموا حال من يخالطونهم فإن كانوا أشرارا نصحوهم ثم اجتنبوهم، وإن كان عملهم خيرا عاونوهم وأقروهم، وأكد أنه والرسول ومن معه يرون الأعمال، وذلك لأن (السين) تفيد تأكيد تحقق الوعد الذي وعده الله تعالى، ولقد جاء في الحديث الصحيح برواية أبي سعيد الخدري: " ولو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان) (1) والناس يشهدون على الخير خيرا وعلى الشر شرا، والرسول يشهد على الناس، كما يشير قوله تعالى (. . . لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا. . .).
(وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِم الْغَيْبِ وَالشهَادَةِ).
السين لتأكيد وقوع ما بعدها في المستقبل، أي ستعودون إليه سبحانه، وتعرض عليه أعمالكم لَا تخفى منها خافية، فإن كانت خيرا، أو شرا تبتم منه وأحسنتم التوبة، فإن الجزاء يكون خيرا، وإلا فالعاقبة السوءى.
وهذه الجملة السامية فيها تبشير وإنذار، تبشير للمؤمنين، وإنذار للمشركين الذين عصوا أمر ربهم، واستمروا في عصيانهم وضلالهم،
________
(1) أخرجه أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند أبي سعيد الخدري (10846).(7/3438)
وفى الكلام السامي إظهار في موضع الإضمار؛ لأنه سبحانه وتعالى قال عز من قائل: (وَسَتُرَدونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) ولم يقل - ولكلامه المثل الأعلى - (وستردون إليه) وذلك للإشارة إلى أن الأمر سيرجع إلى من لَا تخفى عليه خافية في السماء والأرض، والغيب ما غاب عن الحس، أو ما أخفته الصدور، وما أسروه في نفوسهم، فهو يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، والشهادة هي الأمر المعلن الذي تشاهده الجوارح مبصرة أو سامعة، أو باطنة، يعلم سبحانه كل شيء ما يسر وما يعلن، وما يظهر وما يختفى، سبحانه علام الغيوب.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى الجزاء الواقع لَا محالة فقال تعالت كلماته:
(فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كنتُمْ تَعْمَلُونَ) (الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كنتم ستردون إليه سبحانه فإنه ينبئكم أي يخبركم إخبار فعل وجزاء بما كنتم تعملون، فترون أعمالكم عيانا، تنطق بها جوارحكم، وكتابا منشورا قد سجل كل ما عملتم، لَا يدع صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، فتجزى كل نفس بما كسبت. وإن هذا فيه تبشير للمؤمن، وإنذار للمشرك والمنافق، وأعمالهم كلها في كتاب.
وقد فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة لمن تخلف، وعصا، بعد ذلك ذكر أناس ممن تخلفوا لم يكتب عليهم الشقوة بل لَا يزال الباب مفتوحا للتوبة، فإما يتوبون، وإما يعذبهم الله على نفاقهم وتخلفهم، فقال تعالى:(7/3439)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
(وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
ذكرنا أن الذين دعوا إلى الخروج إلى الغزوة التي كانت فتحا للطريق إلى بلاد الشام وما وراءها من الأرض التي كان الروم يسيطرون عليها، وأشرنا إلى أنه كان فيهم السباقون إلى المكرُمات المهاجرون والأنصار، وكان فيهم المنافقون(7/3439)
المعوِّقون الذين يعتذرون المعاذير الكاذبة، ويحلفون الأيمان الفاجرة، ومنهم من كانوا مخلصين، واعترفوا بذنوبهم في التأخر، وقد ذكر في هذه الآية فريقا، قد أُرجئ أمرهم ترجى منهم توبة.
يقول تعالى: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ) أي ما قدر في علمه المكنون بالنسبة لهم، ومرجون أي مؤجلون لأمر الله تعالى فيهم، وما قرره سبحانه وتعالى بالنسبه لهم وهو مطوي في علمه المكنون لهم، وخفي عنكم وعنهم، ومرجون أصلها مرجئون، قلبت الهمزة ياء وحذفت لوجود واو الجمع، وبعض المفسرين يقول إنهم من المنافقين، ويحتمل توبتهم فيتوب الله تعالى عليهم، ويحتمل أن يبقوا مصرين على نفاقهم ليعذبهم سبحانه، وبعض المفسرين ذكر أنهم من الفريق الذين اعترفوا بذنوبهم، وبعضهم ربطوا أنفسهم في سواري المسجد حتى بين سبحانه وتعالى قبول توبتهم ففك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وثاقهم، وآخرون لم يفعلوا ذلك، وهؤلاء الثلاثة المخلفون الذين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وسنذكرهم من بعد عند تفسير الآية التي تصرح بأمرهم، وإني أميل إلى الأول، فإن الثلاثة خُصُّوا بآية تذكر حالهم.
وقوله تعالى: (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وِإمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِِ) (إفَا) هنا تدل على أن نهايتهم مترددة بين حالين، إما أن يستمروا على نفاقهم فيعذبهم الله تعالى، ومأواهم جهنم وبئس المصير، وإما أن يتوبوا فيتوب الله عليهم، ويفيض عليهم سابغ رحمته.
والتردد ليس بالنسبة لله تعالى فإنه يعلم مآلهم، إذ هو يعلم ما كان وما يكون، فيعلم ما سيئول إليه أمرهم من غير إخبارهم، إنما علمه إحاطة، وأعمالهم وإرادتهم.
وإنما التردد بالنسبة للمخاطبين والمتحدث عنهم، فإنهم لَا يعلمون إلا ما يقع بالفعل، ويعاينونه، ولا يعلمون ما سيقع، وقدره الله سبحانه، ولذا ختم سبحانه(7/3440)
وتعالى الآية بقوله عز من قائل: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بكل ما يقع في المستقبل مما غيب عليكم، حكيم يقدر الأمور في نطاق حكمته، وهو العزيز الحكيم.
* * *
مسجد الضرار
قال تعالى:
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
* * *
إن المنافقين لَا يكتفون بأن تكفر قلوبهم، وتسلم ألسنتهم، وأن يخذِّلوا المؤمنين، ويثبطوهم، ويلمزوا في الصدقات، ويستهزئوا بالمتطوعين بها من المؤمنين، وأن يكثروا من التهكم على الرسول ومن معه، لَا يكتفون بذلك، ولكن يتطاولون فيريدون أن ينشئوا بنيانا يكون مربطا لهم، يلجأون إليه، ويترقبون أخبار المؤمنين منه، ويُعلمون بها الرومان ومن لفَّ لفَّهم من المنافقين أمثالهم، وأنشأوا(7/3441)
ذلك البنيان على مشارف الصحراء ليتمكنوا من الاتصال بالرومإن من غير علم أحد، وسموا ذلك مسجدا، وسماه التاريخ الإسلامي مسجد الضرار؛ لأنه أنشئ للضرار، فأخذ اسمه من مقصده.
قال تعالى:(7/3442)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ) في قراءة أهل مكة يثبتون الواو عطفا على أخبار المنافقين، ومن غير واو في مصحف المدينة والشام (1)، ويكون عطف بيان للمنافقين أيضا، وقوله تعالى: (اتَّخَذُوا مَسْجِدًا)، أي أنشئوه، واتخذوا مسجدا، أي أن انتحلوه مسجدا باتخاذهم لَا أنه مسجد في حقيقته وذاته، بل باتخاذهم، وانتحالهم، وقد ذكر الله تعالى أن غرضهم من إنشائه الذي بعثهم هواهم عليه أمور أربعة - هي ما بني لأجله: أولها - أنه ضرار وهو مصدر ضارَّ، فهم يبنونه مضارة للمؤمنين، ومكايدة للذين بنوا مسجد قباء لله وللصلاة فيه، وقد صلى فيه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فبنوه قريبا منه ليضار أولئك الذين بنوا الأول، وليكايدوهم، وقوله تعالى: (وَكفْرًا) أي دفعهم إلى بنائه الكفر لا الإيمان، فهم لَا يصلون، ولكن ينافقون، وهم كانوا كفارًا، ومن أعظم البواعث هو تفريق المؤمنين، ولذا قال تعالى في الباعث: (وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ) وإن ذلك التفريق هو إبعاد فريق من المؤمنين عن الجماعة التي يؤمها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يغرونهم بالتأثير فيهم رجاء أن يقتطعوا من المؤمنين من يضمونهم إليهم، إذ بعدوا عن النور الكاشف لخداعهم، وإفسادهم، فيخلو لهم الجو ليخادعوهم، وينجح خدعهم، (وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) يقال رصد، وأرصد: راقب، ورصد تكون للخير والشر، وأرصد لَا تكون إلا للشر، وقد اتخذ هذا المسجد ليكون موضع ترقب للمنافقين يتصلون منه بأعداء الله تعالى،
________
(1) (الذين اتخذوا) بغير واو، قراءة: نافع وأبو جعفر، وعاصم وحمزة والكسائي وخلف، وهذا الحرف في مصاحف المدينة بلا واو، وقرأ الباقون بإثبات الواو، وكذلك هي في بقية المصاحف. المقنع 104، والسبعة 318، والنشر 2/ 281. غاية الاختصار (970).(7/3442)
وقالوا إن ذلك يشير إلى أبي عامر الراهب، وهو رجل خزرجي من الخزرج، كان قد تنصر في الجاهلية، وقرأ ما عند أهل الكتاب من بقايا كتبهم، وكانت له عبادة في الجاهلية، وكبير في الخزرج، فلما قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مهاجرا إلى المدينة وكوَّن فيها قوة الإسلام الأولى، وأظهر الله المؤمنين في غزوة بدر الكبرى شَرِق أبو عامر هذا بذلك النصر المبين الذي كان فاتحة السيطرة على بلاد العرب، فأرسل إلى قريش يمالئهم ويحرضهم على غزو المدينة والأخذ بثأرهم، فقدموا في السنة الثالثة، وكانت واقعة أحد، فخبَّ أبو عامر هذا فيها ووضع، وتقدم إلى المبارزة ليحرض الأنصار، وخاصة قومه الخزرج ودعاهم إلى نصرته، فردوه ردا منكرًا، فعاد مذءومًا مدحورًا.
ولقد ابتدأ بما يظهر منه ميله للإسلام، ولكنه لم يعم، فدعا عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بأن يموت بعيدا طريدا، فكان كذلك ومات طريدا وذلك أنه لما فرغ الناس من أمر أحد، وقد رأى أمر الرسول في علو، وكانت عاقبة أحد للمؤمنين، وإن كان قد أصابهم قرح في أثنائها، وصار الأمر من بعدها في ارتفاع للمؤمنين وظهور، ذهب إلى هرقل ملك الروم يحرضه على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأقام عنده وكتب إلى جماعة من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه قادم بجيش يقاتل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، وأمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليهم فيه رسله بكتبه، ويكون مرصدا له إذا قدم عليهم، فشرعوا في بناء مسجد قريب من مسجد قباء، وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تبوك، وجاءوا إليه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم، لتكون صلاته حجة لهم في تقريره، وليتموا خداعهم للمؤمنين، وليخفوا مقصدهم من إنشائه، وهو أن يكون إرصادًا لمن حارب الله ورسوله، فقال لهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: " إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله تعالى "، فلما قفل راجعا من تبوك إلى المدينة، ولم يبق بينه(7/3443)
وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه جبريل يخبر الرسول بمسجد الضرار، وما قصده بانوه، من الضرار والإمعان في الكفر، والإرصاد لمن حارب الله ورسوله والمؤمنين، فأرسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من هدمه قبل مقدمه المدينة، لقد أعدوا في المسجد سلاحا، وعتادا ليعاونوا الرومان المقبلين.
ومع وضوح أمرهم عادوا إلى كذبهم وتوثيق الكذب بالأيمان المغلظة أنهم ما أرادوا إلا الخصلة الحسنى، فقد كانوا عند بنائه مخفين مقصدهم الخبيث، ومكرهم السيئ، فقد قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عندا ابتدائهم فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه.
لقد قالوا ما قالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخفون مكرهم السيئ، ولكنهم نسوا أن الله تعالى كاشف أمرهم فيبين الله تعالى خفي أمرهم، وما أسرّوه، ولم يعلنوه.
جاء في الكشاف ما نصه: " لما قفل رسول الله تعالى من غزوة تبوك سألوه إتيان المسجد فنزلت هذه الآية عليه. فدعا مالك بن الدخشم ومعن بن عدي، وعامر بن السكن، ووحشيا قاتل حمزة، فقال لهم: " انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه، واحرقوه " (1)، ففعلوا، وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيها الجيف، والقمامة، ومات أبو عامر بقنسرين ".
لقد حلفوا موثقين يمينهم، وقال تعالى في حلفهم: (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى) وقد أكدوا حلفهم باللام الموطئة للقسم، وبنون التوكيد الثقيلة، والمقسم عليه (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْخسْنَى) و (إن) هنا نافية، أي ما أردنا إلا الخصلة الحسنى، أو الفعلة الحسنى، وحصروا إرادتهم في إرادة ما هو حسن في ذاته، وغايته، وقد
________
(1) تاريخ الطبري: ج 1، ص، 1239(7/3444)
كذبهم الله، فقال تعالى: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) يشهد أي يعلم علم من عاين وشاهد، إنهم لكاذبون، ولقد أكد كذبهم بـ (إن) المؤكدة لما بعدها، وبالجملة الاسمية، وبلام التوكيد، والله سبحانه وحده هو الصادق وهم الكاذبون.
ولقد نهى الله تعالى عن الصلاة فيه، فقال تعالى:(7/3445)
لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
(لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
النهي للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم ومن معه عن الصلاة فيه، وعبر عن الصلاة بالقيام، لأن أداء الصلاة على وجهها إقامة، ويطلق القيام على الصلاة، كقولهم يصوم النهار ويقوم الليل، أي يقوم الليل متهجدا مصليا، والنهي عن الصلاة فيه أكده الله تعالى بقوله: (أَبَدًا)، أي في كل الأحوال، النهي يفيد عموم الأحوال فلا يكون هناك مسوغ للصلاة فيه.
ولعل ذلك هو الذي جعل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يهدمه ثم يحرقه، ويجعل موضعه كناسة تلقى فيه القمامة، إن الصلاة فيه تحقق فيها بعض أغراضهم، وهي المضارة لغيره من المساجد، والتفريق بين المؤمنين ووازن سبحانه بينه وبين مسجد غيره، فقال تعالى:
(لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) اللام لام الابتداء وهي تفيد التأكيد، (أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى) أي وضعت أسسه على التقوى، أي أنه قام على التقوى، والوقاية من غضب الله واتقاء عذابه، وهذا مجاز لإثبات أنه قام على نية طيبة يتقي بها سوء العذاب، ويرضي الله تعالى، وإذا كانت الصلاة عبادة في كل دين، فيجب أن تؤدى في مكان قام على تقوى رب العالمين من أول يوم، أي من أول يوم كان بعد الهجرة، فإن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عندما هاجر، وانتهى إلى ما يصاقب المدينة فنزل بقباء وأنشأ المسجد فيها، وقد وصل يوم(7/3445)
الإثنين وبقي بقباء أربعة أيام الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس ثم انتقل إلى المدينة يوم الجمعة، فيكون منطبقا عليه أنه أسس على التقوى من أول يوم تمت فيه الهجرة، وأسس على التقوى لأن الذي بناه هو الرسول أولا، وبني ابتداء للعبادة ثانيا، وذلك فضل ثانٍ للمسجد يجعله أحق أن تقوم فيه الصلاة من غيره، ويلاحظ أنه ذكر فضل هذا المسجد ولم يذكر ما أحاط بالآخر من نيات مناقضة، إذ إن الآخر أُسِّسَ ضرارًا وكفرًا وتفريفا بين المسلمين، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله - لم يذكر ذلك اكتفاء بما ذكر أولا، فذكر السوء لَا يكرر، ولأن في ذكر حسنات هذا المسجد، تعريضا واضحا بسيئات الآخر.
والمسجد عند الأكثرين هو مسجد قباء، وادعى بعض الرواة أنه مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنا نختار ما اختاره الأكثر؛ لأن مسجد قباء أول مسجد بني بعد الهجرة، بل أول المساجد بإطلاق، ومسجد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بني بعده، ولأن المفاضلة كانت بين مسجد قباء ومسجد الضرار الذي حاولوا به الغض من مقامه، ومقام الذين بنوه، وإن الضرار الذي ذكر كان يقصد به مكايدة أهل قباء وذلك ما نراه الحق، ومسجد الرسول له فضله فوق كل هذا، فهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال: البيت الحرام، وبيت المقدس، ومسجد الرسول.
هذا فضل ذاتي لمسجد قباء، وله فضل إضافي آخر، وهو فضل من يصلون فيه، فإنهم ليسوا منافقين ولا مرائين، بل أخلصوا دينهم لله تعالى، ولذا قال فيهم: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) أي رجال يريدون أن تخلص قلوبهم وتطهر نفوسهم من الرياء والكفر والنفاق، ويغسلوها من أدران النفوس، أي يحبون أن يكونوا لله مخلصين له الدين لَا أن يكونوا لغيره، والله يحب هؤلاء المطهرين، الذين غسلوا أدران قلوبهم.
وقد فسر الزمخشري وغيره الطهارة الحسية والبدنية، فقد جاء في الكشاف ما نصه: وقيل: لما نزلت مشى رسول الله والمهاجرون حتى وقف على باب مسجد(7/3446)
قباء فإذا الأنصار جلوس، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أمؤمنون أنتم " فسكت القوم ثم أعادها، فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: " أترضون بالقضاء " قالوا: نعم، قال - صلى الله عليه وسلم -: " أتصبرون على البلاء " قالوا: نعم قال - صلى الله عليه وسلم -: " أتشكرون في الرخاء " قالوا: نعم، قال صلى الله تعالى عليه وسلم: " مؤمنون ورب الكعبة " فجلس، ثم قال: " يا معشر الأنصار فما الذي تصنعونه عند الوضوء وعند الغائط "، فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط بالأحجار الثلاثة، ثم نتبع الأحجار بالماء، فتلا قوله تعالى: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ).
ويفهم من هذا أن الطهارة فسرت بالطهارة الحسية، وأرى أن الطهارة الحسية مفهومة بالبداهة، وهي تجيء اقتضاء للطهارة المعنوية وكلتاهما مقصودة، وتمم الله تعالى الموازنة بين مسجد الهدى ومسجد الضرار، بقوله:(7/3447)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
(الفاء) في قوله تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ. . .) هي لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أنه يترتب على ذكر الحقيقة المقررة الثابتة، وهي أن المسجد الذي أسس على التقوى أحق أن يقوم فيه مصليا اتَّقَى، وأن فيه رجالا يحبون أن يتطهروا، وقد رتب على هذا إنكار أن يكون في مسجد الضرار خير أي خير، وقدمت (الهمزة) على (الفاء)؛ لأن الاستفهام له الصدارة دائما.
والاستفهام للإنكار والتعجب من المقابلة بين مسجد التقوى ومسجد الضرار، وأسس: وضع أساسه، والتقوى أساس مجاز، وتأسيسه على التقوى مجاز، والمعنى أفمن أقيم بنيانه على باعث من التقوى وخوف الله تعالى ورجاء رضوانه، ففيه تشبيه التقوى في نياتها، وطلب الرضا بالأساس المتين من البناء لقوة(7/3447)
التماسك، إن التقوى وطلب الرضوان أقوى وأثبت، وأبقى، إذ الحجر يتفتت، وتقوى الله وطلب رضوانه باقية بقاء الله العزيز الحكيم.
وقوله تعالى: (أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)، فيه مجازان يثيران في العقل أروع الفكر، لمن يتدبر قول الله تعالى، ويحاول أن يتعرف بعض أسرار الذكر الحكيم.
المجاز الأول شبه النيات الفاسدة لأهل النفاق، والبواعث التي بعثت إلى إنشاء مسجد الضراء بالجرف الهائر أي القائم على جرف من الرمل منهار لَا يثبت أمام الزوابع فضلا عن معاول الإنسان من حيث إن سرائر المنافقين سرعان ما تنكشف أمام أقل صدمة يصدمون بها.
المجاز الثاني هو تشبيه الانهيار الذي ينتهي إليه المنافق وبنيانه بأنه ينهار في نار جهنم، فلا ينهار في ماء، ولا ينهار في أرض لينة، إنما ينهار في نار جهنم، وذلك لأن الانهيار النفسي والفكري الذي ينهار فيه المنافق هو السبب في استحقاقه نار جهنم، فهو مجاز علاقته السببية.
وقال تعالى في عاقبة المنافقين الذين فسقوا عن أمر ربهم: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) صدر الجملة لجفظ الجلالة ترهيبا للفاسقين، ونفي أن يهديهم سبحانه؛ لأنهم سلكوا طريق الضلال وأوغلوا فيه، حتى إنهم لَا يردون، ولا يهتدون سواء السبيل، وسماهم سبحانه وتعالى قوما؛ لأنهم تضافروا على النفاق، ووصفهم سبحانه وتعالى بالظلم، لأنهم ظلموا الحقائق، وظلموا معاشريهم، وحقدوا عليهم لإيمانهم، ثم ظلموا أنفسهم أشد الظلم، لأنهم بنفاقهم ماتت نفوسهم، وذهبت إرادتهم، وأصبحوا لَا يؤمنون في وجودهم بشيء من الأشياء وأشركوا، وإن الشرك لظلم عظيم.
وبين سبحانه من بعد ذلك أنهم في ريب من أمر بنائهم، وأشد ما يصاب به المنافق أنه في ريب مستمر.(7/3448)
فقال تعالى:(7/3449)
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
(لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
البنيان هو الذي بنوه والذي بعث من الكفر، ومضارة أهل الإيمان، وتفريق بينهم، وإرصاد لمن حارب الله ورسوله، هذا البنيان من ريبهم الذي كانوا يترددون فيه دائما ويتنقلون في أجوائه المختلفة بعث عليه ريبهم في دينهم، وزادهم البناء ببواعثه ريبا، ولما هدمه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأحرقه وحقر مكانه، حتى جعله كناسة تلقى فيه الجيف والقمائم، زادهم ذلك حقدا وحسدا، وريبا ونفاقا؛ لأن هذا النفاق يولد من الحسد والحقد، فلما ازدادت أسبابه ازدادوا ريبة، ولذا قال تعالى: (لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ) لَا تزول إلا أن تقطع قلوبهم، أي لَا يزول إلا إذا زالت قلوبهم، وتقطعت أجزاء، فما دامت قلوبهم المركسة في النفاق الغائر فيها، والتي أربدت به، ولازمتها ملازمة الحسك للصوف، وهذا النص الكريم تصوير لاستقرار النفاق في القلب، وتزايده بتزايد المغريات له، والأعمال المنافقة تقوِّي النفاق وتدعمه، آنًا بعد آنٍ، والريبة هي الريب في كل شيء يفكرون فيه، وقد يقال: كيف توصف عقيدتهم وحالهم بالريب، وهم يعتقدون الكفر، ويظهرون غيره، ونقول: إن المنافق لَا يؤمن بشيء ولا يعتقد شيئا، وهو غير مؤمن بالله والرسول ويظهر الإيمان بهما، ولذا كان منافقا، ولكنه ليست له عقيدة تحل محل الإيمان بالله ورسوله، ولذا هو في حال ريبة مستمرة تمكث في قلبه وتستقر به، ولا تزول إلا أن تقطع قلوبهم إربا إربا.
وقرأ الحسن (إلى) بدل (إلا) (1) أي أن الريبة تستمر حتى يقبروا وتقطع قلوبهم، وإن هذا البناء الذي بنوه كان يحرك ضغنهم طول حياة الرسول، ومن بعده في عهد أبي بكر وعمر، وكان الناس يتذاكرونه، فيصخون أسماعهم صخا
________
(1) (إلى أن تقطع قلوبهم) هكذا بحرف الجر: قراءة يعقوب، وقرأ الباقون (إلا) على الاستثناء. غاية الاختصار (974).(7/3449)
شديدا بذكره، جاء في الكشاف: روي أن مجمع بن حارثة كان إمامهم في مسجد الضرار، فكلم بنو عمرو بن عوف أصحاب مسجد قباء عمر بن الخطاب في خلافته أن يأذن لمجمع أن يأتيهم في مسجدهم فقال: لَا ولا نعمة عينٍ؛ أليس إمام مسجد الضرار، فقال (أي مجمع): يا أمير المؤمنين لَا تعجل عليَّ، والله لقد صليت بهم والله يعلم أني لَا أعلم ما اختمروا فيه، ولو علمت ما صليت معهم فيه، كنت غلاما قارئا للقرآن، وكانوا شيوخا لَا يقرأون من القرآن شيئا، فعذره وصدقه وأمره بالصلاة.
لعن الله النفاق وأهله وأعمالهم، ولقد كثر المنافقون في عصرنا حتى نالتنا لعنة الله بهم، اللهم ارحمنا، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إنك غفور رحيم.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، أي يعلم كل شيء ما خفي وما ظهر، ما أسرته القلوب، وما جهرت به الألسنة، وحكيم يضع الأمور في مواضعها، ويقدر فيكمل تقديره، وقد أتى بالجملة السامية مؤكدة بالتصدير بلفظ الجلالة، وكونها جملة اسمية، وبالصيغ الدالة على كمال الوصف بالعلم والحكمة.
بعد أن بين أوصاف المنافقين، وأحوالهم وأعمالهم وأقوالهم ابتدأ بذكر المؤمنين.
* * *
المؤمن هو وماله ملك لله
قال تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ(7/3450)
وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
* * *
الشراء جالب للمبيع، ومقدم للثمن، فالمؤمنون وأموالهم هم المبيع، والجنة، وما فيها هي الثمن، وإن هذه الآية تصور المؤمنين يقدمون أنفسهم يبيعونها لله تعالى بيع السماح راضين، فهم أنفسهم وأموالهم يملكونها لله تعالى والثمن أنه يعدهم بالجنة يدخلونها، وما هو أعظم من الجنة، وهو رضوان الله تعالى، ولم يذكر هنا لأن الآية تتضمنه؛ لأنه سبحانه وتعالى قد رضي بالصفقة، وهي تقديم النفس والمال، ولا يمكن أن يكون إلا ومعه الرضا عن البيع، وهو أعلى ما يملكه الإنسان، فهو النفس والنفيس.
وإن تلك العبارة مصورة، ولكنها وقعت قبيل الهجرة، ففي العقبة الثانية كانت المبايعة على هذا الأساس في البيع والثمن بين الرسول، والأوس والخزرج، وقد قال عبد الله بن رواحة للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: أشترط لربي أن تعبدوا(7/3451)
الله ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا قال - صلى الله عليه وسلم - الجنة، فقالوا نربح البيع لَا نقيل، ولا نستقيل.
وهذه بلا ريب صور حسية للعقد، وإن كانت الآية مصورة، لتسليم المؤمنين أنفسهم لله تعالى، العلي الحكيم، الغني الحميد، ويروى أن أعرابيا سمع هذه الآية، فقال: من يقول هذا؟ قالوا: الله. قال: بيع مربح.
وقد بين الله تعالى ثمرة البيع أو آثاره التي يتحقق فيها ما يجب على البائع، فإن عليه أن يقدم المبيع، فقال سبحانه وتعالى:(7/3452)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
(يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، فالزمخشري ومن تبعه، على أن الفعل هنا بمعنى الأمر، أي عليكم أن تقاتلوا في سبيل الله، وقال إن ذلك كقوله تعالى: (. . . وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ. . .).
ونقول إن الإتيان بالصيغة الخبرية بمعنى الطلب كثير في القرآن، وهو من بلاغة القرآن، لأن المؤدي أنه كان الطلب فاستجاب بقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ. . .)، وقوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ. . .).
والوجوب هنا له قرائن شاهدة، لأن المقاتلة في سبيل الله تعالى من آثار العقد المبرم بين الله تعالى والمؤمنين إذا باعوا أنفسهم وأموالهم إليه، فهو المالك، وما يجيء بعد ذلك من تصرف المالك فيما يملك، والمقاتلة لَا تكون في سبيل الله تعالى إلا بشرطين - أولهما - إخلاص النية، فلا يقاتل لذات الغلب أو الفروسية، إنما يقاتل لتكون كلمة الله تعالى هي العليا، فمن قاتل لغير ذلك لَا يكون قتالا في سبيل الله تعالى.(7/3452)
والشرط الثاني - أن يدخل غير مستبق لنفسه، كما كان يفعل المجاهدون الأولون أمثال حمزة وعَلِي والزبير الذين يدخلون المعركة، فلا يدرون أيقعون على الموت، أم يقع الموت عليهم، ولذا قال تعالى:
(فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ) أي فإذا دخلوا في القتال رضوا بمرارته، وإرادة النصر، وأن تكون كلمة الله تعالى هي العليا، فيقتلون الكفار في سبيل الله، ويقتلون هم في هذا، ولا يحسبون أنهم يخسرون في الحالين، فإن قتلوهم فذلك سبيل النصر، وإن قتلوا سارعوا إلى قبض الثمن في الصفقة التي عقدوها مع ربهم.
وفى هذا النص الذي ذكره القرآن الكريم أمران نتكلم فيهما:
أولهما - أن هذا النص يشير إلى أن الفرار لَا يجوز، لأنه ضَنّ بتسليم المبيع وهو النفس، ولا يضن مؤمن بتقديم ما عاهد الله تعالى عليه، وقد قال تعالى في آية أخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ).
الثاني أن هنا قراءتين - أولاهما - فيقتلون بالبناء للفاعل، والثانية بالبناء للمفعول، والقراءة الثانية العكس (1)، وكل قراءة قرآن، وبمجموع القراءتين تكون الآية داعية إلى ألا يفرقوا بين أن يَقتلوا أو يُقتلوا، فإن الملكية التي أثبتوها لله تعالى تسوغ ذلك، وتوحيه كما نوهنا.
وقد قدموا أنفسهم لله تعالى، وأكد الله تعالى أن الثمن الذي قدره، وهو مربح، ويزيد أضعافا مضاعفة على ما أعطوا - آت لَا محالة، لأنه وعده الذي وعده، ولذا قال تعالى: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) أي وعد الله وعدا حقا لَا يتخلف؛ لأن الله تعالى لَا يخلف الميعاد، وإذا كنتم قد قدمتم ما عندكم، فإن الله تعالى
________
(1) (يقتَلون ويَقتُلون): قراءة حمزة والكسائي، وخلف. وقرأ الباقون (فيَقتُلون ويُقتَلون). غاية الاختصار - (976).(7/3453)
مقدم ما وعدكم، وأكد سبحانه وتعالى وعده وعهده، فقال: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) هذا استفهام إنكاري بمعنى نفي الوقوع، والمعنى لَا أحد أوفى بعهده من الله، وجاء النفي على صيغة الاستفهام للتثبيت، وتأكيد النفي وتوثيق العهد، وسماه الله تعالى عهدا، لبيان قوته، وكان فيه طرفان، والله أعلى وأجل، وإذا كان الوفاء محققا لوعد الله تعالى بالوفاء.
وقد أكد الله وعده بأمور ثلاثة:
أولها: أنه حق ثابت مؤكد لَا يمكن أن يتخلف أبدا، وكيف يتخلف، وهو من الله العزيز الحكيم.
ثانيها: أنه ذكر أن الجهاد ثابت ما دام هناك حق يغالب باطلا، وأن الله تعالى وعد المجاهدين بالنصر، وأن جهادكم مذكور في التوراة والإنجيل والقرآن كما قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157).
وهذا النص يدل على أن الجهاد واجب؛ لأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدل على أن الذين آمنوا عليهم أن يعزروه ويؤازروه وينصروه، ولأن الجهاد من اتباع النور الذي جاء به.
ولقد قال في سورة الفتح في وصف المجاهدين المؤمنين: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29).(7/3454)
ثالثها - قوله تعالى: (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ)، وذلك كقوله تعالى: (. . . وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)، وكقوله عز من قائل: (. . . وَمنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)، وأن الإخلاف مستنكر لَا يقدم عليه الكرام، فكيف يكون من الله، ولا شك أن ذلك العقد المقدس كان خيرا على من عقدوه مع الله تعالى خالق وبارئ النسم. ولذا قال تعالت كلماته، (فَاسْتَبْشِروا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ)، الاستبشار طلب البشرى، أو نيلها، وقد نالوا هذه البشرى من الله تعالى، و (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن وعد الله إذا كان مقررا في الرسالات الإلهية التي جاءت بها التوراة والإنجيل والقرآن، فإن على الذين يحق عليهم العهد أن يستبشروا ببيعهم أنفسهم لله تعالى، فإن الثمن عظيم، وقوله تعالى الذي بايعتم به أي بعتم به أنفسكم، فتبايعتم على أن تقدموها، وتأخذوا بدلها ثمنا غاليا هو أغلى ما في الوجود من ثمن مقدر، وتسليمه محقق، وهو ممن يملكه.
وختم الله تعالى الآية بقوله عز من قائل: (وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الإشارة إلى التبايع، أو الثمن، وهو الجنة وهو الفوز العظيم، وفيه قصر الفوز على العظمة، أي أنه فوز يعد فوزا عظيما خيره، اللهم اجعلنا من أهله.
وقد ذكر الله تعالى أوصافا للمؤمنين فقال تعالت قدرته:(7/3455)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
(التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
هذه أوصاف ثمانية للمؤمنين تبين سلامة نفوسهم، ورقابتهم عليها لدوام تطهيرها، فكلما صدأت أزالوا صدأها، يتجه آحادهم إلى جماعتهم يزيلون ريبها، ويطهرون مجتمعها، ويجعلون لها رأيا عاما فاضلا يلتزم حدود الله تعالى التي حدها.(7/3455)
ولنتكلم بكلمات موجزة مشيرة إلى تطهير أرواح المؤمنين: الصفة الأولى أنهم (التَّائِبُونَ)، وهم الذين يراقبون أنفسهم وتشتد فيهم قوة النفس اللوامة، فهم كلما أحسوا بأمر يدنس أمرها، أو يكون فيه شك، أو يكون غيره أولى، أو تركه أولى، تابوا فهم يراقبون أنفسهم، يتوبون دائما إلى ربهم منيبين إليه، وكان في يدهم مكيالا مملوءا ماء يزيل أي دنس يعتري نفوسهم بالتوبة كما يطهر أي غبار يقع على الثوب.
والوصف الثاني (الْعَابِدُونَ) بالقيام بحق الله تعالى، يعبدون الله كأنهم يرونه، فإن لم يكونوا يرونه فهم يشعرون بأنه يراهم، والوصفان " التائب والعابد "، مقترنان أولهما للتخلية والثاني للتحلية.
والوصف الثالث (السَّائِحُونَ) أكثر المفسرين على أن السائحين هم الصائمون فقد ورد في الأثر: " إن سياحة أمتي الصوم " (1)، ولكن نرى أنه الجهاد في سبيل الله، فقد روى أبو أمامة أن رجلا استأذن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في السياحة فقال صلى الله تعالى عليه وسلم: " إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " (2).
وقال بعض العلماء إن المراد السياحة في طلب العلم.
وإننا نقول: الجمع بين الآراء أن نقول السياحة تشمل كل سياحة في سبيل الله، فتشمل السياحة في الجهاد، والسياحة في نشر الإسلام، والسياحة في تعرف أحوال المسلمين، كما تشمل سبح الفكر سائحا في ملكوت الله تعالى.
________
(1) ذكره أبو السعود في تفيره: ج 4، ص 104.
(2) رواه أبو داود: الجهاد - في النهي عن السياحة (2486). والمقصود من السياحة المنهي عنها هنا: سكنى البرارى، وترك المباحات والمألوفات قهرا للنفس.(7/3456)
والوصفان الرابع والخامس (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) قالوا إن هذين الوصفين لإقامة الصلاة، وهي ذكر الجزاء وإرادة الفعل، فالصلاة قيام وقعود، وركوع وسجود، وقراءة ودعاء، واختص الركوع والسجود بالذكر؛ لأنهما الوصفان اللذان يتجلى فيهما معنى الصلاة، لأن إقامة الصلاة بإحسان الخضوع والخشوع لله تعالى. وإن إخلاص القلب بخضوعه الكامل، وتفويضه التام هو إقامة الصلاة، وكنى به عن معنى الإقامة فيكون من المعقول أن يعبر بركني الركوع والسجود عن الصلاة، وبهما يتحقق ما اختصت به الصلاة من أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، ويتحقق فيها ذكر الله تعالى.
بعد أن بين سبحانه الأوصاف التي تربي نفوسهم قلبيا واجتماعيا، ذكر صفتين تطهر مجتمعهم، وتجعل الفضيلة دائما هي السائدة.
وهاتان الصفتان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذا قال تعالى:
(الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ)، إن المجتمع الفاضل يقوم على الأمر بالمعروف، أي كل ما هو معروف لَا تنكره العقول السليمة، والنهي عن كل أمر تنكره العقول السليمة، فإن المجتمع الفاضل ظل لكل خلق سليم ينمو في ظله الوارف، ولذا كانت أمة محمد أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال تعالى: (كنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهم. . .).
والوصف الثامن قول تعالى: (وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) الحد ما يحده الشارع فاصلا بين الحلال والحرام، ومعنى حفظه حمايته وصونه، ومن ذلك قوله تعالى: (. . . تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالمُونَ).
ويطلق الحد في عرف الفقهاء على كل عقوبة ذكرها الله تعالى للجرائم التي تعد اعتداء على حق الله تعالى، أو كما يعبر في لغة العصر بحق المجتمع، فالحدود عقوبات على الرذائل وحماية للفضائل.(7/3457)
وتدخل الحدود بهذا المعنى الفقهي الخاص في ضمن حدود الله التي تفرق بين الحلال والحرام، وحفظها صونها ومراعاتها، وألا يعتدى عليها.
وختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله، بيانا لعاقبة الإيمان، وهي نيل الخير
والاطمئنان في الدنيا والجنات في الآخرة، ورضوان من الله أكبر، ولذا قال تعالى: (وَبَشِرِ الْمُؤْمِنِينَ) أي بشرهم بحسن الجزاء كما ذكرنا، والله سبحانه وتعالى عنده حسن المآب، وكانت (الواو) في قوله تعالى: (وَالْحَافِظُونَ) لبيان أن هذا نوع مغاير لما سبقه وإن هذا جزاء المؤمنين، والمشركون لهم عذاب الجحيم، ولا يستغفر لهم أحد، إنما القربى بالأعمال، لَا بالقرابة؛ ولذا قال تعالى:(7/3458)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
(. . . كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)، (. . . لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا. . .)، (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)، تلك قواعد قرآنية توجب ألا يغني عمل إنسان عن إنسان غيره، ولقد كان بعض المؤمنين لمحبة رابطة بين أحد المؤمنين والمشركين يطلب المؤمن المغفرة لمن يحبه من المشركين لرحم جامعة أو قرابة رابطة، أو لمودة موصولة، فنهى الله نبيه صلى اِلله تعالى عليه وسلم عن ذلك هو ومن معه من المؤمنين، فقال تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى) أي أصحاب قربى قريبة، فقربى مؤنث أقرب، أي ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم، وقد رد الله تعالى استغاثة نوح لابنه، وقال: (. . . إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحً. . .).
يقول (مَا كَانَ لِلنَّبِي. . .)، أي ما ساغ له، وما صح للنبي الذي يدعو إلى الحق أن يستغفر لمن يصد عنه، ويعانده، ويقاومه، ما دام قد ضل لَا يحل الاستغفار له إذا مات على ضلاله، ولقد روي أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال في حال شدة قومه عليه في واقعة أحد عندما كسرت ثنيته: " اللهم اغفر(7/3458)
لقومي فإنهم لَا يعلمون "، ألا يعد هذا استغفارًا؛ ويرد على ذلك بأن دعوة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم دعوة بالمغفرة التي تلازمها التوبة، والتوبة محتملة وقريبة، ما داموا أحياء، فإذا ماتوا فقد انقطعت التوبة وصاروا من أصحاب النار، وهذا موضع النهي، فالاستغفار للأحياء يجوز لرجاء التوبة، والاستغفار دعوة بها، والتعبير للمشركين في قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ).
والتعبير بالمشركين لبيان عدم شفاعة ربهم، وضلالهم في أن جعلوا الأحجار أندادا لله تعالى، وقوله تعالى: (وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى) أي مهما ربطتكم بهم الروابط كما ذكرنا، وذلك لتوثيق المنع، وتأكيده.
وقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) أي ما كان للنبي والمؤمنين أن يستغفروا للمشركين من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، وذلك بوفاتهم مشركين معاندين لرب العالمين، فإنه بعد الوفاة لَا رجاء في توبتهم، حتى يستغفر لهم، ولذلك قالوا: إن الأحياء من المشركين يجوز الاستغفار لهم، لأنه طلب المغفرة لهم، وطلب المغفرة يستدعي الدعاء لهم بالتوبة، والدعاء بالتوبة جائز، وأما الاستغفار لمن مات فقد تبين أنه في الجحيم، ولا توبة، لأنه انتقل من دار التكليف إلى دار الحساب والجزاء، وفي قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) ملاحظتان بيانيتان:
الأولى: في قوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ) فإنها تشير إلى ما فعلوا من أذى عاينوه، وعناد قاوموا به الحق، ثم ماتوا وهم كارهون للحق وأهله مقاومين كافرين بالله ورسوله.
الثانية: في التعبير بـ (أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)، أي الذين يلازمونها، والتعبير يشعر بأنهم مقصورون عليها ومقصورة عليهم أي لَا يتجاوزونها أبدا، وهي لازمة لهم ولأمثالهم.(7/3459)
قال تعالى:(7/3460)
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
(وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
نهى اللَّه تعالى نبيه والمؤمنين عن أن يستغفروا للمشركين، وقد استغفر إبراهيم لأبيه في فترة من الزمان؛ لأنه كان يرجو أن يتوب ويغفر له، ولكن تبين له بعد ذلك أنه عدو لله، وإن هذه الإشارة الموجزة تؤكد نهي النبي صلى اللهْ تعالى عليه وسلم وأصحابه عن أن يستغفروا للمشركين.
وقوله: (إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ) وتلك الموعدة ما صرح به في سورة
مريم محاجته مع أبيه، فقد قال تعالى في هذه المحاجة: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48).
هذه الموعدة التي وعدها لأبيه، لأنه كان يرجو أن يتوب، وأن يغفر له اللَّه تعالى، فالاستغفار كان بطلب المغفرة التي تجيء التوبة لازمة لها، والتوبة محتملة، وممكنة؛ لأنه كان حيا، فلما تبين له استمراره على غيه، وعداوته لله بصناعة الأوثان التي تعبد من دون الله تبرأ منه. وجاء في سورة الممتحنة، فقد قال تعالى:
(قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4).(7/3460)
وعد إبراهيم بالاستغفار لأبيه، ولما مات مشركا، وهو على غيه في صناعة الأصنام وعبادتها، تبرأ منه وصارت مثلا للمؤمن في تبرؤه من أبيه الذي كان إبراهيم له برا، ويراد له الهداية.
ثم بين الله تعالى الباعث النفسي الذي بعثه على الاستغفار لأبيه رجاء توبته، وبعدها المغفرة (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) الأواه كثير التأوه لرقة قلبه وشدة إحساسه، وفرط محبته لأولى قرباه، وحليم عاقل صبور مدرك لمن ينبغي أن يرحم، ومن يتبرأ منه، واللَّه غفور رحيم.
* * *
قال تعالى:
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
* * *(7/3461)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
(الواو) تدل على وصل هذه الآية بما قبلها، وما قبلها كان نهيا عن لاستغفار للمشركين، وجاءت قصة إبراهيم عليه السلام في استغفار إبراهيم لأبيه(7/3461)
تتمة للنهي عن الاستغفار، وقد كان من المؤمنين من دفعته الرأفة بآله، أو ذوي القربى أن استغفر لهم، فكانت الآية لبيان أنه (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)، لبيان أنه لَا مؤاخذة من غير تكليف، وخصوصا لمن اختار سبيل الهداية.
وقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) نفي مؤكد عن ذات اللَّه تعالى، أن يكون منها إضلال لمن اهتدى وعلى قول أكثر المفسرين، ولتكون الآية مرتبطة بما قبلها ارتباطا وثيقا يكون معنى (لِيضِلَّ) الحكم بالضلالة والمؤاخذة عليها، قبل أن يبين سبحانه ما يُتَّقى من الضلالة، فكما أنه سبحانه لَا يعذب إلا بعد رسول مبين بمقتضى قوله تعالى: (. . . وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وكذلك لَا يؤاخذ سبحانه بذنب ارتكب إلا بعد بيان أنه ذنب، والطريق لاتقائه، وهذا على أن الهداية التي هداهم اللَّه هي الدخول في الإسلام فلا يحاسبك على شرب الخمر إلا بعد النهي عن الشرب، ولا على الزنى إلا بعد النهي عنه، ولا على القذف إلا بعد النهي عنه، ووضع الحدود المانعة من الارتكاب، وما كان اللَّه تعالى ليؤاخذ على الاستغفار إلا بعد النهي عنه، وفي النهي بيان لما يتقون به المؤاخذة.
وقد خطر لي، وأنا أكتب، أن يكون المعنى، وما كان اللَّه تعالى ليأخذ قوما ساروا بمقتضى الفطرة الإنسانية، والميثاق الذي أخذه عليهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم، فهذه هي الهداية الفطرية التي فطر الناس عليها، فهذا معنى قوله تعالى: (إِذْ هَدَاهُمْ) أي وقت أن هداهم في بدء الخليقة وقوله تعالى: (حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَّا يَتَّقونَ) أي حتى يبين ما يؤيد الفطرة ويدعمها، ويبين لها ما تتقيه بأن تجعل بينها وبينه وقاية، فلا تقع فيه، والحاجز المانع هو أمر اللَّه تعالى ونهيه، وتكون متطابقة تماما مع قوله تعالى: (. . . وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).(7/3462)
وقد ختم اللَّه سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تأكيد لعلمه الذي يعم الوجود كله بالإحاطة والشمول، وبالتأكيد بـ (إن)، وبتصديره الجملة السامية بلفظ الجلالة، وبمقتضى علمه الذي عم الوجود كله، يقدر كل شيء، ويدبره على مقتضى علمه وحكمته.
وقد جاء في الآية التالية ما يؤكد عموم علمه؛ لأن كل الوجود ملكه، يتصرف فيه تصرف المالك فيما يملك، فقال تعالى:(7/3463)
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
(إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
هذه الآية أثبتت ملك اللَّه تعالى وسلطانه، ولقد أراد البيضاوي أن يربط بين هذه الآية والأمر بالبراءة من المشركين والاستغفار لهم إذا ماتوا على الضلالة، فقال رضي اللَّه تعالى عنه: (لما منعهم من الاستغفار للمشركين، ولو كانوا أولي قربى)، وتضمن ذلك وجوب التبرؤ منهم رأسًا، وبين لهم أن اللَّه مالك كل موجود ومتولي أمره، والغالب عليه ولا تتأنى لهم ولاية، ولا نصرة إلا منه ليتوجهوا إليه ويتبرءوا مما عداه، حتى لَا يبقى لهم مقصد فيما يأتون ويذرون سواه، اهـ.
ونرى مع ما رآه البيضاوي أن الآية الكريمة تؤكد علم اللَّه تعالى الذي ختمت به الآية السابقة، فهذه الآية السامية الأخيرة، تؤكد علم الله تعالى الشامل، وتبين سببه، وتبين سلطان اللَّه تعالى المطلق، الذي يدبر كل شيء فيه على مقتضى علمه وحكمته التي أقامت الوجود، ورتبه ونمقه، وأبدعه كله (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ. . .).
وإن ملكه لَا يكون على الإنسان فقط، بل هو على السماوات بأبراجها والأرض بطبقاتها لَا يخرج عن ملكه شيء في السماء، يحيي ويميت، وفي ذلك(7/3463)
إشارة إلى الوصف الذي يحياه الحي كافرا، أو مؤمنا، والحال التي سيموت عليها مؤمنا أو كافرا، وأن لَا استغفار لمن لم يرج توبته، ولا استغفار لمن مات، وأغلق أبواب عمله في الدنيا.
(وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) الخطاب للمؤمنين ومعناه، وما لكم أيها المؤمنون من ولي يواليكم وتحبونه إلا اللَّه تعالى، ولا نصير ينصركم سواه، فلا تؤثروا عليه قرابة، فلا ترأفوا بمن عصى اللَّه تعالى ورسوله الذي أرسله رحمة للعالمين، وإنه سبحانه أولى بخلقه يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
ولقد بين اللَّه سبحانه مآل الذين تخلفوا والذين اتبعوه في ساعة العسرة في غزوة تبوك فقال تعالى:(7/3464)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
(لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
كانت غزوة تبوك اختبارا شديدا للمؤمنين وقد تحقق فيها كل البلاء، وتعلم فيها المؤمنون معنى، وصدق عليهم قول الله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156).
ولذا ذكرها اللَّه سبحانه وتعالى ببعض التفصيل، وكرم الذين صبروا، وعاقب الذين خذلوا وثبطوا ثم تخلفوا، وعاتب المؤمنين الذين تخاذلوا في وقت الدعوة إليها، وذلك لأن الصبر في مثل هذه الحال مناط العزة والرفعة، ويجب أن يكونوا كحال هؤلاء الصابرين، ليعتزوا بالإسلام، ويعتز بهم المسلمون في الأرض كلها.
وقد نالهم البلاء كله، فنالهم الخوف، ولولا أن الرسول بينهم، ما استطاعوا الذهاب إلى الرومان، لقد كان من شأن حرب بني الأصفر أن يلقى في قلوبهم(7/3464)
الرعب، وكان المنافقون بينهم يبثون - ذلك الخوف، ويلقون في النفوس الذعر ونالهم الخوف والجوع ونقص الثمرات، إذ تركوها في المدينة وقد نضجت فلم يحصدوها، وكان الجوع والعطش وهم سائرون في شقة بعيدة، جاء في تفسير الحافظ ابن كثير في تصوير المشقة في هذه الغزوة التي أرهبت الرومان وكانت إرهاصا بفتح الشام، فروي عن قتادة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم خرج بالمؤمنين في لهبان الحر وأصابهم فيها جهد شديد، حتى لقد ذكر لنا أن الرجلين كانا يشقان التمرة بينهما. . . . وروي عن ابن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة فقال عمر بن الخطاب في وصف ما نالهم: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله تعالى عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع من شدة العطش، وحتى إن الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره، ليعصر فرثه، فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر: يا رسول اللَّه إن اللَّه عز وجل قد عودك في الدعاء خيرا فادع لنا فقال - صلى الله عليه وسلم -: " تحب ذلك؟ " قال: نعم، فرفع يديه، فلم يرجعها حتى سالت السماء وأهطلت، ثم سكنت فملئوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر (1)، هذا ما جاء في ابن كثير، وجاء في غيره أن الرواحل لم تكن موفورة، بل كان العشر يعتقبون على راحلة واحدة أو بعير وإن لم يكن راحلة.
هذه هي المشقة أو إشارة إليها وذكرها القرآن ليبين كما ذكرنا من قبل، كيف يكون الجهاد، وكيف يكون طلب العزة، ورفع الذلة، وكيف يكون الاطمئنان والقوة، وكيف يكون جسر التعب الذي لَا بد لنيل الحياة العزيزة الكريمة من المرور عليه.
يقول تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) ساعة الحسرة أي وقت الشدة في الجهد، والمال، والحر الشديد،
________
(1) البداية والنهاية: ج 6، ص 231.(7/3465)
وطريق الوصول إلى المكان المنشود، ومحاربة قوم غلاظ شداد هم الذين كانت لهم السطوة.
وقد أشارت الآيات السابقة إلى أن المهاجرين والأنصار كانوا السابقين، وإلى أن الذين تخلفوا، قال سبحانه فيهم ما كان عتبا قاسيا، فيه عقاب لنفوسهم المؤمنة، وبين فيما مضى المخلفين نفاقا وضعفًا في الإيمان.
يقول تعالى: لقد تاب اللَّه تعالى على النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم من أخطائه التي وقع فيها كإذنه للذين استأذنوه من المنافقين، وهو يعلم كذبهم، وكذلك اجتهاده في أمر الأسرى فأخذ فداء الأسرى قبل أن يثخن، ونحو ذلك مما يتعلق بالحروب، والمعاهدات التي تعهد فيها النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، ويبين اللَّه تعالى أنه أخطأ في اجتهاده، وما كان اجتهاده وتخطئة اللَّه تعالى إلا ليعلم الذين يجيئون من بعده أن الذين يجتهدون بعقولهم يخطئون، وهذا سيد البشر، إذا اجتهد فقد يخطئ، فإن الحاكم أيا كان عرضة للخطأ وليس له أن يستبد بفكره، ويقول مقالة فرعون ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
ولقد تعلق الجهلاء من النصارى، ولو كانوا في مناصب عالية عندهم، وادعوا أنهم من فلاسفة هذا الزمان، أن عيسى عليه السلام أفضل من محمد صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، لأنه لم ينسب إليه ذنب يغفر، ومحمد عليه الصلاة والسلام غفر له كما قال تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. . .)، وقال تعالى: (لَقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِي وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ) فنقول إن ذلك جهل فاحش، أو هوى فاسد، أو هما معا.
أولا - لأن التوبة مقام من مقامات العبودية، والخضوع للذات الألوهية، ولذا وصف الأتقياء بأنهم التوابون، لأن التوبة تنبعث من إحساس بعلو المقام الإلهي، وتفتيش النفس، والبعد عن الغرور، والشعور بالتقصير نحو الذات(7/3466)
العلية، مهما تكن الأعمال الصالحة، فالعابد يستصغر ما يفعل في جنب اللَّه مهما يكن كبيرا، فيتوب عما يحتمل من وجود تقصير أو فوات طاعة واجبة.
وثانيا - أن الأخطاء التي لَا يؤاخذ عليها بحسن فرط طاعته، واستجابته لما يطلبه العلي الأعلى بأنها ما كانت تجوز، وأنها تخالف الطاعة المطلقة التي هي حق اللَّه على عباده، وخصوصا الأنبياء الذين هم صفوة خلق اللَّه تعالى.
وثالثا - أن محمدا صلى اللَّه تعالى عليه وسلم كان بمقتضى دين الفطرة، ومعالجة أحوال الناس، والجهاد في دعوة الحق، معرضا لأن يخطئ، لَا أن يذنب، ولفرط طاعته، واستقامة نفسه يحس بأن خطأه كالذنب، والرضا به لَا يتفق مع مقامه من اللَّه تعالى الذي يخاطبه.
ورابعا - أن التوبة يجب أن تكون خلة ثابتة من خلال المؤمنين؛ لأنها رجوع إلى اللَّه تعالى، والمؤمن لَا يجوز أن تغره الحياة، فلا يرجع إلى اللَّه تعالى، فالرجوع إلى اللَّه بالتوبة يجب ألا يغفل المؤمن عنها؛ لأنها في ذاتها تجديد للإيمان، وتذكير بالطاعة المستمرة، وتوبة محمد سيد البشر دعوة للمؤمنين لأن يتوبوا كما قال تعالى: (. . . وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31).
وخامسا - أن النفوس كلما علت أحست بأن الهفوات كأنها ذنوب، فتلجأ تائبة بالإنابة إلى ربها، وهذا ما يقوله العلماء: حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وبهذا يتبين أن التوبة، والغفران والإحساس بالخطأ كأنه ذنب سمات الأبرار والعلو في مقام إدراك معنى الربوبية والعبودية، وليس نقصا في الذات النبوية ذات أفضل البشر.
وذكر بعد النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم المهاجرين؛ لأنهم الذين كونوا الخلية الأولى للإسلام، ولأنهم الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ابتغاء نشر(7/3467)
الدعوة الإسلامية، واستمساكا بدينهم، وكان الأنصار الذين آووا ونصروا، وإذا كان المهاجرون آزروا النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، وأقاموا معه الدعامة الأولى لبناء الإسلام، فالأنصار هم الذين عاونوا النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم في إقامة الدولة الإسلامية، وإذا كان الأولون هم قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأقرباءه، فالأنصار هم أحباؤه الذين أقسم لهم وإنه لصادق: " لو سلك الناس شعبا، وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار "، والذين دعا لهم فقال: " اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار " (1)، رحمهم اللَّه ولعن من أذاهم وأبى.
وقد وصف اللَّه المهاجرين والأنصار بوصف يبين حالهم في حال الشديدة التي كانت في تبوك ففال: (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ)، والساعة الجشء من الزمن كالغداة، والعشي، والظهيرة، وهذا وصف كاشف لحالهم ولخبيئه، فالمهاجرون الذين تركوا الدار والأهل والمال هم الذين اتبعوا النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم في ساعة الشدة، وكذلك الأنصار الذين آووا ونصروا، وكانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة هم كذلك الذين اتبعوه في ساعة العسرة، وقد ذكرنا بعض ما كان من عسرة شديدة، حتى أن الأعناق كادت تنقطع من شدة العطش لولا دعاء الرسول صلى اللَّه تعالى عليه وسلم.
وقد صور اللَّه تعالى شدة العسرة على بعض النفوس فقال تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَا كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ منْهمْ)، أي أن الشدة بلغت أقضاها حتى كادت تزيغ قلوب أي تنحرف وتضل قلوب فريق منهم، ولكنهم لم يزيغوا، ولم يضلوا، بل اصطبروا، ومرت الشديدة، وانتهوا إلى الاطمئنان.
وقال تعالى: (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ) الضمير في (عَلَيْهِمْ) إما أن يعود إلى المهاجرين والأنصار، ويكون تأكيدا لقبول توبة اللَّه لهم، وإما أن يعود على الذين كادت تزيغ قلوبهم، وهذا ما نميل إليه، ويكون المعنى إن العسرة كانت شديدة
________
(1) سبق تخريجه.(7/3468)
لجوجا، حتى كادت تزيغ قلوب فريق من هؤلاء المهاجرين والأنصار ولكن اللَّه سلم، وارتدت أفئدتهم فتاب اللَّه تعالى عليهم بسبب تلك الخواطر التي جاشت، وكادت تضلهم وإن ذلك من رأفة اللَّه تعالى بهم، ولذا ختم اللَّه سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رحِيمٌ) الضمير يعود على اللَّه جل جلاله، وهو مذكور قريبا من النص الكريم، وهو حاضر دائما في القلوب والعقول لمن تذكر، وتقديم الجار والمجرور في (بِهِمْ)، دليل على كريم العناية، يرأف بهم ويرحمهم، ويختصهم بذلك.
وكان في المخلفين ثلاثة تخلفوا من غير معذرة أبدوها، ومن غير سبب يبرر التخلف، وأحسوا بأنفسهم اللوامة تلومهم، وأمر النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم بمقاطعتهم تأنيبا وتهذيبا، وتربية لضمائرهم، فهؤلاء بعد التجربة الشديدة تاب اللَّه تعالى عليهم، ولذا قال تعالى:(7/3469)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
(وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
(الواو) عاطفة، والمعطوف عليه قوله تعالى على النبي والمهاجرين والأنصار، أي أن اللَّه تعالى تاب على النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم وعلى المهاجرين والأنصار، وعلى الثلاثة الذين خلفوا بعد أن طهروا قلوبهم، ومنهم من خرج من ماله كله، ولنتكلم في معاني ألفاظ النص القرآني السامي.
ووصف اللَّه الثلاثة بأنهم (خلِّفُوا) أي تركوا، ولم يكونوا مع الذين نفروا للجهاد في تبوك، وعبر اللَّه تعالى بالبناء للمجهول، ولم ينسب إليهم أنهم تخلفوا، بل لم يذكر مَنْ خَلَّفَهُم، وإنما الواقع أنهم ما أرادوا القعود ابتداء، من وصف حالهم أنهم تباطأوا، وأخذوا يؤجلون يوما بعد يوم، حتى فاتهم الركب، فهم خُلِّفوا، ولم يريدوا التخلف ابتداء ولكن آل أمرهم إلى التخلف، وما أن(7/3469)
بلغهم أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وصل إلى تبوك، حتى أخذ الندم يغزو قلوبهم حسرة على أنهم لم يسارعوا، ولما لقيهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مغضبا منهم، إذ كان يعرف فيهم النجدة والإيمان، وكلهم كانوا من الأنصار، وهم مالك بن كعب بن مالك ومرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي.
ولقد تخلف منافقون فلم يبال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بهم، وتخلف مؤمنون، واعتذروا فقبل النبي أعذارهم، ولكن هؤلاء الثلاثة أحسوا بأنهم لا أعذار لهم، وأبوا أن يكذبوا فالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى فيهم خيرا، ورأى فيهم قصورًا قد وقعوا فيه، والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم رأى أن يهذب نفوسهم بالاستنكار للفعل من جماعة المؤمنين فأمر المؤمنين ألا يخاطبوهم، ثم رأى أن يعتزلوا نساءهم، وألا يلقوهن، وأجاز لشيخ فيهم أن تلقاه امرأته، ولكن يعتزلها، ومكثوا على ذلك خمسين ليلة ثم نزل الوحي بقبول توبتهم، هذا ما يدل عليه قوله تعالى: (ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَت)؛ بتلك المقاطعة، أي أن الأرض باتساعها ورحبها صارت أضيق من كفة الحابل، لأنهم لَا يستطيعون الحركة لها، إذ فقدوا الأنس بالناس وخصوصا الذين طهرت نفوسهم، وزكت أرواحهم، ففي الكلام مجاز خلاصته أنهم شعروا بضيق الناس بهم لَا يقرئونهم سلامًا ولا يقولون لهم كلامًا أيا كان الكلام، لومًا أو عتابًا، أو تقريعًا، أو أي نوع من الكلام يسمعون، فعبر عن هذا بأن الأرض ضاقت بهم مع اتساعها ورحبها.
وانتقل تبرم الناس بهم إلى تبرمهم بأنفسهم، فصارت نفوسهم كأنها عبء ثقيل عليهم، (وَظَنُّوا أَن لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ) الظن هنا بمعنى العلم، أي علموا أنهم لَا يجدون ملجأ من أمر الله تعالى إلا أن يلجأوا إليه هو، فاستقامت نفوسهم راجعة إليه بمعاودة التوبة وتكرارها، شاعرين بأنه راحمهم (ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (ثم) هنا للتراخي، لأنه قد مضت عليهم خمسون ليلة يحسون بالقطيعة، وبعد الخمسين تاب عليهم بأن أمر النبي والناس أن يقربوا إليهم، وألا(7/3470)
يجافوهم، وأن يعيشوا بين المؤمنين، لأنهم منهم، وقوله تعالى: (لِيَتُوبُوا) أي ليجددوا توبتهم، ويداوموا عليها فيكونوا من التوابين الذين يرجعون إلى الله تعالى دائما، (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، أي أن الله تعالى يقبل توبة عباده كثيرا فقال ما يدل على أن قبول التوبة النصوح المخلصة من صفاته، وقد قال تعالى في وصفه سبحانه: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ. . .).
ومن الخير في هذا المقام أن نذكر ابتداء غزوة تبوك ونهايتها، ونعرف كيف كان المهاجرون والأنصار، يتزاحمون على الذهاب مع شدة الحر، وإثمار الغرس وإحصاد الزرع، ولكن الجهاد أبقى وأوفر.
جاء في الصحاح أنه روى أن ناسًا من المؤمنين تخلفوا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم منهم من بدا له كره مكانه، فلحق به، وعن الحسن البصري، بلغني أنه كان لأحدهم حائط كان خيرًا من مائة ألف درهم، فقال: يا حائط ما خَلَّفني إلا ظلك وانتظار ثمرك، اذهب فأنت في سبيل الله، ولم يكن لآخر إلا أهله، فقال: يا أهلاه ما أبطأني ولا خلفني إلا الضن بكم لَا جرم والله لأكابدن المفاوز حتى ألحق برسول الله، فركب ولحق به، ولم يكن لآخر لَا أهل ولا مال فقال: يا نفس ما خلفني إلا حب الحياة، والله لأكابدن الشدائد، حتى ألحق برسول الله فتأبط زاده ولحق به. . . وعن أبي ذر أن بعيره أبطأ به، فحمل متاعه على ظهره، واتبع أثر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ماشيا، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، لما رأى سواده، " كن أبا ذر "، فقال الناس: هو ذاك فقال - صلى الله عليه وسلم -: " رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث " (1) وحده، وعن أبي خيثمة، أنه بلغ بستانه وكانت له امرأة حسناء فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال: ظل ظليل، ورطب يانع وماء بارد، وامرأة حسناء، ورسول الله صلى الله تعالى عليه
________
(1) رواه الحاكم في المستدرك: ج 3، ص 52. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(7/3471)
وسلم في الضح، والريح!!. . ما هذا بخير، فقام فرحل ناقته وأخذ سيفه ورمحه ومر كالريح، فمد رسوله صلى اللَّه تعالى عليه وسلم طرفه إلى الطريق فإذا براكب يزهاه السراب فقال: " كن أبا خيثمة "، فكانه، ففرح به رسول الله صلى اللَّه تعالى عليه وسلم واستغفر له. الكشاف للزمخشري.
وكان الثلاثة من هذا الصنف المخلص، ولكن لم ينبعث في نفوسهم ما انبعث في نفوس هؤلاء، وقد يكون الخاطر يخطر، ويحول مجرى النفس من اتجاه سليم إلى غيره، وقد يكون غيره، واللَّه عليم بذات الصدور.
هذا ذكر للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.
ولنقص قصص الثلاثة كرواية أحدهم وأجرئهم في الحق مالك بن كعب.
لقد قدم النبي صلى اللَّه تعالى عليه السلام المدينة، وكان كلما قدم من سفر صلى ركعتين، ثم جاء المتخلفون وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فأبدوا معاذيرهم، فصدقها، ووكل باطنهم إلى اللَّه تعالى.
ولما جاء مالك بن كعب هذا ولنترك الكلمة له قال: " فلما سلمت عليه، فقال لي: ما خلفك ألم تكن قد اشتريت ظهرا؟ فقلت: يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر، لقد أعطيت جدلا ولكن واللَّه لقد علمت لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني، ليوشكن اللَّه أن يسخطك عليَّ، ولئن حدثتك بصدق تجد عليَّ فيه إني لأرجو عقبى ذلك من اللَّه عز وجل، واللَّه ما كان لي عذر واللَّه ما كنت أفرغ ولا أيسر مني يوم تخلفت عنك، قال: فقال رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضى اللَّه فيك، فقمت وقام إلى رجال من قومي، واتبعوني، فقالوا لي: واللَّه ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، فقد(7/3472)
كان كافيك من ذنبك استغفار رسول اللَّه صلى الله تعالى عليه وسلم لك. فقال: فواللَّه ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي.
قال: ثم قلت: هل لقي معي هذا أحد؟ قالوا: نعم رجلان قالا مثل ما قلت وقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت فمن هما، قالوا: مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا لي فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي قال: ونهى رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف، فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي كنت أعرف، فبلغنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباس فاستكانا وقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشد القوم وأجلدهم، فكنت أشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف بالأسواق، فلا يكلمني أحد، وآتي رسول الله، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأسلم وأقول في نفسي: أحرك شفتيه برد السلام عليَّ أم لَا؟، ثم أصلي قريبا منه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، فإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال على ذلك من هجر المسلمين مشيت حتى تسورت حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إليَّ، فسلمت عليه، فوالله ما رد عليَّ السلام فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك اللَّه، هل تعلم أني أحب اللَّه ورسوله؟ قال: فسكت، فعدت له فنشدته فسكت ثم قال: الله ورسوله أعلم، ففاضت عيناي من الدموع، وتوليت حتى تسورت الحائط فبينما أمشى بسوق المدينة إذا أنا بنبطى " أي فلاح "، من أنباط الشام ممن قدم بطعام يبيعه بالمدينة ويقول: من يدل على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون إليَّ، حتى جاء فدفع إليَّ كتابا من ملك غسان، وكنت كاتبا فإذا فيه:
(أما بعد فقد بلغني أن صاحبك قد جافاك، وإن اللَّه لم يجعلك بدار هوان، ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك).(7/3473)
فقلت حين قرأته: (إن هذا أيضا من البلاء، فَتَيممت به التنور، فسجرته).
حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم يأتيني يقول لي: يأمرك رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم أن تعتزل امرأتك، فقلت: أطلقها أم ماذا أفعل؟، فقال: اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك، قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي اللَّه في هذا الأمر ما يشاء!! قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول اللَّه، إن هلالا شيخ ضعيف ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ فقال: لَا، ولكن لَا يقربك، قالت: واللَّه ما به من حركة إلى شيء، وإنه واللَّه ما زال يبكي منذ ما كان من أمره ما كان إلى يومه هذا.
فقال بعض أهلي: لو استأذنت رسول اللَّه في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدمه، فقلت: واللَّه لَا أستاذن فيها رسول اللَّه، وما أدرى ما يقول فيها إذا استأذنته، وأنا رجل شاب، فلبثنا عشر ليالٍ، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا.
قال: ثم صليت صلاة الصبح صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينما أنا جالس على هذه الحال. . . سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: أبشر يا كعب بن مالك، فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء الفرج من اللَّه عز وجل بالتوبة علينا، فآذن رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم بتوبة اللَّه علينا حين صلى الفجر فذهب الناس يبشروننا. . . . وانطلقت أؤم رسول اللَّه، وتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بتوبة اللَّه، يقولون لتَهنِكَ توبة اللَّه عليكم، حتى دخلت المسجد فإذا رسول اللَّه جالس في المسجد والناس حوله فلما سلمت على رسول اللَّه صلى الله تعالى عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ". قلت: أمن عندك يا رسول اللَّه أم من عند اللَّه؟، قال: " لا بل من عند الله "، وكان رسول اللَّه إذا سر استنار وجهه.(7/3474)
وذكر من بعد أنه كان من توبته أن ينخلع عن كل ماله، فقال: " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " فأمسك سهمه الذي أخذه في غزوة خيبر، وانخلع عن باقي ماله (1).
وهنا نقف وقفة قصيرة نتحدث فيها بثلاثة أمور:
أولها - لماذا أهمل أمر الذين تخلفوا وقدموا معاذير جلُّها كاذب، وأقلها فيه صدق، نقول: ترك أولئك لأن الكاذب منهم لَا يرجى منه خير، ولو عوقب ذلك العقاب ما أجدى معه، وربما عاند فزاد ضلالا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لَا يقدم على عمل يزيد الضلال ولا ينقصه، وربما كان الترك أجدى، والله يهدي من يشاء.
أما هؤلاء الثلاثة فإنهم صدقوا، والصدق بر وهو يهدي إلى البر، وكان لابد من أن يرحض عن نفوسهم ما علق من شائبة التخلف، وذلك بالهجر الجميل، الذي أحسوا فيه بمغبة عملهم، وزاد نفوسهم صفاء.
الأمر الثاني: أنهم صبروا أعنف الصبر وأقواه، وهو الصبر على الحرمان من الأنس بالناس، والالتقاء نفسيا بمن يحبونهم، ويخالطونهم، فإن الإنسان اجتماعي مدني، تعيش نفسه في وسط نفوس متجاوبة.
الأمر الثالث - أن استنكار القبيح، أو ما يظن فيه قبح يغسل النفس منه، وإن المجتمعات الفاسدة هي التي لَا يستنكر فيها فعل القبيح، ولو تكاثر عدد الصالحين، فالاستنكار مهذب الإثم، والله سبحانه هو الحكيم العليم.
* * *
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: المغازي - حديث كعب بن مالك (4418)، ومسلم: التوبة - حديث توبة كعب بن مالك (2769).(7/3475)
الصدق والجهاد قوة الأمم
قال اللَّه تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
* * *
إن الصدق أخص ما امتاز به الثلاثة الذين خلفوا في الأرض، وكانوا صفوة اللَّه ورسوله، رحض خطأ التخلف عن نفوسهم، ولقد صبروا على الاختبار، وصقلت نفوسهم، حتى قال النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم لأحدهم: " إنك منذ الليلة عدت كما ولدتك أمك "، لذلك كان يناسب هؤلاء أن يكون الأمر العام بالصدق ليرتفع كل مؤمن إلى هذه المرتبة التي تولى اللَّه تعالى تربيتهم، ومن يتولى اللَّه تربيته يحسن هذه التربية، ويكون ربانيا.
يقول تعالى:(7/3476)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) اقترن الأمر بالتقوى مع الأمر بالصدق والدخول في زمرة الصادقين؛ لأن التقوى هي(7/3476)
امتلاء النفس بخشية اللَّه تعالى، والوقاية مما يغضبه ولا يرضيه، فهي وقاية من العذاب، ومن هذه الوقاية طلب الرضا، فلا يقي من غضب اللَّه إلا طلب رضاه بطاعته ومحبته وعبادته، وإن الصدق طريقها، وهما معا، " ولقد سئل النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم: أيكون المؤمن جبانا؟ فقال: يكون، فقيل: أيكون بخيلا؟ قال) يكون، فقيل: أيكون كذابا؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: لَا يكون المؤمن كذابا " (1) وقال في الأمر بالصدق (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) أي كونوا في صحبتهم رحمهم اللَّه، مثل الذين صدقوا في تخلفهم وغيرهم من الصادقين، و (أل) للاستغراق تشمل كل صادق من المؤمنين، فلا يقصد جمع معين؛ لأنه لَا عهد ليعين ذلك الجمع، فاللفظ يكون على عمومه، وتكون للاستغراق وعموم أصل الصدق الذين يصير الصدق وصفا ملازما لهم، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللَّه صديقا "، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: " إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللَّه كذابا " (2).
والصدق ليس مقصورا في معناه على الصدق في الخبر، بل إن ذلك أظهره وأقربه، وإن كان يشمل صدق الإيمان بأن يؤمن باللَّه ورسوله، وأن يقوم بما يوجبه الإيمان، ويصدق في الجهاد، ويصدق أمام الناس في إيمانه، فلا يخالف لسانه قلبه ولا عمله قوله، ومن الصدق صدق النفس فلا يكذب على نفسه، فيحسن عمله وهو قبيح، ولا يخدع نفسه، ومن الصدق الإخلاص في كل ما يظهر على لسانه، فلا يخادع ولا ينافق، وفي الجملة الصدق ملاك الأخلاق الفاضلة، والإيمان الصحيح، والعمل الصالح.
________
(1) موطأ مالك: الجامع (1862) عن صفوان بن سليم رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه.(7/3477)
وقوله تعالى: (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) يفيد أن اللَّه تعالى يحث المؤمن على أن يعيش في بيئة يكون فيها الصدق سائدا، والبر مسيطرا، فإن فساد البيئة الفكرية والخلقية يؤدي إلى عموم الفساد، والبيئة الصالحة، تهذب آحادها، وتجعل الشر يختفي والخير يظهر، وظهور الخير يدعو إليه، وظهور الشر يحرض عليه.
وقد حرض الله تعالى أهل المدينة بعد الأمر بالصدق على الجهاد؛ لأن الجهاد من صدق الإيمان كما أشرنا عند الكلام في معنى الصدق، فقال تعالى:(7/3478)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
(مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ... (120)
قوله تعالى: (مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم. . .) نفي للشأن والكون، أي ما كان من شأن أهل المدينة من مهاجرين وأنصار آووا ونصروا وهم أهل النجدة والإيواء، ومن حولهم من الأعراب الذين أشربوا الإيمان أن يتخلفوا عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ويؤثروا الدعة والراحة، ويتركوه وحده يكابد المشاق، ويتحمل المتاعب في سبيل عزهم ورفع دينهم، ما ساغ لهم ذلك، وهم يرغبون في الدعة وطيب العيش الرغيد، وقوله تعالى: (عَن نَّفسِهِ)، أي متوقفين عن نفسه في أن يرغبوا له ما رغب فيه لهم.
لقد قال الزمخشري في ذلك: أمروا بأن يصحبوه على البأساء والضراء، وأن يكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط، لَا أن يقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه علما بأنه أعز نفس عند اللَّه وأكرمها عليه، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها، للخوض في شدة وهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت، ولا يكترث لها أصحابها، ولا يقيموا لها وزنا، وتكون أخف شيء عليهم وأهونه فضلا عن أن يربأوا بأنفسهم عن متابعتها، ومصاحبتها ويضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه، وهذا نهي بليغ، مع تقبيح لأمرهم، وتوبيخ لهم عليه، وتهييج لمتابعته بأنفس رحيمة.(7/3478)
والمعنى على هذا في قوله: (وَلا يَرْغَبُوا بِأنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ) أي لَا يصونوا أنفسهم عما يرغبون فيه من عيش رغيد هين، وظل ظليل فلم يصونوا أنفسهم عن رغباتها، كما لم يُصن نفسه عن رغباتها.
ولنا أن نقول: إن عن نفسه معناها متجاوزين نفسه، ولذا كان التعدي بـ (على)، و (لا) في قوله تعالى: (وَلا يَرْغَبُوا) لتأكيد النفي بـ (ما)، أي ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول اللَّه، ولا كان لهم أن يرغبوا بأنفسهم، فتكرار النفي تأكيد له.
وإن هذا خبر في موضع الطلب بأبلغ معاني الطلب، فيكون المعنى لا تتخلفوا عن رسول الله إذ يخرج للجهاد، ولا ترغبوا في الدعة، والإقامة في بحبوحة العيش، وتتركوا الرسول يخرج للجهاد وحده وإن ذلك له جزاؤه، ولذا قال سبحانه بعد ذلك مبينا الجزاءة (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ). الإشارة في قوله تعالى: (ذَلِكَ) إلى النهي المفهوم من قوله تعالى: (مَا كانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم).
إن هذا النفير من أهل المدينة المأمور به، والمنهي عن التخلف عنه، وألا يرغبوا بأنفسهم، كما فعل أبو ذر إذ خرج يتبع الرسول حتى حسب أن بعيره يبطئه عن الوصول إلى الرسول، فسار على قدميه يحمل متاعه وآلة الحرب، وكما فعل أبو خيثمة وكانت له زوجة حسناء، قد تزوجها حديثا، فرطبت له الأرض بالماء وفرشت له الحصير، وقدمت له الرطب والماء فتذكر الشدة التي فيها الرسول وصحبه من المهاجرين والأنصار، فترك ذلك كله، وركب بعيره حتى لحق برسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، كما ذكر ذلك بسبب أنهم قد أدركوا وفهموا وعد(7/3479)
اللَّه تعالى واللَّه لَا يخلف الميعاد؛ وبسبب أنهم (لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ) عطش شديد كذلك الذي اعتراهم في تبوك حتى كادت أعناقهم تتقطع من العطش، لولا أن النبي استسقى السماء لهم فأغدقت. (وَلا مَخْمَصَةٌ) أي جوع شديد، كالذي أصابهم في هذه الغزوة، التي فتحت الباب للشام، إذ أصابهم جوع شديد حتى إنهم كانوا يتقاسمون التمرة، (وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفارَ) أي لَا ينزلون أرضا تدخل في حماية الكفار، يكون وطؤها فيه غيظ لهم، إذا انتهكوا حمى أرضهم، ولم يستطيعوا حمايتها من جيش الحق والإيمان، وذلك فيه عنت شديد لهم وإهدار لحرمات أرضهم، وفي ذلك إذلال لهم بعد أن كانوا لَا يمس أحدهم حماهم الذي يحمون (وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا)، بأن يحاربوا فيهزموهم.
أي أن ظمأهم الشديد، وجوعهم الذي صبروا عليه، ووطأهم أرض العدو الكافر التي كانت لَا ترام، ونيلهم من بني الأصفر الذين يتحكمون، ولا مسيطر عليهم أو محاسب، ما من أمر يقوم به أهل الإيمان إلا كتب اللَّه تعالى لهم به عملا صالحا عند الله، ينال أهل الإيمان به رضاه أولا - واعتزازهم بالحق ثانيا، وجنة النعيم ثالثا، ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)، أي أن ذلك الجزاء العظيم أجر للعمل الصالح، وسماه سبحانه أجرا تكرما منه وتفضلا، وإلا فلا أجر إلا بفضله لأنه المنعم، والعبد ملك لسيده، وسمي الذين يقومون بحق الجهاد محسنين؛ لأنهم قاموا بما وجب عليهم، وأحسنوا الطاعة، وأبلوا فاحسنوا البلاء.
هذا نوع الجهاد بأنفسهم، إذ تركوا الراحة ومتعتها، وأثروا البلاء فأخذهم الظمأ، والجوع، ووطئوا أرض العدو ونالوا منه نيلا.
وهناك نوع الجهاد بالمال، وقطع الفيافي والقفار، وما يكون فيه من جهد بالمال، والنفس، وقد قال سبحانه فيه:
(وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)(7/3480)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
قد كان الجزاء على العمل الصالح، على المشقات التي تحملوها، والجهود التي بذلوها من ظمأ قطَّع رقابهم وأمعاءهم، ومن جوع حرموا فيه من الزاد، ووطء أرض العدو وما فيه من إذلال كما قال علي: ما وطئت أرض قوم إلا ذلوا، ومن نيل نالوه منهم، أما في هذه الآية فالجزاء على النفقة: صغيرة كانت ولو بسوط أو علاقته، أو كبيرة كتجهيز عثمان جيش العسرة رضي الله عنه، وإن السير في الفيافي والقفار، ولو لم ينالوا ويطئوا أرض العدو هو ذاته له أجر وجزاء. قوله تعالى: (وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا)، الوادي: المنفرج بين الجبلين، ويراد به هنا الأرض، لأن قطع الوادي لَا يكون إلا بقطع الجبلين اللذين تعرج بينهما، وقد قال الزمخشري: واديا أي أرضا في ذهابهم ومجيئهم، والوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل، وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سالَ، ومنه الودي، وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض يقولون لَا تصل في وادي غيرك.
لا ينفقون ولا يقطعون أرضا إلا كتب لهم بذلك عمل صالح يستحقون عليه جزاء ما عملوا، ولذا قال تعالى: (أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي كتب لهم ذلك ليعطيهم سبحانه وتعالى جزاء (أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ)، وعبر عن الجزاء بالعمل ذاقه وقال: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) لبيان المساواة التامة بين أحسن العمل والجزاء، وللإشارة إلى أن الجزاء ذاته مشتق من العمل فهو ثمرته، ولله تعالى الفضل والمنة.
وقبل أن نترك الكلام في معاني هاتين الآيتين اللتين فيهما تحريض على الجهاد ننبه إلى أمرين:
أولهما - أن قوله تعالى (وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نيْلًا) أن النيل في أصل معناه بمعنى الأذى الذي ينزل بالعدو، ويقال نال منه بمعنى: نكبه بما يسوء ويلحق به ضررًا. .(7/3481)
الثاني - أن قطع الوادي والوصول إلى العدو، هو ذاته خير، لأنه قصد بقطع الوادي فعل أمر مثوب عليه، ومن يسعى في خير كان سعيه مشكورا، ولو لم يتم الفعل، ولقد قال تعالى: (. . . وَمن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. . .).
* * *
الفقه والجهاد
قال اللَّه تعالى:
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
* * *
التفقه في الدين فرض كفاية، وكذلك الجهاد في سبيل اللَّه، وقد قرر الإمام الشافعي أن فرض الكفاية، واجب على الكافة، وإذا ترك أثم الجميع الكافة والخاصة، ووجوبه على الخاصة يكون فرض عين، ولنبين ذلك بمثالين: أولهما - أن الفقه في الدين، وتعرف أسراره فرض كفاية، وعلى الأمة أن تسهل قيام هذه الطائفة التي تكون لعلم الإسلام، بتحفيظ القرآن، ورواية الحديث،(7/3482)
وجمعه، ويكون حينئذ تعليم الدين فرض عين على هذه الطائفة التي كان ذلك التعليم أول أعمالها، وإذا لم تقم هذه الطائفة أثمت الأمة كلها الكافة، لأنهم لم يقيموها.
والمثل الثاني - الجهاد في سبيل اللَّه تعالى فإنه على الكافة أن تهيئ الأسباب للقادرين، وتمدهم بالعدة، والنفقة، والجهاد عليهم فرض عين فإن تخلفت الأمة عن الجهاد أثمت كلها.
وهذه الآية(7/3483)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنونَ) وما بعدها تحدنا في هذين الفرضين حدا جامعا.
يقول تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كلِّ فِرْقَة مِنْهُمْ طَائِفَةٌ).
(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ) هذا نفي مؤكد لنفورهم للحرب كافة نفيا مؤكدا وقد أكدته لام الجحود، والمعنى ما ساغ ولا صح أن ينفر المؤمنون كافة للجهاد، بحيث تخلو المدينة ممن يقوم بحق اللَّه تعالى، وحق العلم بالدين والفقه في القرآن. فاللام لتأكيد النفي - إذ مقتضى السياق ما كان المؤمنون أن ينفروا فجاءت (اللام) لتأكيد النفي.
وقد بين سبحانه من الذين لَا ينفرون، فقال: (فَلَوْلا نَفَرَ مِن كلِّ فِرْقَةٍ منْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)، فهنا نفوران، واحد منفي، وواحد مثبت، فأما المنفي، فهو النفور للجهاد، وهو منفي عن الكافة أي ليس للكافة أن ينفروا جميعا للجهاد، والنفير الثاني المثبت المحرض عليه، أن ينفر من كل فرقة طائفة - أي ناس متخصصون في التفقه في الدين، وهؤلاء ينفرون لهذا العلم من كل فرقة مقدار من الناس. واحد أو اثنان أو أكثر عددا، وإنهم ينفرون من فِرَقِهم إلى الرسول، وينفرون بعد تفقههم إلى قبائلهم.(7/3483)
وكان المؤمنون ينقسمون إلى قسمين أحدهما ينفر للجهاد، والآخر يبقى في المدينة، متعلما فقه الدين، وينفر إلى الرسول ليعلمه، ويرجع إلى قومه لينذرهم.
وهنا ملاحظات بيانية.
أولاها - أن مسمى الاتجاه إلى الفقه يدرسه نفير؛ لأنه أولا ينفر له ناس لدراسة القرآن وفقه الإسلام إلى النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، ثم يرجع إلى أهله، ولأن العكوف على علم الإسلام لَا يقل فضلا عن الجهاد في سبيل اللَّه تعالى، وأنه جهاد مثله؛ لأنه من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالإيجاب، والجهاد أمر بالمعروف ونهي عن المنكر برفع الاعتداء وتمهيد السبيل.
الثانية - أن قوله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ. . .) (الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إذا كان المؤمنون لَا ينفرون للحرب كافة، فإن طائفة تخصص للفقه لينذروا قومهم إذا رجعوا، وقوله تعالى: (فَلَوْلَا)، لولا هنا للتحريض على الفقة في الدين.
الثالثة - أن الفقه هو العلم، وهو العلم النافذ الذي يخترق العوائق لإدراك لب الدين، ويقول الغزالي في هذا المقام: كان الفقه في العصر الأول اسما لعلم الآخرة، ومعرفة دقائق آفات النفوس ومفسدة الأعمال، والإحاطة بحقارة الدنيا، وشدة التطلع إلى نعيم الآخرة، واستيلاء الخوف على القلب.
الرابعة - أن اللَّه تعالى قال: (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)، ولم يقل لعلهم يتفقهون، وذلك لأن الخوف من عذاب اللَّه تعالى وتقليل الخوف من العذاب هو ثمرة الفقه في الدين.
الخامسة - أن اللَّه سبحانه وتعالى يقول: (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) أي رجاء أن يحذروا أو يخافوا، والرجاء منهم لَا من اللَّه سبحانه وتعالى؛ لأن اللَّه تعالى عنده غيب السماوات والأرض، وهو على كل شيء قدير.(7/3484)
وقد تكلم الرواة في هذه الآية على الآثار الواردة عن النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم في مقام العلم بجوار الجهاد، وأن الآثار التي وردت في فضل العلم لا تقل عن الآثار التي وردت في فضل الجهاد، وكلاهما ينبعان من نبعة واحدة وهي إعلاء كلمة اللَّه، فالأول لبيان الحق، والثاني للذود عن حياضها، وتغيير السبل أمامها، حتى لَا يعوقها طاغ من طغاة الأرض، وقد روى أنس بن مالك أن رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم قال " طلب العلم فريضة على كل مسلم " (1).
ولقد روى الترمذي من حديث أبي الدرداء، أن رسول اللَّه صلى اللَّه تعالى عليه وسلم قال: " من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهَل اللَّه له به طريقا إلى الجنة " (2)، وروي أن رسول اللَّه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " (3).
وإن هذا الوصف هو للعالم الذي فقه في الدين، واعتز به، ولم ينافق فيه، ولم يتخذه سبيلا للعلو والفساد واجتياز المجالس عند الأمراء ونيل الدنيا به، وبالنفاق والكذب، والافتراء على اللَّه، ولقد قال الزمخشري في هذا الصنف من العلماء، ويظهر أنهم كثروا في عصره عندما انزلق العلماء إلى موائد السلاطين. فقد قال رضي اللَّه تعالى عنه فيما ينبغي للعلماء:
" وليجعلوا غرضهم، ومرمى همتهم في التفقه إنذار قومهم، وإرشادهم، والتصغية لهم، لَا ما يتجه إليه الفقهاء من الأغراض الخسيسة، ويؤمُّون به من المقاصد الركيكة من القصور والترؤس، والتبسط في البلاد، والتشبه بالعظمة في ملابسهم، ومراكبهم ومنافسة بعضهم بعضا، وفشو داء الضرائر بينهم، وانقلاب حماليق أحدهم إذا لمح لأحدهم مدرسة لآخر أو شرذمة جثوا بين يديه، وتهالكه
________
(1) سنن ابن ماجه: المقدمة - فضل العلماء والحث على طلب العلم (224).
(2) سبق تخريجه.
(3) رواه الترمذي: ما جاء في فضل الفقه على العبادة (2685). وابن ماجه: المقدمة - من قال العلم الخشية وتقوى الله (289) بلفظ مقارب.(7/3485)
على أن يكون موطأ العقب دون الناس كلهم، فما أبعد هؤلاء من قول اللَّه عز وجل: (. . . لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضٍ وَلا فَسَادًا. . .)، اهـ. فما أشبه الليلة بالبارحة ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.
هذا خط العلم في الرسالة المحمدية، والجهاد ماض في طريقه إلى يومِ القيامة، ولذا جاء بعد آية التفقة في الدين آية للجهاد فقال تعالى:(7/3486)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
نداء إلى الذين آمنوا يشير بهذا النداء إلى أن الجهاد في سبيل الله تعالى ثمرة الإيمان، والتقاعس عن القتال يكون من ضعف الإيمان، أو مرض القلوب، وأمر اللَّه تعالى بقتال الذين يلون أرض الأسلام سواء أكان المؤمنون بالمدينة أم أقاموا في أرض أخرى، فالأمر أمر عام بقتال الذين يصاقبونهم، لتكون العلاقة بينهم حربا واضحة، أو عهدا وفيا، أما أن تكون العلاقة علاقة من يتربص بالآخر، وينتهز الفرصة، قاتلوا الذين يلونكم، ثم الذين يلونهم إن لم يرضوا بالعهد، وهكذا كما ابتدأ النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، فأنذر عشيرته الأقربين ثم صدع بأمر ربه، ولما هاجر قاتل قريشا، ثم قاتل العرب أجمعين لما نزعوا عن قوس واحدة، قاتل المشركين كافة كما يقاتلونه كافة، ولما ابتدأ يقاتل خارج الجزيرة العربية ابتدأ بالرومان؛ لأن واليهم قتل من أسلم من أهله، ولأنهم أقرب إلى المدينة من الفرس، ولأنهم كانوا يمالئون اليهود، ونصارى العرب، ولأنهم أهل كتاب، ولأنهم في أرضهم بيت المقدس، مسرى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه يجب أن يتحرر من أهل الكفر، كما تحرر البيت الحرام من الشرك، ولأنهم المسلمون وهم ورثة الأنبياء أجمعين، والقوامون على الرسالة الإلهية من بعدهم.
وقال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) والأمر هنا في معنى وأغلظوا عليهم، ولكن قوله تعالى: (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) أبلغ(7/3486)
لأن مؤداه أن يكونوا كلما راموكم بسوء وجدوا فيكم غلظة فلا يفكرون في أن يرموا بسوء، والغلظة معناها الشدة والقوة، والغلظة تجمع الجرأة، وعدم التواني، والصبر، والمبادرة، والعنف في القتال من غير اعتداء فيه، وألا تأخذهم بهم رأفة في دين اللَّه تعالى.
وكانت الغلظة في قتال الذين يلونهم، ليأمنوا شرهم، وليرهبوهم، ولكيلا يتمكنوا من الاعتداء إن فكروا فيه، أو أرادوهم لأنهم ما داموا لم يعاهدوا عهدا وفيا، فإن شرهم متوقع، ودفع الشر قبل أن يأتي من شأن الحذرين، واللَّه تعالى يقول: (. . . خُذُوا حِذْرَكمْ. . .)، والقتال أنفَى للقتال، وأبعد عن الاعتداء، وخير الدفاع ما يكون هجوما.
وختم اللَّه تعالى الآية بقوله تعالى: (أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) إن اللَّه يحب الذين يتقون عذابه، ويتقون الشر قبل وقوعه ولا ينتظرونه حتى يقع، فإن وقع صعب دفعه، والذين يتقون الاعتداء، وكان ختم اللَّه تعالى الآية بذلك لهذه المعاني التي أشرنا إليها، ولتحريض المؤمنين على اتقاء الاعتداء ما تمكنوا منه.
وقوله: (أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، أي هو مصاحب لهم، فلا يقع عليهم، وهو قريب منهم ينصرهم ويعزهم، ولا يمكن عدوا منهم، وقد أكد سبحانه أنه مع المتقين بالجملة الاسمية، وبـ إنَّ الدالة على التوكيد، وبتصدير القول بلفظ الجلالة الذي يربي في النفس المهابة من اللَّه ومخافته.
وقد بين اللَّه سبحانه وتعالى كيف يتلقى المتقون ما ينزل من القرآن، وكيف يتلقاه غيرهم، فقال تبارك وتعالى:(7/3487)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
(الواو) للاستئناف، (وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ) (ما) مؤكدة للشرط، وهو نزول الآية والتأكيد لبيان مقام السورة النازلة، والسورة مجموعة من آيات اللَّه تعالى(7/3487)
تكون في سور تبتدئ بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وتختتم بابتداء سورة أخرى بهذه البسملة المباركة التي هي جزء من كتاب اللَّه.
ويصح أن يراد بالسورة بعضها، وهو آي من السورة، وكله قرآن، فبعض القرآن قرآن.
وقوله: (فَمِنْهُم مَن يَقُولُ أَيكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إيمَانًا) (الفاء) لتفصيل حال من يتلقونها ما بين مؤمن يتلقى قول الله تعالى بما يكون فيه الهدى، وبعضهم من مرضى القلوب الذين لَا يزيدهم الدليل إلا ضلالا وعنتا وكفرا.
والضمير في (فَمِنْهُم)، قال الزمخشري: إنه يعود إلى المنافقين، أي من المنافقين الذين يستهزئون بالمؤمنين، ويسرفون على أنفسهم يقولون متهكمين أيكم أيها المستمعون للقرآن زادتهم هذه الآية أو السورة إيمانا، كأنهم يقولون، لعنهم اللَّه: إن هذه السورة أو الآية لَا فائدة منها، فمن اهتدى فقد آمن، ومن عصى فقد كفر.
ولكن لَا نجد ذكرًا في الآية السابقة ولا ما قبلها للمنافقين إلا أن يدعى أنهم في الأذهان لما كان منهم من أفعال، وأنا أميل إلى أن الضمير يعود إلى المؤمنين يسأل بعضهم بعضا عن سر هذه الآيات التي تنزل وقتا بعد آخر، يتعرفون غايتها ومراميها، ولقد روى عثمان بن عفان رضي اللَّه عنه أنه كانت إذا نزلت آيات عشر أو دونها سألوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن معانيها، ومغازيها، ويقولون أيهم زادته هذه، وقد بين اللَّه تعالى موقعها في قلوب المؤمنين، وموقعها في قلوب الذين في قلوبهم مرض، فقال تعالت كلماته: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (الفاء) لبيان تفصيل موقعها في القلوب، (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا)، وزيادة الإيمان بزيادة ثثبيته في القلوب وزيادة العمل، فإن آيات القرآن الكريم يستأنس بها المؤمن، ويزداد رهبة من اللَّه وخوفا منه ورجاء في رضوانه، وهذا بلا ريب زيادة في الإيمان، ولقد قال تعالى: (اللَّه نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كتَابًا(7/3488)
مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23).
وإن ازدياد إيمانهم بالآية تنزل (يَسْتَبْشِرُونَ) أي يجدون في الآية الجديدة بشرى لهم بأن الإيمان هداية اللَّه تعالى تتوالى عليهم، ويستبشرون لتوالي خطاب اللَّه تعالى لهم، وأي مؤمن يحب الله ورسوله ثم لَا يستبشر بكلام من يحبه ويطلب رضاه؟!.
هذا شأن الذين آمنوا عندما تتلى عليهم آيات الله. وأما الذين في قلوبهم مرض فيقول اللَّه عز من قائل فيهم:(7/3489)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
(وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
الرجس هو الشيء القذر الذي تستقذره النفوس وتعافه، كالميتة ولحم الخنزير، والخمر، فإن النفس، وإن لَا تعافها طبعا، فإن العقول تعافها؛ لأنها تنزل مشاربها من مرتبة العاقلين المدركين إلى دركة من لَا يعقل، ولذلك سماها الله تعالى رجسا، في قوله تعالى: (. . . إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، ويطلق الرجس مجازا على الكفر، لأن العقول السليمة تدرك أن عبادة غير الله أمر لَا تقره العقول السليمة ولا الطبائع المستقيمة، والمراد به هنا الكفر، لأن العقول تنفر منه، ولا تقره، وكيف تقر العقول رجلا يصنع حجرًا ويعبده، وكيف تقر العقول رجلا يرى آيات الله البينات ثم يكفر بها.
والذين في قلوبهم مرض هم المنافقون، وقد قال اللَّه تعالى فيهم: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا). وإن ذلك وصف حكيم، فإن النفاق مرض يصيب القلوب، فيفسدها، والعقول فيمنعها من الإدراك السليم، ذلك أن المنافق منحرف(7/3489)
التفكير دائما، لَا يرى الأمور كما يراها السليم، بل إنه غير مستقر، وتوالى نفاقه يفقده الإيمان بالحقائق، وبفقده الإدراك السليم، وقد أثبتت الدراسات الاجتماعية أن المنافق لَا ينافق لغرض من المال أو دنيا يصيبها، ولكن يضعف عن النطق بالحق، ولعله يبتدئ نفاقه بشيء من الغرض، ولكن يتوالى نفاقه ليصير مرضا، فينافق لغير غاية.
وإن السورة أو الآيات التي تنزل تزيد المنافقين كفرًا إلى كفرهم، أي كفرا مضموما إلى كفرهم الأصيل وإنما زادتهم كفرا، لأنهم يعاندون الحق، والمعاند تزيده قوة الدليل عنادًا، لقد انحازوا إلى جانب الباطل، فكلما زاده الدليل في الحق زاد لجاجة في الباطل فزاد كفرًا ولا احتمال لتوبته وعودته إلى الحق، ولذا قال تعالى: (وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) أي استمروا معاندين للباطل، حتى حال موتهم، فيموتون وهم كافرون، وعبر بالماضي لتأكيد هذه الحال التي يموتون عليها، واللَّه يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
ثم قال تعالى موضحا حالهم:
* * *
(أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
* * *(7/3490)
كان المنافقون في المدينة ملتوية أفكارهم كما تلتوي العيون بحول يصيبها، فهم يرون النور، ولكن أعينهم يزيدها لمعان النور انحرافا عن التفكير السليم، كان المؤمنون يغزون ويجاهدون، وهؤلاء يشتد نفاقهم وكيدهم كلما رأوا عزة للمؤمنين بعد عزة، وتمكينا لهم في المدينة بعد تمكين، وعلوا في أرض العرب، وهم يعيشون في أمان، يرجون للمؤمنين الشر والانتكاس.
فيقول سبحانه:(7/3491)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) (الواو) للاستئناف وهي مقدمة في المعنى على الاستفهام، ولكن قدمت همزة الاستفهام، لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام للتوبيخ، والمعنى: أيستمرون على حالهم من النفاق، ولا يتدبرون، وهم يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين وهم لا يذكرون، الفتنة اختبار النفوس بشدة كما يختبر الذهب ليخرج ما فيه من غش، والمعادن لإزالة الصدأ، وإن اللَّه يختبر الناس فيما يحبون، فيختبر سبحانه المحب للمال في ماله، والمحب للنساء والولد فيهما، ويختبر المؤمنين بالخوف، ويختبر المنافقين فيما يحبون من خذلان المؤمنين، وهو أن تخضد شوكتهم وتفل قوتهم، ويختبرهم الله بذلك مرة أو مرتين كل عام، ومرتين يقصد بها مرات، فيعطي اللَّه في الاختبار للمؤمنين نصرا مؤزرا، اختبرهم ببدر، فأنشأوا في أنفسهم النفاق واختبرهم في بني قينقاع، وقد أجلاهم الرسول عن المدينة لما حرضهم المنافقون على المؤمنين، واختبرهم في أُحُد إذ أجلى بعض اليهود، واختبرهم في الخندق بتحريضهم بني قريظة، فأباد نصراءهم، واختبرهم بالنصر للمسلمين في السرايا، واختبرهم بفتح مكة، ثم اختبرهم بالانتصار في الطائف على هوازن وثقيف، ثم اختبرهم في تبوك، وهكذا توالى الاختبار بالمحن تنزل بهم من فرط غيظهم من الإيمان والمؤمنين.
هذا بعض ما يدل عليه قوله تعالى: (أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ) أي مرات، ولو كانت نفوسهم غير ملتوية وعقولهم غير منحرفة، لكان(7/3491)
توالى هذا النصر رادعا، وحاملا لهم على ترك غيهم، ولذا قال تعالى: (وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي رجاء أن يتذكروا أنهم على الباطل، وأن في قلوبهم أمراضا عليهم أن يعالجوها، وأن ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الحق الذي لَا ريب فيه، وأن اللَّه ناصره غير خاذله، وأن العاقبة للمتقين، فإذا تذكروا واعتبروا واتخذوا مما وقع دليلا على ما يقع فاستقاموا، ولكنهم لم يتذكروا واستمروا في غيهم؛ لأنهم انفصلوا بأحاسيسهم عن الناس، فعاشوا في محيطهم المنافق، فلم يعتبروا وإذا جاءتهم التذكرة أعرضوا عنها، ولذا قال تعالى:(7/3492)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
(وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
وإذا ما أنزلت سورة هادية مرشدة مبينة الحق وذاكرة أحوال المؤمنين ومن يعاديهم لم يطيقوا سماعها من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن القلب المريض لَا يطيق سماع الحق الذي يكون فيه شفاء له وللناس، ولا يستسيغ الأخذ به، فإذا تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية أو السورة النازلة نظر بعضهم إلى بعض نظرات لها معان عندهم، وهي أنهم ضاقوا بها ذرعا ويريدون أن يخرجوا من المسجد تبرمًا بسماعها، وبغضا فيها، أو تنافرًا عليها، واستهزاء بها، وبعد هذه النظرات الغامزة، أو المنكرة للحق ينصرفون، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) التعبير بـ (ثم) هنا في موضعه؛ لأنه تفاوت بعيد بين حالين، حال الاستماع، وهو يقتضي الإنصاف والإيمان، وحال الانصراف عن الاستماع إلى الحق والقول الذي هو شفاء للناس.
وقوله: (صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) جملة معترضة بمعنى الدعاء عليهم بأن يكونوا منغمرين دائما في الباطل لأنهم اختاروه وأرادوه، واللَّه لَا يهدي القوم الفاسقين.
ويصح أن نقول إنها بيان لانصرفوا، أي أنهم انصرفوا لأن اللَّه تعالى صرف قلوبهم عن الحق، فصارت قلوبهم معرضة؛ لأن نفوسهم الملتوية جعلتهم لا يقبلون على الحقائق.(7/3492)
وإن قوله تعالى عنهم أنهم يقول بعضهم بلمح النظر: (هَلْ يَرَاكُم مِنْ أَحَدٍ) فيه إشارة إلى أنهم يريدون أن يتسللوا من المسجد لواذًا لَا يحس بهم أحد حتى لا يعرف نفاقهم، ويتميز أمرهم، وهم لفرط انغمارهم في النفاق يحسبون أنهم لا يعلم بهم أحد، مع أن أعمالهم تكشف عن سرائرهم ولا يخفى أمرهم على أحد، فإن لم يكن ظهوره بأقوالهم، فظهوره بأفعالهم وتقاصر هممهم عن أي خير، و (مِّنْ) في قوله تعالى: (هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ) لاستغراق النفي، أي هل يراكم أي أحد، و (هَلْ) للاستفهام الإنكاري بمعنى إنكار الوقوع أي لَا يراكم من أحد فاخرجوا.
ثم بين سبحانه السبب في أنهم لَا يذكرون ولا يرجعون عن غيهم، مع توالى المنكرات المنهيات فقال تعالت كمماتلى: (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) (الباء) للسببية أي أن انصرافهم عن الاستماع للقرآن وتدبر معانية، وعن الاختبارات المتوالية بسبب أنهم لَا يتدبرون الآيات ولا الأحداث، ولا يعتبرون بالعبر، وذلك كله من عدم فقه الأمور، والآيات، وإدراك غاياتها ومراميها، وقد ختم اللَّه تعالى السورة التي كثر فيها ذكر القتال وانبثاق النفاق بما يدل على أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة فإذا كان قد قاتل، وكشف النفاق وأهله فذلك من باب الرحمة بعباده والرأفة بهم؛ لأن قتال المفسدين وكف فسادهم رحمة بالأبرار المتقين، فليس من الرحمة بالناس أن يترك الشر يستشري، والرذائل تتحكم، والاعتداء يسيطر، فإن الضعفاء فريسة المستضعفين، والفساد يتضمن ظلم الذين لَا يستطيعون دفعه، وكشف النفاق رد لمكايد المنافقين، ولقد قال تعالى: (. . . وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهََ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
ولأن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة قال - تعالى - مخاطبا العرب أجمعين: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)(7/3493)
أكثر العلماء على أن هذه الآية الكريمة والتي تليها نزلتا بمكة، ومعانيها تعين على ذلك، وقد يسأل سائل: لماذا كانت في سورة كلها مدنية، وهي من أواخر السور نزولا؛ نقول إن اللَّه سبحانه وتعالى كان ينزل القرآن الكريم على نبيه تنزيلا وكان عند نزول الآية يكتبها من في حضرته ممن يقرأون ويكتبون وينشرها بين المؤمنين آمرا بوضعها في موضعها من السورة الذي قرر النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعها فيها، والأمر لله تعالى يأمر نبيه بأن يضعها حيث يأمره جبريل، فالترتيب توقيفي، وليس للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقد اختار الله أن يكون وضعها في آخر سورة براءة؛ ولذلك حكمة نتلمسها، وقد تلمسناها فقلنا إنها جاءت في ختام سورة كلها في النفاق والمنافقين؛ ليتنبه القارئ للقرآن الكريم إلى أن القتال وكشف النفاق رحمة للعالمين.
قال تعالى:(7/3494)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
(لَقَدْ جَاءَكمْ رَسئولٌ منْ أَنفُسِكُمْ) هذه منَّة من اللَّه تعالى مَنَّ بها على العرب إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم، ولقد أكد ذلك بـ (اللام) وبـ (قد)، قال: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ منْ أَنفسِكمْ) وهنا قراءتان إحداهما بضم الفاء والثانية بفتحها (1) والمعنى على الأول منكم لَا من غيركم، والمعنى على الثانية (من أنفَسكم) أي من أعلاكم نسبًا. وبمجموع الآيتين، وكل آية منهما قرآن بذاتها، أنه بعث فيكم رسولا منكم، لَا من غيركم، وهذه منَّة، ومن أعلاكم نسبا وشرفا وهذا شرف للرسالة، والنبيون يبعثون من أعلى الأوساط.
ومهما تكن القراءة التي يقرأ بها، فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - دعوة إبراهيم إذ قال اللَّه تعالى عنه في دعائه لربه: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو. . .)، وقد مَنَّ اللَّه تعالى على المؤمنين إذ قال: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ. . .).
________
(1) (من أنْفَسِكم) بفتح الفاء، صحيحة المعنى، غير أنها ليست في العشر المتواترة.(7/3494)
ولقد ذكر الحافظ ابن كثير المؤرخ المحدث أن جعفر بن أبي طالب، والمغيرة ابن شعبة قالا لرسول كسرى: " إن اللَّه بعث فينا رسولا منا نعرف نسبه وصفته، ومدخله ومخرجه، وصدقه وأمانته ".
وإنه إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من العرب، ومن أنفسهم، ودعوة إبراهيم، فإن الأثر الذي يترتب على ذلك، ويكون من جنس الأخوة المحبة - أن يكون رءوفًا بهم محبا لهم ورحيما، ولذا قال تعالى: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) العنت الشدة، ويقول ابن الأنباري أصل العنت الشديد.
فإذا قالت العرب فلان يتعنت فلانا ويعنته فمعناه يشدد عليه ويلزمه يما يصعب عليه أداؤه.
والمعنى يعز على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد بعث إليكم بالملة بالسمحة السهلة ملة إبراهيم أن يكون في شريعته ما يعنتكم ويصعب عليكم. فدينه دين الفطرة يساوقها، ولا يعنتها، وقوله: (مَا عَنِتُّمْ) أي عنتكم، فـ (ما) مصدرية هي وما بعدها مصدر وقد وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بثلاثة أوصاف للمؤمنين من العرب وغيرهم؛ لأنه بعث للناس كافة.
أولها - أنه عزيز عليه عنتهم، فالشريعة التي جاء بها من عند اللَّه سهلة لا مشقة فيها تعلو على الطاعة وفيها الاعتدال الكامل، وليس فيها إرهاق للنفوس، ولا للأجسام، والعقول تدركها وتعرفها.
الصفة الثانية - وهي من أعلى صفات البشر أنه رءوف والرأفة انفعال النفس بالمحبة والرفق بالناس، وهي صفة ضد الفظاظة والغلظ، وهما ينفران ولا يقربان، ولقد قال تعالى: (. . . وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ. . .).(7/3495)
الصفة الثالثة - الرحمة، وهي أوسع شمولا من الرأفة، إذ إن الرحمة النبوية تكون بالكافة، وقد يكون العقاب منافيا للرأفة، وهو من مقتضيات الرحمة، ألا ترى أن اللَّه سبحانه وتعالى يقول في حد الزاني: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2).
ونرى أن الرأفة قد تجافي العقاب أما الرحمة فإن العقاب ينبعث منها؛ لأنه رحمة بالكافة، وقد قال بعض الصحابة للنبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم: أكثرت من ذكر الرحمة، ونحن نرحم نساءنا وأبناءنا، فقال: ما هذا أريد، إنما أريد الرحمة بالكافة.
كانت هذه الآية إخبارا بمقام الرسول من قومه، وتنويه بالشريعة التي جاء بها، ودعوة إلى اتباعه، فمن اتبعه، فقد اهتدى، ومن لم يتبعه فقد تعرض للغواية وبعد عن الهداية، ولذا قال تعالى:(7/3496)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
(الفاء) هنا لربط هذه الآية بسابقتها، ترتيب أمر على أمر، يعد نقيضا له، فإن كون الرسول من أوسطهم نسبا، وأنه عزيز عليه عنتهم، وأنه رءوف رحيم بهم كان يوجب عليهم أن يطيعوه، فهو لَا يمكن أن يكون في دعوته ما يضيرهم أو يشق عليهم، بل فيه تنزيه لقلوبهم عن الشرك والضلال، مع هذا إن تولوا - أي انصرفوا، وهم معرضون، وقد شبهت حال الإعراض الفكري، بحال التولي الحسي، لكمال معارضتهم للشرع، (فَإِن تَوَلَّوْا) فعل شرط جوابه: (فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) أي إن لم يجيبوك فقل حسبي، أي يكفيني أن يكون اللَّه معي، وهو صاحب الملك كله، لَا إله إلا هو، فلا أعبد سواه.(7/3496)
والآية الكريمة تومئ إلى أنه كان بمقتضى ما تتضمنه الآية السابقة من معاني يكون نصراؤه منهم، وناشرو دعوة اللَّه إلى الحق منهم، بل إنه كان يرجى منهم حتى بمقتضى عادة العرب أن يؤيدوه، ولا يخذلوه. ولكنهم إن خذلوه، فاللَّه معه، وهو كافيه عن الحاجة إلى غيره، ولذا قال سبحانه: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، أي توكلت عليه وحده، لَا أعتمد على أحد غيره سبحانه وتعالى، وتقديم الجار والمجرور (عليه) على الفعل (توكلت) يفيد القصر، أي أنه لَا يتوكل أحد من العباد، ما دام اللَّه تعالى كافله وعاصمه من الناس، كما قال تعالى: (. . . وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِن النَّاسِ. . .).
وقد وصف اللَّه سبحانه وتعالى ما يدل على سعة سلطانه، وعزة من يعتمد عليه، فقال تعالت كلماته: (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الضمير يعود على لفظ الجلالة، ورب معناها مالك، والعرش هنا تفسره بالسلطان، أو ما يشبه كرسي الملك، والمعنى: واللَّه هو مالك السلطان الكامل في هذا الوجود، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويعلي من يشاء ويخفض من يشاء، وهو الحكيم الخبير، فمن يلتجئ إلى اللَّه فقد التجأ إلى من يدفع كل شر، وكل سوء، ومن يعلي الحق.
وقوله: (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيم)، في (العظيم) قراءتان: إحداهما بضم الميم، في العظيم، والثانية - بكسرها - فالقراءة بالضم تكون وصفا لرب العرش، أي تكون وصفا لله، وهو العظيم الذي لَا يقدر قدره؛ لأنه فوق التقدير، وعلى قراءة الكسر تكون وصفا للعرش، وهو يثبت أن سلطان اللَّه تعالى عظيم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *(7/3497)
(سُورَةُ يُونُسَ)
سورة مكية عدد آياتها 109، استثنى منها علماء القراءات أربع آيات قالوا إنها مدنية، هي الآيات 40 - 94 - 95 - 96.
ابتدئت بحروف مفردة للتنبيه على إعجاز القرآن، ووصف الكتاب بأنه الحكيم، وذكرت أن الناس كانوا في عجب أن يوحى إلى رجل منهم، فذهبوا إلى تكذيبه وقالوا بسبب كفرهم: إنه ساحر مبين، وكان عليهم ألا يعجبوا ويغتروا، لأن الوحي من عند اللَّه الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر، وأنه وحده له الملك، وأنه لَا شفيع عنده إلا من بعد إذنه. (. . . ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكرونَ إِلَيْهِ مَرْجِعكمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا. . .).
فأنتم سترجعون إليه فيحاسبكم، ولا عجب في رجوعكم فهو سبحانه يبدأ الخلق ثم يعيده
(. . . لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ. . .).
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
ويبين سبحانه وتعالى آياته في اختلاف الليل والنهار، ثم أشار إلى أولئك الذين ينكرون البعث ولا يرجون لقاء ربهم، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وغفلوا عن آيات اللَّه سبحانه وتعالى، وبين أن مأواهم النار بما كسبوا من سيِّئ الأعمال، وفي مقابل(7/3498)
ذلك ذكر سبحانه الذين آمنوا باللَّه وآياته وعملوا الصالحات وجزاءهم من النعيم المقيم والسلام.
(دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
وإن من سنة اللَّه تعالى ألا يعجل الشر لمن أساء.
(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
ويبين اللَّه تعالى طبيعة الإنسان أنه إذا ضعف اتجه إلى اللَّه ولجأ إليه.
(وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12).
وبين حال الذين بعث لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ. . .).
فأمره اللَّه تعالى أن يقول:
(. . . مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16).
وقد ذكر حالهم في شركهم بأنهم يعبدون ما لَا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا فيأمر اللَّه نبيه - صلى الله عليه وسلم - فيقول لهم: (. . . قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18).
وبين اللَّه تعالى بعد ذلك أن الناس في أصل التكوين أمة واحدة، (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19).(7/3499)
جاءهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن وهو أعظم آية إلد بها النبيون، ولكنهم لتعنتهم يريدون آية أخرى: (وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20).
ولقد بين اللَّه النفس الإنسانية المنحرفة عن الحق أنها إذا مسها اللَّه تعالى بالخير بعد الشدة تصورت أن الخير لها ولم يكنِ لفضل اللَّه ودبرت أمورها على ذلك، وذكر اللَّه تعالى مثلا فقال: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23).
ثم مثل سبحانه وتعالى الحياة الدنيا في زوال متاعها فقال:
(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24).
دعوة الحق
بعد ذلك بين اللَّه تعالى مآل دعوة الحق إلى دار السلام والهداية إلى الصراط المستقيم يوم القيامة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26). وإنه في البعث يحشرهم اللَّه جميعا ويفر الذين سول لهم الشيطان أن يعبدوهم - من الذين اتبعوهم.(7/3500)
ويسأل الذين أشركوا أين شركاؤكم: (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30).
بعد ذلك يبين اللَّه تعالى إنعامه على عباده وآياته في خلقه.
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33).
أخذ يبين سبحانه وتعالى عجز الأوثان أن تبدأ الخلق ثم تعيده، بل إنها تُخلق، ثم إن أوثانهم لَا تهدي ضالا وإن اللَّه هو الهادي إلى الحق، وإن الذين يعبدون الأوثان لَا إيمان لهم فهم لَا يؤمنون بها.
(وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36).
وإن القرآن حجة الله البالغة (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37).
ثم يتحداهم سبحانه وتعالى أن يأتوا بسورة من مثله.
(. . . وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
وإن الأمر بالنسبة لهم ليس آخر دليل يطلبونه بل إنهم يكذبون قبل أن يطلبوا الدليل؛ أي بادروا بالتكذيب (بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39).(7/3501)
وأنه بعد مجيء القرآن فإن منهم (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41).
ولا تأبه لهم، ومنهم منِ يستمع إليك وقلوبهم معرضة (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) كما أن منهم من ينظر إليك غير مبصر (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43).
ثم أشار سبحانه وتعالى إلى ما أعده للكافرين، وأنه أرسلِ إلى كل أمة رسولا يقضى بينهم بالقسط ولكنهم يقولون متى وعد اللَّه (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. . .).
ويبين سبحانه وتعالى أن له ما في السماوات والأرض وأن وعده حق (أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55).
كما يبين أن شرع اللَّه تعالى فيه الموعظة وفيه شفاء لما في الصدور: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
كما يبين سبحانه وتعالى فضله على الخليقة فيقول تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59).
أي تنزل النعمة حلالا طيبا ويفترون فيحرمون من غير بينة: (وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60).
كما يبين اللَّه علمه بكل شئون الرسول ودعوته: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61).(7/3502)
ثم يذكر أولياء اللَّه (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64).
وينهى اللَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الحزن (وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65).
إن اللَّه مالك العزة يعز من يشاء، لأن له ملك السماوات والأرض، وأن الذين يعبدون الأوثان لَا يستيقنون لها قدرة، وإن يتبعون إلا الظن: (. . . إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).
ثم يبين سبحانه كمال ملكه وتصريفه للكون وبطلان من اتخذ له ولدا وبطلان قول الذين يعبدون الأوثان وأن جميعهم لَا يفلحون، لأنهم يفترون على اللَّه الكذب.
(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70).
بعد ذلك يذكر سبحانه وتعالى الأنبياء الذين لقوا من أقوامهم مثل ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - فبدأ بذكر نوح الأب الثاني للبشرية، وما قاله لقومه وقد كبر عليهم مقامه فيهم وتذكيرهم بآيات اللَّه وتوكله عليه وما رأى منهم من عنت وقد أخذهم بالحسنى (. . . فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72).
فكذبه قومه وصدقه الضعفاء - كما كان لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ثم نجاه اللَّه ومن معه في الفلك المشحون.
وبعث اللَّه - كما تدل الآيات رسلا من بعده فكذبوا ثم بعث موسى وأخاه هارون إلى فرعون، وأيده بآيات اللَّه التي تثبت رسالته فاستكبروا وكانوا قوما(7/3503)
مجرمين، ثم جاء لهم موسى وأتاهم بتسع آيات بينات وكانت إحدى الحجج المنزلة من بينها عصا موسى.
(فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77).
وقد آمن السحرة وذرية من قومه (وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83).
ثم أخذ موسى من آمن ودعاهم إلى التوكل على اللَّه الذي آمنوا به وأن يقولوا: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86).
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87).
ودعا موسى على فرعون وملئه الذين لم يؤمنوا: (. . . رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89).
ولقد جاوز موسى بأمر اللَّه البحر حيث انشق فكان كل فرق كالطود العظيم واتبعهم فرعون في اجتيازهم البحر فانطبق عليه هو وجنده حتى إذا أدركه الغرق قال: (. . . آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90).
وبعد ذلك بين سبحانه وتعالى ما أنعم به على بني إسرائيل مبوأ لهم مبوأ صدق ورزقهم من الطيبات ولكن اختلفوا لما جاءهم العلم.
بعد هذه العبرة من أخبار الرسل وأولي العزم بين سبحانه لنبيه وجوب الاطمئنان إلى ما يدعو إليه من الحق.(7/3504)
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95).
وبعد ذلك ذكر نبي اللَّه يونس عليه السلام (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98).
ثم أشار سبحانه وتعالى إلى مقتضى إرادته أن يؤمن منِ اهتدى ويكفر من طغى؛ ولذا قال: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100).
وبيَّن اللَّه تعالى أنه لَا تغني الآيات والنذر عن قوم لَا يؤمنون، وأن اللَّه تعالى ينجي رسله من العذاب الذي ينزل بالأقوام الذين يكفرون (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103).
ثم يخاطب اللَّه الناس خطابا عاما يدعو إلى عبادة اللَّه وحده ويأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإقامة الدين الحق.
(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109).
* * *(7/3505)
معاني السورة الكريمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
* * *(7/3506)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
ابتدأ اللَّه تعالى السورة الكريمة بالحروف الصوتية المفردة، وهي من المتشابه الذي اختصه اللَّه تعالى بعلمه، وإن تفسيرنا لها رجم بالغيب إذ لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها برواية صحيحة بينة، فليس لنا أن نتعرف معناها ما دامت قد أبهمت علينا، وتركها اللَّه تعالى من غير بيان ولكن علينا أن نؤمن بحقيقتين:
أولاهما - أن اللَّه تعالى لم يضع هذه الحروف إلا لغاية أرادها وحكمة، وعلينا أن نتحراها.
ثانيتهما - أن نتلمس الحكمة وقد تلمسها المفسرون فوجدوها في أمرين:(7/3506)
* إن كبار المشركين لما رأوا أن من يسمع منهم القرآن يؤثر فيه ويصغي إليه فؤاده فدفعهم العناد والمكابرة إلى أن قالوا كما أخبر تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفجَؤُهم بتلاوة القرآن بهذه الحروف الصوتية فينقضون اتفاقهم ويحنون إليه تباعا، وروي أنهم في ليلة اتفقوا على هذا الموقف السلبي ولكن كل واحد منهم نقض ما اتفق عليه وذهب إلى المكان الذي يستمع منه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا هم يلتقون حيث كانوا يتفقون على البعد عن الاستماع.
* الأمر الثاني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أميا لَا يقرأ ولا يكتب، والأُميّ يعرف الكلمات ولا يعرف الحروف فمجيء هذه الحروف على لسان أمي لَا يقرأ ولا يكتب فيه غرابة، وفوق ذلك فإن هذا من التحدي كأنه يقال لهم: هذا الكلام الحكيم مركب من الحروف التي ركب منها كلامكم فكيف تعجزون عن أن تأتوا بمثله، وفي ذلك دليل على أنه ليس بنوع كلامكم ولا هو مما في إمكانكم أو طاقتكم، واللَّه سبحانه وتعالى هو وحده الذي نزَّله على نبيه تنزيلًا وهو العزيز الحكيم.
وقد يبدو أن هذه الحروف مساقة في أكثر الآيات المبتدأة بهذه الحروف للإشارة إلى القرآن الكريم وآياته، لذا قال: (تِلْكَ آيَاتُ الْكتَابِ الْحَكِيمِ) إشارة إلى هذه الحروف أو إشارة إلى ما يأتي بعد ذلك من الذكر الحَكيم.
والإضافة هنا بمعنى (من) أي تلك الآيات التي تتلى عليك من آيات الكتاب الحكيم وهي بذاتها تدل على قدرة اللَّه تعالى الذي أنزلها وعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وإنه (الْكتَابِ) الكامل الجدير بأن يسمى كتابا، و (الْحَكيمِ) لاشتماله على الحكمة إذ إنه جمع التكليفات كلها والشرائع المصلحة للبشَرية والمنظمة للعلاقات الإنسانية، ثم إنها نزلت كلها على لسان أمي لَا يقرأ ولا يكتب؛ لم يجلس إلى معلم ولم يكن ببلد تدرس فيه العلوم الإنسانية أو الكونية فقد كان أميا من بلد أمي، وجاء بكتاب فيه أصول وفروع الشريعة وهي إحدى دلائل إعجازه بين الكتب حقا وصدقا.(7/3507)
وكان خليقا بالمشركين أن يؤمنوا إذ تحداهم وأعجزهم، ولكن لم يدفعهم العجز إلى الإيمان بل دفعهم إلى الجحود والعناد، ليس لحجة عندهم بل لأنه كان غريبا لم يألفوه أو يعرفوه، ولذا قال تعالى:(7/3508)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ... (2)
والاستفهام هنا لإنكار الواقع وهو بمعنى التعجب من عجبهم، والتوبيخ على أنهم اتخذوا إرسال رجل منهم موضعا للعجب، فالرسول لَا يمكن أن يكون إلا رجلا منهم فلا يصح أن يكون ملكا من الملائكة كما قال تعالى:
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ).
وقد كان تَعَجُّبهم لأمور ثلاثة:
أولها - أنه أوحى إلى رجل، وما كانوا يفهمون أن الرسالات تكون لرجال منهم.
ثانيها - أنه يتيم فقير، كان يسمى يتيم أبي طالب، وأنه ليس من الأغنياء وكانوا هم العظماء
(وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ منَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم).
ثالثها - أنه فوق هذا جاء للإنذار بالبعث فكان قولهم:
(إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).
وفى هذا أشد العجب من أمرهم كما يقول تعالى:
(وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كنَّا ترَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. . .).
هذا تعجبهم، والإنكار التعجبي من عجبهم لتلك الحقائق الثابتة، والإرسال لا يكون إلا لرجل كما تلونا ولقوله تعالى:(7/3508)
(قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا
رَّسُولًا).
وأنكروا أنه يتيم فقير وهم يعلمون أنه من بيت الذروة من قريش، وإذا كان يتيم أبي طالب، فأبو طالب كان شيخ البطحاء وتدين قريش كلها له، كما كانت تدين لأبيه عبد المطلب ولجده هاشم، وأن النبوة لَا تُختار بالغنى ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكان محمد - صلى الله عليه وسلم - قبل الرسالة تدين له قريش كلها بالخلق الكريم والصدق والأمانة حتى سُمي بالأمين ولا يمكن أن يكون المال والولد مقومات النبوة إنما الصدق والأمانة، والله هو الذي يختار كقوله تعالى:
(وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكم بِالَتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى. . .).
ولا ينبغي أن يعجبوا من الإنذار بالبعث والحساب والجزاء فإن هذه الدنيا متاعها قليل والعاقبة عند ربك للمتقين، وإن الله تعالى لم يخلق الإنسان سدى بل جعل حياته في الدنيا عاملا للخير أو عاملا لغيره، وفي الآخرة يكون الجزاء الأوفى.
ولننظر بعض نظرات إلى النسق السامي.
1 - قوله تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ منْهمْ) أكان للناس - ولهم عقول ومدارك - أن يتعجبوا من هذه الأمور.
2 - (أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ) (أن) تفسيرية، وأنذر الناس هي لإيحاء الذي أوحاه الله تعالى لنبيه، والإنذار هو بيان ما يكون للكافرين من عذاب أليم، والبشرى بما يكون للمؤمنين من نعيم مقيم.
وقوله تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا) يقول الزمخشري عن معنى (اللام):
(وما الفرق أن تقول " أكان عند الناس عجبا ": أنهم جعلوه أعجوبة يتعجبون منها ونصبوه علما يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم) ولعل المعنى الذي يريده(7/3509)
الزمخشري أن اللام تفيد هنا أن كان للناس عجبا أن يعجبوا من أنه أوحى إلى رجل منهم، وأن اللام تفيد الملك، أو الاختصاص أو الحق أي متى حق أن يتخذوا الرسول بالحق موضع تعجب واستغراب ثم استهزاء، وقال في بشارة المؤمنين وهو الجزء الأكبر من عمل النبي المبعوث (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ) وقد بينا معنى البشارة والنذارة، ولم تذكر الجنان ولا النعيم المقيم كما ذي سبحانه في آيات كثيرة، ولكن ذكر ما يوجبه ويتادى إليه لَا محالة وهو أن لهم قدم صدقٍ عند ربهم وهي سبقهم إلى الإيمان والتصديق بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وهنا أمران بيانيان يجب أن نشير إليهما بمقدار ما ندرك.
أولهما - عبر عن السبق إلى الإيمان بقوله تعالى: (قَدَمَ صِدْقٍ) ونقول:
إن هذا مجاز عبر فيه باسم الجزء، وأريد الكل وذلك لأن المراد أن لهم السبق بالصدق، ولكن لأن السبق يكون بالقدم فهي التي بها يكون السير السريع أو البطيء فقد عبر عن ذلك بـ (قَدَمَ)، كما يقال في النعم: " لفلان أيادٍ عليَّ "؛ لأن الإعطاء يكون باليد عادة ".
الأمر الثاني - قوله تعالى: (صِدْقٍ) نقول أنه وعد، ووعد اللَّه صدق دائما ولكن المؤمنين أيضا قدموا بالصدق وهو الإيمان بالحق، فصدقوا الرسول وصدقوا ما عاهدوا اللَّه عليه.
يقول الزمخشري: (فإن قلت لم سمي السابقة قدمًا؟ قلت لما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد).
وإضافة القدم إلى (صِدْقٍ) دلالة على زيادة فضل وإنه من السوابق العظيمة.(7/3510)
هذا ما قاله تعالى بالنسبة للمؤمنين وهو يدل على أنهم بقلوبهم الطاهرة سبقوا إلى التصديق والصدق، أما الكافرون فقالوا تحت تأثير استغرابهم وتعجبهم إن هذا لساحر مبين، هذا صوت الاستغراب، من غير موجبه، وبدل أن يقولوا آمنا (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مبِينٌ)، أي بين واضح. حكموا بأنه ساحر مسترسلين في استغرابهم وأكدوا أنه ساحر بالجملة الاسمية، وبإن المؤكدة وباللام، والإشارة في هذا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مسوغ لاستغرابهم، وعجبوا من إرسال رسول منهم ومن قدرة اللَّه تعالى، ولذا قال تعالى:(7/3511)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ... (3)
والأيام الستة ليست هي الأيام التي نعرفها؛ لأن ذلك مستحيل؛ لأن هذه الأيام التي نعرفها من دوران الأرض حول الشمس وما كانت الأرض ولا السماوات بما فيهما من شمس وقمر وسائر الكواكب والنجوم، ولذلك نقول إن الأيام الستة هي أدوار التكوين الذي أنشأ اللَّه به السماوات والأرض، ذكرها اللَّه في سورة أخرى:
(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12).
ونرى من هذا النص السامي أن الأرض أخذت ستة أدوار ومثلها السماوات حتى كانت الأرض بطبقاتها وتكوينها، وكانت السماء بأبراجها ومصابيحها، وكانت الشمس ضياء والقمر نورا وقَدَّرَه منازل لنعْلَم عدَدَ السنين والحساب.(7/3511)
أنشأ اللَّه تعالى السماوات والأرض في هذه الأدوار التكوينية بتدبيره سبحانه وبإحكامه وإرادته وهو الفاعل المختار، وليس كل دور انتقالا من الدور الذي سبق فيتوهم أن كل دور خلق ما بعده بل إن ذلك بإرادة المنشئ المختار؛ ولذا قال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) والمعنى استولى على السلطان والعرش كناية عن كمال السلطان فهو صاحب الملك قد استوى على كرسي ملكه الذي خلقه وأنشأه على غير مثال سبق، وأنه يدبر شئون ذلك الكون الذي أبدعه (بَدِيع السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ. . .)، ويدبر أي يتحكم فيه ويقدر ويضع كل شيء في موضعه الذي يلتئم مع ما يناسبه فخلق الماء في الأرض وجعل منه كل شيء حي وخلق المطر الذي يكون غيثا وينبت منه كل شيء وجعل الأرض فراشا والسماء بناء.
وأصل التدبير معرفة أدبار الأمور، والمدبر يعرف حاضر الأمور ويعلم القابل والحاضر والدابر منها والعواقب، لَا يغيب عن علمه شيء وقد أحاط بكل شيء علما وفي قوله: (يُدَبِّرُ الأَمْرَ) الأمر هو أمر الخلق والتكوين ومن يعيش في السماوات والأرض وحالهما - تبارك اللَّه.
(مَا مِن شَفِيعِ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) هذا إنذار للذين يعصون من خلقه بأنهم عند العذاب لَا تنفعهم شفاعة الشافعين وما لهم من شفيع يشفع ولا قربة يفتدون بها أنفسهم فإنه لَا شفيع إلا من بعد إذنه، والتعبير بقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) إشارة إلى أنه محكوم بسلطان اللَّه تعالى غير خارج عن ملكه لَا يفرض عليه.
وهنا إشارتان بيانيتان:
الأولى - قوله تعالى: (يُدَبِّر الأَمْرَ) جملة مستأنفة لبيان كمال السلطان، وهي أثر للخلق والتكوين، لأنه إذا كان الخالق كان المدبر وتدل على أنه فاعل مختار.(7/3512)
الثانية - قوله تعالى: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) تدل على كمال السلطان، وأنه لا يخرج عن سلطانه شيء في الأرض ولا في السماء، فالأرض باتساعها من جبال ووهاد ويابس وماء وأحياء وزرع وغراس كلها بتدبيره وسلطانه.
ثم قال سبحانه: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ) إشارة إلى خالق السماء والأرض وما فيهن ومدبر أمرهما وذو السلطان المستولي على كل شيء، والخطاب للإنسانية كلها لأنه رب العالمين.
ويلاحظ المتتبع لآيات اللَّه تعالى أن الإشارة تقترن بحرف الكاف ويكون الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمته بالتبع، وضمير الجمع كما في هذا النص (ذَلِكُمُ) يكون إما للناس أجمعين، وإما للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته ابتداء. وهذا الخطاب للناس أجمعين، وذكر لفظ الجلالة فيه إشارة إلى أنه المستحق وحده بلا شريك وأنه المنشئ والمشرف على كونكم وقد رئكم ورباكم وتعهدكم (فَاعْبُدُوهُ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه يعبد لأنه اللَّه المنشئ جل جلاله؛ ولأنه رب الوجود ولا يُعبد إلا وحده فاعبدوه عبادة تقتضي بطلان الشريك.
(أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الاستفهام للتعزيز وطلب التذكر، و (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهي مؤخرة عن تقديم، لأن الاستفهام له الصدارة دائما، وهمزة الاستفهام داخلة على (لا) والاستفهام لإنكار الوقوع بمعنى النفي ونفي النفي إثبات، والمعنى حض على التذكر، والتذكر أدنى التفكير، والمعنى تفكروا بأدنى التفكير فإنكم حينئذ تجدون اللَّه هو الذي يعبد وحده ولا يعبد سواه.
ثم بشر اللَّه بعد ذلك المؤمنين وأنذر الكافرين، فقال تعالت كلماته:(7/3513)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
(إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
بعد أن بين اللَّه تعالى أنه خالق السماوات والأرض ومن فيهن ذكر سبحانه وتعالى أنه لم يخلقهم عبثا، بل إنه خلقهم ليعمروا الأرض ويقوموا فيها بالأعمال(7/3513)
الصالحة وأنه سيعيدهم إليه ويجزيهم بالإحسان إحسانا، ومن كفر فله عذاب أليم، وقوِله تعالى: (إِلَيْهِ مرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) قدم الجار والمجرور على المبتدأ (مرْجِعُكُمْ) لإفادة القصر، أي إليه وحده المرجع والمآب كما أنه وحده الخالق المنشئ فالمرجع إليه وحده، ثم ذكر إمكان ذلك وتقريب قدرته تعالى على رجعهم إليه وحده فقال: (يَبْدَأ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) فهذه الجملة في مقام التعليل لقوله - سبحانه -: (إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) وتقريب وقوع ذلك وقدرته سبحانه وتعالى على الإعادة كما بدأ كما قال تعالى: (. . . كمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)، وكقوله: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ. . .).
وقد بين اللَّه تعالى أن ذلك هو النظام الذي سنه سبحانه وتعالى واختاره لخلقه فقال: (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا) أي إن ذلك وعد وعده الله تعالى عندما خلق الإنسان الأول وعاداه إبليس اللعين وأنزله من جنته. وقال سبحانه:
(قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39).
وقوله تعالى: (جَمِيعًا) ذكرت لبيان عموم من يعيدهم سبحانه، فسيعود إليه البر والفاجر والمطيع والعاصي والمفسد والمصلح، ثم ذكر سبحانه وتعالى غاية ذلك (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمنوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ): اللام للتعليل، أي لتعليل الرجوع إليه والإعادة بعد البدء، وفي التعليل بيان الغاية والمآب ويتحقق وعد اللَّه تعالى الحق الثابت الذي لَا يتغير ولا يتبدل، وقد ذكر الإيمان والأعمال الصالحة كشأن بيان اللَّه تعالى عند ذكر الثواب ولم يذكر سبحانه وتعالى الجنة والنعيم المقيم، ولكن ذكر ما يتضمنها وزيادة فقال تعالى: (بِالْقِسْطِ) أي الجزاء بالقسط فهو عدل من اللَّه تعالى، وعدله وفضله يوجبان الجنة وما فيها.
والرضوان والسعادة التي يتضمنهما أداء الواجب هو الثواب العدل للمؤمنين الصالحين، فهم شكروا النعمة ولم يكفروها وقابلوا فضل اللَّه بالقيام بالواجب(7/3514)
واعتدال النفوس وحالهم هي العدل والقسط، ويقول البيضاوي في تفسيره (بِالْقِسْطِ) أي بعدله أو عدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم، ونرى أن هذا كله تشمله كلمة (القسط) وليس ثمة ترديد بين واحد منها.
وبعد أن ذكر سبحانه جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات ذكر جزاء الذين يكفرون فقال سبحانه:
(وَالَّذِينَ كفَروا لَهُمْ شَرَابٌ منْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ) - ذكر القسط في جزاء الذين آمنوا على أنه مقابلة بين عمل صالح قويم مستقيم وجزاء عدل قويم، وذكر ما يستحقه المنحرفون من غير أن يذكر ما يدل على أنه جزاء، وذلك للدلالة على أن الجزاء مع عدله تفضل من اللَّه، وأن الكافرين حرموا من هذا الفضل ونالهم ما يستحقون، ولبيان أن الرجوع إلى اللَّه تعالى يقترن بالجزاء الذي هو عدل، وأن الناس خلقوا ليقوموا بالإصلاح، وإن الإعادة ليجازوا على هذا الإصلاح، أما المنحرفون المفسدون فإنهم ينالون ما يستحقون بسبب انحرافهم عن الفطرة التي فطر عليها الناس. وابتدأ سبحانه بالجملة الاسمية (وَالَّذِين كَفَروا) وذلك فيه أمور ثلاثة مؤكدة لشدة العقاب:
الأولى - الجملة الاسمية المؤكدة للحميم.
الثانية - التعبير بالموصول الذي يعتبر أن الكفر علة الحكم.
الثمالثة - اللام في قوله تعالى: (لَهُمْ شَرَابٌ) فإن اللام تفيد أنه أمر مختص بهم وليس لهم غيره.
والحميم: الحار الشديد الذي يقطع الأمعاء، فيقال: حممت الماء أي أحمه فهو حميم أي محموم، بمعنى مفعول إذا كان حارا حرارة شديدة تزيد عما يطيقه الجسم؛ ولذا قال اللَّه تعالى:
(هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)، وقال: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44).(7/3515)
وذكر سبحانه سبب هذا الذي ينالهم فقال: (بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ) جمع هنا بين الماضي والمستقبل، ودل هذا على استمرارهم في الكفر الذي فعلوه أولا ثم استمروا مجددين للكفر آن بعد آن، وقانا اللَّه تعالى شر الضلال وانحراف العقول.
قال تعالى:
* * *
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
* * *(7/3516)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
يبين سبحانه وتعالى أنه خالق السماوات والأرض وأنه ما خلقهما عبثا، بل سخرهما للإنسان ليشكر أو يكفر، وأن المرجع إليه سبحانه وتعالى يحاسب كل امرئٍ بما كسب، وأنه الحكَمُ العدل الذي يجزى به كل نفس بما كسبت.(7/3516)
وفى هذه الآيات فصل نعمته على مخلوقاته وكيف هي مسخرة لهم، فجعل الشمس ضياء والقمر نورا، جعل الشمس ذاتها ضياء، فكتلة كلها ضوء، ويقول بعض المفسرين: ذات ضياء، ونحن نقول: إن الشمس ذاتها ضياء، والقمر نور، أي ذا نور، وقلنا في القمر ذو نور، لأن ضياءه ليس من ذاته إنما هو من توسطه بين الأرض والشمس، ونوره عرضي وليس ذاته نورا كالشمس في أن ذاتها ضياء، ولقد أدرك هذا بعض المفسرين الأقدمين الذين لم يعنوا بدراسة الأجرام السماوية.
فقد قال البيضاوي: أنه سُمي " نورا " للقمر للمبالغة، فهو أعم من الضوء، وقيل ما بالذات ضوء وما بالعرض نور، وقد بينه سبحانه وتعالى بذلك أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها والقمر نيرا بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها، وهذا ما يقرره علماء الكون، وفي الواقع أن ضياء الشمس حقيقي، فهي كالمصباح والنور ينبثق منه، والقمر لَا ضياء فيه وإنما نوره نسبي في انعكاس ضوء الشمس عليه، ولذا كان له منازل، وقد ينطمس على الأرض قال تعالى: (وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ) فهو يبتدئ هلالا يكبر شيئا فشيئا حتى يصير بدرا ثم يعود يصغر شيئا فشيئا حتى يكون المحاق.
ولذا قال تعالى: (وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)
وقال بعض المفسرين: إن ما قدر منازل ليس هو القمر وحده بل الشمس والقمر، والمعنى: قدرهما منازل، فالشمس منازل كالقمر، ولكن منازل القمر سريعة يومية ومنازل الشمس ليست كذلك، وإن كان لها أثرها فالتقدير نسب إلى القمِر ابتداءً والمراد هما، كعِود الضمير على التجارة في قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا تجَارَةَ أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَركوكَ قَائِمًا. . .)، ونحن نرى أن المنازل للقمر؛ لأنها الظاهرة ولأنها التي نعلم بها الأيام والأشهر والسنين القمرية، وبعض المفسرين يقول: منازل أي ذا منازل، ونحن نرى أنه لَا حاجة إلى تقدير (ذا)، لأن المنازل في ذات رؤية القمر يبدو صغيرا ثم يكبر وبعد أن يصير بدرا يعود صغيرا كما بدأ (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتَّى عَادَ كَالْعرْجُونِ الْقَديم)، ويبين سبحانه أن الحكمة في هذا أن تعلموا عدد السنين والحسَاب، أي عدد السنين بعدد الأشهر والأيام والحساب، وقالوا إن العدد في السنين والحساب في الأوقات، فيعلم عدد السنين بدوران القمر وابتداء كل شهر والأيام برؤية القمر ليلا، والعربي كان يعرف(7/3517)
اليوم في الشهر برؤية مقدار الهلال فيعرف أنه في الليلة الأولى أو الثانية أو الثالثة إلى العاشرة في سماء العرب الصافية.
وإن ذلك بنظام ثابت لَا يتغير ولا يتحول، وإحكام في الخلق والتكوين؛ ولذلك قال تعالى: (مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ) الأمر الثابت الذي يسير على سنة محكمة هي سنة الله ولن تجد لسنة اللَّه تحويلا.
ثم يبين سبحانه وتعالى أن ذلك كله من آيات اللَّه تعالى التي بينها فقال تعالى: (يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) والجملة مستأنفة، لبيان خلق اللَّه تعالى - يفصل، أي يبين الآيات الدالة على كمال خلقه ووحدانيته (لِقَوْمٍ يَعْلَمُون) ويدركون الحق ويؤمنون به ويذعنون لفاطر السماوات والأرض، ومدبرهما.
وإن اتصال الأرض والشمس والقمر يكون منهما الليل والنهار، كما أن اتصال الشمس بالقمر والأرض يوجد منه نور القمر، وتوجد منه منازله ويكون منه العلم بعدد السنين والحساب، وقد بين سبحانه أثر اتصال الشمس بالأرض فقال تعالى:(7/3518)
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
(إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
واختلاف الليل والنهار بمعنى تعاقبهما بأن يكون كل خلفة للآخر، فالليل يعقب النهار، والنهار يعقب الليل، تشرق الشمس على الأرض في دورانها فيكون النهار، ويكون ذلك الإشراق في جزء من الأرض، وفي دورانها تخفى الأرض نصفا منها فيكون ليلا وفي النصف الآخر النهار، وهكذا تتعاقب الأيام والليالي وهكذا النظام الذي ابتدعه منشئ الوجود رب العالمين، وهناك اختلاف بين الليل والنهار تشير إليه الآية أيضا وهو الاختلاف طولا وقصرا؛ فأحيانا يطول النهار ويقصر الليل، وأحيانا يطول الليل ويقصر النهار، وأحيانا يستويان؛ وذلك من تحرك الشمس في فلكها وحسب قربها من الأرض قربًا نسبيا وبعدها عنها نسبيا، ويشير سبحانه إلى ذلك في قوِله شعالى: (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُل فِي فَلَكٍ يسْبَحونَ)، فالشمس تدور في فلكها(7/3518)
والقمر يدور حول الأرض في فلكها، والأرض فراش الإنسان مهَّدها له العلي القدير.
ولقد قال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَات لأُوْلِي الأَلْبَابِ)، أي العفول المدركة، وهكذا كان الكون وما يجري فيه من الآيات والنذر، ولكن ما تغني الآيات والنذر عن قوم لَا يؤمنون.
ويقول سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقَ اللَّه فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْم يَتَّقُونَ) هذا توجيه النظر لما في السماوات والأرض من نجوم وكواكب.
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11).
فأشار سبحانه وتعالى إلى الكون في إنشائه وتنوعه وتفاوته وتدبيره وإحكامه وتماسكه وأنه لَا فروج بين كواكبه ونجومه وأنها متماسكة بالجاذبية.
(لآيَات لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ) هذا اسم إن في قوله تعالى: (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) وإن (اللام) لام (التوكيد)، والآيات جمع آية، وهي الأمر الكوني الدال على وحدانية اللَّه وكمال قدرته وإبداع الكون على غير مثال سبق، وأنه سبحانه منشئ الكون بإرادته.
وهذه الآيات لَا يدرك مغزاها وما توحي به إلا القوم المتقون، الذين امتلأت قلوبهم بالإدراك ومراقبة أنفسهم، يخافون العواقب ويقدِّرون الأمور تحت سلطان التقوى، يعلمون أن اللَّه الواحد الأحد منشئ الكون وحده هو المعبود وحده لا معبود سواه.
وقد ذكر سبحانه من يدركون بأنهم الذين (يعلمون)، ومرة أنهم (يؤمنون) وأخرى أنهم (يوقنون)، ومرة رابعة بأنهم (يتقون)، وهم الذين يدركون ما تدل(7/3519)
عليه الآيات، ومن لَا يدركها ليس عنده علم ولا إيمان ولا يقين ولا تقوى، وعدم إدراكهم ناشئ عن ظنهم أن الحياة الدنيا هي كل شيء فلا يتدبرون ما بعدها وينكرون البعث، ولذا قال تعالى:(7/3520)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
(إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
ذكر سبحانه آياته الكبرى في خلق السماوت والأرض الدالة على أنه أنشأ كل شيء وأن من أنشأه ابتداء يستطيع أن يعيد ما أنشأ، كما قال: (. . . كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ. . .).
وبعد ذلك ذكر الذين ينكرون البعث والنشور والقيامة والحساب، وأنهم لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا لانغماسهم في الأهواء والشهوات، وفسدت مداركهم فلا يفكرون في عواقب أمورهم، وكلما غلبتهم الشهوات ألْهَتْهم عن التفكير في خلق اللَّه تعالى وما يدل عليه، وعن التفكير في الآيات والنذر وما تدعو إليه من إيمان ثابتة دلائله.
اليوم الآخر، هو ما يكون من بعث وحساب وجزاء، وقد قال سبحانه:
(الَّذِينَ لَا يرْجُونَ لِقَاءَنَا) إشارة إلى استهانتهم بأنفسهم وخالقهم، ولبيان المهابة في لقاء هذا اليوم والإشعار بأنه يوم خطير على الكافرين عسير.
كما أضاف سبحانه لحال إنكارهم الرضا بالفانية ومتعها بدل الحياة الأخرى الباقية بنعيمها الباقي، ورضوا بالقليل الحاضر عن الكثير المقيم، ولذا قال سبحانه: (وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأنُّوا بِهَا).
أي أنهم رضوا وقنعوا بها لم تمتد أنظارهم إلى ما وراءها فشغلوا بالطريق وما به من منافع قصيرة عن المرتجى والمنتهى، لأن الحس استغرقهم ولم يجعل في نفوسهم مكانا للنور يدرك به الحق، واطمأنوا وسكنوا لملذاتهم وشهواتهم وقالوا في ذات أنفسهم: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَموتُ وَنَحْيَا وَمَا نحْن بِمَبْعُوثِين).(7/3520)
وقد وصفهم سبحانه بالغفلة عن آياته: (هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ) وهذه جملة معطوفة على ما قبلها.
الوصفان متغايران وإن كانا متلازمين.
أولا - وصفهم بعدم توقع لقاء اللَّه وأنهم قنعوا بالحياة الدنيا وما فيها واطمأنوا إلى ذلك واكتفوا به.
ثانيا - وصفهم بالغفلة، وأن الرضا بالحياة الدنيا والاقتناع بها لَا يكون إلا من غير المدركين المتنبهين لحقيقة الحياة وما بعدها.
وقد أكد سبحانه وتعالى غفلتهم بسبب انغماسهم في الأهواء والشهوات بالجملة الاسمية.
وفى ذلك أبلغ تأكيد لغفلتهم عن آيات اللَّه الكونية والأحكام التكليفية فكفروا وفسقوا عن أمر ربهم، وقد حكم اللَّه حكمًا صارمًا قاطعًا فقال:(7/3521)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
(أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) فهذه الآية الكريمة في مقام خبر (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُون لِقَاءنَا) وهي خبر (إن) بمقتضى السياق، ويكون الخبر مؤكداب (إنَّ) ويتضمن اسمها (أي اسم إن) سبب الحكم وهو الخبر؛ لأن اسم الموصول تضمنت صلته أنهم لم يتوقعوا لقاء اللَّه فانهمكوا في الشهوات وقنعوا بالدنيا وغفلوا عن آيات اللَّه، وكل ذلك تأكيد لسبب الحكم وهو أن يكون مأواهم النار.
وهنا نجد أسبابا تضافرت وأوجبت عقابهم:
أولا - اغتروا فلم يتوقعوا لقاء اللَّه.
ثانيا - رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وهووا في اللذات مرتعا.
ثالثا - غفلوا عن آيات اللَّه القرآنية الكونية والتكليفية.
وهذه أسباب متتابعة بعضها يتبع بعضا وكلها آثام، وقد قال تعالى: (أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ) والإشارة إلى الأوصاف السابقة واستحضارها إشعار بأنها السبب في هذا الجزاء.(7/3521)
(مَأوَاهُم النَّارُ) معناه المكان الذي يأوون وينتهون للإقامة فيه وكان القصد من المآوى الاستراحة لَا العذاب.
وقد علل اللَّه العقاب بقوله: (بِمَا كَانوا يَكْسِبونَ) والباء للجزاء والمقابلة بين ما فعلوا وما انتهوا إليه، والجمع بين الماضي في (كَانوا) والمستقبل في (يَكْسِبُونَ) دليل على الدوام والاستمرار فكانوا في غيٍّ مستمر، وبعد أن بين سبحانه حال وجزاء الذين لَا يرجون لقاءه ذكر في مقابله الذين آمنوا(7/3522)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10).
هذا جزاء الذين يرجون لقاء اللَّه ويتوقعونه مستيقنين به؛ لأنهم آمنوا فيخافون العذاب ويرجون الثواب (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) ذكر اللَّه لهم جزاءين أولهما - أنهم بسبب الإيمان والعمل الصالح يهديهم ربهم إلى الحق دائما فلا تغمرهم الشهوات ولا يرتعون في الفاسد؛ لأن الإيمان نور في قلب المؤمن، به لا يفكر إلا في الحق، ولا يقول إلا الحق، ولا يعمل إلا الحق وسيره بين الناس لا يكون إلا بالحق، وقد قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم " (1) ذلك أن النور يهدي فيزداد المؤمن بإيمانه إيمانا.
والعمل السيئ تَظْلُمُ به النفس فتضل، تبدأ في طريق الضلالة وتنتهي إلى الضلال البعيد، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " يتلقى المؤمن عمله في أحسن صورة فيؤنسه ويهديه، ويتلقى الكافر عمله في أقبح صورة فيوحشه ويضله " (2)، وفي قوله تعالى:
(يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ) إشارتان:
أولاهما - أن ذلك من الربوبية فهو يربي نفوس المؤمنين بما يهيئها للخير
________
(1) سبق تخريجه.
(2) ذكره القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: ج 8/ 312 بنحوه.(7/3522)
والحق دائما، كما قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)،
فإذا ألهمت التقوى سارت في طريقها تبلغ غايته، وهذا أمر معنوي تطيب به النفوس المؤمنة وترضاه وتطمئن به.
ثانيتهما - جزاء مادي في اليوم الآخر، وهو روح وريحان (تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ) أي أنهم يدخلون الجنة تجري من تحتها الأنهار.
وهنا إشارتان بيانيتان:
الأولى - أنه إذا كان ثمة جزاءان فإنه يعطف بينهما بالواو ولكن لَا عطف، وذكرا منفصلين فما حكمة ذلك؛ نجيب قائلين: إن الانفصال هو الأوْلى؛ لأن زيادة الإيمان في الدنيا وجريان الأنهار تحت الجنان في الآخرة. هو جزاء للأول وثمرة له فكان مقتضى ذلك أن يذكر منفصلا عنه، وتجري من تحتهم هو جريانها من تحت المستقَر الذي استقروا عليه تعطيهم منظرا يسر الناظرين وتنعم به النفس والقلب والعين، وتكون الراحة الخالدة.
الثانية - أنه سبحانه قدم جريان الأنهار من تحتهم على جنة النعيم، للمبادرة بذكر المتعة النفسية الروحية، ولبيان أنها تحتهم هم، وذكر بعد ذلك أن هذا في جنات النعيمِ، أي في الجنات التي خصصت للنعيم أو هي النعيم ذاته، وفي قوله تعالى: (يهْدِيهِمْ رَبُّهمْ بِإِيمَانِهِمْ) اقتصرت الهداية على أنها بالإيمان مع أنه ذي الإيمان والعمل الصالح، فلماذا اختص الإيمان بالذكر هنا؛ نقول عن ذلك أمرين: أولهما - أن العمل الصالح ثمرة من ثمرات الإيمان الذي هو النور الهادي والمصباح المضيء فذكر الإيمان استتبع ذكر ما هو أثر له.
ثانيهما - أن الإيمان وحده هو الذي يهدي.
وبعد ذلك ذكر سبحانه نعيم الجنة المادي والنعيم الروحي وهو تسبيح وسلام وحمد لله رب العالمين، فقال تعالى:
(دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)(7/3523)
دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
الدعوى هي مصدر دعا - يدعو، كالشكوى، في شكا - يشكو. والدعوى في الدنيا طلب الحق والطلب من اللَّه تعالى.
ودعاؤهم لله تعالى هو تقديسه وتسبيحه وتنزيهه؛ لأنهم وصلوا إلى أقصى الغايات والمنى فلم يبق إلا أن يسبحوه ويقدسوه وينزهوه، و (اللهم): هو نداء لفظ الجلالة، أي سبحانك يا إله العالمين ويارب هذا الوجود وخالقه.
(وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ) أي أمن ودعة واطمئنان، وهذه التحية تتبادل بينهم بالأمن والسلام والاستقرار وتحية الملائكة المقربين لهم سلام، كما قال تعالى: (. . . وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)، وتحية من ربهم ورب هذا الوجود كما قال تعالى: (سَلامٌ قَوْلًا مِّن رَّبٍّ رحِيمٍ).
فحياتهم في الجنة تقديس لله وتنزيه وتحيات مباركة وأمن دائم.
(وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) أي آخر دعائهم حمد اللَّه سبحانه وتعالى؛ لأن ما سبق نِعَمْ؛ التقديس نعمة والتحيات نعمة وكلاهما يستحق الحمد.
يقول الزمخشري: " أَن " هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن.
ويقول البيضاوي: لعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمة اللَّه تعالى وكبرياءه مجَّدوه ونعتوه بنعوت الجلال ثم حياهم الملائكة بالسلامة من الآفات والفوز بأصناف الكرامات، فحمدوا اللَّه وأثنوا عليه بصفات الإكرام. ابتدأوا بالتقديس وانتهوا بالحمد. فاللهم اجعلنا منهم وإن لم نعمل عملهم ولكنك غفور رحيم.
* * *(7/3524)
النفس الإنسانية في ضرائها وسرائها
قال تعالى:
(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
* * *
في هذه الآيات الكريمات يبين سبحانه وتعالى لطفه بعباده وإجابته لهم عند الاستغاثة به، وبيان الذين لَا يرجون لقاء اللَّه تعالى، وأنه أمهلهم ليتدبروا إن كان فيهم من يفقه ويدرك، وابتدأ سبحانه ببيان أنه يعجل الخير ولا يعجل الشر.
وفي قوله:(7/3525)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ) - " لو " هنا حرف امتناع فهي تتضمن النفي، ينفى اللَّه أن يعجل وينفَى سبحانه جواب الشرط أيضا وهو (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) أي ينهى أجلهم لأنه سبحانه لَا يستعجل الشر ولا يعجله كاستعجالهم للخير.
وليس الشر هنا ما يفسد أو يضر إنما يراد به ما يسوؤهم ولو كان عدلا وجزاءً وفاقا لما يفعلون، والمعنى ولو كان اللَّه يعجل لهم ما يسوؤهم ويهددهم به(7/3525)
وينذر من عذاب أليم - كالرجفة أو ريح فيها عذاب أليم أو يجعل عالي الأرض سافلها أو يغرق كغرق قوم نوح - لانتهت آجالهم، وهذا معنى (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ)، وكانت - إلى - بدل اللام للدلالة على أن قضاء الأجل هو إنهاؤه ويتحقق فيهم قول اللَّه تعالى: (خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ. . .)، والخير الذي يستعجلون اللَّه وأنفسهم فيه ليس هو الخير في ذاته ولكنه الخير لأنفسهم - سواء أكان حلالا أم كان حراما، وإن اللَّه لَا يعجل السيئة التي تسوؤهم أو النازلة التي تنزل بهم إملاء لهم، عسى أن يكون من ظهورهم من يعبد اللَّه، ولذا قال سبحانه لمشركي العرب:
(. . . سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأملِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ).
فالإهمال ليس إهمالا ولكنه أولا: لتمكينهم من أن يعملوا صالحا إن أرادوه وثانيا: ليكون الجزاء الأوفى إذا استمروا في ضلالهم، وثالثا: ليعرفوا العبر.
وفى قوله: (فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهونَ) (الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كنا لم نعجل لهم العذاب الدنيوي - نذرهم في طغيانهم.
(نذرهم)، أي نتركهم لاهينِ عمين عن الحق وعن البعث غير مدركين، وعبَّر سبحانه بالموصول: (الَّذِين لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا) للإشارة إلى أن السبب في استمرار طغيانهم وتجاوزهم أنهم لَا يتوقعون لقاء اللَّه تعالى وتلقي الجزاء فيخافون، أو تلقي الثواب فلا يطغون، ولكن المناسب هنا هو جزاء الطغيان إذْ هو المذكور. والطغيان هو تجاوز الحد والاعتداء على الأشخاص فيسيرون وراء أهوائهم وشهواتهم وطغيانهم لَا يقفون عند حد من الحدود فيرتكبون ما شاءت لهم أهواؤهم بعد أن جعلوا إلههم هواهم.(7/3526)
(يَعْمَهُونَ) أي يتخبطون ويتحيرون، ومنشأ الحيرة أن فطرهم تدعوهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم ولكنهم يطمسونها بأهوائهم وملذاتهم وسلوكهم، فهم في حيرة نفسية، وإن من الحيرة إيمانهم بأن اللَّه خالق كل شيء وأنه المستعان عند الشدائد، وهو إذا أغاثهم عادوا كما بدأوا، كما يقول تعالى:(7/3527)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
(وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
ذكرنا في مواضع كثيرة أن العرب كانوا يعرفون اللَّه ولكن يشركون معه عبادة الأوثان، وغيرهم ما كان يعرف اللَّه إلا مع ثلاثة، أو يعرفونه حالا في بعض خلقه، أو لَا يعرفونه قط، فالعرب كانوا خيرا منهم أبي كان في الشر خيار، فكانوا يعرفون أن اللَّه وحده خالق الكون وأنه يُلجأ إليه في الشدة، وأنه ليس مثله أحد من خلقه، ولكنهم يشركون في عبادته وبذلك ضلوا ضلالا بعيدا.
ومما يدل على التجائهم في الشدة الالتجاء إليه في المرض الذي لَا يعرفون سببه وتتعدد أحواله، كما تذكرنا الآية الكريمة (وَإذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ) وهنا بيان الحقيقة وكمالها، أي الضر الذي بلغ حدا لَا يعرفون له علاجا ولا دواء، وأن الإنسان بإنسانيته المفطورة على الضعف يلجأ إلى ربه (دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) واللام في (لِجَنْبِهِ) بمعنى (على) وهي حال كونه مضطجعا على جنبه أو ملقى على جنبه لَا يستطيع حراكا لَا يملك أن يقعد، (أَوْقَاعِدًا) لَا يستطيع أن يقوم (أَوْ قَائِمًا) لَا يمشي كما اعتاد.
وتعدد هذه الأحوال للدلالة على أنه يدعو فيها كلها لَا في بعضها، وهذا دليل على شدة الالتجاء إلى اللَّه وكثرة الالتجاء.
أو يدعو في كل أحوال الأمراض ومنها ما يلقيه في الأرض، أو مرض يقعد فيه ولا يستطيع غيره أو يقوم من غير قدرة على السير، والمراد في كل الأحوال كثرة الدعاء لله وذلك مثل قوله: (. . . وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عرِيضٍ).(7/3527)
هذا حال الإنسان إذا مسه الضر فإذا كشف عنه الضر نسى ولم يفكر في حاله الذي كان عليه وضراعته إلى ربه وأنه الملجأ والملاذ؛ نسى ذلك نسيانا تاما، وطغت عليه وعلى تفكيره حال الصحة ونسي اللَّه ونسي ضعفه، وأنه لَا يمكنه العيش دون رعاية اللَّه وتدبيره، يقول سبحانه: (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضرٍّ مسَّه) (الفاء) عاطفة حال كشف الضر على حال الضعف والالتجاء إلى اللَّه، وهما حالان متباينان في ظاهرهما وإن كانا متوِافقين في الدلالة على ضعف الإنسان، كما قال تعالى: (. . . وَخُلِقَ الإِنسَان ضَعِيفًا)، ولكن الغرور هو الذي يوهمه بالقوة ويطغيه.
(فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ) (الفاء) عاطفة جملة الاستجابة على جملة الاستغاثة والضراعة، والعطف يقتضي المغايرة، وكانت المغايرة بين حال الإنسان في ضعفه واستكانته وحال قوته وتمكنه، ففي الأولى ضراعة واستغاثة، وفي الثانية غرور واستهانة.
(كَشَفْنَا عَنْهُ ضرَّهُ)، معناها أزلنا عنه حال الضر وكأنها كانت غشاء أخفى كفره فلما زال الغشاء عادت حقيقته كما كانت.
وقوله: (كأن لَّمْ يَدْعنَا إِلَى ضُرٍّ مسَّه) فيه (أنْ) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن، أي كان الشأن أنه لم يدع اللَّه إلى ضر مسه وذلك شأن اللئام من بني الإنسان، ينسى الإحسان في وقت القوة وكهؤلاء الُّلؤَماء الكافرين في نفوسهتم، كذلك قال اللَّه تعالى: (كذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كانوا يَعْمَلُونَ) أي كهذه الحال التي عليها المريض الضعيف الذي كشف اللَّه تعالى عنه الضر فنسي في عافيته ما كان في مرضه، كهذه الحال زيِّنَ للمسرفين ما كانوا يعملون، أي أنهم نسوا حال خلقهم وتكوينهم والإيمان بربهم وزين لهم الغرور والإسراف فيه ما كانوا يعملونه من شرور وآثام وظلم للعباد وطغيان في أنفسهم، وإسرافهم في الشر يجترعونه اجتراعا، وعبر اللَّه عن الجاحدين المنكرين الذين لَا يرجون لقاءه بالمسرفين؛ لأنهم أسرفوا على أنفسهم فاعتقدوا الباطل واعتقدوا أن الحياة الدنيا هي الوجود كله وأسرفوا على الناس فطغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد.(7/3528)
ويسوق اللَّه العبر في آياته فلا يعتبرون؛ لأنه قد زين لهم ما كانوا يعملون، أي ما استمروا على عمله، لأنه بالجمع بين الماضي في (كَانُوا)، والمستقبل في (يَعْمَلُونَ). يسوق اللَّه تعالى العبر ولا معتبر، ولذا قال سبحانه:(7/3529)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
القرن: الجيل، والقرون: الأجيال، وليس هلاك هذه الأجيال إهلاكها كلها وإنما الإهلاك للمكذبين منهم، فأهلك قوم نوح وأبقى المؤمنين ولما أهلك عادا وثمودا، أبقى المؤمنين، وأهلك من قوم لوط المفسدين وأبقى المؤمنين وهكذا، وفي قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ) إشارة إلى وجوب الاعتبار بهم، كما قال سبحانه: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِين).
(لَمَّا ظَلَمُوا) أي أن الهلاك كان عند ظلمهم وبسببه، وأن ظلمهم كان سببه الشرك وإن الشرك لظلم عظيم، حرموا ما أحل اللَّه وأحلوا ما حرمه، وكانوا طغاة كفرعون وأمثاله، فطغوا في البلاد، وظلموا العباد، واستغلوا قوى الناس بغير مبرر إلا أهوائهم.
ظلموا الرسل بتكذيبهم - قال تعالى: (وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ) أي بالمعجزات الواضحة الدالة على الرِسالة الإلهية التي حملوها فما طغى المجرمون عن غير بينة: (. . . وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِين حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، (. . . وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِير).
تكاثفت ظلماتهم وتوالى شرهم وفسدت نفوسهم حتى اسودت وما عاد للحق فيها موضع، فبين سبحانه أنه لَا إيمان لهم بعد أن أظلمت قلوبهم، قال تعالى: (وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا) أي ما استقام لهم ليؤمنوا، و (اللام) هي التي تسمى بلام الجحود، ولا يستقيم لهم الإيمان لاسْوِدَاد قلوبهم وطمس نورها فلا يدخلها(7/3529)
نور الحق، فهي في ظلمات دائمة مستمرة (كذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ)، أي كهذا الجزاء الذي جزيناهم به من الهلاك الذي نزل بهم وكطمس قلوبهم فلا يؤمنوا نجزي المعاندين، وقد وصفهم سبحانه وتعالى بالإجرام وأن ذلك هو الذي أدى إلى هلاكهم، وإجرامهم كان في كفرهم وطغيانهم وفسادهم في الأرض وهذه عبرة ساقها القرآن لمن يعتبر، وخاطب بها المشركين الذين يعبدون الأوثان ليعتبروا فقال تعالى:(7/3530)
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
(ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) (ثُمَّ) هنا لمعناها من الترتيب والتراخي، وأن التراخي فيها يدل على تعدد الأجيال وكثرتها وما تركته من عبر وآثار تدل على عاقبة أمرهم، وهم على مقربة منهم يسيرون في أرضهم، و (خَلائِفَ) جمع خليفة وهم الذين يسكنون في مساكنهم كما قال تعالى:
(وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكمُ الأَمْثَالَ).
إن هذه الخلافة في الأرض التي فيها العبر والرسوم الدالة على مآل الذين ظلموا فيها وقاوموا الأنبياء وكذبوهم، وهي كافية لاعتبارهم واهتدائهم إن غلبت عليهم الهداية، أو ضلالهم إن غلبت عليهم الشقوة؛ ولذا قال تعالى: (لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)، (اللام) للتعليل أو الغاية، وهي هنا للغاية، وضمير المتكلم وهو اللَّه ذي الجلال والإكرام، والنظر من اللَّه تعالى لأمور أنها واقعة لَا أنها متوقعة، فهو يعلم الأمور كلها ما حضر وما غاب وما كان وما يكون، والنظر هنا إلى ما هو واقع أهو الهداية والاهتداء أم هو الضلالة والابتعاد؛، و (كيف) استفهام عن حالهم وواقعهم هدى أم ضلال.
* * *(7/3530)
القرآن معجزة الله الكبرى طلبوا غيره
قال تعالى:
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
* * *
المعجزة الكبرى والحجة الباقية الخالدة إلى يوم القيامة، ما كانت عظمتها في أنها تقرع الحس قرعا لتنقضي بانقضاء عهدها كالمعجزات الحسية للأنبياء، والتي انتهت بانتهاء وقتها، وإنما عظمة هذه المعجزة الكبرى في خلودها، فيجيء الناس خلقا بعد خلق، وجيلًا بعد جيل، وهي قائمة باقية بقاء النبوة المحمدية، تحاجَّ الجاحدين لها في كل العصور، لأنها معجزة خاتم النبيين الذي لَا نبي بعده حتى يوم الدين.(7/3531)
وإن المشركين يتبرأون في إشراكهم بإنكار نبوة رسولهم، فكان لابد من أن ينكروا رسالة محمد ليسوغوا كفرهم وعنادهم، مع أن اللَّه تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، ثم جاءوا يجادلون في أمره وكانوا قوما خصمين؛ يجادلون في كل شيء حتى القرآن بل يجادلون في اللَّه وهو شديد المحال.
جادلوا في القرآن وقد عجزوا عن أن يأتوا بمثله فقال تعالى عن ذلك:(7/3532)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) والذين يجادلون في الآيات هم الذين لَا يتوقعون لقاء اللَّه أي يكفرون بِالبعث والنشور ويقولون: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِين)، وفي هذا إشارة إلى أن فيصل التفرقة بين الإيمان والكفر هو الإيمان بالغيب. والإيمان بالبعث والنشور، فإن الذين لَا يؤمنون بالغيب لَا يؤمنون باللَّه؛ لأن اللَّه سبحانه لَا نراه إنما هو القوة التي أنشأت الوجود وسيطرت عليه جل جلاله، فمن لم يؤمن بالغيب لَا يؤمن باللَّه العلي القدير، ومن لَا يؤمن باليوم الآخر لَا يمكنه الإيمان بالتكليف الإلهي؛ لأن الجزاء على ما يعمل الإنسان، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فهو يحسب أن اللَّه ترك الإنسان سدى، يموت ويحيا من غير تبعات يتحملها، ولا غاية يرجوها، بل يأكل ويشرب كالأنعام بل أضل سبيلا، فأساس الهداية الإيمان باليوم الآخر والحساب والثواب والعقاب، يقول تعالى: (وِإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ) الآيات البينات القرآن، وتلاوته مرتلا قال تعالى: (كذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا).
فالتلاوة قراءة القرآن كما أقرأ جبريلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالقرآن محفوظ بذاته وروايته وترتيله عن اللَّه تعالى ومتواتر بلفظه وقراءته، وإن المشركين الذين لا يرجون لقاء اللَّه مع تحديهم وعجزهم عن أن يأتوا بمثله، يقولون كافرين متدللين: ائت بقرآن غير هذا، وفي قولهم هذا لَا يحتجون على أن المعجزة قرآن يتلى، وإنما يطلبون غيره من غير حكمة يقدرونها، ولا أمر يتعلق بالقرآن يريدون خلافه، كأنهم لَا يريدون تكليفاته ولا يريدون ما فيه من محاربة عقائدهم وشركهم، وهل(7/3532)
إذا جاء غيره لن يكفروا به أيضًا، وإن هؤلاء المشركين حسبوا أن محمدا هو الذي أتى بهذا القرآن أو ادعوا ذلك، مع أن بُلغاؤهم المتمرسين بالبيان قالوا: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ما يقول هذا بشر، ومع هذا طالبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بغيره أو يبدّله، فإن جاء لامته الحجة بأنه ليس من عند اللَّه بل هو من عنده، وقولهم: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ) ففي التغيير تسليم بأن المعجزة تكون قرآنا ولكن يريدون غيره، أما التبديل فهو يكون بإتيان معجزة عدا القرآن كعصا موسى، أو إبراء الأكمه والأبرص أو إحياء الموتى بإذن اللَّه لعيسى أو غير ذلك من المعجزات الحسية. . وقد طلبوها كما قال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94).
هذا فيما نحسب هو التبديل الذي أرادوه بأن يستبدل المعجزة القرآنية بمعجزة حسية مادية لأنهم لَا يؤمنون، ولقد رد عليهم النبي يقول اللَّه تعالى: (قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) وهذا الرد كان على التبديل؛ ولذلك نقول: أن الجواب أحد أمرين:
الأمر الأول - أن يكون إغفالا لطلب الإتيان بقرآن غير هذا باعتباره كلاما عابثا؛ إذ ما داموا قد سلموا بالمعجزة القرآنية، فلا فرق بين قرآن وقرآن، ما داموا قد عجزوا عن الإتيان بمثله.
ثاني الأمرين - الذي يحتمل أن يكون فيه الجواب، أن التبديل للمعجزة يشمل تغيير القرآن والإتيان بمعجزة أخرى فكان الرد على التبديل شاملا(7/3533)
الاعتراضين، وفي رد النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي) أي ليس لي أن أختار العجزة من تلقاء نفسي إنما الاختيار لله سبحانه وتعالى، ولذا قصر عمل الرسالة على اتباع ما يوحي اللَّه به فقال لما أمره ربه: (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (إنْ) نافية أي: لَا أتبع إلا ما يوحى إليَّ، وما يجيء من ربي فهذه المعجزة قدرها سبحانه لَا أخالفه ولا أعصيه، ليس لي ولا لأحد أن يعترض عليها ما دامت مثبتة للرسالة وما داموا عاجزين عن الإتيان بمثلها، وإن في ذلك العصيان وعاقبته، وبهذا قال - صلى الله عليه وسلم - كأمر ربه: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
وفى هذا إنذار لعصيانهم واعتراضهم.(7/3534)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
(قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
وفي هذا تأكيد أنه من عند اللَّه تعالى، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَا يبدله من تلقاء نفسه وإنما الذي يبدله هو اللَّه تعالى كقوله: (قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُم بِهِ) مفعول المشيئة محذوف دل عليه ما بعده - أي لو شاء اللَّه تعالى ألا أتلوه ما تلوته، وذكر قوله تعالى: (عَلَيْكُمْ) للإشارة إلى أنهم المقصودون بالتلاوة ليدركوا مغزاها وما فيها من إعجاز وتكليف، ثم قال تعالى: (وَلا أَدْرَاكُم) أدراكم أفعَلَ من (دَرى) بمعنى علم، أي: ولا أعلمكم به، ولكنه اختار تلك الحجة لكم لبلاغة كلامها الذي يبقى مسجلا تتلقاه الأجيال جيلا بعد جيل إلى يوم الدين، فالمعجزات الحسية واقعات تنتهي بانتهاء زمانها، أما هذا الكتاب فباق إلى يوم القيامة، لأنه معجزة خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول: " ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر وإن ما أوتيته وحيا أُوحي إليَّ وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " (1).
(وَلا أَدْرَاكُم) قرأه ابن كثير بلام التوكيد وليس بلا النافية، فيكون المعنى ولو شاء لأعلمكم به وجعلكم تؤمنون بصدقه، والواو عاطفة على نية تكرار الفاعل.
________
(1) سبق تخريجه.(7/3534)
ثم يبين سبحانه صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصدق والأمانة وشرف النفس مما يوجب تصديقه فقال تعالى: (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ) أميا صادقا لَا أقول شعرا، ولا كنت خطيبا فيكم، ولقد علمتم قولي وكيف اختلف عما أتلوه عليكم، وقد كنت وإياكم في بلد أمِّي لَا علم فيه ولا درس، لم أمارس علما أو ألق عالما، ثم قرأت عليكم كتابا أعجزكم بيانه وفصاحته وما فيه من علم غزير بالحلال والحرام والأخبار الصادقة، وقصص فيها العبرة لمن يعتبر، هكذا كان عمري فيكم قبل البعث.
(أَفَلَا تَعْقِلُونَ) أظلا توازنون بعقولكم بين الحاضر، وبين ماض لَا يتفق وما جئتكم به.
وإن توجيههم إلى الماضي النبوي الكريم يدل على أمرين:
أولهما - أنه صادق شريف ينبغي الإيمان بقوله، وأنه لَا يدعي باطلا وأولى به ألا يكذب على الله إذ كان لم يكذب قط قبل.
ثانيهما - أنهم عرفوا كلامه وأنه كان بليغًا، وأنه لم يقرض شعرًا، ولم يرق منبرًا، فهذا الذي يتلى ليس من نوع كلامه ولا يمكن أن يكون من كلام أحد.
وقوله تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الفاء) متأخرة عن تقديم، مترتبة على ما قبلها وأُخرت لمكان الاستفهام من الصدارة، والاستفهام إنكاري بمعنى نفي الوقوع، داخل على نفي، وهو (لا) ونفي النفي إثبات، فهو تحريض على التفكير والتدبر وألا يركب الشيطان رءوسهم فيهملوا عقولهم ويكونوا قوما بورا.
وهكذا كل من أهمل القرآن وتركه يريد معجزه أخرى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهمْ يَتَفَكَّرُونَ).
ثم أشار سبحانه إلى ظلم من كذب على الله أو كذب بآياته فقال تعالى:(7/3535)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
" الفاء " للإفصاح عن شرط مقدر، تقديره: إذا كان من عندي كما تدعون وكما تفترون، (فَمَنْ أَظْلَمُ) والاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الوقوع، أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا بأنه من عند الله وما هو من عند الله، وهنا يبين سبحانه أن نبيه لَا يمكن أن يكذب على الله، لأن ذلك أشد الظلم وأقبحه، وأن الله لَا يختار لنبوته كذابا كقوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أوحِيَ إِلَيّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ. . .).
ويكون النص على هذا إثبات أن القرآن الذي تلاه عليهم هو من عند الله؛ لأنه ليس بظالم، فضلا عن أن يكون أظلم الناس، إذ هو الصادق الأمين الذي عرفتموه، وهو تنديد بالمشركين؛ فهم أظلم الناس، لأنهم افتروا على الله تعالى إذ أشركوا به غيره، وأي افتراء أكبر من ذلك، ثم هم قد سفهوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وافتروا عليه الكذب. وقد بين سبحانه شعبة أخرى من ظلم المشركين الذي لَا يماثله ظلم، وهو تكذيب القرآن الكريم وإنكار نسبته إلى الله تعالى، وكذبوا الدلائل الواضحات في الخلق والتكوين فأشركوا بالله؛ لأن هذه الآيات الكونية تدل على أن الله واحد أحد ليس له ولد ولم يكن له كفوا أحد.
(إِنَّهُ لَا يُفْلِح الْمُجْرِمُونَ) الضمير هو ضمير الشأن، أي أن الحال والشأن أنه لا يفلح أي لَا يفوز ولا ينجح، وقد أكد نفي فلاحهم: أولا: بالجملة الاسمية، ثانيا: بـ (إنَّ) الدالة على التأكيد، ثالثا - أنه وصفهم بالإجرام وهو الشرك وكسب الفساد.
ولقد بين الله تعالى جرمهم الأكبر وهو الشرك فقال سبحانه:(7/3536)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
" الواو " واصلة ما بعدها بما قبلها، والضمير في (يَعْبُدُونَ) يعود إلى المشركين، والذين لَا يرجون لقاء اللَّه، وينكرون البعث والنشور، ويحسبون أنهم خلقوا عبثا وأنهم إلى اللَّه لَا يرجعون، جعلهم ذلك الإنكار يسيرون في متاهات من الضلال تكاثف بعضها فوق بعض، فينقلبون في دركات الضلال دركة بعد دركة حتى ينتهوا إلى الشرك وهو الضلال.
(وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ)، (مِن) بيانية، أي أن معبودهم غير اللَّه تعالى الخالق لكل شيء مالك كل شيء الذي يدعونه مستغيثين في الشدائد ولا يلجأون إلى غيره فيما يُروِّعهم في السماء والأرض، وأنهم يستبدلون بعبادته حجرًا لَا يضر ولا ينفع، لَا يضرهم فيخافوا أذاه، ولا ينفعهم فيعبدوه رجاء خيره ونفعه.
(لا) في قوله تعالى: (وَلا يَنفَعُهُمْ) لتأكيد النفي السابق، فالعبادة تكون رهبة من الضرر أو رجاء للنفع، وهَؤلاء ضلوا ضلالا بعيدا فعبدوا ما لَا يُخاف ولا يُرجى.
وهكذا ركبهم الوهم والشرك كله أوهام في أوهام، ليس لهم عقل مدرك ولا بصيرة تميز الحق من الباطل، وهم في عمى وغفلة عن الحقائق، وإن الديانات التي تقوم على الأوهام كالنصرانية الحديثة تقوم على أوهام ليس لها منطق عقلي يدركها.
ولقد زينت لهم الأوهام عبادة الأحجار، ثم زينت لهم أمرا آخر هو ظنهم أن لها شفاعة عند الله، وهذا جمع غريب بين الشرك وبين العلم بأن الله وحده(7/3537)
الخالق، هم يزعمون أن الأوثان تقربهم إلى اللَّه، ويبين سبحانه قولهم: (. . . مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. . .).
يرد سبحانه وتعالى: (أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).
الاستفهام هنا للتقريع واللوم والتهكم، (أَتُنَبِّئُونَ) " أتخبرون " اللَّه بما لا يعلم له أصلا في السماوات ولا في الأرض، فالشفاعة علاقة بين المشفوع والشفيع، فإذا كانت حقيقية فلا بد أن يعلم المشفوع بها.
(. . . وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33).
(سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي تقدس وتنزه وتعالى عما يشركون.
* * *
الناس أمة واحدة
(وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي(7/3538)
آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
* * *
ذكر سبحانه الفطرة الإنسانية واتحاد الناس فيها، كما أن انبثاق الاختلاف كان من أصل الوحدة في التكوين،(7/3539)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
(وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً).
(كَانَ) هنا بمعنى " وُجدَ " أي ما وُجِدَ الناس إلا أمة واحدة، أي واحدة في منازعها وغرائزها وكيانها الإنساني، فحب النفس واحد وحب السلطان والغَلَب وهذه المنازع في النفوس من شأنها أن تتغالب، وإذا تغالبت بين الآحاد اختلفت فكان الاختلاف في أصل الوحدة.
إذ الوحدة في الطبائع أوجدت الاختلاف في المنازع، ولذلك ترتب الاختلاف على أصل الوحدة.
فوحدة الإنسانية ليست كوحدة الملائكة - وحدة الطاعة - لَا يعصون اللَّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإنما وحدة الإنسانية هي وحدة الطبائع التي يمتد بعضها إلى أصلها الحيواني، ولذا رتب اللَّه سبحانه وتعالى الاختلاف على الوحدة (فَاخْتَلَفُوا) (الفاء) عاطفة لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فالغرائز تتناحر فمن(7/3539)
يُغلب عقله على هواه يهتدي، ومن غَلَّبَ لذاته يكون عبدًا لشهواته فيضل ويشقى، فمن الناس من يغالب للشر ويقاوم الخير فيفتري، ومنهم من يناصر الحق ويدفع الاعتداء فيهتدي.
إن اللَّه تعالى هو الذي يحكم وهو خير الفاصلين، ولكنه أخَّر قضاءه الذي يقضى به في الدنيا، إلا إذا طمَّ الشر وبغى وخُشِي على الحق من سطوَته فيمنعه كما حدث لقوم نوحٍ وعاد وثمود، وقوم لوط، ولذا قال سبحانه: (وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
(لَوْلا) حرف امتناع لوجود، أي امتنع قضاء اللَّه، أي حكمه فيما بينهم (لَوْلا كلِمَةٌ سَبَقَتْ)، وكلمة اللَّه السابقة وهي التأجيل ليوم الحساب وتركهم في الدنيا - دار البلاء والاختبار - ليصل كُل إلى أقصى ما تتأدى به نزوعه، فيكون حكمه بعد الأعمال كلها، ويفتح اللَّه باب الرجوع إليه سبحانه فإنه تواب رحيم وما داموا في الدنيا فباب التوبة مفتوح إنه هو التواب الرحيم.
وأحد منازع الشر عند الضالين أنهم لَا يؤمنون بالحق إذ جاءهم؛ ولذلك لا يؤمنون بإعجاز القرآن وإن بدا الحق فيه، ولما عجزوا إذ تحداهم اللَّه أن يأتوا بسورة من مثله طلبوا آية أخرى غيره(7/3540)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
(وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
أرادوا إعنات الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع قيام الحجة ووضوح الدليل وقد لبث فيهم - صلى الله عليه وسلم - عمرا طويلا، أمينا صادقا عاقلا رزينا، حكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، ومع هذا طلبوا آية أخرى غير القرآن.
وإذا ذكر لهم قصص أمم أهلكها اللَّه إذ كفروا وبغوا على أنبيائهم تحدوا الرسول وطلبوا آية تهلكهم كما هلك عاد وثمود وقوم تُبَّع وقوم نوح.
(وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ من رَّبِّهِ) - آية حسية أو آية مهلكة - التعبير بالمضارع يفيد تكرارهم ذلك القول آنَا بعد آن، وهو الموقف السلبي لمن يريد جعل(7/3540)
الوقت في صالحه فالمحاورة مستمرة وطلب الدليل بعد الدليل يحسبون أنهم بذلك قد فازوا بالوقت.
(لَوْلا) بمعنى " هلَّا " للتحضيض، كأن الحجة التي ساقها النبي غير كافية وكأنهم يتحدونه - صلى الله عليه وسلم - أن يُنزل بهم مثل ما نزل بغيرهم ممن قص قصصهم، فالمطلوب إذن آية حسية تقنعهم - في زعمهم - أو تهلكهم.
ومعنى إنزالها - إتيانها - تشبيها بالقرآن إذ نزل على قلبه الأمين، ولكن المعجزات الحسية قد جاءت للأنبياء السابقين وكذبوا، فما الجدوى من التغيير؛ يقول تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ. . .).
(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ. . .).
(وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7).
إنهم كانوا ليستعجلون العذاب الذي نزل بالمكذبين قبلهم مبالغة في التحدي والإعنات، بل طلبوا الآية المهلكة.
يقول تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6).
وقد أجابهم - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه: (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ للَّه فَانتَظرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ).
" الفاء " تدل على أن ما بعدها مترتب على قولهم الذي قالوه: (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ) أي إن ما تطلبون معجزة كان أم هلاكا هو أمر يغيب عني ومفوض لربكم؛ ولذلك جاءت العبارة القرآنية مصدرة بـ " إنما " الدالة على القصر، وفي هذا إشعار بأمرين:(7/3541)
أولهما أن المعجزة الكبرى (القرآن) هي من عند اللَّه اختارها لكم في غيبه المكنون، وأنه أمهلكم لَا ينزل عليكم الآيات المهلكة لحكمة يعلمها؛ لأن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - تخاطب الأجيال كلها، وعسى أن يخرج من أصلابكم من يعبد اللَّه.
ثانيهما: أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لَا يعلم الغيب، وهو بشر مثلكم بعث فيكم رسولا منكم، ولذا يقول سبحانه: (فَانتَظِروا إِنِّي مَعَكم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ).
" الفاء " للدلالة على أن ما بعدها مترتب على ما قبلها؛ لأنه إذا كان علم الغيب عند اللَّه تعالى وحده فإنه - صلى الله عليه وسلم - عليه انتظار ما غيب عنهم.
كما أن قوله هذا سبحانه وتعالى يومئ إلى المساواة بينهم وبين رسوله - صلى الله عليه وسلم - في علم الغيب، وأكد هذه المعية إدماجه - صلى الله عليه وسلم - في المنتظرين وأنه معهم.
ليس في ذلك تصغير لمقام النبوة، ولكنه بيان لمنزلة النبي البشر، وتأكيد بأنه يتكلم عن اللَّه سبحانه.
ثم يبين سبحانه الطبيعة الإنسانية التي تخرج عن الفطرة، تمسها الضراء فتهن، وتذوق النعماء فتبطر، وينسيها الترف ما كان في ضرائها. يقول تعالى:(7/3542)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
(وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
وتلك هي الطبيعة الإنسانية غير الصابرة، تذوق النعمة فتبطر معيشتها، وتمسها الضراء فإذا بها في ضعف وخور ويأس، تلجأ إلى اللَّه فإذا أذاقها الرحمة عادت إلى طغوائها.
الضراء: هي الضرر فقد تكون مرضا يصيب الجسم أو جوعا وقحطا، فالضراء هنا تشمل السقام وتشمل القلة في الطعام والرزق، وقد أصاب قريش القحط سبع سنين دأبا حتى جاءهم الغيث فكان رحمة بهم بعد القحط وقلة الغذاء، وقد عبر سبحانه بالإذاقة في قوله تعالى: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ) للإشارة إلى التمكن من الرحمة والدلالة على أنهم تمتعوا بعد الحرمان.(7/3542)
(رَحْمَةً) هذا تأكيد على أن الرحمة مصدرها اللَّه تعالى، إشارة إلى وجوب اختصاصه بالعبادة وحده، لأن الرحمة كانت ولم تكن من غيره مما سموه واتخذوه أنداد لله تعالى.
(إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا) هذا جواب الشرط (إِذَا أَذَقْنَا) وصدَّر الجواب بـ (إِذَا) التي هي للفجاءة، ودلالتها في هذا المقام أنهم في بأسائهم كان ينخفض وراء خضوعهم الظاهر جحود قد استبطنوه، سترته الشدة وكشفته الرحمة، فظهر مكنون نفوسهم وهو مكرهم في آياتنا، يقولون إنها سحر مبين أو بهتان وإفك، أو يقولون: إنما يعلمه بشر، واللَّه رادٌ كيدهم بتدبيره الحكيم. (مَّكْرٌ) المكر هو الكيد الخفي، وقد قال سبحانه: (قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا) فإذا بدا المكر السيئ الذي أخفته الضراء، فإن تدبير اللَّه ورده عليهم أقوى وأحدُّ.
ثم يبين سبحانه علمه بما يبدون وما يخفون وما يسرون ويعلنون، فقال سبحانه (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرونَ) وهم الكرام الحفظة الكاتبون من الملائكة.
وفى هذا إشارة إلى دقة ما يعلمه عنهم، وإلى أن ما يدبرون يعلمه - سبحانه وتعالى - في وقته فيكتبه.
وقد ذكر سبحانه وتعالى حال الإنسان في ضعفه، وكيف يلجأ إلى ربه مخلصا وأعدا بالشكر وعدا مؤكدا فإذا خرج من شدته كفر أو ظل على كفره، فقال تعالى:(7/3543)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
صورة للنفس الكافرة تصيبها الشديدة ويحيط بها ما تكره فتذعن وتخلص وتلجأ إلى قوة اللَّه تعالى خالق كل شيء واعدة وعدا مؤكدا بالشكر إذا نجت، فإذا نجاهم عادوا كما بدأوا كافرين.(7/3543)
ْ (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الضمير يعود على اللَّه جل جلاله الذي أوجد لهم القوي التي يسيرون بها في البر والبحر، وبسط لهم الأرض، وسخر لهم ما يركبون في البر والبحر، وقد نسب التسيير إلى نفسه، لأنه سبحانه خالق الأسباب والمسببات، وممهد المهاد إنه القاهر فوق عباده وعلى كل شيء قدير.
بعد ذلك بين سبحانه هول البحار بالنسبة للصحراء، وقد كان العرب يعدُّون البحر مركب الأهوال، وكانوا يخافونه لأنهم لم يألفوه، والذين عرفوه وألفوه كانوا يتعرضون لمخاطره وشدائده، ولذا خصه سبحانه وتعالى بالذكر (حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَة وَفَرِحُوا بِهَا).
(حَتَّى) جاءت كناية للإشارة إلى خوفهم ركوب الفلك، أي حتى إذا أقدمتم مع خوفكم وركبتم الفلك، والفلك تكون جمعا أو مفردا وهي هنا جمع بدليل (جرَيْنَ) فإن الضمير يعود على جمع ما لَا يعقل مثل بهن فلول من قراع الكتائب.
والخطاب إلى الغيبة، لكي يتمكنوا من رؤية العبرة كأنها في غيرهم وليست فيهم، وقوله تعالى: (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا) طيبة أي رخاء لينة وكأنها متعة للمسافرين في البحار، فرأوا في البحر غير ما توقعوه وخافوه، ثم لم يلبثوا حتى جاءهم ما يرهبون.
(جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ) - الضمير يعود إلى الريح الطيبة - المعنى أن الريح الطيبة أعقبتها ريح عاصف بصريرها واضطراب البحر، وجاءهم الموج من كل مكان يرتفع كالجبال متراكما بالأذى وصاروا في ظلمات، كقوله تعالى:
(أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. . .).
فالسماء فوقهم معتمة والأمواج حولهم متراكمة، لَا منجاة لهم، وظنوا أنهم قد أحيط بهم، والظن هنا بمعنى العلم بما هو مخوف مرهوب، وهو علم يتوهمون(7/3544)
معه أملا في منجاة - (أُحِيطَ بِهِمْ) كناية عن الهلاك وفي ظنهم بأنه لَا منجاة، دعوا الله مخلصين له الدين، أي اتجهوا إليه بالطاعة والتأليه والعبادة، وقد أخلصوا وخلَّصوا نفوسهم من الشرك، وقالوا: (لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) أكدوا وعدهم لِلَّهِ تعالى بالقسم الذي تدل عليه - اللام - الأولى الموطئة للقسم واللام الثانية في الجواب ونون التوكيد الثقيلة (لَنَكُونَنَّ) وأكدوا بدخولهم صفوف المؤمنين الشاكرين، والشكر هنا هو الطاعة لله وإخلاص العبادة والخضوع له وحده.(7/3545)
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
(فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
لكن الإنسان ما أكفره! إنه كان في حال ضعفه وقد أحيط به يتضرع إلى ربه طائعا خاضعا، فإذا خرج من شدته طغى وبغى ونسي ضراعته، وكان شديدا على الناس وهو الضعيف البادى ضعفه.
(فَلَمَّا أَنجَاهُمْ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه بعد الشكر والذي أقسموا عليه إذا نجاهم بطاعته والقيام بالعمل الصالح، إذا هم يبغون.
(إِذَا) المفاجئة تدل على أمرين:
أولهما - سرعة البغي كأنه مستكن في صدورهم لم قد تدحضه الشدة؛ لأن معدنهم خبيث لم يتأثر إلا في ظاهر الأمر حال ضعفهم ثم يستولي عليهم غرورهم كما كانوا.
ثانيهما - أنها تدل على نقيض ما كان ينبغي أن يكون منهم إذ كان قسمهم يوجب عليهم أن يكونوا بعد النجاة طائعين مدركين قدرة الله وسلطانه، وأنه قادر على ردِّهم إليه كما كان قادرا على إغاثتهم في كربهم.
(البغي) هو الخروج عن الجادة وسلوك طريق الفساد، فيشمل كل المعاصي من زنى وخمر وشرك واعتداء على الآحاد والجماعات والسعي في الأرض،(7/3545)
فيشمل فساد النفوس في الاعتقاد والعمل كقوله تعالى (فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) وذكر الأرض يؤكد أن هذا البغي فساد يعم الأرض ويشمل كل ما فيها من اعتداء على الآحاد واقتراف المعاصي والسعي بين الناس وارتكاب كل ما يكون من تخريب وهدم للقائم.
وفى قوله تعالى: (بِغَيْرِ الْحَقِّ) بيان أنهم لم يكن لهم مبرر فيما يعملون أيا كان هذا الذي يزعمونه مبررا، وإظهار لحقيقة البغي وأنه لَا يمكن أن يكون له مسوغ، وعلينا هنا أن نفرق بين القصاص والبغي، فلا يصح القول بأن ما صنعه النبي - صلى الله عليه وسلم - مع بني النضير وقريظة بغيا، إنما هو قصاص لشرهم ولا يكون القصاص بغيا لكنه رد لاعتدائهم المنكر، ولا يصح أن يقال عن رد الاعتداء المتكرر والخيانة بغيا، إنما هو العدالة الحقيقية في هذه الأرض (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) اتجه سبحانه وتعالى إلى مخاطبة الباغين فكان الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للتنبيه الشديد بالمواجهة والتصدي لبيان شرهم، وكان النداء (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) لكمال هذا التنبيه الزاجر وللرح ولبيان سوء العاقبة (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم) أي أن البغي على أنفسكم وحدكم لَا يتجاوزكم إلى غيركم، ذلكم أنكم إن أشعتم البغي فيما بينكم عمَّ الفساد فيكم ولم تكن منكم جماعة فاضلة ذات حقوق وواجبات بل جماعة متحللة متقاطعة متدابرة تعمها الرذيلة ويسودها الشر يتجرد فيها الإنسان عن إنسانيته والمرء عن مروءته وفوق ذلك عقوبة يوم الدين.
(بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم) مبتدأ وخبر، وفي قوله تعالى (مَّتَاعَ الْحَيَاةِ) إن البغي تتمتعون به متاع الحياة الدنيا، هذا بالنَّصْب على قراءة حفص، وفي قراءة الرفع يكون المعنى أن البغي هو متاع الحياة الدنيا (1).
________
(1) (متاع بالنصب: حفص، وقرأ الباقون برفع العين. غاية الاختصار في قراءات العشرة أئمة الأمصار: ج 2/ 515. التوعية الإسلامية.(7/3546)
وفى النص الكريم أن متاع الحياة الدنيا دون الآخرة هو البغي الدائم المستمر، فيه يأكل القويُّ الضعيفَ والمرذولُ الكريمَ، ويتصارع الناس كوحوش الغابة ثم يكون الرجوع إلى اللَّه تعالى فينال كل امرئٍ ما كسب.
(ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)، (ثُمَّ) تفيد الترتيب والتراخي، لاستطالتهم الحياة الدنيا وكثرة فسادهم وهنا إشارات بيانية: أولها: تقديم الجار والمجرور على (مَرْجِعُكُمْ) فهذا يفيد التخصيص، أي إلينا وحدنا مالكم ومرجعكم.
ثانيها: إضافة مآلهم إلى الذات العليا ففيه تهديد أيَّ تهديد، ومؤداه إن كنتم قد كذبتم في قسمكم في الدنيا فحسابكم على ذلكم عندنا في الآخرة وهي أبقى وأدوم.
ثالثها: بيان أن العقاب من جنس العمل وأن كل عمل يحمل في ذاته عقابه في الآخرة؛ ولذا قال سبحانه: (فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) والإنباء هو الإخبار بالأمر الخطير الشأن، وكان الإنباء بالعمل مقرونا بالعقاب الشديد من اللَّه سبحانه وتعالى، وقد تكلم الزمخشري في هذا المكان عن الظلم ومرتعه، فقد عاش مثل زماننا، وقد تعاقبت عهود الظلم على المسلمين حتى صار أمرهم بورا، وذكر - رضي اللَّه عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شدد في النهي عن المكر والبغي والنكوث وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أسرع الخير ثوابا صلة الرحم، وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة، وأنه اثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين " (1).
وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين:
يا صاحبُ البغي إن البغي مصرعة ... فارتع فخيرُ فِعَالِ المرء أَعْدَلُه
فلو بغى جبل يوما على جبلٍ ... لاندكَّ أعلاه وأسفلُهُ
________
(1) تاريخ الطبري، عن أبي بكرة رضي اللَّه عنه، وبنحوه الترمذي وابن ماجه، وكذا أيو يعلى عن عائشة رضي اللَّه عنها. وانظر ما جاء في فيض القدير: ج 1/ 299.(7/3547)
وعن محمد بن كعب: ثلاث من كن فيه كن عليه: البغي والنكث والمكر.
إذا كان البغي هو متاع الدنيا للباغين، فقد بين سبحانه أن متاع الدنيا ينتهي إلى حطام وأن متاع الآخرة إلى دوام.
فقال تعالى:
* * *
(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
* * *
شغلتهم الدنيا عن الآخرة وزُيَّنَتْ لهم فحسبوا أنها الحياة وحدها وأنه لا آخرة بعدها، فأنكروا البعث والحساب، وكان هذا ذريعة لأن ينكروا كل مغيب فكفروا؛ ولذلك يبين اللَّه تعالى لهم أن الدنيا متاع قليل يزينتها وزخرفها وأنها تذهب عندما يظنون أنهم قادرون عليها فتزول وإذا هم لَا يقدرون على شيء كالقابض بيديه على الهواء، فقال سبحانه:(7/3548)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ).(7/3548)
ْهذا تشبيه تمثيلي جار مجرى الأمثال، كما قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45).
شبه حال الدنيا في سرعة انقضائها وانخداع المغرور بها، كزرع نبت في الأرض من اختلاط ماء السماء بها وسريانه في نباتها حتى إذا أخذت زخرفها ولمعت لمعان الذهب وازينت بالغروس من كل لون، وفرحوا بها وظنوا أنهم تمكنوا فيها - أتاها أمر اللَّه فأزال زرعها بوباء أو بآفة فصارت كأنها قد حصدت بمنجل، وأصبحت قفرا خاليا كأن لم يكن فيها زرع نبت ردحا من الزمان، وهذا مثلهم في الدنيا لَا يبقى لهم منها إلا الحسرة والندامة، مثل ما بقي من الزرع الذي فني حيث يرتقبون منه الانتفاع.
هذه خلاصة التمثيل القرآني وما نحسب أننا وصلنا إلى غاية بيانه فله إشارات بيانية نَعْيَا عن بلوغها، وأطياف نورانية يعيا المصور عن تصويرها. (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاهِ الدُّنْيَا) أي حالها في سرعة انقضائها وقت زينتها والاغترار بها.
(إِنَّمَا) دالة على القصر، وخصصت بهذا الحال لبيان حقيقتها، وهي أنها فانية عند ازدهارها، أي ليست بها صورة بقاء قط إنما حقيقتها الفناء.
(كمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ) قصد بالسماء هنا ما علا الأرض وأحاط بها، والماء هو المطر وقد يكون عينا تنبت الزرع والكلأ وغراس الأرض.
(فَاخْتَلَطَ) هناك قراءة بالوقف عليها، والمعنى أنه نزل على الأرض ماء اختلط بترابها فأخصبه للزرع والنبات وإثمار الغراس، وقوله تعالى بعد ذلك: (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاس وَالأَنْعَام) (من) بيانية، لبيان نتيجة الاختلاط.(7/3549)
والقراءة الأخرى بغير وقف عند " فاختلط " فيكون المعنى هو الاختلاط بنبات الأرض دلالة على أن البذر يلقى في الأرض ويرجى من اللَّه إثمارها، ويكون اسم النبات قد استعمل فيما هو إضافة باعتبار ما يكون، وتلك علاقة من علاقات المجاز المرسل كأن يسمى العنب خمرا باعتبار ما يكون، كقوله تعالى في منام أحد صاحبي يوسف عليه. السلام (. . . إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا. . .). (مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ) لبيان نعم اللَّه وتوفيره الغذاء للناس والأنعام، وفى جمعهما معا إشارة إلى أن الدنيا لهم وللأنعام وفضلهم عنها بأنهم يعقلون فلا ينبغي الاغترار بالدنيا وأن يعرفوا ما وراء هذه الحياة وأنهم لم يخلقوا عبثا، كما قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).
وأشار سبحانه إلى أسباب الاغترار بالدنيا وذكر أن ما يسبب الاغترار سريع الزوال، لَا يوجد إلا ليزول كالبرق لَا يلمع إلا ليختفي.
(حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ).
(زُخْرُفَهَا) الزخرف كمال الحسن، وقيل للذهب زخرف؛ لأنه بلمعانه وزينته يكون كمال الحسن. (وَازَّيَّنَتْ) أي تزينت، وأُعِلَّت فقلبت التاء زايا، وكان الإدغام، ثم كانت همزة للتوصل بها إلى النطق بالساكن، وقرئ (تزينت) من غير إعلال والمعنى واحد، أي إذا كان ذلك (وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرونَ عَلَيْهَا) أي متمكنون، وقال العلماء أن الظن هنا بمعنى العلم في زعمهم، ولكن لأنه غرور وضلال عُبر عنه بالظن.
وجملة القول أنهم لما رأوا بريق الزخرف والزينة بالخضرة النضرة وحسن تنسيق الخالق، والحياة المملوءة بها السوق والعيدان وجمالها، ثم فوق ذلك الأمل(7/3550)
المأمول من ترقب الغلات، فُوجئوا بأمر اللَّه المكتوب وقدره المحتوم، وأضاف الأمر إليه سبحانه لبيان أنه لَا يقبل التخلف قط.
(أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا) أتاها ذلك ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم قائمون، فأصابتها ريح حطمتها أو آفة أكلتها.
(فَجَعَلْنَاهَاحَصِيدًا) الحصيد فعيل بمعنى مفعول، أي جعلناها كأنها محصودة بآلة الحصاد وصارت الأرض كأن لم يكن فيها زرع ولا حشائش مما جمل الناس والأنعام. (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) أي كأن لم يكن فيها شيء في الزمن القريب (الأمس) ولا مانع أن تدل على الأمس القريب. (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي كذلك التمثيل نفصل الآيات فنبينها لقوم يتدبرون.
هذه دار الفناء وقد قابلها سبحانه بدار البقاء التي أعدها للمتقين.(7/3551)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
(وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
السلام هو الأمن الذي لَا انزعاج فيه، وفيه الأمن من الفناء وعوامله من الآفات، وقد قال الحسن البصري - رضي اللَّه عنه - إن السلام لَا ينقطع عن أهل الجنة كما قال عزَّ من قائل: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ. . .).
وقد قال بعض الصوفية: " يا ابن آدم دعاك اللَّه إلى دار السلام فانظر من أين تجيبه، فإن أجبته في دنياك دخلتها وإن أجبته في قبرك مُنِعْتَها ".
ودعوة اللَّه إلى دار السلام هي ما يدعو إليه من الإيمان به وباليوم الآخر وبما جاء من تكليف على ألسنة الرسل الكرام فإن ذلك هو السبيل إليها، وإن الدعوة إلى دار السلام تعم كل الناس، لأن الباب إلى الجنة مفتوح لهم جميعا، وهنا يتبين من اهتدى وأجاب الداعي ممن ضل وأصم أذنيه عن الحق، وقد ذكر سبحانه وتعالى من اهتدى، أي سلك سبيل الهداية فأخذه إليها وهداه الصراط الموصل إلى(7/3551)
الحق من أقرب الطرق، ولذا قال سبحانه: (يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) والصراط هو الطريق المستقيم الموصل إلى الجزاء الحق وهو طريق اللَّه تعالى؛ ولذا قال سبحانه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ. . .).
فسبيله خط مستقيم هادٍ مرشد إلى الحق الذي لَا ريب فيه، والسبل الأخرى هي مسارات الشيطان ومضطَّرب أهوائه.
وهنا أمران يجب الإشارة إليهما:
أولهما - أن اللَّه تعالى نسب إلى ذاته الدعوة إلى دار السلام، وهي الجنة دار الأمن الباقية التي لَا إزعاج فيها ولا عذاب.
ثانيهما - أن اللَّه تعالى يهدي من يشاء، وأن من سلك طريق الهداية أوصله إليها، ومن سلك طريق الضلالة سار إلى الضلال البعيد.
لم يذكر اللَّه سبحانه وتعالى أنه يشاء الضلالة لعباده، بل هم الذين يسيرون فيها، وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى هداية الذين استجابوا لله ولرسوله ذكر جزاءهم.(7/3552)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ... (26)
الذين أحسنوا هم المؤمنون الذين آمنوا بالبعث والنشور والجزاء من الثواب والعقاب وآمنوا أولا بلقاء اللَّه.
(لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا)، (اللام) للملك أو الاختصاص، أي يعطيهم اللَّه الجزاء عطاء موفورا لأجل إحسانهم. (الْحُسْنَى) مؤنث أحسن، أي يعطيهم اللَّه الجزاء الأحسن، أي الذي بلغ أعلى درجات الكمال. (وَزِيَادَةٌ) للإشارة إلى أن عطاءَهم ليس بمقدار إحسانهم؛ لأنه سبحانه المتفضل المكرم الذي لَا يعطي بمقدار ما قُدِّم بل إنه كما قال تعالى: (. . . وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ. . .).(7/3552)
والزيادة بغفران بعض السيئات (. . . إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. . .)، ثم بالرضوان وهو أكبر ما يعطي اللَّه تعالى، وقد قال أهل السنة في ذلك أنهم يرون ربهم، كما قال تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)، وهذا جزاء مادي ومعنوي إيجابي وهناك جزاء معنوي سلبي قال فيه تعالى: (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ)، (يرْهَقُ) معناها يغشى، (قَتَرٌ) معناها سواد، وكلمة يرهق تتضمن في معناها الألم والتأذي.
والمعنى أن وجوههم ناضرة مشرقة بالعزة والسعادة والرضا بأنفسهم وباللَّه سبحانه ثم ذكر الجزاء الكامل، فقال سبحانه: (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أشار إليهم سبحانه بالإحسان ومن قبله بالهداية، والإشارة إلى موصوف يفيد أن الصفة سبب الحكم، (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ) وأصحابها أي الذين يقيمون فيها إقامة المُلَّاك في ملكهم يلازمونها ولا يخرجون منها.
(هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) ذكر الضمير وقدم فيها لبيان قصرهم عليها لَا يدخلون غيرها جزاء من كسب السيئات.
* * *
قال تعالى:
(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)(7/3553)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
* * *(7/3554)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27).
يبين سبحانه جزاء الذين كسبوا السيئات - بعد أن بين جزاء الذين أحسنوا:
(وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا) (الواو) تعطف هذه الجملة على ما قبلها وهو جزاء المحسنين؛ وتقدير القول وجزاء الذين كسبوا السيئات سيئة بمثلها(7/3554)
(الباء) للمقابلة فإذا كان المحسنون يجازون بالحسنى وزيادة، فحسب المشرِكين أن تجازى السيئة بمثلها، كما يقول تعالى: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ومَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا. . .).
والمِثْل كثير إزاء ما ارتكبوا؛ فالشرك مثله من الجزاء كبير فلا حاجة إلى الزيادة، وقد ذكر سبحانه وتعالى هنا كلمتين نرى فيهما:
أولا: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) الكلمة لَا تدل على مجرد ارتكاب الذنوب، بل تدل على أن هذه الذنوب أشربتْ بها نفوسهم وكسبتها قلوبهم حتى صارت وكأنها كالجبلَّة لهم إن لم تكن كالفطرة منهم.
وفى اكتساب السيئات قال سبحانه: (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
ثانيا: كلمة (بِمِثْلِهَا) أي بمثل السيئة، وهذا في المقابلة والمشاكلة اللفظية فالجزاء ليس سيئة إنما هو العدالة التي ليست سيئة في ذاتها، كقوله تعالى: (. . . فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ. . .).
ولكثرة سيئاتهم وتضافرها أظلمت بها نفوسهم، ويوم الحساب تظهر ظلمة القلوب ظلاما في وجوههم، ولذا قال تعالى: (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُم مِّنَ اللَّه مِنْ عَاصِمٍ كَأنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا).
هنا تشبيه واستعارة، أما الاستعارة فهي قوله تعالى: (قِطَعًا مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا) وفيها يبدو الليل كأنه الثوب الأسود الذي قُطع قطعا.
وأما التشبيه في قوله تعالى: (كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ) أي ألبست وأغطيت بقطع مظلمة، وهذا تصوير لسواد وجوههم بما اقترفوا، فقلوبهم المظلمة تكسو وجوههم بالظلام، وفي هذا التصوير الحسي تصوير معنوي لنفوسهم.(7/3555)
ثم ختم اللَّه تعالى بعذابهم فقال: (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أولئك الذين أشركوا وظلموا وهم أصحاب النار يلازموها ملازمة الصاحب لصاحبه وهم خالدون فيها، وقد تأكد خلودهم بضمير الفعل، كما تأكد اختصاصهم بها بتقديم الجار والمجرور على (خَالِدُونَ)، أي هم وحدهم الخالدون فيها.(7/3556)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
الكلام في بيان اليوم الذي أنكروه: (قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)، ولتذكيرهم بما يكون في هذا اليوم من حساب وعذاب وما هو جدير بأن يعلموه، وهو تبرؤ معبوديهم الذين اتخذوهم أندادا لله منهم ومعبوديهم هؤلاء هم عقلاء ينطقون كالملائكة والأنبياء الذين عبدوهم مع اللَّه كالنصارى أو الأحجار التي لَا تضر ولا تنفع.
(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكوا مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكاؤُكمْ)، (ثُمَّ) عاطفة تدل على الترتيب والتراخي الزماني والمعنوي، أما الزماني فهو أن ذلك القول بعد الحشر وبعد أن ارتكبوا في الدنيا ما ارتكبوا وطغوا وبغوا وأفسدوا، وأما المعنوي فهو البعد بين حالهم وما كانوا فيه من إنكار وطغيان، وحالهم وقد تبين لهم ما أنكروه واقعا ونطق الذين عبدوهم بالحق وتبرءوا منهم.
وقوله تعالى: (مَكَانَكُمْ) مفعول لفعل محذوف معناه الزموا مكانكم وقفوا حيث أنتم وكانوا هم وشركاؤهم مجتمعين حسا ومفترقين نفسا، ولذا قال تعالى: (فَزَيَّلْنَا بيْنَهُمْ) وهناك قراءة " فزايلنا بينهم " وهما من زال فَزَيَّل مضاف زال - وزايلنا - مفاعلة من زال، أي فرقنا بينهم وجعلنا ما كان بينهم في الدنيا يزول وافترق العابد عن المعبود كقوله تعالى: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)، وكقوله تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُون)، وقوله تعالى: (. . . يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعونَ).(7/3556)
(وَقَالَ شُرَكاؤُهُم) الشركاء هم الأنداد التي عبدوها أو غيرهم، وسموا شركاؤهم؛ لأنهم انتحلوا لهم الشركة فعلا، وإن لم يقولوها قولا.
وقال هؤلاء نافين نفيا باتا: (مَا كنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) أي ما كنتم تسمونه عبادة ليس عبادة، فما عبدتمونا ولكن عبدتم أوهامكم وما حسبتوهم آلهة بإيعاز الشيطان، كما جاء على لسان عيسى ابن مريم عليه السلام:
(. . . قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117).
وفى قوله تعالى: (مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ) النفي مؤكد قاطع؛ لأنه نفي في الماضي والمستقبل، وأن ما كانوا يسمونه عبادة ليس عبادة مطلقا وأن من خصوهم بالعبادة ينكرونها فليسوا أهلا لأية عبادة.
وقد يسأل سائل: كيف كانت الحجارة التي تمثلوها آلهة تنطق بذلك النفي؛ فنقول: إن ما عبدوهم من الأنبياء كعيسى يقول ذلك، أما الحجارة فينطقها اللَّه فتقوله، أو هو تصوير لحالها في أمرها وأمرهم واللَّه تعالى شاهد.
يقول تعالى:(7/3557)
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
(فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
هنا يوثق المعبودون قولهم بشهادة اللَّه تعالى: (الفاء) في قوله تعالى:
(فَكَفَى) عاطفة لتأكيد قولهم، والباء في قوله تعالى: (بِاللَّهِ) زائدة مقوية لمعنى الشهادة، أي كفانا اللَّه تعالى شاهدا في بطلان ما تَدَّعوه من أنكم كنتم تعبدوننا ثم أكدوا بأنهم كانوا لَا يعلمون (إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ).
(إن) هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف، ويدل عليه الخبر، وهو (كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ).(7/3557)
(اللام) مؤكدة، وتفرق بين خبر (كان) المجرد، وخبر (إن)، فهي تدل على أن الخبر هو خبر (كان)، وبتوكيدها تومئ إلى أن الجملة خبر (إنَّ).
وقد أكدوا بهذا أنهم ما كانوا يعلمون عبادتهم لهم، وأنهم برآء من هذه العبادة، وأنهم ما كانوا يشعرون بهم ولا بما ارتكبوا من إثم مبين وهو الإشراك باللَّه تعالى، وهذا بيان لسوء عملهم وفساد اعتقادهم وضلالهم الواضح المبين، وقد أرسل اللَّه تعالى رسله فبينوه لهم، وكذبوهم حتى حقت عليهم كلمة العذاب واللَّه بكل بشيء عليم.
وقد بين سبحانه وتعالى أن الدنيا دار الابتلاء، والآخرة دار الجزاء فقال عز من قائل:(7/3558)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
(هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
(هُنَالِكَ) إشارة إلى ذلك الموقف الرهيب والمكان الرفيع، وهو الحشر أمام اللَّه تعالى، وكانت الإشارة بالبعيد؛ لرفعه الموقف أمام اللَّه وشرفه، ولأنهم كانوا يستبعدونه ويظنونه مستحيلا.
(تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) ها ثلاث قراءات، قراءة بالتاء (تَتْلُو) وقراءتان بالنون (نبلو) إحداهما بنصب (كل)، أي النفوس كلها هي المختبرة، والثانية برفع (كل).
وفى الأولى (تَبْلُو) أي تتلو كل نفس ما أسلفته من أعمال في كتابها الذي تحمله بيمينها أو شمالها فتقرأ عملها محضرا، كما قال تعالى في سورة الإسراء:
(. . . وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14).
أما في القراءة بالنون برفع كل " نبلوا كلُّ " أي نعاملهم معاملة التعرف لما(7/3558)
وقوله: (يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ)، فالاختبار هنا يكشفه الله ويستحضر لهم فيه ما أسلفوا.
أما القراءة بالنون مع نصب " كل " أي (نبلوا كلَّ) فهي نصب في المعنى السابق والاختلاف في الإعراب ولا اختلاف في المعنى.
ومن هذا نجد أن الاختلاف الحقيقي يكون بين القراءتين بالتاء والنون وكله من عند اللَّه تعالى.
(وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) المولى بمعنى الناصر وبمعنى الخالق وبمعنى المالك، أي مالكهم الحق، أي الثابت ملكيته، وسلطانه. والحق للاحتراز عما ادعوا من أوثان وأنداد اتخذوها، ففي هذا اليوم يتبدى سلطان اللَّه تعالى حقا وتتبدد أوهامهم عن أولياء الشيطان وما زعموه.
ولذا قال سبحانه: (وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي غاب عنهم وبعُد عن عقولهم ما كانوا يفترونه في عبادات باطلة وافتراء كاذب كانوا مستمرين عليه يكررونه ليلا نهارا، وفي قوله تعالى: (مَا كَانُوا) يدل على الاستمرار وذلك بالجمع بين الماضي في (كَانُوا) والمستقبل في (يَفْتَرُونَ) فالجمع بين الماضي والمستقبل يدل على استمرار الفعل.
يقول تعالى:(7/3559)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
قلنا في أكثر من موضع: إن العرب كانوا على علم بالخلق والتكوين وأنهم يؤمنون بوحدانية الخالق، ولكنهم في العبادة يشركون ويزعمون استحقاق الأوثان للعبادة على أن يكونوا شفعاء لهم، فبين اللَّه بطلان عبادتهم وقد كانوا لضلالهم يربطون بين وحدة الخالق للكون وبين ما يعبدون، فبين لهم سبحانه في كثير من(7/3559)
الآيات أن وحدة الخلق تقتضي وحدة العبادة، وهذا هو ما آمن به أبوهم إبراهيم وغيره من الرسل الكرام، وجاء محمد - صلى الله عليه وسلم - لإحياء ملة إبراهيم وهي الإسلام (قُلْ مَن يرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) الاستفهام للتنبيه إلى الحقائق الثابتة وتوجيه النظر، فهو استفهام تقريري لتقرير الحقائق، وعُبر بالاستفهام لأنه مُوجَّه وفيه حمل لهم على الإقرار بما يعرفون ويشاهدون فهم يعلمون علم اليقين بالمشاهدة والحس أن اللَّه تعالى هو الذي ينزل الأمطار من السماء ليختلط بالأرض يشقها شقا، وما أوجده اللَّه تعالى فيها من خصب ومواد مختلفة يتكون منها نبات به حب متراكب وأشجار فيها ثمار دانية القطوف، كما قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99).
وقد عبر سبحانه عن كل ذلك بالرزق الذي هو الغاية المرجوة وهو النعمة الظاهرة التي أنعم بها سبحانه وتعالى على عباده في حياتهم من غذاء ولباس ومأوى، وكل ذلك كان في اختلاط ماء السماء بالأرض.
ثم ذكر سبحانه بعد ذلك أصل خلقهم ودقيق صنعه في أنفسهم وكيف أوجد القوى فيهم، وأن هذا وإن اختفى عليهم خلقه لَا يختفي عليهم أثره، فهم يسمعون ويبصرون ويدركون بأي شيء كان ذلك.
(أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ) فهو الذي أنشأهما حتى أن الإنسان الذي مدَّ له اللَّه تعالى الكون من سماء وأرضين، واستطاع بإذن اللَّه أن يرتفع إلى القمر وغيره - لَا يملك أن يوجد قوة من قوى اللَّه.
(وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) يبين اللَّه تعالى أمرا يشاهده الإنسان كل يوم وهو الموت والحياة فيجيء الموت بدل الحياة، والحياة بدل الموت، بل إنه سبحانه يخلق الحياة في الميت، كما أنه يجعل النواة الجامدة كأنها لا(7/3560)
حياة فيها شجرة وارفة الظلال، ومن الماء المهين إنسانا سويا، ثم يكون الزرع حطامًا والإنسان ميتا مقبورا، ولقد قال تعالى في تصوير ذلك: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95).
هو سبحانه خالق كل شيء ولم يخلقه ويتركه من غير تدبير، بل إنه سبحانه وتعالى القائم عليه، ولذا قال تعالى: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) كما أنه سبحانه يمسك السماء والأرض أن تزولا، ويدبر الأرزاق.
ثم نعود لصيغة الاستفهام القرآنية (أَمَّن) فصيغة القرآن استفهام ويُطلب منهم الجواب ليكون جوابهم إقرارا أو تقريرا، وكذلك قال اللَّه: (فَسَيَقُولونَ اللَّهُ) فإذا قالوها وهي الحق أجيبوا: (أَفَلا تَتَّقونَ)، (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فترتب على إقرارهم دعوتهم إلى تقوى اللَّه والإحساس بجلاله وتجنب ما لا يرضيه، بعد أن أخذ سبحانه وتعالى منهم إقرارًا بأنه خالق الكون ومدبره والقائم عليه وحده، بين سبحانه وتعالى أنه هو الرب وحده وأشار إلى أنه المستحق للعبادة وحده، فقال عز من قائل:(7/3561)
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
(فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
(الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي إذا كان اللَّه الخالق وحده والمدبر للكون وخالق القوي الإنسانية وغيرها وحده فهو الرب حقا وصدقا، و (الْحَقُّ) تأكيد لمعنى الربوبية، والربوبية والعبادة متلازمتان تلازما لَا يقبل الانفصال، فالرب حقا هو المعبود وحده المنفرد بالخلق، وهو المنفرد بالعبودية فلا إله غيره.
الخطاب في اسم الإشارة للجمع؛ لأنه لَا يخاطب به النبي وحده إنما يخاطب به الناس أجمعين وخصوصا المشركين، لأنهم الذين أقروا بالخلق وضلوا في العبادة.(7/3561)
وقد كانوا يقولون عن معبودهم " الرب " فاللات والعزى كانتا إلهان، وهُبل كان رب قريش، والنصارى المثلِّثون قالوا عن المسيح الرب، فالآية تشير إلى أن هذه الأرباب الكاذبة ادعاؤها انحراف في الفكر وبطلان في الاعتقاد، فالرب حقا وصدقا هو اللَّه تعالى وحده.
وقد أشار سبحان! في قوله: (فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُكمُ) أي أنه الذي يرزق من السماء والأرض ويدبر الأمر ويقدر كل ما في الوجود، وهو الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي فهو الرب المعبود حقا وصدقا وغيره باطل؛ ولذلك قال سبحانه: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ).
ْ (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه يترتب على أن اللَّه تعالى هو الرب لَا رب سواه من حجر أو نبي أو ملك.
(فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) الاستفهام هنا إنكاري بمعنى نفي الوقوع وأن ذلك فكر لَا يتصوره ويستنكره العقلاء، والمعنى أنه ليس بعد الحق - وهو أن الرب المعبود هو اللَّه وحده - إلا الضلال، فالأمر إما حق أو باطل ولا توسط بينهما مما تدعون من أوهام بأنهم شفعاء لله، فإن ذلك باطل في ذاته، وأنه سبحانه لَا يتخذ عنده شفعاء لَا ينفعون ولا يضرون، وإن لم يكونوا حجارة فإن منزلتهم من اللَّه هي منزلة غيرهم على سواء.
(فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (الفاء) مثل التي قبلها (فَأَنَّى) بمعنى كيف والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع، وفيه توبيخ، والمعنى كيف تصرفون عن ذلك المعنى المستقيم وهو أن الخالق وحده هو الرب المعبود ولا معبود سواه؟! ولكن هكذا تضل الأفهام وتعمى القلوب التي في الصدور.
(كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)(7/3562)
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
بعد أن بين سبحانه في الخلق ما يدل على التوحيد وأن كفر من كفر عجيب وغريب ذكر أنه قد سجل علييم. (كذَلِكَ)، (الكاف) للتشبيه إشارة إلى ضلالهم بعد أن قامت البينات القاطعة في الخلق والتكوين وإقرارهم بأن اللَّه الخالق وحده لَا خالق سواه، ثم بعد ذلك ينحرفون من غير سبب للانحراف إلا ضلالهم.
أي أنه كهذه الحال التي رأيتموها (حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)، أي أنهم ينحرفون عن الأمر الذي يقرونه ويقره العقلاء.
أي أنهم ينظرون إلى الأشياء نظرا منحرفا كما ينظر من رَمَدَ أو حَوِلَ، ثم ينغمرون في طريق الانحراف حتى يبلغوا في ضلالهم أقصاه.
فمثل هذا هو الذي حقت به، أي ثبتت به كلمة اللَّه التي لَا تختلف ولا تتغير، على الذين فسقوا وانحرفوا وتمردوا على الحق، وأظهر في موضع الإضمار للإشارة إلى أن فسقهم وتمردهم أدى بهم إلى ما حق عليهم.
(أَنَّهُمْ لَا يؤْمِنُونَ)، (أَنَّهُمْ): بدل بيان من (كَلِمَتُ رَبِّكَ)، أي أنهم لا يؤمنون فهو نفي للإيمان ذلك لأنهم سلكوا طريق الباطل.
أي كذلك حقت على الذين فسقوا كلمة ربك التي هي (لا يُؤْمِنُونَ).
بعد أن بين سبحانه أنه الخالق للكون والأرزاق، والمدبر للوجود وحده أخذ يبين عجز من اتخذوهم أربابا من دونه، فقال تعالى:(7/3563)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
أُمِرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يتولى جدالهم وإفحامهم وأن يسألهم (هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِّيدُهُ)، وشركاؤهم: الأوثان والأحجار والأناسي التي ادَّعوا أنها شركاء لله في العبادة، أي هل في الأوثان التي تعبدونها أو غيرها مما زعمتم من يبدأ الخلق ثم يعيده.(7/3563)
والتعبير بالمضارع لإفادة استمرار البدء والإعادة، كالزرع في خلقه وتكوينه ثم يصير حطاما، ثم يعاد مرة أخرى.
وفى النص الكريم إشارة إلى القدرة على الإعادة كالقدرة على الابتداء، كما قال في آية أخرى: (. . . كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)، فالإشارة واضحة إلى إمكان البعث بل وجوبه وقد أنكروه ولأنهم لَا يؤمنون بالإعادة وينكرونها أمر اللَّه تعالى نبيه بأن يتولى الإجابة على إنكارهم، وللإشارة إلى أن ذلك موضع تسليم لَا امتراء عند أهل العقول المستقيمة، وأيضا لمنع لجاجتهم ولإرشادهم إلى الحق: (قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) وإذا كانوا ينكرون الإعادة من اللَّه فأولى أن ينكروها من أحجار لَا تضر ولا تنفع، بل إنهم يعلمون أنها لَا تستطيع الإنشاء فأولى ألا تستطيع الإعادة.
ولذلك تولى النبي - صلى الله عليه وسلم - الإجابة ليقيم الحجة عليهم بأن ما بدأ يستطيع الإعادة (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي تصرفون عن الحق إلى الباطل.
(الفاء) لترتيب الاستفهام الإنكاري على إنكارهم المستمر والموقف السلبي الذي يقفونه لَا يتحركون بخطوة إيجابية إلا في الإيذاء والاستهزاء والفتنة في الدين، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، فاللَّه تعالى ينكر انصرافهم عن الحق ولجاجتهم في الانصراف والاستمرار في غيهم (فَأَنَّى) بمعنى " كيف ".
ثم يبين سبحانه أنه الذي يهديهم، وأن الأوثان لَا تهدي بل يضلون بها، فقال تعالى:(7/3564)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
يخاطبهم سبحانه على أنهم عقلاء مدركون لمعنى الهداية والرشاد ويسألهم إذا كان هؤلاء على ما ترون؛ فهل يهدونكم إلى الحق كشأن التابع للمتبوع.(7/3564)
إن الهداية هي القياس الإنساني لعلو الإنسان وقد كان في المشركين ذوو رشد ينطقون بالقول الطيب كما ينطق الحكماء منهم: أكثم بن صيفي وغيره، فهل الأوثان وغيرها يعلونهم بفضل الإرشاد والتوجيه للعمل الصالح فتعبدوها أو تتبعوها لهذا؛ وحيث لَا شيء من ذلك فلا مسوغ للعبادة إلا الضلال.
ولذلك قال تعالى: (هَلْ مِن شُرَكَائِكم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ) الاستفهام داخل على فعل محذوف، والمعنى هل وجد من شركائكم أي من المعبودات التي زعمتم أنها شركاء لله في العبادة، من يهدي إلى الحق كما يهدي اللَّه حتى تجعلوه كاللَّه تعالى، يقال هدى إلى الحق وهدى للحق، و (إِلَى) تتضمن معنى الانتهاء في الهداية إلى الحق، أي هدى منتهيا في هدايته إلى الحق.
والإجابة عن هذا السؤال ستكون بالسلب لأنها أحجار نَحَتُوها بأيديهم لا تضر ولا تنفع، فكيف تهدي وترشد؛ ولذا فرض أن الإجابة بالسلب كما هو شأن من له أعين تبصر وأذان تسمع، وقد ترتب على هذا الفرض الواقع سؤال آخر فيقول سبحانه:
(أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَى).
(الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها وحقها التقديم؛ لأن السؤال مترتب على الإجابة المفروضة في السؤال السابق، ولكن لأن الاستفهام له الصدارة أخرت عن تقديم، والاستفهام هنا للإقحام وفيه الفرض الأول ثم بيان أنه لَا مساواة بين الفرضين، أي أن من يهدي إلى الحق أحق أن يتبع فالاستفهام في هذه الناحية هو أنه لَا مساواة بين من يهدي إلى الحق ومن لَا يهدي إلا إذا وجد من يهديه، فالاستفهام لبيان أحقية الاتباع لمن يرشد ويصلح بدلا ممن لَا يستطيع الإرشاد ويحتاج كغيره ليهديه، فمن لَا يحتاج أحق ممن يحتاج لإرشاد غيره وهدايته، وهذا في قوله تعالى:(7/3565)
(أَمَّن لَا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَى).
الكلمة (يَهِدِّي) فيها إعلال أصلها (يهتدي) وقلبت التاء دالا لقربها من حروف الإطباق، وأدغمت التاء في الدال وكسرت الهاء للتخلص من الساكنين، والأصل في التخلص من النطق بالساكنين يكون بالكسر؛ وهناك قراءة أخرى وهي فتح الهاء؛ لأن حركة التاء قبل الإدغام كانت الفتح فكان الفتح رمزا للأصل.
وإن هذه الصيغة تفيد أنه لَا يهتدي إلا بصعوبة بل لَا يهتدي أصلا، ولكن كان الفرض أن يكون اهتداء بعد أن توجد الهداية الداعية المرشدة، وكل هذا فيه توبيخ وتبكيت لهم وهم عقلاء، فيهم من نطق بالحكمة وأرادها، ثم يتبعون من لا يرشد ولا يهدي.
إن العاقل إذا رأى هاديا مرشدا يدعوه ومعه الأدلة المتضافرة والآيات المبينة ورأى بجواره أصم لَا يهدي ولا يرشد فأيهما يتبع، ولذا قال تعالى: (فَمَا لَكمْ) وهذا استفهام إنكاري عن حالهم المضطربة الحائرة، ثم أردفها سبحانه باستفهام يوضح اضطراب فكرهم وفساد تقديرهم فقال تعالى: (كَيْفَ تَحْكمُونَ).
وهذا للاستنكار، فبأي أحوال النفس العاقلة تحكمون على تصرفاتكم هذه! تتركون الهادي المرشد وتتبعون من لَا يضر ولا ينفع، ويصعب أن يهتدي بل لا يمكن أن يهتدي ولو جاءه أهدى الهدى.
وقد بين سبحانه أنهم لَا يتبعون الأصنام وغيرها مستيقنين، بل يظنون ظنا بأوهامهم أن لهذه الأصنام وأشباهها قوة وأنها تستحق العبادة، ولذا قال تعالى:
(وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)(7/3566)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
أى أن أكثرهم غلبت عليهم خيالات وأوهام شاعت في جمعهم وانتشرت بينهم واتبعوها جميعا، فالأفكار الفاسدة الضالة تنبعث من بعض الجماعة وتكثر فيها وتشيع في آحادها فتصير فكرا عاما مضللا، وعلى العقلاء أن يصدوا هذه الأفكار الباطلة في أول نشوئها حتى لَا تصير هي الغالبة، وبعض المفسرين يقول: إن الأكثر يراد به الجميع، ونحن نقول على هذا المعنى، ويقول البيضاوي: " إن أكثرهم ما يتبع في اعتقادهم إلا ظنا مستندا إلى خيالات فارغة فاسدة ".
الناس صنفان أحدهما: له عقل مستقيم يدرك، والثاني: غلبت وسيطرت عليه الخيالات، فأما الذي آتاه اللَّه تعالى عقلًا يدرك فإنه يفكر في خلق السماوات والأرض وما بينهما ويأخذ دليلا على وجود خالقهما من الأثر وقوة المؤثر، ثم يجيء الرسل فيهتدي بهديهم ويتبع ما يدعون إليه، وهو الذي ينطبق عليه الوصف القرآني الكريم:
(. . . رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَة ثمَّ هَدَى)، فالهداية ثمرة العلم بالخلق. والصنف الثاني يقع في أخيلة وهمية تسيطر عليه فلا يأخذ الهداية من الخلق والتكوين، بل تسيطر عليه الأوهام؛ فيتوهم في حجر قوة، ويتوهم في شخص ربوبية، ولو نادى ليلا نهارًا بأنه عبد من عباد اللَّه لَا يستنكف عن عبادة اللَّه ولا يستكبر، وهؤلاء يظنون القوة في غير قوى، والقدرة في عاجز، وتكون عقولهم دائما حائرة مضطربة، ولا يكون منهم اعتقاد ولا يقين قط وكلها ظنون يتصورونها اعتقادا، ولسان حالهم يقول: (. . . إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ).
هذا بيان لعلمهم الذي يتجاوز الظن ولا يزيد عليه، ويخيل لهم أنهم يعتقدون ثم يتعصبون له ويعاندون أهل الحق به.
وقد بين سبحانه وتعالى أن الاعتقاد لَا يبنى على ظنٍ بل يجب أن يكون على يقين، ولذا قال تعالى: (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) أي لَا يغني بدل(7/3567)
الحق، (مِنَ) هنا بمعنى " بدل " فالحق وهو الأمر الثابت الذي لَا ريب فيه لا يطلب بأدلة ظنية بل لَا يطلب إلا ببينات قاطعة، فمعنى (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) أن الظن لَا يغني شيئا بدل الأدلة الحق القطعية.
هذه الآية الكريمة تؤكد حقيقتين ثابتتين:
أولاهما: أن ما ينتحله أهل الكتاب والمشركون - بشكل عام - والوثنيون مبني على أوهام أوجدت ظنونا جعلوا منها عقائد تعقبوا لها وكأنها حقائق لها براهين أذعنوا لها فما ظنوا إلا ظنا.
ثانيهما: أن التعصب قد يبنى على أوهام وظنون بل إنه سيطرة أوهام وضعف في النفوس وليس بإيمان صادق.
وقد ختم اللَّه سبحانه وتعالى الآية بقوله: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)، وفي هذا تأكيد لعلم اللَّه بهم في ظنونهم وأعمالهم وحركات نفوسهم، وقد أكد هذا سبحانه أولا: بالجملة الاسمية، وثانيا: بـ " إنَّ " المؤكدة، وثالثا: بالصفة.
* * *
القرآن هو المعجزة الكبرى
يقول تعالى:
(وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)(7/3568)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
* * *
بعد أن ذكر سبحانه أوهام المشركين وأخيلتهم التي جعلتهم يهيمون في أودية الظن بغير علم، بين سبحانه الحق والدليل القاطع على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - في حديثه عن اللَّه تعالى، وأنه جاء بالمعجزة الكبرى الباقية الخالدة إلى يوم القيامة، وأن غيره من المعجزات ما استمر باقيا إلا، لأنه ذكرها وسجل وقوعها في آياته التي كفر بها من كفر وآمن بها من آمن، وقد قال تعالى في المعجزة الكبرى:(7/3569)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
(وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
والإشارة هنا للقرآن الذي يتلى عليهم، وتخيرهم عباراته وتعجزهم بلاغته وفصاحة كلماته.
وقوله (أَن يُفْتَرَى) المصدر من (أن وما بعدها) خبر (كَانَ)، أي وما كان هذا القرآن افتراء من دون اللَّه، أي من عند غير اللَّه سبحانه، وعبر بالفعل دون المصدر لتصوير قبح أن يصنع اصطناعا من عند غير اللَّه، وبيان أن ذلك غير متصور وقوله تعالى: (ووَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ) معناه: ما استقام وما ينبغي أن يكون هذا القرآن افتراء من دون اللَّه تعالى؛ لأنه أعجز العرب عن أن يأتوا بمثله، ولأنه اشتمل على علوم ما كان لهذا الأُميّ الذي لَا يقرأ ولا يكتب أن يعلمها، ولأنه اشتمل على شرائع فيها مصلحة الدنيا والآخرة، ولأنه اشتمل على قصص الأمم، كما قال على - كرم اللَّه وجهه - فيما رواه عنه الحارث الأعور " فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم " (1) معنى هذا: أن هذا القرآن بذاته ينفي أن يكون مفترى، والقرآن صادق من شهادة غيره بعد أن أثبت أن معجزته ذاتية فيقول تعالى: (وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْن يَدَيْهِ)، أي الكتب التي سبقته، وعبر بأنها (بيْنَ يَدَيْهِ) للإشارة إلى أنها حاضرة شاهدة بصدقه.
________
(1) سبق تخريجه.(7/3569)
وقد ذكر سبحانه دلائل صدقه من أمور أربعة:
الأمر الأول - أنه تصديق الذي بين يديه في الكتب السابقة الصادقة، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ أو يكتب ونشأ في قوم أميين لَا يعرفون علم الكتابة ولم يختلط - صلى الله عليه وسلم - بأحد من أهل الكتاب، أو يلتق بأحد من الأحبار والرهبان إلا مرتين، واحدة وهو غلام في الثانية عشرة، والأخرى وهو في الخامسة والعشرين وكلتاهما كان فيهما عابر سبيل، وأن التوافق بين ما جاء بالقرآن وما جاء بالكتب السابقة دليل على أنه ليس افتراء بل هو من عند اللَّه سبحانه وتعالى، والاستدراك معناه الانتقال من نفي الافتراء إلى الإيجاب بذكر الدليلِ الخارجي من نفس ما سبقه من كتب، وفي التعبير بكلمات: (تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْن يَدَيْهِ) إشارة إلى أنه شاهد لها بالصدق، وإن كان التوافق دليل على أنه ليس به افتراء وهو مشتمل مع ذلك في ذاته على الإعجاز، فالكتب ليست معجزة بذاتها، ولكن اقترن بها ما يدل على صدق الرسل من بينات شاهدة: كعصا موسى وغيرها، وكإبراء الأكمة والأبرص، وإحياء الموتى بإذن اللَّه ونزول المائدة بأمر اللَّه تعالى.
الأمر الثاني - مما اشتمل عليه القرآن الكريم أنه " تفصيل الكتاب " أي بيان ما كتبه اللَّه تعالى على خلقه من فرائض ونظم وأحكام فيها صلاح العباد في الدنيا والآخرة من صلاح معاشهم وتنظيم حياتهم وتكوين مجتمع فاضل يكون الخير فيه شائعا ظاهرا، وتكون الرذيلة مختفية مغمورة.
الأمر الثالث - من دلائل صدقه - أنه لَا ريب فيه لمن تدبر وتأمل، فهو ثابت بذاته وبما اشتمل عليه من تصديق ما بين يديه في الكتب وتفصيل الأحكام والشرائع فلا مجال للريب، كقوله تعالى: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدى لِّلْمُتَّقِينَ).
الأمر الرابع - أنه من رب العالمين الذي كون العالمين وربَّاهم ودبر أمورهم وأقام الحق والعدل فيهم، وذلك كله في القرآن الحكيم الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.(7/3570)
وبعد أن بين سبحانه بالأدلة الذاتية صِدْقَه، أخذ سبحانه يدفع افتراء المفترين فقال تعالى:(7/3571)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
وصف اللَّه سبحانه وتعالى القرآن أوصافا تنفي الافتراء، وبين مقامه في الكتب السابقة وأنه مصدق شاهد بها، وبعد ذلك أخذ يبين مقام المشركين منه وهو ادعاء افترائهم الذي هو منفي عن القرآن لذاته فقال سبحانه: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ).
(أَمْ) يقول بعض المفسرين: أنها هنا في معنى الهمزة للاستفهام. والأولى أن تقول أن " أم " تتضمن معنى الاستفهام كما تتضمن الانتقال من الحقائق المقررة الثابتة التي لَا ريب فيها إلى الاتجاه إلى المشركين وأوهامهم بالنسبة للقرآن العظيم (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) أي ننتقل من الحق الجليِّ إلى أوهامهم فنسألهم: أتقولون افتراه؟! والاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الواقع، فهو توبيخ لهم على ادعاء الافتراء، وقد قامت أدلة الصدق، ووقع الحكم بأنهم مبطلون في ادعائهم وافترائهم، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله ليظهر كذبهم وأنهم المفترون على اللَّه تعالى ونبيه - صلى الله عليه وسلم - والحق، ولذا أمر سبحانه محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يدعوهم لأن يأتوا بسورة من مثله، أي مما ترون أنه مثله، فأتوا بسورة منه، فهم يدعون أنه مفترى افتراه محمد - صلى الله عليه وسلم - فليأتوا بسورة من مثله إن كان له مثل.
إن محمدا بشر مثلهم فإذا كان قد افتراه فأنتم بشر مثله فأتوا بسورة من مثله، ويصح أن نقول أن (مِن) بيانية ويكون المعنى ائتوا بسورة منه، أي من جنسه، ولعل ذلك أظهر.
وقد تحداهم اللَّه أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات فعجزوا، ثم نزل فتحداهم أن يأتوا بسورة فعجزوا.(7/3571)
ولكمال التحدي أمر اللَّه نبيه أن يدعوا من يناصرونهم ومن يستطيعون نصرهم، فقال في سياق أمره - سبحانه - لنبيه: (وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) فدعوة هؤلاء النصراء لأمرين:
أولهما - ليشهدوا كذبهم في ادعائهم.
ثانيهما - لينتصروا بهم ويكونوا قوة معهم يظاهرونهم فيما يدعون، ولكنهم مع ذلك لَا يمكنهم أن يأتوا بقرآن مثله كقوله تعالى:
(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88).
وقوله تعالى: (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) أي في ادعائكم الافتراء وإن محمدا كذب على اللَّه تعالى ولكنكم عاجزون فيبطل ادعاؤكم الافتراء.
وفى كلمة (قُلْ فَأْتُوا) - الفاء للإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر تقديره: إذا كنتم تدعون أن محمدا افتراه فمحمد بشر عربي مثلكم، فأتوا بسورة من مثله.
هم لَا يؤمنون أنه افتراء ويؤمنون أنه كلام لَا ينطق البشر بمثله، ولكن لأنهم سارعوا بتكذيب الرسالة المحمدية لجُّوا في التكذيب وتورطوا في الإنكار حتى وقعوا فيما لم يقع فيه عربي يعرف معنى البلاغة في القول، لذا قال تعالى:(7/3572)
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
(بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
(بَلْ) للإضراب عما حوى ما قبلها، والإضراب عن ادعاء الافتراء، معناه أنهم لم يقفوا في دعوى الافتراء إلا بأمر سبقه، وهو أنهم سارعوا بالتكذيب من غير أن يتأملوا. وهذا هو قوله تعالى: (بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) أي بما لم يعلموه علم إحاطة وفحص لحقائقه ومدى ما فيه من إعجاز بياني وما حوى من شرائع(7/3572)
توائم العقل وتواكبه ومدى ما فيه من إنذار لمن كفر وثواب لمن آمن، وذلك لمن يخاطب بأمر غريب لم يألفه فإنه يسارع إلى إنكاره بادي الرأي، ثم إذا شرد عقله عن الطريق المستقيم ضل في السبل وأصبح لَا يسمع منادي الصواب إذ يناديه، وداعي الهداية إلى الحق وهو يدعوه.
وهذا نراه في أصحاب المذاهب المنحرفة إذا فوجئوا بما يخالفها أنكروه ثم حاولوا أن يجمعوا ما يؤيد ما جنحوا إليه من المنكر، وإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - جاء إليهم على فترة من الرسل في الأرض العربية وقد عمتهم جهالة دينية، فجاءهم بأنه رسول من عند اللَّه تعالى وكان ذلك غريبا فيهم، وجاءهم بقرآن هو معجزته فلم يتدبروه ويفهموه فعجلوا برده، ثم ساروا من بعد في سبل الضلال.
(وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأوِيلُهُ) التأويل هو التفسير والفهم وفقه الكلام ومراميه ويطلق بمعنى معرِفة المآل ومن ذلك قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا. . .).
والنص القرآني يقبل تفسيرين، بل لَا مانع من الجمع بينهما:
أولهما - أنهم كذبوا ولم يحيطوا بعلمه، والحال أنهم لما يأتهم في مداركهم وأفهامهم فقهه وما فيه من إنذار وتبشير، وسيأتيهم لَا محالة إذا تأملوه.
ثانيهما - أنهم لم يأتهم مآله، وأنه آت لَا محالة، وأنهم كذبوا القرآن بما فيه من بعث ونشور وحساب وثواب بالجنة وعقاب بالنار وأنه سيأتيهم، وقد وعد سبحانه، وإنه منجز وعده.
وإن هذه الحال من المشركين هي الحال التي كانت في الأمم السابقة الذين بعث فيهم الرسل وسارعوا بتكذيبهم قبل أن يتأملوا ما أتوا به وقبل أن يعرفوا قوة المعجزة، ثم لجوا في تكذيبهم حتى نفذ اللَّه تعالى أمره فيهم كقوله تعالى: (كَذَلِكَ كذَّبَ الَّذِين مِن قَبْلِهِمْ) كهذه الحال التي كان عليها المشركون من العرب(7/3573)
فى مسارعتهم إلى التكذيب واللجاجة فيه ثم المعاندة والمقاومة بالعنف من غير إدراك سليم، وهذه الحال هي حال الذين من قبلهم فإذا تشابهت الحال فلا بد أن تتشابه النتيجة أو الأثر، ولذا قال سبحانه: (فَانظُرْ كَيْفَ كانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) أي فانظر على أي حال كانت عاقبة الظالمين كانت ريحا صرصرا عاتية، أو ريحا فيها عذاب شديد، أو جعل أرضهم دكا سَافِلها عاليها أو خسف بهم الأرض أو غير ذلك من آيات اللَّه الكبرى في الذين يظلمون أنفسهم ويظلمون الحق معهم، وإذا كان اللَّه قد أمهل المشركين ولم ينزل بهم ما أنزل بالذين من قبلهم، فلكي يستمر اختيارهم وعسى أن يخرج اللَّه من أصلابهم من يعبده.
وفى قوله تعالى: (كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) إظهار في موضع الإضمار، لبيان أنهم ظلموا أنفسهم وظلموا الأنبياء الذين أرسلوا إليهم وأنكروا حقائق ثابتة قد خلت فيمن ظلموا.
وإن الحقَ حقٌ في ذاته، سواء أكثُرَ من آمنوا به أم قلوا، وسواء خضع له أو لم يخضع، والثواب لمن آمن واهتدى والعذاب لمن كفر.
ولذا قال تعالى:(7/3574)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
(وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
الضمير في كلمه (مِنْهُم) يعود على المشركين في قريش، أما ضمير في كلمة (بِهِ) فيعود على القرآن الكريم.
وإنه من نعم اللَّه على الخلق أن لم يجعلهم جميعا على كلمة الشرك أو الإنكار، بل منهم من يذعن للحق فيسارع إليه كما يسارع المشرك إلى الإنكار.
وهذا الكلام فيه تبشير للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه مع هذه الحال الحالكة المظلمة سيكون من يؤمن ومن يجدد إيمانكم في كل الأزمان ويصدق بالقرآن ويذعن له، فالقرآن باقٍ خالد محفوظ، ونور يهدي ما بقي الإنسان في هذه الأرض.(7/3574)
ومنهم من يبتلي اللَّهُ به المؤمنين بإنكارهم ولجهم في الإنكار ومعاندتهم للحق وحربهم لأهله، والتعبير بالمضارع لبيان تجديد الإيمان واستمراره وأن الكفر باق ليكون ذلك ابتلاء للمؤمنين وتثبيتا لإيمانهم، ثم يقول تعالى: (وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ) علما دقيقا محيطا بالذين لَا يؤمنون، وعبر عنهم بالمفسدين، لبيان أن في طلبهم الإفساد في الأرض ومنع الإصلاح فيها، فمنهم المنافقون الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ومنهم المعاندون الذين يحاربون الإيمان ويحاولون أن يسدوا مسالك الهداية، وذكر العلم بالمفسدين إنذار بالعقاب من اللَّه تعالى الذي لا يغيب عن علمه كبيرة ولا صغيرة في السماء ولا في الأرض.
* * *
إنْ عليك إلا البلاغ
قال تعالى:
(وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
* * *(7/3575)
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على هدايتهم، كما قال تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، فبين اللَّه سبحانه أنه لَا يهدي وإنما ينذر ويبشر كما قال تعالى: (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِر. . .).
في هذه الآية يآمر اللَّه تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يحمِّلهم إن كذبوا تبعات أعمالهم في الكفر فقال تعالى:(7/3576)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
(وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُم بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ) مغبة عملكم عليكم، ومثوبة عملي لي وإني بريء مما تعملون وتكررون عمله آنًا بعد آنٍ وتجددونه تجددا مستمرا، وقد أعذر من أنذر وقد أنذرتكم وشددت النذير ووعظتكم أحسن الوعظ وتلوت عليكم آيات بينات فيها سبيل العمل الصالح وتكوين الجماعة الفاضلة فإن استجبتم فقد أحسنتم لأنفسكم، وإن كذبتم فعليكم تبعات ما تعملون، كما قال اللَّه تعالى: (لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6).
(وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) كل إنسان وما يعمله، لَا يؤاخَذ - صلى الله عليه وسلم - في كفرهم هو بريء منهم ومن أعمالهم، ومع هذا يبرأ إلى اللَّه من أعمالهم تنزيها لنفسه عن أن يشرك أو يرضي عن شركهم المستمر المتجدد، وقد عبر بالمضارع؛ لأن أعمالهم الفاسدة متجددة مستمرة التجديد.
ْفى المسلك الذي أمر اللَّه تعالى نبيه أن يسلكه إرشاد حكيم للعصاة وإيئاس لهم من أن يكون معهم، بل فيه دعوة إلى الاقتداء به في عمله، وفيه إشارة إلى فساد أعمالهم، والمُفسد إذا رأى عمل المُصلح تأثر بعمله، بل إن ذلك أشد ثأثيرا من قوله وأفعل في النفس وأدعى للتأمل، واتجاه النفس إلى ما في ثناياها، وربما اهتدت، وأنها لو فوض أمرها إليها قد يكون الخوف فيها، وأنه إذا داخل الجاحد الخوف من مغيب عنه سار في طريق الهداية.
إن هؤلاء المشركين عقولهم غائبة عن الحق سائرة في الضلال غافلة عن دعوة الداعي إلى النور، وقد قال تعالى في بيان غفلتهم:(7/3576)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
إن السمع لَا يعتبر وحده ولا يدرك وحده، بل لابد من السمع والإدراك، والبصر لَا يدرك ما يشاهد ومغزاه وعبره، بل لابد من أن يرى الرائي ويدرك العبر، وإن هؤلاء أهل جهنم الذين طمس على بصائرهم، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179).
(وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ): ومنهم أي من المشركين الذين يعرضون عن الحق، من يستمعون إليك بظاهر حسهم، وتحسبهم مستمعين للقول فيتبعون أحسنه ويفكرون متدبرين مميزين بين الحق والباطل، ولكنهم كالأصم من حيث الهداية؛ وذلك لأنهم يستمعون إلى الألفاظ تتردد ولا يفقهون معناها ولا يذوقون الحق ويدركونه، وهم كالصم في آذانهم وقر، قد ماتت عقولهم وصاروا في عدم إدراكهم معنى الكلام ومرماه وغاياته وجماله وكماله كمن لَا يسمع أصلا، لأنه لا ثمرة لسمعه؛ لأنه يسمع جرس الكلام ولا يفقهه ولا يذوق بيانه. ومن مواضع العجب أن يطلب ممن هذا شأنه - الإدراك والاعتبار بما يسمع من قصص وعظات، ولذا قال تعالى: (أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ).
الاستفهام للتعجب والنفي، (الفاء) لترتيب التعجب على حالهم، والمعنى أنه لَا فائدة في استماعهم ودعوتهم، والعجب من رجاء الاستجابة منهم، فهم قد اجتمعمتا فيهم صفتان تمنعان الاستجابة:
الأولى - الصمم النفسي، وهو يكون بإعراضهم واستنكافهم كان بهم وقرا.
الثانية - أنهم لَا يعقلون، فلا يستجيبون لدعوة الحق.
وإن نظرهم كسمعهم؛ ولذا قال تعالى:
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)(7/3577)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43)
إنهم ينظرون إلى السماء وما فيها من أبراج وإلى الأرض وما تخرج من طيبات الرزق ولكنهم عمون عن عجائب الوجود، كما قال تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11).
ينظرون في الكون ولكن لَا يدركون ما يهدي إليه النظر فكأنهم عمىٌ لا يدركون؛ لأن النظر من غير إدراك لما يدل عليه المنظور من آيات بينات، شأنه كعدم النظر سواء؛ إذ ثمرة النظر مفقودة في الحالين.
ولذلك قال تعالى: (وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ) ولكنهم غير ناظرين؛ لأنهم غير مدركين ما في الوجود من آيات بينات، وقال سبحانه: (إِلَيْكَ) وفي الآية السابقة (يسْتَمعُونَ إِلَيْكَ) إشارة إلى أنهم يكونون مع النبي بحسهم وليس بعقولهم، ثم قال تعالى: (أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ) وشبههم بالعُمْي لعدم الثمرة في نظرهم، وهم معرضون عن آيات اللَّه تعالى، والاستفهام للتعجب.
ولقد قال الزمخشري في هذه الآية والتي قبلها: " ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكنهم لَا يعون ولا يقبلون، وناس ينظرون ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لَا يصدقون، أفتطمع أن تسمع الصم ولو انضم إلى صمهم عدم عقولهم؛ لأن الأصم العاقل ربما تفرس واستدل، ولكن إذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعا فلا فائدة في استماعهم ودعوتهم، أتحسب أنك تقدر على هداية الأعمى ولو انضم إلى العمى، وهو فقد البصر فقد البصيرة، لأن الأعمى له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن، وأما العمى مع الحمق فجَهْد البلاء، وذلك يعني أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا كالصم والعمي الذين لا بصائر لهم ولا عقول ".(7/3578)
إن اللَّه تعالى قد أنزل آياته وشرائعه يهدي بها من يهتدي، ومن ضل فإنما يضل عليها، ووصفها أمام الأعين البصيرة والآذان المستمعة والقلوب المستقيمة، وأنه يؤاخذ الناس بما كسبوا فإن استقاموا على الطريقة كانت الهدأية وإن لم يستقيموا كان الضلال، ولذا قال تعالى:(7/3579)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
إن اللَّه وضع كل أسباب الهداية أمام الناس وأرسل الرسل مبشرين، وما كان ليعذبهم إلا إذا أرسل إليهم من ينذرهم بالعذاب الأليم، إن لم يسلكوا سبيل الحق واختاروا سبيل الضلال وأفسدوا في الأرض بعد أن أضلوا عقولهم؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا).
أصل " ظلم " بمعنى أنقص، وأطلقت على ما هو ضد العدل والاستقامة، وأطلقت على الشرك، لأنه انحراف بالعقل عن الاستقامة والطريق السوي، وقال تعالى: (. . . إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْم عَظِيمٌ).
والظلم هنا إما أن نفسره بمعنى النقص ويكون المعنى أن اللَّه لَا ينقص الناس شيئا بل يوفر لهم أسباب الهداية والإرشاد من: إرسال الرسل، وإقامة الشرائع وآيات اللَّه والتنبيه إليها، ومنحهم العقول التي تدرك، وحرية الاختيار فيما يفعلون، ويوجد سبحانه فيهم قوى الإدراك. كما قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وإما أن نقول: إن الظلم المنفي هنا هو عدم العدل، ويكون المعنى على ذلك أن اللَّه تعالى لَا يظلم الناس شيئا في الظلم مهما قل، لأنه أوجد فيهم الاختيار والإدراك وجعل تحت أيديهم أسباب الهداية، فإن ضلوا فعن بينة وإرادة حرة مختارة، واللَّه تعالى يحصي أعمالهم ويجزيهم عليها، كما ورد برواية مسلم عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في حديث قدسي عن ربه: " يا عبادي إنما هي أعمالكم(7/3579)
أحصْيها عليكم ثم أوفِّيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " (1).
وإذا كان اللَّه تعالى لَا يظلم أي قدر من الظلم قلَّ أو جلَّ فإن نزول العذاب بالناس بظلمهم لأنفسهم، ولذا قال تعالى: (وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
وهذا استدراك من النفي السابق، وإذا كان اللَّه لَا يظلمهم فهم يظلمون أنفسهم، وقدم المفعول على الفعل للاختصاص أو القصر، أي هم يظلمون أنفسهم ولا يظلمون سواها، كما سبق قوله تعالى: (. . . إِنَّمَا بَغْيكُمْ عَلَى أَنفُسِكم. . .) وذلك، لأن الظالم يقع ظلمه على نفسه ابتداء؛ لأنه يفسد فطرته وتكون غشاوة على قلبه فتنقص مداركه وتسوء معاملته، ويسيء إلى نفسه ثم يتردى في أسباب الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة.
يقول تعالى:
________
(1) سبق تخريجه.(7/3580)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
وإن العذاب يجيء إليهم في الآخرة كما ذكر سبحانه:
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ) أي جزء من الزمان قليلا من النهار، وذكر النهار، لأن الليل قد يستطيل الإنسان وقته، ولأن الحشر وكأنه يجيء في غير ظلام بل في إشراق ليستبين المهتدي من الضال، كما قال تعالى: (. . . كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ. . .)، وقوله تعالى: (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا).
والمراد أن يوم الحشر لَا يحسون فيه بفاصل زمني بينهم وبين ما كانوا عليه في الدنيا، فيحسون أن الدنيا بطولها ليست إلا زمنا قصيرا قضوه فيها، وفي ذلك إشارة إلى قصر الدنيا مهما طالت فلا يحسون بها إلا زمنا قصيرا، وقد قال تعالى(7/3580)
في بيان ظنونهم نحوها (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكونَ).
كما يقول سبحانه: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)، وكل ذلك يصور إحساسهم بقصَر الدنيا يوم تقوم الساعة.
وفى قوله تعالى: (لَّمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً) الدليل على أنه سبحانه يحشرهم بأقل ما يمكن من الزمن وأن حشرهم ليس عسيرا حتى يأخذ زمنا عند الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وهم يحسون الدنيا الفانية شيئا قصير الأمد، ساعة من نهار، أو يوم في تقدير أمثلهم طريقة.
ثم يقول تعالى: (يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) التابعون والمتبوعون، الذين ضلوا والذين أضلوا الفقراء، الذين سخروا منهم والساخرون.
عندئذ يدرك الذين كذبوا بلقاء ربهم ما خسروه بسبب طغيانهم في الدنيا واستهزائهم وقولهم لكل نبي ما نراك اتبعك إلا أراذلنا، ولذلك بيَّن سبحانه أنهم رأوا وعاينوا مقام التابعين للحق كما عاينوا دركهم في الجحيم.
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ) خسروا لأنهم ضلوا واشتروا الضلالة بالهدى والحياة الدنيا بالآخرة، لم يقدموا لأنفسهم فخسروا خسرانا مبينا، ختم اللَّه تعالى الآية بالخسارة العظمى التي أدت إلى الخسائر كلها بقوله تعالى: (وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ) فنفى عنهم الاهتداء نفيا مؤكدا وبقي الضلال المؤكد.
ثم يذكر سبحانه وتعالى ما ينزل بهم:
(وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)(7/3581)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
(إِمَّا) هي (إنْ) الشرطية المدغمة في " ما " و " ما " لتقوية الشرط، وجاءت بعد نون التوكيد الثقيلة.
وأن نريك بعض الذي نعدهم من الدنيا في خذلان وإعلاء لكلمة الحق وجعل النصر للمؤمنين، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الحق هي العليا وضياع سلطانهم وجعل السلطان في بلاد العرب لله ولرسوله، إن نريك هكذا تكن العزة، فجواب الشرط محذوف تؤخذ دلالته من الشرط نفسه، وقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما وعده ربه وما أوعدهم به.
(أَوْ نَتَوَفَيَنَّكَ) هو الغرض الثاني وهو مغطوف على الشرط السابق، أي يتوفاك اللَّه الذي خلقك ونصرك وأعزك (فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ)، أي إنْ تحضر النصر على الكافرين جميعا وكان منهم من بقي على كفره أو كان إسلامه على نفاق كالأعراب الذين ارتدوا أو ممن لم تبلغهم الدعوة في حياتك ثم بلغهم الإسلام بعد وفاتك (فَإِلَيْنَا مرْجِعُهُمْ)، وقدَّم الجار والمجرور على (مَرْجِعُهُمْ) للإشارة إلى أن للَّه وحده المرجع والمآب، وهو الرقيب عليهم في الدنيا والمحاسب لهم في الآخرة، ينزل العقاب لمن كفر، والثواب لمن آمن واهتدى وآثر الآخرة الباقية على الدنيا الفانية.
وإن اللَّه شهيد على ما يفعلون ويعطي الثواب والعقاب؛ ولذا قال تعالى: (ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ) كلمة (ثُمَّ) للترتيب والتراخي، والترتيب ترتيب معنوي فالله تعالى شهيد على ما فعلوا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما يفعلون بعده، ولكنه فرق بين رؤية النبي فيما يقع حسا، وبين ما ينزل بهم إلى علم اللَّه عالم الغيب والشهادة الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض.
والبعد الذي تدلى عليه كلمة (ثُمَّ) هو البعد المعنوي بين رؤية الإنسان وشهادة اللَّه تعالى (اللَّهُ شَهِيدٌ) أي عالم علم من يشهد ويرى كرؤيتك المؤكدة، فهو عالم علم المشاهدة بما يفعلون آنًا بعد آنٍ، أي بما يتجدد في فعلهم وهو سبحانه يحاسبهم عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وإليه المآب.
* * *(7/3582)
لكل أمة رسول
قال تعالى:
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
* * *
إن اللَّه تعالى لَا يظلم الناس فما كان ليعاقب إلا بعد أن يبين الحق ويدعو إلى الرشاد، وينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، ولذلك كان لكل أمة رسول كما قال سبحانه: (. . . وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِير).
وقد اتجه المفسرون في قوله تعالى لكل أمة رسول اتجاهين:
الاتجاه الأول - أن ذلك يوم القيامة حيث يجيء كل رسول يشهد لأمته بما كسبت ويشهد عليها بما اكتسبت فيقضى بينهم بالقسط، أي بالعدل الموزون بميزان الحق وهم لَا يظلمون، أي أن القضاء يكون الإنصاف فلا ظلم قط.
والاتجاه الثاني - أن هذا نظام اللَّه تعالى الذي سنه في الدنيا يرسل لكل أمة رسولا، ونكَّر كلمة(7/3583)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
(رَّسُولٌ) فلم يأت به معرفة لتعدد الرسالات وتنوعها،(7/3583)
فمنهْم من جاء لتربية القوة والعزة كما هي شريعة التوراة التي نزلت على موسى، ومنهم من جاء لتربية الروح والنفس كما هي شريعة عيسى لبني إسرائيل الذين غلظت أكبادهم.
وقوله تعالى: (فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ) أي جاء في وسطهم يدعوهم إلى سواء السبيل، كان من أجاب منهم له ثوابه ومن أعرِض ونأى بجانبه حق عليه عقابه، وهذا معنى قوله تعالى: (قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ).
ونرى أنه لَا تعارض بين الاتجاهين، ويمكن الجمع بينهما، فيكون الرسول داعيا في الدنيا، ويكون في إجابته المهتدي والضال، ثم يكون يوم القيامة شاهدا على الفريقين، واللَّه أعلم.(7/3584)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
(وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
وإن المشركين في إنكارهم للبعث يستعجلونه إن الأساس في رد دعوات النبيين إلى الرسالة الإلهية وهو إنكارهم البعث والنشور وكفرهِم بما يغيب عنهم، ولذا يكون استغرابهم من دعوة الرسل وإجابتهم واحدة (مَتي هَذَا الْوَعْدُ) والخطاب في هذه الآية للرسل، والقائلون هم المشركون، فالضمير في كلمة (يَقولُونَ) للمشركين لأنهم الذين يجادلون النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(مَتَى هَذَا الْوَعْدُ) الاستفهام هنا للتعجب والاستهزاء، وللاستفهام عن الزمن البعيد عن الوعد الذي يكون وراء البعث، والوعد هو الإنذار الشديد بالعذاب الأليم فيقولون ساخرين: متى يكون ذلك الوعيد؛ ويكررون ذلك الاستفهام المستهزئ الذي ينم عن الاستهانة وعدم الاهتمام غرورا بأنفسهم وانغمارا في لذاتهم.
وأعقبوا الاستهانة والاستهتار بقولهم: (إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) أي أنهم يردفون الاستهزاء بتكذيب الرسل، ولابد من الإشارة إلى أن ذلك يتكرر في خطاب كل(7/3584)
الرسل، وأن الكفر بلسان واحد في الاستنكار والاستهزاء؛ ولذا جاء الخطاب للرسل أجمعين لَا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وحده، لأن دعوتهم واحدة، ورد المشركين واحد، وإن كان المتحدث عنهم مشركو العرب؛ لأنهم صورة منهم بل أوضح صورة عند محمد - صلى الله عليه وسلم - طلبوا منكرين ومستهزئين، وكرروا الطلب متى هذا الوعد؛ وهو العذاب الذي أوعَدْت، فأمر اللَّه تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول لهم:(7/3585)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
(قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
طلبوا مستهزئين غير مبالين أن يحل بهم ما وعد اللَّه من عذاب فأمر اللَّه نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لهم إنه لَا يملك ذلك وإنما يملكه اللَّه تعالى وحده، ويقول لهم - صلى الله عليه وسلم - إنه إنسان مثلهم لَا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، وبالأولى لَا يملك لغيره ثم بالأولى لَا يملك ضررا عاما يعم المشركين جميعا كما يطلبون.
(قُل لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) وقدم الضر على النفع؛ لأنهم يطلبون أن ينزل بهم ما يضرهم فكان الرد بنفيه أولا، فإذا كان لَا يملك أن يضر نفسه فلا يملك أن يضر غيره.
وقوله تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) استثناء يبين كمال سلطان اللَّه وأنه وحده الذي يشاء ويختار وينفذ في الوجود الكوني ما يشاء هو، لَا ما يشاء غيره، والمعنى هنا إن شاء فالذي يملك سبحانه وإن لم يشأ فلا أملك، والاستثناء بقوله: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) حيث الإرادة والاختيار المطلق للَّه تعالى وحده كقوله سبحانه: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ. . .)، فهي دالة على اختياره المطلق ومدلول هذا الاختيار أنه لو شاء لضَرَّ، فليس أمر هذا الكون أو الإنسان يقع بغير اختياره، وهذه إجابة فيها بيان أنه - صلى الله عليه وسلم - ليس مغترا كاغترارهم وأن قوته محدودة ولا يدعي ما ليس له مثله، ومع هذه الإجابة إجابة أخرى هي قوله تعالى: (لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) أي زمن محدود تنتهي عنده، والأمم السابقة كان أجلها(7/3585)
بما ينزل عليها من عذاب ساحق مبيد للكافرين كالغرق لقوم نوح، والهلاك بسبب سماوي كما كان لقوم لوط وعاد وثمود.
لم يقدر لكم اللَّه تعالى الهلاك كهذه الأمم، بل إنه لَا يزال يرتجى الخير لبعضكم أو أن يكون من أصلابكم، وفي هذا ما يفيد أن الوعد في الآية السابقة ما كان مقصورا على الكافرين بعذاب الآخرة بل يشمل ما كان في الدنيا من إهلاك الكافرين المفسدين، كما تقص القصص الصادقة في القرآن.
(إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَئْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) أي إذا حل أجلهم في زمانه المعين الذي قدره اللَّه تعالى لَا يستطيعون طلب تأخيره أو تقديمه (السين، والتاء) للطلب أي أنهم ليس لهم تأخيره أو تقديمه كما يتوهم المشركون ويطلبونه مستهزئين أو جادّين.
وقد أشار سبحانه من بعد ذلك إلى أن عذابهم قد يقع في الدنيا كما وقع لغيرهم، فأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليقول لهم:(7/3586)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50)
(أَرَأَيْتُمْ) استفهام داخل على رأيتم وهو لتصوير حالهم، والمعنى أرأيتم وتصورتم حالكم إذا أتاكم عذابه بياتا وأنتم نائمون بريح عاصف أو هدمت عليكم دياركم وجعل اللَّه عاليها سافلها وأنتم نائمون، أو جاءكم نهارا ورأيتم الهول الكاسح، كقوله تعالى: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99).
هذا تصوير العذاب الذي يطلبونه فيقول سبحانه: (مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنهُ الْمُجْرِمُونَ) هنا إضراب انتقالي في القول، والمعنى أرأيتم إن ينزل بكم العذاب بياتا أو نهارا، وتصوروه واقعا بكم، أم ماذا تريدون، أو ما الجزء الذي تريدونه، وهو لَا يتجزأ أو يتجزأ وجزؤه ككله، وفي النص القرآني بعض الألفاظ:(7/3586)
أولا - قوله (أَرَأَيْتُمْ) هو استفهام عن الرؤية البصرية أو القلبية، وقد قلنا: إن الكلام يتضمن تصوير العذاب الذي يستهزئون به أنه لم يقع، والزمخشري يقول: (أَرَأَيْتُمْ) تدل على طلب الإخبار، أي أخبروني ما هي حالكم إذا نزل بكم العذاب بياتا أو نهارا.
ثانيا - عبَّر سبحانه عن نزوله ليلا بقوله: (بَيَاتًا) للدلالة على السكون والاطمئنان وأنه يجيئهم وقت اطمئنانهم وسكونهم فيكون أشد وقعا.
ثالثا - إن جواب الشرط في قوله تعالى: (إِنْ أَتَاكمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا) محذوف وهو الندم على الاستعجال والإحساس بالهول الشديد.
رابعا - قوله تعالى: (مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ) وصفهم بالإجرام، أولا والإشارة إلى سبب إنكار البعث وعذاب اللَّه الذي يستحقونه وهو إيغالهم في الجريمة وللتوبيخ على فعلتهم، وقد قال في ذلك الزمخشري: " إن في حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه وان أبطأ فضلا عن أن يستعجله ". فيشير بهذا إلى أنهم كان يجب عليهم أن يشعروا بالجريمة وأنها تستدعي عقابا لَا محالة؛ وذلك يوجب عليهم أن يتوقعوه لَا أن يستعجلوه.
إن وعد اللَّه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - آت لَا محالة يوم لَا ينفع نفس إيمانها بعد أن كفرت، ولذا قال تعالى:(7/3587)
أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
(أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
(ثُمَّ) عاطفة وهي للترتيب والتراخي، والترتيب هو ترتيب الاستفهام بعد الاستفهام، والاستفهام السابق كان لتصور العذاب وحالهم عنده ليعتبروا ولا يستعجلوا، وجاء الاستفهام الذي يليه وقد وقع العذاب فعلا؛ فالأول كان لتصوير العذاب متوقعا، والثاني لوقوعه بهم والتفاوت بينهم كالتفاوت بين المتوقع والواقع والتصور والحقيقة، وفيه الإشارة إلى أنهم لماديتهم لَا يؤمنون إلا بما يرون.(7/3587)
والتوقع هو ما يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوقعوه ويتصوروه، وإلا فهم مكذبون مستهزئون.
و (ثُمَّ) متأخرة والتقديم للاستفهام؛ لأن له الصدارة وتقدير القول أنه إذا ما وقع ورأيتموه رأي العين في الآخرة آمنتم به وصدقتموه، وقد قضى زمن التكليف وانتهت دار الابتلاء وجاءت دار الجزاء، إنه إيمان لَا ينفع.
ثم أردف سبحانه ذلك بتوبيخهم على تأخرهم في الإيمان واستعجالهم العذاب فقال سبحانه: (آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلونَ) أي تؤمنون به في هذا الوقت المتأخر وقد كنتم مكذبين وتستعجلون مُتحدين أو متهكمين أو ساخرين، فالاستفهام إنكاري توبيخي، والتوبيخ من نواح ثلاث:
أولاها - من ناحية إنكارهم البعث.
ثانيتهما - من ناحية تهكمهم على من ينذرهم.
ثالثتها - أنهم لَا يؤمنون إلا في الوقت الذي لَا ينفع النفس إيمانها.
وقوله تعالى: (وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) يقول كثير من المفسرين التابعين للزمخشري: (تَسْتَعْجِلُونَ) معناها تكذبون، وإني أقول أنهم كانوا مكذبين حقيقة ولكن كانوا يستعجلون فعلا ولو بظاهر القول، ويكون ذكر الاستعجال تهكما بهم وتوبيخا لهم في قوله تعالى: (وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) جمع بين الماضي والحاضر، وهو دليل على استمرار استعجالهم التهكمي وتكذيبهم باليوم الآخر ووعد اللَّه تعالى بالجزاء.
هذه حال المكذبين وإيمانهم بعدم وقوع العذاب وإنكارهم لتوقعه ثم إيمانهم به بعد أن يروه، ثم يبين سبحانه وقوع العذاب وتمكنه منهم فيقول تعالى:
(ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)(7/3588)
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
(ثُمَّ) للعطف والترتيب والتراخي، والعطف هنا يكون على الاستفهام السابق وما تضمن من توبيخ وتهكم بهم، كما تهكموا على أوامر اللَّه تعالى ونواهيه من قبل، ودعوتهم إلى الإيمان باليوم الآخر وما فيه من حساب وعقاب وثواب، والتراخي في الانتقال من مرتبة التوبيخ على الكفر إلى مرتبة العذاب العتيد الحاضر المهيأ.
قوله تعالى: (قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) بني للمجهول للإشارة إلى أنه استخفاف منطقي يقال بحكم المنطق والوقوع لكفرهم، وعبر عنهم بالموصول (لِلَّذِينَ) للإشارة إلى سبب العقاب وهو ظلمهم بالشرك وقصد الضلال والإفساد في الأرض وأشاعه زور القول وبهتانه، وإفراطهم في الأخذ بالماديات التي سيطرت على أفهامهم وصاروا لَا يؤمنون إلا بها.
(ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ) فيه إضافة العذاب إلى بيان له هو أنه خالد دائم ما دامت السماوات والأرض، وفي قوله تعالى: (ذُوقُوا) تشبيه للعذاب بالشيء الذي يذاق فيصيب إحساسهم، حتى أنهم يذوقونه كما يذاق الشيء المؤلم المرير.
(هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) فيه أن العذاب بسبب ما كنتم تكسبون من أعمال خبيثة فيها إيذاء للناس وإفساد لعقائدهم فهو جزاء وفاق، والجمع بين الماضي والمستقبل دليل على أنهم يكسبون الشر دائما لَا يناون عنه ولا يقصرون.
والاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الوقوع، والمعنى لَا تجزون إلا ما كنتم تكسبون، فجعل سبحانه الجزاء كأنه العمل الذي استوجبه أصلا، وذلك مبالغة في العدالة فالجزاء والعمل متساويان.
* * *(7/3589)
الجزاء شديد
(وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
* * *
ذكر لحالهم يوم القيامة عندما ينزل بهم ما كانوا يستعجلون به ويرونه حقا وصدقا وعيانا، وقد كانوا من قبل ينكرون وقوعه ويعجبون ويستهزئون ممن يذكرهم، وقد ذكر سبحانه صورة من القول الذي كان على ألسنتهم.(7/3590)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
(يَسْتَنْبِئُونَكَ) النبأ هو الخبر ذو الشأن، والسين والتاء للطلب وهي، هنا لطلب البيان، فالمعنى يستخبرونك عن النبأ العظيم وهو أن الناس يحيون بعد أن يموتوا، وتجمع أجسامهم بعد أن صارت رفاتا وعظاما، وقد أمر اللَّه تعالى أن يجيبهم بتأكيد الوقوع مقسما. فقال سبحانه: (قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ).
(إِي) معناها " نعم " إنه حق ثابت واقع لَا محالة، وقد قدر علماء البيان أن كلمة (إِي) التي تكون بمعنى نعم، لَا تكون إلا ومعها قسم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أمره ربه: (وَرَبِّي) أي الذي خلقني فبرأني ورباني، وفيه إشارة إلى تقريب تحقق ذلك الأمر الذي عجبوا منه واستنكروه واستهزءوا به، والقسم عليه (إِنَّهُ لَحَقٌّ) أكد أنه حق بالجملة الاسمية وبـ " إنَّ " التي للتوكيد وباللام.(7/3590)
أكد القسم أنه في قدرة الله وفي إمكانه ولا يخرج عن قدرة القاهر لكل شيء فقال سبحاده: (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ) أي لستم معجزين لِلَّهِ تعالى عن إعادتكم وحسابكم على ما قدمتم وأخذ المجرم بما اكتسب وإعطاء المحسن ما استحق من ثواب، والاستفهام في (أَحَقٌّ هُوَ) حقيقي منهم لأنهم جاهلون باليوم الآخر غلبت عليهم الحياة الدنيا، وأنه قد يكون تعجبا واستغرابا واستنكارا، وتومئ إلى هذا صيغته (أَحَقٌّ هُوَ) وهو لعجبهم الذي بينه الله تعالى في قوله: (وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. . .).
قال ابن كثير: " لم يأمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإجابة المشركينِ بالقسم إلا في ثلاث مواضع هذه أولها. والثانية: في قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِين كَفَرُوا لَا تَأتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأتِيَنَّكُمْ. . .)، والثالثة: في قوله تعالى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7).
كان أمر الله بالقسم في هذا المقام ليزيل غرابتهم أولا، وليؤكده في ذات نفسه ثانيا، وليحملهم على الاستعداد له ثالثا.
(وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) فيه بيان للإمكان ثم التحقق، وكيد لإزالة الاستغراب، وهو نفي مستغرق للإعجاز، فالله تعالى خالق كل شيء لَا يعجزه شيء وهو على كل شيء قدير.
إن ما يكون في يوم الجزاء من عقاب للآثمين يساوي كل ما في الدنيا بحذافيرها من متاع، ولذا قال تعالى:(7/3591)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
(وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
إن الهول سيكون فوق ما تدركه عقول من كفروا بذلك اليوم واستهانوا واستهزءوا به، وأنه لو تحقق لكل نفس ظلمت بالشرك والعناد والاعتداء والشهوات(7/3591)
وغير ذلك من الظلم وهو ظلمات يوم القيامة، لو ثبت أن لها ما في الأرض من معادن وزروع وحدائق وجنات ونعيم ثابت وعارض تملكه وما في الأرض جميعا لافتدت به وقدمته كله فداء، وهذا بيان لتضاؤل الدنيا بنعيمها وما فيها إلى جانب عذاب اللَّه تعالى، وأن على كل نفس أن تتوقاه في هذه الدنيا.
(وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ) عندما يرون هول يوم القيامة اعترتهم الندامة وأسروها لا يستطيعون إبداءها من ذهولهم بما رأوا، وقد قال في ذلك الزمخشري قولا حسنا: (أَسَرُّوا النَّدَامَةَ) لما رأوا العذاب؛ لأنهم بهتوا برؤية ما لم يحسبوا ولم يخطر ببالهم، وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه ما سلبهم قواهم وبهرهم فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخا ولا ما يفعله الجازع سوى إسرارهم الندم والحسرة في القلوب، كما ترى المقدم للصلب فإنه من فظاعة الخطب لَا ينبس بكلمة ويبقى جامدا مبهوتا، وقيل أسرَّ رؤساؤهم وسفلتهم، أسروا الندامة حياءً منهم ومن فعلتهم وخوفا من توبيخهم. وقيل أسروها، أي أخلصوها إما لأن إخفاءها إخلاصها، وإما من قولهم أسر بالشيء لخالصه، وفيه تهكم بهم وبأخطائهم وقت إخلاص الندامة ".
وإن الآية الكريمة تشمل كل هذه المعاني مع أن أولها المتبادر، ولكنه كلام اللَّه يحمل المعاني التي ندركها وغيرها، واللَّه تعالى وحده أعلم.
(أَسَرُّوا النَّدَامَةَ) الضمير يعود على كل الظالمين الذين ظلمت نفوسهم وودوا أن يكون في ملكهم الأرض وما فيها، والضمير بلفظ الجمع يعني الجمع في قوله: (وَلَوْ أَنَّ لِكلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ).
وإن اللَّه يقضي بينهم بالقسط، أي بالحق الذي يوزن فيه بميزان دقيق لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وهم لَا يظلمون، أي لَا ينقصون شيئا لأنهم يحاكمون أمام الحكم العدل اللطيف الخبير.
إن البعث وما بعده من حساب هو في قدرة اللَّه، لأنه مالك الوجود بما فيه ومن فيه.(7/3592)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)
(أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)
(أَلَا) للتنبهيه إلى عظم ما يجيء بعدها لدلالته على القدرة القاهرة والسلطان الظاهر.
(إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) من نجوم ذات أبراج، وأرض ذات جبال، ومعادن، وأحياء وغير ذلك، وأن من يملك شيئا يحكمه ويكون في قبضة يده ينظمه بحكمته وعدالته، وأنه يبدأ الخلق ثم يعيده وإن الحساب أمر ثابت، وإن اللَّه لا يخلف الميعاد، وإن موعده حق لَا يقبل التخلف. وفي الكلام إخبار مؤكد من اللَّه تعالى أن وعده حق، فقال سبحانه بعد بيان ملكيته المطلقة للكون وما فيه وقدرته: (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) وهذا تأكيد من اللَّه تعالى مؤكد بإضافته إلى اللَّه تعالى العلي الأعلي.
(وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) الاستدراك هنا لمخالفة المخالفين بعد تأكد الخبر من فَمِ الأمين الصادق ومن اللَّه تعالى، وذلك يوجب التصديق والإذعان والإيمان وحكم على الكثرة لَا على الجميع؛ لأن الذين لَا يعلمون الحق وأخذوا بالمادة هم الأكثرون كقوله تعالى: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضُلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ. . .).
ولقد قرب اللَّه تعالى البعث بأمر يرونه كل يوم، فقال تعالى:(7/3593)
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
(هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
الضمير في كلمة (هُوَ) يعود إلى لفظ الجلالة مالك السماوات والأرض والمدبر لهما (يُحْيِي وَيُمِيتُ) يخلق من الميت حيا، ويخرج من النواة الجامدة حبا ناميا، يأتي بالزرع حبه متراكب ثم يصير غثاء أحوى فيكون في ذلك حطام، ويميت الإنسان فيصير ترابا، وهكذا المثل المستمر في الوجود بين إحياء وإفناء، وأن من يفعل ذلك قادر أن يعيد الأموات أحياء ويبعثهم.(7/3593)
ثم يبين سبحانه النتيجة منذرا (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي أن الرجوع إليه وحده لا محالة، وإن جزاء الإحسان إحسانا، وأما الإساءة فعاقبتها عذاب يوم عظيم والله يتولى كل شيء.
* * *
شرع الله رحمة وشفاء
يقول تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
* * *
النداء للناس جميعا عربا كانوا أم عجما؛ لأن شريعة الله للناس كافة كما قال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا. . .).
ولذا كان النداء بالبعيد لقوله تعالى:(7/3594)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ).
تبين هذه الآية أن ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - قد اجتمعت فيه عناصر أربعة هي أقسام القرآن الكريم وهدايته:(7/3594)
القسم الأول - الدعوة إلى كل خير والإبعاد عن الشر والزجر، وضرب الأمثال في القصص القرآني الحكيم، والتربية النفسية بالعظة والاعتبار، كما قال تعالى: (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ. . .). ونسب سبحانه الموعظة إلى نفسه فقال: (مِّن رَّبِّكُمْ) وذكر الرب في هذا المقام إشعار بأنها في التربية الربانية الحكيمة لمن اتعظ واعتبر وأدرك وفقهت نفسه إلى الحقائق ووعاها.
القسم الثاني - أنه مما اشتمل عليه القرآن أنه شفاء لما في الصدور، كما قال تعالى: (وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُو) فإذا كانت الموعظة تقتضي واجبا إيجابيا هو تربية وتهذيب وإنشاء، فالشفاء كشف وإزالة لأدران الأمراض النفسية من حسد وحقد وتباغض وتنازع وخوف تبتدئ في الصدور وتنتهي إلى أن تكون أسقاما في المجتمع البشري تفسد بناءه وتقوضه، وكل هذا داء يحتاج إلى دواء، وفي القرآن الكريم ذلك الدواء الذي يكون به الشفاء.
القسم الثالث - هو الهداية فقال سبحانه: (وَهُدًى) أي أن فيه الهداية إلى الطريق المستقيم، وهو صراط الذين أنعم اللَّه عليهم فسلكوا الطريق الأقوم وبعدوا عن الشرك والضلال والاعوجاج، وساروا على هدى من اللَّه استقامت به قلوبهم وألسنتهم وكان منهم المجتمع الكامل القويم لَا عوج فيه ولا التواء عن القصد السوي.
القسم الرابع - (وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ) هو ما في القرآن الكريم من رحمة، والرحمة هنا هي الشريعة المنظمة لمجنمع المؤمنين الذي يأخذ بها كل ذي حق حقه، ويرتدع بها الظالم، ففي شرائعها الإيجابية رحمة بالناس وكل نظمها رحمة وفي شرائعها الناهية رحية؛ لأنها تنقية من الفساد ودفع لظلم الآحاد، وإذا كان الظلم شقاء فدفعه رحمة وسعادة، وإن العقوبات الزاجرة التي شرعها الكتاب الحكيم رحمة، وإنه من الرحمة أن يؤخذ المجرمون بجرائمهم، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -:(7/3595)
" من لَا يَرْحم لَا يُرْحَم " (1) ودفع الظلم والقصاص رحمة، ولذا قال تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ. . .).
ودفع اعتداء المعتدين رحمة وذلك من قوله تعالى: (. . . وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ. . .).
وإن الموعظة والشفاء والهدى والرحمة للمؤمنين، لأنهم يتعظون بمواعظه ويستشفون بشفائه ويهتدون بهدايته وتنالهم رحمته.
قال البيضاوي في مغزى هذه الآية: " قد جاء كتاب جامع للحكمة العملية الكاشفة عن محاسن الأعمال ومقابحها، المرغبة في المحاسن والزاجرة عن المقابح، والحكمة النظرية التي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك وسوء الاعتقاد وهدى إلى الحق واليقين ورحمة للمؤمنين، حيث أنزلت عليهم، نجوا بها من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان، وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران إلى مصاعد من درجات الجنان ".
إن من فضل اللَّه على عباده نزول القرآن الكريم المشتمل على هذا الفضل العظيم الذي يقول فيه سبحانه:
________
(1) متفق عليه، وقد سبق تخريجه.(7/3596)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
أمر اللَّه نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: (بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ) أي أن هذا القرآن الذي نزل جامعا للموعظة المبينة وشفاء القلوب وهدايتها، والشريعة هي من فضل اللَّه على خلقه الذي يختص بها من يشاء، وبرحمته على عباده الذين أنقذهم من الضلال، وفي هذا بيان بأن تنزيل القرآن وما فيه هو بفضل اللَّه ورحمته، وتكرار حرف الجر (الباء)، لبيان أن كليهما مراد اللَّه تعالى من تنزيل الكتاب، ثم يبين سبحانه أن هذا القرآن بما فيه هو أساس للسعادة والسرور والفرح لقوله تعالى:(7/3596)
(فَبِذَلكَ فَلْيَفْرَحُوا) والفاء الثانية واقعة في جواب الشرط المقدر المطوي في قوله تعالى. (فَبِذَلِكَ) أي فإن ذلك النزول إذا كان من فضل اللَّه ورحمته فليفرحوا، وتكررت (الباء) لتأكيد أن ذلك الفضل وتلك الرحمة من أسباب الفرحة وهو يزيد على كل خير الدنيا؛ ولذلك قال تعالى: (هُوَ خَيْرٌ ممَّا يَجْمَعُونَ) الضمير في (هُوَ) يعود إلى القرآن بما فيه من موعظة وهداية وشفاء لأسقام القلوب، (خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) أي من أموال ورخاء في الدنيا وأسباب القوة وغير ذلك مما هم حريصون على جمعه راغبين فيه، فإنه إن كان يفرح زمنا فإنه يكون وبالا على صاحبه، والمفاضلة هنا هي بين منافع مادية عاجلة ومنافع روحية، وكلمة خير تدل على أنه بلغ أعلى الدرجات عن هذا الذي يجمعونه.
إن الشريعة الرحيمة التي تشمل الحلال والحرام يخرج الكافرون عن نطاقها ولهذا قال تعالى:(7/3597)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
أمر اللَّه تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يسألهم عن الرزق الذي أنزل إليهم إذ يجعلونه حراما وحلالا من غير أمر إلهي يحل لهم ويحرم. وقد بين اللَّه تعالى في الآية السابقة كيف هداهم وأرشدهم، وفي هذه الآية الكريمة كيف يتلقون رحمة اللَّه إذا انحرفت نفوسهم بالشرك.
(أَرَأَيْتُم) استفهام إنكاري والإنكار منصب على الرؤية وما بعدها من جعلهم بعضه حراما وبعضه حلالا، والاستفهام الإنكاري هنا إنكار للواقع، أي بمعنى التوبيخ فاللَّه تعالى يوبخهم على أن جعلوا منه حراما وحلالا.
وكلمة (أَنزَلَ) معناها خلق وأنشأ، وعبر بالنزول باعتبار أن الرزق رحمة نازلة من اللَّه تعالى، أنزل سبحانه من السماء مطرا أنبت به من ثمرات كل شيء مما يأكل الناس والأنعام وهو بمقتضى أصل الخلق والتكوين حلال بالإباحة الأصلية(7/3597)
الثابتة، يقول تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا. . .)، إلا ما كان من الخبائث التي حرمها اللَّه تعالى، ويقول سبحانه: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا. .).
أي للأحجار التي جعلوها بزعمهم شركاء للَّه.
وحرموا السائبة والوصيلة والحام وغير ذلك كفرا بالنعمة وشركا باللَّه وعبثا برحمته.
(فَجَعَلْتم مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا) أي صيَّرتم منه حراما على أنفسكم، ولم يكن كذلك بل كان حلالا بمقتضى أن اللَّه لم يحرمه. ثم أمر اللَّه تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يسألهم (قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْترونَ)، وهنا الاستفهام داخل على لفظ الجلالة وموضوعه الإذن وهو فاعل لفعل محذوف دل عليه " أذن " بعد ذلك، كالشرط إذا دخل على الاسم كما في قوله: (إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ).
الاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع مع التوبيخ لهذا التحريم، و (أَمْ) التالية للإضراب عن الاستفهام السابق؛ لأن المستفهم عنه منفي وقوعه، فهو انتقال من الاستفهام الإنكاري النافي إلى استفهام توبيخي نافٍ للواقع، فقد حكم سبحانه مع التعجب التوبيخي بنفي أن يكون ذلك بإذن اللَّه، والاستفهام ممحص للتوبيخ على ما وقع منهم، وهو الافتراء على اللَّه تعالى: (أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرونَ).
وقدم قوله تعالى: (عَلَى اللَّهِ) للتخصيص، أي أنتم بهذا تفترون على اللَّه لا على غيره، وأي فساد في التفكير أن يكون افتراؤهم على اللَّه خالقهم وخالق الوجود كله، وأنهم يعترفون بالخالق وأنه لَا شريك له في خلقه ولكن يعبدون الأحجار لتكون شافعة عنده، فكانوا سخفاء في شركهم وفي تبريره. تعالى اللَّه عما يشركون.(7/3598)
بعد أن أكد سبحانه أنهم يفترون سألهم عما يتوقعه الذين يفترون على اللَّه الكذب يوم القيامة.(7/3599)
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
(وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
الظن هنا هو التوقع المبني على الظن الذي اختاروه لأنفسهم سبيلا بدل أن يتحروا مستيقنين، والاستفهام توبيخي إنكاري وطلب لأن يفكروا فيما يتوقعون يوم القيامة، هل يتوقعون مع افترائهم على اللَّه أن يدخلوا جنات النعيم؛ أم يتوقعون جزاء وفاقا لما صنعوا في جنب اللَّه تعالى من عصيان وتمرد على أوامره، بل إنهم ساروا في عصيانهم إلى أبعد أنواع الضلال فافتروا على اللَّه في الحلال والحرام، فحرموا على أنفسهم نعمه ونسبوا التحريم إليه، وحللوا ماحرم اللَّه وافتروا كما كانوا يفعلون من الطواف عرايا.
وقد بين سبحانه أنه أنعم عليهم، وهم الذين غيروا وبدلوا وحرموا طيبات أحلت لهم ولم يشكروا بالطاعة والحمد على ما تفضل به عليهم سبحانه، فقال تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ) في قوله تعالى تأكيد لفضله بـ (إِنَّ) المؤكدة وبالجملة الاسمية، وبأن الفضل يصحب كل تصريفه لأمور العباد تعالى، فقال سبحانه: (لَذُو فَضْلٍ) مؤكدا ذلك باللام.
(وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ) الاستدراك هنا معناه أنه كان حقا عليهم أن يشكروا فاستدرك سبحانه على هذه النتيجة المنطقية وقرر أن أكثرهم عدلوا عنها وانحرفوا عن مسلكها إلى الضلال فكانوا لَا يشكرون وجحدوا، وكان التعبير بالمضارع؛ لدوام عدم شكرهم وتكرر جحودهم وتجدده آنًا بعد آنٍ.
* * *(7/3599)
الله تعالى رقيب على العباد
قال تعالى:(7/3600)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
(وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
* * *
إن أكثر الناس لَا يشكرون نعمة الله ويكفرونها، وإذ يدعوهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يناله أذاهم واستهزاؤهم والتعذيب لبعض أتباعه ومقاومة الدعوة وفتنة من يتبعونها من الضعفاء وغيرهم، والله تعالى يبين علمه بذلك وإمهاله لهم رجاء إجابتهم.
(وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ) الشأن هو القصد والحال من قولهم شَأنْتُ شَأْنَهُ، أي قصدت قصده، والله تعالى يعلم أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومقاصده وما يقوله من إرشاد وتوجيه وبيان لحججه، والله سبحانه عليم بجهاده في دعوته إلى ربه (وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ) أي ما تتلوه عليهم من أجل هذا الشأن، ولتحقيق الرسالة في القرآن فالضمير في قوله تعالى: (وَمَا تَتْلُو مِنْه) يعود على الشأن، أي ما تتلو من أجله عليهم في بيان هذا الشأن لتكذيبهم، فتتحداهم لإثبات الحق كالآيات التي يتحداهم فيها أن يأتوا بمثله.
(وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا) التفت الخطاب الكريم إلى الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم، كما هو شأن الخطاب في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاس. . .)، وكان هذا الخطاب العام للناس لبيان علمه سبحانه بكل ما يعملون، وفي ذلك إنذار وتبشير (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا)، (مَا) نافية وكلمة (إِلَّا) للاستثناء من(7/3600)
النفي، أي ما كان عمل النبي معهم ولا عملهم معه إلا كنا عليه شهودا، ضمير المتكلم للَّه سبحانه، وجاء بضمير الجماعة تعظيما وإجلالا، وجاء هكذا لمناسبة ضمير الجماعة في (كنَّا)؛ ولأن (شُهُودًا) تتضمن تعدد الشهادة بعدد حوادثها، فاللَّه تعالى يعلم علم المشاهدة والمعاينة لكل واقعة وكأنَّه شاهد عليها، وبتعدد الحوادث يتعدد العلم بالمشاهدة، وكان علمه سبحانه - وله المثل الأعلى - علم شهود.
والشهادة تتضمن هنا معنى المراقبة والإحصاء والتتبع والاستقراء، ولذا قال تعالى في بيان أنه يعلم كل شأن وكل عمل في وقت وقوعه (إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ) أفاض بمعنى اندفع واسترسل، والضمير في كلمة (فِيهِ) يعود إلى كلمة (عَمَلٍ) أي لَا تعملون عملا، ويشمل العمل القول، إلا يعلمه سبحانه وقت أن تندفعوا فيه مسترسلين سواء كان خيرا أم كان شرا، دقَّ أو جل؛ ولذا قال سبحانه في بيان علمه لكل شيء مهما صغر: (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، (يَعْزُبُ) أي يغيب فالمعنى أنه لَا يغيب ولا يبعد فهو حاضر دائما مهيأ عند الحساب، (مِّثْقَالِ ذَرَّة) أي وزن ذرة وهي أصغر جزء لفتات الأشياء، وقد أثبت العلم أن بالذرة نواة ذات ثقل واللَّه تعالى أعلم بما فيها، وقال العلماء: إن في قوتها مجتمعة ومنفردة دليل لقدرة المنشئ لكل شيء في الوجود الفاعل المريد المختار.
ثم يقول سبحانه في بيان عموم علمه: (وَلا أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكبَرَ) كلمة (لا) هنا هي تأكيد للنفي في (مَا يَعْزُبُ) وكل هذا مكتوب في كتاب مبين، أي بيَّن واضح يبرز يوم القيامة منشورا معلما كل ما فيه، ولقد ذكر سبحانه عموم علمه بالأشياء (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59).(7/3601)
ثم يقول سبحانه: (. . . لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ. . .). وقد تساءل الزمخشري عن تقديم السماوات على الأرض في هذه الآية؛ لأنه سبحانه قدم الأرض في الآية من سورة يونس، فقال الزمخشري: " من حق السماء أن تقدم على الأرض، ولكنه سبحانه لما ذكر شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم فلزم تقديم الأرض، وفوق ذلك أن التكليف والحساب والإنذار والتبشير على أهل الأرض ولا يعرف لأهل السماء إلا في علم التكليف، ولأن الأرض خلق منها الذين يحاسبون وإليها يعودون والله تعالى عليم بكل ما في الوجود ".
* * *
أولياء الله
(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
* * *
ذكر سبحانه وتعالى أنه ناصر أولياءه، وأن مآلهم النعيم لَا يخافون ولا يحزنون:(7/3602)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
(أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63).
وليُّ الله هو المحب لله المطيع لأوامره المجتنب نواهيه، ويكون الله تعالى في قلبه دائما، لَا يتحرك إلا في حب الله رجاء رضاه أولا، ورحمته ثانيا، واتقاء(7/3602)
عذابه ثالثا، وإن المشركين الكافرين كانوا يعادونهم ويستكبرون عليهم فبين اللَّه تعالى أنهم إذا كانوا فقدوا ولاء الكافرين فقد استبدلوه بأن اللَّه مولاهم، وأولياء اللَّه يتحابون فيما بينهم ولا يوادون من يحادد اللَّه ورسوله، كما جاء في قوله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ. . .).
(لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لَا خوف عليهم من عذاب يترقبونه ولا هم يحزنون لخير فاتهم، وأكد نفي الحزن عنهم؛ لأن قلوبهم عامرة باللَّه سبحانه(7/3603)
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
(الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
آمنوا باللَّه حق الإيمان يعبدونه كأنهم يرونه فإن لم يكونوا يرونه يحسون في عبادتهم كأنهم في حضرته العلية سبحانه، وهذا هو الإحسان، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (1).
(وَكَانُوا يَتَّقُونَ) أي يخافون غضب اللَّه تعالى ويتقون عذابه.
وإنهم إذ يؤمنون ذلك الإيمان ويحسنون ويتقون اللَّه حق تقاته، تكون قلوبهم عامرة بذكر اللَّه تعالى فلا يخافون من مستقبلهم، وقد فوضوا أمورهم للَّه تعالى وتوكلوا عليه سبحانه حق توكله بعد أَخْذِهم بالأسباب، وتركوا للَّه تعالى مؤمنين أن يوفق ويربط الأسباب بمسبباتها.
وهنا عبارتان لهما مغزاهما:
العبارة الأولى - قوله تعالى: (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي أنهم يرجون ما يرجوه المؤمن من ربه فاللَّه تعالى يُلقي في قلوبهم الاطمئنان إلى المستقبل، وفي قوله تعالى: (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) تأكيد لعدم الحزن: أولا: بتكرار كلمة (لا) النافية، فإنها مؤكدة للنفي المذكور في (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ).
________
(1) متفق عليه، وقد سبق تخريجه.(7/3603)
ثانيا: بذكر الضمير (هُمْ) فذلك مؤكد من مؤكدات الحكم.
ثالثا: في التعبير بالمضارع الذي يصور - الاستمرار فإنهم لَا يداخلهم الحزن؛ لأن قلوبهم عامرة دائما بذكر الله فامتلأت طمأنينة، والاطمئنان يطرد الحزن كقوله تعالى: (. . . أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
العبارة الثانية - قوله تعالى: (وَكانُوا يَتَّقُونَ) وفيه جمع بين الماضي والمضارع، الماضي في (كَانُوا) والمضارع في (يَتَّقون)، وهذا يفيد استمرار التقوى، قلوبهم ممتلئة دائما بخشية الله تعالى، وهم بذلك يستصغرون أعمالهم بجوار حق الله ويشعرون أنهم لم يؤدوا حق الله فيرجون رحمته ويخافون عذابه، وذلك مقام الصديقين القريبين من الله دائما.
عن عمر رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن لِلَّهِ عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله، قيل: يا رسول الله أخبرنا من هم، وما أعمالهم؟ قال: هم قوم تحابوا في الله من غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلَى منابر من نور لَا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس (1)، ثم قرأ الآية: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
________
(1) أخرجه أحمد: باقي مسند الأنصار - مسند أبي مالك الأشعري رضي الله عنه (22399).(7/3604)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ).
وقبل أن نترك الكلام في معنى الولاية وقد عرَّفها سبحانه بأنها الإيمان الخالص والإحسان الكامل وامتلاء النفس بالتقوى، لابد أن نتكلم حول خوارق للعادات، يقولون أنها تجري على أيدي من يسمونهم أولياء، وبعض علماء الكلام يقولون: إنها تسمى كرامة، وذلك خلاف لما جاء على يد الرسل وسميت معجزات.(7/3604)
ويذهب البعض إلى وجوب الإيمان بكرامة الأولياء، ونحن نقول: لَا نزيد على الدين ركنا من أركان الإيمان، فمن رأى خوارق جرت على يد رجل ليست سحرا فليُسَر بما رأى، ومن لم يرَ شيئا من ذلك فليس عليه أن يؤمن بما لم يكلفه اللَّه تعالى الإيمان به.
وقد ذكر سبحانه ما ينال أولياء اللَّه تعالى من خير بقوله:
(لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
(لَهُمُ) الضمير يعود على أولياء الله، البشرى هي التبشير بما يلقي السرور في أنفسهم، وقد حكم الله تعالى لهم بالبشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وذلك وعد حق، ولذا قال سبحانه: (لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ) وهي ما قرره سبحانه من عذاب ونعيم وبعث ونشور فهي لَا خلاف فيها ولا تبديل لكلمات اللَّه الأزلية الباقية ومن ذا الذي يبدل أو يغير في كلمات اللَّه التي كتبها لعباده المتقين.
والبشرى في الحياة الدنيا تكون بما ذكره اللَّه لعباده المتقين في كتابه الكريم وسنه نبيه - صلى الله عليه وسلم - كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31).
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن البشرى هي الرؤيا الصادقة تبشره بالخير " (1)، وروى أن البشرى تكون الثناء على عمله والرضا بما يفعل. روي عن
________
(1) رواه البخاري بنحو عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه: التعبير - المبشرات (6990). كما رواه مسلم: الصلاة
- النهي عن قراءة القرآن في الركوع (479)، والنسائي: التطبيق (1045)، وأبو داود: الصلاة (876)، وابن ماجه: تعبير الرؤيا (3899)، وأحمد: مسند بني هاشم (3ْ 19)، والدارمي: الصلاة (1325).(7/3605)
أبي ذر - أنه قيل: يا رسول اللَّه إن الرجل يعمل العمل يحمده الناس ويثنون عليه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " تلك عاجل بشرى المؤمن " (1).
إن المؤمنين الصافية نفوسهم والذين أخلصوا وجوههم للَّه تعالى تميل إليهم قلوب المخلصين، وكان بعض الأعراب يؤمنون بمجرد رؤيتهم لوجه النبي - صلى الله عليه وسلم - رآه مرة أعرابي فسأله: أأنت الذي تقول قريش أنك كذاب، ما هذا بوجه كذاب ثم أسلم. ذلك صفاء النفس المحمدية بدا نورا في وجهه فآمن الأعرابي.
وأما بشرى الآخرة فهي لقاء الملائكة لهم بالبشرى، كما قال تعالى: (لا يَحْزنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ).
كما يقول سبحانه: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12).
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ولي اللَّه وهو أول الأولياء وهاديهم فلا يلتفت إلى قول الذين يناوئونه؛ لأنه ولي العزيز الحكيم؛ ولذلك قال سبحانه:
________
(1) هذا لفظ أحمد: مسند الأنصار (20872)، والحديث رواه مسلم: البر والصلة - إذا أثني على الصالح فهي بشرى لَا تضره (2642) عن أبي ذر رضي الله عنه.(7/3606)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
(وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
(وَلا يَحْرنكَ قَوْلُهُمْ) هذا نهي له - صلى الله عليه وسلم - حتى لَا يبالى بهم ولا يأبه أو يحزن لما يقولون من تكذيب وتهديد ومن استهزاء وسخرية ومعاندة وإصرار على الكفر وطلبهم لعشيرته أن يسلموه لهم ليقتلوه، والنهي عن الحزن نهي عن الاستسلام له والانشغال به بل يستمر في دعوته، فاللَّه عاصمه من الناسِ، وقد علل ذلك النهي بما يبين أن الغلب في النهاية له، فقال (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)، وهذا استئناف في مقام التعليل للنهي السابق، والعزة هي الغلبة والسلطان وجميعها للَّه تعالى فلا عزة(7/3606)
لهم وإن استكبروا واستعلوا بالباطل وحاولوا إيذاء النبي ومن معه، ولم يذكر عزة للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن عزته سبحانه وتعالى هي عزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ هو وليه واللَّه ناصره إذ يدعو؛ إلى سبيله ويناله ما يناله بسبب دعوته إلى اللَّه ووحدانيته وجَعْل كلمة اللَّه هي العليا وكلمة الكفر هي السفلى.
وقد طمأن اللَّه نبيه، وهدد معانديه بقوله تعالى في ختام الآية: (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
والضمير يعود إلى لفظ الجلالة وهذان وصفان، يؤكدان أولا - عزة اللَّه تعالى وأنه وحده هو العزيز الغالب؛ لأنه سميع، أي عالم علم من يسمع، عليم بكل أحوالهم ما خفي منها وما ظهر ومن كان كذلك فهو العزيز وحده، ثانيا - إنذار لهؤلاء المستهزئين بعاقبة ما يقولون؛ لأنه يحاسبهم على ما يقولون ويستهزئون واللَّه هو الولي وهو الناصر القادر على كل شيء.
* * *
الله هو الخالق وحده
يقول تعالى:
(أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ(7/3607)
إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
* * *(7/3608)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
(أَلَا) للتنبيه إلى ما يقوله سبحانه وما يمكن أن يكون دليلا على قدرته القاهرة الموجبة لعبادته وحده، والأمر الجدير بالتنبيه أنه سبحانه وتعالى له من في السماوات ومن في الأرض، وكلمة (مَن) للعقلاء، أي أن اللَّه تعالى يملك العقلاء في السماوات والأرض من ملائكة وجن وإنس، وإن كان يملكهم فهم عبيده، كما قال تعالى: (لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيح أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ. . .)، وكقوله تعالى: (إِن كلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا)، وإذا كان هؤلاء لحكم الملكية عبيدا فغير العقلاء مثل الأحجار والأبقار أولى بأن يكونوا عبيدا؛ إذ للعقلاء حرية وإرادة واختيار وعقول وفكر ومع ذلك هم عبيد اللَّه بحكم أنه خلقهم وملكهم فليس بجائز أن يكون معبود غير اللَّه تعالى؛ ولذلك قال سبحانه: (وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ) ومؤدى النص الكريم أن الذين يدعونهم، أي يعبدونهم على أنهم شركاء لِلَّهِ تعالى ليسوا شركاء للَّه تعالى في شيء من الشركة التي تقتضي أن للشريك ملكا وأن الشريك نظير لشريكه، وكيف تتحقق هذه الشركة بين خالق كل شيء وبين حجر لَا يضر ولا ينفع، أو بين عبد من عباده هو سبحانه خالقه ومالكه، وكلمة (مَا) نافية، أي لَا يتبع الذين يعبدون غير اللَّه شركاء للَّه تعالى، وكلمة (مِن) بمعنى بدل، وذلك إذ إنهم أشركوا عبادة غير اللَّه مع اللَّه فقد كفروا باللَّه ولم يعبدوه.(7/3608)
فالشركة منفية بلا ريب، ولا حقيقة لها، فإذا كانت غير موجودة فلا يصح أن يقولها من يعرف أن اللَّه وحده هو خالق السماوات والأرض.
أشار سبحانه إلى أن أوهامهم وظنونهم هي التي زينت لهم أن يجعلوا شركاء، ولذا قال تعالى: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إلَّا يخْرُصُونَ)، (إِن) هنا نافية، فهم لَا يتبعون إلا الظن وليس الظن هو العلم الراجح وإنما هو الأوهام والهواجس تتوهمها عقولهم ثم تلج فيها وتستولي عليها بحكم التزيين، حتى تكون كالظن بل حتى تكون كالعلم في عقولهم التي عششت فيها الأوهام وأيقنت بها، فيقول سبحانه: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصونَ)، أي يتوهمون ثم يظنون ثم يعتقدون وما لهم من حجة ولا دليل، ثم أكد سبحانه عموم خلقه فهو لم يخلق العقلاء وحدهم بل خلق الوجود كله.
يقول تعالى:(7/3609)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
أنعم اللَّه تعالى على خلقه العقلاء بنعمتي الليل والنهار، ليل ليسكنوا فيه ويقروا مع أهليهم وذرياتهم قرة أعينهم وليطمئنوا، وجعل النهار مبصرا ليعملوا في الأرض يعمروها ويصلحوها، وفي قوله تعالى: (وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا) مجاز لأن المُبصر هو الحي الذي رزق نعمة البصر ووصف به الزمان للمبالغة في وصف نوره وضياه، وفي هذا إشارة إلى أصل خلق الكون؛ فاختلاف الليل والنهار حال موقع الشمس من الأرض، وذكر هذا فيه دلالة بالاقتضاء على نعمة اللَّه في خلق الكون كله من السماء ببروجها والأرض برواسيها ومهادها وآكامها وطبقات معادنها وأطيارها وأسماكها وكل ما فيها من نعم، (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا. . .)، وأن الكون كله وما فيه من آيات تدل على أنه الواحد الأحد وأنه لَا معبود سواه؛ لأنه الإله وحده، وأن ما يسمونه لهم عبادة ليس بعبادة إنما هي أوهام سيطرت عليهم خضعوا لها ولأهوائهم، ولذلك قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْم يَسْمَعُونَ) إشارة إلى الدلائل البينة الواضحة لخلق الليل والنهار(7/3609)
لقوم يسمعون الحي ويستجيبون له ويهتدون به، وكأن اللَّه تعالى ينفي السماع عمن يسمعون ولا يفقهون، كقوله تعالى: (. . . وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا. . .).
ولكن في هذه الآية ذكر سبحانه السمع دون البصر؛ لأن القرآن يتلى عليهم والآيات تقرع حسهم فلا يعتبرون، فهم لَا يسمعون دعاء القرآن لهم بعبادة اللَّه تعالى وحده ولو كانوا يعتبرون بالآيات لسمعوا القرآن واعتبروا به.(7/3610)
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
(قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
إذا كان كل من في الأرض ملكا للَّه تعالى وعبيدا له، فالمسيح مملوك للَّه تعالى؛ لأنه سبحانه خالقه، ومن يستنكف أن يكون عبدا للَّه تعالى، وإذا كان الوثنيون قد اتخذوا الأحجار آلهة، فإنه لَا يقل شركا عنهم من قال إن اللَّه اتخذ ولدا؛ ذلك أن كليهما أشرك، والوثنيون لم يمسوا الذات الإلهية وإن كانوا ضلوا ضلالا بعيدا، أما من قالوا اتخذ اللَّه ولدا فقد وافقوهم في الشرك ومسوا الذات العلية.
(قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) لم يبين سبحانه من قال هذا، والنصارى ليسوا وحدهم؛ ذلك لأن الذين قالوه كثيرون - غيرهم - قبلهم، فالبراهمة قالوا: أن كرشنة ابن اللَّه، والبوذيون قالوا: إن بوذا ابن الإله، وعنهم أخذت الأفلاطونية الحديثة، وعن الأخيرة أخذت النصرانية بعد أن بُدلت وحرفت عن مواضعها وكذبوا على المسيح عليه السلام.
وكل هؤلاء مشركون والفرق بينهم وبين المشركين من العرب، أن مشركي العرب عبدوا الأوثان بعد أن قالوا: إن اللَّه خالق السماوات والأرض واحد في ذاته وصفاته، وإشراكهم كان في عبادة غيره معه، أما هؤلاء الذين ادعوا أن اللَّه اتخذ ولدا فإنهم لَا ينزِّهون ذات اللَّه تعالى وبشركون الولد كما أشرك غيرهم.(7/3610)
وفى قوله تعالى: (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) تصوير صادق لقولهم فهم يقولون إن اللَّه تعالى أراد أن يكفر عن سيئة آدم التي لحقت الخليقة فأنزل ولده إلى الأرض ليكفر عن خطيئة الخليقة بصلبه فداء عنهم، وقوله تعالى يشير إلى ذلك إشارة بينة واضحة، وإنهم بذلك القول الأحمق الغريب يمسون الذات العلية فيحسبون أن اللَّه يحتاج إلى الولد كما يحتاج البشر، ولذا قال سبحانه ردا لقولهم: (سُبْحَانَهُ)، أي تنزهت ذاته العلية، (هُوَ الْغَنِيُّ) إشارة إلى بطلان أقوال هؤلاء الذين لم يقولوا إن اللَّه فاعل مختار، وقد بين سبحانه أن كلامهم ادعاء لَا دليل عليه وافتراضات فرضتها الوثنية الرومانية والفلسفة اليونانية، ولذا قال سبحانه: (إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا) والسلطان هو الحجة، والقرآن الكريم يستعمل كلمة السلطان في معنى الحجة؛ لأن الحجة الباهرة توجد بسلطان من الحق على الباطل، وسلطة الحق أقوى وأبعد من سلطة الطغاة الظالمين وإن كان ذلك مجاز من أبلغ الكلام.
وإذا كانوا لَا حجة لهم فقد قال تعالى في قولهم هذا (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) والاستفهام للتوبيخ ورميهم بالجهل أولا، وبالكذب على اللَّه ثانيا، وبمخالفتهم لكل منطق وعقل ثالثا، وقد جاء في قوله تعالى في نفي الولد: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95).
إنهم يقولون على اللَّه ما لَا يعلمون ويصفونه بما لَا يليق ويفترون على اللَّه تعالى الكذب، وقد ذكر سبحانه عاقبة ذلك فأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالرد.(7/3611)
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)
(قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)
أمر اللَّه تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليبين لهم مغبة من يفتري الكذب في قولهم اتخذ اللَّه ولدا، وأن الأصنام شفعاء للَّه بقولهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّه زلفى،(7/3611)
وهم في ذلك كاذبون، ومعنى يفترون الكذب، أي يقطعون من الكذب قطعا وينسبون إلى اللَّه ما لَا برهان به.
وعد سبحانه بالموصول للدلالة على أنه السبب في الحكم عليهم بعدم الفوز وما يفوزون به في الدنيا إنما هو الأمد القصير، وليس بفوز ما تكون عاقبته عذابا شديدا وندما كبيرا.
والافتراء يكبر ويكبر المفترى عليه، وهؤلاء افتروا على خالق الوجود وهو اللَّه جل جلاله، وأكد سبحانه عدم فلاحهم بكلمة (إِنَّ)، والتعبير بالمضارع في كلمة لَا يفلحون يدل على الاستمرار، وإن من شأن الكاذب على اللَّه تعالى ألا يفلح، ولذا قدمت كلمة (عَلَى اللَّهِ) على كلمة (الْكَذِبَ) لبيان شناعة الافتراء وأنه على رب الوجود ومنشئه وبارئه.
وقد يقول قائل: إننا نرى هؤلاء المفترين الكاذبين ينالون متعا يفوزون بها، فبين اللَّه تعالى أن ذلك متاع الدنيا وأمدها القصير.
يقول تعالى:(7/3612)
مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
(مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
أي أن ما ينالونه في الدنيا ليس الفوز العظيم الذي يفوز به المتقون ولا الفلاح الذي يناله أهل الحق، وأن من يضحكون قليلا ويبكون كثيرا لَا يعدون فائزين، بل متعجلين لأدنى النفع طاردون للمنفعة الباقية بالمنفعة العاجلة، والتنكير في كلمة (مَتَاعٌ) للتحقير والتصغير، والتعبير بمتاع يومئ إلى أنه قليل غير جليل، وقد حدد بأنه في الدنيا، ويرتضيه من يقبل الدنيا بدل الآخرة، ومن يطلبها ويطرح وراءها الآخرة.
ثم يقول سبحانه في عاقبة من يكذبون على اللَّه ويتحدون الأنبياء: (ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ). كلمة (ثُمَّ)، في موضعها من الترتيب والتراخي، والتراخي زمني ومعنوي، أما الزمني خلاف الرجوع إلى(7/3612)
اللَّه بعد البعث والنشور وقيام الساعة، أما المعنوي فما بين متعة الدنيا الفانية وعذاب الآخرة الباقي (إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ) فيه تقديم كلمة (إِلَيْنَا) على مرجع وفي ذلك معنى الاختصاص ووراءه الإنذار الشديد، أي إلينا وحدنا رجوعكم وقد افتريتم الكذب وعبدتم غير اللَّه فلابد أن تنالوا الجزاء الوفاق على ما قدمتم من قول باطل وعقيدة فاسدة وشرك بيِّن، ولذا قال سبحانه: (ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ) وكلمة (ثُمَّ) على موضعها كأختها التي قبلها. وعبر اللَّه تعالى عن العذاب بقوله " نذيقهم " للإشارة إلى أنه يصيب مشاعرهم وأحاسيسهم، يشعرون به، وكلما نضجت جلودهم بدَّلهم اللَّه تعالى جلودا غيرها، ثم يبين سبحانه أن ذلك (بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)، حيث يدل الفعل الماضي والمضارع على الاستمرار على كفرهم يجددونه آنًا بعد آنٍ.
* * *
نوح عليه السلام وقومه
قال تعالى:
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ(7/3613)
فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
* * *
تجيء القصة في القرآن للعبرة كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ. . .)، فكل قصة هي موضع عبرة وكل جزء من قصة هو لعبرة في هذا الجزء تناسب وضعه ولا تكاد تجيء قصة كاملة في موضع إلا قصة يوسف عليه السلام فهي متكاملة في موضوعها وهي بيان لحال الأسرة المصرية في عهد فرعون أو عهد الفراعنة - كما سنبين عند الكلام في معانيها إن شاء اللَّه تعالى، إن امتد الأجل إليها في موضعها. نجد في قصة نوح - عليه السلام - ومن يليه من الأنبياء مواقف مشابهة لتلك التي كانت تلقى بالحزن والألم الشديد في قلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من كبراء قريش وخصوصا من كانوا يقفون موقف الزعامة الوثنية فيها، حتى لقد قال اللَّه تعالى مخاطبا نبيه: (وَلا يحْزُنكَ قَولُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا. . .) فكان من المناسب ذكر جزء من قصة نوح - عليه السلام - مع قومه وكيف صبر وصابرهم ثم بيان ما نزل بهم من غرق، وكذلك قصة موسى مع طاغية التاريخ الإنساني فرعون وما لقيه منه موسى - عليه السلام - وما قاوم به ثم ما آل إليه أمره من الغرق في اليم بعد أن نجا بنو إسرائيل بعد أن انفلق البحر لهم اثني عشر فرقا، وكل فرق كالطود العظيم. فكان هلاك الظالمين من قوم نوح وقوم موسى بالغرق وإن اختلف نوعه، فهلاك قوم نوح كان بسيل منهمر وينابيع، أما هلاك فرعون وجيشه فكان بسيرهم في البحر الذي فتح لبني إسرائيل مع موسى عليه السلام ثم انطبق على فرعون وجنوده.(7/3614)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نوحٍ) أي الخبر العظيم الشأن الذي اتصل بنوح - عليه السلام - ولم يبتدئ بقومه، بل ابتدأ به؛ لأنه الذي نزل به البلاء وكانت المحاربة بينه وبين قومه الذين عتوا وبغوا في الأرض وأصروا على عبادة الأوثان بإصرار.(7/3614)
(يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ)
ناداهم نوح - عليه السلام - بما يقربه إليهم، وهو أنهم قومه الذي نشأ بينهم وتربى فيهم وكان الأولى بهم أن يستجيبوا له بدل أن يناوئوه ويكونوا حربا عليه، (إِن كَانَ كبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي) مؤيَّدا من اللَّه، والمقام هو مقام الرسالة الذي كرمه اللَّه تعالى به، وعظم عن أن تدرك عقولهم تذكيره بآيات اللَّه - فإنه بهم لَا يبالي فقد توكل على اللَّه تعالى ولم يعد يحزنه قولهم، وبلغ عدم الاهتمام بهم أن قال لهم (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ)، (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإنه يترتب على التوكل على اللَّه أن يواجههم معتزما إمضاء كلمة اللَّه تعالى، (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ)، أي اعتزموا ما اعتزمتم، يقال جمع أمره إذا عقد عزمه ووثقه، (وَشُرَكَاءَكُمْ)، الشركاء: هي الأوثان التي اتخذوها بزعمهم شركاء اللَّه تعالى في عبادته، سبحانه وتعالى عما يشركون، وهو بهذا يتحداهم معتمدا على اللَّه متوكلا عليه حق توكله. (ثُمُّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي لَا يكن أمركم مستورا، وهذا معنى (غُمَّةً)، بل يكون ظاهرا مكشوفا بيِّنا، أي ائتوا بكل قوتكم ظاهرة.
(ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ) أي افعلوا بي ذلك الأمر الذي تدبرون، من إهلاك أو طرد أو ما ترونه أنفسكم. (وَلا تُنظِرُونِ) أي عجلوا أمركم لَا تؤجلون، فإني مؤيد من اللَّه وهو معي ولن يضيرني ما اعتزمتم وقد اعتمدت عليه سبحانه.(7/3615)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
(تَوَلَّيْتُمْ) أي أعرضتم عن الآيات وعن دعوة التوحيد التي أدعوكم إليها فإنكم ترضون عن قول رسول أمين وناصح رشيد لَا يريد منكم أجرا من مال أو جاه أو سلطان إنما يريد الحق لذاته. (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ)، أي لَا أريد منكم أجرا فقد كفاني اللَّه أجري وهو شرف الرسالة لَا شرفكم ولا جاهكم ولا سلطانكم (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) الذين أسلموا وجوههم وهم مخلصون لا يريدون إلا ما عند اللَّه.(7/3615)
هذه دعوة لينة إلى الحق بعد التحدي الذي قدمه وبعد أن بين لهم أنهم ضعفاء أمام الحق فإنه استمالهم إليه إلا أنهم عادوا فكذبوه.(7/3616)
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
(فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
ذكر سبحانه نجاة المؤمنين مع نوح - عليه السلام - ابتداء، وذكرت القصة تسرية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وذكرى للعالمين وبيان أن العاقبة ستكون له - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذلك أمران: الأمر الأول - أنه سبحانه جعل نوحا - عليه السلام - وأتباعه خلائف في الأرض، وخلائف جمع خليفة أي الذين يعيشون في الأرض خلفاء لأبناء آدم، أي انحصرت ذرية آدم حال ذلك في نوح عليه السلام والذين آمنوا معه.
والأمر الثاني - أنه سبحانه أغرق الآخرين، ثم قال سبحانه مبينا العبرة من قصة نوح عليه السلام وقومه (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ) الذين أنذرناهم فلم يفطنوا ولم يعتبروا، ولم يذكر سبحانه جزاء للمؤمنين؛ لأنه بين منجاتهم، أما الجزاء الأوفى يكون يوم الحساب وهو يوم الدين.
وقد ذكر سبحانه الإغراق إذ قال تعالى: (وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) فعبر بالموصول دليل على أن الصلة هي السبب في الغرق، والصلة كانت التكذيب بآيات اللَّه تعالى التي ساقها لهم نوح - عليه السلام - فلم يؤمنوا وأصروا واستكبروا استكبارا.
قال تعالى:(7/3616)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
أشار سبحانه إلى الأنبياء من بعد نوح مثل هود وصالح شعيب وإبراهيم ولوط عليهم السلام وغيرهم، وكلهم كذبوا مع ما جاءوا به من الآيات، وجاء ذكر الرسل بعد نوح - عليه السلام - بالإجمال، فلم يذكرهم سبحانه نبيا نبيا، كما جاء في سور أخرى وكما سيجيء في سورة هود ولكن اللَّه تعالى أثبت أمرين:(7/3616)
الأمر الأول - أن كل رسول جاء بالبينة الدالة على رسالته صارفا أنظارهم إلى الكون وما فيه، والضمير في قوله تعالى: (فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ) يعود على الكافرين بكل الرسل وكأنهم مع اختلاف أجيالهم قبيل واحد يجمعهم الجحود والعصيان والكفر بآيات اللَّه تعالى، فالناس أبناء الناس ويجمع الأخلاف صفات الأسلاف، ويجمع المؤمنين صفات الإذعان للدليل والتصديق للحق، ويجمع المكذبين صفات الجحود بالآيات ولو كانت بينة تستيقنها نفوسهم.
الأمر الثاني - سبب الكفر الذي تتوارثه الأجيال التي كتب اللَّه عليها شقوتها فقال جلَّت كلماته: (فَمَا كانوا لِيُؤْمِنوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِن قَبْلُ) أي أن شأن الذين يكفرون أن يبادروا عند دعوة الحق الذي يجيء به نبي من الأنبياء بالتكذيب قبل أن يمنعوا في دعوته وقبل أن يستمعوا إلى الدليل ويتأملوه ويتعرفوه، فإذا سارعوا بالتكذيب نأوا عن الحق وجادلوا عن كفرهم وأمعنوا في الباطل إمعانا وضلوا ضلال بعيدا فلا يستقيم لهم إيمان بعد ذلك ويطبع الكفر على قلوبهم وتنغلق على الكفر، كما جاء في آيات أخرى مثل قوله تعالى: (. . . وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ)، وكقوله: (كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) فهم يبادرون بالإنكار معتدين، ثم، يلج بهم العناد فيكرروا الاعتداء المرة بعد الأخرى حتى يصير والاعتداء وصفا ملازما لهم، لَا يقفون عند حد فيكون اعتداء على الحقائق وعلى آيات اللَّه وعلى العباد.
* * *
من قصة موسى وفرعون
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ(7/3617)
السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
* * *(7/3618)
بعد ذلك ذكر اللَّه تعالى قصة موسى وفرعون، وذكرها في هذا المقام:
أولا - فرعون أكبر طاغية عرف في تاريخ الإنسانية وطغيان الكبراء من العرب دونه، وقد أعز اللَّه موسى وبني إسرائيل وأهلكه فكان حقا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يطمئن إلى عزة اللَّه تعالى إذ يقول: (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا).
ثانيا - أن فرعون كان مسيطرًا جبارًا على قومه يراهم ملكا له، وقد جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بأنه لَا مالك إلا اللَّه وأن الناس جميعا عباد له سبحانه.
ثالثا - كان فرعون يتحكم في عقول قومه ويقول لهم: (. . . مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)، وجاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بحرية النفس والفكر والعقل.(7/3619)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ).
جاء موسى بالبينة الدالة على رسالته، وجاء بالعصا التي ألقاها فإذا هي حية تسعى، وكان قومه على علم بالسحر، فإذا عرفوا أنها ليست سحرا قامت عليهم الحجة. وكلمة (ثُمَّ) للترتيب والتراخي، أي أنه بعد أزمان متعاقبة ومتطاولة بعث اللَّه موسى وهارون، ذلك أن موسى سأل اللَّه تعالى أن يرسل معه أخاه (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي). أرسلهما اللَّه إلى فرعون وملئه، أي كبراء قومه والذين يحرضونه على الفسق في مصر، ويمالئونه على ما يدعيه ولم يذكر شعب مصر أي الكثرة الغالبة وكانوا مهملين لَا رأي لهم؛ كما وصفهم عمرو بن العاص في ذكره مصر " هى لمن غلب "، وقد بادروا بالتكذيب وعجلوا فيه دون أن يتفكروا ويتدبروا حقيقة الدعوة إلى الحق والبينات الشاهدة بأن موسى وهارون مبعوثان من اللَّه تعالى، ولذا قال سبحانه: (فَاسْتَكْبَرُوا) وكان العطف بالفاء للدلالة على المبادرة بالاستكبار، وفيه تكذيب وعلة للتكذيب، أي فكذبوا واستكبروا عن الاستماع إلى الحق وأصموا آذانهم ووصفهم اللَّه تعالى(7/3619)
بقوله: (وَكَانوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) وكلمة (وَكَانوا) تدل على أنهم كانوا كذلك في الماضي، والوصف بالإجرام (مُجْرِمِينَ) يدل على استمرارهم فلم تكن دعوة الحق فيهم مستجابة.
لذا قال تعالى في شأنهم مع رسولهم:(7/3620)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)
(فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76)
الفاء للترتيب والتعقيب، والحق هو الدعوة إلى التوحيد وإلى اللَّه وحده، وقال سبحانه: (مِنْ عِنْدِنَا) تكبيرا لذلك الحق؛ لأنه من عند اللَّه تعالى مالك الملك ذي الجلال والإكرام فوصفه سبحانه بالحق، ووصفه بأنه الحق شرف ذاتي له وبكونه من عند اللَّه تعالى شرف إضافي له، وكلمة الحق تتضمن الدلالة على أنه حق لَا ريب فيه. وقد آتى اللَّه تعالى موسى تسع آيات بينات ويظهر أنه ابتدأ بتقديم العصا، ولذا قالوا: (إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ)، بادروا فأكدوا أنه سحر مبين، أي سحر واضح بين (إِنَّ) تدل على التوكيد وباللام وبالجملة الاسمية، ذلك من مسارعتهم بالتكذيب ثم الانغمار فيه إلى آخر مداه، ولقد تولى موسى عليه السلام المجاوبة وتركه فرعون يدافع عن دعوته.(7/3620)
قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
(قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
أي أتقولون للحق لما جاءكم إنه لسحر، جاهلين حقيقة الأمر فالاستفهام لإنكار قولهم وتوبيخهم عليه، وكرر الاستفهام فقال: (أَسِحْرٌ هَذَا) فكان الإنكار للجحود وقولهم الجاحد للحق والحقيقة، والاستفهام للتوبيخ على قولهم وهو لإنكار الوقوع، أي ليس بسحر، وقد أكد سبحانه وتعالى بقوله: (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) أي لَا يفوز الساحرون في معركة الاستدلال والمنازلة، وإذا لم يفلحوا فإنه يجب أن تؤمنوا ولكنهم لجوا في العناد وتمسكوا بما هم عليه.
(قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)(7/3620)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
ذكر اللَّه تعالى قولهم: (أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا)، أي لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا من عبادة فرعون والآلهة التي يحل فيها، ومن عبادة الشمس وإله الزرع وعبادة البقر. (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ) أي السلطان والسيطرة والحكم في الأرض وهي أرض مصر؛ وعبر عن الحكم والسلطان بالكبرياء؛ لأن المصريين كانوا لَا يفهمون في الحكم إلا الاستعلاء والتحكم والاستكبار، وأن تكون طبقة الحاكمين العالية وطبقة المحكومين المرذولين، وعبادة المحكوم للحاكم.
ثم أكدوا كفرهم بالحق لما جاءهم فقالوا: (وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ) نفوا عن أنفسهم صفة الإيمان نفيا مؤكدا وكان ذلك:
أولا - بذكر الضمير الدال على التعظيم.
ثانيا - بالجملة الاسمية، وقوله: (لَكُمَا) لامتناع التسليم، بل إنهم مناوئون غير مستسلمين، بل هم منصرفون.(7/3621)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79)
(وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)
جاء فرعون وتولى المنازعة فقال ائتونى بكل ساحر عليم، أي عليم بالسحر وأفانينه، وكان للسحرة مكانة ومنزلة في مصر، وكانوا كثيرين مشهود لهِم بالسحر ولهم مكانة فيه،(7/3621)
فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)
فلما جاء السحرة قال لهم موسى (أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ) وفي هذه الآية نجد موسى - عليه السلام - عندما التقى بهم طلب إليهم أن يلقوا، وفي الآية التالية ما يدل على أنهم ألقوا وتشير إلى ابتدائهم، ولكن في سورة الأعراف ما يدل على أنه قد حدثت مجاوبة بينه وبين السحرة قالوا فيها: (. . . إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا وَجَاءُو بِسِحْرعَظِيمٍ). وأنه لَا تعارض بين الآيات بل توافق تام ولكن ما في سورة الأعراف يُفصِّل بعض التفصيل، وهنا يُجْمل كل الإجمال؛ إذ إن نتيجة المجاوبة كانت أن طلب موسى أن يلقوا هم، وأدرك موسى وهو المؤمن(7/3621)
بحجته أن فعلهم سحر كقوله تعالى:(7/3622)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
(فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
(مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ) إنه هو السحر وحده، لَا ما سيقدمه، والاختصاص ثبت بتعريف الطرفين، وأكد أن اللَّه سيبطله وأنه فساد بين الناس، وقد جاء في سورة الأعراف: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأفِكُونَ).
وختم الله أمر السحر ببطلانه حيث قال تعالى:(7/3622)
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
(وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ).
يثبت اللَّه الحق ويؤيده وينصره بكلماته وأمره الذي يكون بكلمة، وبآياته الآمرة والناهية المثبتة لحق المحكومين على الحاكمين والمبطلة لظلم الظالمين ولو كانوا من الفارعين، (وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) الذين أشركوا فأجرموا وطغوا وبغوا وغرَهم الغرور.
قال تعالى:(7/3622)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
(فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
مع هذه الدعوة الصادعة إلى الحق لم يستجب إلا القليل وفي كلمة (قَوْمِهِ) يعود الضمير إلى فرعون، وما آمن شيوخ كبار منهم بل آمنت ذرية، أي جيل جديد ممن لم يتمرسوا بذلِّ الفرعونية، والشباب إنما يكونون أكثر مسارعة إلى الحق وأقل تمسكًا من آبائهم بأهداب القديم، خاصة إذا كان ذليلا، ويقول قائل: إن الضمير في (قَوْمِهِ) يعود إلى موسى، وقوم موسى هم بنو إسرائيل وذكر الذرية دون عمومهم؛ لأن الذرية تطلب الحرية وتبتغيها، وشيوخهم غرست في نفوسهم العادات والعبادات المصرية القديمة ورضوا بالدون من الحياة كما يبدو ذلك(7/3622)
في قصصهم مع موسى، وفي قولهم له: (. . . اجْعَل لَنَا إِلَهًا. . .)،
ومن عبادتهم العجل، ومن امتناعهم عن دخول الأرض المقدسة، وقد رأى ذلك ابن جرير ونحن نتبعه في رأيه. وقد كان إيمان هذه الذرية على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم، وكلمة (عَلَى) بمعنى (مع)، أي أنهم في إيمانهم كانوا وجلين خائفين من فرعون وملئهم، والضمير في كلمة (مَلَئِهِمْ) يعود إلى فرعون والمراد به فرعون وملئه، والذي رأى أن يعود الضمير على ملأ بني إسرائيل أن تلك الذرية المؤمنة كانت على خوف من قومهم الذين تأثروا بالعقائد المصرية من تقديس فرعون وعبادة العجل كما سيبدو من حالهم مع موسى بعد اجتيازهم البحر ورؤية المعجزات الباهرة ونعموا بها، أي إن أولئك الذرية الذين آمنوا بما جاء به موسى كانوا على وجل من فرعون وقومه وعلى وجل من قومهم أنفسهم ومنهم الشيوخ الذين تمرسوا بالخنوع و. الكفر.
(الفاء) في قوله تعالى: (فَمَا آمَنَ) للترتيب، أي بسبب أنهم عتاة في الضلالة ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، وقد وصف اللَّه تعالى فرعون بما يمنع إيمانه فقال تعالت كلماته: (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّه لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) وفي هذا وصفان كلاهما يمنع الاسسجابة لدعوة موسى عليه السلام:
الوصف الأول - أنه عال في الأرض ينظر إلى الناس كأنهم جميعا دونه وأنه ليس من طينتهم، ومن كان ذلك يغره الغرور فيقول للناس ما أريكم إلا ما أرى.
والوصف الثاني - أنه مسرف، أي مُغَالٍ في كل شيء، أسرف على نفسه وأسرف على الناس وأسرف في العتو والفساد.
أكد الله الوصفين بـ (إِنَّ) واللام، وبالجملة الاسمية، و (يَفْتِنَهُمْ) بمعنى يضطهدهم في دينهم، وذكر الضمير بالمفرد عودا على فرعون أولا وبالذات، فهو قطع أيدي المؤمنين وصلبهم في جذوع النخل فنسبت الفتنة إليه دون ملئهم.
(وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)(7/3623)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)
اتجه موسى عليه السلام إلى قومه الذين جاء لإنقاذهم وقد رآهم يخافون فرعون ويخشونه فقال لهم: (إِن كنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ) حق الإيمان فلا تخشوا فرعون وطاغوته بل توكلوا على اللَّه، (فَعَلَيْهِ تَوَكلُوا)، (الفاء) واقعة في جواب الشرط، يليه الفعل للاختصاص، أي توكلوا عليه وحده. (إِن كنتُم مُّسْلِمِينَ) أي إن استمررتم على وضعكم وهو إسلام الوجه والإخلاص لِلَّهِ سبحانه. ولقد استجاب قوم موسى فتوكلوا على اللَّه لَا يرهبون فرعون وطاغوته.(7/3624)
فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
(فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
أي عليه وحده توكلنا، ومن يتوكل على اللَّه لَا ترهبه قوة في الأرض، ثم اتجهوا إليه سبحانه (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، أي لَا تجعلنا موضع فتنة واضطهاد وإيذاء للقوم الذين تضافروا على الظلم واتباع الطاغية فرعون، أي ربنا اصرف عنَا أذاهم، ثم أردفوا دعاءهم بطلب الإنقاذ فقالوا:(7/3624)
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
(وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
وهم فرعون وملئه.
كان الذين آمنوا هم الذرية، ولكن القوم جميعا شعروا بأن موسى جاء لاستنقاذهم فأسلموا وسلموا له، وإن كان لَا يزال منهم من فيه بقية من ذل فرعون كامنة ستبدو بعد أن يطمئنوا لخروجهم من ذل فرعون.
كان بنو إسرائيل مختلطين بالمصريين الذين يسومونهم سوء العذاب، فأوحى اللَّه تعالى إلى نبيه موسى - عليه السلام - أن يفصلهم عن المصريين، وأن يتحيزوا حيزا دونهم ليكون ذلك خطوة للنجاة.(7/3624)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
(تَبَوَّءَا)، من باء يبوء بمعنى رجع واطمأن، أي اختاروا بيوتا لقومكما يبوءون إليها وتكون نائية عن بيوت الفرعونيين، لأنكم ستتخذونها لعبادة اللَّه تعالى(7/3624)
وحده وتقيمون فيها الصلاة، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى: (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي مصلًّى؛ ولذا قال سبحانه بعد ذلك: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ)، أما إلى أية جهة يتجهون، فلم تعرض الآية لذلك، وقيل: كانوا يتجهون إلى الكعبة وبعضهم قال: إلى بيت المقدس.
وإني أرى أن المراد بأن تكون بيوتهم قبلة هو أن يعلمها بقية بني إسرائيل فيتجهون إليها ويأرزون نحوها فيجتمعون فيها وتكون لهم حوزة يتحيزون إليها.
والجميع أمروا بإِقامة الصلاة، ثم قال تعالى: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)، أي أن من يؤمن منهم له البشرى في الدنيا والآخرة وأن الله ولي المؤمنين.(7/3625)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
(وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
علم نبي اللَّه موسى - عليه السلام - أن بني إسرائيل تبهرهم المادة وتستهويهم زخارف الدنيا ووافقه على رأيه أخوه وردفه هارون، ورأيا أن طغيان فرعون كان سببه ما في يده من أموال وزخارف وما تحت سلطانه من كنوز الأرض، فقد كان ملكه يمتد إلى الحبشة وما فيها من جبال ووهاد قد ضمت في بطونها معادن وذهبا وفلزات الأرض، فقال موسى: (رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ) أعطيت فرعون وأشرافه الذين يعاونونه ويمالئونه في ظلمه وبغيه، زينة وأموالا في الحياة الدنيا (رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَن لسَبِيلِكَ)، اللام هنا لام العاقبة، أي كانت عاقبة هذا الإيتاء وذلك التمكين في الأرض أن يضلوا عن سبيلك بالكفر والظلم والعتو والطغيان، وألا يراعوا حقا، وأن يدعى فرعون أن له ملك مصر، وأن هذه الأنهار تجري من تحته، ويرجو موسى ربه ضارعا أن يزول عنهم ما سبب طغيانهم. (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) الطمس هو المحق، أي امحق أموالهم لَا تجعلها صالحة لأن ينتفعوا بها (وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ) أي اجعل قلوبهم تذوق الشدة المريرة فمن(7/3625)
صخرة الشدة قد تنبع المعرفه فيعرفون ضعفهم أمام قوة اللَّه تعالى فيذهب طغيانهم. (فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) في ذهاب أموالهم وفراغ نفوسهم وذوق قلوبهم للقسوة الشديدة، و (الفاء) فاء السببية.(7/3626)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
(قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
وقد أنزل اللَّه تعالى بهم ما طلب موسى وأخوه، والدعوة هنا الدعاء وتطلق على كل طلب، والاستقامة هي الإيمان بالحق والإخلاص في القول والعمل وصدق الاتجاه إلى اللَّه تعالى، وأكد اللَّه تعالى طلب الاستقامة بقوله: (وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) فإن مسلكهم ليس فيه استقامة بل هو الاعوجاج والعدول عن الطريق المستقيم. ولقد قال تعالى في معنى الاستجابة لموسى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136).
* * *
نجاة بني إسرائيل وإغراق فرعون
قال تعالى:
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ(7/3626)
وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
* * *
ضاق فرعون ذرعا ببني إسرائيل، ومع أن الآيات توالت عليه حتى بلغت تسعا، ومع كل هذا أراد الفتك ببني إسرائيل، وكان موسى قد تبوأ لقومه مكانا يقيمون فيه شعائر دين التوحيد فأمر اللَّه نبيه - عليه السلام - أن يضرب البحر بعصاه فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وكانت الفروق اثني عشر فرقا بقدر عدد أسباطهم فاجتازوه وأتبعهم أي أدركهم ولاحقهم وقد أعد العدة لإبادتهم، وحسب أنه ناج مثلهم من الغرق فانطبق البحر عليه فاغرقه ومن معه.(7/3627)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ) أي اجتازوه بأمر الله تعالى وعنايته بهم (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا) أي لاحقوهم بغيا من عند أنفسهم وعدوا (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) ذهب عنه غروره ساعة أن أدركه الغرق وبانَ ضعفه وتكاثرت عليه آيات اللَّه التي جاءته على يد موسى وأخيه فآمن ساعة الموت حجث لَا يقبل الإيمان: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18).
وقد بين اللَّه تعالى لفرعون أن إيمانه غير مقبول(7/3627)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)
(آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) الاستفهام للتوبيخ على تأخره وقد آمن حيث لَا ينفع(7/3627)
نفس إيمانها، والاستفهام منصب على (آلْآنَ (91)
والتوبيخ على تأخر الإيمان إلى وقت الغرق ولذا يقول سبحانه: (وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْل وَكنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)، وقد أشار سبحانه إلى أمرين:
الأمر الأول - يتعلق بفرعون نفسه وقد عصى من قبل وادعى الألوهية وكفر بالوحدانية واصطناعه العصاة مثله وخضوعه للسحر والكهانة.
الأمر الثاني - يتعلق بعمله (وَكنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) أرهقت الناس بظلمك وأضعفت إرادتهم وقتلت نخوتهم وجعلتهم عبيدا، ولا فساد في أمة أكثر من فناء آحادها حتى يكونوا كالآلات يحركها ويدفعها، ووصف سبحانه فساده بالاستمرار طول حياته وحياة أمثاله، فعبر بـ (كنتَ) التي تدل على الاستمرار، ووضعه في صف المفسدين في الأرض وقد كان أشدهم عتوا وطغيانا.
لقد نجاه اللَّه ببدنه ليكون آية دالة على قدرة اللَّه تعالى وليراه الناس مثلا واضحا لمن أرهق شعبه وظلم وطغى وبغى وأكثر الفساد، ونرى ذلك دائما فيمن يحاكونه وكأنه على مقربة منَا.(7/3628)
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
(الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر، تقديره إذا كنت قد غرقت وضعفت واستخذيت في آخر لحظة - اليوم ننجيك ببدنك، وذكر اليوم للإشارة إلى أنه ينجو ببدنه في ذلك اليوم، وأضاف الإنجاء إليه سبحانه وجعله واقعا على فرعون باعتبار أنه صاحب البدن؛ ولذا قال تعالى: (بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً)، أي دلالة أولا على عظيم قدرة اللَّه تعالى التي قهر بها طاغوت عصره، وثانيا للاعتبار لأن مآل الطغاة هو الفناء، وثالثا يبان أن اللَّه تعالى القادر على بقاء الأبدان، هو قادر على إعادة الأموات، ورابعا بيان أن العدالة هي الخير الباقي وأن الظلم هو الشر الذي يذكر الطغاة بسببه بأنهم مفسدون.(7/3628)
ولقد بقي ببدنه وهو آية القدرة الإلهية، يتخذه المفسدون لنشر الفساد والإتجار به في العالم.
(وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) غافلون عن آيات اللَّه تعالى في الكون والناس ولولا أنهم غافلون لأقاموا العدل واعتبروا بفرعون ولأبعدوا الغرور عن أنفسهم وما استبدوا بمن يماثلونهم في الخلق والتكوين من الناس وقد يزيدون عليهم في المواهب التي أنعم الله بها على بعض عباده الأبرار، ولو لم يكونوا غافلين لامنوا بقدرة اللَّه تعالى على البعث والنشور.
وقد أكد اللَّه غفلة الكثيرين من الناس بكلمة (إن) وبالجمله الاسمية وباللام في قوله تعالى: (لَغَافِلُونَ).
هذا أمر فرعون ونهايته، أما أمر بني إسرائيل فقد ذكره اللَّه تعالى في قوله:(7/3629)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
(وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
كان بنو إسرائيل في أرض فرعون في منزل دون ومكان هون، فكانوا في ذلة ومهانة فخرجوا وجاوزوا البحر في عزة ورأوا فرعون وملئه يغرقون (وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي مكنَّا لهم مكانا يطمئنون فيه ويبوءون مستريحين أعزة فيما بينهم مستقلين عن التبعية والذل.
وقوله: (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي مقاما مطمئنا فاضلا يبعد عن السحر والكهانة وغيرها من أوهام فرعون. وقد حاء في مفردات الراغب الأصفهاني أنه يضاف إلى الصدق الفعل الذي يوصف به نحو قوله: (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ. . .)، و (. . . قَدَمَ صِدْقٍ. . .) فالصدق هو عنوان الفضائل؛ لأنه يتضمن صدق القول وصدق النفس والضمير، وهو عنوان لكل عمل فاضل ومكان طيب.
وفى هذه الإقامة الطيبة الفاضلة الكريمة العزيزة رزقهم اللَّه تعالى المن والسلوى، وقد سجل اللَّه اختلافهم بعد أن جاءهم العلم بالحق، ورأوا المبينات(7/3629)
الواضحة الدلالة القاطعة في إثبات الوحدانية والرسالات الإلهية، ومع ذلك لمّا اختلفوا، كانت الذلة جامعة بينهم موحدة مؤلفة، كما جاءهم العلم ومعه العزة اختلفوا على فرق واللَّه سبحانه يحكم بينهم يوم القيامة.
* * *
العبرة في القصص
يقول تعالى:
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)(7/3630)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
* * *(7/3631)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
(فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
الشك هو الضيق، ثم أطلق على التردد في الحكم بين اليقين والإنكار، لأنه يحدث في النفس ضيقا، وسياق القول في هذه الآيات وما قبلها هو بيان القرآن(7/3631)
للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أصاب أولي العزم من الرسل ما أصابه من قومه ونزل بهم من الشدائد والإعراض والاستهزاء والسخرية ما نزل به - صلى الله عليه وسلم -، وأنه سبحانه ينبه نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى صدق ما أخبره ويثبت فؤاده، وفي النهي عن الشك أمر بالتثبت واليقين والاطمئنان إلى أنه الحق. فقوله تعالى: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ) هو فرض غير واقع والغرض منه:
أولا - تثبيت النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ثانيا - بيان أن الكتب السابقة ثابت فيها هذا.
ثالثا - تذكير النبي - صلى الله عليه وسلم - بما حدث للنبيين قبله.
رابعا - بيان أن القصص الصادق يربي اليقين.
والدليل على أن النص لَا يفيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشك، أن أداة الشرط هي " إنْ " وهي تدل على أن فعل الشرط ليس بواقع ولا محقق.
والشك - كما قال الغزالي - هو طريق الوصول إلى الحق، وقد ذكر الله تعالى في القرآن أن المشركين يسارعون بالتكذيب ولا يتروُّون فيتفكروا ويصلوا إلى الحق البين، واللَّه سبحانه وتعالى يفرض الشك الذي لم يقع كأنه واقع ليسوق الأدلة المثبتة وهي شهادة الكتب السابقة لهذه الاخبار الصادقة؛ التي تزيل كل أوهام المشركين على أن الخطاب في قوله تعالى: (فَإِنْ كُنتَ فِي شَكّ) هو لأهل الخطاب الذين يعلمون القرآن أو يتلونه بأن يسالوا الذين أوتوا الكتاب من قبل.
وقوله تعالى: (مِّمَّا أَنزَلَ إِلَيْكَ) فيها ما يفيد نفي الشك لأنه من عند اللَّه تعالى الذي بعثك رحمة للعالمين فلا ريب ولا يمكن أن يكون ريبًا؛ لأنه عاين الوحي الذي خاطبه به الروح الأمين جبريل عليه السلام نزل به على قلبك وأن (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ. . .)، (الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلا تَكُن مِّنَ الْمُمْتَرِينَ).(7/3632)
الامتراء هو الشك بعد اليقين، فالنهي عن الامتراء هو للاستمرار على اليقين والإيمان، وألا يتزلزل ذلك اليقين بفعل المشركين، وأن مؤدى ذلك القول هو تأكيد الحق وتثبيته لأتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ولتئبيت فؤاد النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وإيمانه الراسخ كالجبال أو أشد، فكثرة الدلائل تثبت اليقين كقول إبراهيم - عليه السلام: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. . .).
وقوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) نص يوجب اليقين، فالحق وحده نور يجلو اليقين قد أكده سبحانه وتعالى بكلمه " قد " وباللام قبلها، وقال: (مِن رَّبِّكَ) أي الذي خلقك وربَّاك، ولذا رتب عليه النهي عن الافتراء.
(الفاء) في قوله: (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها والنهي موجه في ظاهرة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو موجه للناس عامة وأهل مكة خاصة.(7/3633)
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
(وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95)
لقد جاء قوله تعالى بعد النهي عن الامتراء. وهذه الجملة القرآنية معطوفة على قوله تعالى: (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) والنهي كالنهي السابق مؤكد بنون التوكيد الثقيلة وهو موجه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بظاهر القول وموجه للناس كافة، ومع ذلك فيه إشارة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - سواسية في الخطاب بالحق مثلهم، وفي قوله تعالى: (وَلا تَكونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) نهى عن الامتراء، وأن الامتراء بعد الإيمان يؤدي إلى تكذيب آيات اللَّه تعالى، ولذا نهي عنه - صلى الله عليه وسلم - بسياق القول وظاهر الخطاب، النهي للناس أجمعين، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أسوة لهم في الخطاب كما هو أسوة لهم في الإيمان والنهي الموجه له يكون بالأولى نهي لغيره، ذلك ليفتشوا قلوبهم ويبعدوها عن الامتراء في الحق حتى لَا يؤدي ذلك إلى التكذيب بآيات اللَّه.
(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّئوا بِآيَاتِ اللَّهِ) في قوله تعالى نهي مؤكد لأن يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - في صفوف الكثرة الضالة التي خير منها القلة المؤمنة، فلا يقاس(7/3633)
الحق بالعدد والكثرة ولكن بالإيمان وقوة الدليل، ونكرر أن الخطاب للناس فلا يصح أن ينساق أحد وراء الكثرة المبطلة تاركا القلة المحقة، وعبر سبحانه بقوله تعالى (كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ) لبيان أن صلة الموصول سبب لانغمارهم في الضلالة، إذ الآيات الكونية واضحة وآياته القرآنية تحدى بها الرب أن يأتوا بمثلها فعجزوا، وقد رتب اللَّه تعالى على تكذيب الآيات الكونية والقرآنية الخسارة (فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، (الفاء) لبيان أن ما بعدها مترتب على ما قبلها، أي أنه يترتب على تكذيب آيات اللَّه أن تكون في صفوف الخاسرين الذين خسروا الإيمان، وهذا أساس الخسران فخسروا الإيمان باليوم الآخر وما فيه من جزاء بعد الحساب، وخسروا فزعموا أن الحياة الدنيا وحدها هي الحياة وهذا هو الخسران المبين.(7/3634)
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
بيَّن سبحانه أن الذين كفروا حقت عليهم كلمة ربك بالكفر فلا يؤمنون بأية آية مهما تكن واضحة.
تبين الآية حال المشركين فهم لَا يؤمنون لنقص في المعجزة الكبرى ولكن لأنهم سبقوا إلى الرد وأصروا عليه إصرارا ونفروا من الحق لَا يردهم إليه معجزة، هم يطلبون معجزات مادية ولو جاءتهم لأنكروها وتنكروا لها بعد فترة من الزمان، وقد كانت التجربة مصدقة في فرعون وملئه فمع الآيات التسع التي جاءت ما آمنوا.
(إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ) يؤكد سبحانه أن الذين ثبتت عليهم كلمة اللَّه تعالى أنهم في سجل الكافرين، لَا يؤمنون ولو جائتهم كل آية ولو كانت مما يطلبون، أي لو تضافرت الآيات معجزات كلها وجاءت مجتمعة لا يؤمنون، وأقرب القول أن يقولوا سحرت أعيننا فالجحود ملازم لهم لَا يزايلهم أبدا. كان التأكيد في هذا الحكم بـ (إِنَّ) المؤكدة بقوله تعالى: (لا يُؤْمِنُونَ)(7/3634)
تعبيرا بالمضارع دليلا على أن الإيمان ليس من شأنهم، وأنهم لَا يذعنون وليس من طبعهم أن يؤمنوا بشيء بل الجحود شأنهم.
إن الكفر ينمي بعضه بعضا، فالكافر يبدأ جاحدا ثم يعاند ثم يؤذي المؤمنين ويحاربهم ثم يسير في طريق الفساد حتى يتمكن الكفر منه فلا يؤمن.
وإذا كانوا كذلك فلن يؤمنوا بآيات الله مهما وضحت وبهرت الأنظار، وتستمر لجاجتهم في الكفر حتى يروا العذاب الأليم في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فقد كانت في الماضي بالآيات المدمرة، أما بعد رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - فبالمقاومة لشركهم بالحرب، وجَنَّد له أبطالهم، ذلك لأن النفس الجاحدة تغريها النصرة بالمخالفة والفساد، والسيف قد ينبهها فيهتدي من يهتدي. وفي الآخرة فالعذاب في جهنم وبئس المصير.(7/3635)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
(فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
عندما أدرك فرعون الغرق قال: (آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) كان ذلك بعد أن سبقته الأحداث ولم تعد له توبة، وقد قص الله تعالى أمر قوم يونس وقد أجدى فيهم الإنذار وصدقوا رسولهم وهم على اختيار من أمرهم.
(فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) كلمة (لولا) للحض على الإيمان مع ذكر أثره، والقرية هي المدينة العظيمة التي يجتمع فيها الناس، (فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) طهر نفوسها ومنع أهلها من الظلم وقربهم من ربهم، وجواب (لولا) محذوف إذا قلنا إنها شرطية، كقوله تعالى: (. . . لوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤمِنِين)، ودل عليه أو قام مقامه فنفعها إيمانها. وإذا قلنا إنها لمجرد الحض على الإيمان فإنها لَا تحتاج إلى جواب، ومهما يكن فالكلمات (فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا). بيان لأثر الإيمان وهو أن النفوس تتطهر وتقترب إلى الله تعالى ويكون لها الثواب والنعيم المقيم، ونفع الإيمان أيضا كان في سعة من الوقت وليس كإيمان فرعون.(7/3635)
(إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) الاستثناء منقطع بمعنى لكن، وفيه بيان نفع الإيمان، والمعنى ألَا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها، لكن قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي، وجوَّز النحويون أن يكون الاستثناء متصلا، لأن كلمة (لولا) حرف امتناع تدل في مضمونها على النفي فيكون المضمون - ما قرية آمنت فنفعها إيمانها، إلا قوم يونس فإنهم آمنوا وقت السعة والاختيار فنفعهم إيمانهم، وذلك كقوله تعالى: (لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ) أي حين آمنوا مختارين أزلنا عنهم، وعبر بكلمة (كَشَفْنَا) إشارة إلى أن الخزي غمة وهلاك فإزالته كشف للغمة ومنع لها، وأبقيناهم ممتعين مرفهين في الحلال إلى حين قضاء أجلهم. وقد روي أن يونس - عليه السلام - قد بعث نبيا في مدينة " نينوى " من الموصل وكانت مدينة عظيمة، وقصة الآشوريين في حكمهم - وهي مدينة قديمة دأب أهلها على تحصينها، وقويت شوكة حكامها حتى خضع لهم الكثير من ممالك آسيا، والملك الواسع يوصي بالتجبر كما كان من آل فرعون، وقد أغار قوم يونس كثيرا على من جاورهم، وكلما أغاروا أكثروا الفساد وسلبوا ونهبوا وارتكبوا الكثير من المظالم، أنذرهم يونس بالعذاب ينزل بهم لا محالة، وهم يعلمونه صادقا أمينا فيهم فلم يعبأوا ابتداء، ويروى أنه أخبرهم أن العذاب نازل بهم بعد أربعين ليلة فقالوا في أنفسهم لو بقي فينا فنحن في أمن وإن غادرنا لَا نكون آمنين، لكنه غاب عنهم فقذف الله في قلوبهم الرعب وفي قلب أميرهم الإيمان، ورأوا مقدمات العذاب تقترب منهم وتغشاهم وغامت السماء غيما أسود، فآمنوا واستغفروا وأنابوا إلى ربهم.
وإن هذا المثل يضرب بعد فرعون الذي آمن بعد فوات الأوان، وهو مثل لإدراك قوم يونس بعد أن غشيهم ما جعلهم يتوقعون ما أنذروا به فسارعوا بالنجاة وأزالوا آثار ما اقترفوا.
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)(7/3636)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
إن كفر من كفر وهداية من اهتدى يكون بتقدير اللَّه تعالى في كتابه المكنون.
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على إيمان قومه ومن بعث إليهم جميعا؛ لأن الحجة قائمة والحق بين والهدى مرشد، فيبين اللَّه تعالى له أنه سبحانه لو شاء لهداهم أجمعين، ولكن تركهم يختارون عن بينة، فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها.
فقد خلق فيهم العقل الذي يختار ووضع فيهم النفس الأمارة بالسوء والنفس اللوامة فكانت الإرادة حرة، وتم الاختبار ليكون الثواب والعقاب واللَّه أعدل الحاكمين.
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا) (كُلُّهُمْ) تأكيد، و (جَمِيعًا) حال. لو شاء اللَّه أن يكون الناس كلهم مجتمعين على الهداية والإيمان لكانوا جميعا كذلك، ولكن لم يشأ ليكون الاختيار ويتميز المؤمن من الكافر، وقد قال تعالى: - (وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. . .)، ولكنه سبحانه أودع النفوس القدرة على الاهتداء، وبعث الرسل لكيلا يكون للناس على اللَّه حجة وهدى الإنسان النجدين ليكون الاختيار (. . . وَنَبْلُوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةَ. . .)، ذلك ليكون التنازع بين الفضيلة والرذيلة وليكون من آمن عن بينة ومن كفر عن بينة، وكلمة (كُلُّهُمْ) تأكيد لفظي وجميعا حال، والمعنى مجتمعين على الإيمان لَا يشذ من بينهم أحد.
ولقد قال تعالى في تقرير الاختيار: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119).
وإذا كانت تلك مشيئة اللَّه تعالى وإرادته أن ترك لهم الاختيار، فليس لك أن تريد منهم ما لم يرده اللَّه لهم.
(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أيكون الإيمان بإكراههم واللَّه تعالى أراد لهم الاختيار في الاعتقاد والإيمان، و (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛(7/3637)
لأنه إذا كان اللَّه تعالى يريد لهم الاختيار فلا تكرههم، الاستفهام للإنكار بمعنى النفي، أي ليس لك أن تكره الناس على أن يكونوا مؤمنين، وقدم (أنت) على الفعل لأن موضع النفي أن تكون أنت أيها النبي مكرههم، وقد قرر اللَّه تعالى لهم الاختيار.
(حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) وهذا يفيد أن الإكراه موضع استنكار لأنه إيجاد للإيمان حيث لَا تكون إرادة وقوله تعالى: (حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) فيه ما يدل على أنه ينشئ مؤمنين، وليس له ذلك، إنما هو للَّه تعالى الذي يقول: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ. . .).
(إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).
(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22).
* * *
ثم يقول تعالى:(7/3638)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
* * *
أي ما استقام لنفس أن تؤمن باللَّه وباليوم الآخر والرسل الذين جاءوا بالأدلة الحاسمة إلا بإذن اللَّه تعالى توجيها وتصريفا وتوفيقا فهو سبحانه وتعالى الملهم خلق النفس فسواها ألهمها فجورها وتقواها، فمن سلك سبيل الهداية والرشاد واتبع ما جاء به الرسل واستمع إليهم أخذ اللَّه تعالى بيده إلى الإيمان، ومن سلك سبيل الغواية أمعن في طريق الضلال، وكلاهما بإذن اللَّه تعالى وإرادته.
(وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ) الرجس هو الأمر المستقذر في العقل والإدراك والحس، كقوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. . .)، أي أنه قذر حسا، والكفر يعد قذارة معنوية يصيب الفكر(7/3638)
كما يصيب لحم الخنزير المعدة بالقذارة، فإطلاقه على الكفر والتخاذل والبعد عن اللَّه تعالى من قبيل المجاز بالاستعارة. وفى قوله تعالى: أنه يجعل الرجس على الذين لَا يدركون بعقولهم الفرق بين الحق والباطل، ولا يعملون بعقولهم، بل يقولون نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ولا يديرون الأمور بميزان العقل فهم في ضلال بعيد.(7/3639)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
(قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
أمر اللَّه نبيه أنْ ينبههم إلى خلق السماوات والأرض، وما يدل عليه، وأن يذكرهم بالوجود وما فيه، وأن العالم المرئي هو السماوات والأرض وما فيهما من عجائب ونظم ونواميس يدبر أمرها ويقوم على وجودها ويسيرها بإرادته، لا تتحرك حركة عن حركة إلا بإذنه سبحانه بديع السماوات والأرض.
(قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، (مَاذَا) استفهام وتنبيه إلى عجائب السماوات وارتباط نجومها وأبراجها برباط محكم لَا يمكن أن يسير نجم في غير مساره، (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)، كل ما في الكون سخره اللَّه للإنسان من ثروات سائلة وجامدة، وما في البحار من كنوز وأحياء، وله الجواري تجري في البحر، بإذنه والرياح العظيمة والناقلة للماء واللقاح.
انظروا ماذا في الأرض والسماء، هل من إله غير اللَّه يسيرهما.
إن ذلك دليل على اللطيف الخبير المنشئ المبدع بإرادته السرمدية قائم على الكون ممسكا له من الزوال. كل ذلك أقره العرب ثم أشركوا، فتعالى اللَّه عما يشركون.(7/3639)
(وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ)، (مَا) نافية، والآيات هي الدلائل التي أشرنا إلى بعضها، والنذر جمع نذير وهو الرسول (. . . وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ).
والمعنى أنه لَا تنفع الآيات والنذر نفعا فيه غناء عن قوم لَا يؤمنون، أي أن اللَّه سبحانه أقام الآيات كافية وأردفها بالرسل مبشرين ومنذرين ولا ينفع هذا كله قوما لَا يؤمنون، أي قوما ضلوا سواء السبيل وسلكوا طرائق الشيطان، (لَا يُؤْمِنُونَ) ليس من شأنهم الإيمان بل اضطربت عقولهم وقلوبهم ونفوسهم وأنهم لا يفقهم إلا قارعة تنزل بهم فهل ينتظرونها.(7/3640)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
(فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
يراد بالأيام هنا الوقائع، وما نزل بالأمم قبلهم من خسف وريح وحاجب من السماء، و (الفاء) في كلمة (فَهَلْ) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه يترتب على استمرارها في غوايتهم وضلالهم أنهم لايتنظرون إلا قارعة مثل الذين مضوا قبلهم. والاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع بمعنى النفي، أي لاينتظرون إلا أن يقع مثل ما وقع للذين مضوا من قبلهم ممن عاندوا في الحق وحاربوه وفتنوا أهله (قُلْ فَانتَظِروا إِنِّي مَعَكم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ) أمر اللَّه نبيه أن يخاطبهم منذرا مهددا.
إن كل نبي بعث في قومه، أما محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد بعث للناس كافة الأحمر والأسود، ومن عاصروه والأجيال من بعدهم وهو خاتم المرسلين. والنص في الآية الكريمة يستدل منه إلى أنه سينزل بهم مثل ما نزل بمن قبلهم كريح أو خسف أو غرق، ولكن الآية التي قرعت حسهم وأذهلتهم في باطلهم هي الحرب العادلة منعا للفتنة وفتحا للدعوة حتى صارت كلمة اللَّه هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى.(7/3640)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
(ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
فبعد أن أشار اللَّه تعالى إلى ما ينزل بالكافرين من نوازل الدنيا مثل الذين خلوا من قبلهم، ذكر أنه ينجو من ذلك الرسل ومن يؤمنون.
كلمة (ثُمَّ) للتراخي والبعد الزمني والمعنوي؛ لأن ما ينزل بهم يكون بعد إمهال يتمادون فيه ثم يكون الهلاك ثم تكون النجاة، والبعد الفارق بين أن ينزل البلاء وبين النجاة من عذاب يعم ولا يخص، وأضاف سبحانه الرسل إليه تشريفا لمكانتهم ولبيان أنهم ينطقون عن اللَّه تعالى ولا يأتون ببهتان يفترونه ثم كانت المفارقة بين الذين آمنوا والذين كفروا بنجاة المؤمنين وهلاك الكافرين.
وقوله تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا) فيه كلمة (ثُمَّ) عاطفة على محذوف دلت عليه الإشارة إلى أنهم ينتظرون إلى أن يهلكوا مثل الذين خلوا من قبلهم.
وقوله تعالى: (نُنَجِّي) بتشديد الجيم قرئت كذلك عند الأكثرين، وقرئت بالتخفيف، والتعدية بالهمزة والتضعيف، غير أنى أرى في التضعيف معنى تأكيد النجاة والسلامة، فقد قال شأنه: (كذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْج الْمُؤْمِنِينَ) تأكيد بعد تأكيد. وفي ذلك تبشير للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن العاقبة للمتقين، وأن الظالمين مهما أرعدوا وأبرقوا فأمرهم إلى زوال، وأنه - صلى الله عليه وسلم - ناج من كيدهم وتدبيرهم وغالب هو ومن معه في هذا الميدان الدنيوي بين الخير والشر والإيمان والكفر.
وقوله تعالى: (حَقًّا عَلَيْنَا) جملة معترضة بين متلازمين وهما (كَذَلِكَ) (ننْج الْمُؤْمِنِينَ)، وأن قوله تعالى (حَقًّا عَلَيْنَا) معترضة لتأكيد وعد اللَّه تعالى للمؤمنين وأنه لن يختلف فسماه سبحانه حقا عليه وهو الذي لَا واجب عليه ولا يسأل عما يفعل، و (حَقًّا عَلَيْنَا) مصدر لفعل محذوف، واللَّه ذو الفضل والمنة على عباده.
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)(7/3641)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
قد بين سبحانه أن المشركين في قبضته ثم أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل نفسه أسوة في الإيمان.
الخطاب لأهل مكة ومن يكون مثلهم كافة، ولذا نادى سبحانه (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) والنداء للبعيد، لبعد نفوسهم عن نفسه - صلى الله عليه وسلم - ومجافاتهم للحق وهو يتبعه.
(إِن كنتمْ فِي شَكٍّ من دِينِي) إن كنتم في ريب مع ما قدمت لكم من براهين وأدلة قاطعة على الدين الذي أؤمن به وأعتقده لأنه الحق في ذاته والعقول تتلقى ما فيه بالقبول.
إن كنتم كذلك فلا تطمعوا أن أكون مثلكم أحيد عن الحق وأجافيه، وأعبد مثلكم الذين تعبدون من دون اللَّه وهي الأوثان، وعبر عنها بما يدل على العقل بكلمة (الَّذِينَ) مجاراة لتفكيرهم إذ يعدونها من العقلاء ويعبدها كبراؤهم من المشركين والضالين.
وفى مجاراة الضال من غير اعتناق لما ضل به أفضل تنبيه، وحمل له على التفكير.
(تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) في هذا دليل وبيان للسبب الذي دعاه - صلى الله عليه وسلم - لئلا يعبدها وهي أنها غير اللَّه الذي لَا يعبد إلا هو وحده لَا شريك له.
ولقد صرح - صلى الله عليه وسلم - بمن يعبده في قوله تعالى: (وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) والاستدراك؛ لنفي أن أوثانهم تحيي أو تميت، وهو يتضمن إثبات عبادة اللَّه وحده لا شريك له متجاوزا عبادتهم مبتعدا عنها، وفي الكلمة القرآنية (الَّذِي يَتَوَفَاكُمْ) إشارة إلى استحقاقه للعبادة لأنه الذي يتوفى الأنفس حين موتها فهو يحيي ويميمت وهم يرون ذلك ويشاهدونه.
وقد ذكر سبحانه الوفاة ولم يذكر الإحياء؛ لأن الوفاة لَا تكون إلا للحي فذكرها يتضمن ذكر للإحياء، وإشارة إلى أنهم ليسوا مخلدين وأنهم ضعفاء يموتون، وذكر الموت يذهب بغرورهم وفي ذهابه تقريب لهم إلى الإيمان، كما أن آلهتهم التي لَا تضر ولا تنفع، لَا تميت ولا تحيي.(7/3642)
(وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) جاء ذكر الأمر ولم يذكر الآمر سبحانه وتعالى الذي يعرفون أنه الخالق وحده؛ لأنه حاضر في النفس دائما؛ لأن الأمر من اللَّه يكون معه أمر العقل والإدراك المستقيم، والبرهان الصادق الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالأمر إذا جاء من اللَّه الخالق الواحد الأحد جاء من العقل المدرك وجاء من الآيات البينات.
وقوله تعالى: (أَنْ أَكونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فيه (أَنْ) مصدرية، والأمر بالكينونة بهذه الصفة يفيد أن يكون مندمجا بها في المؤمنين في جمعهم الطاهر البعيد عن الوثنية.(7/3643)
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
(وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)
بعد أمر الاندماج وتضافر صفوف المؤمنين، أمر نفسي في قوله تعالى: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ).
قوله تعالى: (وَأَنْ أَقِمْ) معطوف على قوله: (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الذي جاء في الآية السابقة، وجاء بصيغة الأمر من الله تعالى ومن آياته البينات الدالة على وحدانيته واستحقاقه للعبادة وحده، وكلمة (وَأَنْ) مصدرية هي وما بعدها مصدر، أي أمرت بالقيام للَّه وحده، وفي قوله تعالى: (وَجْهَكَ) إشارة إلى الاتجاه إلى اللَّه تعالى بنفسه كلها لَا يكون فيه شيء لغير اللَّه، فالوجه كناية عن الذات كلها، فيكون حبه وبغضه للَّه تعالى، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا للَّه تعالى " (1).
وقوله تعالى: (حَنِيفًا) معناه مستقيما في اتجاهه بلا انحراف ولا اعوجاج ولا ميل لباطل أبدا.
ثم صرح سبحانه ببطلان الشرك وأنه منهي عنه في قوله تعالى: (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فإنك إذ أمرت بأن نكون من المؤمنين فقد نهيت عن أن
________
(1) سبق تخريجه.(7/3643)
تكون من المشركين، وقوله تعالى: (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكينَ) معطوف على قوله تعالى: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا).
وهكذا كان النهي عن الشرك بعد الأمر بالإيمان وإقامة الوجه لله بلا ميل، ذلك لأن الشرك يدخل إلى النفس من مسارب شيطانية كثيرة يحسبها الناس صغائر وهي كبائر، فالمراآة في العبادات شرك، والخضوع للحكام والأمراء في معاصيهم شرك، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " من تصدق يرائي فقد أشرك، ومن صلى يرائي فقد أشرك " (1).
وقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7).
وقد كان تأكيد النهي عن الشرك بنون التوكيد الثقيلة وقد عطف على ذلك قوله تعالى:
________
(1) رواه أحمد، وقد سبق تخريجه.(7/3644)
وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
(وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
(تَدْعُ) الدعاء هنا العبادة والضراعة وهذا معطوف على (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا)، (مِن دُونِ اللَّهِ)، أي غير الله تعالى وهي الأوثان التي جعلتموها أندادا لله مستحقة للعبادة، وقد وصفها سبحانه بحقيقتها الثابتة فقال: (مَا لا يَنفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) أي أنها في ذاتها لَا تنفعه ولا تضره، وجعل الخطاب بالنفع والضرر لمن يدعوها إشارة إلى أنهم تركوا ما ينفع ويضر إلى ما لَا ينفع ولا يضر، وذكر هذه الحقيقة فيه تعليل للنهي عن عبادتها، لأنه إنما يعبد الجدير بالعبادة ويوفي الشكر لمن ينفع ويخشى عذابه، أما الأوثان فلا نفع فيها يرتجى ولا ضرر منها يُتقى.(7/3644)
إن عبادة الأوثان واتخاذها أندادا للَّه تعالى والشرك به سبحانه، ظلم بين، ولذا قال تعالى: (فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ)، (الفاء) في مقام التعليل للنهي، أي أن عبادة ما لَا ينفع ولا يضر - ظلم، وقد جاء ذلك بصيغة الشرط والجزاء ليبين ارتباط الفعل بوصف الظلم، أي أن هذا الفعل مترتب عليه وصف الظلم لَا محالة. وقد ذكر ذلك بالشرط الدال على الارتباط أولا، والإيماء إلى الارتباط بقوله: (إِذًا)، أي أنه إذا كان الأمر كذلك فإنك من الظالمين لَا محالة، و (الفاء) الثانية للدلالة على الجزاء.(7/3645)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
بين اللَّه تعالى أن من الإثم البالغ والضلال البعيد عبادة ما لَا يضر ولا ينفع من جماد وغيره، ثم يبين سبحانه في هذه الآية أنه هو الذي ينفع ويضر والنفع يشاؤه لعباده والضرر يكتبه عليهم.
(وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضرُّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ). المس إصابة الإحساس بالألم والانزعاج، وأنه لَا كاشف له إلا اللَّه، أي رافعه ومزيله، وقد عبَّر سبحانه عن إزالته بالكشف؛ لأنه يكون كالغمة تصيب النفس وتستولي عليها ولا تنحسر إلا بأمر من اللَّه تعالى. والضمير (هُوَ) يعود على اللَّه سبحانه وتعالى ذي الجلال والإكرام وهو يجب أن يكون مذكورًا في النفس حاضرًا في القلب دائمًا، فالضمير يعود إلى معلوم في النفوس والقلوب.
ويقول سبحانه: (وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ)، وهنا نجد إشارتين بيانيتين:
الإشارة الأولى - التعبير باسم الفاعل في قوله تعالى: (فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) وهذا يفيد أنه لَا يوجد من يستطيع رده فليس الكلام لمجرد الرد، بل هو نفي لوجود من يستطيع الرد ويقدر عليه.(7/3645)
والإشارة الثانية - قوله تعالى: (لِفَضْلِهِ)، فيها إظهار في موضع الإضمار، ذلك لبيان أنه لفضل من الله ورحمة منه سبحانه وأنه واجب الشكر على هذه النعمة، وجاء التعبير هنا بقوله تعالى: (وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) للإشارة إلى أن الخير مراد لله تعالى مقصود إنزاله بالشخص، وفي التعبير إبهام ثم بيان للتوكيد قال تعالى: (وَإِن يُرِدْكَ) ثم قال سبحانه: (بِخَيْرٍ) فكان الأخير بيانا لإرادة الله تعالى بالعبد، ثم قال تعالى: (يُصِيبُ بِهِ من يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) أي يصيب بهذا الفضل من تتعلق به مشيئة الله من عباده.
وتتعلق مشيئة الله بمن يسير في طريق الخير كما كتبه الله تعالى فيوصله إلى غايته، والخير المذكور في الآية هو النفع والهداية والاتجاه إلى الله ورجاء رحمته، ثم يختم الله تعالى هذه الآية بقوله: (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) أي أن مغفرته تعالى وقبوله التوبة هو الخير الذي يشاؤه لعباده، ومغفرته من رحمته، لأنه سبحانه يريد لهم الخير برحمته وفضله، والشيطان يسول لهم الشر، فالذين مكنوا الشيطان من نفوسهم حرموا من الخير، ومن أبعدوا وساوسه فقد اتجهوا إلى الله، وكل شيء بعلمه وتقديره سبحانه، كل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
وقد أوضح الله الحق وبيَّنه فقال تعالى:(7/3646)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - وقد بشر وأنذر أن يبين لهم أن الحق قد جاءهم بدلائله وقامت أعلامه، وقد علموا طريق الغواية وما فيه من اعوجاج، وطريق الهداية وما فيه من استقامة، فمن شاء سلك طريق الهداية وأصاب فيه الخير، ومن شاء سار في طريق الضلال، أصابه الشر، ويكون في ضلاله عائدا بالضرر على نفسه.(7/3646)
ولذا قال سبحانه: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ)، أي جاءكم الأمر الثابت في ذاته وبأدلته وبراهينه من رسول منذر ومبشر وقرآن مبين فيه تكليفات اللَّه تعالى الهادية إلى سواء السبيل والداعية إلى الخير المبينة لطريقه والتي هي في ذاتها رشاد لمن أرادها طريقا مستقيما لاعوج فيه، فمن اهتدى بهدى هذا الحق فسمع وأطاع فإنما يهتدي لنفسه، أي نفع بالهداية نفسه إذ هي الخير كله، واللَّه غني عن عباده، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - لَا عمل عليه إلا أن يبشر، ومن ضل فإنما يضل على نفسه بسلكه الغواية وتركه طريق الهداية بعد أن بدت الأعلام واضحة هادية، وعاقبة الضلال تعود عليه إذ يسير في متاهة الباطل والفساد ومغبة ذلك عليه وحده.
ويقول - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه: (وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ) فينفي أنه وكيل وقد وكل إليه أمر المحافظة عليهم.
والباء في قوله: (بِوَكِيلٍ) لاستغراق النفي، أي لست عليكم حفيظا قد وكل إلى أمركم - بأي حال من الأحوال - إنما أنا مرشد.
كما قال تعالى: (. . . إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. . .)، وقد بلغت، وكما قال تعالى: (. . . إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ).(7/3647)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
(وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
جعله اللَّه قدوة في اتباع الوحي وهو له ابتداء ولمن تبعه من المؤمنين، ولقد أمرهم سبحانه وتعالى بأمرين هما: خلاصة الحكمة، والدعوة المحمدية، ونوه سبحانه بأمر ثالث هو الخضوع لحكم اللَّه تعالى وإليه المآل.
الأمر في قوله تعالى: (وَاتَّبعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) هو التكليفات الشرعية كلها والإيمان باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.(7/3647)
ومن التكليفات قيامه - صلى الله عليه وسلم - بالتبليغ وهو لَا يقصر، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67).
إن الدعوة ليست أمرا هينا لينا ولكن يكتنفها المشاق والصعاب، فعلاج النفوس ليس أمرا قريب المنال، وإنما يتعرض لما يتعرض له أهل الحق من سفاهة السفهاء وأذى الأقوياء وغطرسة العتاة الظالمين.
ولذا جاء الله تعالى بالأمر الثاني وهو الصبر فقال تعالى: (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ) أي اصبر على ذات ما يوحى إليك من تكليف، هو في ذاته شاق على النفوس، واصبر على أذى من تدعوهم، واصبر على الدعوة وجهاد الظالمين، الذين يفتنون الناس عن دينهم، وإن لذلك منتهى، هو حكم اللهْ وإن الله تعالى ناصر الحق وهو الهادي المرشد، (وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ).
* * *(7/3648)
(سُورَةُ هُودٍ)
تمهيد:
عدد آياتها ثلاث وعشرون ومائة، كلها مكية إلا ثلاث، الآية الثانية عشرة، والسابعة عشرة، والرابعة عشرة بعد المائة.
ابتدئت السورة بالحروف المعجمة، التي ذكرنا من قبل أنها من المشتبهات التي لا يعلم علمها إلا اللَّه تعالى، وذكرنا ما نظنه حكمة في ابتداء السور بها، وأنها في أكثر أحوالها يكون ذكر الكتاب والتنويه بأمره مما جعل بعض العلماء يقول:
إنها أسماء للكتاب ننسحه، وقد قال اللَّه تعالى من بعد الحروف (. . . كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ). ومن بعد ذكر القرآن وأحكامه ذكر القصد الأسمى من الدين وهو عبادة اللَّه (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ)، ثم طلب الاستغفار والتوبة وهي سبيل اللَّه تعالى وسبيل الاستجابة، وأن الإيمان باللَّه وصدق الإخلاص يأتي بخيري الدنيا والآخرة، وأن الإقامة في الدنيا إلى أجلٍ مسمى عند اللَّه (. . . وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللَّهِ مرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لكنهم يكفرون بالرجوع إلى اللَّه تعالى ويصرفون صدورهم عنه ويستخفون منه، واللَّه تعالى يعلم ما يسرون وما يعلنون ويعلم كل ما في الوجود (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)؛ وذلك لأنه الخالق لكل شيء (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. . .). ومع أشه الخالق المبدع فإنه سبحانه وتعالى يذكر بالبعث (. . . وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا(7/3649)
سِحرٌ مبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (8).
ولقد ذكر سبحانه أن منِ طبيعة الإنسان الفرح عند النعماء واليأس في الضراء (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11).
ويبين اللَّه تعالى رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أن يؤمنوا جميعا، وأنه يضيق صدره بكفرهم فيقول سبحانه: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12).
ولقد أشار سبحانه وتعالى إلى إفراطهم في طلب المعجزات ومكانة القرآن في الإعجاز بقوله تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14).
وبعد ذلك بين سبحانه منزلة الذين يريدون العاجلة وزينتها وأنه يوفِّى إليهم أعمالهم فيها ولا يبخسون ثم تكون عاقبتهم السوءى (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16). ثم يوازن سبحانه وتعالى بين المؤمن الذي يكون على بينة من ربه الذي هو شاهد بيَّن على خلقه وتكوينه وما نزل من قبله على موسى، أيتساوى مع من يكفر بالله ويتحزب في الكفر فالنار موعده (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17).
وأنه لَا أحد أظلم ممن افترى على اللَّه كذبا (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا. . .) كما بين سبحانه أنهم ضعفاء أمام اللَّه تعالى وأنهم ليسوا بمعجزيه،(7/3650)
وأنه يضاعف العذاب ويتحدى صاحب الجبروت والطواغيت، وأنهم يوم القيامة هم الأخسرون، وعلى عكسهم المؤمنون الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أي أنابوا واطمأنوا إليه. وأنهم أصحاب الجنة هم فيها خالدون. وقد لخص القرآن الكريم الموازنة بين الهدى والضلال بقوله تعالى: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24).
لقد كان المشركون في مكة يعبدون أوثانا ويعاندون ويجحدون ويؤذون، فناسب أن يذكر سبحانه قصص النبيين الذين جاءوا في بلاد العرب وجوبهوا بالعناد والجحود والاستهزاء والسخرية ليتأسى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وليعرفوا عاقبتهم إذا استمروا في عنادهم. وقد ابتدأ بذكر نوح أبي البشرية الثاني بعد آدم وقالوا: إن بعثه كان في البلاد العربية أو ببلاد تدانيها، وجاء في قصة نوح - وإنها لصادقة - أنه دعا قومه إلى عبادة اللَّه وحده، وكانت إجابة الملأ من قومه مماثلة لما أجاب به المشركون في مكة وأنهم كانوا يعيرونه كما عيروا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بأن الضعفاء والعبيد هم الذين قال الملأ من قوم نوح الذين سارعوا في الكفر وبادروه (. . . مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27).
وقد قالت قريش مثل هذا القول للنبي - صلى الله عليه وسلم - (وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكل الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ. . .)، وقد قال نوح لقومه إنه على بينة من ربه الذي آتاه رحمة (. . . فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)، كما أنه لَا يسألهم أجرًا، وطالبوه أن يطرد من معه لأجل أن يدخلوا في دعوته فيقول نوح عليه السلام: (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)، ثم عيره قومه أنه ليس غنيا مثل كبرائهم في(7/3651)
الشرك فيقول لهم: (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِين تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا. . .).
تململ الكافرون الذين أصموا آذانهم عن الحق فقالوا: (يَا نُوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)، فيرد قولهم بأن اللَّه تعالِى هو الذي يأتيهم به إن شاء، وييأس منهم نبي اللَّه عليه السلام فيقول لهم (وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34).
وقد تشابه موقف مشركي مكة مع مشركي نوح الذين تشابه تحديهم مع حال مشركي قريش في إهمالهم المعجزة الكبرى وهي القرآن وادعائهم أنه - صلى الله عليه وسلم - قد افتراه.
يئس نوح من إيمان أكثر قومه وأوحِي إليه أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، كما أمره تعالى بأن يصنع الفلك وسط سخرية قومه وهو يقول: (. . . إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)، والفلك يصنع ويسير ببخار الماء الذي يغلى ويفور كقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40).
ثم نادى نوح عليه السلام ابنه وكان في معزل (. . . يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43).
وينادي نوح ربَّه حزينا (. . . رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ).) فيجيبه سبحانه: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46).
يتدارك نوح(7/3652)
عليه السلام قائلا: (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47).
وإنه بعد غرق الكافرين برسالة نوح، ذهب الطوفان (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ. . .).
وهذه القصة ليست مكررة في مواضع أخرى بهذا السياف الذي جاء في هذا الموضع لبيان المشابهة فيما لقيه نوح من المشركين، وهو يتشابه تماما مع ما لقيه محمد - صلى الله عليه وسلم - من قريش، وإن كانت النتيجة مختلفة، لأن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يرجو الإيمان من قومه فلم يطلب هلاكهم. ولقد قال تعالى بعد قصة نوح وبيان العبرة فيها: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49).
بين سبحانه وتعالى الخبر الصادق عن عاد مع نبيهم هود عليه السلام، فنجد أن إجابتهم كإجابة مشركي مكة من العرب للنبي - صلى الله عليه وسلم -فيقول سبحانه: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50).
وأنه بين لهم التوحيد دين الحق وبيَّن أنه لَا يريد منهم أجرا، إن أجره إلا على اللَّه، ويقول لهم: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52).
ويردون بأنه لَا دليل على نبوته: (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53).
نرى الإجابة واحدة، إجابة عاد وإجابة مشركي العرب، الذين قالوا عن محمد - صلى الله عليه وسلم - (. . . رَجُلًا مَسْحوُرًا)، وأنه يعتريه الجِنَّة ويحسبون أنهم يستطيعون علاجه وكذلك قالت عاد لهود من قبل (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54).(7/3653)
ويندد بهلاكهم إذا لم يجيبوا دعوة التوحيد (. . . وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57).
ثم ينزل بهم أمر اللَّه تعالى بريح عاصف كما بين الله في سورة الأحقاف (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25).
كانت هذه عاد وعاقبة جحودها ولقد قال تعالى: (وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60).
ثم جاء ذكر صالح عليه السلام وقد بعث في ثمود فقال تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61).
دعاهم إلى دين اللَّه تعالى وهو الوحدانية، وذكر معها دليلها الذي هو الإنشاء والخلق والتكوين، ولكنهم أجابوا بالكفر كما أجاب مشركو العرب (قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62).
آتاهم بالبينة وهي ناقة اللَّه (وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65).
ثم نجى الله تعالى صالحا ومن آمن معه وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين.(7/3654)
وقد جاء بعد هؤلاء ذكر إبراهيم أبي العرب وأبي الأنبياء، وابتدأ بذكر رسل الله تعالى من الملائكة إليه عليه السلام. (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69).
كان إبراهيم عليه السلام جوادا فما لبث أن جاء بعجل حنيذ - أي مشوي (فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73).
كانت معجزة أن تلد، إذ لم تلد وهي شابة ثم وهي عَوانٌ (1)، فكيف تلد وقد صارت عجوزا.
علم إبراهيم خليل اللَّه أنهم جاءوا إلى قوم لوط منذرين مهلكين فأخذ يجادلهم لأنه أوَّاه عطوف حليم منيب إلى ربه فأجيب بقوله تعالى: (يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76).
ولقد ذهبت رسل الله من بعد ذلك إلى لوط فسيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب، ولما رأى قوم لوط الملائكة جاءوا طامعين فيهم، وقد كانوا قوم سوء يفعلون الفاحشة، ويأتون الذكران من العالمين، فقال لهم لوط:
(. . . يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78).
ولقد أحس لوط بالضعف وأنه لَا نصير له يشد أزره فأزال رسل اللَّه من الملائكة كربه وبينوا له (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81).
________
(1) العوان: كل ذات زوج، والمُتعاوِنةُ: المرأةُ الطاعِنَةُ في السن. والمقصود الأخير. القاموس المحيط - عون.(7/3655)
ثم جاء أمر اللَّه فجعل عاليها سافلها، وأمطر اللَّه تعالى عليهم حجارة من سجيل منضود أي متتابع مصفوف، (مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ. . .) أي معلمة عنده سبحانه، وما هي من الظالمين ببعيد.
جاء بعد ذلك خبر اللَّه تعالى عن شعيب عليه السلام وقومه " مدين " فقال تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85).
وقد بيَّن لهم أن البيع الحلال خير وأبقى وأبرك، فأجابوه كما أجاب مشركو مكة كما جاء في قوله تعالى: (قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87). قالوا الجزء الأخير متهكمين والجزء الأول منكرين مستغربين، وهذا ما أجاب به مشركو العرب.
لكن شعيبا عالج نفوسهم المتمردة على الحق فذكر لهم أنه يطيع اللَّه فيما يدعو إليه، وأنه لَا يدعوهم إلى أمر ويخالفه (. . . وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88).
وقد طلب إليهم أن يستغفروا ربهم ويتوبوا إليه بعد أن يقلعوا عن عبادة الأوثان، لكنهم انتقلوا من الإنكار إلى التهديد بعد تحذيرهم أن يصيبهم ما أصاب من كانوا قبلهم: (. . . وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ).
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)، وهكذا كان يقول مشركو قريش لمحمد - صلى الله عليه وسلم - كما أنهم هموا بقتله لولا خوفهم من بني هاشم. ثم يقول لهم شعيب عليه السلام.(7/3656)
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا. . .).
لكن قومه عاندوا واستمروا في جحودهم فأنذرهم (. . . سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)، ثم ينجى اللَّه تعالى شعيبا والذينِ آمنوا معه وتأخذ الصيحة الذين ظلموا وتلك عاقبة المكذبين (. . . أَلا بُعْدًا لِّمَدْيَن كَمَا بَعِدَتْ تمُودُ) ثم جاء ذكر موسِى عليه السلام مع الطاغية فرعون في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99).
العبرة من القصص الحكيم بيَّن سبحانه العبرة من هذا القصص وأنه كان غيبا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ)، أي تقادم أثره كالزرع المحصود، وإن هؤلاء أخذوا بذنوبهم فما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، وأن آلهتهم التي عبدوها من دون اللَّه ما أغنت عنهم وما زادتهم إلا هلاكا.
(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102).
وإن في ذلك عبرة لمن خاف عذاب الآخرة، ذلك اليوم المشهود الذي أخر لأجل محدود (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105).
ثم بين سبحانه مال الذين كفروا وشقوا ففي النار، لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك.
كما بيَّن سبحانه الذين سعدوا وهم أهل الإيمان (فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) أي غير منقطع.(7/3657)
هذه حقائق ذكرها الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام، وفيها أن الرسل من قبله قد نال منهم أقوامهم بمثل ما ينال قومك منك، وأن العاقبة للمؤمنين، أما هؤلاء فلا يصح أن تدفع أفعالهم إلى الشك في أن اللَّه سيوفيهم نتيجة كفرهم غير متقو) (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109).
وأن الشرائع التي شملها كتاب اللَّه العزيز قد سبق فيها موسى بكتاب فاختلف فيه، وأنه لولا كلمة سبقت من ربك ببقائهم حتى يوم الجزاء لقضي بينهم فيما كانوا فيه يختلفون، وأن اليهود قوم موسى لفي شك منه مريب، وأنهم جميعا سيوفيهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون خبير.
كما بيَّن اللَّه تعالى لنبيه ما يحب أن يسلك في دعوته فقال سبحانه:
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116).
هذه حكمة اللَّه لَا يهلك القرى إلا بظلم أهلها وغفلتهم عن إدراك العواقب التي تستقبلهم وليسوا مصلحين، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولكنها إرادته. فجعل فيهم المفسد والمصلح (. . . وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119).
بيَن اللَّه تعالى أن العبرة يسوقها للناس وللنبي ليثبت فؤاده ويزيده تمسكا بالحق فيقول تعالت كلماته: (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى(7/3658)
مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123).
إن ما ذكر من القصص ليس تكرارًا لما ذكر في غير سورة هود، ولكن كلما كان هناك إشارة كان هنا بيان، فقصة الفلك مثلا ذكرت هنا مفصلة مبينة، وذكرت في غيرها مشارا إليها، وكذلك قصة لوط كان فيها إجمال وتفصيل، الإجمال كان في الفساد، وفصَّل الهلاك حيث إن تفصيل الفساد كان في سورة أخرى كما أشير إلى الهلاك.
* * *
معاني السون الكريمة
قال تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
* * *
إن ما نعلمه عن الابتداء بالحروف المفردة ذكرناه في أول سورة البقرة وآل عمران وأول سورة يونس، ولا يفيد هنا تكرار ما ذكرناه هناك، وإن التكرار بغير غرض مقصود لَا يجوز ممن يتكلم في القرآن لأنه المنزه عن اللغو، فلا نلغو في معانيه.(7/3659)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
(الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1).
جاء ذكر الكتاب بعد الحروف المفردة التي فهم بعض المفسرين أنها رمز للكتاب الكريم، وفي كلمة (كتَابٌ) التنكير للتعظيم، أي أنه كتاب عظيم لا يطاول ولا يأتي أحد بمثله، (أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) أي نسقت ألفاظه فهي متآخية في نغمتها وتآلفها وهو نسق بياني مؤتلف غير مختلف، ومعانيه متساوقة فالخواطر تتسابق إلى النفس بإيماء من اللَّه يمهد كل معنى لما يليه كعقد من الجواهر تتبع كل حبة أختها، وأحكم مدلوله لَا يعروه تضليل ولا تبديل، ولا تناقض أو تضارب في معانيه، بل إنها متلاقية متعاونة مدعمة بالحجج والبراهين القاطعة الحاسمة تسير متهادية متصلة، ولكلمات الله المثل الأعلى.
(ثُمَّ فُصِّلَتْ) (ثم) للترتيب والتراخي، والتراخي هو التراخي المعنوي، ذلك لأن الناس ألفوا أن الكلام المحكم في نغمه وألفاظه وكلماته وأسلوبه لَا يكون مفصلا في معانيه، أي لَا يكون مبينا واضحا، لأن النغم يشغل القارئين عن المعاني، ولكن هذا القرآن كتاب اللَّه الخالد في الوجود الإنساني، كان مع حلاوة نغمه وتواصله وعباراته وتساوق معانيه مبينا مفصلا لأبواب الحلال والحرام والعقائد والمواعظ. والترتيب ليس للترتيب الزمني، إنما هو للترتيب الفكري والترابط النفسي فكلمة (ثُمَّ) هنا للترتيب والتراخي.
ولقد أعطى اللَّه تعالى القرآن شرفا إضافيا بعد شرفه الحقيقي في إعجازه وأنه لا يزال يتحدى الخليقة عربا وعجما أن يأتوا بمثله وأنى يكون، فيقول تعالى: (مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) كلمة (مِن لَّدُنْ) معناها من عند، وقل أن تستعمل في القرآن الكريم في غير جانب اللَّه العليم القادر. ويقول الزمخشري في معنى الآية الكريمة: (أُحْكِمَتْ) دون الباطل (ثُمَّ فُصِّلَتْ) كما تفصل القلائد الفرائد من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص. إذ جعلت فصولا سورة سورة، وآية آية ووقَّت في التنزيل فلم تنزل جملة واحدة، فإن قلت ما معنى كلمة (ثُمَّ)؛ قلت: ليس معناها التراخي في الوقت بل في الحال، فتقول هي محكمة أحسن(7/3660)
الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفيه طباق حسن لأن المعاني أحكمها حكيم، وفصَّلها، - أي بينها وشرحها خبير عالم أي قوله تعالى: (حَكِيمٍ خَبِيرٍ) فيه هذا الطباق بين أحكمت وفصلت ووصفها الله تعالى بأنها (مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ).
وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك المقصد الأصلي من القرآن ألا وهو التوحيد وإثبات رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -. لذا قال تعالى:(7/3661)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
(أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
النفي والإثبات دليل على قصر العبادة على اللَّه وحده لَا يعبدون غيره من أوثان أو أشخاص أو أي كائن من مخلوقاته سبحانه وتعالى. أي أن اللَّه تعالى أحكم القرآن وفصل آياته تفصيلا، وأقام فيه الدلائل القاطعة على أنه الخالق لتعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا.
ثم يقول تعالى حاكيا عن قول نبيه - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) لمن عصى وأشرك أنذره بالسعير، (وَبَشِيرٌ) لمن آمن باللَّه تعالى وحده وكلل إيمانه بطاعة اللَّه فيما أمر به من طاعات فيها خير الدنيا والآخرة، وفيما نهى عنه من معاصٍ فيها فساد في الأرض وعذاب في الآخرة، والضمير في كلمة (مِنْهُ) يعود على الله تعالى.
ويأتي ذكر النذير البشير - صلى الله عليه وسلم - بعد عبادة الله تعالى وحده، إيماء بأن القرآن الكريم قد أحكمت آياته وفصلت ليكون آية النبوة ومعجزة الرسالة المحمدية الخالدة إلى يوم الدين. فالقرآن الكريم هو البرهان لعبادة اللَّه وحده، وهو معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم -، تلك المعجزة الكبرى التي لَا تدانيها في بقائها وثمراتها معجزة أخرى من معجزات النبيين قبله - صلى الله عليه وسلم -.
بعد أن نهى سبحانه عن عبادة غير اللَّه وبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نذير وبشير أمر بالاستغفار والتوبة فقال:(7/3661)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
(وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
(الواو) عاطفة على قوله تعالى: (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) ولتضمنيا معنى الأمر، وإن كانت للحكاية، ولكن لأنها غاية أحكام الآيات وتفصيلها، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - له الإنذار المؤكد، والبشارة كانت في معنى الطلب بدليل الإنذار والتبشير، إذ لابد أن يسبقها الطلب، ولذا جاء عطف الطلب.
كلمة (وَأَنِ) في قوله تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ)، يصح أن نقول إنها تفسيرية، ويصح أن تكون مصدرية. والاستغفار طلب المغفرة، والخطاب لقوم مشركين فطلب إليهم أولا الإقلاع عن عبادة الأوثان، ثم الاستغفار، وطلب عفو الله فيما ارتكبوا من آثام في - حقه سبحانه، ثم يكون بعد ذلك الرجوع إلى اللَّه والعيش في رحابه، وذلك بالتوبة إليه. كأن الاستغفار هو الدخول إلى الوحدانية مع طلب عفو اللَّه ومغفرته، ولهذا قدم الاستغفار على التوبة؛ لأن الاستغفار كان عن الشرك وما اتصل به من جحود وعناد، والتوبة الرجوع إلى اللَّه وطاعته فيما أمر ونهى. والتعبير بكلمة (ثُمَّ) الدالة على الترتيب والتراخي للدلالة على البعد بين المقامين، مقام الاستغفار عن الشرك ومقام التوبة، فالتوبة ذاتها عبادة، ولا تراخي في الزمن بل الزمن واحد ولكن البعد في الرتبة. وفي قوله تعالى: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) معنى قرب اللَّه تعالى من العبد لأنه ربه الذي برأه ورباه وقام على تدبير حياته وحياة ما حوله.
(ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي عودوا بالتوبة إليه سبحانه؛ لأن العبد بالشرك يبعد عن اللَّه بعد أن خلقه حنيفا، وبالتوبة عاد إلى ما ابتدأ وهو القرب من الله.
و (تُوبُوا) فعل أمر له جواب كجواب الشرط؛ وقوله تعالى: (يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي إن تتوبوا بعد أن تستغفروا يكن الجزاء أن يمتعكم متاعا حسنا، أي يمكنكم من أن تتمتعوا متاعا حسنا، والمتاع الحسن هو المتاع(7/3662)
الحلال الذي يكون من كسب حلال وفي حلال كالرجل مع زوجه، والمتاع الحسن مادي كالذي أشرنا إليه، ومعنوي وهو الاطمئنان إلى الحق، والقرار، وعدم الظلم، والرضا والقناعة، والاستمساك بِالفضائل، والبعد عن الرذائل، والسكون إلى جانب اللَّه، ولقد قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً. . .). وأن هذه المتعة التي تعم المجتمع الفاضل هي إلى أجل مسمى وهو الحياة الدنيا.
(وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) هذا الإيتاء في الدنيا والآخرة.
أما في الدنيا فإنه يتكون مجتمع فاضل كريم حيث يكون كل ذي فضل في مكانته، فيعطى حقه غير منقوص، ويتمتع الجميع بمتاع حسن وتكون الحقوق قائمة أدبية ومادية، فالمجتمعات التي لَا تظلها الفضيلة لَا تعرف فيها قيم الأفاضل وتضطرب الموازين اضطرابا شديدا بل تنقلب للرجال والأعمال معا.
وأما في الآخرة يؤتي ذو الفضل فضله بالنعيم المقيم والرضوان من رب العالمين وهو الجزاء الأكبر. وفي قوله تعالى: (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) معناه جزاء فضله ولم تذكر كلمة الجزاء، وإن قدرت في مطوي الكلام، للإشارة إلى أن الجزاء مساوٍ للفضل تماما حتى كأنه هو، فاللَّه تعالى عادل حكيم. وفي مقابل جزاء الذين يحسنون قال تعالى مهددا من يعرضون: (وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كبِيرٍ) تولوا أصلها تتولوا وحذفت التاء لتوالي التاءات وذلك كثير في العربية وفى القرآن الكريم، ويكون خطابا للمخاطبين في قوله تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) ولكن من الذي يخاطبهم، أهو اللَّه تعالى أم نبيه - صلى الله عليه وسلم -، واللَّه جل جلاله لَا ينسب له الخوف (فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ) فيكون أليق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على أساس بشارته وإنذاره. الكلمات إنذار للذين يعرضون وينصرفون عن كلام اللَّه وهو أنهم محل خوف ممن أرسله هاديا ومبشرا ونذيرا، وقد أكد اللَّه تعالى الخوف عليهم بالجملة الاسمية وبكلمة (إن)، وقوله تعالى: (عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) الكِبَرُ(7/3663)
ُوصف لليوم، وكبره؛ لأن فيه أهوالا شديدة؛ ولأنه يوم الشدة يحس الإنسان بطوله كما أنه في ذاته كبير فيه الحساب والثواب والعقاب.(7/3664)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
(إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
قدم الجار والمجرور للدلالة على القصر، أي إلى اللَّه وحده مرجعكم لَا إلى أحد سواه ولا شريك له في الحكم على أعمالكم وأقوالكم وما كسبتم واكتسبتم، ولذكر لفظ الجلالة تربية للمهابة في قلوبهم، وفي ذلك إنذار شديد للمشركين الذين أشركوا غيره باطلا، ثم يؤكد سبحانه الإنذار بقوله: (وَهُوَ عَلَى كلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ).
فعقابه عقاب القادر القاهر فوق عباده ويحكم يوم الحساب، إذ هو قادر على كل شيء في الوجود وليس على درجة الكمال سواه.
بعد أن بين اللَّه قدرته القاهرة بين علمه الذي يحاسب على مقتضاه فقال:(7/3664)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
(أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
(يَثْنُونَ) فعله ثنى بمعنى طوى. وكلمة (أَلَا) للتنبيه، والمعنى: ألا إنهم يطوون صدورهم على عداوة وبغضاء وكراهية شديدة، فأولئك الذين كانوا يعادون النبي ويزدرون عند سماع الحق وكأنه يكون منهم أمران: أولهما: العداوة والبغضاء يطوون قلوبهم عليها وتدفعهم إلى عمل ما لا يجوز ويفتنون المؤمنين عن دينهم.
ثانيهما: الازورار عن الحق ازورارهم عما لَا يحبون، وانصراف صدورهم عنه ويريدون أن يستخفوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وينسون أن اللَّه بكل شيء عليم.
ثم يبين سبحانه كمال إحاطة علمه فيقول: (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ) ويريدون أن تكون غاشية لهم تلف إحساسهم، أي أنه سبحانه يعلم ما يطوون عليه(7/3664)
صدورهم وما يستخفون به في حسهم وفي نومهم، ولذا قال تعالى موضحا مؤكدا (يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ).
وأنه سبحانه يجازيهم بذلك الذي يطوون. ثم يقول سبحانه في بيان صفة علمه (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) وهذا التعبير القرآني يبين دقة علم اللَّه تعالى، و (ذات) هي الحقائق التي تلازم الصدور من خواطر خير وغيره، ومن خلجات القلوب وما تخفي السرائر، وكلمة (ذات) بمعنى صاحبة أو متلازمة الصدور لا تخرج إلى الجهر والإعلان، ولا تكون كذلك إذا خرجت من مكنونها إلى موضع الإعلان.
وإن ذكر هذا العلم الشامل المحيط بكل صغيرة وكبيرة لبيان أنهم يتحملون جزاءه سبحانه، وهو جزاء ممن لَا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض الذي يعلم ما تكن الأفئدة وتكسب الجوارح ويجازي كلا بما يستحق، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وكل بما اكتسب رهين.
* * *
خالق الكون ومدبره
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (8)
* * *(7/3665)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
(مَا) نافية، وكلمة (مِن) للدلالة على عموم الآحاد في كل الدواب، أي يعلم كل دابة علما دقيقا في مفردها وجماعتها، أي أن كل دابة على اللَّه رزقها، وكانت التعدية للدلالة على أن ذلك متحقق ثابث بمقتضى وعد اللَّه تعالى الذي لَا يخلفه، فعبر بـ (عَلَى) وهذا لأن اللَّه لَا يجب عليه شيء إلا ما كتبه سبحانه على نفسه، كما قال تعالى: (. . . كتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. . .).
وليس هناك إلزام، ولكن هناك وعدًا والتزامًا، والدواب ما يدب على الأرض من أصغر الكائنات إلى الإنسان، وعلى الله رزق كل هؤلاء، والإنسان بكل ما يتخذه من أسباب ليس هو المنشئ للرزق فقد يتخذ كل الأسباب ولا يكون إلا الحرمان، فكل شيء من فضل الله، وعلى الإنسان أن يسعى ولابد من الأخذ بالأسباب بعد التوكل وتفويض الأمر للَّه، وليس لأحد أن يحسب أن أسبابه وحدها تموله وتمونه، بل لابد من التوكل على اللَّه والتفويض إليه.
والرزق بالنسبة للدواب والأحياء، هو ما يتمول به ويتغذى، فينمى جسده ونفسه ويكون بقاؤه، وذلك عام في الدواب جميعها، وبمقتضى إرادته الحكيمة يكون بعض الدواب رزقا للآخر، وكل ذلك بتقدير اللَّه تعالى وبفضله الذي أنشأ ودبر وحكم.
وأكد سبحانه أن كل دابة في ظل فضله وسلطانه يدبر أمرها ويحكم بتدبيره فقال: (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا) المستقر هو الإقامة في الأرض، ويصح أن نعدها مصدرا ميميا، فيكون المعنى ويعلم استقرارها، كما يصح أن نعدها اسم مكان أو زمان، أي يعلم مقامها في الأرض وزمان إقامتها.(7/3666)
ومستودعها هو مكان إيداعها في قبورها إن كانت في الأحياء التي تدفن، وإن الذي يعلم مكان استقرارها ومكان إيداعها هو يعلم مقدار حاجتها في الرزق فلا يمكن أن يفوت الرزق أحدا.
ثم يؤكد سبحانه كل هذا بقوله: (كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أي أن كل دابة ورزقها ومقامها واستيداعها في باطن الأرض وديعة مستردة بعد حين، كل ذلك مكتوب في كتاب واضح هو اللوح المحفوظ والعلم المكنون.
وإن من ألفاظ القرآن أنه (. . . لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وإن وعده سبحانه الحق لا يقبل إخلافا ولا تخلفا، ولكن ناسا لَا يؤمنون بالخالق الرازق ذي القوة المتين يحسبون أنهم يرزقون أنفسهم، ويريدون أن يفعلوا فعل أهل الموءودة ويظنون أنهم إن قضوا على نسلهم ضمنوا رزقهم، ولقد نسوا قول اللَّه تعالى: (. . . وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ. . .).
وقوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاق نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ. . .).
ولقد قال بعض الذين يتخذون الأسباب:
وكيف أخشى الفقر والله رازقي ... ورازق هذا الخلق في العسر واليسر
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم ... وللضب في البيداء والحوت في البحر
ئم بَيَن سبحانه كمال سلطانه في خلقه وتدبيره لأمورهم فيقول:(7/3667)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
الضمير (هُوَ) يعود إلى اللَّه جل جلاله، وهو في نفس كل إنسان وعقله وقلبه إذا كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر، والآية تؤكد تدبير اللَّه تعالى لخلقه وإمداده(7/3667)
بالرزق وإمساكه لملكوته كله. والأيام الستة ليست هي أيامنا فلا يقال ابتدأ بالأحد وانتهى بالجمعة؛ لأن أيامنا نشأت بعد خلق السماوات وألارض، وارتباط الأرض بالشمس والقمر والنسبة بينهما وكل يدور في فلكه، والشمس والقمر بحسبان.
إنما يراد بالستة أيام الأدوار الكونية، وقد أشار اللَّه تعالى إلى هذه الأدوار فيِ سورة فصلت: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12).
فالأيام هي أدوار الخلق والتكوين كما تشير الآيات.
(وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) يصح أن نقول - واللَّه سبحانه أعلم يمراده - إن العرش كناية عن السلطان الكامل، وفي ذلك تصوير لتدبير ملكه وخلقه في أرزاقهم وأقواتهم وبقائهم والتماسك بين أجزاء السماء والأرض وكيف ينزل الغيث ومنبت الأرض بعد موتها وكيف يمسك السماوات والأرض أن تزولا، وكيف يحفظ الوجود كله وهو الحي القيوم الذي لَا تأخذه سنة ولا نوم. وهذا قد يكون معنى العرش فيما أحسب، والله لَا إله إلا هو وحده عنده العلم الكامل.
وذكر سبحانه أنه على الماء للإشارة إلى أنه سبحانه هو الذي يدبر أمر الأحياء كلها، وأن رزق الذي يسبح في الماء في كفالة اللَّه كرزق الذي يدب على الأرض.
ثم يقول سبحانه: (لِيبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ) أي ليعاملهم معاملة المختبر، إذ إن لهم إرادة تتجه إلى الخير وتتجه إلى الشر، وهو سبحانه خلقكم ومكَّن لكم في الأرزاق والأقوات والاستقرار في الأرض، ليظهر المؤمن فيشكر ويظهر الكافر فيكفر، و (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) فيها (أَحْسَنُ) بمعنى أخلص والمخلص الذي بلغ إخلاصه أعلى الدرجات.(7/3668)
ويلاحظ هنا ذكر الذين يظهر خيرهم ولم يذكر الذين يظهر شرهم، وكأنهمِ همل لَا يعدون في الأحياء، فالحياة حياة الروح، ولقد قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122).
فالذي ظهر شره يعد ميتا وإن لم يمت، وإن المشركين مع هذا الخلق وذلك الإبداع منكرِون اليوم الآخر، وأن اللَّه يعيدهم كما بدأهم أول مرة، ولذلك قال تعالى: (وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، (اللام) الموطئة للقسم، أي إن قلت لهم مؤكدا القول بعد هذه الآيات البينات في دلالتها وكمال وضوحها في قدرة الحكيم العليم الخالق لكل شيء، لئن قلت لهم يا محمد إنكم لمبعوثون من بعد الموت، لَا يكون الجواب بالإيجاب بل يكون بالسلب؛ لأن موضع استغرابهم أنه بعد الموت.
وقد أكد اللَّه تعالى قول النبي بالقسم وبالجملة الاسمية وإن المؤكدة (إِنَّكُم مبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ)، كما أكد إجابتهم باللام وبنون التوكيد الثقيلة (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) وقد كانت إجابتهم سلبا مع استغراب وجحود (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِين) أي إن إجابتهم، إن هذا أمر باطل كما أن السحر أمر باطل، وأن ذكره خيالات وأوهام كما أن السحر خيالات وأوهام، وإن الإخبار بهذا لَا دليل عليه إلا القرآن وإنه لسحر وقول ساحر وما هم بمصدقين لساحر أو مجنون.(7/3669)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
(وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (8)
في قوله تعالى: (وَلَئِنْ) اللام موطئة للقسم، ولئن أخرنا عنهم العذاب الذي نال مثله الذين من قبلهم إلى أمة أي مدة معدودة من السنين المحدودة القليلة؛ لأن التعبير بمعدودة يومئ إلى أنها قليلة، كما قال تعالى عن قول اليهود (وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً. . .)، فالأمة هنا بمعنى مدة.(7/3669)
وكلمة أمة وردت في القرآن بمعان مختلفة، فتجيء بمعنى المدة كهذه الآية، وتكون بمعنى الجماعة في قوله تعالى: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ. . .)، وتطلق على الرجل المهيب الجامع لمكارم الأخلاق كقوله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا. . .).
وتطلق بمعنى الملة كقوله تعالى: (. . . إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ).
وهذه معان مشتركة في لفظ واحد كإطلاق لفظ " القُرء " على الطهر وعلى الحيض، ومعنى الآية الكريمة أنه إذا أخر اللَّه تعالى العذاب الدنيوي الذي ينالهم بريح عاصف أو رجفة تجعل عالي الأرض سافلها أو بحرب مخزيه لهم ترد الحق إلى أصحابه وتقمع الباطل وتزهقه فإنهم يقولون متحدين النبي - صلى الله عليه وسلم - (مَا يَحْبِسُهُ)، ما يمنعه، وكلامهم هذا يتضمن تحديا وإنكارا وتكذيبا مثل الذين سبقوهم إلى الكفر والجحود.
إن سنة اللَّه في الذين خلوا من قبلهم أنه سبحانه يمهل الكافرين، يدارسهم رسولهم الحق يدعوهم إليه ويؤيدهم بالبرهان ويردده المرة بعد الأخرى حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، كما أخذ قوم نوح وعاد وثمود وآل مدين وآل فرعون، وإذا كانت الدعوة خالدة كدعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - غالبهم الحق وغالبهم، فقد صابرهم، وحتى هاجر وكان الجهاد والمغالبة حتى وضع اللَّه الباطل وأزهقه إنه كان زهوقا.
ولذلك لما جاء لم يكن مصروفا بل كان لونا آخر ليس من نوع ما نزل بمن سبقوهم.
إنهم تحدوا اللَّه منكرين مستنكرين يقولون: (مَا يَحْبِسُهُ) فالاستفهام للاستنكار والإنكار والاستهزاء بما هددهم به القرآن، وإنهم إذ تحدوا محمدًا ذلك التحدي السافر المستهزئ فإن اللَّه تعالى يقول: (أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ) ألا للتنبيه الزاجر الموقظ لغفلتهم التي كانت من فرط الاغترار بقوتهم الظاهرة.(7/3670)
(لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ) أي ساعة أن يجيئهم لَا يصرفه عنهم رجاء أو شفاعة شافعين، وإنهم إذ يندمون فقد فات وقت الندم، كذلك كان الأمر في ماضي الأمم مع الكافرين، وإن ما قدره اللَّه لكم معشر كفار قريش إذا جاء العذاب على أيدي المجاهدين بأمر من اللَّه تعالى لن يرفع عنكم حتى تستسلموا خاضعين، وحتى يتمكن الإيمان من الكفر والكافرين.
(وَحَاقَ بِهِم مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون) (حاق) معناها أحاط وهي تتضمن معنى لإنزال الجزاء. جاء في تفسير معنى (حاق) في مفردات الراغب الأصفهاني: قوله تعالى: (وَحَاقَ بِهِم مَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون) وقال عز وجل: (. . . وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ. . .)، أي لَا ينزل ولا يصيب، وأصله " حَقَّ ".
وخلاصة المعنى على هذا، أنه أحاط بهم ونزل الأمر الذي كانوا به يستهزئون، وهو حق عليهم استحقوه بأعمالهم واستهزائهم فكان جزاءً وفاقا لما فعلوا من قبل، وقوله تعالى: (مَا كانُوا بِهِ يَسْتهْزِءُونَ) يفيد أن استهزاءهم كان دائما ومستمرا، ولذا عبر بالماضي الدال على وقوعه في ماضيهم واستمراره في حاضرهم ومستقبلهم حتى نزل بهم ما تعجلوه.
* * *
الصبر خلق الإيمان
قال تعالى:
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ(7/3671)
وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
* * *(7/3672)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ).
هذا نص كريم في بيان طبيعة النفس التي تخضع للحس دون العقل المدرك الذي يوازن بين الماضي والحاضر ويضبط نفسه ووجدانه، بل يكون هلوعًا عندما يصيبه ما يسوؤه وطموعا أشرا بطرا عندما ينال خيرا ويذهب عنه ما يسوؤه، فإذا أصابه خير بطر، وإذا أصابه سوء جزع.
أما المؤمن المدرك صبور لَا تبطره النعمة، ولا توئسه النقمة، وهو يضبط نفسه، وضبط النفس والصبر متلازمان لَا يفترقان.
(وَلَئِنْ) (اللام) هي الممهدة للقسم، إن حرف شرط ودخول اللام يؤكد فعل الشرط أي أن أذاق الإنسان منه سبحانه رحمة ثم نزعها إنه ليئوس كفور.
وهنا ملاحظات بيانية موضحة ومقربة للنص الكريم:
الملاحظة الأولى: قال سبحانه: (أَذَقْنَا الإِنسَانَ) أي جعله يذوق ويحس متنعما، وأضاف سبحانه وتعالى ذلك إليه لبيان عظمها وأنها منحة جليلة، وسماها سبحانه رحمة لوجوب شكرها وبيان أنه أعطاها لتكون مصدر خير للناس تعم ولا تخص، فهي ليست له خاصة ولكن ليكون شكرها نفعًا للناس.
الملاحظة الثانية: قوله تعالى: (ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ) يشير إلى التفاوت بين العطاء الكريم والنزع الحكيم، وفيه تفاوت بين العطاء والنزع، وكل ذلك بتقدير العزيز العليم، وفيه بيان أن نعيم الدنيا ليس بدائم بل فيها العطاء والمنع، ونعيم الآخرة دائم غير مجذوذ.
الملاحظة الثالثة: هي الانتقال إلى حال شديد مؤكد في قوله تعالى: (إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) بصيغة المبالغة الدالة على الهلع والجزع واليأس من رحمة اللَّه التي(7/3672)
لا ييأس منها إلا القوم الكافرون. وكان القول: (كَفُورٌ)؛ لأنه لَا يرجو اللَّه ولا يؤمن بما عنده.
الملاحظة الرابعة: جواب القسم في قوله تعالى: (إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كفُورٌ) فيه تأكيد لعمق يأسه واستيلائه عليه وكفره، وكان التأكيد بصيغة المبالغة وباللام وبالجملة الاسمية وبـ " إن " المؤكدة.
وكل ذلك لأنه مادي لَا يؤمن إلا بالمادة ولا يرجو ما عند اللَّه الذي يعطي ويمنع ويعز ويذل، وهذا حال الإنسان الذي لَا يؤمن إلا بالدنيا، إذا كان المنع بعد العطاء.
أما حاله في النعماء بعد الضراء فقال تعالى فيه:(7/3673)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)
(اللام) ممهدة للقسم وما قلناه في قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً)، يقال هنا، والنعماء هي النعمة السابغة، والضراء ما يضر في الجسم أو المال ويصيب النفس فيوجد بأسا وضرا لَا يرجى زواله عند غير المؤمن.
جواب القسم (لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي)، وكان جواب القسم لدخول اللام، والتأكيد بنون التوكيد الثقيلة، والقسم واللام ذاته تأكيد.
والسيئات الأمور التي ساءته والتعبير بالماضي دليل على تأكيد الذهاب، وهو لا يسند ذلك لِلَّهِ، بل يذكره من غير إسناد للمنعم وكأنه جاء عفوا من غير مسبب الأسباب ومقدر الأقدار.
ومن قوله تعالى، إنه يفرح بذلك ويفاخر به فقال: (إِنَّه لَفَرِحٌ فخُورٌ) أي إنه يغمره الفرح فينسيه ما كان فيه من ضراء وما أصابه من شقاء.(7/3673)
هكذا المادي لَا يؤمن إلا بما هو فيه ناسيا ما كان معتبرا به، فله الساعات التي هو فيها لَا يفكر فيما سواها، وفي وصفه يقول اللَّه تعالى: (فَخُورٌ) أنه يتطاول على غيره مغترا بما آلت إليه حاله، والفخر فيه أمران مفسدان للنفس:
الأمر الأول: المطاولة على الغير وغمط الناس حقوقهم.
الأمر الثاني: إنكار نعمة المنعم معتقدا أنه مجهوده وعمله وليس بعطاء من اللَّه وإن التفاخر يوهم صاحبه أنه في حال لم يصل إليها غيره فيتخيل ما ليس عنده، وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذا حين قال، " كلوا واشربوا والبسوا من غير سرف ولا مخيلة " وقال تعالى: (. . . إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا).
وهذا شأن الإنسان الذي لم يؤته اللَّه تعالى صبر المؤمنين ولا ضبط نفوسهم، ولذلك استثنى الذين صبروا وآمنوا وعملوا الصالحات من عموم الإنسان فقال تعالى:(7/3674)
إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
(إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
إن الصبر وضبط النفس كريمان متلازمان، بل إن ضبط النفس شعبة من شعب الصبر الثلاث:
الشعبة الأولى: تحمل المشاق النفسية والبدنية، ومن المشاق النفسية المحن والنعم، ويكون تحمل المحن بتلقيها من غير تململ ولا تزلزل، أما النعم فيتلقاها بالشكر والصبر على القيام بحقها.
الشعبة الثانية: تكون بعدم الأنين أو الشكوى والضجر، وهذا هو الصبر الجميل الذي التزمه يعقوب عليه السلام.
الشعبه الثالثة: هي رجاء زوال ما يمتحنه به اللَّه تعالى، فلا ييأس من رحمة اللَّه ولا يكفر بنعمه وألا تغريه نعمة اللَّه بالكبر والبطر.(7/3674)
وإن ضبط النفس يكون في مطوي هذه الشعب، فلا تكون نفس الصابر رعناء تبئسها الشدة وتقرها النعمة فيكون في اضطراب مستمر، وهوج في النعم والنقم.
وقد استثنى اللَّه تعالى الصابرين، وذكر في أوصافهم العمل الصالح (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)، أي عملوا كل شيء فيه صلاح أنفسهم وجماعتهم، وصلاح دينهم الذي هو عصمة أمرهم، وإن اقتران العمل الصالح بالصبر يدل:
أولا: على أن العمل الصالح يقتضي صبرا على الاستمرار فلا بد أن يكون مستمرا دائما، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل " (1)، كما أنه قال: " إن الله يحب الديمة في الأعمال " (2)، ثانيا: يدل اقتران العمل الصالح بالصبر على أن العمل الصالح يحتاج إلى تحمل بعض المشاق، كما قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده لَا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له، إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له، وليس ذلك لأحد غير المؤمن " (3).
وقد بين سبحانه وتعالى جزاء الصابرين العاملين فقال: (أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَة وَأَجْرٌ كَبِير) الإشارة إلى أن الجزاء مغفرة، إذ إن اللَّه يستر ما لهم من أعمال غير مقبولة بغفرانه، لأن الصبر والعمل الصالح يستران بذاتهما العمل غير الصالح بأمر اللَّه تعالى: (. . . إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. . .)، وبعد هذه المغفرة الساترة يكون الأجر الكبير الذي هو عظيم في ذاته وبلغ قدرا لَا يدرك كنهه إلا اللَّه معطيه.
________
(1) رواه البخاري؛ الرقائق - القصد والمداومة على العمل (6464)، وبنحوه مسلم: صلاة المسافرين وقصرها - ففية العمل الدائم من قام الليل ونحوه (783).
(2) رواه البخاري؛ الرقائق - القصد والمداومة على العمل (6464)، وبنحوه مسلم: صلاة المسافرين وقصرها - ففية العمل الدائم من قام الليل ونحوه (783).
(3) جزء من حديث رواه مسلم: الزهد والرقائق - المؤمن أمره كله خير (2999).(7/3675)
وإذا كان للصبر هذه المنزلة، فأولى أوصاف النبيين الصبر، الصبر في سبيل الدعوة والاستمرار في التبليغ، والصبر على الأذى والتحديات الآفنة (1) والمطالب الجائرة والحائرة، ولذلك قال تعالى:
________
(1) الآفنة: التي تجمع بين النقص، وضعف العقل، والحمق. راجع لسان العرب - أفن.(7/3676)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
(فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
(الفاء) فاء الإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر، والشرط تحريض على الصبر وتقديره، إذا لم تصبر فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك. أي أنه لَا مناص من الصبر على الأذى والتأني لهم حتى يكون النصر المبين، وإلا فإنك تنزل عند رغباتهم الآثمة. (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ). (لعل) هنا فيها إشارة إلى ما يرجون، فلعلك أنت يا رسول اللَّه إلى خلقه أجمعين تجاريهم في ترك بعض ما يوحى إليك من شرع مرضاة لهم، فتحرم ما يحرمون وتبيح ما يبيحون. تحرم ما يحرمون من طيبات، وتجيز طواف العرايا ثم تنزل في مرضاتهم حتى تسيغ لهم عبادة الأوثان أو يكون السكوت عنهم فيها.
(وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) الضمير في (بِهِ) يعود إلى (مَا يُوحَى)، (ضَائِق) أي يعرض أمر غريب على نفسك وهو أن يضيق صدرك ببعض ما أنزل عليك وبعثت من أجله وبه اهتديت وبه تهدي.
ليس المعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ضاق صدره أو يضيق، إنما المعنى أنهم يرجون أن تترك بعض ما أوحى إليك وأن يضيق صدرك بإيذائهم فتتركه مضطرا.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن منه شيء من ذلك ولا يفكر في شيء منه ولكن يحرضه اللَّه تعالى على البقاء على الدعوة وتبليغ الرسالة غير ملتفت إلى أحد منهم، ثم قال تعالى: (أَن يَقُولُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ) وهذا متعلق بمحذوف " كراهة أن يقولوا لولا " أو نقول إنه متعلق بـ (ضَائِقٌ) ويكون المعنى على هذا:(7/3676)
لعلك تارك بعض ما يوحى إليك بسبب إيذائهم المتوالي وسفاهتهم معك، أو يضيق صدرك في عدم خضوعهم للمعجزة الكبرى وقد تحديتهم فعجزوا، ثم طلبوا معجزات أخرى. وهذا هو الذي نختاره.
وقد أنكروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فقير (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ منَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ).
وأنكروا أن يكون بشرا منهم رسولا (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ. . .).
أنكروا الأمرين وطلبوا معجزة واقعة لأحدهما وقالوا: (لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ) أي مال مكنوز يفعل فيه مثل الذين يكنزون الذهب والفضة. والمعجزة أن ينزل عليه إنزالا من غير أي سبب من أسباب الكسب فيكون له جبل من ذهب وآخر من فضة، وبذلك يدفع فقره ويكون اتباعه لثروته ولإنزال هذه الثروة والإعجاز بها، أما الأمر الثاني فيدفع بأن يكون معه مَلَك، وتكون الرسالة برسول سماوي لَا برجل يمشي في الأسواق مثلهم، وقد بين اللَّه استحالة ذلك بقوله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكَا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ).
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على إيمانهم راغبا فيه، ولذا قال تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56).
ولذا قال تعالى: (إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ)، أي إنك مقصور على الإنذار بمقتضى الرسالة وليس عملك الهداية، بل التوجيه والتخويف لمن عصى، والتبشير لمن اهتدى، وَوَضع العلامات على الطريق لكيلا يضل أحد (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ وَكيلٌ)، أي إنه جل جلاله حفيظ على كل شيء، فتوكل عليه في دعوتك ولا تأبه لهم، فاللَّه سبحانه حافظك منهم ومن طغواهم وهو سبحانه عالم بكل ما يصنعون، ومعاقبهم عليه، وهم راجعون إليه سبحانه وتعالى، ولن يفلتوا من جزاء ما يفعلون، فتوكل على اللَّه الحي القيوم، وامض فيما أمرك به؛ إنه عليم بذات الصدور.
* * *(7/3677)
القرآن هو المعجزة الكبرى
قال تعالى:
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
* * *(7/3678)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
(أَمْ) هنا بمعنى (بل)، فهي منقطعة وسياق القول أنهم بطلبهم أن ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - كنز من السماء أو يكون معه ملك ينكرون المعجزة القرآنية، فواجههم اللَّه تعالى بالتحدي المتجدد المستمر، والإضراب هنا فيه انتقال إلى هذا التحدي.
لقد تحداهم القرآن الكريم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا فتحداهم بسورة فعجزوا، وقد صور الزمخشري أن الانتقال من العشر إلى الواحدة تَنَزُّل في التحدي كمن يقول لمن يتعلم الكتابة، اكتب عشرة أسطر فلا يستطيع، فيقول له اكتب سطرا فإذا لم يكتب كان ذلك دليلًا على العجز المطلق، ولقد ادعوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه افتراه، فتحداهم أن يأتوا بعشر سِوَرٍ مثله مفتريات، مثله في حسن(7/3678)
بلاغته وانسجام عباراته وتوافق فواصله من غير سجع مرهق للمعاني، ولا جفوة في الألفاظ.
لقد تضمن اعتراضهم أمرين، إنكار أن يكون القرآن معجزة، والثاني أنه مفترى وليس نازلا من اللَّه تعالى، ولقد اتجه الرد عليهم إلى إعجازهم وعجزهم، لأنه الأمر الذي أنكروه ابتداء. فقل لهم يا محمد أن يأتوا بعشر مفتريات، واختلقوها اختلاقا لتكون على النهج الذي جاء به القرآن فإنكم أرباب البيان وأهل الفصاحة واللسان، واجعلوا الحكام في هذا الأمر منكم ممن يلغون لغوكم وينكرون الإعجاز مثلكم، وقوله من دون الله تعالى يعني غير اللَّه من أمثالكم ممن يضادون الله تعالى ويعادونه ولا تتقيدوا بواحد أو اثنين بل ادعوا من استطعتم عددا وقوة وعلما بأساليب البيان إن كنتم صادقين في أنه ليس بمعجز وأنه ليس من عند اللَّه وإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فأنتم الكاذبون.
(الفاء) في قوله تعال: (فَأْتُوا) تفصح عن شرط مقدر يناسب ما بعده، والتقدير، فإن كان افتراه كما ادعيتم فأتوا بعشر سور مثله مفتريات إن كنتم صادقين في ادعائكم افتراءه، وما هو بمفترى فلستم صادقين.(7/3679)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
(الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، تحداهم بأن يأتوا بمن يحكم في هذا الأمر بأن يأتوا بعشر مفتريات، ثم يوازنوا بين القرآن وما جاءوا به فإن لم تستجيبوا فقد قامت الحجة، والاستجابة طلب الإجابة، ويراد بها التحدي للإجابة، والإجابة بقوة، والضمير في قوله تعالى: (لَكُمْ) للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولمن اتبعه، وذكر المفسرون أنه قد يكون للنبي وحده مخاطبا بضمير الخطاب للجمع تضخيمًا وتعظيمًا لشأنه، ولكن لم يعهد ذلك في القرآن كثيرا، وإن كان - صلى الله عليه وسلم - في المقام الأعلى عند الله فهو صفيه وحبيبه وخاتم النبيين. ويتضح هنا أمران:(7/3679)
الأمر الأول: كان خطاب اللَّه تعالى لمن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن تحدي النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبه تكذيب لمن اتبعه وآمن به، وللإشعار بالتعاون التام بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين صحبه الأولين الذين هم كالحواريين أنصار عيسى - عليه السلام - إلى اللَّه تعالى، ولأن عليهم التبليغ بعد أن آمنوا؛ إذ هو جهاد، وهم المجاهدون الأولون الذين خوطبوا بالجهاد ابتداء، وهم حملة الرسالة المحمدية من بعده وحاملوها معه - صلى الله عليه وسلم -.
وإذا كانوا لم يستجيبوا ويأتوا بعشر سور مثله فقد لزمتهم المحجة، فوجب عليهم أن يؤمنوا ووجب عليكم معشر المؤمنين أن توثقوا علمكم بأنه من عند الله تعالى، ولذا قال تعالى مخاطبا المؤمنين: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) (الفاء) واقعة في جواب الشرط، واعلموا بالبرهان القاطع الحاسم أنه ما أنزل إلا بعلم اللَّه تعالى.
وكلمة (أَنَّمَا) أداة حصر تنفي وتثبت، فهي تنفي أن يكون مفترى وأثبتت أنه أنزل بعلم اللَّه فليس مفترى عليه سبحانه. وهذا يدل على أن الله تعالى بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - به ليكون معجزته الكبرى ودليله على رسالة ربه، وإن اللَّه تعالى معلمكم صدقه ولو كان من غيره ما كان معلمه.
الأمر الثاني: هو أن لَا إله إلا هو، لأنه إذا ثبت أن القرآن من عند اللَّه وبعلمه نزل، فيكون ما اشتمل عليه حقا وصدقا، ومما اشتمل عليه الوحدانية فلا معبود إلا اللَّه تعالى وهو العزيز الحكيم.
ولقد قال بعد ذلك، والخطاب للمسلمين (فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ) (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي إذا قامت الحجة على أنه من عند اللَّه، فبايعوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - على الإسلام وأخلصوا وجوهكم للَّه وأحسنوا، والاستفهام هنا يتضمن معنى الطلب، وقال علماء البلاغة: إن أبلغ صيغة تدل على الطلب المؤكد هي الصيغة التي تصدر بالاستفهام مثل: (. . . فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهونَ)، ومثل (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(7/3680)
هذا على أن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويصح أن يكون الخطاب للمشركين، ويكون الضمير الذي للغائب في قوله تعالى: (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا) يعود على قوله تعالى (مَنِ اسْتَطَعْتُم) في الآية السابقة ويكون المعنى أنهم إذا لم يستجيبوا لكم معشر المشركين بألا يحضروا هذه الموازنة أو يحضروها ولا يستجيبوا لرغباتكم بأن يحكموا بأنه ليس مفترى - فاعلموا معشر المشركين أنه قد بطلت دعواكم بأنه - صلى الله عليه وسلم - قد افتراه وقامت الحجة عليكم، وأنه نزل بعلم اللَّه ومنه سبحانه وتعالى، وأنه لا إله إلا هو فانتهوا عن الشرك وبايعوا على الإسلام وكونوا مؤمنين.
والتخريجان محتملان وإنى أميل إلى التخريج الأول فهو أقرب؛ ولأنه لا تقدير فيه، وإن أولئك الذين أنكروا القرآن بعد قيام الدليل بعجزهم عند التحدي إنما يؤمنون بالحسيات فطلبوا أن يكون لمحمد كنز أو يكون معه مَلك، وزين لهم ضلالهم أنه لَا يمكن أن يكون الرسول من عند اللَّه فقيرا، ولابد أن يكون عظيما (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ).
ثم بين اللَّه لهم أن الدنيا يعطيها للبر والفاجر، والآخرة لَا يعطيها إلا لمن أحب، وأن التمتع في الدنيا لَا يلزم أن يكون متمتعا في الآخرة، فهما مفترقان وليسا متلازمين، ولكن التلازم في الإيمان والآخرة، ولذا قال تعالى:(7/3681)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
وفى هذه الآية يبين سبحانه أن الحياة الدنيا وزينتها تسير على سنة اللَّه في الوجود مربوطة بالأسباب والمسببات وليسر لها صلة بالفضل في الآخرة، فالحياة وزينتها تكون للمؤمن والكافر إذا أخذ كل منهما بأسبابها، ومتعة الدنيا ليست دليلًا على متعة الآخرة بلِ قد يكون اختيارا شديدا بعده العذاب، كما قال تعالى:
(وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35).(7/3681)
وقوله تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) إرادة الحياة الدنيا لمتاعها وما يتصل بها من رغائب مثل البنين والقناطر المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، وغير ذلك من متع الدنيا وشهواتها وزينتها وزخرفها والتفاخر بثيابها وأثاثها ومباهجها ومناظرها وما فيها من محاسن وزينة مما يتفاخرون به ويزدهون.
وقوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) شرط جوابه دوله تعالى (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) ومعنى وفاء الأعمال أي إعطاء نتائجها، فإذا زرع كان زرعه موفورا، وإذا صنع كانت ثمرات صناعته كاملة غير منقوصة، وكذلك إذا تاجر لَا يحرم من شيء من نتائج عمله إلا أن يشاء اللَّه تعالى: (وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسونَ)؛ لأنهم في الدنيا لَا يبخسون ثمرة عمل من أعمالهم.
وقوله تعالى: (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) فيه إشارة إلى سنة اللَّه تعالى في هذه الدنيا أن الأمور تربط بأسبابها، والأعمال تربط بنتائجها فمن أجاد عملا في الدنيا أخذ حظا فيه سواء أكان مؤمنًا أم كافرًا. وهذا قوله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21).
هذا أمر الدنيا ومتاعها وزينتها، أما الآخرة فقد قال تعالى فيها وفيمن اقتصر سعيهم على طلبها:(7/3682)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
أولئك غرضهم الزينة والتفاخر كما قال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفارَ نَبَاتُهُ. . .).(7/3682)
هؤلاء نالوا متعتهم ولم يعملوا لآخرتهم فليس لهم فيها إلا النار يصطلونها؛ لأن طالب الدنيا وحدها لَا يناله إلا الشر فهو يعتدي ولا يعرف حق غيره، ويكفر باللَّه ويعبد الأوثان، فهو لَا يؤمن إلا بما يلمسه بين يديه وكل ذلك إلى النار، وإن طلب المتعة الدنيوية ذاتها أو طلب زينتها لَا يؤدي إلى النار، إنما الذي يؤدي إلى النار هو ما يقترن بطلب الدنيا وزخارفها من عدم الوقوف عند حد المباح من الطيبات، بل يكون الاعتداء والتطاول والشرك وإن هذا مآله النار، وقد قال تعالى:
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)، وفي قوله تعالى: (وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا) أي فسد ما صنعوا.
والحَبْطُ أن يكون فساد العمل أو الشيء من ذاته وليس من أمر خارج عنه، ويقول الراغب الأصفهاني في مفرداته، أصل الحَبْط من الحَبَط وهو أن تأكل الدابة حتى تنتفخ بطنها.
والحبط فساد الأمر من ذاته لَا من أثر خارج عنه كما أشرنا، وقد قال الراغب رضي اللَّه عنه في المفردات أيضا: " حبط العمل عن ثلاثة أضرب: أحدها: أن تكون الأعمال دنيوية لَا تغني في القيامة عنا كما قال تعالى:
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23).
والثاني: أن تكون أعمالا أخروية في ظاهرها لكن لم يقصد بها صاحبها وجه اللَّه تعالى، فإنه يؤتى بصاحبها يوم القيامة فيؤمر به إلى النار.
والثالث: أن تكون أعمالا صالحة ولكن بإزائها سيئات وهو ما يشار إليه بخفة الميزان.
وإن أولئك الذين قال فيهم سبحانه: (وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا) هم الذين مما نظروا إلا إلى الدنيا وزينتها ولم يفكروا في الآخرة؛ لأنهم لَا يؤمنون بالبعث ولقاء اللَّه تعالى، وما كانوا يصنعون المعروف إلا للرياء والسمعة فكانوا مشركين.(7/3683)
وقوله تعالى: (مَا صَنَعوا) يفيد صنائع المعروف التي حبطت لأنهم لم تكن لهم فيه نيات حسنة، والأعمال في ثوابها بالنيات ومقاصد الخير ولم تكن لهم نيات صالحة. وختم سبحانه وتعالى الآيه الكريمة بقوله تعالى: (وَبَاطِلٌ ما كَانوا يَعْمَلُونَ) أي كل عمل عملوا قد صار باطلا، كقوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا منْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنثُورًا)، ذلك أن قلوبهم قد فسدت بالشرك فلم يكن لهم خير يُحمدون عليه.
* * *
أهل الحق وأهل الباطل
قال تعالى:
(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ(7/3684)
السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
* * *(7/3685)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
هذه موازنة بين الذين يتبعون الحق والذين يطلبون الدنيا وزينتها وتكون وحدها مقصدهم ويشركون باللَّه تعالى، وبين الذين يؤمنون باللَّه.
(أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ) (الفاء) هنا مؤخرة عن تقديم، وهي تفيد أن الاستفهام المتسائل مترتب على ما قبله من عمل غير فاضل، وكلمة (مِن) اسم موصول بمعنى الذي، والمعنى أمن كان على بينة من ربه كمن هو في عماية عن الحق ولا يدرك إلا الحياة الدنيا، وحذفت الموازنة الدالة على المفارقة الواضحة بينهما، إذ فرقٌ بين من يطلب الحق الباقي ومن يطلب العاجل الفاني.
(البينة) الأمر البين الذي تدركه العقول السليمة في غير اعوجاج، ويصح أن يراد به الإسلام؛ لأنه بَيِّن لَا يأتي إلا بما تقبله العقول ولا ينهى إلا عن الأمر المنكر غير المعقول؛ ولأنه دين الفطرة السليمة.
أسند اللَّه تعالى البينة إلى ربه، للدلالة على أنه الهادي إليها بمقتضى ما ركزه اللَّه تعالى في النفوس، وبمقتضى ما هدى إليه بالرسالات الإلهية، وقال تعالى:(7/3685)
(بيِنةٍ مِن رَّبِهِ) بالتعدية بـ (على) للدلالة على تمكنه من المعرفة، وأنها ليست وهما يتوهم ولا ظنا يظن بل عقيدة متمكنة.
ذكر اللَّه تعالى بعد البينة أن لها شاهدًا من اللَّه تعالى: (وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ)، أي يجيء شاهدا من اللَّه، فالضمير الأول في (يَتْلُوهُ) يعود إلى البينة، وعاد مذكرا لأن البينة البرهان القاطع الحاسم الذي تهدي إليه الفطرة، فعاد الضمير مذكرا للإشارة إلى أنها برهان بين واضح الدلالة على الوحدانية. والضمير الثاني في قوله (شَاهِدٌ) يعود على اللَّه ربك، أي أنه هداك وأيدك، والشاهد هو القرآن الكريم النازل من لدن عزيز حكيم.
وإن القرآن الكريم جاء مع البينة، وقلنا إنها الإسلام، فكيف يقال إنه وليها ونقول في ذلك إن الإسلام يكون دفعة واحدة، لأن لبه شهادة أن لَا إله إلا اللَّه وأن محمدا رسول اللَّه، والقرآن نزل منجما فهو كان يتلى بعده لَا قبله، وإن قلنا إن البينة هي برهان العقل المدرك فالقرآن جاء واليا، جاء به الحق.
وقد نقول وبحق نقول: إن القرآن جاء مع البينة مؤيدا لها، والتعبير بأنه تلاها للإشارة إلى التلاوة فيه وهي الترتيل، كما قال تعالى: (. . . وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، وكما قال سبحانه: (. . . وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ. . .)، وللإشارة إلى أنه هناك مراتب في الإدراك، فالأولى أن تجيء البينة، والمرتبة الثانية هي التأييد من اللَّه بالقرآن ولا تراخ بين الرتبتين بل هما متصاحبتان، كما تقول: فَكِّر ثم اقرأ، أي اقرأ قراءة متفكر متدبر، وكأن القرآن شاهد؛ لأنه ببلاغته، وفصاحة كلمه، وعمق معانيه مع وضوحها، وعلمه وقصصه الحكيم كان المعجزة الخالدة، فهو شاهد دائم ناطق بالحق إلى يوم القيامة، وفيه الدلالة الواضحة على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم الدين.
ثم أشار سبحانه إلى تصديقه للكتب السابقة وبشارتها به فقال تعالى: (وَمِن قَبلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً)، فدلت هذه العباره على أمرين.(7/3686)
الأمر الأول: بشارة التوراة والإنجيل به كما قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157).
الأمر الثاني: الذي دلت عليه الآية أنه مصدق لما بين يديه من الكتاب، وأن الإيمان به إيمان برسالة الرسل أجمعين كما صرح بذلك القرآن الكريم.
وقوله تعالى: (إِمَامًا وَرَحْمَةً) وصف لكتاب موسى وهو التوراة التي نزلت عليه ولم ينس منها خط ولم يحرفوها أو يبدلوها، فلا يستدل بالمطبوع الذي يُغيَّر إلى الآن آنًا بعد آنٍ تقرأه تجد في ذاته دليل بطلانه وبرهان بهتانه.
ومعنى قوله تعالى: (إِمَامًا) أنه يؤزم به في الدين، ومعنى (رَحْمَةً) أن ما اشتمل من شرائع في الزواج والطلاق والعقوبات هو الرحمة؛ لأن من رحمة اللَّه بعباده أن يؤخذ الجاني بشدة رادعة زاجرة فالشدة العادلة على الجاني رحمة بالمجني عليه، والرفق معه ظلم وقسوة على المجتمع، وهنا لابد من الإشارة إلى أمرين:
الأمر الأول: كيف يكون ما جاء به موسى إماما يأتم به أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم -.
الأمر الثاني: أشريعة موسى نسختها شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - أم لم تنسخها؟ والجواب عن الأول أن شريعة موسى في ضمن شريعة محمد، ولو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبع ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، فكتاب موسى إمام باعتباره مقدما في الزمن، والشريعتان في معناهما واحد والاختلاف في فروع جزئية تابعة للأزمنة.
أما الإجابة على أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - نسخت شريعة موسى عليه السلام فهو أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - نسخت من شريعة موسى فروعا ولم تنسخ أصولا، وما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو ما يجب اتباعه. ولقد روى سعيد بن جبير عن أبي موسى - رضي الله عنهما -(7/3687)
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " والذي انفسي بيده لَا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لَا يؤمن بي إلا دخل النار " (1).
وقد قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى. . .).
قال تعالى: (أُوْلَئِكَ يُؤْمِونَ بِهِ) إشارة إلى الذين على بينة ويؤمنون بموسى عليه السلام، فرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - جامعة للرسالات كلها، كما قال تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136).
(وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ) الأحزاب جمع حزب، وهو من يحزب لفكرة أو لقوم أو لعصبية غير مؤثر الحق في ذاته إنما يؤثر من يتعصب له حقا كان أو باطلا وإن التحزب كالتعصب يعمي عن الحق وهو يعمي ويصم، لا يطلب الحق في ذاته إنما يطلب على هوى من يتعصب لهم، والأحزاب يصح أن تفسر في موضوع الآية الكريمة بأنها القبائل التعصبة المتجمعة لمحاربة الحق وكانت القبائل كذلك، وسماهم القرآن الأحزاب لأنهم تجمعوا متحزبين ضد الدعوة الإسلامية وذهبوا في غزوة الأحزاب ليقتلعوا الإسلام من المدينة فخاب فألهم وطاش سهمهم وارتدوا خاسرين بريح كريح ثمود، والذين كفروا به من الأحزاب لا يؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يؤمنون بموسى عليه السلام ويهددهم اللَّه تعالى بقوله: (فالنَّارُ مَوْعِدُهُ) فالنار مكان تنفيذ وعد اللَّه تعالى فيهم، وقوله تعالى هذا لَا يخلو من تهكم لاذع بهم؛ لأنهم كانوا يرجون رحمة، فإذا بهم يلقون عذابا وكأنهم عقدوا موعد اللقاء فخاب ظنهم وكانت النار موضعه.
________
(1) رواه أحمد: أول مسند الكوفيين - حديث أبي موسى الأشعري رضي اللَّه عنه (19068).(7/3688)
ثم انتقل قول العزيز الحكيم إلى خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال سبحانه: (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) من هذا البيان الذي بيَّن الحق وأزهق الباطل، والمرية هي الشك، والأمر يمتد لمن خاطبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه نهي على أبلغ الصور؛ لأنه إذا كان نهيا من اللَّه تعالى لنبيه المصطفى الذي لَا يزيغ قلبه ولا يرتاب فأولى بهذا النهي ثم أولى الذين ربما يعتريهم ذلك وهم من أُرسل إليهم.
وأكد سبحانه النهي عن الريب بقوله تعالى: (إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ) والضمير يعود إلى البيان والقرآن، والحق هو الأمر الثابت الصادق الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد جاء من ربك الذي خلقك ودبر أمورك بحكمته. وقد أكد سبحانه وتعالى أنه الحق بـ (إنَّ) المؤكِّدة، وبأنه من ربك الذي خلق فقدر وهدى، فاجتمع له فضلان فضل ذاتي لأنه الحق في ذاته، وفضل إضافي يؤكد أنه الحق، وهو أنه من عند اللَّه.
ثم قال تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) الاستدراك هنا معناه، أن مقتضى الإسلام بينة وبرهان، وأنه حق ثابت أن يؤمن الناس جميعا ما دامت لهم عقول تدرك وقلوب تؤمن، ولكن أكثر الناس لَا يؤمنون، وكان التعبير بالمضارع للإشارة إلى أن أكثر الناس لهم قلوب ليس الإيمان من شأنها بل هم دائما متمردون على الحق وظلم الحقيقة، وهم مفترون على اللَّه تعالى ويكذبون عليه، ولذا قال تعالى:(7/3689)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
إن الكفر مباءة للآثام، تعيش فيه وتفرخ، ويتبع الإثم إثم مثله، ويأخذ بعضه بحَجُزِ بعض في سلسلة متصلة تبدأ بالشرك باللَّه تعالى ثم بالكذب عليه بتحريم ما أحل اللَّه على أنه من عند اللَّه، والجحود بما أنرل سبحانه والافتراء عليه تعالى وفساد اعتقادهم بأن يعبدوا الأوثان ويقولوا إنهم شفعاؤنا. وهكذا يكون الشرك كالمعاطن التي تحوم حولها الحشرات والجراثيم وكل الموبقات.(7/3689)
وأوضح ما في الشرك الكذب على الله تعالى بما ذكرنا وغيره، ولذا قال تعالى: (وَمنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا)، الاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي مع التوبيخ، بمعنى لَا أحد أظلم ممن افترى قاصدا الكذب على اللَّه تعالى، وهم قد ارتكبوا أشد الظلم إمعانا في الشر والكذب على اللَّه بأن يشركوا به غيره كما أشرنا، وبأن يخترعوا مفاسد وينسبوها إلى شريعة إبراهيم عليه السلام كطوافهم عرايا وأن يحرِّموا على أنفسهم طيبات ما أحل اللَّه ويزعمون أن اللَّه حرمها وغير ذلك مما حرموه ناسبين التحريم إليه افتئاتا عليه، فلا أحد أعظم منهم بهتانا وكفرا.
افترى الكذب معناه قصده وأراده، والكلمة نكرت لبيان أن الكذب على اللَّه تعالى قل أو كثر ظلم عظيم بل أعظم الظلم، وأن الشرك ظلم عظيم لأن من أشرك ضلل نفسه وضلل الناس ولأنه ارتكب بهتانا عظيما.
ويقول سبحانه: (أُوْلَئِكَ يُعْرَضُون عَلَى رَبِّهِمْ) الإشارة إلى الذين افتروا الكذب، يعرضون على ربهم الذي خلقهم ورباهم وحفظهم وهو الحي القيوم.
وهم يعرضون على ربهم ويلقونه سبحانه غير مختارين، وهو اللقاء الذي لا يتمنونه؛ لأنه لقاء الذين كفروا بربهم يعرضون عليه كما يعرض الجاني على شهوده ليشهدوا عليه، كما أنهم يرون ما أنكروا وكذبوا.
وفى المحشر والحشد الجامع يقول المشاهدون من ملائكة وأنبياء وصديقين (هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبوا عَلَى رَبِّهِمْ) مشيرين إليهم استنكارا لفعلهم وبيانا لشناعة ما كانوا عليه وحسبهم ذلك سوءا وفحشا واستحقاقا للعذاب. وإن ذلك العرض وتلك الشهادة أبلغ عقاب معنوي، ومن بعد ذلك يكون العقاب المادي على ذلك الظلم الفاجر الآثم والشرك الضال المضل.
والأشهاد جمع شاهد كأصحاب جمع صاحب، أو جمع شهيد كأشراف جمع شريف، والمعنى واحد، وقد ختم اللَّه تعالى الآية بقوله تعالى: (أَلا لَعْنَة اللَّه عَلَى الظَّالِمِينَ) (ألا) أداة تنبيه وفيها توكيد للحكم الذي يجيء بعدها، و (لَعْنَةَ اللَّهِ) مقته وعذابه والطرد من رحمته وقوله: (الظَّالِمِينَ) إظهار في موضع(7/3690)
الإضمار، وذلك لتسجيل الظلم عليهم، ولبيان أن هذا الظلم الذي قد بلغ أقصى حدوده هو السبب في بُعدهم عن رحمة الله تعالى، ويعم الحكم بالعذاب على كل من عتى عن أمر ربه وأشاع الفساد في الأرض. إنه لَا يحب المفسدين.
وقد ذكر اللَّه أفعال أولئك الظالمين فقال تعالت كلماته:(7/3691)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
يذكر اللَّه تعالى أحوال الذين يفترون على اللَّه الكذب، وقد ذكرنا كيف كانوا يفترون، وهذه الحال التي ذكرت هي الصد عن سبيل اللَّه تعالى بإيذاء المؤمنين وفتنهم ليقولوا كلمة الكفر وهم لها كارهون، وقد بالغوا في إعناتهم حتى مات منهم من مات تحت حر العذاب الذي ابتدعوا فيه طرائق تتنافى مع كل إنسانية بل ووحشية، حيث كانوا يحمون الحديد ويصبونه محميا في فرج المسلمة حتى لقد اضطر بعض المسلمين أن ينطق كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان. وكان من صدهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما كان يذهب داعيا في الحج القبائل كان يذهب منهم من ينفرهم من الإسلام كأبي لهب، وأن الأوس والخزرج عندما استجابوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يلتقون به على استخفاء منهم وفي سر لَا إعلان فيه، وهم يتبعونهم كلما علموا باجتماعهم به، ولذا قال تعالى في وصف هذه الحال: (الَّذِينَ يَصُدُّون عَن سَبيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا) وسبيل اللَّه هي سبيل الحق والإسلام كما قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صَرِاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ. . .).
(يبْغُونَهَا عِوَجًا) أي يريدونها ملحفين في ذلك أن تكون معوجة بأن يلين معهم في عبادة الأوثان وتحريم ما أحل اللَّه ويرضى بما يرضون، أو يريدون ويبغون أن يكون أتباعه معوجين منحرفين عن الحق وأن يرتدوا عن دينهم الذي ارتضوا، وقد أشار سبحانه إلى السبب الذي جعلهم يوغلون في الكفر ذلك الإيغال ويمعنون فيه هذا الإمعان، فقال تعالى في حالهم التي أضلتهم: (وَهُم بِالآخِرَة هُمْ كَافِرُونَ).(7/3691)
أي أن الكفر بالبعث جعلهم لَا يؤمنون إلا بالدنيا وزينتها وظنوا أنها وحدها هي الحياة مما أدى بهم إلى هذا الغباء وهذه اللجاجة فيه.
وقد أكد سبحانه كفرهم بالبعث واليوم الآخر وأنه لَا حساب ولا عقاب، أكده أولا بالضمير وهو قوله تعالى: (وَهُم) وتكراره في قوله تعالى: (هُمْ كَافِرُونَ) وأكده بالجملة الاسمية.
وذلك ضلالهم وهو الضلال البعيد، وأنهم بغوا وطغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد وحسبوا أنهم الغالبون وأنه لَا يعجزهم أحد وذلك سر طغيان الطغاة.
لذا قال تعالى ما يفيد أنهم أعجزوا العباد فلن يعجزوا رب العباد.(7/3692)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
(أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
الإشارة إلى الذين يصدون عن سبيل اللَّه تعالى ويبغونها عوجا ويريدون أهلها معوجين غير سائرين في الجادة، والإشارة إلى الموصوفين بصفات تدل على أن هذه الصفات سبب لما يقومون به من تحد للَّه تعالى، ولذا قال سبحانه: (لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ)، أي لم يكونوا معجزين للَّه عن أن ينزل بهم ما أنزل بمن سبقهم بجوائح ماحقة كخسف في الأرض أو رجفة أو ريح صرصر عاتية أو حرب مجلية مخزية، والمعنى أنهم لم يكونوا بحالهم وكينونتهم معجزين اللَّه في الدنيا، فاللَّه هو القهار والغالب على كل شيء فلا ولي لهم يقاوم إرادة اللَّه تعالى فيهم، ولذا قال تعالى: (وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن أَوْلِيَاءَ) أي ما كان لهم أولياء يعاندون اللَّه تعالى فيما يريد فيهم ويقاومون إرادته، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: (مِّن دُونِ اللَّهِ) فإنها تدل على المضادة لما يريد اللَّه سبحانه وتعالى فهم لا يستطيعون نصرتهم ولا منع العذاب عنهم، قالوا بمعنى النصر المانع وكلمة (مِّن) في قوله تعالى: (مِنْ أَوْلِيَاءَ) لتعميم النفي أي ما كان لهم أي ولي من الأولياء.(7/3692)
هذا في الدنيا إذ حسبوا أنه لَا رقيب عليهم ولا دافع يدفعهم وهم مسلطون، فيبين الله تعالى أنه قاهر فوقهم. أما في الآخرة فقال اللَّه تعالى عن حالهم فيها (يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ) أي يكرر العذاب عليهم فيكون ضعفين أو أضعافا؛ لأنهم أشركوا باللَّه عبادة الأوثان، ولأنهم آذوا المؤمنين وحاولوا صدهم عن سبيل اللَّه، ولأنهم طغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، ولأنهم ظلموا الناس وفتنوهم في دينهم.
وما بعثهم على تلك الآثام التي ضاعفت لهم العذاب إلا أنهم لم يستمعوا إلى الحق ولم يبصروا الآيات، ولذا قال تعالى: (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) ذكر اللَّه تعالى في هذا النص الكريم السبب في هذه المآثم فذكر أنه أمران:
الأمر الأول: أنهم لَا يستطيعون السمع، وليس المراد أنهم صُمٌّ حقيقة، بل شبهت حالهم بحال الأصم الذي لَا يستطيع السمع؛ ذلك لأنهم لَا يتدبرون ما يسمعون من دعوة إلى الحق وآيات تتلى فيها الإعجاز فكانوا كأنهم لايسمعون، وقد ذكرهم اللَّه في مواضع أخرى (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179).
الأمر الثاني: قوله تعالى: (وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ) أي ينظرون نظرة تأمل للكون ويدركون أسراره، والجمع بين الماضي والمستقبل في قوله تعالى: (وَمَا كَانُوا يُبصِرُونَ) للدلالة على استمرار غفلتهم عن الآيات وتجددها وقتا بعد آخر، فكلمة " كان " تدل على الماضي وكلمة (يُبصِرُونَ) تدل على المستقبل، كذلك قوله تعالى: (مَا كَانوا يَسْتَطِيعُون السَّمْعَ) واللَّه أعلم بمراده في كتابه.
ولقد حكم سبحانه بعد ذكر عذابهم في الدنيا والآخره فقال تعالى:
(أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)(7/3693)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21)
الإشارة هنا إلى الذين هددوا بعذاب الدنيا وإنه لنازل بهم، وأنذروا بعذاب الآخرة، ومن قبل صدوا عن سبيل اللَّه، وأرادوها ملحفين في إرادتهم أن تكون معوجة، والإشارة إلى الموصوف بصفات تدل على أن هذه الصفات هي سبب الحكم، وهذا الحكم هو الخسران المبين.
وأنهم خسروا بضلالا عقولهم، وخسروا أنفسهم بظلمهم، فالظلم خسارة للنفس، وخسروا أنفسهم بكفرهم باليوم الآخر وعدم رجاء ما عند اللَّه، وبعذاب الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى: (وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانوا يَفْتَرونَ) أي غابت عنهم الأوثان التي كانوا يحسبونها شفعاء عند اللَّه، وتلفتوا فلم يجدوها والتعبير بـ (ضَلَّ) يفيد أنهم طلبوها فلم يجدوها، أو توهموا أنها تنفعهم فلم تجدهم، وفى تعبيره سبحانه عن الأوثان بقوله تعالى: (مَّا كَانوا يَفْتَرُونَ) إشارة إلى أنها لا وجود لها في ذاتها وإن وجودها كآلهة إنما هو في أوهامهم وافترائهم. ثم يؤكد سبحانه خسارتهم البالغة إلى أقصى حد.(7/3694)
لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
(لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
قال الخليل وسيبويه إن (لا جَرَمَ) كلمة واحدة معناها حق ويكون المعنى:
حق وثبت أنهم في الآخرة هم الأخسرون، فالنص يثبت أنهم خسروا وأنهم بلغوا في الآخرة أقصى درجات الخسارة، ولذا جاء جمع (الأَخْسَرُونَ)، وفعل التفضيل هنا يدل على أقصى درجات الخسارة، أي لَا خسارة فوقها أو مثلها بل هي فوق كل خسارة، وما ظنك بخسارة مؤداها البقاء في الجحيبم خالدين فيها إلى ما شاء اللَّه تعالى.
وروي عن الخليل أيضا في (لا جَرَمَ) أن معناها لابد ولا محالة فهي تفيد التأكيد بأنهم في أعلى درجات الخسارة.
والأصل في (لا جَرَمَ) أن لَا نافية، وهي رد لهم في أطماعهم، وبيان بطلانهم، وجرم معناها كسب، والمعنى لَا كسب ذلك الفعل لهم - أنهم الأخسرون. ومؤدى لَا جرم حق كما ذكرنا أولا.(7/3694)
وهذا شأن الكافرين الجاحدين الذين يصدون عن سبيل الله تعالى ويبغونها عوجا، أما شأن المؤمنين فقد قال تعالى فيه:(7/3695)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
بعد أن بين سبحانه وتعالى حال الذين كفروا في الدنيا وفي الآخرة، وأنه في الدنيا غرور بها وزينتها، وفي الآخرة خسران مبين وشقاء وجحيم، بين سبحانه حال المؤمنين فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ)، ذكر سبحانه وتعالى لهم أعمالا ثلاثة:
أولها: الإيمان الذي يقذفه اللَّه في قلب المؤمن فيخضع للحق ويذعن له وإن القلب إذا أشرق بالإيمان واستضاء به كانت الحكمة والاستقامة في القول والعمل فلا يكون منه إلا الخير والإذعان للحق.
والثانية: العمل الصالح وهو ثمرة الإيمان وأن الايمان إن لم يصاحبه العمل كان ذلك نقصا في الإذعان، فإن الإخلاص يتولد عنه الحكمة التي يتولد عنها القول الطيب والعمل الطيب.
والحال الثالثة: هي الإخبات إلى اللَّه، والإخبات هو الاطمئنان، والكلمة مثل للأرض والخبت، وهي الأرض المصمتة (1) السهلة، والاطمئنان الى اللَّه يتضمن تصديق ما وعد، والخضوع لما أمر ونهى، وقال تعالى: (إِلَى رَبِّهِم) لما يفيده معنى الربوبية والخلق والقيام على حفظهم وتربيتهم وما يترتب على ذلك من الاطمئنان والخضوع وعدم التمرد علمِه سبحانه والخروج عن طاعته.
وقد أكد سبحانه هذه الأحوال بـ (إنَّ) المؤكدة، وذكره بالاسم الموصول للدلالة على أنه سبب الجزاء الذي يعطيهم ربهم، والثناء الذي أضفاه عليهم خالقهم.
________
(1) أصْمَتَتِ الأرضُ " أحالتْ آخرَ حَوْلَيْنِ. كما في القاموس، والمراد هنا الساكنة الممهدة للسير.(7/3695)
ثم ذكر بعد ذلك جزاءهم فقال تعالت كلماته: (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةٍ هُمْ فيها خَالِدُونَ)، وإن الإشارة إلى صفاتهم من إيمان وعمل صالح وإخبات إلى ربهم إيضاح إلى أنها سبب ذلك الجزاء العظيم، وقد أكد سبحانه وتعالى جزاءهم بأنهم ملازمون للجنة، وأنهم أصحابها الذين لهم اختصاص يشبه ملك المالك لما يملك وأكد أيضا بضمير الموصول فقال: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
هذا مكان الذين آمنوا، وذلك مهوى الذين يصدون عن سبيل اللَّه، وقد وازن سبحانه وتعالى بين الفريقين فقال تعالت كلماته:(7/3696)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
(مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
المثل هو الحال والشأن، الفريقان فريق من ضل وغوى فكان في السعير، ومن آمن واهتدى وعمل صالحا واطمأن إلى حكم ربه فكان في الجنة، فجعل فريق الغواية كالأعمى الذي لَا يبصر والأصم الذي لَا يسمع، وفريق الهداية كالبصير الذي أوتي حدة في البصر حتى كان بصيرا يرى الأشياء والحقائق، والسميع الذي أرهف سمعه حتى صار يسمع دبيب النمل.
(هَلْ يَسْتَوِيَانِ)؟ هذا استفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع، أي لَا يستويان مثلا أي حالا وشأنا، بل يفترقان ويكونان بما يتفق مع حال كل منهما، فالأعمى الذي لَا يرى حتى يعرف الطريق، والأصم الذي لَا يسمع الهادي الذي يرشده فهو يتردى في المهاوي غير رشيد ولا مسترشد، والبصير الذي يرى أعلام سبيل الله تعالى وهو السميع الذي يسمع المرشد الهادي إلى سواء السبيل لَا بد أن يسلك الطريق الأقوم، فلا يستويان في الابتداء والانتهاء، ففريق في الجنة، وفريق في السعير.
والتشبيه فيه تخريجان:
التشبيه الأول: تشبيه الكافر بالأعمى الأصم الذي لَا يرى الطريق ولا يسمع من يهديه، والمؤمن بالبصير السميع الذي يهتدي ببصره وبإرشاده وقد وضحناه.(7/3696)
والتشبيه الثاني: تشبيه الكافر بالأعمى في عدم إدراكه، وبالأصم في عدم الإصغاء للهداية والمؤدى فيهما واحد، ولقد قال تعالى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22).
ختم اللَّه الآية الكريمة موجها القول إلى الناس (أَفَلا تَذَكَّرُونَ)، (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها وأخرت عن تقديم؛ لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام للتنبيه والتحريض على التذكر والاعتبار وإن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار.
* * *
القصص الحق
قال تعالى.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ(7/3697)
قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
* * *(7/3698)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مبِينٌ).
إن قصص القرآن ليس فيه تكرار إنما فيه بيان العبرة، وتساق القصة أو جزء منها في موضع العبرة فيها، وإذا كان فيه تكرار فهو ليس في الأخبار إنما هو في موضع الاعتبار.
وموضع الاعتبار هنا أن قوم نوح يحاربونه بما حارب الملأ من قريش محمدا - صلى الله عليه وسلم -، ودعوة نوح هي دعوة محمد الخالدة، وهي دعوة النبيين من قبل، وهي الحقيقة الأزلية، هي عبادة اللَّه تعالى وحده لَا شريك له.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ) الذين يألفهم ويألفونه ويعرفون مقامه فيهم، ونسبه منهم، وقد ناداه نداء الحدب عليهم المحب المنذر لهم، مبينا مغزى رسالته (إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبينٌ) وهذا معنى أرسلنا والغاية من الرسالة، وهذا مشابه لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما قال لقومه عندما أبلغهم برسالته: " أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم "، قالوا: ما عهدنا عليك كذبا، قال: " إني لنذير لكم بين يدي عذاب شديد " (1).
(أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
________
(1) رواه البخاريْ تفير القرآن - (وأنذر عشيرتك) (4770)، وأطرافه في البخاري ستة، بنحو من هذا، كما رواه مسلم: الإيمان - (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (208).(7/3698)
أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
تضمن هذا النص الكريم لب الرسالة وهو الوحدانية في الذات وفي الصفات وفي العبادة، كما تضمن في ألطف مودة الإنذار بالعذاب الذي يكون في يوم مؤلم في أهواله وفي مآله، وإنه يوم المآل.
وقد تبعه من تبعه من الضعفاء والفقراء الذين يزدريهم الكبراء في هذه الدنيا كما ازدرى كفار مكة أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفقراء والأرقاء واستهزءوا بهم، كذلك كان الذين كفروا بنوح ابتداء من اللأ والكبراء.(7/3699)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
(فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
وتتضمن إجابتهم ثلاثة أمور كلها لقيها النبي - صلى الله عليه وسلم - من قومه والملأ هم الأشراف الأقوياء المستكبرون في الأرض بغير الحق، ووصفهم سبحانه بالموصول (الَّذِينَ كَفَرُوا) لبيان أن السبب هو كفرهم وليس ثمة باعث حقيقي مما تضمنه قولهم، إنما الباعث هو الكفر الذي سبق إليهم ابتداء، وكان ذلك القول مظهره وأول ما دل عليه، وهو استغرابهم أن يكون بشر منهم رسولا، وكذلك كان يقول مشركو مكة.
الأمر الأول: (مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مّثْلَنَا) فأي ميزة جعلتك رسولا من بيننا، وهذا كقول المشركين في مكة: (. . . مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأكُلُ الطَّعَامَ وَيَمشِي فِي الأَسْوَاقِ. . .)، وهذا هو أول ما تضمنته إجابتهم.
الأمر الثاني: أنهم قالوا: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا) جمع أراذل، وهم الأخساء في نظرهم لأنهم يقيسون الخسة والرفعة بمقدار القوة المادية، فمن كان غنيا مستعليا بماله ونفره كان عاليا، ومن كان قليلا في ماله ونفره كان خسيسا في نظرهم ومعنى (بَاديَ الرأْيِ) أي ظاهر مت الرؤية لَا يحتاج إلى دليل.
الأمر الثالث: ما نرى لكم يا نوح أنت ومن معك من فضل علينا حتى تستحقوا الثواب دوننا، ومن هذا البيان استغراق النفي، أي لَا نرى لكم علينا أي(7/3699)
فضل حتى تكونوا مستحقين للثواب دوننا، وذلك لربطهم الرفعة في الدنحِا بالمادة ثم أكدوا بعد ذلك ما توهموا فقالوا: (بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ) وهو إضراب) عما يوهم كلامهم في فرض صدق الأخبار بأنهم يستحقون ثوابا، ويقول المفسرون إن الظن هنا هو العلم، وأنا أقول إنه الظن الحقيقي؛ لأن الكفار كل علمهم أوهام، والأوهام إذا كان منها اعتقاد لَا يمكن أن يكون إلا ظنا، وإن الظن لَا يغني من الحق شيئا.
ولقد أجابهم نوح عليه السلام:(7/3700)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
ابتدأ نوح عليه السلام نداءهم بـ " يا قوم " تقريبا وتأليفا، (أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَبِّي) أي دليل وسلطان، (وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) أي خفيت عليكم ولم تهدكم، (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) أي لَا نلزمكم إياها وأنتم كارهون لها، والرحمة من آثار الإيمان، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي جاءت البينة فلم تدركوها فخفيت عليكم، والخطاب أرفق ما يكون لقربهم إليه، ولم يقل كفرتم بل قال: " خفيت عليكم " وترك الأمر لاختيارهم، ووجه أنظارهم إلى أن الأمر ليس لفضل شخصي، ولكن لهدى إلهي، ولأن رسالات اللَّه بينات وهداية.
ثم بين أن المسألة ليست أمرا دنيويا، حتى تتنافسوا عليه، إنما هو أغلى مما عندكم وما تتنافسون فيه.
ثم ناداهم عليه السلام بما يؤلفهم:(7/3700)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
(وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
طمأنهم إلى أنه لَا يسألهم مالا، والمال عنصر حياتهم المادية التي بها يستعلون وهو زخرف الحياة وزينتها، ولكن يسألهم هداية، وأجره على اللَّه وحده(7/3700)
(إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ) (إن) نافية، لَا أجر لي إلا عند اللَّه فلا تحاولوا أن تنكروا الرسالة ما دامت لَا تكلفكم مالا، بل تكلفكم إصغاء وإيمانا. ثم هم كانوا يطعنون في اتباعه ويغضون من مقامه عند اللَّه ولا يرضون أن يكونوا صفا واحدا مع هؤلاء الأراذل في زعمهم المادي الفاسد، فيقول لهم قولا قاطعا حازما حاسما فيه شدة وقوة (وَمَا أنا بطارِد الَّذِين آمَنوا) لأني جئت للهداية لَا للثروة والمال، وعبر بالموصول في كلمةَ (الًّذِينَ آمَنوا) لبيان سبب النفي، وهو كونهم آمنوا، فحققوا ما جئت به، فكيف أطردهم.
وإن الاعتبار بحالهم وحالكم إنما يكون في الآخرة وليس في الدنيا، ولذا قال: (إِنَهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ) وعند لقاء ربهم الذي خلقهم ورباهم على تقوى منهم، فستكونون معهم وستعلمون أنهم أهدى سبيلا.
ويتجه نوح إلى أن يصدع بالحق فيهم بعد هذا الرفق الكريم ويقول:
(وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)، وهذا الاستدراك من القول اللين العطوف إلى القول الحق الذي لَا يخلو من عنف في لطف، أراكم قوما تجمعتم وتحزبتم وأنتم تجهلون الحقائق وتمارون بالباطل، انتقل من عذرهم بخفاء الأمور عليهم إلى رميهم بالجهل المستمر الذي يتجدد آنًا بعد آنٍ وقد استمروا عليه. ثم من بعد ذلك مستنكرا طردهم.(7/3701)
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
(وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
ابتدأ أيضا بالنداء المقرب المؤلف (وَيَا قَوْمِ) إن كنتم تسترذلونهم وتستحقرونهم فهم عند الله أهل القربى فكيف أطردهم ومن ينصرني أمام اللَّه لدفع انتقامه مني وقد طردت عباده المقربين، وكلمة (من) في النص تدل على مجابهته للَّه، ومدافعته لإرادته، ومن ينصرني أمامه، ثم تختم الآية بقوله: (أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)، أفلا تفكرون وتتدبرون لتعرفوا أن طردهم ليس بصواب ولا حسن العاقبة، وأنهم إذا كانوا فقراء فأنا أيضا فقير إلى اللَّه تعالى ولست أفاخر بمال، ولذا قال تعالى حاكيا عنه:(7/3701)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
(وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
نفي أربعة أمور:
الأمر الأول: أنه ليس عنده خزائن، فهو في الأموال دونهم، فاللَّه تعالى لم يبعث رسولا يعطيه خزائن الأرض، لكن يبعثه بما هو أعز وأغلى وهو إثراء الروح والنفس بمحبة اللَّه ورجاء ثوابه وتقوى اللَّه تعالى وخوف عقابه.
الأمر الثاني: نفي أنه يعلم الغيب، فما جاء إلا هاديا للحق وداعيا إلى اللَّه تعالى، وذلك لَا يقتضي علم الغيب الذي اختص اللَّه تعالى به نفسه، وهو في هذا مثلكم.
الأمر الثالث: أنه لَا يقول إنه ملك، وهو بشر مثلكم نشأ بينكم وعرفتم مولده، وأنه بشر كسائر البشر.
الأمر الرابع: نفي أنه يقول للمؤمنين الذين يحتقرهم أغنياؤكم، مجاوبة لكم، لن يؤتيهم الله خيرا بل لهم الخير كل الخير، وعبر عنهم: (لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ) للدلالة على أنهم ليسوا مزدرين في ذات أنفسهم، بل أعينكم الغاشية هي التي ترى هذا الازدراء.
ثم يشير إلى أن الاعتبار ليس للصورة ولكن إلى نور القلوب، ولذلك قال (اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفسِهِمْ) وهي الجملة المعترضة بين قوله: (وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا) وقوله تعالى: (إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) أي إذا قلت لهم ذلك مطاوعة لرغباتكم، وأكد ظلمه باللام وكونه - إذن - في زمرة الظالمين الذين لَا يعرفون إلا بالظلم إذ اشتهروا به.
* * *(7/3702)
فى سياق القصة
(قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
* * *
قال تعالى في المجاوبة بينهم:(7/3703)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
(قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
لم يئن نوح عليه السلام عن دعوتهم وملاينتهم وأخذهم بالرفق حتى أعلنوا مجافاته وقالوا: (يَا نوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْت جِدَالَنَا) فسيوا دعوته إلى الحق جدالا يقصد به الغلب في البيان، وما هو إلا ناصح أمين يريد الهداية والإرشاد إلى الطريق الأقوم، ولكنهم لَا يريدون رشادا بل أرادوا تحديا، ولذا قالوا (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) لقد أنذرهم بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاستعجلوا العذاب ولم يستعجلوا العظة والاعتبار والهدى ورفع الضلال.
وما كان العذاب في قبضة نوح، إنما هو بيد اللَّه ينزله في الوقت الذي يعلمه سبحانه وتعالى مناسبا، لذا قال:
(قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)(7/3703)
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33)
(إِنَّمَا) أداة قصص، أي لَا يأتيكم به إلا الله، إن شاء يأتيكم به في زمانه الذي يشاء أن يكون فيه. (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) أي إنه لَا محالة نازل بكم في وقته الذي حدده الله تعالى في علمه، وأنكم لستم مع طاغوتكم بمعجزين لله سبحانه وتعالى؛ ذلك أنهم ضعفاء لَا يقفون أمام إرادة القاهر الجبار.
وإن عمل نوح ليس إنزال العذاب، إنما ذلك من عند الله، وعمله هو النصح، فإن لم ينفع النصح، فالله تعالى يريد أن تستمروا في طريقكم فتقعوا في العذاب بإرادتكم، إذا اخترتم طريقها وصرتم في مجرفها حتى انتهيتم إليها.(7/3704)
وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
(وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
أي لَا تنفعكم نصيحتي الصادرة لكم في إخلاص وإيمان بالحق إن أردت أن أنصح لكم وأخلص لكم مرفقا بكم غير مغلظ، (إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يغْوِيَكُمْ) أي إن كانت إرادة الله تعالى أن تستمروا في طريق الغواية وهي الضلالة حتى تنتهوا إليها، فأنا أريد لكم النصح والله يريد لكم أن تستمروا في طريق الضلالة وإرادته سبحانه هي النافذة.
ثم ذكر نوح أن الله تعالى هو الذي خلقكم ويعرف مآل أعمالكم وأنكم راجعون إليه ولذا قال: (هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْه تُرْجَعُونَ)، هو ربكم الذي خلقكم ويعلم ما تخفي صدوركم (وَإِلَيْهِ تُرْجَعونَ) إنذار لهم فالمرجع إليه وأنه لمحاسبكم على كل ما صنعتم محاسبة العليم الخبير السميع البصير، وقوله تعالى: (وَإِلَيْهِ ترْجَعُونَ) تدل بتقديم الجار والمجرور على أن المرجع إليه وحده، وإن في هذا القصص الحكيم الأمرين:
الأمر الأول: التخفيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولبيان أنه لاقى النبيون مما لاقى هو، والعاقبة كانت لهم وحادهم المشركون بما حادُّوا به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن ذلك عبء يحتمل في سبيل أداء الرسالة الإلهية إلى خلق اللَّه تعالى، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها.(7/3704)
الأمر الثاني: إثبات الإعجاز وهو أنه أتى بهذه الأخبار الصادقة عن النبيين
السابقين من غير أن يتعلم على معلم، ومن غير أن يقرأ في كتاب (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48).
ولذلك كان هذا القصص الحق مع الأسلوب المعجز من دلائل الإعجاز، ولقد أشار سبحانه إلى ذلك فقال:(7/3705)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
(أَمْ) هنا للإضراب الانتقالي أي أنه سبحانه في الأسلوب القرآني الحكيم ينتقل من السير في القصة إلى نهايتها وإلى ما تشير إليه من دلائل الإعجاز، أي يقولون قصد الكذب في هذا الكلام الدال على صدق الرسالة، قد يقولون ذلك وهم يعلمون أنه الصادق الأمين الذي لم يعرفوا له كذبا قبل البعث وبعده، ويأمره اللَّه تعالى بأن يقول لهم: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ)، قل إن افتريته وكان قصصه كاذبا فإن إجرامه عليَّ، فعليَّ هذا الإجرام أي وباله وإثمه (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) فإجرامكم كثير، إشراك باللَّه وأوهام تسيطر عليكم فتحرِّمون ما أحل اللَّه وتحلون ما حرم اللَّه تعالى وتؤذون أهل الحق وتصدون عن سبيل اللَّه وتبغونها عوجا، وإن البراءة من إجرامكم خير لَا ريب فيه وهداية لَا شِيَة فيها.
وفى قوله تعالى: (إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي) كان التعبير بقوله (إِنِ) لبطلان أصل الافتراء واستحالته؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يعرف عنه كذب قط، ولأنه يوافق كتب أهل الكتاب التي لم يتلوها من قبل، ولأنه من الله العليم بكل شيء وقوله: (فَعَلَيَّ إِجْرَامِي) يفيد أنه عليه السلام يتحمل تبعة قوله وأن إجرامهم ثابت وهو بريء منه.
* * *(7/3705)
الفُلْك
(وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ(7/3706)
ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
* * *(7/3707)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
(وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
بذل أقصى جهده في التقريب والتأليف والنصيحة والإرشاد وتحمل سفه القول منهم حتى آمن من آمن، وما آمن معه إلا قليل، ومن بعد إيمانهم أوحى اللَّه تعالى إلى نوح عليه السلام أنه لن يؤمن غيرهم. (فَلا تَبْتَئِسْ) أي لَا تحزن ولا تأسف بما كان يفعل من استكبروا في الأرض من سخرية وازدراء لأهل الإيمان، وأنما أنت نذير وقد أنذرت، ولم يبق إلا أن ينزل بهم ما كانوا يستعجلون ويقولون بتحد (فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا)، وقد اشتبه حال نوح مهم بحال محمد - صلى الله عليه وسلم - مع قريش قبيل الهجرة، إذ لم يؤمن منهم أحد، وإن كان منهم من يلقي بالمودة من غير إيمان، ثم كانت الهجرة وكانت الحرب وأنزل اللَّه بهم هزيمة بعد هزيمة ولم تكن إبادة كإبادة قوم نوح عليه السلام، لأن رسالة محمد خالدة فكان من أصلاب المشركين باللَّه والجاحدين لرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، من يعبد اللَّه وحده ومن يدعو إلى اللَّه ويجاهد في سبيله كخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل.(7/3707)
أما رسالة نوح فلم تكن خالدة، ولذا كانت الإبادة لمن كفروا وبقيت من المؤمنين بقية صالحة، ولذا أمره اللَّه تعالى بأن يصنع الفلك لنجاة نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين، وإغراق المشركين حتى لَا يذر منهم أحد، ولقد أمر سبحانه بصنع الفلك وهي السفينة، ويطلق على الجمع، فقال تعالى:(7/3708)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
(وَاصنعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا)، أي رقابتنا ورعايتنا وحمايتنا، وعبر سبحانه عن ذلك بقوله (بِأَعْيُنِنَا) وذكرت العين لأنها أقوى إدراك الحس، وذكرت بالجمع " بأعيننا " جمع عين؛ للدلالة على كمال الرعاية والحفظ والكلاءة، وقوله تعالى: (وَوَحْيِنَا) أي بإرشاد منا إلى مواضع الإحكام فيها ودفع أي خلل في بنائها، ويبدو أن نوحا عليه السلام كان مع غضبه من قومه ومن جحودهم كان يرجو أن يكون منهم مؤمنون، ولكن اللَّه تعالى ردَّه وقرر أنه لَا رجاء فيهم، وقد حقَّ عليهم العذاب فقال سبحانه: (. . . وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) ويصنع نبي اللَّه ومن معه الفلك بمقدار ما يسع نوحا وأهله إلا ابنه ومن آسف معه.(7/3708)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
لم يترك قومه غيهم وما هم فيه من ضلال (وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ) أي طائفة من أشرافهم وكبرائهم (سَخِرُوا مِنْهُ) كانوا يحسبون ذلك عملا لَا ثمرة له فيبني لهم نوح عليه السلام نتيجة ما يفعلون ويقول لهم:(7/3708)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
(فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
وكلمة (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) في قوله تعالى لتحقيق العلم لأنه سيكون علم معانيه لَا علم إخبار.
(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)(7/3708)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
أمر اللَّه تعالى هو الأمر الكوني وهو الغرق، والنجاة لمن نجا عليها، (وَفَارَ التَّنُّورُ)، التنور مكان النار، وقالوا في تصوير ذلك إن كل جزء من الأرض صار فيه تنور يفور منه الماء وكانت العجزة أن يخرج الماء من التنور ويصير غرقا.
وعلى ذلك يكون التنور في الأرض ليكون منه الغرق، وليس التنور في السفينة أي أن التنور لما فار ووجدت أسباب الغرق أمر اللَّه نوحا وقد استعدت السفينة للسير أن يحمل فيها من كل حي زوجين اثنين ليكون التوالد في الحيوان والنبات بشكل عام.
وقد عرض لي خاطر أذكره وهو أن التنور في السفينة، وأنه فار وخرج منه بخار حرك السفينة للسير، فهي قد سارت بالبخار لَا بالتجديف أو الرياح، إذ لم يذكر هنا ولكن ذكر فقط التنور وفورانه. وقد يقال إن البخار لم يكن قد اخترع، وما اكتشف إلا في القرن التاسع عشر، حيث سارت به القطر والسفن.
نقول في الجواب على ذلك بأن صنع السفينة قال فيه اللَّه تعالى:
(وَاصْنعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) فالسفينة كانت تصنع تحت رعايه اللَّه ووحيه فهل يعجز سبحانه عن تسييرها بالبخار الذي جعل سبحانه العقل البشري يتوصل إليه بعد ألوف السنين، إن هذا هو ظاهر الآية.
أولا: لأن ظاهر الآية يدل على أن ذلك كان عند تمام صنعها.
ثانيا: أنه جاء مقترنا للأمر بحمل زوجين اثنين من كل الأحياء.
ثالثا: أنه لم يكن ثمة ذكر للأرض ولكن ذكر للسفينة، فالتنور فيها، وليس معنى ذلك بالفعل أن السفينة فارت بالماء الغرق، إنما فارت بالماء المسير.
إن ذلك الخاطر استمر يطرق أبواب التفكير حتى آمنا به، واللَّه أعلم بالصواب. بعد أن أعدت السفينة تحت رعاية اللَّه وكلاءته، وصنعت بوحي في تركيبها جزءا جزءًا، وما كان نوح صانع سفن، ولكن كان نبيا مرسلا موحًى إليه،(7/3709)
فكانت صناعتها معجزة، وإغراقهم معجزة، ونجاة من نجا معجزة وكل ذلك صار مرئيا للعيان.
حمل نوح عليه السلام. من كل زوجين اثنين وحمل أهله، إلا من سبق عليه القول منهم وهو ابنه، وحمل من آمن، وذكر سبحانه أن الذين آمنوا كانوا عددًا قليلًا.
وقد ذكر في الأخبار أن السفينة كانت ضخمة كأنها مدينة تسير في البحر، وروي أن طولها مائتا ذراع وألف، وعرضها ستمائة ذراع وارتفاعها ثلاثون، واللَّه أعلم، وبعد صنعها أمر نوح بتكليف من ربه بأن يركبوا.(7/3710)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
(وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
ركب نوح وما معه وأهله، ومن معه ممن آمن واتبعه، ومن بعد ركوبهم كان الغرق بالماء الذي جاءهم من حيث لَا يحسبون، جاءهم الماء من السماء والأرض، جاءهم من السماء فانهمر المطر، وجاء منِ عيون الأرض كما ذكر سبحانه في سورة القمر: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14).
وهكذا نجد مجموع آيات القرآن الكريم فيها القصة كاملة، لكن كل جزء ذكر في موضع عبرته، ولا تكاد نجد تكرارًا، إنه كلام العزيز الحميد الذي أحاط بكل شيء علما.
(بِسئم اللَّه مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) أي بسم الله تعالى من وقت جريها إلى وقت رسوها، وهناك قراءة (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رحِيِمٌ) يغفر الذنوب لعباده المؤمنين برحمته، ثم وصف حال الفلك فقال تعالى:(7/3710)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42)
(وهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي(7/3710)
مَوْجٍ كَالْجِبَالِ (42)
أي إن الماء ارتفع وكثر حتى علا موجه واصطفق، وشبه الموج بالجبال لارتفاعه وصعوبة اختراقه.
وهنا تحركت عاطفة الأبوة الفطرية في نفس نوح، والفطرة السليمة تتحرك فيها العواطف الإنسانية، فنادى على ابنه خشية الغرق، وقد عزل نفسه عن أبيه الداعي إلى الحق وهذا معنى (فِي معْزِلٍ) أي مكان معزول عن أبيه لكفره، أو عن القوم فرارا بنفسه ولكن لَا فرار من قضاء اللَّه المحتوم، فقال مغرورا مخدوعا غير مقدر أن العذاب نازل لَا محالة.(7/3711)
قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
(قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
يعصمني من الماء أي يمنعني من الماء فلا يغرقني، قال نوح الذي يعلم من اللَّه أنه الهلاك المدمر (لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ) وهم الذين نجوا في السفينة مع أبيك وأهلك ومن تبعه.
وكان الموج الشديد الهائل كالجبال الذي حال بين نوح عليه السلام وابنه، وكان من المغرقين لأنه رضي أن يكون مع الكافرين تناله مما نالهم مع أنه ابن نوح، فليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يُرى.
بعد أن غرقوا ولم يبق منهم ديَّار جزاء ما اقترفوا وأشركوا، رفع اللَّه الماء الذي كان إهلاكا لهم.(7/3711)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
(وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
في قوله تعالى: (وَقيلَ يَا أَرْضُ) القول تكويني، وكان الفعل بالنداء لغير المعلوم، لمعرفة من ينادى بالتكوين جل جلاله، ولأنه في المظهر غاض الماء من ذات نفسه، وهو يأمر اللَّه تعالى: (ابْلَعِي مَاءَكِ) فالأرض ابتلعت الماء الذي ملأها(7/3711)
بعيونها، ومن المطر المنهمر، (وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي) وأقلعي أي أوقفي ماءك المنهمر، (وَغِيضَ الْمَاءُ) أي نقص بعد أن تمت المعجزة ونزلت آية اللَّه تعالى في القوم الكافرين وقُضي الأمر أي أنجز اللَّه وعده بإهلاكه، (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) الضمير يعود إلى سفينته، و (الْجُودِيِّ) جبل، (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) بمعنى استقرت بجوار ذلك الجبل وكأنه منع استمرار سيرها. (وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي إبعادا وطردا وهلاكا للقوم الظالمين الذين اجتمعوا على الظلم، وتناصروا فيه، وبعد أن انتهى الأمر عاود نوحًا عليه السلام كشأن الآباء حنينُه وإشفاقُه على ابنه فنادى ربه مناجيا.(7/3712)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
(وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
إذ وعده اللَّه تعالى أنه ناج هو وأهله، فقال له ربه نافيًا دخول ابنه في أهله فلا يكون داخلا في الوعد بالنجاة.(7/3712)
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
(قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
إنه في ذاته عمل غير صالح، فشاقك وترك صفَّك وكان في صف المشركين، وهناك قراءة بكسر الميم في كلمة (عَمَلٌ) على أنه فعَل وبفتح الراء في كلمة (غَيْر) فيكون اللفظ " عمِل غيرَ صالح " (1) ذلك بانضمامه إلى صفوف المعاندين، ويكون في التقدير على القراءة الأولى أنه ذاته صار كأنه عمل غير صالح، وهي أبلغ في الدلالة على فساده من القراءة الثانية، وقد عاتبه اللَّه تعالى: (فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، (الفاء) لترتيب ما قبلها على ما بعدها، فترتب على كونه عمل غير صالح وعَدَّه نوح من أهله - ذلك
________
(1) (عَمِلَ غيرَ) قراءة يعقوب والكسائي، وقرأ الباقون (عَمَلٌ غَيْرُ). غاية الاختصار (1011).(7/3712)
العتاب، وفي كلمة: (فَلَا تَسْأَلْنِ) النون نون التوكيد الخفيفة المؤكدة للطلب، ثم أكد العتب بذكر علته: (أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أي أبصرك كراهة أن تكون من الجاهلين بأن الولاية مقطوعة بين المؤمن والكافر.
بعد هذا التنبيه الرقيق العاتب أدرك نوح خطأ موقفه فقال مناجيا ربه (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ... (47)
أي إني ألجأ إليك سبحانك أن تعيننى ألا أسألك ما ليس لي به علم وأستعينك يا رب العالمين أن يقع منى في المستقبل سؤال لك فيما ليس لي به علم، وما هو من تقديرك وتدبيرك في أن الحق أولى من الآباء والأبناء وكان هذا عن المستقبل، أما عن الماضي فقال،(7/3713)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
(وإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ) أي إن كنت سبحانك لَا تغفر لي هذا الخطأ برحمة منك أكن من الذين خسروا، وليس معنى ذلك أن نوحا وقع في ذنب يحتاج إلى الغفران، إنما هو لإحساسه بجلال اللَّه، وقدره وعظم سمو أوامره ونواهيه، فقد ظن أنه ارتكب ذنبا، وما هو بذلك، أو أنه ارتكب في جنب اللَّه ما حسبه خطيئة، وما هو من ذلك في شيء، وهذا ما يسميه علماء الصوفية " حسنات الأبرار سيئات المقربين "، ولقد أقر اللَّه قلب نوح وأوحى إليه أن يهبط من السفينة بسلام ولذا قال تعالى:(7/3713)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
(قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
القائل معلوم وإن بُني الفعل لغير المعلوم، (اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا) أنزل من السفينة مصحوبا بسلام وأمن من اللَّه، (وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ)، وجعل سبحانه منهم أمما مع أنهم عشرات أو على الأكثر مئات، ذلك لأنهم آباء لجماعات مؤمنة طاهرة أي ستكون منهم ذرية طاهرة، (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَ يمسُّهم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ)، أي سيكون ممن معك أمم صالحة وأخرى ظالمة، والخلاصة أن الأمم الذين يجيئون ممن معك، على بعضهم بركات، ولبعضهم عذاب أليم.
* * *(7/3713)
العبرة في القصة
قال تعالى:(7/3714)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
(تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
* * *
الإشارة إلى القصص الحكيم من قصة نوح عليه السلام، وهي أنباء عظيمة أي أخبار ذات شأن وخطر، وقوله تعالى: (مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلا قَوْمُكَ مِن قبْلِ هَذَا) لأنهم كانوا أميين ليس عندهم من يدرس، ولا عندهم كتب تكتب، ولم يكونوا أهل كتاب نزل فيها كالتوراة والإنجيل يعلمون علم النبوات منه قبل هذا، وقد علمت ما في هذه الأنباء من عبر وكيف جاهد نوح في الدعوة إلى اللَّه، وكيف عانده قومه وكيف عابوا دعوته كما عاب قومك دعوتك، وأن الذين ابتدءوا بالاستجابة هم الضعفاء من عبيد وفقراء، وكيف كانت آية اللَّه بالفلك المشحون، وانهمار الماء من السماء، وتفجير الأرض عيونا، حتى كان الغرق وسارت السفينة في موج كالجبال وكذلك كان عاقبة المكذبين.
(فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، إذ ترتب على القصص الحق وما فيه من معاندة الكافرين ونزول آية اللَّه فيهم بالإغراق - الأمر بالصبر حتى يرى آية اللَّه في المشركين من قريش، وإنها آتية لَا محالة، وإن كانت المجاهدة حتى صارت كلمة اللَّه هي العليا. وفي قوله تعالى: (الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ) إشارة إلى أن التقوى هي السبب في حسن العاقبة، والنصر المبين لمن خاف واتقى، والخزي لمن ضل وشقي. وفي الآيات إشارة لأمرين:
الأمر الأول: الصبر وألا يأخذه ما هم عليه من مظاهر القوة والغرور.(7/3714)
الأمر الثاني: ما في القرآن من إعجاز إذ يأتي من أخبار الغيب ما يجتاز مجاهل التاريخ حتى تتبين الحقيقة نيرة بينة يوافقها الصادق الباقي على صدقه مما جاء في التوراة.
* * *
هود وقومه
قال اللَّه تعالى:
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ(7/3715)
رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
* * *(7/3716)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
نجد الدعوة إلى التوحيد كما دعيت إليه قريش، وناوءوا هودا كما ناوءت قريش، وصابرهم كما يصابرهم، ولما أصروا على الشرك والإيذاء أنزل اللَّه عليهم ما دمرهم.
ناداهم هود بما يقربهم إليه (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهُ) أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا ووضح ذلك بقوله: (مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) أي ما لكم أيَّ إله غيره فكلمة (مِّنْ) لاستغراق النفي وشموله؛ لأن الألوهية تقتضي الانفراد بالخلق والتدبير، وأن يكون المعبود واحدا في ذاته وصفاته ليس كمثله شيء، وقد كانوا يعرفون ذلك، فكيف يكون غيره، ولكنهم فعلوا غير المعقول وغير ما يوجبه العقل السليم، ولذا قال: (إِن أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ) وكلمة (إِنْ) نافية ثم جاء بعدها الإثبات بكلمة (إِلَّا) أي أنتم مقصورون على الافتراء والكذب المقصود بعبادتكم أوثانا لَا تضر ولا تنفع ولا تتكلم ولا تتحرك.(7/3716)
وإنه في هذه الدعوة لَا يريد مالا ولا سلطانا أو جاها يكون أجرا على دعوته ولذا قال تعالى عن هود:(7/3717)
يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
(يَا قَوْمِ لَا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) أي عرض من أعراض الدنيا، ولا أجر لي إلا الجزاء من اللَّه على القيام بواجب إرشادكم وهدايتكم، وقال في ذلك: (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذي فَطَرَنِي) أي خلقني على الفطرة السليمة المستقيمة غير الملتوية، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) يدعوهم إلى التدبر و (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهو أن حالهم أوجبت تنبيههم إلى أن ما هم فيه يجب أن يتدبروه؛ لأنه غير معقول في ذاته إذ كيف يعبدون ما لَا ينفع ولا يضر وهو حجر لَا ينطق ولا يعقل، ويناديهم بعد ذلك نداء المحبة التي يريد بها النفع فيقول(7/3717)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
(وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي اطلبوا الغفران، لأن تعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا، وعبر بـ " ربكم " للإشارة إلى ما يبعثهم على عبادته، وهو أنه الذي خلقهم وربَّهُم ودبر أمورهم بحكمته وإرادته.
ويبين سبحانه ما يترتب على الاستغفار، وهو ذاته مما يوجب العبادة فقال تعالى: (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا)، المراد المطر، وعبر عنه بمكان نزوله من قبيل (إطلاق المحل وإرادة الحالّ)، ومدرارا أي كثيرا، ينبت به زرعكم ويكون قوام حيازكم، وفي ذلك الخير فائدتان:
الفائدة الأولى: أن القرب إلى اللَّه وعبادته الخالصة يبسط اللَّه بهما الرزق، كما قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96). الفائدة الثانية: تذكيرهم بنعم اللَّه تعالى عليهم وهى توجب أن يؤمنوا بدل أن يشركوا ويقول سبحانه على لسان نبيه هود (ويزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ) أي يزيدكم قوة مضمومة إلى قوتكم، فشكر النعمة يزيدها (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ(7/3717)
لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ). فالقوة نعمة فاشكروها تزدادوا قوة إلى قوتكم. وينهاهم عن الفساد والإجرام بهذه القوة التي إن لم تُشكر كانت سببًا للإجرام، ولذا قال لهم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - (وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) أي لَا تتولوا حال كونكم بهذه القوة فتكونوا قوما مجرمين.
وقد أجابوا هذه الدعوة الرشيدة الحبيبة، الرقيقة القوية العميقة بالرفض القاطع فطالبوا بعد الرفض بالبينة، أي الدليل الملزم، وكان هذا غريبا بعد الرفض كالقاضي الذي يرفض الدعوى ثم يطالب بالدليل.(7/3718)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
(قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
هي أقوال ثلاثة رافضة:
أولها: ادعاؤهم أنه لم يأتهم ببينة أي بدليل يدل على رسالته، وهم بذلك يمضون في عنادهم غير معترفين بما جاءهم من معجزات هي علامة قاطعة.
ثانيها: أنهم ينفون إجابته نفيا لازما قاطعا لَا يترددون فيه قائلين: (وما نَحْن تارِكِي آلِهَتِنَا) عن قولك ويردون النفي بإضافة الآلهة إليهم كأنهم منها وهي ثالثها: أنهم لَا يؤمنون بالحق إذ جاء، ولذا قال كما حكى اللَّه تعالى عنهم:
(وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِين) أي وما نحن بمؤمنين استجابة لك، وقدم (لَكَ) للإشارة إلى اختصاص الكفر به وعدم التسليم، في مقابل إيمانهم بما آمن به آباؤهم وقد تأكد النفي بالباء في قوله (بِمُؤْمِنِينَ).
وقد اتهموه بأنه قد اعتراه بعض آلهتهم بسوء، أي اتهموا عقله وأن يكون به مس من الجن، كما قالت قريش للنبي - صلى الله عليه وسلم -، إذا كان هو رئيا قد جاءك التمسنا لك الطب، وقال أولئك:(7/3718)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ ... (54)
أي إن الحال أن بعض آلهتنا أنزل بك سوءا فقلت ما قلت.(7/3718)
(إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54).
ولكن هودا عليه السلام يصابرهم، ويلين بالقول معهم، فلما طمعوا أن يمنعوه أو يجروه إليهم قال لهم قولا جازما: (إِنِّي أشْهِدُ اللَّهَ) أي أجعله شهيدًا على ما أقول أي إني بريء من شرككم، فكلمة (مِمَّا) وما بعدها من الفعل مصدر، وأكد براءته في الشرك بـ (أن) في كلمة (أَنِّي) وبالجملة الاسمية، والتعبير بالفعل لتصوير حالهم القبيحة وهم يشركون باللَّه تعالى رب العالمين.
إنه إذ يبرأ منهم ومن إشراكهم، يعتمد على اللَّه تعالى خالقهم فيقول:(7/3719)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
(فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
أي فكيدوني مجتمعين غير متفرقين، ودبروا لي ما هو إيذاء وكيد وتدبير خبيث لي: (ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ) أي لَا تؤجلون، والتعبير بـ (ثُمَّ) هنا يافيد أن يكيدوا غاية الكيد وأبعده، وأن يتدبروا أبعد التدبير ولا يؤجلونه.
ويفشل تدبيرهم لأن قوتهم لَا تقف أمام قوة اللَّه وتدبيره، وأكد هذا سبحانه وتعالى:(7/3719)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) أي اعتمدت عليه سبحانه فهو يحميني بحكمته وتقديره وتدبيره وهو ربِّي وربكم، يعرف طاقتكم وما عندكم من قوة وتدبير، وإنه بلا ريب ضعيف بجوار تدبيره، وقاض عليه سبحانه، وأكد ذلك قوله تعالى: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) أي قادر عليها متمكن من أمرها، وفى قوله تعالى: (آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) أي قادر عليها متمكن من أمرها، وفي قوله تعالى: (آخِذٌ) تمثيل لقوته تعالى وسيطرته وأنه آخذ بناصية خلقه لَا يتمكن أحد من البعد عن قبضته، ثم بين لهم أن طريق اللَّه هي الطريق فقال: (إنَّ رَبِّي عَلَى(7/3719)
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي إن ربي ممسك الطريق المستقيم متمكن به، وأم ما يدعو إليه هود هو الصراط المستقيم كقوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ. . .).
وقد أبلغ هود رسالة ربه وحسبه ذلك، ولم يبق إلا أن ينزل بهم ما استعجلوه ولذا قال تعالى:(7/3720)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
أبلغ هود رسالته في بيان ورفق، ولم يكن رفقه ضعفا في جنب اللَّه، ولكنهم أصروا على الكفر والعصيان واستعجلوا العذاب الذي كان يذكرهم به أثناء تبليغ رسالة ربه، عندئذ ذكرهم بعاقبة أمرهم، فقال تعالى مخبرًا عنه: (فَإِن تَوَلًوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ)، (تَوَلَّوْا) فعل مضارع حذفت فيه تاء، أي فإن تتولوا بأن تعرضوا فقد أبلغتكم رسالة ربي الذي رباني وخلقني، ولم يبق بعد الرسالة إلا أن ينزل بكم ما أنذركم به وهو عذاب محيط مدمر، ولذا قال تعالى فيه:
(وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ) أي بعد إزالتكم من الأرض، ولا تضرونه شيئا بزوالكم وذهاب جمعكم لأنه لَا يحتاج إلى خلقه وهم يحتاجون إليه.
(إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)، أي رقيب لَا تخفى عليه أعمالكم
ويجازيكم عليها حق الجزاء وهو حفيظ على كل شيء، لَا يمكن أن يضره شيء، وهو فوق كل شيء وعلى كل شيء قدير.(7/3720)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
(وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58)
بين سبحانه نزول العقاب بالكافرين ونجاة المؤمنين برحمة كريمة منه، وحسبها شرفا أنها من رب العالين، وبين سبحانه أن النجاة كانت عظيمة؛ لأنها نجاة من عذاب شديد، كما بين سبحانه أن العذاب غليظ أي شديد لَا رفق فيه؛(7/3720)
لأنه لَا رفق مع ظالم؛ لأن الرفق بالظالم عنف بالمظلوم، ولم يذكر في هذه الآية نوع العذاب، وقد ذكر في آيات أخرى أنه عذاب بريح السَّموم، وقد جاء ذكره في
سورة الأحقاف: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24).(7/3721)
وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
(وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
أشار اللَّه تعالى إلى العبرة من عاد، كانت أقوى للعرب في أزمانها، وكانت منهم آفات ثلاث، أنهم جحدوا بآيات ربهم أي أنكروا دلالتها، وعصوا الرسل، واتبعوا الجبابرة في غيهم وطغيانهم.
(وَتِلْكَ) الإشارة إلى الذين تضمنت الأخبار السابقة ذكرهم، وكانت الإشارة إلى عاد لقوتها وطاغوتها وتمردها ومآل أمرها ولما فيها من عبرة، وأنبأت أخبارهم عن موطن الاعتبار، وهو طغيانهم ثم نزول العقاب بهم من غير هوادة لإنكارمم الآيات وعصيانهم الرسل، وقد استهوتهم القوة الظاهرة للجبارين في الأرض الذين عاندوا في الحق وتحدوا اللَّه ورسوله المبعوث لهم رحمة بهم. وقال تعالى في عذابهم عند الهلاك الذي اجتثهم من الأرض:(7/3721)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
(وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
أي أنهم قد والاهم غضب اللَّه تعالى، ومعنى (أُتْبِعُوا) أي أتبعهم اللَّه، ولعنته سخطه وطردهم من رحمته في هذه الدنيا، وكان مظهر اللعنة ما نزل بهم من عقاب قطع دابرهم، وتسجيل إثمهم وطغيانهم وما أحسوا به في ذات أنفسهم، وخروجهم عن سنن الفطرة والاتجاه إلى الأذى والإيذاء، ولعنتهم في الآخرة العذاب في الجحيم، وأن الله لَا ينظر إليهم ولا يكلمهم (أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ) أي ألا طردا من رحمة اللَّه تعالى وهلاكا لهم مع هذا الطرد والإبعاد. وذكر سبحانه أنهم قوم للإشارة إلى مظهر كفرهم وعنادهم برسولهم الذي هو منهم وهم قومه وكان جديرا بهم أن يؤمنوا ولكنهم كفروا وطغوا.
* * *(7/3721)
صالح وثمود
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
* * *(7/3722)
قال تعالى:(7/3723)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
العطف في هذا الموضع على ما سبق في قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا. . .).
فالمعنى أن اللَّه سبحانه وتعالى أرسل نوحا ومن بعده هودا وإن لم يتعاقبا، ومن بعدهما صالحا إلى ثمود.
وكانت دعوته الأولى هي التوحيد، لب الرسالات السماوية ومجتمعها والمشترك فيها جميعا (قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ) حق عبادته لَا تشركوا معه أحدا ولا حجرا ولذا قال سبحانه في تفسير معنى عبادته (مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) ثم آخذ يجري على لسان نبيه أسباب الألوهية له ونفيها عن غيره فقال: (هُوَ أَنشَأَكم مِّنَ الأَرْضِ) أي خلقكم من الطين، (واسْتَعْمَرَكمْ فِيهَا) أي جعلكم تعمرونها فتنشئون فيها المباني والحدائق الغناء، والسين والتاء في كلمة (اسْتَعْمَرَكمْ) معناهما التكليف لعباده أن يعمروها فهو سبحانه مظهرهم على ما جعلهم يسخرون السماوات والأرض بما قدره تعالى لهم.
ثم يقول صالح (فَاسْتَغْفِرُوهُ) أي اطلبوا غفرانه بأن يستر ما ارتكبتم من ذنوب وينشئكم نشأة طاهرة طيبة، وبعد الاستغفار توبوا إليه (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) أي ارجعوا إليه بعد أن بعدتم عنه بالشرك، وعبر بكلمة (ثُمَّ) للدلالة على بعد حالهم في الانتقال من الاستغفار إلى الرجوع إلى اللَّه تعالى؛ لأن الاستغفار طلب محو الذنوب أو سترها، وتلك أول خطوة في ترك الكفر والشرك، وتعلوها مرتبة الاتصال باللَّه لقبول التوبة، ولذا قال تعالى على لسان نبيه بعد (إِنَ رَبِّي قَرِيبٌ مجِيبٌ) وهذا إدناء إلى التوبة وتقريب لها، أي أن اللَّه تعالى في عليائه قريب إلى النفوس التائبة محب للدعاء والرجوع إليه، وذلك رد على أوهامهم التي يقولون(7/3723)
فيها أنهم شفعاؤنا عند اللَّه، وقولهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّه زلفى، فصالح يقول لهم: (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مجِيب) فلا حاجة إلى شفاعة الشافعين، إن كان يتصور أن يكون في هذه الحجارة شفاعة. وفي قوله تعالى: (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيب) إشارات بيانية منها تأكيد القول بالجملة الاسمية وبكلمة " إن ".
وفيها التعبير (رَبِّي) وذلك يفيد أنه مربيه ومُنشؤه، ومربيهم ومُنشؤهم فكيف لَا يكون قريبا منهم وهو الحي القيوم في السماوات والأرض.
ومنها ذكر كلمة (مُّجِيبٌ) وفيه إشارة إلى أنه سبحانه هو الذي يدعى فيجيب لَا تلك الأحجار التي لَا تضر ولا تنفع فلا تجيب دعاء ولا تسمع نداء، وماذا كانت إجابة قومه إلى تلك الدعوة الحق.(7/3724)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
(قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
كان صالح معروفا قبل الرسالة بالكمال الإنساني، كما كان محمد - صلى الله عليه وسلم - معروفا بأنه الصادق الأمين (مرْجُوًّا) مرجو خيره غير مذموم، وقولهم: (قَدْ كنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا) أي كنت فينا مرجو الخير محمود الخصال والفعال، وكأنهم يحسبون أنه ينبغي أن يفعل ما هو على هواهم ويردد مقالاتهم ويعبد ما يعبدون.
ويثيرون العجب فيقولون: (أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) فهم يستنكرون دعوته، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، وهو أنه فعلا ينهاهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم، وليست عبادة آلهتهم حجة مسوغة لهم؛ فآباؤهم كانوا لَا يعقلون شيئا ولا يهتدون. (أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُد مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا) فالشك هو عدم التصديق بما يقول والتظن في صدقه، فهم يشكون فيما يدعو إليه من التوحيد وهجر عبادة الأوثان لأنها أحجار لَا تضر ولا تنفع، وإن هذا الشك يوقعهم في الريب، أي أن شكهم في صدق ما يدعوهم إليه يوقعهم في حال الريب فلا يؤمنون بقوله ويكونون في حال من الاضطراب.(7/3724)
ثم قال لهم صالح:(7/3725)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
التخسير مصدر كلمة " خسَّر " أي تضعيف الخسارة، وذلك أنهم بردهم لدعوته ومحاولة أن يكون معهم ويتبع ما كان عليه آباؤهم، يجعلون الخسارة مضاعفة له بردهم دعوته وعصيانه للَّه تعالى إن لم يبلغ دعوته.
وهو سبحانه ينقل قوله لهم فيقول تعالى عنه: (أَرَأَيْتمْ) الاستفهام للتنبيه والتقرير، والمعنى لقد رأيتم وعلمتم هذه الحال التي أكون عليها، (إِن كنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي) أي بصيرة وإدراك وحجة بينة واضحة بعبادته وحده، (وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً) وهي الرسالة التي كان اصطفائي بها رحمة بي ورحمة بكم، فإذا عصيته بعدم تبليغها واتباع أهوائكم (فَمَن يَنصُرنِي) أي يعصمنِي من اللَّه إن عصيته بالامتناع عن التبليغ واتباع ما تدعونني إليه، (فَمَا تَزِيدُوننِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ) أي فإنكم بهذا لَا تزيدوني غير خسارة مضاعفة بكفركم وعدم استجابتكم، وبامتناعي عن التبليغ ثم باتباعي أهوائكم، وتلك خسارة مضاعفة، بعد هذا ذكر لهم المعجزة، وقد كانوا في الصحراء وسفينتهم فيها الناقة تقطع الفيافي والقفار في صبر ووداعة وأناة فكانت المعجزة من جنسها، ناقة لها خواص ليست لكل صواحبها تجعلها غير مشابهة لهم، وهي آية لهم ونذير، إن اعتدوا عليها، وجعل لها شِرب أي ماء، غير شِرب سائر النوق، فقال لهم عليه السلام فيما قصَّ اللَّه تعالى:(7/3725)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
(وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
نسب صالح الناقة إلى اللَّه مع أن كل شيء من المخلوقات منسوب إلى اللَّه، ولكن اللَّه تعالى اختارها لتكون معجزة صالح عليه السلام، كان ذلك له فضل اختصاص في النسبة إلى اللَّه تعالى.(7/3725)
وقوله (آيةً) فهو أي معجزة دالة على رسالة صالح، (فَذَرُوهَا تَأْكل فِي أَرضِ اللَّهِ) (الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر دلت عليه الجملة قبلها، أي إذا كانت آية الله لنبيه فاتركوها تأكل في الكلأ المباح في أرض الله تعالى، ولا تمسوها بأي أمر يسوء في ذاته وعاقبته، وبسببه يأخذكم عذاب واقع لَا محالة، ولذا قال لهم (وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ)، (الفاء) للسببية، ووصف العذاب بالقريب للدلالة على وقوعه لَا محالة وأنه يجيئكم في أقرب وقت، وفي التعبير (فَيَأْخُذَكُمْ) إشارة إلى أنه يأخذهم من مأمنهم إلى حيث الهلاك والدمار.
ولكنهم لم يكترثوا لتحذير نبيهم فعقروها استهانة منهم بتحذيره(7/3726)
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
(فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
فقال لهم الرسول صالح عليه السلام: ابقوا متمتعين في داركم ثلاثة أيام، وهي لتطبيق القرب الذي أنذرهم به، وليعايشوا جريمتهم، ثم أكد نزوله بعد هذه المدة القصيرة فقال: ذلك وعد من الله تعالى صادق غير مكذوب، وهو متحقق لَا محالة.
بعد ذلك نزلت آية الله تعالى بالعذاب المهلك الذي اختص الله به الذين كفروا فقال سبحانه:(7/3726)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
(فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
فلما جاء أمرنا أي بعد الأيام الثلاثة، وهو الهلاك المدمر نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا، أي برحمة أرادها الله تعالى وكانت هبة للذين آمنوا جزاء بما كانوا يعملون، نجوا بها من خزي يومئذ، أي هذا اليوم.
(وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)(7/3726)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67)
(جَاثِمِينَ) أي ساقطين على وجوههم، والصيحة عبر عنها في سورة الأعراف بالرجفة، ويبدو أن هذه كانت من صاعقة رجت الأرض رجا فرجفت واهتزت بما أذهب ألبابهم ثم أجامهم فسقطوا منكسين جاثمين. كان ذلك بعد مرور أيام التمتع الثلاثة التي أنذروا بها، ثم بين سبحانه أنهم ذهبوا بغلوائهم وطغوائهم ونهجهم،(7/3727)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
(كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا) أي كأن لم يقيموا فيها غناء واستعلاء وكبرياء، ظانين أنهم استغنوا بأصنامهم عن كل شيء. (إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهم) أي أنكروه وجحدوه، ولذا عبر عن نفسه سبحانه وتعالى من غير الباء، وكأن العابد للصنم متذكر للَّه تعالى ولو ادعى أنه يؤمن بأنه الخالق وحده، وأنه واحد فى ذاته وصفاته، (أَلا بُعْدًا لِّثَمُودَ) (أَلَا) للتنبيه، و (بُعْدًا) معناها طردًا وإهلاكًا؛ لأن البعد عن رحمة اللَّه تعالى هلاك وإهلاك.
* * *
إبراهيم ولوط
(وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)(7/3727)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
* * *
قال تعالى:
(وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)(7/3728)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
جمع اللَّه تعالى قصة إبراهيم ولوط في موضع واحد؛ لأنهما كانا في زمن واحد، ولا مانع من أن يوجد نبيان في زمن إذا تباعد الإقليمان، وقد يكونان في زمن وإقليم واحد كما في خطاب قوم إسرائيل، ومجادلة طاغية كفرعون، وإن كان أحدهما رسولاً والآخر ردئا له.
وفى القصة التي جمعت بين إبراهيم ولوط عبر نذكر بعضها قبل التصدي لذكر ما جاء في هذا الوضع، منها إثبات أن الله هو الفاعل المختار المريد الذي لا يتقيد بالأسباب العادية كما نتقيد بها، بل إنه خالق هذه الأسباب يملك تغييرها، وأنه سبحانه وتعالى القادر المريد، فهذه عجوز تجاوزت سن الولادة تحمل وتلد، ومن هذه العبر أن الملائكة أراد اللَّه جعلهم كالأناسي ويلبس الأمر كما لبَّس على إبراهيم عليه السلام إذ أنكرهم لما رأى أيديهم لَا تصل إلى الطعام وأوجس منهم خيفة.
ومنها أن الفواحش تفتك بالجماعات وتذهب قوتها وتعدها للفناء، كما في شأن قوم لوط إذ إن فاحشتهم قطعت نسلهم وأسلمتهم إلى الدمار، ومنها أن كل امرئٍ بما كسب رهين ومعاقب بعمله، فلم يعف امرأة لوط من العذاب أنها امرأته، ولأنها كانت من المفسدين حق عليها ما نزل بهم من العذاب.
ومنها أن آل لوط لم يكونوا عبدة أوثان فقط بل كانوا مع ذلك يأتون الفاحشة التي ما سبقهم بها أحد، يأتون الرجال شهوة - من دون النساء حتى أصبحوا لَا يخرجون من شر إلا إلى شر، فهم في دائرة الفساد المطلق والفاحشة الشنعاء التي هي كرءوس الشياطين من المخنثين ومن يتشبهون بالإناث في ملابسهم وشعورهم بل وفي أفعالهم، وَوُجدَت جماعة تنطلق انطلاقا إلى كل موبق باسم حرية الإرادة وما هي إلا الوقوع في أسر الشهوة ومن ورائها ذلها.
ومنها أن الانطلاق إلى الهوى لَا يرده عقل ولا تدبير ولا حياء بل ولا أي مروءة إنسانية، حتى أنهم عندما رأوا الملائكة، جاءوا إلى لوط عليه السلام(7/3729)
يهرعون، وإنه ليعرض بناته للزواج، فيقولون في تبجح لقد علمت ما لنا في بناتك من حق، وهكذا نرى ممن يشبهونهم في عصرنا.
ولنبدأ بذكر القصة بعد هذا الذي أدركناه من عبر، قال تعالى: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)، حيوه بالسلام، وهو مصدر لفعل محذوف أي " نُسَلِّمُ سلامًا "، وقد كانت هذه تحية فردها بأحسن منها فقال (سَلامٌ) أي أمري كله سلام، وأتم التحية بكرم الضيافة الذي امتاز به أبو العرب إبراهيم بأن أعد الطعام الشهي المشوي (فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنيذٍ) (الفاء) للعطف الدال على الفورية أي ما أبطأ أن جاء بعجل مشوي: يقال حنذ الشاه أي شواها. ونلاحظ هنا أن اللَّه سبحانه وتعالى قد صدر القصة بقوله: (وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا) وكلمة (قد) مؤكدة للخبر؛ وأكد الخبر لأن فيه غرابة وهي مجيء الملائكة إلى الأرض (رُسُلُنَا) تكريما وتشريفا وتعظيما.
وقال (بِالْبُشْرَى) أن مصاحبة لهم البشرى بولد لإبراهيم عليه السلام الذي قدم لهم من الطعام ما ينبئ عن الكرم وحسن اللقاء، ولم يجدهم يمدون أيديهم إليه وعبر عن ذلك بقوله تعالى:(7/3730)
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
(فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ ... (70)
مبالغة في الامتناع عن الأكل إذ لم تتحرك أيديهم بل بقيت في مكانها لَا تمتد إليه، ولما رأى ذلك أحس أنهم غرباء عنه، وعن جملة أحاسيسه، إذ إنهم لم يمدوا أيديهم ولم يعتذروا، وعبر اللَّه عن ذلك بقوله تعالى: (نَكِرَهُمْ) وهو بمعنى أنكرهم واستنكر أمرهم، وإن كلمة (نَكِرَهُمْ) تدل على ما هو أبلغ من الإنكار والاستنكار، بل تدل مِع ذلك على الوحشة من لقائهم، ولذا قال تعالى بعد ذلك: (وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً)، والإيجاس هو الإدراك بالحس، والخيفة الخوف الشديد الذي يظهر في الهيئة؛ لأن خيفة اسم هيئة من الخوف، أي أدركوا سببا للخوف وظهر الخوف في هيئته عليه السلام، وخيفة في الإعراب تمييز محول من المفعول إلى التمييز، وقد أحس الرسل بهذا فقالوا: (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ) عندئذ اطمأن وقر قراره،(7/3730)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
(وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ) ويقول المفسرون إنها قائمة وراء الستر (فَضَحِكَتْ)(7/3730)
سرورا بزوال الخيفة التي اعترت زوجها؛ ولأنها استأنست بأن هؤلاء سيقضون على أهل الدعارة والفساد، ولأنها كانت خائفة على لوط من قومه أو إذا نزل عذاب يعم قومه. وبعض المفسرين قال إن (ضحكت) معناها حاضت، وعندي أنه إذا جاز ذلك لغويا فإن ظاهر الضحك هو ما يكون بسبب السرور، ولا يخرج اللفظ عن ظاهره إلا لقرينة فإن ادعوا أنها البشرى بغلام فإنها ليست قرينة تخرج اللفظ عن ظاهره وإن البشرى أقرب إلى أن يرجح أن الضحك للسرور وأنها لما ضحكت وسمعها الرسل كانت البشرى.
(وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
وذكر يعقوب بعد إسحاق وهو ابنه للإشارة إلى أنه سيكون من ذريته النبيون فهو أبو الأنبياء من الأسباط وموسى وداود وسليمان وعيسى عليهم جميعا السلام وهي كانت عقيم، أما هاجر كان منها الولد فكانت البشرى داعية سرور وغرابة أما السرور فلهذه البشرى وقت زوال ألم العقم، وأما الغرابة فقد كشفت عنها بقولها:(7/3731)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
(قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)
الاستفهام للعجب، والعجب كان يقوم على أمرين:
الأمر الأول: أنها عجوز قد أدبرت سن الولادة والحمل.
الأمر الثاني: أن زوجها شيخ هرم، وصرخت بالعجب فقالت: إن هذا لشيء عجيب. وقوله تعالى: (يَا وَيْلَتَى) هي للتعجب وتستعمل الكلمة غالبا في العجب من أمر متعجب شاق، وشاع استعماله في العجب، وعندي هنا أنه للأمر الشاق؛ لأن البشرى تحمل في نفسها آلام الحمل والوضع، كما أنها أحست في نفسها بما يتتبع من وهن كما قال سبحانه في ذلك الأمر (. . . حَمَلَتْهُ أمُّهُ وَهْنًا عَلَى وهْنٍ. . .)، رد الملائكة عجبها بقولهم لها.(7/3731)
قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
(قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
هذا استفهام لإنكار العجب لأن ذلك من خوارق العادات والعجب إنما يكون فيما هو من أمر العباد والأسباب الجارية، أما ما يكون من أمر اللَّه فإنه من خالق الأسباب والمسببات، وقوله تعالى: (أَهْلَ الْبَيْتِ) أي بيت النبوة فقد كان بيت إبراهيم عليه السلام مهد الأنبياء الذي كان منه يعقوب والأسباط من بعده، ويوسف وموسى وداوود وسليمان وإل ياسين وعيسى.
(إِنَّهُ حَمِيدٌ مجِيدٌ) الضمير يعود على لفظ الجلالة (حَمِيدٌ) وصف لذات اللَّه بمعنى أنه المحمود الذي يدوم حمده وإنعامه ويحمد لهذا الإنعام، و (مَّجِيدٌ) على وزن فعيل من ماجد لأنه العالي في ذاته وصفاته ومجده سبحانه وتعالى.
كان الاتجاه إلى قوم لوط لينزل بهم ما استعجلوه من عذاب وليكون العقاب الصارم القاطع لفسادهم، المجتث لجمعهم، وإبراهيم الحليم أخذ يجادل في قوم لوط، ويظهر أن هذه المجادلة كانت لرجاء إمهالهم وألا يعجل اللَّه تعالى في أن ينزل بهم ما يستحقون، ولذا قال تعالى:(7/3732)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)
(فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
أمران جليلان ألقيا في نفس إبراهيم بالاطمئنان أحدهما: أنه ذهب عنه الروع أي الخوف الذي راعه واسترهبه، والآخر أن جاءته البشرى بولد أخًا لإسماعيل الذي تركه في البرية، فلما كان هذان الأمران أخذ يجادل في إمهال قوم لوط.
(يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) والتعبير بالمضارع لإفادة الاستمرار في المجادلة وحدوثها متجددة وكانت المجادلة لربه، لأن في القوم لوطا النبي وله به قرابة نسب فهو حريص على نجاته شفيقا عليه. وعلل سبحانه تلك المجادلة بوصف إبراهيم(7/3732)
عليه السلام:(7/3733)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
وهي صفات ثلاث من مكارم الأخلاق، ولكن المجرمين من قوم لوط فجروا فارتكبوا فاحشة لم يسبقهم بها أحد من العالمين.
الصفة الأولى: لإبراهيم عليه السلام: الحلم فهو لَا يتعجل العقاب بل يريد للمجرم فرصة للانخلاع من ذنوبه فهو يؤثر السماحة على العقاب.
الصفة الثانية: أنه مرهف الإحساس كثير التأوه من الشعور بالخطأ، وإن لم تكن خطيئة ولا ذنب، ومعاذ اللَّه أن يكون خليل اللَّه تعالى أثيما، وإنما هي قوة الإحساس والخشوع في جنب اللَّه تعالى.
الصفة الثالثة: أنه منيب أي راجع إلى اللَّه تعالى فهو لَا يفترق عن ربه إلا في محبة مُدْنية مقربة.
وإن اللَّه تعالى يأمره بالإعراض عن الدفاع عنهم فلا يصح أن يجادل عن المجرمين ويناديه اللَّه نداء الخليل.(7/3733)
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
(يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
ناداه ربه باسمه تقريبا له، أَعْرِض عن هذا الجدل فإنه لن يغير شيئا، لأنه قد مضت إرادة الله تعالى وأمره بالإهلاك. والتعبير بكلمة (رَبِّكَ) في هذا المقام للإشارة إلى أنه مقتضى الربوبية في أن يؤخذ الظالم بظلمه لأنه لَا يستوي السيئ والبريء، كما لَا يستوي الأعمى والبصير.
وأكد سبحانه أن العذاب نازل بهم لَا محالة (وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) وقد أكد سبحانه نزول العذاب بعدة مؤكدات:
أولها: وصفه بأنه غير مردود.
ثانيها: بالجملة الاسمية.(7/3733)
ثالثها: بإن الدالة على التوكيد.
وهكذا كان العقاب نازلا لَا محالة، ذهب رسل اللَّه تعالى إلى لوط ولم يذكر أنه فوجئ بهم كما فوجئ إبراهيم عليهما السلام، ويظهر أن المفاجأة وقعت ولكن استغني عن ذكرها هنا بذكرها هناك، أو أنه شغل عن المفاجأة برؤيتهم يحال قومه وفسادهم عند لقاء هؤلاء الأطهار، ولذا قال تعالى:(7/3734)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
(وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
جاء رسل الله الملائكة الأطهار في صورة أناسي مشرقة وجوههم متكاملة صورهم، فساء مجيئهم لوطا، إذ هو يعلم من قبل ما عليه قومه من فساد، ولذلك ساءه ذلك المجيء المفاجئ وعبر اللَّه تعالى عن ذلك بكلمة (سِيءَ) بالبناء للمجهول لبيان أنه داخل نفسه السوء من كل ناحية، ثم أردف ذلك بقوله تعالى: (وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا) وكلمة (ذَرْعًا) تمييز محول عن الفاعل، والمعنى ضاق بهم ذرعه أي باعه، وهذا التعبير تصوير لضيقه بصورة حسية كمن يضيق باعه فلا يستطيع أن يتحرك دافعا شرا داهما، (وَقالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ) أي شديد وقد قال الشاعر فيما يدل على الشدة في كلمة (عَصِيبٌ) يوم عصيب يوجب الإبطالا، ولقد جاء في معنى (وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا)، أصله أن يذرع البعير بيديه ذرعا في سيره على قدر سعة خطوه، فإذا حُمِّل أكثر من طوقه ضاق عن ذلك وضعف ومد عنقه فضيق الذرع، فضيق الذرع كناية عن ضيق الصدر، وهذا تخريج آخر، والقرآن الكريم حمال لكل وجوه القول البليغ.
هذا ما كان من أمر نبي اللَّه لوط وقد توقع الشر من قومه، أما ما كان من قومه فقد قال تعالى فيهم:
(وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)(7/3734)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
الإهراع الإسراع في رعدة، وقد جاءوا بهذا الإسراع في رعدة الشهوة الجامحة الفاسدة، ولا يستعمل " يهرع " إلا بالبناء للمجهول، جاءوا مسرعين مهتزين مرتعدين من شدة الفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين، وهم معروفون عند نبي اللَّه لوط عليه السلام بهذه الفاحشة، ولذا قال تعالى: (وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ) أي كانوا مستمرين من قبل على عمل السيئات التي تسيء الإنسانية في ذاتها، وتسيئهم وتسيء مجتمعهم، فأدرك لوط ماذا يريدون، وعرض بناته عليهم ليزوجوهن بدل الاسترسال في هذه الفاحشة التي لَا يرضاها الحيوان لفطرته، ويظهر أنه ألح في العرض وألحوا بالرد وتكاثروا بالفساد فقال (أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رشِيدٌ) بعد أن لجأ إلى مروءتهم إن كان عند مثل هذا الصنف من الناس مروءة أو بقية من إنسانية فقال: (وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي).
قالوا مصرين على سوئهم وقبح فحشهم.(7/3735)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
(قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
قالوا ما لنا في بناتك من حاجة، وعبروا عن هذه الحاجة بكلمة الحق، فقد توهموا لفرط غلبة الشهوة عليهم أن هذا الذي يفعلونه من إثم حق منحه اللَّه لهم، هم ومن يشبههم من جيل هذا الزمان.(7/3735)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
فضاق صدر نبي اللَّه وقد أحسَّ بضعفه أمام قوتهم وكثرتهم وقلة من معه فقال مستيئسًا (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)، أي لو أن لي بدفعكم قوة أردكم بها أو آوي إلى قوي أمتنع به دونكم، وشبه ذلك القوي بالركن من الجبل، ويصح القول (أخرج من هذه الأرض الفاسدة وآوي إلى جبل يعصمني منكم ومن شركم)، وكلمة (لَوْ) للتمني، وفي هذا الاستضعاف الشديد يكون فرج اللَّه، فيجد أنه آوى إلى أعظم ركن وهو ركن اللَّه تعالى، وقد رأى ذلك الركن بجانبه وهم الملائكة.(7/3735)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
(قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
فوجئ لوط، وقد كان في حال ضعف يتمنى النجاة، بقولهم إنا رسل ربك الذي خلقك ورباك وبعثك وهو القوام عليك وعلى الناس أجمعين، وقد أدرك من كونهم رسل اللَّه أنهم جاءوا لعذاب قومه وإنجائه وابتدءوا بذلك.
(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) والإسراء السير ليلا، " بقطع من الليل "، وهو الجزء الذي يكون في منتصف الليل أو قريبا من النصف الأخير حيث يهجعون ويكونون في نوم عميق.
(وَلا يَلْتَفِتْ مِنكمْ أَحَدٌ) أي لَا ينظر وراءه ولا يتخلف لمتاع أو لنحوه مما يشغلكم عن أنفسكم، واستثنيت امرأته، ووصفها اللَّه تعالى في آية أخرى بقوله (. . . إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ)، وإن العذاب نازل بها، كما هو نازل بهم أي أن الحال والشأن يصيبها ما أصابهم، وعبر باسم الفاعل للدلالة على نزوله نزولا مؤكدا بها، وقوله تعالى: (مَا أَصَابَهُمْ) في التعبير بالماضي والعذاب لم يقع بعد لتأكيد الوقوع كقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ. . .).
وقد تعين موعد نزول العذاب وأنه قرب فقالوا: (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) أي أن العذاب نازل بهم في الصباح وإنه لقريب، ومعنى الاستفهام التقرير، إذ هو للنفي وقد دخل على النفي إثبات، وجاء بهذه الصيغة لتأكيد الوقوع وقد أكد بالباء ثم كان العذاب الشديد المبيد، فقال تعالى:
(فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)(7/3736)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)
(جَاءَ أَمْرُنَا) أي أمرنا بالعذاب، (جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا) أي خسفت بهم الأرض فانهد العالي وصار سافلا، وكان العذاب المتلاحق بعد خسف الأرض بهم وابتلاعها لديارهم ما صوره سبحانه وتعالى بقوله: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارةً مِّن سِجِّيلٍ) أي طين متحجر، ولذا عبر عن هذا المطر الحجاري بأنه حجارة من طين.
و (مَنضُودٍ) أي متتابع لم ينقطع.(7/3737)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
(مُسَوَّمَةً) أي معلَّمة كل حجر مُعَلَّم عليه إشارة العذاب، ونرى أنه شبهت الحجارة التي نزلت متتابعة بالمطر الذي ظنوا فيه غيثا فإذا هو العذاب الأليم.
وأشار سبحانه إلى أن ذلك قريب من مشركي مكة لشركهم وكفرهم وعنادهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذا ختم اللَّه تعالى قصة صالح وثمود بقوله: (وَمَا هِيَ مِن الظَّالِمِينَ بِبَعيدٍ) أي أن ذلك ليس ببعيد عن كفار مكة، وأنه يترقبهم مثله إن لم يؤمنوا، وأن في قصص ثمود وعاد وقوم نوح لعبرة لأولي الأبصار.
* * *
مدين وشعيب
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ(7/3737)
نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
* * *
قال تعالى:(7/3738)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
(وَإِلَى مَدْيَنَ) معطوف على ما قبله من قوم صالح، (أَخَاهُمْ شُعَيْبًا) ذكر أنه أخوهم لأن الرسول يكون من قومه، ومن ذؤابتهم، وفي كلمة (وَإِلَى مَدْيَنَ)، الجار والمجرور متعلق بفعل محذوف، أي أرسلنا إلى مدين، لأن عطف النسق يكون على نية تكرار الفاعل.
وقد اتجه شعيب إلى قومه يناديهم بنداء الرابطة الواصلة بينه وبينهم الدالة على المحبة المتبادلة بقوله: (يَا قَوْمِ) ويطلب إليهم الإيمان بوحدانية اللَّه التي تتجلى في عبادته وحده: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) وكلمة (مِنْ)(7/3738)
هنا لاستغراق النفي، أي ما لكم أيَّ إله غيره، أي لَا يوصف بالألوهية غيره؛ لأنه الخالق وحده ولأنه واحد في ذاته وفي صفاته ليس كمثله شيء.
وإذا كان قوم لوط قد اشتهروا بالفاحشة التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين، فقد اشتهر آل مدين بالفساد في البيان والمعاملات والتطفيف في المكيال والميزان، ولذا نهاهم عن التطفيف بعد الأمر بعبادة اللَّه وحده فقال تعالى: (وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْميزَانَ).
وعلل الرسول الكريم نهيه عن ذلك بقو له: (إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ)، أي أراكم في سعة من العيش وعندكم الرزق الوفير، فلستم في فقر يسوِّل لكم أخذ حق غيركم، بل أنتم في سعة من الحلال فلا تمدوا أيديكم إلى الحرام، لكن الطمع يغريكم بأخذ حقوق غيركم، وإنه لَا يردع من كانوا في هذه الحال إلا عذاب يوم القيامة الذي يحيط بكم إحاطة الدائرة تنتقلون فيها من عذاب إلى أشد منه هولا.
وبعد أن نهى عن تطفيف الكيل أمر بالوفاء تأكيدا إليه من حسن التعامل.(7/3739)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
(وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
ناداهم عليه السلام نداء المودة والرغبة في نفعهم فقال: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ) أي أعطوهما لأصحابهما وافيين غير منقوصين، (وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) أي لَا تنقصوهم حقوقهم فإن نقص الحقوق ظلم في ذاته، وهنا انتقال من الخاص إلى العام، فالنهي عن نقص المكيال والميزان نهي عن نقص في الكيل والوزن، أما النهي عن بخس الناس أشياءهم نهي عن كل معاملة فيها أكل مال الغير بالباطل، كالربا والغش والتدليس والخيانة والرشوة والسرقة والاغتصاب وغير ذلك من نقص لأموال الناس وأكل لها بالباطل.
وإن التعامل الآثم واستحلال أخذ الأموال بالباطل، وسيادة الفسوق في المعاملات يؤدي إلى التناحر وتقطيع أواصر المجتمع، ولذا قال معقبا: (وَلا تَعْثَوْا(7/3739)
فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) والعثو تنقيص الحقوق واغتصابها، وكل معاملة فاسدة، وقوله تعالى: (مُفْسِدِينَ) حال من (الواو) والمعنى أنكم في حال هذه المعاملات الفاسقة تكونون قد تلبس بكم الإفساد لأنه مترتب عليها لَا محالة. ثم يقول لهم إن الكسب الحلال الذي يعود لكم من التجارة الرابحة هو أثمن وأبقى فيقول:(7/3740)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
(بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
أي البقية القليلة الحلال التي تفضل لكم من متاجركم ومعاملاتكم هي خير لكم وأثمن لأرزاقكم وأكثر وفرا (إِن كنتُم مُّؤْمِنِينَ)، فإن الإيمان يولد القناعة ويقطع الطمع، ومصارع الرجال تحت بروق المطامع، ولذا قال: (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) حفيظ يحفظهم من غضب اللَّه وظلمهم أنفسهم.
هذه دعوة شعيب تنزيه للنفس عن الشرك وتنزيه من البخس والظلم والطمع فماذا كانت إجابة قومه؟!(7/3740)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
استنكروا دعوته في العبادة وفي إصلاح المعاملات، ولما كان كثير الصلاة والضرعة (قالوا أَصَلاتُكَ تَأمُرُكَ) أي تدفعك لأن تدعونا إلى عبادة اللَّه تعالى وحده وترك عبادة الأوثان، كما يستنكرون دعوته لإصلاح معاملاتهم، وذلك من مبادئ الأخلاق الكريمة.
ثم يقولون: (إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشيدُ)، قال بعض المفسرين إن قولهم هذا كان تهكما عليه، كأنهم يقولون أتحسب نفسك العاقل الرشيد المدرك وحدك وما أنت كذلك.
وإني أرى أنهم قالوا ذلك قاصدين معناه على إدراكهم، ولذا أكدوه بـ (إن) بأن، وباللام، وأنت، و (الْحَلِيمُ): العاقل المدرك، و (الرَّشِيدُ) الذي يدبر أموره على حكم العقل.(7/3740)
وكأنهم يقولون إن مقتضى ما أنت عايه من العقل والرشد والإدراك كان يوجب عليك ألا تنهانا عن أن نترك ما كان يعبد آباؤنا وأن تتركنا على ما ألفنا، وألا تصادر أموالنا أو تنهانا عن طرقنا التي تدار علينا الربح الوفير والخير الكثير، وذلك أشد ما تقع فيه النفس من فساد والعقل من الأهواء، إذ يحسبون الدعوة إلى الخير مما لَا يليق، ويعاود نبي اللَّه إرشادهم.(7/3741)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
بعد أن قالوا للنبي كما فهمنا، إن ما أنت عليه من عقل ورشد يمنعك من دعوتنا إلى ترك ما عليه آباؤنا، وإلى منع متاجرنا، ومكاسبنا، يقول لهم مؤكدا أمورا ثلاثة:
الأمر الأول: أنه على بينة من ربه، وإنه مبعوث لهذه الدعوة، ولذا يقول منبها: (أَرَأَيْتُمْ إِن كنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ من رَّبِّي) وفي قوله: (أَرَأَيْتُمْ) تنبيه الاستفهام فيه للتقرير وإثارة الانتباه الشديد، وقوله: (إِن كنتُ عَلَى بَيّنَةٍ من رَّبِّي) (إنْ) مخففة من نون التوكيد، أي أنه الأمر، والثاني (كنتُ عَلَى بَينَةٍ) أي بيان برسالتي من ربي الذي خلقني ورباني وقام على شئون الوجود.
الأمر الثاني: أن اللَّه رزقه رزقا حسنا طيبا لَا ظلم ولا تطفيف ولا تدليس ولا بخسا للناس بغير حق وأريد منكم رزقا، ولكن أريده رزقا حلالا طيبا، وفي ذلك دعوة إلى القدوة به.
الأمر الثالث: إنه يطبق على نفسه ما يدعوهم إليه فيقول: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ)، أي أن أقصد ما نهيتكم عنه وأنتم مولون، أي إني أبتدئ بالأخذ بالنهي في الأمور التي نهيتكم فلا أنهاكم وأفعل ما أنهاكم عنه، وذلك ليتخذوا منه قدوة طيبة، ولا أخالفكم أي لَا أقصد خلفكم إلى ما نهيتكم،(7/3741)
ثم بين أن ما يدعوهم إليه هو الخير الذي فيه صلاحهم في دنياهم وآخرتهم وإصلاح نفوسهم وجماعتهم، فقال: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) " إن " هنا هي النافية أي ما أريد إلا إصلاحكم في نفوسكم على قدر استطاعتي (مَا اسْتَطَعْتُ)، و (ما) هنا شرطية، أريد الإصلاح إذا استطعته، وما دمت أستطيعه، أو مصدرية منسبكة مع ما بعدها في مصدر أي: إني أريد الإصلاح استطاعتي (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ)، أي اللَّه وحده هو الذي يوصلني إلى الغاية، ويحققها (علَيْهِ تَوَكَّلْتُ) أي توكلت عليه وحده، ولا أتوكل وأعتمد إلا عليه، (وَإلَيْهِ أُنيبُ) أي إليه وحده أرجع، وهو الذي يجزيني على الخير، وفي هذه العبارات الثلاث، تأكيد إرادة إصلاح النفس والجماعة، وتأكيد الاعتماد على اللَّه في النتائج، وتأكيد الرجوع إليه سبحانه.
وقد رأى نبي اللَّه شعيب أنهم شاقوه وصاروا في جانب، وهو في جانب، فقدر أن هذه المجانبة إلى العصيان، وأن يصيبهم نتيجة شقاقهم أن ينزل بهم من العذاب ما نزل بقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، ولوط، ولذا قال شفيقا عليهم رفيقا بهم،(7/3742)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
(وَيَا قَوْمِ) ناداهم المحب الرفيق، (لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
وهذا الكلام فيه تنبيه إلى سوء العاقبة، وبين أيديهم العبر من غيرهم، وهي تستقبلهم في عاقبة أمرهم (لَا يَجْرِمَنَّكُمْ) لَا يحملنكم المُشاقة والمعاندة على استمراركم في العصيان فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح من غرق، وما أصاب قوم هود من ريح صرصر عاتية، وما أصاب قوم صالح من صيحة تتبعها رجفة، وما أصاب قوم لوط، وقال في هذا (وَمَا قَوْم لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ)، بل إن أرضهم تصاقب أرضكم.
وإن شعيبا نبي اللَّه تعالى رفيق بقومه، ينذرهم، ثم يفتح باب التوبة ليدنوا منه، ولا يجافوه، فيقول:(7/3742)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
(وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
يطلب إليهم أن يستغفروا ربهم، بأن يطلبوا مغفرته عما ارتكبوا ويرتكبون من شرك، وسوء في المعاملات، وعسى الله أن يغفر لهم، ثم يتوبوا إليه، أي يرجعوا إليه بعد أن بعدوا، وكانت التوبة بعيدة عن الاستغفار، وكذا عطف بـ (ثُمَّ) للدلالة على عظم ما ارتكبوا، وقبح ما فعلوا، ولكن اللَّه تعالى يغفر، وقد كلل قبوله التوبة، ومغفرته بقوله تعالى: (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) أي إنه بسبب رحمته بخلقه، وقربه منهم بالمودة يغفر لهم، ويقبل توبتهم، فبين شعيب الرفيق باب الرجوع إليه، ويعرفهم أنه قريب من عباده، قيل أن ينزل بهم عقاب يوم شديد.
* * *
لم تنفع العظات، ولم يبق إلا العقاب
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
* * *(7/3743)
بعد هذه العبارات القوية في معناها ومرماها، الرقيقة في مبناها قالوا متحدين شعيبا(7/3744)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
(قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ) أي ما ندرك كثيرا من قولك إدراك فهم، وما ذكروا ذلك ليزدادوا فهما، بل ذكروه مستنكرين لما يريد مستهينين به، وهو يتضمن رفضا لقوله، وإنكارًا لدعوته إلى التوحيد، وحسن المعاملة، والقيام بالعدل فيها وإعطاء كل ذي حق حقه، وكأن المعاملة بالبخس حق لهم، ولذا قالوا متحدين أيضا مهددين: (وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ) أكدوا أنهم يرونه ضعيفا لَا يمتنع عليهم إذا أرادوه بسوء، ولولا جماعتك، أو عصبتك الذين يوالوننا، ولا نريد أن نغاضبهم لرجمناك، أي لقتلناك شر قتلة، وهي القتل رميا بالحجارة حتى تموت: (وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ) أي بمتنع علينا، إن أردناك بسوء، أو أردنا رجمك، ونفوا أنه عزيز عليهم أشد النفي، فأكدوه، بالخطاب وتكراره، وبالباء، وبتقديم (عَلَيْنَا)، وذلك اغترار بقوتهم، وسطوتهم، وتأكيد بأنه في قبضة أيديهم.
ويرد الحليم الرشيد شعيب غير عابئ بتهديدهم معتمدا على ربه، معتزا بعزته:(7/3744)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
(أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) الاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، وفيه تهكم بهم وبغرورهم، والمعنى ليس رهطي أعز عليكم من اللَّه، وإن زعمتم ذلك فأنتم في غرور، وانخداع بأنفسكم، وقوله تعالى: (وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا) أي نسيتم اللَّه ذا العزة والجلال، وحسبتم أن رهطي أعز عليكم من اللَّه، وجعلتم رب العزة والجلالة وراءكم ظهريا وهذا تعبير لمن يطرح الأمر الجدير بالاعتبار وراء تفكيره، فشبه فعله بفعل من يرمي الأمر وراء ظهره، بحيث لَا يراه، وقد هددهم بأن الله مانعه بقوله: (إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي عالم علم إحاطة وشمول لَا يخفى عليه شيء من أفعالكم، وما تريدون برسوله إليكم، وإنه لمحيط بكم، وعبر بـ ربي للإشارة بأنه حاميه منهم، لأنه هو الذي أنشأه وربَّه ويحميه ويحرسه.(7/3744)
ويسترسل النبي الهادي في إرشادهم، فيقول:(7/3745)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
(وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ... (93)
على ما تتمكنون من عمله، لتكون نتيجته لكم أو عليكم وإني عامل ما يمكنني الله تعالى منه، وما أرسلني به، (سَوْفَ تَعْلَمُونَ) (سوف) لتأكيد الوقوع (مَن يَأْتيهِ عذَابٌ) في الدنيا (يخزِيهِ) ينزل به، فيجعله في أسفل السافلين، (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) في قوله، وفي دعوته، فتبين حينذاك خزيكم وكذبكم، كما يتبين صدق قولي فيما دعوتكم إليه، وفي إنذاركم.
(وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ) ارتقبوا ما يستقبلكم، وإني معكم رقيب متتبع متوقع صدق ما أنذر الله ربِّي وربكم نزل العذاب، بهم بأمر الله تعالى في ميقاته، ولذا قال تعالى:(7/3745)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94)
(وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا ... (94) أي ما قدرناه لهم عقابا في الدنيا، وكانوا يستعجلون به ثم ذكر سبحانه وتعالى أمره بعد أن نجى شعيبا والذين آمنوا برحمة من الله، وكانت رحمته في أن هداهم إلى الإيمان وأن أبعدهم عن العذاب، وفي أنه يستقبلهم النعيم المقيم يوم القيامة.
(وَأَخَذَت الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) وأظهر في موضع الإضمار لبيان أن ما أنزل بهم من العذاب سببه الظلم بالشرك والظلم بنقص المكيال والميزان، والظلم بمنع الناس حقوقهم، وبخسهم حظوظهم.
والصيحة تبعتها رجفة في الأرض ماتوا بها، ولذا قال (فَأَصْبَحوا فِي دِيَارِهِم جَاثِمِينَ)، أي ميتين. وجاثمون ملازمون أماكنهم لَا يستطيعون حراكا؛ لأن الموت الداهم أفقدهم الحركة.(7/3745)
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
كأن لم يقيموا فيها إقامة مستمتعين بمغانيها، وهذا يشير إلى أن متعة الدنيا إلى وقتنا هذا لَا بقاء منها لشيء، ويقول سيحانه: (أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ) أي ألا بعدا وطردا من رحمة الله تعالى، وهلاكا لمدين، كما بعدت ثمود. وهلكت.
* * *(7/3745)
موجز قصة موسى وفرعون
قال تعالى:
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
* * *
قلنا إن قصص القرآن لَا مكرر فيه، وإن كان يبدو ظاهر الأمر أن فيه تكرار؛ لأن الذكر يكون على قدر العبرة.
وهنا في هذا الموضع يذكر أحوال الأمم الذين يبعث النبيون إليهم، ولذا ذكر قوم فرعون، وما حل بهم من اتباعهم فرعون، ولم يفصل الآيات المتوالية التي كانت تجري على يدي موسى آية بعد آية، وهم لم يرتدعوا حتى أهلكهم اللَّه تعالى بالغرق كما ذكر سبحانه ذلك في سورة الأعراف، وكما ذكر حال فرعون وقد أصابه الغرق، وآمن في آخر رمق في حياته إيمانا لَا يقبله اللَّه تعالى.
قال تعالى:(7/3746)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ) وأكد اللَّه تعالى إرسال موسى وأكد إرساله بالآيات البينات بحجة ظاهرة قاهرة، وسماها سلطانا مبينا، أي بينا، وتسمية الحجة سلطانا؛ لأنها تجعل لصاحبها سلطانا غالبا من الاحتجاج(7/3746)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
(إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ... (97)
أي من يحيطون به، ويشاركونه فيما يفعل، ثم وصف سبحانه حال ملأ فرعون، وهو وصف عميق لآل فرعون، ولأهل مصر،(7/3746)
فقال: (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) أي اتبعوه مطلقا، وكذلك حال مصر تتبع من يحكمها دائما سواء أكان عدلا أم كان ظلما، وسواء أكان رشدا أم ضلالا، فهم أتباع لَا استقلال لهم، ولذا وصفهم العربي عمرو بن العاص: " هم لمن غلب " ولأنهم له تبع يكونون يوم القيامة وراءه، فكما اتبعوه في الدنيا عن غير إدراك، بل لأنه فرعون - قال فيهم يوم القيامة(7/3747)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
(يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
والوِرد هو الذي يرده الناس لتبريد أجسامهم، ونقع غلتهم وترطيب أكبادهم، وسميت النار به تهكما بحالهم، إذ يردونها، فيجدون النار المتأججة بدل الماء الفرات.
وأنهم بهذه التبعية للطاغوت:(7/3747)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
(وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
وألحقوا في هذه الدنيا لعنة طردوا فيها من العزة والكرامة ونزل بهم الهوان والذل والمقت، (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ) أي العون الذي يعين به الرافد من يعينه، (الْمَرْفُودُ) أي المعان، أي أن فرعون ومن اتبعه، وكل المصريين الذين اتبعوه، يتعاونون في تبادل إرفاد النار، يعين كل منهم الآخر، فهو يعينهم، وهم يعينونه، وهذا تصوير لحالهم، إذ تعاونوا على الظلم والذل والإذلال في الحياة، فتعاونوا على المقت وإرفاد النار بعد الوفاة.
* * *
العبرة فيما قص الله تعالى هنا
قال تعالى:
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ(7/3747)
أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
* * *
بعد أن ساق القرآن الكريم ذلك القصص الصادق الواعظ أو ذكر بعض ما فيه من عبر، فقال تعالى:(7/3748)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ) الإشارة إلى السابق من قصة نوح وقومه، وعاد وهود وثمود، وصالح، ومدين وشعيب، وطغيان فرعون، أي هذا القصص الحكيم (مِنْ أَنبَاءِ) أخبار القرى، أي المدن التي يتحرك إليها الناس، ويجتمعون فيها، كقريتك التي تدعو إلى التوحيد في وسط الشرك فيها، وإن هذه القرى عرفناك أنباءها، كيف أشركت وعاندت وكابرت، ثم أخذها الله أخذ عزيز مقتدر يجدون آثار ما أنزل الله بها، ورسوم بعضها تنادي ببيان ما حل بها. (مِنْهَا قَائِمٌ وحَصِيدٌ) قائم مثله كمثل العود من الزرع إذا صار حطاما، وجف ماء الحياة فيه، ومنها ما هو محصود كالزرع المحصود الذي قطع قائمه، وبقى بعض جذوره، وهذا يدل على ما نزل بهؤلاء.(7/3748)
وفى ذلك عبرة للذين يطغون، ويعاندون، ويؤذونك وصحبك ويستهزئون بكم ويسخرون من آيات اللَّه فيهم، ومعجزته التي تتلى عليهم.
إن ما نزل بهم هو بسبب ظلمهم، ولذا قال تعالى:(7/3749)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ... (101)
أي أن ما نزل بهم لم يكن ظلما، بل كان عدلا؛ لأنه لَا يستوي المحسن والمسيء، والأعمى والبصير، ولا الظلمات والنور، ولا الظل والحرور، فهو جزاء عمل، وجزاء العمل من جنسه، ولكن ظلموا أنفسهم بإضلالهم بالشرك، وانسياقهم في طريق الفساد، ومعاندتها للحق واضطهادها لأهلهم، وإشاعتها للضلال، وخضوعها للأوهام بدل العقل المدرك المستقيم.
وإنهم إذا تردوا في هذا الهلاك الذي نزل بهم منعا لاستمرار فسادهم، وطغيانهم، ومحاربتهم - بدا لهم عيانا بيانا أن الآلهة التي اتخذوها من الحجارة أو غيرها، لَا تدفع عنهم ضرا، ولا تجلب لهم نفعًا، ولا تحميهم مما نزل بهم، ولذا قال تعالت حكمته: (فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ)، (مِن) هنا لاستغراق النفي، أي ما أغنت عنهم الآلهة التي زعموها مضادة للَّه تعالى أي شيء من الغَناء.
وأضاف كلمة آلهة إليهم، لبيان أنها ليست آلهة في ذاتها، وهي عاجزة كل العجز، إنما هي آلهة في زعمهم، وأوهامهم التي أضلتهم، وسارت في ضلال بعيد.
إن هذه الآلهة أخزتهم، ولم تُفدهم؛ لأنهم ساروا في الضلال إلى أقصى الغاية بل إنهم (لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) بالإهلاك، وهو خالقكم والقائم على وجودكم لم يستطسعوا دفعا للضرر، ولا جلبا لنفع (وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) التباب الهلاك والتتبيب الإهلاك الشديد الذي يتضاعف في ذاته، أي ما زادوكم إلا هلاكا متضاعفا، والهلاك ليس زيادة في ذاته وإنما الزيادة هي زيادة الضرر.(7/3749)
والتعبير بضمير جمع العقلاء، وليست الحجارة عاقلة إنما هو تهكم بهم، وبنظرهم الذي يعبد حجارة، ويرجو نفعها، وقوله تعالى: (غَيْرَ تَتْبِيب) أي هلاك متضاعف متكرر.
وإن الله تعالى قدر العذاب وأنزله فكيف تزيد الحجارة فيما قدر الله وهي لا تملك من الأمر شيئا؟ والجواب عن ذلك أنه تصوير لحالهم مع هذه الحجارة، إذ إنهم استمروا في عبادتها لَا ينون بل يجادلون، ويعاندون حتى جاءهم العذاب الأليم، وكلما زادوا عنادا كان العذاب على قدره، وعنادهم المتزايد، وعقابهم عليه المتضاعف، كله في تقدير الله العزيز الحكيم، والله حكيم عليم.
وإن هذا سنة الله تعالى في خلقه العصاة، ولذا قال تعالت كلماته:(7/3750)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
(وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
التشبيه في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) هو تشبيه حال القرى القائمة الظالمة في توقع عذاب الله لها بحال الذين أخذوا من قبل كغرق قوم نوح، وكالرجفة التي أخذت ثمود ومدين، وكالريح الصرصر الذي أخذ من قبل عاد كهذا الأخذ الذي أخذ به السابقون، يؤخذ القائمون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن ذلك الماضي إنذار للحاضرين من القرى الظالمين كالمشركين في مكة الذي يتحدّون الله ورسوله، ويحسبون أنهم الغالبون، والله تعالى غالب على أمره، وقد قرر بعد ذلك شدة عذابه في أخذه لهم من حيث لَا يحتسبون، فقال عز من قائل: (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) أي إن أخذه المفاجئ الذي لَا يرتقبونه فوق ما فيه من ألم المفاجأة، وهم يرتعون ويلعبون هو في ذاته مؤلم موجع، وشديد في إيلامه وفي حاله، وحالهم معه، كانوا ينتظرون مطرا يمطرهم، فإذا هو ريح فيها عذاب أليم.
وإن ذلك إنذار كما ذكرنا. للمشركين، حتى يرجعوا عن غيهم، وإن اللَّه إذا كان قد أخر عنهم العذاب، لأجل محدود، فإنهم ليسوا غالبين، وإنه سبحانه(7/3750)
جاعل العذاب من نوع آخر، يستبقي الأطهار ولا يستأصل الأشرار لأنه يكون من أصلابهم من يعبد الله ويجاهد في سبيله، ألم يجعل من أصلابهم قادة مجاهدين، فكان من أصلابهم خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهما من القادة المجاهدين.
ووصف أخذ القرى بأنه يأخذها وهي متلبسة بظلمها، تحمل في نفسها موجب عذابها.
وإن هذه الإنذارات يتعظ بها وينزجر من يؤمن بالآخرة، ويخاف مقام اللَّه فيها، ولذا قال:(7/3751)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
الإشارة في قوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً) للمذكور من أنباء قوم نوح، وهود، وصالح، وشعيب الآية، أي لدلالة واضحة على قدرة اللَّه تعالى، وإن خوارق العادات فيها دلالة على إرادة الخالق، وأنه فاعل مختار، وأنه قادر على الإعادة كما بدأ الخلق، وأن قدرته ليست بقدرة البشر، وإنها ليست مرتبطة بالأسباب والمسببات كالعباد بل فوق كل شيء، وأنه خالق الأسباب والمسببات، ولكن لَا يدرك هذه الآية إلا من سلمت نفسه من آفات الشك والشرك، وآمن باليوم الآخر، ولم تكن الحياة الدنيا خلب كبده (1)، وكل شيء في حياته، ولذا قال: (لمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ) ومن يخاف الآخرة يؤمن باليوم الآخر وأن بعد هذه الحياة الدنيا حياة آخرة هي الحياة الحقيقية التي يكون فيها البقاء، ويؤمن ثانيا بأن الحياة الآخرة فيها العذاب فيخافه، لأنه محاسب على ما قدمت يداه.
وليس المراد أن هذه آية فقط لهؤلاء الذين يؤمنون باليوم الآخر، ويوم الحساب، ولكن المراد أن الذين يدركون هذه الآية من استقامت نفسه، وعقله وقلبه
________
(1) والخِلْبُ، بالكسر: لُحَيْمَةٌ رقيقة تصل بين الأضلاع، أو الكبد، أو زيادتها، أو حجابها، أو شيء أبيض رقيق لازق بها. القاموس المحيط - فصل الخاء.(7/3751)
هم الذين امتلأت قلوبهم إيمانا باليوم الآخر، وأن الإنسان لم يخلق سدى، وأن عمله لَا يذهب هباء منثورا، بل يوم الحساب يترقبه، وهو يخاف، أما الذين ران على قلوبهم هذه المادية الغاشمة فليسوا من هذه الآية في شيء.
وقد وصف اللَّه بعد ذلك اليوم، فذكر أنه يوم الحشر، وقال فيه: (ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لهُ النَّاسُ) أي أن الناس جميعا مجموعون له في أول خلق آدم إلى يوم القيامة، وذلك يوم مشهود يشهد فيه الناس جميعا، وهو مُعَلَّم معروف لأهل المعرفة، وهو مشهود بما فيه من أحداث وحساب وعقاب، وبما ينزل فيه الملائكة صفا، وبما يتجلى فيه رب البرية (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23).
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42).
وإِن ذلك اليوم لآت لَا محالة وإن تأخر فلأجل معدود ولذا قال تعالى:(7/3752)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
(وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)
أي أجل معدود في علم اللَّه لَا يتأخر، ولا يتقدم، بل معدود بالسنين والأشهر، والشيء المعدود لَا يقبل الزيادة ولا النقص، وإذا كان معدودا فإنه آت لَا محالة، فلا يتقدم لاستعجال أحد، ولا يتأخر لإرادة التأخير، لَا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
ثِم قال تعالى في يوم مجيئه فقال تعالى:(7/3752)
يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
(يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
هنا قراءدان:
القراءة الأولى: أن الباء غير محذوفة وهو الأصل: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ).
والقراءة الثانية: حذف اجتزاء بدلالة الكسرة عليها، كأنها مقدرة في الكلام، تخفيفا وتيسيرا، والقراءتان مشهورتان، وإن حذف الباء موجود في لغة هذيل، وهي من أفصح العرب، فيقال لَا أدرِ من غير عامل يجزم الفعل ويحذف الباء، ويقول الزجاج: إن هذه قراءة، والذي أراه اتباع المصحف، وإجماع القراء لأن القراءة سنة متبعة.(7/3752)
ولا يقال ما قاله الجهلاء إن القرآن خالف النحو، وذلك لأمرين:
الأمر الأول: إن الكسر إنباء عن وجود الباء وإن لم ينطق بها ليكون ذلك خفيفا على اللسان، ووافق لغة من لغات العرب الفصيحة.
الأمر الثاني: أن النحو تشتق قوته من القرآن، والقرآن فوقه.
وقوله تعالى: (لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (تَكَلَّمُ) فعل مضارع حذفت فيه التاء، وأصله لَا تتكلم نفس إلا بإذنه. والضمير يعود على الله تعالى (إِلَّا بِإِذْنِهِ)، لأنه
حاضر في العقول والنفوس والقلوب، ولقد قال تعالى في ذلك: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36).
وكونهم لَا يتكلمون إلا بإذنه لكيلا يقولوا إلا صوابا كما قال تعالى:
(. . . لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا).
ففي هذا اليوم يكون الإقرار بالذنوب من غير مماراة، بل يقرون بالحق؛ لأن هذا يوم الصدق، وإن الكلام في هذا اليوم بالإقرار الصادق، أما أن يكون فيه شقيا لما ارتكب وإما أن يكون سعيدًا، ولذا قال تعالى: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) فمن الجمع المجموع شقي بما ارتكب في النار، وإما سعيد لم يرتكب إثما، فيكون في الجنة، وقد فصل القول سبحانه:(7/3753)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
(فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106)
الشهيق النفس في الصدر، والزفير إخراجه وقيل العكس، (أما) ولتفضيل والبيان لما يئول إليه أمر الشقي، وما يئول إليه أمر السعيد، (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ) أي الذين شقوا بأعمالهم في الدنيا، وتسجيلها عليهم بإقرارهم في الآخرة، (فَفِي النَّارِ) أي أن مآلهم النار يدخلونها، (لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ)، أي يدخلونها في صدورهم بشهيقهم، ويخرجون منها نارا بزفيرهم، فالنار تكوي جلودهم، وتدخل إلى أحشائهم، يتلظون بها في أبدانهم ظاهرا وباطنا، داخلا وخارجا.(7/3753)
وقد سجل الله تعالى خلودهم فيها، فقال تعالت كلماته:(7/3754)
خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
(خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ... (107)
وقوله تعالى: (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) جريا على استعمال العرب في تأكيد دوام الحكم بأمر من الأمور، فيقولون في بيان دوام العقد: ما بلَّ بحر صوفة، كما قالوا في عقد حلف الفضول، ومقتضى هذا التعبير أنه يجب أن تبقى السماوات والأرض لكي تدوم النار، وإن قيل في هذا الدليل على فنائها مع فناء ما يكون فيها.
ولا دليل على أن النار فانية، ولها نهاية، وكذلك الجنة لوجود هذا التعبير؛ لأن التعبير بقول (خَالِدِينَ فِيهَا) جاء في آيات الكتاب الحكيم مطلقا غير مقيد ببقاء السماوات والأرض، ويعرف ذلك ما يفهم بطريق مفهوم المخالفة لَا يعارض النص بإجماع علماء الأصول، وإن الخلود في النار ثابت ثبوت الخلود في الجنة ونحن في جميع الأحوال خاضعون لإرادة اللَّه تعالى ومشيئته في الدنيا والآخرة.
ولذا قال تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) وقد ذكر هذا النص الكريم هنا، في أهل الجنة، وقد جاءت آثار في معناه نختار بالذكر منها ثلاثة:
القول الأول: ما ذكره بعض التابعين، وحكاه الزمخشري من أن الاستثناء هو من الخلود في النار، أو من أصل دخولها، والمستثنون هم فسقة أمة محمد، وغيرهم ممن يؤمنون باللَّه، وكان منهم عصيان، فإنهم يدخلون النار على مقدار معاصيهم، ويشاء اللَّه أن يخرجوا فيخرجون، أو أن تنفعهم شفاعة الشافعين، على رأي جمهور العلماء.
وإن هذا القول قد يستقيم بالنسبة للذين شقوا، ولكنه لَا يستقيم في الذين سعدوا.
والقول الثاني: أن قوله تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) فيها بيان أن العذاب والعقاب متعلق بمشيئته فهو الفاعل المختار، والأمر في ذلك متعلق بمشيئته هو في العدل والرحمة، فليس بحتم عليه: (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)(7/3754)
فإذا كان قد أدخل الكفار النار فبمشيئته، وإذا كان قد أعطى المؤمنين الأتقياء جنة، فبرحمته ومشيئته، وعطائه، ولذا قال بعد ذلك (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ): وهذا القول مستقيم نختاره، ونذكر القول الثالث، ونراه معقولا في الجملة ولا نرده:
القول الثالث: أن هذا ذكر للاستثناء في مقام الفعل، أخذ به اللَّه في حقه ليندب خلقه إليه، كما قال تعالى: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ. . .).
وإذا كنا لم نختر هذا القول، بل اخترنا الثاني فإنا لَا نقول: إنه قول باطل، وإنما اختيارنا للثاني لأنه صحيح في ذاته، ويرشح له قوله تعالى بعد ذلك: (إِن رَبَّكَ فَعَّالٌ لمَا يُرِيدُ) فهذا النص السامي يثبت أن إرادة الله مطلقة في كل ما يعطي، وكل ما يمنع.
وقوله تعالى إلا ما شاء الله: التعبير بـ (مَا) دون (مَن) لأن معناها أنه إلا أن يشاء اللَّه هذا ما ينال الذين شقوا من عذاب، أما ما يناله الذين سعدوا، فقد بينه بقوله تعالى:(7/3755)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
(وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
(سُعِدُوا) بالبناء للمفعول، لأن الفاعل معلوم، وهو اللَّه تعالى، فالمعنى سعدهم اللَّه، فسعدوا، وقد سعدوا، لأنهم اهتدوا إلى الإيمان والعمل الصالح في الدنيا، وسعدوا لأنهم دخلوا الجنة على وجه الدوام في الآخرة، وسعدوا لأن نالوا رضوان اللَّه، في الدنيا والآخرة، ولأنهم يوم القيامة، يتجلى عليهم ربهم فتنضر وجوههم وتنظر أعينهم، كما قال تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23).
وذكر سبحانه نيلهم الجنة، فيقول: (فَفِي الْجَنًةِ خَالِدِينَ) مقيمون على وجه الخلود، (مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ)، وقد ذكرنا أن هذا ليس تقييدًا لإرادة اللَّه(7/3755)
ببقاء السماوات والأرض، وإنما إرادته مطلقة وإنما كان هذا التعبير تأكيدًا لمعنى الخلود، على مجرى عبارات العرب في تأكيدهم للبقاء بأمر ظاهر البقاء عادة.
وقوله: (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) ذكرنا ما قيل فيه، وقلنا إن المختار عندنا إنه بيان لمشيئة اللَّه التي لَا يقيدها شيء فلا حتم عليه، وإذا كان قوله في أهل النار: (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لما يُرِيدُ) يؤيد معنى المشيئة، فقوله تعالى: (عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)، يؤيد المشيئة المطلقة هنا؛ لأن العطاء لَا إلزام فيه، وقوله تعالى: (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) ومعناه مخير مقطوع بل هو دائم، والله أعلم.
وإذا كانت هذه الأقوام الماضية قد نزل بها ما نزل، وإن المشركين لَا يترقبون مثلها، فتأس بالأنبياء من قبلك، واصبر كما صبروا، ولذا قال تعالى:(7/3756)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
(فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
(الفاء) تصل الكلام بما قبله، وهو مترتب على القصص السابقة والجزاء الذي أعده الله تعالى للأشقياء والسعداء، والفاء للإفصاح عن شرط مقدر مؤداه إذا كان ما علمت من قصص لعبدة الأوثان وأنبيائهم، وما نزل بالمشركين، فلا تك في شك من بطلان ما يعبد هؤلاء، وأصلها تَكُن، وحذفها كثير في القرآن الكريم، وهو يعطي اللفظ جمالا في النسق والنغم وحلاوة في اللفظ، وتلك خصائص القرآن الكريم، وقوله: (فِي مِرْيَةٍ) أي شك يدفع إلى الراء، والمجادلة، والنهي هنا والحال أن ذلك لَا يتصور منه، فهو بالنسبة له - صلى الله عليه وسلم - أمر غير متصور الوقوع منه - صلى الله عليه وسلم - وللنهي فائدتان:
الفائدة الأولى: أنه نهي لمن يقرءون القرآن، فهو نهي في ظاهره للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وفى حقيقته لكل أتباع محمد، وكل من يخاطبون بالقرآن، وهو اقتلاع لجذور الشك من النفس.(7/3756)
الفائدة الثانية: أن النهي لإفادة البطلان بدليله، فإن ما سبق فيه أدلة بطلان الشرك، وأنه معاقب عليه، وأن عاقبته العقاب الصارم الذي يجتث الأمم.
ومن أحسن ما قرأت في تأويل ذلك أن مؤدى النهي هو أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لكل من يخاطبه (فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ) وإن كان اللفظ لَا يساعد في ظاهره ذلك، فهو منتهاه، يؤدي إليه قوله تعالى (مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ)، والإشارة إلى المشركين، أي قل لقومك لَا تكونوا في مراء مما يعبد هؤلاء من أوثان، فإنهم لم يفكروا فيه، ولم يتجهوا فيه إلى منطق عقلي أوصلهم إليه، ولكنهم ألغوا عقولهم اتباعا لآبائهم ولذا قال تعالى: (مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) أي أنهم مقلدون، وليسوا بمفكرين ولا بمهتدين ولذا كانوا يقولون لأنبيائهم: (. . . أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا. . .) وكان مشركو مكة يقولون: (. . . وَإِنَّا عَلَى آتارِهِم مُّقْتَدُونَ)، وكانوا يقولون: (بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ).
ولهذا، وذكر سبحانه اتباعهم لآبائهم، بل لبيان أنهم لَا يفكرون، وهم مؤاخذون لكفرهم، ولإهمال الآيات الدالة على الوحدانية، وللمعجزة الدالة على رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهي معجزة القرآن الكريم.
ولهذا قال تعالى في بيان جزائهم: (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ).
ذكر بعض المفسرين أن المراد نصيبهم في الدنيا من رزق، ويكون المعنى لا يغرنك تقلبهم في البلاد وما أوتوا من ثروة، وجاه، فإنه لَا يدل على أنهم على حق، فإن رزق الدنيا منوط بأسبابه، وإن اللَّه يعطيهم أرزاق الدنيا غير منقوصة، فالنصيب هنا هو الرزق الدنيوي.
وأما الرأي الثاني أن المراد نصيبهم من العذاب، والقرينة تعينه، لأن الكلام عن عذاب الذين عاندوا النبيين، وصادموا دعواتهم، وسخروا منها. وقوله تعالى (غَيْرَ مَنْقُوصٍ) حال مؤكدة لمعنى الوفاء في كل الأقوال، ولعل خير الأقوال ما يشمل النصيبين، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم.
* * *(7/3757)
الاختلاف في الحق
قال تعالى:
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
* * *
كانت التسلية في قصص الأنبياء الذين بعثوا في أرض العرب، وللعرب، ولم تذكر لهم كتب، وقد ذكر بعد ذلك موسى وقد جاء بكتاب يصدقه القرآن، وفيه بشرى بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فأشار سبحانه إلى قصة موسى بطرف من القول فقال تعالت كلماته:(7/3758)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضيِ بَيْنَهُمْ)، أكد اللَّه نزول الكتاب على موسى بـ (اللام) و (قد)، وأضاف سبحانه الإيتاء إليه، وكان فيه آيات بينات، وعظات، وأحكام زاجرة، ولم يترتب على(7/3758)
إيتاء موسى عليه السلام الإيمان به، وقد أنقذهم من ظلم فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، ورأوا تسع آيات حسية ملزمة، ورأوا آيات اللَّه تعالى فيهم ونعمه ظاهرة وباطنة تفيض عليهم، مع كل هذا لم يذعنوا لما جاء به من شرائع بل اختلفوا فيه، فإذا كانوا قد اختلفوا في شأنه ما بين مذعن ومؤول ومخالف، فكيف تنتظر يا محمد من قوم أميين أن يذعنوا بمجرد النزول.
و (الفاء) في قوله: (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) للعطف والترتيب من غير تراخ، وكأنه ترتب على إيتاء اللَّه تعالى موسى الكتاب الاختلاف، وهذا يدل على أن الاختلاف ليس ناشئا من ذلك الكتاب، بل هو ناشئ من فساد النفوس وإذا فسدت النفوس لا يقنعها الدليل، ولا يهديها البرهان مهما يكن حاسما.
وقد افترق اليهود على فرق شتى حول التوراة ما بين ربانيين وقراءين، وصدوقيين لَا يؤمنون باليوم الآخر.
ويبدو من فرقهم أن الاختلاف في شأن الكتاب كان في فهمه، حتى ضلوا وحرفوا الكلم عن موضعه، وأتوا بكتاب لم يُنزل على موسى، وقالوا إنه من الكتاب، واجس منه في شيء.
وقد قال تعالى: (وَلَوْلا كَلمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) ولولا أن اللَّه تعالى يمهل الظالمين إلى يوم يبعثون، ويتركهم يتجادلون، ليزيد ابتلاؤهم لقضى بينهم في هذا الاختلاف وبين الحق الذي لَا يحتار فيه أحد، ولكنه تركهم يتعرفونه؛ لأنه خلقهم ذوي مدارك، ومع كل نفس فجورها وتقواها.
وقال تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) الشك معناه التظن في الحق، وقد بدت دلالة، والريب هو نتيجة هذا التظنن، والضمير في قوله: (وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) يعود إلى المشركين كما يقول أكثر المفسرين، والضمير في (مِّنهُ) يعود إلى القرآن.(7/3759)
ولكن لم يكن ذكر للمشركين، ولم يكن ذكر هنا للقرآن، وإن إعادة الضمير إليهم، وإلى كتاب اللَّه تعالى لَا يأتي بفائدة جديدة، وأرى أن الضمير يعود إلى قوم موسى الذي أوتي التوراة، ويكون الريب بسبب اختلافهم، فإن الاختلاف يحدث الشك، والجدل ذريعة الريب، والضمير في (إِنهمْ) يعود حينئذ إلى مذكورين في القول غير مطويين، وكذلك الضمير في (منْهُ).
وإن في ذلك لعبرة من ناحيتين:
الأولى: تسلية النبي - صلى الله عليه وسلم -.
والثانية: بيان أن الاختلاف والجدل تميع فيهما الحقائق، ويحل محلها الشك والريب، اللهم هبنا الوفاق، وجنبنا الشقاق، وقد أكد اللَّه تعالى شك القوم بإن وباللام وبالجملة الاسمية.
ويقول في جزاء السابقين واللاحقين:(7/3760)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
(وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
- هنا قراءتان إحداهما بـ (إِنَّ) الثقيلة، والثانية بـ (إنْ) الخفيفة (1)، والتنوين في (كُلًّا) نائب عن المضاف إليه، أي إنهم جميعا ليوفينهم ربك أعمالهم، وهذا يتضمن مآل الماضين والسابقين على محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنذار الذين يعادونه، ويؤذون أصحابه ويسخرون منهم، فالمعنى إذن، وإن كلا من الفريقين لما سيوفيهم ربك أعمالهم.
اللامان لتوكيد القول؛ الأولى واقعة في خبر (إن)، والثانية موطئة للقسم أو العكس، ولا تغيير في المعنى بأي التقديرين، وكانت (ما) فاصلة بينهما لكيلا يثقل النطق بلامين وهي مع ذلك دالة على تأكيد ما تدل عليه اللام الأولى.
________
(1) قراءة (وإنَّ كُلًّا) بإسكان النون، قراءة مكي ونافع، وأبو بكر والمفضل، وابن بشار عن علي. وقرأ الباقون بتشديد النون. غاية الاختصار (1021).(7/3760)
وقوله (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) فيه توكيد للوفاء، وهو القسم فكأنه تأكد الكلام باللامين، وبالقسم وبنون التوكيد الثقيلة، وأكد أيضا بالتعبير بـ (رَبُّكَ) أي الذي خلقك، وخلقهم، وقام على هذا الوجود، وإذا كان هذا الخالق الحي القيوم هو الذي يعد بالتوقيه، فإنها واقعة لَا محالة.
وقو له (أَعْمَالَهُمْ)، أي جزاء أعمالهم، ولكنه سبحانه حذف الجزاء، وأضاف الجزاء إلى الأعمال للإشارة إلى أن الجزاء وفاق العمل، فكأنهما شيء واحد، إذ يكون عادلا تمام العدل، يوم تجد كل نفس عملها محضرا، وإن العدل الحقيقي يقتضي المساواة بين العمل والجزاء، ويقتضي العلم، وقد أشار إلى العدل بالمساواة دين الجزاء والعمل حتى كأنه هو، وصرح بالثاني في قوله (إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبيرٌ) الضمير يعود إلى اللَّه الذي تذكره القلوب، ولا تنساه، و (خَبِيرٌ) معناه، عالم علص ادقيقا لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، يعلم ما تكسبه الجوارح، وما يجول في الأفئدة. إنه سميع بصير.(7/3761)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
(فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
(فاسْتَقِمْ) السين والتاء للطلب، أي اطلب إقامة الدين، وحفظ جوارحك الظاهرِة والباطنة في دائرة القيام به، وإدراك غاياته ومراميه، وقوله تعالى: (كَمَا أُمِرْت) الكاف للتشبيه والمعنى اجعل أعمالك ومرام نفسك وقلبك كما أمرت أي كما أنزل اللَّه تعالى، وبني للمفعول لأن الفاعل معلوم حاضر في الذهن دائما، ولأن الاستقامة توجب اتباع الأوامر في ذاتها (وَمَن تَابَ مَعَكَ)، فقوله تعالى: (وَمَن تَابَ مَعَكَ) معطوفة على الضمير في استقم، وإنما جاز النطق على الضمير المستتر في الخطاب من غير أن يؤكد بالضمير البارز للفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو بقوله تعالى: (كَمَا أُمِرْتَ)، فيكون عدم إبراز ضمير الخطاب مناسبا للنسق.
وإن الاستقامة هي غاية الكمال الديني؛ لأنها القصد إلى الهدف الأسمى، ولانها روح الإسلام وغايته، وقد قال بعض الصوفية: إن الاستقامة هي مطلب(7/3761)
الصوفي الأمين على حقوق الإيمان، وروى مسلم في صحيحه عن سفيان بن عبد اللَّه الثقفي، قال قلت: يا رسول اللَّه قل لي في الإسلام قولا لَا أسأل عنه أحدا بعدك قال " قل آمنتُ باللَّه ثم استقم " (1)، وروي عن عبد اللَّه بن عباس أنه قال لمن استوصاه: " عليك بتقوى اللَّه والاستقامة ".
ولقد قال تعالى: في بيان الاستقامة أن أعلى درجات الإيمان: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)، إلى آخر الآيات.
وقوله (ومَن تَابَ مَعَكَ) أي الذين معك من المسلمين، وعبر عنهم بأنهم تابوا للإشارة إلى أن إسلامهم لَا يكون كاملا إلا إذا كانوا مع اللَّه تعالى، وإلى أن الإسلام توبة عن الشرك، وإن الشرك انحراف في النفس، وتركه رجوع إلى اللَّه تعالى.
وإن الاستقامة تهذيب روحي، واتجاه نفسي، وقد نهى عما يؤدي إلى الانحراف عن الاتجاه المستقيم (ولا تطغوا) فيه، إن النفس تنحرف عن الجادة، والطريق الأقوم بالطغيان، وهو مجاوزة الحد، ومجاوزة الحد قسمان:
القسم الأول: التشدد في الدين الذي يؤدي إلى إرهاف النفس، وإن إرهاقها يؤدي إلى التقصير، ولذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاعتدال، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
" لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، ولكن سددوا وقاربوا "، وقال: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ " (2).
والقسم الثاني من الطغيان: الظلم، ومجاوزة الحد مع غيره، وإن هذا المعنى مناسب دلآية بعد ذلك. ولقد بين اللَّه سبحانه وتعالى أنه مراقب العباد،
________
(1) رواه مسلمْ الإيمان - جامع آوصاف الإسلام (38)، ولفظه عند مسلم: قل آمنت باللَّه فاستقم "، وباللفظ اعلاه رواه أحمد مسند المكيين - حديث سفيان بن عبد اللَّه السقفي (14990). كما رواه الترمذي الزهد، وابن ماجه في الفتن، والدارمي في الرقاق.
(2) سبق تخريجه.(7/3762)
ومجازيهم فقال: (إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصيرٌ) الضمير يعود على اللَّه تعالى أي أنه تعالى عليم بما يعملون علم من يبصر ويرى، وقدم الجار والمجرور (بِمَا تَعْمَلُونَ) على (بَصيرٌ) للاهتمام بالعمل، وإنه مناظر الجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وإن الاستقامة هي أقصى درجات الإحسان، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعريف الإحسان: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك " (1).
كان في هذه الآية النهي عن الظلم، ثم أردفها بالنهي عن الارتكان إلى ظالم، فقال:
________
(1) متفق عليه وقد سبق تخريجه من رواية عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه.(7/3763)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
(وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
(وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)، الواو عاطفة هذا النهي على النهي السابق، وهو قوله تعالى: (وَلا تَطْغَوْا) الركون الاستناد، فيقال ركن إلى الجدار أو الجبل أو الركن إذا استند إليه، ويتضمن ذلك النهي الاعتماد على الظالم، والإدهان إليه والميل إليه، والتودد له، والتقرب منه، ومعاونته في الأمر الذي يفعله، وقوله تعالى: (الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي الذين وقع منهم الظلم، وإن لم يتصفوا بالظالمين، وإذا كان النهي عن مساندة الذين وقع منهم ظلم، فأولى بالنهي من يكون الظلم عادة وسياسة مستمرة لهم، ويلاحظ أن التعبير بالموصول فيه بيان بسبب النهي، وهو مرفوع الظلم منهم، ولقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - في معاونة الظالمين: " ومن سعى مع ظالم، فقد سعى إلى جهنم "؛ لأنه عاونه في ظلمه، ولو أن الذين يظلمون لا يجدون من يعاونهم، ويمانعهم، وينصرونهم على المظلومين ما استمروا يرعونها، حتى تكون فيها أشواك الأذى الممزقة.
ولقد وجدنا ناسا في عهد طاغوت رأيناه أشد من فرعون عتوا، يمالئونه على المسلمين، حتى قتل، وآذي وقطع أطراف الشباب، ووصل عدد قتلاه خمسة(7/3763)
وثلاثين ألفا من المسلمين غير من قتلوا تحت حر السياط والتعذيب في سجونه التي فاقت سجن الحجاج طاغية العرب عددا، والحجاج كان عربيا، فلم يعذب، ولم يضرب بالسياط، لأن مروءة العربي تمنعه.
وقد كتب الزمخشري في هذا كتابة قيمة ننقلها من تفسيره، رضي الله عنه:
" والنهي متناول الانحطاط في هواهم والانقطاع إليهم ومصاحبتهم ومجالستهم، وزيارتهم ومداهنتهم، والرضا بأعمالهم، والتشبه بهم، والتزيي بزيهم، ومد العين إلى زهرتهم، وذكرهم بما فيه تعظيم لهم، وتأمل قوله تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) فإن الركون هو الميل اليسير، وقوله تعالى: (إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي الذين وقع منهم الظلم، ولم يقل الظالمين، فكيف بالظالم، وحُكي أن الموفق (أحد خلافاء العباسيين في عهد انحلال الحكم العباسي) صلى خلف الإمام فقرأ بهذه الآية، فغشي عليه، فلما آفاق قيل له، هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم. وعن الحسن (البصري) رحمه الله: " جعل الله الدين بين لائين (لا تَطْغَوْا)، و (لا تَرْكَنُوا). . . . . ".
ولما خالط الزهري السلاطين كتب إليه أخ له في الدين:
" عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، قد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو لك ويرحمك، أصبحت شيخا كبيرا، وقد أثقلتك نعم الله، بما فهمك الله من كتابه، وعلمك من سنة نبيه، وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء، قال الله سبحانه: (. . . لَتبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ. . .). واعلم أن أيسر ما ارتكبت، وأخف ما احتملت، أنك آنست وحدة الظالم وسهلت سبيل الغي بدنوك ممن لم يؤد حقا ولم يترك باطلا حين أدناك، اتخذوك قطبا تدور عليك رحى باطلهم، وجسرًا يعبرون عليك إلى بلائهم، وسلَّما يصعدون فيك إلى ضلالهم، يدخلون الك بك إلى العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك في جنب ما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم: (فَخَلَفَ(7/3764)
مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)، فإنك تعامل من لَا يجهل ويحفظ عليك من لَا يغفل، فداوِ دينك، فقد دخله سقم، وهيئ زادك فقد حضر السفر البعيد، وما يخفى على الله من شيء في الأرض، ولا في السماء والسلام " هذا كتاب واعظ، لتابع من أجل التابعين، وإن كان من أصغرهم سنا.
ويسترسل الزمخشري في نقل ما قاله العلماء في الظالمين، والذين يركنون إليهم كما نرى فيمن اتسموا بسِمة العلم، قال رضي الله تعالى عنه وقال سفيان (الثوري): في جهنم دار لَا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. . . . .
وعن الأوزاعي " ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا ".
وعن محمد بن مسلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من دعا لظالم بالبقاء، فقد أحب أن يعصى الله في أرضه ".
ولقد سئل سفيان الثوري، عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء، فقال: لَا. فقيل له يموت، فقال: " دعه يموت ".
رضي الله عن الزمخشري، وإن كنا لَا نرضى عن فتيا سفيان الثوري الأخيرة، فإنه صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن القتل بالعطش، وهذا أمر بالإسعاف.
ولقد قال بعد النهي عن الركون إلى الظالم (وَمَا لَكم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أؤلياءَ)، (مِن) هنا لاستغراق النفي و (أَوْلِياءَ) النصراء أي ليس لهم من الذين(7/3765)
يعادون اللَّه تعالى بظلمهم، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: (مِن دُونِ اللَّهِ) أي أولياء أحباء مناصرون.
(ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ) العطف بـ (ثُمَّ) هنا، وهي دالة على التراخي لبيان البعد بين الانتصار، وموالاة الظالمين، أو الركون إليهم بموادتهم، ومعاونتهم.
اللهم لَا تؤاخذنا بما كان منا للظالمين من سكوت، في كثير من الأحيان، اللهم هيئ نفوس حكامنا للعدل، فإنهم أضاعوا المسلمين بظلمهم، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.
ولقد قال تعالى بعد النهي عن الفساد، آمرا بالصلاح، لأن التخلية قبل التحلية.(7/3766)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
هذا معطوف على الأوامر والمنهيات قبله، وقلنا إنه سبحانه نهى عن الظلم والطغيان، والامتناع عن الظلم والطغيان فعل الخير، وإن الظاهر من هذه الآية، وآية الروم، وهي قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)، فإن هاتين الآيتين تومئان إلى أوقات الصلوات الخمس، فكانت بعد فرضيتها في المعراج.
وإقامة الصلاة في الأمر (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) الإتيان مقومة مستوفية أركانها الظاهرة والباطنة من خلوص المشيئة لله تعالى: واستشعار معاني الأركان النفسية، وألا يقصد بها المراءاة، فمن صلى يرائي فقد أشرك، وقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7).
وطرفا النهار ما هما؟، اختلفت الروايات في ذلك، وأقربها في اعتقادنا، وهو المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الطرفين الفجر أو الصبح، وما بعد الظهر، وزلفا من(7/3766)
الليل والزلف الساعات المتقاربة، وفسرها النبي بأنها المغرب والعشاء، وسميت زلفما من الليل، لأن ساعاتهما متقاربة، فما بين المغرب والعشاء متقارب إلى حد اختلاط زمنهما، والاختلاف في حد ما بينهما، وهما بإجماع العلماء صلاة العشي.
وإن تعيين الآيات تقارب أو يتعين اتحادها فى هذه الآية، وآية الروم، ولا شك أن إقامة الصلوات الخمس مستوفيات أركانها الظاهرة والباطنة، والاستمرار عليها يطهر النفس من أرجاسها، ويمحو تلك المعاصي التي يغبر بها القلب، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن، إذا اجتنبت الكبائر " (1).
وذكر شرط اجتناب الكبائر؛ لأنه لَا يمكن أداء هذه العبادات على وجهها، مجتمعا مع الكبائر قط، إذ لَا يجتمع في قلب مؤمن عبادة أديت على وجهها، وارتكاب كبيرة، ولقد أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " (2).
ولذا قال تعالى بعد الأمر بإقامة الصلاة في وقتها: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) لأن الحسنات نور يدخل القلب فيزيل غمته، وهي طهارة ترحض ما في النفس من أدران الشر، وأخباثه.
ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار " (3).
وإن الصلوات الخمس - إن أقيمت على وجهها - أشد العبادات محاربة للمعاصي، ولذا قال تعالى: ر (. . . إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)، وإن توزيعها في أوقاتها جلاء
_________
(1) في واه مسلم - الطهارة - الصلوات الخمس - والجمعة إلى الجمعة (233) عن أبي هريرة رضي اللَّه عنه ".
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.(7/3767)
النفوس، فإنه إذا أقبل الفجر، وأصبح الصباح أدى صلاة الصبح، فتجلو صدأ النفس ويستقبل الحياة بقلب سليم، فيعمل في الحياة طاهرًا حتى إذا ابتدأت النفس تصدأ بالاحتكاك بالناس جاءت صلاة الظهر، فأزالت ذلك الصدأ، ثم من بعد ذلك العصر، وزلف الليل المغرب والعشاء.
ولقد روى البخاري عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأبره، فأنزل اللَّه تعالى قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يذهِبنَ السَّيِّئَاتِ) (1).
ولقد قال تعالى: (ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) الإشارة إلى القيام بالفرائض الخمس، وقال المفسرون: إنه إشارة إلى القرآن، وكانت الإشارة إلى البعيد لعلو منزلته، ورفعة مكانته، وبعد شأوه، ولا مانع فيما نرى أنها للقيام إلى الصلوات الخمس، لهذه المعاني أيضا، والمشار إليه مذكورا.
والذكرى التذكر الدائم الباقي المستمر، ولا شك أن أداء الصلوات الخمس في مواقيتها على الوجه الكامل يجعل نفس المؤمن في ذكر دائم للَّه، ولذا ختم الله تعالى آية الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر بقوله تعالى: (. . . وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكبَرُ. . .).
وإن العبادات أداؤها على الوجه الأكمل الذي أشرنا إليه يحتاج إلى صبر وضبط النفس، ولذا قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشعِينَ)، ولذا قرن الأمر بإقامة الصلاة، بالأمر بالصبر، فقال تعالى:
________
(1) رواه البخاري: مواقيت الصلاة - الصلاة كفَّارة (526)، ومسلم: التوبة (2763).(7/3768)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
(وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
الأمر في هذه الآية وما قبلها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء، ولمن يتبعه من المؤمنين انتهاء، وهنا ملاحظة بيانية، تليق بالقرآن الكريم المعجزة الكبرى في بيانه، وكل شئونه.(7/3768)
هذه الملاحظة هي أنه في الطالب الإيجابية يكون الخطاب في هذه الآيات للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء، ويكون لأمته بالتبع، ولكن في هذه الآيات نجد النهي متجها ابتداء إلى الجماعة الإسلامية، فقال تعالى: (وَلا تَطْغوْا) وقال تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا)؛ لأنه لَا نهي إلا حيث يتصور وقوع النهي عنه، ولا يمكن أن يتصور من النبي - صلى الله عليه وسلم - طغيان، أو ركون إلى الظالمين.
والصبر ضبط النفس عند وقوع ما لَا يرغب، أو ما يرغب، فالصبر على النعمة، لَا يفرح بها فلا يبطرها بل يشكرها، والصبر على وقوع ما لَا يرغب بأن تنزل به شديدة فإنه يكون بألا يفزع ولا يهلع، فيضطرب تفكيره، ويطيش ولا يتدبر الأمر في رفق، وثبات جأش، واطمئنان قلب.
وبين الله تعالى أن الصبر من إحسان المحسنين فقال تعالت كلماته: (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي الذين يعملون العمل الصالح، ويحسنونه،
ويداومون عليه بالصبر، ولا يجزعون لحرمان أو شدة، ولا يأشرون ويبطرون إن اختبرهم الله تعالى.
* * *
الفساد يعم بسكوت الاخيار
قال تعالى:
(فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)(7/3769)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
* * *
قال تعالى في بيان ما يصلح الأمة: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، إن الجماعة إذا كان فيها من يدعو إلى الخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر جعلها فضلاؤها، كلها فاضلة، ولقد بين سبحانه وتعالى أن سبب فساد السابقين الذين أصابهم الله تعالى بالهلاك هو أن أهل الفضل لم يدعو إليه ولو أنهم دعوا ما استجابوا لهم، فقال:(7/3770)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
(فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ)، (بَقِيَّةٍ) معناها العقل والفضل، والخلق المستقيم، و (لولا) إما أن نقول إنها شرطية حرف امتناع لوجود، وجوابها محذوف تقديره مثلا لاستقامت أمورهم ولاستجابوا لدعوة الحق إذا دعوا إليها.
أو نقول إن (لولا) بمعنى (هلا) للتحريض على أن يكون منهم فضلاء لنجاتهم، ولكن كيف يقال إن ثمة تحريضا، وقد مضوا بما كان منهم، والتحريض للحاضرين لَا للغابرين، والجواب عن ذلك أن القصة الصادقة تصورهم حاضرين ويكون التحريض لهم على التصوير، وللقائمين ليتعظوا ويعتبروا. وإطلاق كلمة البقية على الفضل إطلاق في اللغة العربية حلله الزمخشري بقوله رضي الله عنه: (أولُو بَقِيَّةٍ) أولو فضل وخير، وسمي الفضل، والجودة بقية؛ لأن الرجل يستبقى مما يخرجه أجوده وأفضله، فصار مثلا، في الجودة والفضل، ويقال فلان من بقية القوم، أي من خيارهم، وبه فسر بيت الحماسة:
" أن تزينوا ثم يأتيني بقيتكم. . . .
ومن قولهم في الزوايا حنايا، وفي الرجال بقايا ".(7/3770)
وهكذا نجد الزمخشري اللغوي البليغ يرد أصل الاستعمال القرآن إلى معناه السليم الدقيق العميق، وإن الكلام الكريم فوق كل كلام.
وخلاصة ما يرمى إليه النص أن الأمم إنما تسير في طريق الهلاك، إذا سكت عقلاؤها عن النطق بالحق في إبانه، فما كفر مشركو قريش إلا لأنه لم يكن من رشدائهم من يقاوم أمثال أبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهم في طغيانهم وظلمهم.
ولذا قال تعالى في عمل أولي البقية لو صلحوا: (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ) من فشو الأراذل، كما فشا في قوم لوط، ومن تطفيف الكيل والميزان كما فشا في قوم شعيب، ومن الشرك فيهم جميعا، حتى لقد كانوا يعبدون الأحجار ولا يوجد فيهم من يبين أنها لَا تضر ولا تنفع، ولما جاءهم الرسل، سَكت أولو البقية، ولم يرشدوا، ولم ينادوا بالحق، منكر، نسكت من يُنتظر منهم قول فاضل، وتكلم المستهزءون من الحق والساخرون.
وقال تعالى: (إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ) (من) الأولى بيانية، و (من) في (مِنْهُمْ) تبعيضية، والاستثناء قال المفسرون البلاغيون: إن الاستثناء منقطع بمعنى لكن، أي لكن قليلا منهم ممن أنجيناهم منهم قد استقاموا على الطريقة، واتبعوا سبيل الرشاد.
ولا مانع أن يكون الاستثناء متصلا غير منقطع، ويكون المعنى فلولا كان من القرون أولو بقية، أي ما كان من القرون قبلكم أولو فضل إلا الذين قليلا أنجيناهم منهم، ويكون في النص قصر الفضل على الذين اتبعوا الأنبياء، وأرى أن هذا أقرب، وعليه يكون الذين بعث فيهم النبيون قسم تبعهم، وأنجاهم اللَّه، وهم عدد قليل، وقسم عصوا ربهم، وهم الظالمون، وقد بين سبحانه أمرهم فقال عز من قأل: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ).(7/3771)
أى أن الفريق الظالم اتبع ما أترفوا فيه أي اتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه من الهوى والشهوات بكل أنواعها شهوة السلطان والجاه، وشهوة الاقتراب من الحكام، والازدلاف إليهم، وشهوة التحكم في الضعفاء، وشهوة الأثرة، وفي الجملة الترف كل ما يتنعم به من مادة، ومن أمور أخرى.
والترف والأثرة متلازمان، فحيثما كان الترف كانت الأثرة؛ لأن من يطلب النعم لَا يهمه إن كان من طيب أم كان من خبيث، وأكان باعتداء أم كان من غير اعتداء.
وإن المترفين الأثرين هم دعاة الشر دائما، ويقول تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16).
وقوله تعالى: (وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ) فيه أمور ثلاثة:
الأمر الأول: اتبع أي طلبوه، وساروا وراء الترف لَا يلوون عنه.
الأمر الثاني: ذكر أنهم ظلموا، أي تجاوزوا الحد، واعتدوا، ودفعهم ظلمهم إلى هذا الاتباع.
الأمر الثالث: أنهم اتبعوا الترف وشهوات الترف، فهذا كقوله اتبعوا الشهوات.
ولقد وصفهم - سبحانه وتعالى - مسجلا عليهم الإجرام، والآثام، فقال: (وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) أي استمروا في ماضيهم متجمعين على الإجرام، حتى صار الإجرام وصفا ملازما لهم.
وإن هذا الإجرام، والسكوت عن النهي على الفساد، وترك الأشرار يرتعون، وترك الظالمين يترفون يجعل الأمة كلها فاسدة وظالمة، وبذلك تهلك، ولذا قال تعالى:(7/3772)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
الظلم ذكر بعض العلماء أنه الشرك لقوله تعالى حاكيا عن لقمان: (. . إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). وإنه ظلم بلا ريب فيه، ويكون المعنى على هذا: وما كان الله يهلك القرى بشركها، وأهلها مصلحون فيما بينهم يتعاونون ويقيم الحق في معاملاتهم حتى لقد قال بعضهم إن الشرك مع إقامة العدل لا يهلك، والإيمان مع ظلم التعامل يهلك الأمم.
وقال بعض المفسرين: إن المراد والظاهر أنه مراد، أنه ما كان ربك ليهلك القرى ظالما لها، وأهلها مصلحون يعدلون فيما بينهم، ولا يشركون بالله ولا يكون منهم ظلم بل نصفة وعدل، فما كان الله ظالما لعباده.
وعندي قوله تعالى: (وَمَاكَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى) بظلمها، وأهلها متعاونون، صالحون للبقاء، والظلم أعم من الشرك، والاعتداء في المعاملات والفساد، والتخريب، وقطع ما أمر الله تعالى به أن يوصل.
و (مَا) هنا نافية، و (اللام) لتأكيد النفي، ولذا تسمى عند النحويين لام الجحود، والمعنى ما صح وما استقام لربك الذي خلقك وقام على تدبير أمرك أن يهلك القرى بظلم يقع فيها، وأهلها مصلحون، متعاونون فى الإصلاح أشرنا، وفاضلهم ينصح أرذلهم، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر قائمو بواجبهم، قد ابتغوا الغاية السامية، وهي نشر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة، قائمين بالقسط شهداء الله.
ولقد روى الترمذي حديثا في هذا المعنى: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه " (1).
________
(1) رواه الترمذي: الفتن - نزول العذاب إذا لم يغير المنكر (2168)، كما رواه أحمد في مسند أبي الصديق (30)، وأبو داود في الملاحم (4338)، وابن ماجه في الفتن (4005).(7/3773)
وإنه قد حق على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها الهلاك الذي نزل بها، لأن الظالم يظلم، ويجد الكثرة الكاثرة تؤيده، وتنصره على المظلومين، وتصفه بالحكمة والعدل والعبقرية، حتى اختلطت على الناس الألفاظ والحقائق، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم.
وإن إرادة اللَّه تعالى تعلقت بتنازع الخير مع الشر، من وقت أن هبط آدم وإبليس إلى هذه الأرض وقال: (. . . اهْبطُوا بَعْضُكمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ. . .). يتنازع الخير والشر، في نفس كل إنسان، كما قال تعالى: (وَهدَيَناهُ النَّجْدَينِ)، حتى إن كف النفس عن الشر يعد جهادا، يثاب عليه، ويتنازع الآحاد بعضهم مع بعض، وتتنازع الجماعات وتتحارب الدول، وتلك إرادة اللَّه، ولو شاء لخلقهم على منزع واحد، ولا تكون الحياة معتركا للخير والشر يتنازعان.
ولذا قال تعالى:(7/3774)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118)
(لَوْ) هنا حرف امتناع لامتناع. امتناع الجواب لامتناع الشر، أي لو شاء ربك الذي خلقك وذرأك وكونك على أحسن تقويم أن يجعل الناس أمة واحدة، جماعة واحدة متحدة في هدايتها وتقواها لجعلها كذلك، وما كان التنازع بين الخير والشر، والعدل والظلم، والفضيلة والرذيلة، والرزق والحرمان، والغنى والفقر إلا بإرادته؛ بين - سبحانه وتعالى - أن ذلك الاختلاف دائم مستمر، فقال تعالى: (وَلا يزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) فيما بينهم في نفوسهم، وفي آحادهم، وفي جماعاتهم، وفى أممهم.
وإن الاختلاف على ذلك ابتلاء واختبار، ليبلو الناس فيما، فمن أراد الخير انتزعه من وسط الشر انتزاعا فيكون به الثواب الجزيل، ومن أراد الشر سار فيه، وأعلام الخير واضحة معلمة، تدعوه إلى سلوكه، فإن ضل فعن بينة، واللَّه من(7/3774)
ورائه محيط، ويكون الجزاء لمن ضل عن سبيله جزاء وفاقا لما جنى على نفسه، وعلى الحق ثم يقول سبحانه:(7/3775)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
(إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ... (119)
الضمير في (خَلَقَهُمْ) يصح أن يعود إلى الناس، ويكون الاستثناء في قوله: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) استثناء من الاختلاف ويكون المعنى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة في الهداية والتقوى والفضيلة، ولكنه لم يشأ ذلك إلا في الذين رحمهم، وتكون (اللام) للتعليل، أي أن اللَّه تعالى خلق الناس متنازعين في الخير والشر، ولا يهتدي إلى الخير إلا الخلصاء الأطهار، ولذلك خلق الناس مختلفين لتبين الصفوة، ولتصل إلى الخير في وسط أشواك من الباطل فيكون لهم فضل الجهاد في الوصول إلى الحق.
ويصح أن يعود الضمير إلى قوده تعالى: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) أي المستثنى ويكون المعنى كالأول في نتيجته، وغايته أي أن اللَّه تعالى خلق الناس مختلفين متعاركين يخلص الصفوة المرضية، ولأجل تلك الصفوة، والمؤدى في التخريجين أن اللَّه تعالى خلق الناس كذلك ليميز اللَّه الخبيث من الطيب، كما قال تعالى: (مَا كانَ اللَّهُ ليَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ما أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَميز الْخَبيثَ منَ الطَّيبِ. . .).
وإن القلة التي يرحمها اللَّه بالإيمان، والكثرة هي تكون في النار، ولذا قال تعالى:
(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
أشار سبحانه وتعالى إلى الذين رحمهم اللَّه تعالى، وفي هذا النص يذكر الذين عصوا أمر ربهم، والرحمة بهم ليست من عدل اللَّه، لأنهم لم يرحموا أننسمهم، ومن لَا يَرحم لَا يُرحم، فقال تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ).(7/3775)
وتمام الكلمة إحكامها بحيث لَا تتغير، ولا تتبدل، ولا تتخلف، وكلمة اللَّه تعالى هي أمره الذي ظهر في قوله. وفي الكلام قسم مطوي دلت عليه اللام في (لأَمْلأَنَّ) فهي لام القسم، ونون التوكيد ملازمة للقسم فهي أيضا دالة عليه، وقوله تعالى: (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
(مِنَ) هنا لبيان من يملأ منهم، و (الْجِنَّةِ) الكلام على تقدير العصاة أي من عصاة الجن، وعصاة الإنس، والجِن عبر عنهم بالجِنة، والإنس عبر عنهم بالناس كما في قوله تعالى: (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ).
وقدر عصاة الأمرين:
الأمر الأول: أن الجزاء بجهنم كما في عرف القرآن، وكما هو العقل - يكون للعصاة.
الأمر الثاني: أن الناس مختلفون، فذكر اللَّه تعالى أهل الطاعة، وتفضل عليهم برحمته، فقال فيما سلف (إِلَّا مَن رَّحِمَ) والمخالفون لهم هم العصاة، وكان بمقتضى التقسيم أن تكون لهم جهنم، وقد تأكد أنهم يملأونها.
وعلى ذلك تكون كلمة (أَجْمَعِينَ) تأكيد، بأن العصاة كلهم سيدخلون جهنم، وتمتلئ بهم لَا يفر منها جبار، ولا نافخ نار.
وإذا أريد جنس الجنة، وجنس النار يكون الظاهر، أنه لَا ينجو من أحد الجنسين أحد، ويكون التأكيد لبيان أنه يستوي الجنسان، في ألا يغادرها أحد، كما تقول ملأنا الحقيبة من أوراق امتحان الشريعة، والمدني والجنائي، جميعا، أي فيها الأصناف جميعا غير متخلف بها صنف من هذه الأصناف.
ولا شك أن التقدير الأول أظهر وأبين، وسياق القول يقتضيه، ولقد روي في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ(7/3776)
وَالمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الجَنَّةُ: مَا لِي لاَ يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ: فَلاَ تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ " (1)، والله أعلم.
* * *
القصص لتثبيت النبي ووعظ المؤمنين
قال تعالى:
(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
* * *
________
(1) رواه البخاري: التوحيد: ما جاء في قوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (7449)، وتكرر ثلاث مرات بنحو من هذا، كما رواه مسلم: الجنة وصفة نعيمها - النار يدخلها المتكبرون (2847)، بلفظ: " تحاجت الجنة والنار "، وفيه: " فأما الجنة فينشئ الله لها خلقا ".(7/3777)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
(وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ) التنوين في (كُلًّا) عوض عن مضاف إليه محذوف يقدر بما يتناسب مع ما يجيء بعده، و (كُلًّا) منصوب بقوله تعالى: (نَّقصُّ) والتقدير على ذلك، وكل نبأ أو كل خبر، أو كل قصص، نقصه عليك متى نخبرك به متتبعين خفاياه، كما يتتبع قاص الأثر الآثار.(7/3777)
وقوله تعالى: (مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ) أي أخبارهم ذات الشأن كدعوتهم إلى التوحيد، ورد أقوامهم، ومعاندتهم، ثم نزول الهلاك بهم، بعد أن استيئس الرسل، ووقع في نفوسهم أنهم كذبوا، ولا علاج في رشدهِم، وإقرار اللَّه تعالى لما آل إليه أمر هؤلاء المكذبين كقوله لنوح: (. . . أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ. . .) وذكر اللَّه تعالى، ثمرة هذا القصص الذى يقصه تعالى من أنباء المرسلين، فقال عز من قائل:
(مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).
فكأن الثمرات لهذا القصص الصادق ثلاث:
الأولى. تثبيت فؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - إزاء إنكار المشركين وإيذائهم للنبي عليه الصلاة والسلام ومن معه من المؤمنين فإن أولئك الرسل أوذوا كما أوذي، وكانت الباقية لهم وللمتقين فليطمئن النبي عليه الصلاة والسلام إلى العاقبة، ولا يغرنك تقلبهم في البلاد فالعاقبة لك ولأصحابك، ومعنى تثبيت فؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم -زيادة تثبيته بأنه لم يكن بدعا من الرسل، وإذا كان اللَّه تعالى قد عذب أقوام الأنبياء الصادقين بالعذاب الذي يجتث من فوق الأرض العصاة، فإنه سيعذب قومك بأمر إرادي كذلك لينتفى الظالمون، فيحصدون بالسيف، ويبقى غيرهم ممن يرجى أن يكون منهم أو من أصلابهم من يعبد اللَّه.
الثانية: الموعظة، وهي الاتعاظ بمن أنزل اللَّه تعالى عليهم العذاب، والاتعاظ طريق الإيمان، ومن لم يتعظ بغيره، فالبلاء في نفسه شديد، وهذا الاتعاظ للمؤمنين أي الذين في قلوبهم اتجاه إلى الإيمان.
الثالثة: الذكرى، أي التذكر الدائم المستمر لما نزل بالأقوام الظالمة.
وهذه أيضا للمؤمنين والذين يتجهون بقلب مدرك للإيمان، هذه ثمرات القصص.(7/3778)
وقد ذكر اللَّه تعالى بعد تثبيت قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقبل موعظة المؤمنين، (وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ) مؤكدا أن هذه الإيتاء هو الحق الكامل الذي لَا حق فوقه لأنه ثابت صادق، وفيه التثبيت والموعظة، والتذكر الدائم، وقد أكد سبحانه وتعالى أنه الحق بـ (ال) التي تدل على أنه كمال الحق لَا ريب فيه (فِي هَذِهِ) أكثر المفسرين على أن الإشارة إلى السورة، لأنها اشتملت على قصص مفصل لبعض الأنبياء.
وروي عن قتادة أن الإشارة إلى الدنيا، واللَّه أعلم.
بعد ذلك أمر اللَّه تعالى نبيه أن ينبه المشركينِ إلى هذا القصص الصادق، وفى هذا التنبيه تهديد لهم فقال تعالى:(7/3779)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121)
(وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121)
المكانة الحال، وما تمكنوا منه، والأمر للتهديد، كما تقول لمن يفعل الشر، افعل ما يبدو لك، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن مما أدركه الناس من أقوال النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (1)، وكما في قوله تعالى: (. . . اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ. . .).
فالأمر للتهديد، وعبر اللَّه تعالى عن المشركين بقوله تعالى: (لِّلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) بفعل المضارع، أي ليس عن طبيعتهم، وكيانهم أن يؤمنوا، فالكافر الجاحد تنحل عقدة الإيمان في قلبه، فلا ينعقد قلبه على إيمان، بل هو جاحد مضطرب الفكر والنفس والقلب تأسره الأهواء المتنازعة، ويسير مع أشدها انحرافا، وأقواها استهواء (اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ)، أي على حالكم التي أنتم عليها من الغي والضلال، والاستكثار من الأموال، والأهواء والشهوات، وكل ما تمكنون منه من أهواء وشهوات ومفاسد، وبيَّن أن المؤمنين والنبي عاملون فقال: (إِنَّا عَاملُونَ) أي مستمرون في حالنا من إيمان، وإذعان للحق، وصبر على آذاكم
________
(1) سبق تخريجه.(7/3779)
والعاقبة ليست واحدة، فأنتم إلى طريق النار، وغضب اللَّه، ونحن إلى طريق رضا اللَّه، ولكم عبرة ممن مضوا، وقد علمتم قصصهم، ثم أكد - سبحانه وتعالى - التهديد، والبشرى للمؤمنين، فقال:(7/3780)
وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
(وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
أي انتظروا بقية أعمالكم، وعواقب فسادكم وجحودكم، وما استهواكم من مفاسد، و (إِنَّا مُنتَظِرُونَ) ما نرجو من رحمته ورضوانه، وجزاء وفاقا لأعمالنا.
وهذه مقابلة بين الحق والباطل، وسوءى الباطل، وحسنى العاقبة في الحق واللَّه بكل شيء عليم.(7/3780)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123).(7/3780)
(سُورَةُ يُوسُفَ)
تمهيد:
سورة يوسف سورة مكية، وعدد آياتها إحدى عشرة ومائة، وقالوا: إن أربع آيات هي الأولى والثانية والثالثة والسابعة مدنية، ولا نرى فيها ما يدل معناها على أنها مدنية، والله أعلم.
ولقد كفرت طائفة من الطوائف الخارجة عن الإسلام بإنكارها سورة يوسف، وادعاء أنها ليست من القرآن، وكأن القرآن يخضع بالزيادة والنقصان للأهواء المنحرفة، وإن ادعت التمسك بالدين، فهي تمرق منه مروق السهم من الرمية، وأولئك هم أتباع عبد الكريم عجرو، وإن القرآن كله غير منقوص ثبت بالتواتر عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأنه تلقاه عن جبريل الرسول الأمين عن رب العالمين مرتلا متلواّ، كما قال تعالى: (. . . وَرَتَّلْنَاهُ تَرتِيلًا).
وما كان لنا أن نعرف ما دفعهم إلى هذا الإنكار الذي كفروا بسببه، ولكن نذكره لبيان أنه وهم كافرين لم يذوقوا القرآن ولم يعلموه، قالوا إنها قصة غرام، ونزلت دفعة واحدة، والقرآن منزه عن ذكر الغرام والحب، والقرآن نزل منجما، ونقول في الإجابة عن ذلك، إنها قصة المجتمع المصري، والأسرة الفرعونية التي طغت في البلاد وأكثرت فيها الفساد، وقال قائلهم: (. . . أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى)، وبيته على هذا النحو من الانحلال، وهي بينت مغبة الغرام، وكيف يوجد الانحلال، والاستعصام بالفضيلة حيث تفور فورة الرذيلة، ودعوة الوحدانية في وسط الوثنية، وتدبير الاقتصاد، واستعانة الفراعنة بخبراء الاقتصاد حيثما كانوا، وخضوعهم لآرائهم، وتوسيد الأمر لهم، ثم هي تبين مركز مصر(7/3781)
الاقتصادي، واستعانة من حولها بها، ثم تثبت نفسية الآباء مع الأبناء، والحسد بين الإخوة، وما ينبغي عند تربية الأولاد.
وإن ما سموه الغرام المنحرف لم يكن إلا في جزء صغير منها، ولم يستغرقه، بل ترددت عباراته، وقد ابتدأته بـ (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ. . .)، وانتهت بدخوله السجن، وهي ثماني آيات، فيها الغرام من جانبها والاستعصام من جانبه، وباقي السورة حكمة واقتصاد وتدبير، وتعاون، ومشقة وصبر، ثم لقاء الأحباب على مائدة المودة والأخُوة الودود.
فكيف تسمَّى سورة غرام إلا ممن انحرف عقله انحرافا منعه من استيعاب السورة.
وإن القرآن لم ينزل كله منجما، فأول سورة التوبة نزل دفعة واحدة، وأكثر سورة الأنعام نزل دفعة واحدة وسورة إبراهيم أكثرها نزل دفعة واحدة.
وإذا كان ممن تسموا باسم من الخوارج من قال هذا القول، فقد كان منهم أيضا، من أجاز نكاح البنات والأمهات والمجوس، وهم - بلا شك - كافرون كإخوانهم.
ونقول: إن أكثرهم كان مؤمنا منحرف العقل، ورضي الله عن علي بن أبي طالب إذ قاتلهم، وقتل منهم مقتلة كبيرة، فقد قال بعد ذلك القتال: (لا تقاتلوهم بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأصابه).
إن القصص الذي في هود وغيرها، كان في الأرض العربية، ولم يكن فيها من غير البلاد العربية، إلا قصة موسى عليه السلام، وقد ذكر فيها طغيان فرعون، وخضوع أهل مصر له، في نفوسهم، وأفكارهم، وعقولهم حتي ساغ له أن يقوك: (. . . مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29).
أما قصة يوسف عليه السلام فإنها تناولت ناحية اجتماعية، تعرضت للأسرة، وما يجري في داخل القصور، وتعرضت للمجتمع المصري، وانحراف نساء الطبقة التي(7/3782)
تسمى راقية، ثم تعرضت للاقتصاد في مصر، وكيف كان يدبره إلى آخر ما جاء في السورة الكريمة، ثم صوَّرت لقاء الأحبة بعد أن فرق الحسد فيما بينهم.
* * *
الحسد بين الإخوة في سورة يوسف
إذا كان الحسد بين ابني آدم قد حمل أحد الأخوين على أن تطوع له نفسه قتل أخيه، فقتله، فالحسد بين يوسف وإخوته على أن يحاولوا أن يلقوه في غيابة الجب.
رأى يوسف رؤيا صادقة، وهو غلام، قال يوسف لأبيه (. . . يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) فَهِم يعقوب الأب الحبيب الذي يؤثر يوسف على إخوته باختصاص بمحبة أكثر لصغره، ومنها أن ليوسف منزلة عند الله فوق منزلة إخوته، فقال له: (. . . لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ).
ولقد أخبره باصطفاء ربه له، وتعليمه من تأويل الأحاديث، ما قد يثير إخوته.
(لَقَدْ كَانَ فِي يُوسفَ وَإِخوَتِهِ آيَاتٌ للسَّائِلِينَ)، أي دلائل تبين حكمة الله تعالى في الخلق والتكوين، وطبائع النفوس، وطغيان الحسد على المحبة الأخوية والمودة الواصلة، وإن تسعة أعشار الجرائم أو كلها سببها الحسد، فإذا اقتلع من النفوس اقتلع أكثر الأخباث النفسية. و (لِّلسَّائِلِينَ) أي الباحثين الدارسين لطبائع النفوش.
ابتدأ التدبير السيئ بقولهم: (. . . لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ. . .)، لم ينفذوا القتل، أو لم يريدوه، وذلك للمشورة، فكان منهم(7/3783)
من لم يرد القتل المباشر، بل أراد القتل البطيء، أو الموت المحتمل وذلك حين تكون الحياة أقرب من الموت، ولذا قال: (. . . يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ. . .).
* * *
التنفيذ
ذهبوا إلى أبيهم، و (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12).
عندئذ قال يعقوب ما يدل على توجسه خيفة على ولده الحبيب العزيز، وفرطت من الرجل الطاهر نبي الله كلمة اتخذوها ذريعة لستر جريمتهم، قال لهم: (. . . إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13).
لقد ذكر أنه يخاف أن يأكله الذئب، في غفلتهم، فلقنهم ما يستر إجرامهم، قالوا وقد وجدوا الحجة وأخفوها في أنفسهم، (. . . لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14).
ذهبوا به واجتمعوا أن يلقوه في غيابة الجب (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)، وقد ألقى اللَّه تعالى في روع يوسف الغلام الحبيب أنه سيعلو عليهم، وسينبئهم بأمرهم هذا وهم لَا يشعرون.
بعد أن ألقوه في الجب (وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17).
وهكذا ترى أن الأب الشفيق الكريم قال إني أخاف أن يأكله الذئب، فقالوا ساترين جريمتهم أكله الذئب، ونبي اللَّه تعالى لم يصدق أبناءه، بل قال بعد أن جاءوا على قميصه بدم كذب: (. . . قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18).(7/3784)
استراح إخوة يوسف، أو توهموا أنهم استراحوا، وعشى على قلوبهم الحسد البغيض فلم يدركوا ما صنعوا وبقيت لوعة الشيخ أبيهم تترقب ابنه، ولم يذهب عنه الأمل في لقائه، ولم ييئس (. . . إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).
ولننظر في قصة القرآن عما جرى ليوسف، وقد ألهمه اللَّه تعالى الاطمئنان، جاءت قافلة تسير فأرسلوا واردهم يتعرف أماكن الماء، فوجد الجب، فألقى دلوه، فلم يخرج الماء، ولكن خرج ما هو أطهر فاستبشر، و (. . . قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ. . .)، وأسروه على أنه بضاعة، ولأنها بضاعة جاءت من غير ثمن، باعوه بثمن بخس دراهم معدودة، ولم يكونوا راغبين في اقتناء هذه البضاعة بل كانوا فيه من الزاهدين.
وإذا كان قد استقبل شقوة الحسد، فقد استقبل بعد ذلك بالبشر والحبور، (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا. . .)، وكذلك أشرق النور في وسط الظلمة.
وبذلك مكن اللَّه تعالى ليوسف، وألهمه اللَّه تعالى تأويل الأحاديث التي تتحدث بها النفس في منامها، (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22).
ولكن النفس الصبور يصقلها الله تعالى بالشدة، وإذا كانت الشدة التي استقبلته أولا كانت تتعلق بحياته أو موته، فالشدة الثانية أخطر على نفس الصديق يوسف.
(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عن نفْسِهِ. . .)، أي أرادته لنفسها، وحاولت أن تخرجه من نفسه الطاهرة الصافية، (. . . وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ. . .).
في وقت هذه المحنة النفسية رأى نور الحق الذي يعصم نفسه، فبقي(7/3785)
نقيا طاهرا، وصرف عنه السوء والفحشاء، إنه من عباد الله الصالحين، واستبقا بعد ذلك إلى الباب هو يفر هاربا، وهي تمنعه وتجذبه إليها، وفي هذه المسابقة قَدَّت قميصه من ورائه، لأنها تجري وراءه لتشده إليها مانعة له من الخروج.
ولكنهما وجدا سيدها لدى الباب، وببداهة المرأة التي تفجر ألقت التهمة على يوسف، و (. . . قَالَتْ مَا جَزَاء مَن أَرَادَ بأَهْلِكَ سُوءَا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمّ).
فبرَّأ يوسف نفسه عن التهمة، وقال الصدق: (. . . هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفسِي. . .).
اتهمته كاذبة، واتهمها صادقا، فلم يندفِع العزِيز، واحتكم، فحكم حكم من أهلها: (. . . إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
فألفيا قميصه قُدَّ من دبر، وبذلك تبين كذبها، وصدقه.
اطمأن زوجها إلى براءة يوسف، وقال: (. . . إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29).
وإن أخبار القصور تشيع وتنتشر، وقد كانت قصة المراودة بين زوج العزيز، ويوسف، وزوجها وبعض ذوي قرباها، ولا ندري كم كان عددهم، والخبر إذا خرج عن اثنين شاع، والناس دائما في شوق إلى ما يجري داخل القصور، وينشر دائما ما فيه غرابة.
(وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ... ) فأقامت لهن وليمة (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32).(7/3786)
ومع تصميمها على المراودة، كان تصميم يوسف على الطهر، والدفع، ورضي بالسجن عن هذه المعصية و (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ. . .).
كان الخبر يشيع، وقد رأى العزيز وملؤه الآيات الدالة على براءة يوسف، وأنه كان فريسة الراودة ولم يكن فاعلها. وقد رأوا حسما للشائعات حبسه (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) أي حتى تمر مدة تهدأ فيها عواصف الشائعات.
دخل السجن، ومعه فتيان، استأنسا به، وفاضت نفوسهما إليه، ورأى كل منهما رؤيا، فقال أحدهما يقص رؤياه: (. . . إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36).
أجابهما، (قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38).
ابتدأ بالدعوة إلى التوحيد، وهو رسالة النبيين، ومعه دليلها، وهو تعليم اللَّه تعالى له، أنه ينبئهم بما يأكلون، كما علم عيسى من بعده، ثم أوَّل رؤياهما فقال: (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41).
ويظهر أنه أُهمل أمره، فأراد أن يذكر العزيز به: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42).
رأى الملك رؤيا فتذكر الناسي، (وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44).(7/3787)
وهكذا شأن أتباع الملوك، لَا يتذكرون واجبا إلا لإرضاء صاحب السلطان فادّكر بعد فترة طويلة ساقي الخمر للملك (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا. .) وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ (. . . أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) ذهب إلى السجن، وقابل السجين الطاهر المؤمن النبي، فقال: (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46).
قال الصدّيق الطاهر، الذي علمه ربه: (. . . تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49).
أي يحلبون، ويعصرون فالعصير من الثمار.
علم الملك الذي أوّلت له الرؤيا، ولعله نسي المراودة وأمرها كشأن حكام مصر من الأزل، ينسون من يحسن إليهم ولا يذكرونه، وأي إحسان أعظم من أن يكرم شرفه وعرضه.
قال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي، ولكن يوسف الصديق الطاهر لا يذهب إلا وقد ثبتت براءته، فقال للرسول الذي أرسله الملك (. . . ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50).
رجع الملك إلى الماضي، وسأل امرأته التي فتنت بالصديق وأسند يوسف الكريم الأمر إلى النسوة، ولم يسنده إلى امرأة الملك.
قال الملك: (. . . مَا خطبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ. . .)، عندئذ تقدمت امرأة العزيز تعترف بذنبها، وتبرئ يوسف، قالت امرأة العزيز: (. . . الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)(7/3788)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53).
بعد هذه البراءة، وقد تضمنت حياته في السجن دلائل نبوية، ودعوة إلى التوحيد إذ يقول: (. . . أَأَرْبَابٌ متَفَرِقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) كانت حياة جديدة، دعاه الملك واستخلصه لنفسه، وقال: (. . . إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)، تولى أمر المالية المصرية (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57).
كانت مصر في ذلك الإبَّان وما بعده مُستراد الخير (1)، وبتنظيم نبي اللَّه يوسف، وتمكينه من الملك صارت مقصد الشرق، وجاء إخوة يوسف يمتارون، فعرفهم إذ لم يكن التغيير فيهم كبير، ولم يعرفوه إذ ألقوه في الجب غلاما، وقد صار رجلا مكتملا، وقد جهزهم، وأعطاهم ما طلبوا، ولكن قال لهم:
(. . . ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61).
وإنه بهم لشفيق إذ قال لمن معه، ( ... اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يرْجِعُونَ) وذهبوا إلى أبيهم وقالوا: (. . . يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64).
فتحوا متاعهم فوجدوا بضاعتهم ردت إليهم، ففرحوا وقالوا ما نبغي شيئا فوق ما سهله لنا.
(. . . قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65).
________
(1) اسم مكان، والمعنى: مكان استيراد الخير لما حباها اللَّه بها من أنواع الخيرات ووفرتها في أرضها الغنية.(7/3789)
ولكن الشيخ يعقوب حريص على ولده، ويريد المواثيق عليه (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66).
ولشفقته على أولاده وخوف العَيْن قال: (. . . يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ. . .)، ولكنها الشفقة الأبوية دفعته لأن يتصون عليهم.
دخلوا على يوسف، فآوى إليه أخاه، وقال: (. . . إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، ثم جهزهم بجهازهم، وأودع السقاية في رحل أخيه (. . . ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72). زعيم: أي كفيل، قالوا: (. . . مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ. . .)، أي يكون مِلْكا.
أخذوا يفحصون أوعيتهم قبل وعاء أخيه، ثم استخرجوها من وعاء أخيه، كذلك كان تدبير اللَّه تعالى ليأخذ أخاه بعد طول افتراق.
ولقد كانت لفتة من عداوة أبناء العِلات (1) التي تظهر في القول لَا تزال متمكنة في قلوبهم (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79).
ندموا وتذكروا موثق أبيهم، وذكرهم به كبيرهم، وقال: (. . . فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ
________
(1) أبناء العِلات: أبناء الضرائر، أي أن الأنبياء يرجعون إلى أب واحد وهو إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء، وإن اختلفت أمهاتهم.(7/3790)
فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82).
قالوا لأبيهم ذلك، ولكنه أحس بأمر، رشح له ما كان بالنسبة ليوسف من قبل، فقال مثل مقالته الأولى: (. . . بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ. . .) وبإلهام النبوة توقع الخير في وسط هذه الشدة، وقال: (. . . عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87).
ذهبوا إلى يوسف طالبين الميرة مرة أخرى، و (. . . قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88).
* * *
اللقاء على المودة والعفو
أعلن يوسف الصديق نفسه لإخوته فقال لهم: (. . . هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91).
قال كلمة العفو الودود: (. . . لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا. . .)، ذهبوا إلى الشيخ الذي ابيضت عيناه من الحزن، فأحس بريح يوسف، وقالوا: إنه أحس من بُعْد ثمانين ميلا، ولا غرابة في ذلك فهو أبو الأنبياء (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)(7/3791)
قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98).
وبهذا تنتهي قصة يوسف الصديق الحبيب؛ أُخذ من بين أهله، وأُلقي في الجب، وانتهى ملكا مصلحا، ونبيا مبشرا ونذيرا، وكان له أثر في مصر، ذُكر بعده بقرون عندما بعث موسى، فقد قال تعالى على لسان مؤمن آل فرعون: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ ممَّا جَاءَكُم بِهِ. . .).
التقى الأحباب (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا. . .)، أي خضعوا لحكمه كما تخضع الرعية لراعيها العادل، لَا أنهم سجدوا له كما كان يسجد للفراعنة، فمعاذ اللَّه أن يكون نبي اللَّه يعقوب ساجدا لغير اللَّه، ومعاذ اللَّه أن يقبل ذلك يوسف نبي اللَّه من أبيه.
أخذ يذكر يوسف أباه برؤياه الأولى، ويذكر له كيف أخرج من السجن بعد أن نزغ الشيطان بينه وبين إخوته ولم يبق إلا أن يحمد اللَّه على ما أوتي من نعمة، ويقول: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101).
* * *
العبرة
كانت القصة كلها من الأخبار الغيبية على العرب، وقد كان فيها أخبار عن ناس لم يكن من شأنها أن تكون معلمة، معلنة، إذ هي أخبار أسرة، (. . . وَمَا كنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) فتلك أخبار النفوس لَا يعلمها إلا علام الغيوب، وتلك معجزة الذي كفروا به.
وإن الكون كله آيات بينات دالة على منشئه الواحد الأحد الفرد الصمد، وإذا كانوا يؤمنون باللَّه تعالى، فهو إيمان بالقدرة، ووحدانية الخالق المنعم، ولكنهم يعبدون غيره، وهذا قوله تعاِلى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُون).(7/3792)
وإنهم يرون آيات اللَّه تعالى تنزل بالمشركين، (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107).
وإن الحق ما تدعو إليه، (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108).
ولقد بين سبحانه وتعالى أنه لم يكن بدعا من الرسل، وأن الرسل قبله كانوا مثله، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109).
ويبين للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرسل كانوا يستيئسون، وفي حال يأسهم يجيء عذاب اللَّه للمشركين (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110).
الرسل جميعا اعتراهم اليأس إلا محمدا - صلى الله عليه وسلم -، وذلك فضله عليهم أجمعين، بل قال وهو في أشد ما نزل به وقد فقد الناصر والمواسي: " إني لأرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله " (1)، ولقد ختم السورة بقوله تعالت كلماته: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
صدق اللَّه العظيم.
ما سبق استعراض لمعاني سورة يوسف عليه السلام إجمالا، وما كانت قصة غرام كما افتراه الكاذبون، إنما فيها آفات النفوس في الأسر، وعلاجها، وفيها علاج المجتمعات التي يصيبها الفقر، وفيها أن الشفقة في الأسرة هي إدامها، وفيها أن الشيطان ينزغ في النفوس من الحسد الذي يؤدي إلى أشد الجرائم فظاعة.
* * *
________
(1) انظر البخاري: بدء الخلق - ذكر الملائكة (2992)، ومسلم: الجهاد والسير - ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - (3352).(7/3793)
معاني السورة الكريمة
قال تعالى:
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
* * *(7/3794)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1)
ابتدأ سبحانه وتعالى هذه السورة بحروف صوتية منفردة، ومهما يحاول العلماء أن يفسروها لَا يصلون إلى معانيها وهي ظنون يرددونها وليست معاني يستقيم إدراكها، إنها متشابه اختص اللَّه تعالى بعلمه، وقد آمنا به، كل من عند ربنا، ولا ينبغي تأويله، وما يعلم تأويله إلا اللَّه.
ونتلمس الحكمة في نزول هذه الحروف، فما أنزل اللَّه شيئا إلا لحكمة، وما أنزل شيئا عبثا سبحانه، وإنا نتلمس الحكمة في أمور:(7/3794)
الأمر الأول: أنها حروف مفردة لَا يعرفها الأُميّ، ويعرفها الكاتب، فمجيئها على لسان أمي دليل على إعجاز القرآن الكريم.
الأمر الثاني: أنها تشير إلى الإعجاز، فهي تشير إلى أنه مكون من الحروف التي تتكلمون بها، ولكنه معجز، فهو من جنس كلامكم، ولكنكم لَا تستطيعون أن تأتوا بمثله؛ لأنه فوق طاقتكم، وإن كان قريبا لكنه معجزة.
الأمر الثالث: أن كبار المشركين كانوا قد اتفقوا على أن يلغوا إذا سمعوه ليشغلوا أنفسهم، فكان النبي ومن معه من المؤمنين إذا ابتدءوا يقرأون بهذه الحروف الصوتية قطعوا عليهم كفرهم والتفتوا مستمعين ناقضين ما اتفقوا عليه، كما اتفقوا على ألا يذهبوا ويسمعوا، ثم تبين أن المتفقين على المقاطعة، قد اجتمعوا ليسمعوا.
ولذا يذكر القرآن أمر الكتاب بعد هذه الحروف في كثير من السور التي ابتدئت بها، واللَّه أعلم.(7/3795)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ... (2)
الضمير يعود على القرآن الذي تشير إليه هذه الحروف، حتى قيل: إنها اسم للسور التي تصدرتها (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) أي أنزلناه كتابا يقرأ عربيا، وليس أعجميا، فهو قرآن عربي، وليس بأعجمي، وهذا النص يدل على أمرين:
الأمر الأول: أنه نزل مقروءا متلوّا، علمنا اللَّه تعالى قراءته وتلاوته، ولم يتركنا نتصرف في قراءته، كما نقرأ كلاما من كلام الناس، بل علمنا قراءته وترتيله، كما قال تعالى: (. . . وَرَتَلْنَاهُ تَرْتِيلًا). وكما قال تعالى في نزوله، وجبريل يقرئه للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19).
الأمر الثاني: إن القرآن المعجز هو العربي، وليست ترجمته قرآنا؛ لأنها من عبارات البشر، ولأن الترجمة لَا يمكن أن تكون محققة لمعاني القرآن، إذ هو(7/3795)
عميق يغوص فيه الغواصون على الحقائق، وإنه محدد المعاني، تزيد المعاني في نفس القارئ بمقدار ما يزداد إدراكه، وهو واضح لكل إنسان بمقدار إدراكه، فالأمي يدرك منه بمقدار ما تتسع له طاقته العلمية، والعالم بالكون تتسع له المعاني بمقدار طاقته، ولذا وصفه العربي البليغ بقوله: إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو، ولا يُعْلَى عليه.
ولا يصح أن يدعى لأحد أنه ترجم القرآن، وأن ترجمته قرآن يتعبَّد بتلاوته، ويسجد له سجدة تلاوة ولا يمسه إلا وهو طاهر، وقد أجمع على ذلك العلماء؛ السلف والخلف على سواء، إلا من ران اللَّه على قلبه وعقله، وإذا كان قد روي عن أبي حنيفة أنه أجاز الفاتحة بالفارسية، فإن الراجح أنه رجع عن ذلك، عندما لانتْ ألسنة الأعاجم، بقراءة القرآن (1)، وقانا اللَّه تعالى شر البدعة والمبتدعين.
وقال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)، أي رجاء أن تعقلوا معانيه، وما يدعو إليه وما يتضمنه من بلاغة معجزة وما فيه من بلاع للناس، والرجاء من الناس لَا من اللَّه، أي لعلكم تكونون في وضع من يرجو الإدراك السليم، والله عليم بما تخفي الصدور.
وقد مهد اللَّه سبحانه وتعالى لقصة يوسف، التي كان الخبر عن يوسف الصديق عليه السلام هو قطبها الذي دارت عليه أخبارها، عليه وعلى نبينا أفضل السلام وأتم التسليم، فقال:
________
(1) راجع كتاب " أبو حنيفة " للإمام محمد أبو زهرة.(7/3796)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
الضمير (نَحْنُ) ضمير المتكلم، وهو اللَّه تعالى، وهو الله العظيم في ذاته وصفاته، (نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ)، والقصص الإخبار المتتابع، الذي يحكى، ويتبع ما يحكيه، تتبع الاستقصاء، وعبر عنه سبحانه بأنه (أَحْسَنَ(7/3796)
الْقَصَصِ)؛ لأنه قُصَّ بأبدع أسلوب، ولأنه يبين عجائب النفوس، وفيه أحسن الآداب، وما ينبغي لاتقاء آفات النفوس، وانحرافها، ولأن فيها علاج الآفات النفسية التي ينزغ فيها الشيطان نزغته، ولأن فيها علاج الأمم في اجتماعها واقتصادها وإفضاء بالخير على جيرانها، وإمداد المحتاجين من الأمم، ففيه الخير، كما في إمداد الآحاد بالخير.
(بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ) أي أن هذا القصص مصدره الوحي، ولا علم لأحد به حتى يعلمك هذا، ولذا قال: (بِمَا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ)، أي بإيحائنا، ولا مصدر له إلا وحي اللَّه تعالى، وقد أوحى به في ضمن القرآن الكريم، ليكون دليلا من أدلة إعجازه، وسببا من أسباب الإعجاز، إذ أخبر بما هو صادق، ولم يكن للعرب علم به عندهم، ولذا قال تعالى: (وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) " إنْ " مخففة من الثقيلة، وإنها ضمير الشأن والحال، والمعنى وإن الحال والشأن كنت من الغافلين، و " اللام " لام التوكيد، وقد تأكد نفي علم النبي بذلك من غير الوحي بـ " إن " المخففة من الثقيلة، و " كان " الدالة على استمرار غفلته عنه من قبل ذلك القرآن المبين الذي أوحى به.
وعبر سبحانه بإثبات الغفلة، لَا بمجرد نفي العلم؛ للإشارة إلى أن هذا من دقائق العلم وعميقه الذي تغفل عنا، العلماء، إلا من يكون آتاه اللَّه تعالى وحيا من علام الغيوب؛ لأنه علم بالنفوس، وخواطرها وما تختلج به الأفئدة، وذلك لا يكون إلا من عليم، وفيه علم كامل بالاقتصاد من غير تعليم أحد من البشر، فعلم يوسف بالاقتصاد الصالح مع النزاهة النبوية علم من اللَّه، فعلمه اللَّه تعالى تأويل الرؤيا الصادقة، وبها اهتدى ودبر الأمر، وادخر من سني الرخاء للشدة، وكان تدبيره خيرا، وبذلك علم الناس، ألا يسرفوا في رخاء حتى لَا يقحطوا إذا اشتدت من بعد.
وقد ابتدأ سبحانه وتعالى ذكر القصص بذكر الرؤيا التي رآها، وهو غلام،
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)(7/3797)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
(إنِّي رَأَيْتُ) من الرؤيا لَا من الرؤية البصرية، فهي رؤيا في المنام، لقول أبيه له فيما قصَّ القرآن الكريم: (لا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ)، الرؤية تكون رمزا لأمور مغيبة، فهذه الكواكب أحد عشر، رمز لإخوته وعددهم أحد عشر، وقد قال في ذلك ابن عباس وقتادة: الكواكب إخوته، والشمس أمه، والقمر أبوه، وهذا تأويل الرؤيا كما فهم يعقوب أبوه عليه السلام، والسجود هو الخضوع، وقد ظهر التأويل الصادق في آخر السورة، وقد خضع لحكمه أبواه وإخوته.
وإن هؤلاء كانوا إخوته من أبيه، كما جاء في حالهم عندما سألهم عن أخ لهم من أبيهم، وهو شقيقه فدل هذا على أنه مع إخوته الأحد عشر من أولاد العلات الذين تختلف أمهاتهم، ويتحد أبوهم، ولا يكونون متحابين كتحاب أولاد الأعيان أي الأشقاء، ويجد الشيطان فرصة لينزغ بينهم.
وقد ذكروا أسماء الكواكب في روايات لم تصح عندنا، ولا نحتاج إلى معرفتها؛ لأن المغزى متحقق، وهو أنه رأى هذه الرؤيا الصادقة، ورؤيا النبيين لا تكون إلا صادقة، ويوسف عندما رآها كان غلاما، ولا يمنع ذلك من أن تكون صادقة، فإن صدق الرؤى ليس مقصورا على الأنبياء، إنما رؤى الأنبياء مقصورة على الصدق، رأى نبي اللَّه تعالى يعقوب عليه السلام، ما يحرك نفوس الإخوة، أن تثير هذه الرؤيا حسد إخوته الذين ليسوا أشقاء فقال:(7/3798)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
(لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
هذا درس حكيم لمن يكون له أولاد علات، يجب عليه أن يعلم أن الشيطان ينزغ بينهم بالعداوة ويزكي لهيب التحاسد بين الأولاد، فيجب عليه أن يمنع ما يوجب التحاسد، فوراء التحاسد التباغض، وعداوة القرابة تكون أشد إزراءً (1)، كما قال الشاعر:
________
(1) جاء في القاموس المحيط (زرى): زَرَى عليه زَرْيا وزِرايَة ومَزْرِيَةً ومَزْراة وزُرْيانًا، بالضم: عابَه، وعاتَبَه.(7/3798)
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند لم يرد نبي الله يعقوب أن يذكر يوسف الرؤيا لإخوته وقال في سبب النهي عن قص الرؤيا على إخوته (فَيَكِيدُوا لَكَ كيدًا) (الفاء) تدل على أن ما قبلها وهو القصص سبب لما بعدها وهو الكيد، والكيد هنا هو التدبير السيئ الذي يسببه الحسد، الذي هو سلاح الشيطان، لذا قال بعد ذلك (إِنَّ الشَّيطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مبِينٌ) أي إنه عدو لك ولإخوتك، ولذا يغري بينكم بالعداوة والبغضاء، وتكون الإساءة بدل الود.
وإن هذه القصة فيها آيات بينات دالة على النفس الإنسانية في توادها، وبغضائها، ورعاية الله للضعفاء، والأخذ بأيديهم من المهانة إلى المعزّة، وقد قال تعالى فيها، إن فيها آيات للسائلين.
وفى وقت هذا الحرص الشديد على منع يوسف من القصص على إخوته حتى لَا يثير حسدهم، بشره بأن الله اجتباه لمكانة عظيمة، فقال مبشرًا:(7/3799)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
(وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
الاجتباء افتعال من " جبى "، وهو الجمع للنفس، فمعنى اجتباك أي جباك لنفسه، واختارك سبحانه وتعالى، أي لتكون خالصا لله تعالى، (وَكَذَلِكَ) الإشارة إلى ما تضمنته الرؤيا، أي كهذه الرؤيا التي سجدت لك فيها الكواكب والشمس والقمر، يختارك الله تعالى لتكون نبيه (وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)، أي معرفة مآل الأحاديث في الرؤيا، وفي الرؤية، فيعرف صادقها وكاذبها، ويتبم نعمته عليك بالنبوة والملك والسلطان العادل (كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْل إبْرَاهِيمَ) إذ جعله خليله، وصفيه وحبيبه، (وَإِسْحَاقَ) أي وكما أتمها على إسحاق بالنبوة وحباه من ذريته النبيين، وآل يعقوب هم إخوته وأسرته، وعلى رأسها أبواه.(7/3799)
وقد صحت نبوءة يعقوب التي فهمها من الرؤيا الصادقة، فقد أجلس أسرته على عرش مصر، كما تبين من آخر القصة، وسنذكره إن شاء الله تعالى.
* * *
في قصة يوسف آية للسائل
قال تعالى:
(لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
* * *
هذا تدبيرهم الماكر، وقد ابتدأ اللَّه سبحانه بالإشارة إلى ما في قصة يوسف عليه السلام من آيات بينات في تكوين النفوس والمجتمعات من أول الأسرة إلى المجتمع الإنساني الأكبر الذي يجمع العناصر المكونة للمجتمع الكبير والمجتمع الصغير، وفي الأسرة والحي.
أول هذه الآيات بدءا وظهورا: " الحسد " الذي يعتري أولاد العلات أو أولاد الضرائر، وهو ظاهرة من الظواهر التي تبدو، ويحسب بعض الناس أنه داء لا علاج له، والسورة تشير إلى أنه داء، يمكن تَوَقِّيه، وإذا وقع يمكن تحسين عواقبه، وأنه لَا يصح لإبعاده، منع تعدد الضرائر، أو منع تعدد الزوجات.(7/3800)
ولكن السورة أشارت إلى أن الوقاية منه هو منع ما يثيره، بإظهار المنزلة العالية، لبعض الأبناء، وإظهار البخس للآخرين أشار إلى ذلك قول يعقوب ليوسف: (لا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا.) وإن هذا الحسد ليس حسدا مستمكنا بحيث يبقى بين الإخوة ما داموا، بل إنه سرعان ما تقضي عليه المحبة التالية التي إن اختفت حينا، فلن تختفي طوال الحياة، وسرعان ما تكون، وهي الباقية، والأصل، والحسد عارض لَا يدوم، ألم تر لقاء يوسف بإخوته ذلك اللقاء الحبيب، وهم يقولون: (. . . تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91).
والثانية: من الآيات النفسية. أنه لَا يذهب بقوة الرجل غير الحزن الدفين المستكن في النفس، فهذا يعقوب الإنسان يُمضّ نفسه الحزينة، حتى تبيض عيناه من الحزن وهو كظيم.
الثالثة: أن البِشْر بعد البؤس، والسرور بعد الألم يرد إلى النفس ما أذهبه الحزن، فإنه لما ألقى على وجهه قميص يوسف ارتد بصيرا؛ لأن الحزن قد ذهب إلى غير أوبة، والسرور يفعل فعله في الجسم فيزيل ما فعلته الكآبة فيه.
الرابعة: أنه في وسط ثورة الباطل وحدَّته في غلمان يعقوب وحسدهم لأخيهم وجد من يدعو إلى الرفق، ويستمع إليه، فقد اتفقوا على قتله، فجاء واحد منهم، وهم في حدة الحسد، وقال: (. . . لَا تَقْتُلُوا يوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَارَةِ. . .)، وهذا يوحى إلى أن كلمة الرفق لها استجابة في أشد الإخوة عنفا.
الخامسة: إن أشد ما يثير الحسد، هو الإيثار بالمحبة، فإن إثارة الحسد، لا تكون بالإيثار بالطعام أو الشراب وإعطاء المال فقط، بل إن الإيثار بالمحبة أفعل وأشد، ألم تر أولئك الغلمان يقولون: إن يوسف وأخاه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة. .(7/3801)
السادسة: أن الصِّبا أقرب إلى حب الانتقام من كِبَرٍ في السن، فشدة الصبا، معها شدة الجهالة وحب الانتقام، من غير نظر إلى العواقب، وأنت ترى صبيان يعقوب، وهم يحسدون يوسف قد بدَّله الله تعالى منهم رجالا يتحملون التبعات بعد أن أوشكوا أن يكونوا كهؤلاء أو كانوها.
السابعة: أنه لَا يطفئ الحسد إلا المحبة القوية المانعة، ألم تر أن المحبة التي كانت تنبعث من قلب الأب الرفيق الشفيق كانت تنهنه من حدة الحسد فيهم؛ وقد بدا ذلك منهم عندما طلب يوسف أخاهم من أبيهم، فقالوا: (. . . إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ. . .)، فهل كانت هذه حالهم عندما أخذوا يوسف، وألقوه في غيابة الجب بعد أن أرادوا قتله.
وإن هذا يدل على أن حسد الإخوة مهما يكن مآله إلى زوال، وعوامل زواله أقوى من عوامل بقائه.
الثامنة: أن الدعوة إلى الخير لَا يصح أن يكف عنها المؤمن مهما يكن في حال من البؤس والألم، ألم تر يوسف الصديق وهو في السجن، لم تشغله حاله عن الدعوة إلى التوحيد.
التاسعة: أن السورة تصور النفس الإنسانية في انحرافها، واستقامتها، ألم ترها تصور امرأة العزيز وقد انحرفت عن الجادة نحو فتاها، وأنه شغفها حبا، وإن ذلك يدل على فساد القصور في هذا العهد، وألا ترى أن في هذا دعوة لأن يحتاط أرباب البيوت فلا يجعلون في خدمهم جميلا؛ فإنهم يفسدون به نساءهم، ويفسدونهم، ويطمعونهم فيهم.
وإن هذه الحال من شغف امرأة العزيز بيوسف، وردها، ومقاومة دواعي الهوى في شاب قوي فتي، يدل على أن الإرادة القوية الحازمة تكبح جماح الشهوة.(7/3802)
العاشرة: أن السورة تصور نساء الطبقة المترفة في ذلك العصر لقد كن يُشعن قالة السوء وينشرنها، غير ملتفتات إلى عواقب ما يقلن، وما أشبه الليلة بالبارحة، فإن ذلك لَا يزال خلق المترفات من نساء مصر، وخصوصا أهل القصور.
الحادية عشرة: أن الرؤيا الصادقة سبحة روحانية، وأنها تكون للمشركين كما تكون للمؤمنين، والإنسان ولو كان مشركا له روح، فقد رأى الفَتَيان صاحبا يوسف في السجن، رأيا رؤية كانت صادقة، فأوَّل لهما يوسف الصديق الرؤيا، ووقعت كما أوَّل.
الثانية عشرة: أن يوسف عليه السلام، كان علمه لدنيًّا من الله تعالى، فما تعلم على أحد، وما درس، فقد فصل عن أبيه في سن دون سن التعلم، وعاش عيش العبيد، وهو " الكريم ابن الكريم " (1)، وقد علمه اللَّه تأويل الأحاديث، وعلمه تدبير السلطان، وخصوصا وقت أن تعقَّد الاقتصاد وتأزمت حلقاته.
الثالثة عشرة: أن مصر كانت مصدر الخير، لأهل الشرق، فكانت مزرعته الذي يقصد إليها في شدائده.
الرابعة عشرة: أن أرض اللَّه يفيض خيرها بعضها على بعض، كما رأيت ما أفاضت به مصر على جيرانها، وكيف كانت تميرهم، وتمونهم.
الخامسة عشرة: أن اللَّه تعالى له عبرة في خلقه، كيف جعل ذلك الأسير الذي باعوه بثمن بخس لأنهم لَا يريدونه - ملكا مسيطرا على مصر، ومن حولها من بقاع الأرض.
السادسة عشرة: أن سيادة العدل تأتي بالخير الوفير، وأن الظلم لَا يأتي إلا بالشر المستطير.
________
(1) عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " الكَرِيمُ، ابْنُ الكَرِيمِ، ابْنِ الكَرِيمِ، ابْنِ الكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ ". رواه البخاري: أحاديث الأنبياء - قول اللَّه تعالى: (لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ. . .) (3138)، وأحمد: مسند المكثرين (5454).(7/3803)
السابعة عشرة: أن الصفح الجميل علاج كل الآفات الاجتماعية ما دام الصفح عن قوى.
الثامنة عشرة: أن العز الحقيقي يجب أن يفيض على الأحباب حتى من ظلم، ولا يُبخس لحق غيرهم كما فعل يوسف مع أبويه.
التاسعة عشرة: أنه يجب أن يخضع الكبير في سنه، لحكم الصغير في سنه ما دام عدلا، وقد رأيت خضوع يعقوب ليوسف، كما قال: (. . . وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا. . .) أي خاضعين؛ لَا أنهم سجدوا له سجود الصلاة.
الآية المتممة للعشرين: شكر المنعم، كما فعل يوسف الصديق، فقد قال خاضعا خاشعا: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101).
هذا ما نراه في معنى الآيات التي ذكرها اللَّه سبحانه وتعالى في قوله:(7/3804)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)
(لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ)، أي للمتعرفين الذين يسألون عن معاني الحوادث وما ترمي إليه، وما تدل عليه.
وقد ابتدأ سبحانه وتعالى قصتهم بذكر ما جالت به صدور إخوة يوسف وما نطقت به ألسنتهم(7/3804)
إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
(إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)
(إِذْ) ظرف للماضي، وقالوا إنه يتعلق بفعل محذوف تقديره " اذكر "، أي اذكر هذا القصص يا محمد. (قَالُوا)، وهم الإخوة عن أخَوَيْهم من امرأة غير أمهم، وقالوا كما صورته لهم العلاقة بين أولاد من أمَّيْن، وليس الأمر كما تصوروا وقد أكد لهم ذلك شبابهم، وانفصال نفوسهم عن أخويهم وقالوا مؤكدين: (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا) وقد أكد لهم وهْمهم أنهم أقرب حبًّا إلى أبيهم، وقالوا: (أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا) وأُضيفوا جميعا إليه للدلالة على أن(7/3804)
التسوية واجبة بينهم، وزعمهم أنه لم يسوِّ بينهم، كما صوره لهم وهمهم، وأكدوا أن يوسف وأخوه أحب إلى أبيهم، فعبروا بقولهم (وَأَخُوهُ)، كأنه ليس أخاهم، ولكن الشر استحكم في نفوسهم.
(وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي قوة شافعة له في زرعه وضرعه، وكل حاجاته، لينتهوا بأن قالوا كما زين لهم الشيطان بسبب الحسد: (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلال مُّبِينٍ) أي أنه بعيد عن الصواب بعدا بينا، وأكدوا ذلك الذي توهموه بـ (إِنَّ) المؤكدة، و (اللام) في قوله: (لَفِي ضَلالٍ)، والتعبير (لَفِي) فيه إشارة إلى أن الضلال محيط به إحاطة الظروف بظرفه، سيطر الشيطان على نفوسهم، فحرك الحسد إلى أقصى غاياته، فابتدءوا تدبيرهم فقالوا:(7/3805)
اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)
هذا تصوير للجريمة كيف يبتدئ دخولها في نفس من تسول له نفسه الإجرام، لقد زينوا لأنفسهم أولا أنهم الأجدر بالمحبة، وأنهم الأنفع، ثم اندفعوا إلى تدبير الجريمة وتنفيذ القتل، أو أن يطرحوه أرضا بعيدة عن العمران، فاتفقوا على أحد الأمرين إما القتل، وإما النفي، وتركه في أرض اللَّه.
ولكن واحدا منهم أبعد فكرة القتل، وقال: لَا تقتلوه.
ومعنى: (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) يكون خالصا خاليا من الحب الذي كان ليوسف، (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ) أي تستقيم حياتكم مع أبيكم، ويصلحٍ أمركم مع أبيكم بعذر تعتذرونه، أو تتوبوا عن إثم القتل، (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوما صَالِحِينَ)، وهكذا تزين الجريمة، وتقرب التوبة.
(قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)(7/3805)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
(قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ) أَبْعَدَ أحدهم فكرة القتل لبقية من شفقة، ولا يريد أن يقتل أخوه بين يديه، ولا يريد أن يغيب في الأرض تائها فيها، ولكن يكتفى بأن يغيب عن أبيه، ويتركه لله عسى أن ينقذ، قال: (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ)، وذكره باسمه لبقية من صلة تربطه، (وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ)، الغيابة ما يغيب عن الأنظار، غيابة الجب قاعه الذي يغيب عن الأنظار، ولا يستطيع أن يرتفع يوسف منه إلى ظاهر الأرض، والتقاط بعض السيارة له احتمالي، ولكن جعل قريبا، ولعله كان يرجو ذلك كبقية الإخوة مع حرارة الحسد، و (السَّيارَةِ): القافلة السائرة في الصحراء، ثم يقول إن كنتم فاعلين، وإن هذا القائل، كان يرجو من بقيتهم أن يعدلوا، ولذا قال: (إِن كنتُمْ فَاعِلِينَ)، فعلق القول بـ (إِن) الدالة على الشك دون القطع، ونحسب أنه كان يرجو ألا يفعلوا.
وقوله تعالى: (يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) معناه يأخذه لقيطا، كأنه لُقَطَة لا مالك لها.
دبروا ذلك التدبير، وبيتوا لأخيهم الشر، وبقي أن يبسطوا أيديهم إليه، بأن يأخذوه من أبيهم.
وقال تعالى عنهم:
* * *
(قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)(7/3806)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
* * *
كانت الرحلة السابقة مرحلة ظهور الحسد البغيض، والكيد والتدبير السيئ، وهذه الرحلة مرحلة التنفيذ بلا رحمة وبإحكام، ذهبوا إلى أبيهم يعتبون عليه بظاهر من القول أنه لَا يأمنهم على يوسف،(7/3807)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11)
(قَالُوا يَا أَبَانَا) نادوه بالأبوة التي تجمعهم بيوسف، وأبدوا له أنهم يحدبون عليه ويحبونه، (مَا لَكَ لَا تَأْمَنًا عَلَى يُوسفَ) أي لأي سبب سوغ لك ألا تأمنا على يوسف، وهنا أدغمت نون (تأمن) مع (نا) ضمير المتكلمين، (وَإِنَّا لهُ لَنَاصِحونَ) النصح يتضمن الشفقة والإخلاص وإرادة الخير، وقد أكد الكاذبون نصحهم له بـ (إنَّ) وباللام، وبالجملة الاسمية، وكان هذا التوكيد لأنهم يريدون أن ينزعوا من نفس أبيهم ما يعتقد أنهم يحسدونه، فهم يقولون: إنا نحبه ونريد الخير، ولا نبغضه.
وبنوا على قولهم الذي أظهروا فيه الشفقة والحرص والحبة قولهم:(7/3807)
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
(أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
نرتع، أي نجري مرحين في خصب الأرض والزارع، ومتسع الأفق، ويلعب معنا، وذكر ذلك بصيغة تدل على اتصاله بهم، وأنهم جمع واحد، يرتع ويلعب، فهو ليس أجنبيا عنهم، بل يرتعون معه، ويرتع معهم، وطمأنوا أباهم، فقالوا: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وأكدوا حفظهم له(7/3807)
بـ (إنَّ) وباللام، وبتقديم حرف الجر (له)، للدلالة على عظيم اهتمامهم، وكريم رعايتهم، وليلقوا بالاطمئنان في قلب أبيهم.
فأجاب الأب الشفيق الطيب، وقد كانوا في مذأبة من الأرض، يكثر ذئابها، قال:(7/3808)
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
(قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)
بذلوا أقصى معسول للقول، وأكثروا من تأكيدا المحبة، والإخلاص، ويكثر الكائد من قول يكون لإحساسه بأنه كاذب في نفسه، ويحاول أن يستر ذلك على من يخاطبه.
وقد توجس يعقوب منهم خيفة، وقال معلنا خوفه بهاتين العبارتين أولاهما: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُوا بِهِ) وفي هذه العبارة السامية يبين حزنه أريد الذي أكده بـ (إنَّ) ولام التوكيد، وسبب الحزن هو مفارقته، فذهابهم به يوجد في نفسه حزنا عميقا، وذلك إمارة حبه الدفين الذي لَا يستطيع معه فراقا، والثانية: قوله: (وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئب) فهو لَا يحب أن يفترق عنه، ويخاف عليه من الذئب.
وهنا نقول: إن نبي اللَّه يعقوب كان ينطق بفطرة الأبوة المحبة، ولكنه يخاطب من يريدون الشر ويفعلون، ويحاولون من بعد أن يلتمسوا المعاذير التي يرونها تدخل على نفس أبيهم في يُسر، ومن غير استئذان، وقد وجدوا الأب الكريم الطيب النقي، يسهل لهم معاذيرهم، وهو خوفه من أن يأكله الذئب، وهم عنه غافلون، فقالوا: أكله الذئب، فعذرهم الكاذب أخذوه من قول أبيهم الصادق، وعلموا أنه الذريعة إلى التصديق، وإخفاء ما بيتوا.
قالوا مسترسلين في خديعة أبيهم، ومن يدبر الشر(7/3808)
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
(لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
أكدوا لأبيهم، أن حمايتهم له كاملة شاملة، لَا يمكن أن(7/3808)
يأكله الذئب، وهو بينهم، و (اللام) في قولهم: (لَئِنْ) هي الموطئة للقسم الدالة عليه، وأكدوا استبعاد أن يأكله الذئب، بالجملة الحالية (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) أي قوة مانعة حامية، وجواب القسم (إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرونَ) إن كان ذلك نكون في خسار مؤكد، وضعف، ولا يمكن أن يكون ذلك.
قبل الأب الكريم ما بدا من ظاهر قولهم، ولكنه لم يحس بالاطمئنان الكامل؛ لأنه كلام ليس خارجا من قلوبهم، بل هم كاذبون في حقيقة أمرهم، واللَّه ولي الباطن، وللناس - ولو أنبياء - ما ظهر.
أخذوه بعد أن أحكموا الخطة، ونجحت الخطوة الأولى منها.(7/3809)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
(الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي ترتيب على أخذه بعد إقناع الأب أن يأخذوه، فلما أخذوه، نفذوا فيه ما دبروا (وَأَجْمَعُوا) معناه اعتزموا وأصروا على أن يجعلوه في أعماق البئر، كما قرروا من قبل ودبروا، ويروى أنهم آذوه بالضرب والتنكيل، وهو يستغيث، ولا يغاث حتى كادوا يقتلونه، ونبههم إلى ذلك من نهاهم عن القتل في ابتداء التدبير، وفي هذه الشديدة، والألم المرير، ألقى اللَّه تعالى في قلبه الاطمئنان إلى المستقبل، وألهمه الإلهام الصادق بوحي اللَّه تعالى أن المستقبل سيكون له، وأنه سينبئهم بأمرهم هذا، وفي وقت يكونون محتاجين إليه، وهو غير محتاج إليهم كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى في آخر السورة، وهم لَا يشعرون بهذا الإلهام الذي كان وحيا إلهاميا.
بعد أن أتموا ما دبروا من إثم قاتل، وإن لم يأخذ صورة الذبح عادوا إلى أبيهم باكين حقا، أو متباكين لستر ما دبروا، ونحسب أنه بكاء، لأن الاندفاع إلى الشر لَا يمنع الإحساس بالألم عند وقوعه، ودم الإخوة لَا ينقطع، بل له عواقب أليمة بعد الفعل القاطع.(7/3809)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)
(وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16)
أي أنهم قضوا النهار غائبين عن أبيهم، ثم عادوا في العشية، يقول المفسرون: إنهم كانوا يتباكون، ولا يبكون، ونحن نميل إلى أنه كان ثمة بكاء حقيقي من بعضهم على الأقل، وهو بعض من الندم على ما ارتكبوا أو أثموا وقد أحسوا بفظاعته، وخصوصا عندما لقوا أباهم، فإن لم يكن لأجل يوسف، فلأجل أبيهم الثاكل.
قالوا في بكائهم أو تباكيهبم:(7/3810)
قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
(. . . إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17)
كانت المعذرة التي اعتذروا بها هي التي لقنوها من كلام أبيهم عليه السلام.
قالوا أمرين كاذبين:
الأمر الأول: أنهم ذهبوا يتسابقون، وتركوه عند متاعهم.
والأمر الثاني: أنهم قالوا: إن الذئب أكله، وما أكله ذئب، إنما أكله الحسد والحقد الدفين.
ولقد أحسوا بأنه لن يصدقهم، فقالوا: (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ) أي ما أنت بمسلم لنا ومؤمن بصدق قولنا، ولو كانوا صادقين، وادعاؤهم صدق قولهم هو أكذب الكذب.
وقد أحسوا بأن القول لَا يغني فتيلا، إزاء الشك من أبيهم،(7/3810)
وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
(وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ... (18)
أي بدم مكذوب، ووصف بأنه كذب، أي أنه دم هو كذب في ذاته؛ لأنَّ الدم ليس دم يوسف، بل هو دم غيره، من غزال أو نحوه، قالوا في الروايات: إنه عندما أمرَّه على وجهه أحس بكذبهم، وقال: ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا!! أكل ابني، ولم يمزق قميصه. وهكذا كان ما اتخذوه دليلا على(7/3810)
البراءة كان دليلا على ثبوت الجريمة، فهل يبقى القميص غير ممزق، وقد مزق الجسد وأكل، وهكذا نرى أن المجرم مهما يحاول الإخفاء، فإنه يبين دليل الاتهام من محاولة الإخفاء.
لم يصدق كلامهم (قَالَ بَلْ سَوَّلتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا) و (سَوَلَتْ) معناها سهلت، وزينت لكم أمرا خطيرا شديد الخطورة، فالتنكير في (أَمْرًا) لبيان شدته، وبلوغ أقصى قوته، ثم قال: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) والصبر الجميل هو الذي يليق بمقام النبوة، والصبر الجميل هو الصبر من غير أنين والشكوى مع الرضا بقدر اللَّه تعالى، وما كتبه اللَّه ورجاء كشف البلاء، ولذلك ما يئس قط من أن يعود إليه ابنه وحبيبه، ولو ابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم.
وهو في صبره المرير يتجه إلى اللَّه تعالى ويقول: (وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) أي لَا يستعان إلا وحده في الصبر على ما يصفون من قولٍ، ولم يقل على ما وقع، بل قال على ما وصفتم، للإحساس بأن ما وصفوا غير ما وقع.
والصبر الجميل، لَا يمنع الألم المرير، بل إنه لَا صبر إلا إذا كان الألم الشديد، ولكن لَا يجزع، ولا يفرط منه ما يدل على عدم الرضا بما قدره الله تعالى وكان.
* * *
وديعة الجب، وما جرى لها!!
(وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى(7/3811)
أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
* * *
أُلقي يوسف الحبيب في الجب، وسلمه إخوته وديعة للَّه تعالى، وإن لم يقصدوا، ونرجح بمقتضى طبائع النفوس أنهم لم يكونوا جميعا مستريحين لهذه الجريمة بل روي أن واحدا منهم كان غائبا، فلما أخبر ذهب إلى الجب، ولكن السيارة كانت قد التقطته، وإنه لَا يمكن بمقتضى الطبيعة الإنسانية أن يرتاح المجرم بعد جريمته، وخصوصا أنها كانت على أخيهم، وجريرتها كانت على أبيهم الشفيق.
ألقى في الجب، وقد ألقى اللَّه في قلبه الاطمئنان بإلهام اللَّه تعالى والرضا بقضائه وقدره،(7/3812)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19)
(وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ) قافلة (فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ) الذي يتكشف لهم الماء ليَرِدَه، ويملأ لهم ما يسقيهم، فتعرف هذه البئر التي يقر فيها يوسف نتيجة الحَسد، (فَأَدْلَى دَلْوَهُ)، أي أرسل الدلو إلى ماء البئر فتعلق به الغلام الذي أريد له الضياع - أو الموت أيهما أسبق - بالدلو فبدل أن يخرج ماء وجد غلاما جميلا، فقال: (يَا بشْرَى هَذَا غُلامٌ)، استبشر به، وكان وجها صبوحا مشرقا، وقال: (يَا بُشْرَى)، يناد البشْرَى من فرط فرحه، أي أقبلي فهذا وقتك.
أَسَرته القافلة كلها، وعدُّوه بضاعة يتَّجر فيها، تباع وتشترى، ويجري من ورائها كسب، ولم يكونوا راغبين في بقائه بينهم؛ لأنهم لَا يكون معهم إلا من يعمل معهم، وغلام يحملونه ويغذونه قد يكون عبئا عليهم، وهذا معنى قوله تعالى حكاية عن حالهم (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ)، زهدوا فيه ولم يرغبوا في(7/3812)
إقامته معهم، وحملهم إياه، ولذلك باعوه بيع من يرغب عنه، لَا من يرغب فيه، وفى اقتنائه، إن صح هذا التعبير بالنسبة لنبي اللَّه تعالى.
ولذا قال تعالى:(7/3813)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ... (20)
لأنهم كانوا فيه زاهدين، وشروه هنا معناها باعوه؛ لأن " شَرَى " تستعمل بمعنى البيع، وبمعنى الشراء، وعندما تكون بمعنى البيع يكون التعبير بلفظ الشراء تكون فيه دلالة على الزهد فيه، وتركه، وعبر سبحانه عن الثمن بأنه (بَخْسٍ)، أي مبخوس غير مرغوب فيه، وأكد البخس بأنه (دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ)، وليست دنانير، وبالدراهم التي تعد، وذلك في قليل الدراهم، أما الكثير فيكون التقدير بالوزن.
باعوه لأحد المصريين، وقد ابتدأ الفرج، وابتدأ يلقاه من يرغب في بقائه، لا من ينفر منه،(7/3813)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)
(وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ... (21)
أي أكرمي إقامته، أي اجعلوه في مقام مكرم غير مهين، (عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) أي عسى أن ينفعنا ببيعه أو بعمله، أو نتخذه ولدا، ويقول تعالى: (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ) أي كهذا الذي كان من أنه وجد بين من يحبونه، ولا يبغضونه، ويريدون له الحياة، ولا يريدون الموت: (مَكَّنَّا لِيُوسفَ)؛ ليعيش معززا مكرما، ولو في رق وأسْر، (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) لنعلمه: معطوفة على فعل محذوف هو نتيجة التمكين في الأرض، ليعيش مطمئنا هادئا، وليتمكن من العدل والإصلاح في الأرض، ودفع أزماتها، و (اللام) لام العاقبة في الفعل المذكور، والفعل المقدَّر، و (الأَحَادِيثِ) هي الكتب المنزلة، أو مأثورات النبيين إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وتأويلها معرفتها، ومعرفة مآلها، وقد يكون من ضمن ما علمه اللَّه تعالى تفسير الرؤى والأحلام، وقد كانت الطريق لتمكينه في الأرض وإقامة العدل فيها.
(وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ) لَا يرده شيء، ولا يرد قدره شيء، أرادوا له الضياع، وأراد اللَّه له الكرامة فكان ما أراد اللَّه، (وَلَكِن أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)(7/3813)
يغترون بما أوتوا من قوة، وما مكنوا، فيعميهم ذلك عن حقيقة السلطان الإلهي، فلا يعلمون.
كان ذلك التعليم بإلهام من اللَّه وهو صغير لم يبلغ أشده، ولما بلغ أشده آتاه حكمة وعلما بالأمور وتدبيرها، عندما تمكن من حكم مصر، ولذا قال تعالى:(7/3814)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
وكهذا التكريم والتعليم نجزي الذين اتصفوا بالإحسان في أعمالهم وقلوبهم حتى صاروا خالصين للَّه تعالى.
وهنا نسأل أتناولته الأيدي بالبيع والشراء حتى وصل إلى العزيز، فاشتراه، أم أن الذي اشتراه ابتداء هو العزيز؛ الظاهر من العبارات أن المشترِي الأول لم يكن العزيز، وإلا كان يذكر، واللَّه أعلم.
* * *
المحنة النفسية تنقل يوسف من محنة إلى محنة، لقد امتحنه اللَّه تعالى بإرادة إخوته له الضياع، ثم امتحنه بالرِّق، وهو الكريم ابن الكريم وقد احتمل، ثم امتحنه بعد ذلك بمحنة لَا يقوى عليها إلا أهل العزيمة، وهي فتنة النساء به، وخاف أن يصبو إليهن، ولذا قال تعالى:
* * *
(وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)(7/3814)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
* * *(7/3815)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
راود مِن راد، فهو مفاعلة من راد، وأصلها تكرار الفعل مرة بعد أخرى، وهي الأخذ برفق ولطف وقوله: (عَن نَّفْسِه)، أي أنها راودته في نفسه، أو لتحوله عن نفسه وإرادته ليكون لإرادتها هي ورغبتها فيه، وإن هذه المراودة القولية، واللين والتلطف معه، لتحوله عن إرادة نفسه إلى إرادتها تبعتها حركة عملية، (وَغَلَّقَت الأَبْوَابَ)، ولم يعد منفذ يمكن غيرهما من الاطلاع على ما تريد، (وَقَالَتْ هَيَتَ لَكَ) أي أَقْبِل، وقوله: (لَكَ) أي النداء له، ولعله تغافل عنها أو لم يستجب ابتداء لكلامها، أو لم يفهم، فقالت: النداء لك، فلما علم ما تريد صراحة من غير مداورة ولا مواربة، صرح هو الآخر بردِّها، وقال إنه لَا يليق به فقال: (مَعَاذَ اللَّهِ) أي الله معاذي وملجئي، أعوذ به من أن أفعل مثل هذا؛ لأنه فوق فحشه، ليس وفاء لرب البيت الذي أكرمني، (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ)، هذه الحماية تعليل لامتناعه عن هذه الفحشاء، أي لأن زوجها هو ربه الذي أحسن إليه في مثواه أي في إقامته في بيته، فلا يخونه وإنه حينئذ، يكون خائنا وظالما، (إِنَّهُ لَا يفْلِحُ الظَّالِمُونَ)، لَا يفوزون بخير قط.(7/3815)
وقد كان أدبه النبوي أن يتكلم عن نفسه، لترعوي هي في نفسها، وتمتنع عما هي مقدمة عليه، فهو قد أكرمها، وأعزها وهي زوجه، وأجدر من فتاها بالوفاء.
ولكنها أصرت، وسارت في الغي إلى أقصى مداه(7/3816)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
ومعنى (هَمَّتْ بِهِ) أي قصدته وأرادته لنفسها، فالهَمُّ بالشيء قصده، والعزم عليه، فَـ (هَمَّتْ بِهِ) أرادت مخالطته في هذه الخلوة التي أرادتها، (وَهَمَّ بِهَا) جاء في تفسير البيضاوي، والمراد بهمه بها عليه السلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري، وذلك مما لَا يدخل تحت التكليف، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من اللَّه من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم، أو مشارفة الهم، كقوله: قتلته لو لم أخف اللَّه (لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) في قبح الزنى وسوء مغبته لخالطها لشبق الغلمة ولا يجوز أن يجعل (وَهَمَّ بِهَا)، جواب لولا، فإنها في حكم أدوات الشرط اهـ.
وخلاصة كلام البيضاوي، وهو كلام الزمخشري أيضا، أنها بدأت له في حال انفعال جسدي، وهمت بمخالطته وأثارت شهوته، وكان الشأن أن يهمَّ بها وأن يقصد مخالطتها، ولكن في هذه الساعة الحرجة رأى برهان ربه وأراد الفرار من سَوْرة الشهوة، وليس في ذلك ما يمس النبوة، بل هو يعليها، فليس الفضل لمن لا يزني وهو غير قادر، إنما الفضل لمن كف عند منازعة الشهوة ومساورتها، وردها، والاستقامة على الطريق.
دفعها عن نفسه، وتركها فشدت قميصه حتى قُدَّ من ورائه، واستبقا الباب، هي تريد الوصول إليه لتحكم إغلاقه، أو تسد عليه طريق الخروج، وهو يريد أن يسبق ليخرج طاهرا مطهرا.(7/3816)
لكن كانت المفاجأة(7/3817)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)
(وَأَلْفَيَا سَيدَهَا لَدَا الْبَاب ... (25)
وببديهة المرأة حولت التهمة إليه، وأرادت به السوء (قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) بدلت الحقيقة، فاتهمت البريء لتبرئ نفسها، وقررت العقوبة، وهي السجن أو عذاب أليم.(7/3817)
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26)
ولقد نطق البريء وما كان لينطق لولا هذا الاتهام (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي ... (26)
هي تتهمه وهو يتهمها، ويظهر أن ذلك الأمر شاع في داخل الأسرة، وأريد الفصل فيه بإعلان من تكون عليه التهمة لاصقة، ومن يكون له البراءة فكان لابد من حكم منصف، فحكم بعض أهلها، وإن لم يكن محايدا، وقد حكم بالعدل، فقرر أنه (إِن كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ) أي من أمامه (فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِن الْكَاذِبِينَ)، لأنها هي التي جذبته لكيلا يفر من الاتهام، ويكون هو الذي راودها، وحاول، ثم لما رفضت أراد الفرار، فجذبته لكيلا يهرب.(7/3817)
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
وإذا كان قميصه قطع من دُبُر أي الوراء فمؤدى ذلك أنه أراد الفرار مما دعته إليه، وأرادت استبقاءه لغايتها، وقد ثبت أن قميصه قدَّ من دُبُر أي من الوراء، وهذا قوله تعالى:
(. . . وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28).(7/3817)
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)
ثبتت براءة يوسف، واتهامها، ويظهر أن العزيز كان قد أوتي حلما، فلم يسارع إلى عقاب لها، بل اكتفى بأن حكم عليها، واتهمها بالكيد وتدبير الشر، وإن هذا من النساء غير مستغرب. ولماذا تساهل هذا التساهل؟ لعله عذرها لجمال يوسف، ولإيمانه بعفته، وقد يكون لبرود طبعه، أو لقوة سلطانها عليه.
(وَشَهِدَ) هنا معناها حكم، كما يبدو من السياق.(7/3817)
طيب العزيز نفس يوسف، وقد كان له محبا، واتخذه ولدا، فقال له:(7/3818)
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا ... (29)
أي عن هذا الإفك الذي أُفك عليه، (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ)، أي الاثمين، وصِرْت في صفوف أهل الإثم، لا أهل الصلاح.
إن الأمر لم يعد سرا، لأنه قد صارت محاكمة، ليعرف البريء من السقيم، وهذا موضوع من شأنه أن تتناوله الأفواه، وإن أخبار هذا الصنف سرعان ما يسري بين النساء، وخصوصا نساء القصور.
* * *
الشائعة
(وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
* * *(7/3818)
أخذت الألسنة في المدينة تلوك الخبر، وتتحدث به،(7/3819)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)
(وقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نًفْسِهِ)، ما بين لائمة ومتعرفة، ومتمنية كشأن النساء، وقال سبحانه: (فِي الْمَدِينةِ) لبيان شيوع القول بين أهل المدينة، وقلن (فَتَاهَا)، لأن الفتى هو العبد، وذكر ذلك لتصغير شأنها، وأنها تتحبب إلى عبدها، وقالوا في بيان تدلهها به، (قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا)، أي أصاب شغاف قلبها حبه، فيقال شغفه إذا أصاب شغاف قلبه، ويقال دمغه إذا أصاب دماغه، و (حُبًّا) تمييز محول من الفاعل أي شغف حبه قلبها، ثم حكمن عليها بالضلال حكما صريحا، (إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) أي ضلال بين واضح، والضلال هنا تنكب الصواب، والوقوع في الهوى الذي لَا يليق بها فهو لوم شديد لها.(7/3819)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)
(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا ... (31)
لما سمعت بأقوالهن اللائي يروونها أرسلت إليهن، (وَأَعْتَدَتْ) أي هيأت (لَهُنَّ مُتَّكَأً)، أي أقامت لهن وليمة أو نحو ذلك، وسمي متكئا تسمية للشيء باسم مكانه، وهي تصور التنعم الذي كانت فيه، (وَآتَتْ) وأعطت (كُل وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا)، ولعل ذلك كان موجب الوليمة أو ما يشبهها.
وسمَّت قولهن مكرا؛ لأنهن كن يُشِعْنَهُ، وكأنه تدبير السوء، ولأن بعضهن علمته من جانبها فما كتمن لها سرا، ولأنهن كن يوجهن اللوم إليها، ويتبادلن ذلك، وكأنه أمر يدبر، ولذا سمي مكرا.
وبعد أن تهيأ المجلس، قالت ليوسف اخرج عليهن (وَقَالَت اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ).
خرج عليهن، يتلألأ فيه نور الحق، الجمال الذي كساه الله إياه، فأخذ أبصارهن وقلوبهن، وحسهن، فقلن: (حَاشَ لِلَّهِ) أي تنزيها له عن فعل البشر، وقوله (لِلَّهِ)، لأنه هو الذي نزهه وكرمه، أو قلن كلمة التنزيه، لأنه خلق مثل هذا الملاك الكريم.(7/3819)
و (أَكْبَرْنَهُ)، أي جعلنه في موضع الإكبار والشرف، ولذهولهن من الروعة التي تبدَّى بها جرحن أيديهن، وعبر سبحانه عن الجرح بالقطع، لأن الجرح كان بليغا، ولأن الجرح في حد ذاته قطع لبعض البشرة، وقلن تلك الكلمة المعبرة عما في نفوسهم: (مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ) بهرهن حتى ارتفعت مرتبة الإنسانية إلى مرتبة الملكية. فـ (إِنْ) هنا هي النافية أي ما هو إلا ملك كريم.
التفتت امرأة العزيز إليهن، وقد رأت الجروح تسيل بالدم من أيديهن، وما اعترى نفوسهن من إكبار له، واستهواء حتى حسبنه ملكا كريما، وليس إنسانا من الطين.(7/3820)
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)
(قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ... (32)
وكأنها تقول مُصِرة على غيها، فهل هذا، وهل كان يجوز أن تلمنني فيه، وقد قطعن أيديكن، إذ رأيتهن عبر النظر، فما بال من تكون قريبة منه يطلع عليها نوره دائما؟!، لقد انكشف أمرهن، وصبون إليه فكشفت نفسه لهن، ولا ملام عليها، وكان حقا في منطقها أن يعذرنها.
فقالت: (وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ) كشفت كل ما كان خفيا، أو ما كان ينبغي أن يكون، وبلغت الغِلْمة أقصاها، ولم تعد المراودة والملاطفة، لأنه استعصم، أي طلب العصمة، وتمسك بها، وتحول الأمر إلى إكراه بالسجن، وتصغير أمره وشأنه في القصر.
ولكن يوسف الأمين المحفوظ برعاية اللَّه، والمحصن بحصن الإيمان، ازداد قوة في الاستمساك بالعفة؛ وإنه إذا كانت المراودة والتلطف تدني، فالإكراه يجافي ويبعد، وإزاء التهديد لجأ إلى ربه معاذه وملجأه قال:(7/3820)
قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33)
قالت المرأة الشبقة المغتلمة، إما السجن، وإما الاستسلام لها، فقال عليه السلام: (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)، وإذا كانت قد بلغ بها عنف(7/3820)
الشهوة أعلاها، فقد بلغت به العفة أقواها، ولكنه خشي بحكمة النبوة أن موالاة المراودة والمعاودة إليها والتدبير لإسقاطه أن يؤثر في نفسه، فلجأ إلى مقلب القلوب، ومصرف الأنفس (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) أي إن لم تصرف عني تدبيرهن الخبيث، وإغراءهن المتوالي أمتثل إليهن وأكن من الجاهلين، أهل الحماقة والفساد.(7/3821)
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
(فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
أجابه سبحانه وتعالى إلى دعائه، والسين والتاء لتأكيد الإجابة، (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) أي تدبيرهن، وكان يأسهن من إجابته مسهلا للانصراف عن الكيد بالمراودة والإغراء والتهديد، وإن لم تنصرف عنه قلوبهن، إنه سبحانه هو العليم بكل الأحوال السميع لكل الأقوال يدبر كل شيء على مقتضى علمه وحكمته.
* * *
السجين البريء
قال تعالى:
(ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)(7/3821)
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
* * *
هبطت الفتنة في نفوس النسوة، ولكن صداها كان يتردد بين الناس، وخصوصا النساء، وقد آمن الملك بحقيقتين: عفة يوسف، وإغواء امرأته، وانضم إليها من كن يلمنها، وتشايع الخبر في المدينة، فرأوا أن من حسن السياسة أن يسجن يوسف ليبعد عامل الاستهواء، ولينس الناس هذه السيرة، وهذا هو قوله تعالى:(7/3822)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
(ثُمَّ بَدَا لَهُم مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَاتِ) أي العزيز ومن معه من أهل مشوِرته من بعد ما رأوا البينات الدالة على مكرهن وإغوائهن مع التهديد (لَيَسْجُنُنَّهُ حتَّى حِينٍ) أي أكدوا إرادة سجنه حينا.(7/3822)
أى بدا لهم الإصرار على سجنه لدة معينة، حتى ينسى الناس حوادث المرأة والنسوة اللاتي انضممن إليها، وقد أكدن هذا الأمر الذي بدا لهم بالقسم، ولامه، ونون التوكيد، ولكن السجن كان مؤقتا، وليس مطلقا كما ظهر من كلامهم.
وكان تأكيد السجن، لأنه لم يكن منطقيا أن يسجن وهو البريء، ولكن لأنهم وجدوه إطفاء لهذه الشائعة التي هزت مقومات المجتمع،، وأشاعت القول بالفاحشة - عن أكبر سدة في مصر، فكان التأكيد بالسجن أيقاوم منطق البراءة الذي يوجب الثناء وطيب الجزاء، بدل العقاب والإلقاء في غياهب السجن. حسنت الألفة بين يوسف الحبيب، ومن معه في السجن؛ لأنه أليف بفطرته، ولأن الضعف يقرب ولا يبعد، ولأن محنة السجن جمعت بينهم، والمحنة تجمع، ولا تفرق.
رأى أحدهما أنه يعصر خمرا، أي يعصر عنبا يكون بعد. ذلك خمرا، فعبر بالخمر باعتبار المآل، ورأى الآخر أنه يحمل فوق رأسه خبزا، وتأكل الطير منه.
اقتضى حسن الصحبة أن يلجئا إلى يوسف، وقد توسه سا فيه الخير، فاتجها إليه قائلين:(7/3823)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
(نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحسِنِينَ (36)
أي أخبرنا الخبر الخطير بتأويله أي بمعرفة مآله، لأنا نراك محسنا من المحسنين، أحسنا الظن به، وأكدا أنهما يريانه محسنا من المحسنين.
أجابهما يوسف، ولكن قبل أن يجيبهما دعاهما إلى الحق وإلى عبادة اللَّه وحده، وأثبت ما يوجب نبوته، ونحسب أنه في هذا الوقت بلغ كمال الرجولة، ولنجزئ الكلام في المعجزة والدعوة.
أما المعجزة فقد قال ما يدل على أنه يتكلم عن اللَّه تعالى، وأن اللَّه تعالى يعلمه قال:(7/3823)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37)
(لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ... (37)
التأويل هنا معرفة حقيقة الطعام، ومآله، وقال ليس ذلك بإعلام أحد، إنما هو من تعليم اللَّه تعالى، ولذا قال: (ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي ربِّي)، وإن ذلك إخبار(7/3823)
بالغيب بتعليم الله تعالى، وليس من ذاته، وإنه لَا يعلم الغيب إلا الله، وما يعطيه الله تعالى، كما أعطى عيسى ابن مريم، إذ كان ينبئهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم، وكان ذلك بعد يوسف بعشرات القرون.
وإن هذا يدل على أن الله تعالى قد بعثه نبيا على ملة إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وقد كان قد بلغ أشده ليتحمل الرسالة، لقد تلونا من قبل قوله تعالى: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّه آتَيْنَاه حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) والنبوة هي الحكم والعلم.
قبل أن يؤوِّل تقدم بالنبوة، ودعا إلى إبطال الشرك وإنكار البعث، وابتدأ الدعوة النبوية بأن ذكر نفسه قدوة لهم، فقال: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ)، وقد وصفهم بحالين سلبيتين إحداهما: أنهم لَا يؤمنون بالله، بل يعبدون الأوثان، والثانية: أنهم يكفرون بالبعث، وأكد كفرهم بالبعث بتقديم (الآخرة)، على الكفر، وذلك لمزيد الاهتمام بالكفر بالآخرة، وبتكرار (هُمْ)، وكان التأكيد لغرابته عند أهل العقول المدركة، فالعقل يوجب الإيمان بالآخرة؛ لأن الله تعالى لم يخلق الإنسان سدى، ولأن فيه سلوان لمن لَا يدرك حظه في الدنيا، ولأنه يتفق مع العلو الإنساني.
بين أنه ترك أن يكون من ملة هؤلاء المشركين الكافرين باليوم الآخر، وبين بعد ذلك أنه لم يكن سلبيا، بل كان إيجابيا، ولذا قال:(7/3824)
وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ... (38)
ذكر هنا أبوه يعقوب، وجداه إبراهيم وإسحاق، وملتهم واحدة، وهي ملة إبراهيم الحنيفية السمحة: التوحيد، وقال: إنها المعقولة التي تدركها العقول المستقيمة، والدين الحق، ولذا قال: (مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ)، (مِن) هنا لبيان عموم النفي، أي من شيء وأي شيء، حجرا أو إنسانا أو زرعا، أو حيوانا، أو غير ذلك مما عُبد من دون الله، وإن التوحيد فضل وعلو بالنفس الإنسانية إلى مقام الإدراك السليم، ولذا أخبر تعالى عنه أنه قال: (ذَلِكَ(7/3824)
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ) الإشارة إلى عبادة اللَّه وحده، وترك عبادة غير اللَّه تعالى أيا كان، فهو فضل اللَّه إذ هداهم إلى عبادة المنعم وحده، وهدى الناس إليه، ولكن أكثر الناس لَا يشكرون المنعم بعبادته وحده، ثم بعد أن بين إيمانه وهدايته ليأتسوا، وجه الطلب إليهما، مبينا بالدليل القاطع أن اللَّه وحده هو المستحق للعبادة ولا يستحقها غيره فقال:(7/3825)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
(أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39)
هذا استفهام إنكاري توبيخي توجيهي فليس بمعقول أن تكون أرباب متفرقة ليس لها فضل المنشئ المنعم ليس لواحد منها ذلك، ولا لها مجتمعة قدرة، لَا تنفع ولا تضر، وتكون عبادتها مع ضعفها، وعدم قدرتها، عبادتها خيرا من عبادة الواحد الأحد الخالق للكون وحده والقهار الغالب عليه، والذي لَا يكون في الكون شيء إلا بأمره.
ثم أخذ يبين بطلان الشرك المصري، فقال:(7/3825)
مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
(مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
نفى وجود ما يسمونه آلهة، فهي في حقيقة أمرها لَا وجود لها وجودا حقيقيا، فضلا عن أن تكون آلهة معبودة وذلك حق؛ لأن قدماء المصريين كانوا يفرضون آلهة للزرع، وآلهة تتوالد، وتتقاتل، كلها فروض لَا وجود لها فهي أسماء سموها وعبدوها، وتتابعت أجيالهم على عبادة ليست إلا أسماء سماها أبوهم، وتبعوهم تبعية الوهم للوهم ما كان لها وجود (مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ)، أي حجة تسوغ عبادتها، وإن الحكم والسلطان، والقدرة القاهرة ليست إلا للَّه خالق كل شيء (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)، وهو الجدير بالسطان وحده (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقد أمر ألا تعبدوا غيره، (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)، أي الدين القويم الذي مع العقل والإدراك السليم، (وَلَكنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمونَ)، أي ليس لهم علم بالحقائق، بل تسيطر عليهم الأوهام الباطلة، التي تخدع العقول فلا تعلم، والمصريون القدماء كانوا خاضعين للأوهام، ولا تزال بقية منهم خاضعة للأوهام، وهم الذين لم يدخلوا في دين التوحيد دين اللَّه القيم.(7/3825)
وهكذأ نرى نبي اللَّه يوسف عليه السلام ابتدأ بإثبات معجزته، ثم نهى عن الشرك، ووجههم إلى الاقتداء بشخصه، وقد صاروا له حبيبين، ثم وازن بين الوحدانية وتعدد الآلهة، ثم بين لهم إلى أنه لَا وجود لما يسمونه آلهة، وأن الدين القويم الحق الذي يوافق قضية العقل البديهية هو الوحدانية.
بعد ذلك اتجه لتأويل رؤياهما، وقد يقال إن دعوته إلى الوحدانية، كانت بين اثنين، ونقول: إن محمدا صلى اللَّه تعالى عليه وسلم ابتدأ دعوته بين زوجه خديجة، وصديقه أبي بكر، وعلي وكان ابن تسع، ومولاه، ومكث سستخفيا بالدعوة بضع سنين، فالعدة لَا تكون بكثرة العدد، ولكن بقوة الإيمان. اتجه إليهما بعد ذلك الإرشاد قائلا:(7/3826)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
(يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ ... (41)
وقد كان الأول ساقيا للملك بعد ذلك، وروي أنه كان من قبل ساقيا، فاستمر في عمله بعد أن اتهم بأنه دس في الشراب سما، فتبين يطلان التهمة، فعاد إلى عمله بعد أن سجن، والثاني اتهم بأنه دس في الطعام سما، وثبتت التهمة فقتل وصلب، واللَّه أعلم.
مكث في السجن حينا، وهو يعلم أنه بريء والملك يعلم ذلك، والنسوة يعلمن، فأراد أن يذكر الملك بنفسه فطلب ممن ظن أنه ناج أن يخبر الملك بذلك(7/3826)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
(وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ... (42)
أي عند الملك، وسماه ربًّا مع أن يوسف نبي التوحيد، من قبيل رب الأسرة بمعنى راعيها، وحافظها، فنسي أن يذكر ذلك فمكث نبي اللَّه بعد ذلك بضع سنين، وهذا قوله تعالى: (فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ).
وهنا ملاحظتان تتعلقان بالمنهج البياني القرآني الأولى: قول يوسف (لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا)، فعبر بالظن ولم يعبر بالعلم، تأدبا مع اللَّه في العلم بالغيب، فإنه وإن كان يقينا عند يوسف، ولكن طريقه لَا ينتج إلا ظنا.(7/3826)
الثانية: في كلمة (فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ)، المعنى ذكره عند ربه، والإضافة لأدنى ملابسة، وقد مكث بعد ذلك بضع سنين، كان فيها داعية للتوحيد، وقد أَنِسَ به الذين كانوا يدخلون السجن، فدعاهم إلى التوحيد، وكانوا يدخلون متهمين من الملك أو غيره، ويخرجون مؤمنين مدركين، وكان بعضهم لأنسه بيوسف الصديق يرغب في أن يعود سجينا.
وكان يدعو - كما رأينا في دعوته - صاحبي السجن أولا، وفي هذا إشارة إلى استمرار دعوته إلى التوحيد.
والسجناء في مصر كانوا في أغلب الأحوال أبرياء وضعفاء، وأول من يستجيب للنبيين الضعفاء كما رأينا من بعد في أتباع محمد صلى الله تعالى عليه وسلم، وكما رأينا من قبل في أتباع نوح عليه السلام، كما قال عن قوم نوح:
(. . . وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ. . .).
* * *
الخلاص
قال تعالى:
(وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ(7/3827)
وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
* * *
ابتدأ الخروج من السجن، لأن نور النبوة خرج إليهم بعد أن اهتدى بنورها من اهتدى من نزلائه، وكانوا يودون أن يعودوا بعد أن يخرجوا أُنْسا بيوسف.
رأى الملك رؤيا صادقة، إن وصفت رؤيا من لم يكن موحدا - بالصدق، وإن لم تكن وحيا، رأى الملك(7/3828)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43)
(سبع بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ)، أي خيلات لَا لحم عليهن، ولا سِمَن فيهن، والعجاف يأكلن السمان، ورأى سبع(7/3828)
سنبلات خضر وأخر يابسات لَا خضرة فيهن، وهي متجاورات، نادى ملأه، وهم شيعته الذين يحيطون به وقال: (يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ إِن كنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبرُونَ)، يقال عَبَرَ الرؤيا، أي جاء بما تدل عليه الحال النفسية التي دلت عليها من عبارة بينة موضحة، وقد تكون من عبور النهر بمعنى عبر النهر، أي بلغ نهايته، وهي هنا ما تنتهي إليه الرؤيا من حقائق قد تكون ثابتة، ومعنى (أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ)، أي اعبروا إليّ هذه الرؤيا التي هي أمري وحالي المستولي على نفسي المستغرق لها.
ولقد أجابه ملؤه مجهلين لحاله، وما يشغله، أو مسرين عليه، حتى لَا يلج به الهم الغالب، وذلك هو الأقرب المعقول بين ملك وحاشيته.(7/3829)
قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
(قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44)
(أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ) أي أخلاط، والأحلام، أي أحاسيس نفسية مختلطة، والأضغاث جمع ضغث، والضغث هو مجموع النبات من بقل أو حشيش، أو حزمة من العصي، كما قال تعالى في قصة أيوب عليه السلام إذ فدى يمينه من الحنث بضربه ببضعة من الحشائش والأخلاط. (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44).
وأتموا الجواب بنفي قدرتهم على تأويل الأحلام، فقالوا: (وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ) وما نحن بمعرفة مآل الأحلام بعالمين، أكدوا نفي علمهم بالباء في (بِعَالِمِينَ)، وكان تأكيد ذلك النفي لتأكيد أنه لَا مدلول لها؛ ليطمئن بعد أن أصابه القلق الملقي بالهم والحزن.
عندئذ تذكر صاحب السجن بعد أن أنساه الشيطان، والحوادث يذكر بعضها ببعض إذا كانت متجانة فذكرته رؤيا الملك برؤياهم، ولذا قال تعالى:(7/3829)
وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
(وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
وهو الصاحب الثاني(7/3829)
من صاحبي يوسف في السجن، (وَادَّكَرَ) أي تذكر، وأصلها اتذكر قلبت التاء دالا، والذال دالا، وأدغمت الدال في الدال.
والمعنى تذكر تذكرا شديدا لائما لنسيانه ما كلفه يوسف من أن يذكره عند ربه، (بَعْدَ أمَّةٍ) أي حين من الزمان، إذ لبث يوسف بسبب هذا النسيان بضع سنين، والبضع بين الثلاث والعشر، وقيل: خمس سنين، كان فيها هاديا مرشدا للمساجين، قال ذلك الذي نجا: (أَنَا أُنَبِّئُكُم بتَأْوِيله) بمعرفة مآله، ويظهر أنه أخبرهم بأن يوسف هو الذي سيعلمه، ولذا قال. (فَأَرْسِلُونِ)، أي أرسلوني إلى السجن ليعلمني يوسف.
ذهب إلى السجنِ، وقال:(7/3830)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46)
(أَفتِنَا)، أي بين لنا ما تدل عليه هذه الرؤيا، رجاء أن أرجع إلى الناس، ورجاء أن يعلموه.
قال يوسف في تأويل الرؤيا:(7/3830)
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)
(تَزرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا)، أي دائبين مستمرين على عادتكم، ويجيئكم الخير سنة بعد سنة لَا يتخلف، بل كل السنين سنين خير مستمر.
وذكر لهم نصيحة، وهي مقتضى الحلم فقال: (فَمَا حَصَدتُّم)، أي ما قطعتم من عيدان الحبوب، (فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) وبقاؤه في سنبله يحميه من السوس، ويبقى لما يجيء بعد ذلك من سنين يابسة لَا خير فيها لا تؤتي أُكلا، وقال بعص المفسرين: إن هذه نصيحة، وهي غير الرؤيا، ونحن نرى أنها نصيحة حقا وهي صادقة، والرؤيا تشير إليها، إذ إن العجاف لَا تأكل السمان إلا إذا ادخرت ثمرات السمان لتأكلها العجاف، والعجاف جمع عجفاء.(7/3830)
ويقول يوسف مما حكاه اللَّه تعالى عنه:(7/3831)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
وصفت السبع اليابسة بأنها سبع شداد، لأنها تكون شديدة على الناس، إذ يكون الناس فيها في شدة تضطرهم لإخراج كل ما ادخروا، ليدفعوا ضرها، ويأكل الناس فيها ما قدموه من قبل لها، وهيأوه لدفع شدتها، ووصفت السنون بأنها تأكل مع أن الأصل هم الذين يأكلون؛ لأن هذه السنين تكون سنين غير منتجة، فكأنها هي التي تأكل.
(إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ)، من أحصى بمعنى حفظ، وكأنه جعله في حصن، وهو ما ادخروه ليكون بذرا للزرع في مستقبل أيامهم.
بعد ذلك التفسير بشرهم بأن الأزمة التي تأزمت تنتهي بعد ذلك، وذلك مما علمه من غيب(7/3831)
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
(ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
أي يغاثون من القحط، فيدر اللَّه تعالى عليهم أخلاف الرزق، وفيه يعصرون العنب والزيتون وتدر عليهم الأبقار بألبانها.
ولقد بلغ الملك هذا التعبير، وهذا التبشير، فراعه ذلك، فأرسل إليه يحضر ليختص به:(7/3831)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
طمأن الملك بعلم حقيقي مما علمه ربه، فأرسل إليه ليأتوه به، ولكن الكريم ابن الكريم لَا يذهب إلا مبرأ من كل إثم، وإلا مبينا أنه كان مظلوما بهذا السجن، وأنه كان فريسة كيد النساء، وإن اللَّه تعالى عليم بكيدهن.
طلب منه التحقيق في سبب إلقائه في السجن: قال:(7/3831)
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)
(مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أيْدِيَهُنَّ) لقد كادوا لي (إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) ذكر النسوة اللاتي قلن (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ)، وخرج عليهن فجرحن أيديهن، اسأله ما بالهن أي ما حالهن، ومآل أمرهن.(7/3831)
سأل عن النسوة، ولم يسأل عن امرأة العزيز، وهي التي كانت الأصل فيما نزل به، وقد أدخل السجن لستر الأمر ومنع الناس من أن يتحدثوا به، ويجعلوه ملهاة مجالسهم وسمرهم، وذلك أولا لأن تحقيق مآل النسوة يَجُر إلى الكلام في امرأة العزيز؛ لأنه مترتب على ما كان من امرأة العزيز، وثانيا، لأنه لم يرد أن يفاجئ الملك بأمر يمس شخصه، فلم يذكره، لأنه نتيجة للبحث في أمر النسوة، ولا يقوم هو بالاتهام إكراما للملك، فقد أحسن مثواه، ولكي لَا يشنع عليها، ولكيلا يحرجه أمام الناس في اتهام امرأته.
استجاب الملك لسؤال يوسف الصديق فقال لهن:
(مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ ... (51)
سألهن الملك ما الخطب الشديد الذي ظهر منكن، إذ راودتن يوسف عن نفسه، فأجبن بالنفي عن أن يوسف بوصف فيه سوء، لأنهن ما علمن عليه من سوء فاكتفين بالرد ببراءته، ولم يتعرضن لأمرهن ومعنى (حَاش لِلَّهِ) تنزيها له لأجل اللَّه تعالى، مع التعجب من عفته وبراءته.
هذا ما كان منهن، وموقفهن في هذا المقام سلبي، أما امرأة العزيز فقد تحرك ضميرها، ونفسها اللوامة، فقالت مخبرة بالإيجاب بالنسبة لها وله (قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)(7/3832)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52). اشتمل كلام امرأة العزيز على ثلاثة أمور كلها إيجابي، وليس سلبيا.
الأمر الأول: قوله: (الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ) أي الآن ثبت الحق واستقرت الأمور، وعرفت على حقيقتها، وحصحص: معناها استقر الحق، مأخوذ من حصحص البعير إذا أناخ في مباركه واستقر.
الأمر الثاني: إقرارها بأنها راودته عن نفسه.
الأمر الثالث: أن يوسف كان هو الصادق عندما قال: (. . . هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي. . .) وكان قولها موافقا تمام الموافقة لما انتهى إليه الحكم الذي كان من أهلها، وقال إن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين.(7/3832)
وقوله تعالى: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)
الإشارة في قوله تعالى: (ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) إلى قول امرأة العزيز، ولكن الضمير يعود إلى مَنْ في قوله: (أَخُنْهُ)، أيعود إلى يوسف، أم يعود إلى الملك؟، إن قلنا: إن الكلام كلام يوسف يعود إلى الملك، أي كانت تلك المجاوبة ليعلم أني لم أخنه في غيبته، وأني كنت أمينا على شرفه وعرضه، وإِن اللَّه تعالى لَا يهدي كيد الخائنين، أي لَا يوفق تدبير الخائنين، ويقول تعالى:(7/3833)
وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ... (53) هذا على أن هذا القول جاء على لسان يوسف، وهو تخريج الزمخشري، ويصح أن يكون ذلك استرسالا لقولها، ويكون على مع هذا التخريج، ليعلم يوسف أني لم أخنه بالغيب، وأني اتهمته وأصررت على الاتهام، وهأنذا أقر بالحق أمام زوجي وأمام الناس وأنا ما أبرئ نفسي، إن النفس أمارة بالسوء إلا من رحم ربي إن ربي لغفور رحيم.
وإني أميل إلى أن ذلك من كلام يوسف عليه السلام تبرئة لنفسه أمام العزيز، ولأن قوله (إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُور رَّحيمٌ) هي التي تليق بمقام النبوة، وقوله: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) فيه إشارة إلى (ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ ربِّهِ. . .) وفيه إشارة إلى جيشان الغريزة، ثم كفها، لما رأى برهان ربه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *
تمكينه من ولاية مصر
قال تعالى:
(وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)(7/3833)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
* * *
من غيابت السجن إلى ملك مصر
سار بهداية اللَّه، وتحت عين اللَّه ورعايته من الجب حتى قال الملك:(7/3834)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
(ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي)، أي أجعله خالصا لنفسي أوسد إليه من الأمور ما أصلح به أمري، وهذا يدل على أن ملوك مصر حتى في عهد الفراعنة، يتخيرون الرجل ليضعوه في المكان الذي يصلح به الأمر، لَا كطاغية ظهر في عصر، يعطي الأمر غير أهله، ولا يختار من تكون له كفاءة خاصة.
اختار يوسف ليكون بجواره، فلما كلمه، قال: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ)، ومكين أي ثابت لك مكانة وممكن في الأمور نأتمنك على كل شيء.(7/3834)
ويوسف الصديق عليه السلام عرف مما علمه ربه المكان الذي يستطيع به إصلاح الأمور، وعرف مما عبر من رؤيا تعلم تعبيرها من اللَّه كيف أَمْر اقتصادها ولذا قال:(7/3835)
قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
(اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) أي إني أحفظها من الضياع، فلا يختلس فيها مختلس، ولا تضيع فيها الأمانات، ولا ينفق منها إلا في موضعه، ولا يبذر فيها، ولا يقتر في مواطن الإنفاق، وعليم بما يصلح وما لا يصلح، وبوجوه الحاجة، وبوجوه الإسراف، فلا يخرج مال إلا بحقه، ولا يجمع إلا بحقه، وقوله: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ) فيه طلب جعله واليا على أموال الدولة، و (الأَرْضِ) المراد بها أرض مصر.
إن هذه المكانة التي وصل إليها يوسف، الفضل فيها للَّه وحده، ولذا قال تعالى:(7/3835)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)
التشبيه هو بين الحال التي تنقل فيها يوسف من الجب والرق والتحكم في مشاعره، حتى كان كل أحاسيسه ملكا لمن كان عندها، حتى صار حاكم مصر، أخصب المناطق في عصره. وإرادة اللَّه تعالى التمكين، أي كهذا الذي رآه القارئ في القصة كان تمكين اللَّه ليوسف عليه السلام، فهذا التشبيه يفيد أن ما كان ليوسف في هذه الأدوار كان بتمكين اللَّه.
ثم ختم اللَّه تعالى الآية بقوله تعالى: (وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أي نجزي الذين يتصفون بالإحسان، والإحسان يقتضي استقامة العقول، وإخلاص القلوب، والقول الطيب والعمل الصالح، وغير ذلك مما يدخل في معنى الإحسان، وهذا جزاء دنيوي مداره التوفيق في القول والعمل. وفي الآخرة خير منه، ولذا قال تعالى:(7/3835)
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
(وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) (اللام) لام التوكيد، والآية الكريمة تبين أن أجر الآخرة خير من هذا الذي رأيناه ليوسف الصديق عليه السلام وإنما يستحقه من كان فيه وصفان:
الوصف الأول: الإيمان، فقال: (لِّلَّذِينَ آمَنُوا)، وقد أطلق الإيمان، ليشمل الإيمان باللَّه تعالى، وهو رأس الإيمان، والإيمان بالحق، والإيمان(7/3835)
بالفضائل، والإيمان بحقوق الناس وحماية هذه الحقوق، ويصح أن نقول إن الإيمان باللَّه تعالى يتضمن هذا كله.
الوصف الثاني: التقوى، ولذا قال تعالى: (وَكانُوا يَتَّقُونَ)، أي استمروا على التقوى، والتقوى استشعار خشية اللَّه تعالى، وأن يجعلوا بينهم وبين المفاسد أيا كانت وقاية من الاندحار في مخازي الشيطان.
* * *
اللقاء
ألقى الإخوة أخاهم في الجب، ثم كذبوا على أبيهم وصاروا لَا يعلمون من أمره شيئا، وما كان يجول بخاطرهم أنهم سيلقونه ملكا حاكما، يمدون أيديهم طالبين منه العون، ولكن ما لم يكونوا يتصورونه كان أمرا واقعا رأوه، ولم يعرفوه؛ لأنهم تركوه غلاما صغيرا، ولكنه عرفهم، وهذا قوله تعالى:(7/3836)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
(وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
ولقد صدق بهذا اللقاء إلهام اللَّه تعالى في وحيه إذ قال تعالى:
(. . . وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، وقوله تعالى: (وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) معناه أنهم لم يعرفوه، والنفي مؤكد، بكلمة (هُمْ)، وبالوصف، فحالهم حال إنكار مؤكد وذلك لطول العهد، وتركهم له وهو غلام، وقد صار رجلا مكتملا، وليوهمهم أنه هلك، والفارقة الكبيرة بين حاله إذ رموه في غياهب الجب، وحاله وهو جالس على عرش مصر، أو قريب منه، لذا لم يعرفوه.
وقد روى الكاتبون في قصص الأنبياء أنه صار وزير الملك، وجعل على خزائن الأرض وأقام العدل، والعدل ذاته فيه نماء، واجتهد في تنمية الثروة المصرية، فأكثر من الزراعات، وضبط الثمرات والغلات وادخر ما ادخر لسنى الجدب على النحو الذي شرعه في تفسير الرؤيا، ولما جاء الجدب، وكان يعلم ذلك بتعليم من اللَّه، عم القحط مصر، وتوجه الناس إليه فباعها بالدراهم والدنانير(7/3836)
أولا، ثم باعوا حليهم وجواهرهم ثانيا، ثم باعوا أنفسهم ثالثا، ولكن نبي اللَّه أعتقهم بتفويض من الملك.
وقد وصل القحط حيث تقيم أسرة نبي اللَّه تعالى يعقوب فأرسل وُلْدَه يمتارون من مصر التي كانت وحدها بفضل تعليم اللَّه تعالى لابنه هي التي يمكن أن تكون فيها الميرة.
كان يوسف هو الذي يتولاها، فأعطاهم ما طلبوا، وطلب منهم طلبا وقد قال تعالى:(7/3837)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
(وَلَمَّا جَهَّزَهم)، أي ملأ ما معهم من جهاز، وأوفر ركائبهم بما طلبوا، طلب أن يأتوا بأخ لهم من أبيهم، وهو شقيقه وهذا قوله تعالى:
(قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59)
أي خير الذين يكرمون الضيوف، وينزلونهم في أحسن المنازل.(7/3837)
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)
ثم هددهم بأنهم إذا لم يحضروه، وكان في شوق إليه، وفي جمع الشمل، وهذا من دوافعه
(فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60)(7/3837)
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)
قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61)، أي سنلطف بأحسن القول مع أبيه، أكدوا أنهم فاعلون ذلك وأكدوا ذلك بـ (إنَّ)، وبالجملة الاسمية.
ولكن يوسف ما نوى أن يمنعهم من الكيل، ولكن أظهر لهم ذلك، ولذلك قال لعبيده:(7/3837)
وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
(اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ ... (62)
أي في ركابهم، فقال تعالى في ذلك: (اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) انقلبوا معناها هنا وصلوا، والرحال جمع رحل، وهي ركائبهم، رجاء أن يعرفوها ورجاء أن يرجعوا إلينا بما وعدوا به.
ونرى هنا أن يوسف الذي كان رفيقا بأهل مصر، كان رفيقا أيضا بإخوته وأبيه، فلم يؤخر عنهم الميرة، بل عجلها لهم، وإن أوهمهم أنه يؤجلها حتى يعودوا إليه مع أخيه.(7/3837)
* * *
هل آمنكم عليه!!
قال اللَّه تعالى:
(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
* * *
أرادوا أخذ يوسف من أبيه ليكيدوا له، وكادوا ما كادوا، وهذه المرة، أخذوا أخيه لَا ليكيدوا له، ولكن ليميروا لأهلهم، تشابه الوقف في الظاهر، واختلف الباطن، ويشترك القصص القرآني الصادق في مجراه.(7/3838)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63)
(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ)، الكيل المراد به الكيل، فهو مجاز لتلاقي الاشتقاق، وذلك لإحضار أخينا (فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا) أو نقول: إن الكيل على حقيقته، أي منع أن يكال لنا، و (نَكْتَلْ) معناها يكال لنا، ونكتل مجزومة في جواب الأمر، (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وعدوا وأكوا الوعد بـ (إنَّ) واللام، كوعدهم عند أخذهم ليوسف، ولكنهم كانوا كاذبين، وهنا كانوا صادقين، فتشابهت ألفاظ الوعد، واختلفت الحقائق فيها، وإن الأحكام على الأقوال تؤخذ من الظاهر، ويقاس فيه الحاضر بالماضي، وقد كان ماضيهم في يوسف يجعله يخاف من حاضرهم.(7/3839)
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
(قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الوقوع، وهو وقوع الأمن، أي ليس أمني عليه منكم، إلا كأمني على يوسف منكم، وقد كانت نتيجة الأمن في الماضي أن جئتم تبكون، وتقولون أكله الذئب، فلستم أنتم الذين تحفظون أخاكم، (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، وإنه إذ قال ذلك أبدى عدم ثقته بحفظهم أولا، وعدم الثقة بما في نفوسهم ثانيا، وبالنسبة للأول ترك الأمر للَّه فهو خير حافظا، وأخذ موثقا للأمر الثاني فقال:(7/3839)
قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
(قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا) كما سنتلو الآية كاملة من بعده.
وإنه في أثناء مبادلة القول مع أبيهم بشأن أخيهم، وجدوا بضاعتهم في رحالهم،(7/3839)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65)
(وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ ... (65)
ففرحوا أشد الفرح، و (قَالوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي)، (مَا) إما أن نقول استفهامية، ومعناها أي شيء نريده بعد ذلك؟، لقد طابت الأمور واستقامت. يطيبون بذلك قلب أبيهم ويدخلون في قلبه السرور، ويصح أن تكون نافية، أي لَا شيء نبغيه، فقد تحقق كل ما بغينا، ولا شيء بعد ذلك، لقد دفعنا الثمن، وتسلمنا البضاعة (هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ) ويلاحظ أنه عبر عن أخذهم بالبضاعة بقولهم (رُدَّتْ إِلَينَا) ولم يقولوا جاءتنا، وذلك لأنهم صدقوا(7/3839)
مقالة العزيز عندما قال: (فَلا كيْلَ لَكمْ عِندِي) كأنها أخذت ثم ردها، كما يصنع الملوك خصوصا ملوك مصر.
وإن وجود البضاعة في رحالهم أحيت آمالا، فمالوا: (نَمِيرُ أَهْلَنَا) فاطمأنوا إلى ذلك، (وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ)، واعتزموا الوفاء لأبيهم، بحفظ أخيهم، فقالوا: (وَنَحْفَظُ أَخَانَا).
وأبوهم كان مكلوما من نتائج إعطائهم يوسف، فكان لابد أن يحتاط لأخيه، حتى لَا تكون النتيجة مثل ما كان بالنسبة ليوسف، بل أخذ عليهم ميثاقا كان نصه: (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) كان الميثاق أن يأتوه به إلا أن يكونوا في حال إحاطة بهم، بحيث يغلبون على أمرهم، أو يكونون لَا يطيقون فيها القدرة على المحافظة، ولقد قال بعد أن أتوه موثقهم (اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)، أي رقيب يعلم ما في الصدور فيعرف نيتكم، وإرادتكم الوفاء
ولقد كان نبي اللَّه شفيقا بأولاده جميعا، ويخص يوسف وأخاه بحبه لصغرهما، إبان رمي يوسف في غيابة الجب، ولذا قال لهم:(7/3840)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)
(يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ... (67)
لقد كانوا في فخامة وكثرة، وقد أكسبتهم مقابلتهم الأولى مكانة، وقد خشي أن تصيبهم عين، أو يتدافع الجند عليهم، أو نحو ذلك، ثم قال: (مَا أُغْنِي عَنكم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ)، أي ما أدفع عنكم من اللَّه من أي شيء، فـ (مِن) هنا لاستغراق النفي، أي أن احتياطه هذا لَا يمنع قدر اللَّه تعالى إن لمحان قدر لكم شيئا (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلّهِ)) (إِنِ) هنا نافية، أي ليس الحكم النافذ إلا للَّه تعالى، (عَلَيْهِ تَوَكَّلتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ) أي عليه وحده توكلت، فلا أتوكل على سواه وعليه وحده فليتوكل المتوكلون، فهو السند، وهو العماد وحده.
* * *(7/3840)
لقاء الأحبة
(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
* * *(7/3841)
دخلوا سن أبواب متفرقة، وتمثلت في يعقوب النبي صورة الأب الشفيق الذي يخشى على أولاده من كل شيء، فإن الشفقة توهم ما لَا يكون له حقيقة أو تكون له حقيتة ولكن بعيدة؛ خاف على أولاده أن يعانوا، أي تصيبهم العين، ققال: (يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ)، ففعلوا استجابة للحنان الذي يغمرهم، ولذا قال تعالى:(7/3842)
وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
(وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ... (68)
أي من أبواب متفرقة حيث أمرهم أبوهم مما كان لَا يغني عنهم من اللَّه من شيء، أي لَا يدفع عنهم دون اللَّه تعالى من شيء، أي أن العين وأشباهها لا تدفع بالدخول من أبواب متفرقة، إنما يدفعها اللَّه إذا شاء (إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا)، هذا استثناء منقطع، على نظر الكثيرين من المفسرين، والحاجة هي الخاطر الذي خطر على فكر يعقوب، وصار في حاجة لأن ينصح ولده بأن يدخلوا من أبواب متفرقة، وهذه الحاجة هي شفقته على أولاده، وخوفه من العين تصيبهم، كما أشرنا، ومن المفسرين من أنكر خوف العين، على مثل نبي اللَّه يعقوب عليه السلام، وقال: إنه الخوف من الملك إذا رآهم وأولادهم جميعا في أبهة وفخامة أن يبطش بهم، والحاجة تحتمل الأمرين، وربما كان يرشح للثاني قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ) من الحكمة والنبوة فلا يغني عن اللَّه شيء وإنا نميل إلى هذا.
ورشحه أيضا قوله تعالى: (وَلكِنّ أكْثر الناسِ لَا يعْلَمُونَ) بل يسيرون وراء ما يتوهمون، وإن لم تكن له حقيقة ثابتة، واللَّه أعلم.
التقى يوسف بأخيه الحبيب المحسود من إخوته كما حسد هو، وترتب على الحسد كيدهم له الذي أدى إلى وقوعه في الرق ثم نجاته، وصيرورته عزيز مصر المنقذ.
التقى بأخيه فضمه إليه، وأسر إليه وقال له:(7/3842)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
(إِنِي أَنَا أخُوك فَلا تَبتئس بمَا كَانوا يَعْملُونَ).(7/3842)
والأخوة هنا هي الأخوة بالمعنى الخاص، وهو أنهما شقيقان، ولأن حقدهما عليهما جعلهما ينحازان في منحاز واحد، كما أراد الإخوة الكبار، وتذهب به شفقته، وما أنعم اللَّه تعالى به عليه إلى التسرية عن نفس أخيه بقوله (فَلا تَبْتَئِس بِما كانوا يَعْمَلُونَ)، أي فلا تدخل على نفسك البؤس والحزن بما كانوا يعملون، أي بما استمروا على عمله من إثارة للحسد والحقد، عملوه معي وكانت عاقبته ما ترى لي، فقد آلمت عاقبة فعلهم إلى أن أكون عزيز مصر، وما يفعلونه معك لا تتصوره أن تكون عاقبته شرا، فعاقبته لك خيرا.
وكأنه أسر إليه بالاطمئنان إزاء ما سيفعله معهم، لَا إرهابا ولا انتقاما، فمعاذ نبي اللَّه أن يكون منتقما جبارا، ولكن ليبقى أخوه في ظله، وليستمتع كلاهما بالأخوة الرفيقة القريبة، كما سيتبين من الآيات.
جهزهم بجهازهم الذي جاءوا طامعين أن يزيدهم كيل بعير، وحقق ما يبتغون، ومكر بهم مكرا طيبا، ليس خبيثا، ولا اعتداء كما فعلوا هم معه، فجعل الصواع الذي يكال به في رحل أخيه، ولذا قال تعالى:(7/3843)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70)
وقوله: (بِجَهَازِهِمْ) أي الجهاز الذي ابتغوه وأرادوه غير منقوص، وقد جعل السقاية في رحل أخيه، أو وضعه في الرحل الذي يحمل البعير المخصص له، ثم بحث عن السقاية، فتبين أنها غير موجودة، وأنها في رحال القوم، فانطلق حراس القافلة منادين، وهذا معنى (أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ)، أي أعلم معلم (أَيَّتُهَا العِيرُ)، أي أيتها القافلة، وهو اسم الإبل التي عليها الأحمال، وهنا مجاز مرسل إذ أطلقت، وأريد راكبوها.
وفى وصفهم بالسرقة مع أنه لم تكن منهم سرقة، وما كان لنبي اللَّه يوسف أن يكذب، ولو لخير، وقد أجيب عن ذلك بأنه لم يكن هو الذي وصفهم بالسارقين، إنما الحارس المنوط به حراسة حاجة الملك هو الذي قال ذلك، وإن كان(7/3843)
يوسف هو الذي وصفهم، فالوصف حقيقي، لأنهم سرقوا يوسف من أبيه، فكيف لَا يسمون سارقين وقد سرقوا من الأب أعز ولد عنده.
والسقاية هي المشربة التي يشربون منها، وسميت هنا سقاية، وسميت من بعد بالصواع، لأنها استخدمت سقاية، واستخدمت للكيل، ولا مانع للمقتصد من أن يستخدم أمرا واحدا في حاجتين مختلفتين، وخصوصا إذا كانت غالية في ذاتها، فقد قيل إنها كانت من الفضة أو نحو ذلك، والصواع لغة في الصاع. أجابهم العير (مَاذَا تَفْقِدُونَ)، أي شيء ضاع منكم وتبحثون عنه؛(7/3844)
قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)
(قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71)
جملة (وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم) جملة للحال، أي قالوا حال كونهم مقبلين، ماذا تفقدون، أي شيء ضاع منكم، وتبحثون عنه؟.(7/3844)
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
(قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
الضمير في (قَالُوا) يعود على جماعة الملك الذين يبحثون عن الضائع، وكيف يتكلم بلسان حالهم واحد منهم، ولقد ذكر هذا المتكلم عنهم جائزة مكافأة عنها وهي كيل بعير، أي حمل بعير يكال لهم سماحا، وقد تعهد المتكلم عن جماعة المصريين الحاضرين في هذا (وَأَنَا بِهِ زعِيمٌ) أي كفيل، فزعيم تطلق بمعنى كفيل وحميل، وضامن، وغيرها مما يدل على معناها.
كانت التهمة صريحة ابتداء، ثم هدأت للبحث عن المفقود، فتحايل المؤذن المتكلم باسم المصريين ليجد المفقود، وتخلى عن الاتهام الذي ابتدأه وعرض المكافأة، وتكفل بها.
ولكن الاتهام الأول بالسرقة ما زال قائما.
ولذا رد إخوة يوسف الاتهام بقولهم:(7/3844)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
(قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
دفعوا التهمة أولا بأن المصريين الذين يطيفون بالعزيز علموا علما مؤكدا بحسن نيتهم، وأنهم ما جاءوا ليفسدوا في الأرض، والسرقة(7/3844)
والاغتصاب وأشباهها من الفساد في الأرض، وما كانوا ليفعلوه، وَمَن حول يوسف يعلمون ذلك علم اليقين.
وثانيا بأن السرقة لَا تليق بهم، وليس من شأنهم، ولذا قالوا: (وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ)، أي ما كان شأننا ولا من خصالنا أن نتصف بوصف السرقة.
وقد أكدوا نفي التهمة بالقسم، وباللام، وبأن ذلك لم يكن مقصدهم ولا غايتهم.
لم يقبل من كان يتهمونهم ذلك النفي المجرد، ولا أن يكتفوا بهذا الاتهام المجرد، بل أردفوا الأمر بالتحري(7/3845)
قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)
(قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)
أومأوا إليهم بالتحري، وسألوهم الجزاء لمن وجد الصواع في متاعه، ليكون الجزاء به برضاهم، ولا يكون فيه غمط لهم أو تجاوز للحد، أو الشطط في زعمهم.(7/3845)
قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
(قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
أي جزاء هذه السرقة التي يستحقها من سرق، من وجد في رحله، فالسارق هو الجزاء، ويظهر أن ذلك مبدأ كان معروفا، وهو أن السارق يكون جزاء للمسروق بأن يملكه المسروق منه، ويكون عبدا له، ولذا قال سبحانه وتعالى عنهم: (كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)، أي كهذا الجزاء نجزي الظالمين. وإن استرقاق الأحرار في نظير المال كان مبدأ مقررا في بعض عهود القانون الروماني الذي جاء بعد ذلك بعدة قرون.
عَدُّوا الحكم على السارق إن كان، وهو أن يسترقّ في نظير ما أخذ، فأخذوا يبحثون في الأمتعة،(7/3845)
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
(فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ ... (76)
أي أنه بمقتضى الحكم الذي قرروه أن يكون أخوه حبيسا رقيقا عند العزيز ومن معه، وذلك مبتغى يوسف، لأنه يريد أن يحتجز أخاه عنده مكرما غير مهين، وتم له بذلك ما أراد. وذلك بتدبير اللَّه تعالى، ولذلك قال تعالى: (كَذَلِكَ كِدْنَا ليُوسُفَ) أي كدنا ليوسف هذا التدبير، أي دبرنا ليوسف مثل ذلك التدبير(7/3845)
(مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ودين الملك سلطانه وقدرته، وقوله تعالى: (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ) نفي للشأن: ما كان من شأنه أن يأخذ أخاه عدلا في سلطان الملك إلا أن يشاء اللَّه بأن يجري على ألسنتهم ذلك الحكم، وهو أن يكون جزاء صواع الملك رق أخيه.
ويبين اللَّه تعالى عدالته العامة في الناس (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) أي نرفع درجات ومنازل في العلو من نشاء، وقد رفعنا يوسف فوق إخوته، حتى احتاجوا إليه، ومدوا أيديهم طالبين منه الميرة والعون، وأعطيناه الملك والعزة والحلم وتدبير شئون الدولة، حتى صارت تمد غيرها، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) وما من علم بتدبير الأمور إلا فوقه علم اللَّه تعالى وهو فوق كل علم، وقد أحاط بكل شيء علما.
* * *
الرجاء واليأس والماضي
(قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ(7/3846)
الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
* * *
استيقظ الحقد الدفين، فكذبوا على يوسف، وهو يخاطبهم، وهم في كلاءته، وحمايته، فقالوا:(7/3847)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
(إِن يَسْرق فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لهُ مِن قَبْلُ) وإذا كانوا قد سلموا بالسرقة، لأنهم قامت لديهم الظاهرة الدالة عليها، فلماذا كان الافتراء علئ أخيه، وهم الذين سرقوه من أبيه، وألقوه في الجب، ولكنه الحقد والحسد لم يقتلهما الزمان، وأسرَّ ذلك يوسف في نفسه، ولم يبدها لهم، كَرَما وهو القوي المسيطر ولكنه ليس جبارا، وليس حانقا، لأن اللَّه سبحانه وتعالى جعل النتيجة خيرا ونعمة له، وكانت بحكم اللَّه تعالى التمهيد لذلك السلطان، فكيف ينتقم وإذا كان دم يُبْدِ ما أسر فإنه وصنمهم بوصفهم الحقيقي، وقال ما هو نفي للسرقة عن أخص ونفسه (قال أَنتم شَرٌّ مكانًا)، أي أنتم شر منزلة عند اللَّه لأنكم سرقتم أخاكم، وصنعتم السوء من غير جريرة من أبيكم ولا أخيهم، (وَاللَّهُ أَعْلَمُ) علما ليس مثله علم (بِمَا تَصِفونَ)، ولو كانوا يعلمون أنه أخوهم يوسف لأدركوا المغزى والمرمى من القول، ولكنهم لم يعلموا، ولم يتوهموا أن يكون هو يوسف والضمير في (فَأَسَرَّهَا) يعود إلى الفرية أو الكلمة.(7/3847)
وبعد أن افتروا ذلك الافتراء إشباعا لنهمة الحقد أخذوا يستعطفون يوسف، ويثيرون عوامل الرحمة في نفسه(7/3848)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
(قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
ونادوه بالمنصب مهابة وإجلالا، وتقربا، وذكروا حالهم، وهو أن له أبا شيخا كبيرا قد تعلق به، وإن أي واحد منهم قابل لأن يكون في الرق مكانه، ولكن يوسف عليه السلام لَا يريد أحدا غيره؛ لأنه حبيبه في باطن الأمر وفي ظاهره هو السارق، ويتخذ من الظاهر ذريعة إلى تحقيق الباطن، فباسم الظاهر يقول لإخوته: لَا نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، فلا نأخذ غيره بجريرته، إنا إذا لظالمون، أي إنا معشر الحاكمين نكون إذن ظالمين، إذا أخذنا مكان الجاني غيره، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وكل امرئٍ بما كسب رهين، وقد أكد الحكم بالظلم على من يأخذ بدل الجاني.
ويلاحظ هنا أمران:
الأمر الأول: أن ينبوع الشفقة على أبيهم أخذ ينبع من قلوبهم، فقبلوا أن يكون أحدهم في الرق بدل أخيهم المحسود، رفقا بأبيهم، وللعهد الذي أخذ عليهم.
الأمر الثاني: أنهم نادوا يوسف بأنه العزيز، ويستفاد من الكلام أنه آل إليه أمر مصر، ويؤيد هذا أن أخبر اللَّه بعد ذلك أنه استولى على العرش.
يئس الإخوة من أن يرجعوا بأخيهم إلى أبيهم، وقد صاروا في حيرة من أمرهم، ودفعتهم الحيرة إلى أن تعود قلوبهم إلى ما كانت عليه، ولذا قال تعالى عنهم:(7/3848)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا ... (80)
أي انفردوا متناجين، ونجيا مصدر، والمصدر يستعمل في معنى الجمع، وفي تناجيهم قاد كبيرهم: (أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ) الاستفهام هنا إنكاري بمعنى إنكار الوقوع، ونفي النفي إثبات، والمعنى أنه عنفهم في قوة قائلا لقد علمتم أن أباكم أخذ عليكم عهدا موثقا بأيمان اللَّه، (وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ)، أي من قبل إذ(7/3848)
فرطتم في يوسف، وألقيتموه في غيابة الجب، وهذا الكلام يدل على أن أخاهم الأكبر لم يكن راضيا عن فعلتهم مع يوسف، ويؤكد صدق الرواية التي تقول: إنه كان غائبا، إذ فعلوا فعلتهم مع يوسف، وأنه حاول أن يستعيده ويخرجه من الجب، ولكن السيارة كانوا قد أخذوه.
أبدى الكبير العهد، وأبدى استنكاره لتفريطهم في يوسف، وعبر عن فعلهم بأنه تفريط في حق الأخوة، واستهانة بالواجب نحوها، سيرا في طريق الحقد، والغي، (فَلن أَبْرَحَ الأَرض)، أي مصر، (حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يحْكُم اللَّهُ لِي وهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين).
ولكن كما أشرنا انبعث فيهم ما كان قد اختفى من نفوسهم الحاسدة، فقالوا في نجواهم:(7/3849)
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
(ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
يتضمن هذا الكلام الذي حكاه اللَّه تعالى عن سائر الإخوة مُفْرِدًا الكبير بكلام عاطف نابع من النفس اللوامة، وكلامهم هذا يشير إلى معانٍ:
المعنى الأول: أنهم استهانوا بالأمر، وأن الأمر لَا يتجاوز أن ابنه سرق، وما عبروا بأنه أخوهم بل بأنه ابنه، وهي نغمة الافتراق الحاسدة.
المعنى الثاني: أنهم لم يقولوا اتهم بالسرقة، بل يقولون: إنه سرق، مؤمنين بذلك مستوثقين ومؤكدين، وذلك من بقايا حسدهم وحقدهم عليه.
المعنى الثالث: أنهم يؤكدون سرقته بثلاثة أمور:
الأمر الأول: شهادة القرية التي كانوا فيها وهي المدينة العظيمة بمصر.
الأمر الثاني: شهادة العير التي كنا فيها.(7/3849)
الأمر الثالث: تأكيد صدقهم، وكل هذا من انفعال نفوسهم بالحقد الدفين على يوسف وأخيه.
ذهبوا إلى أبيهم، وقالوا تلك الكلمات التي تنبئ عن حقدهم، ولذا لم يصدقهم الأب الشفيق، ورد كلامهم قائلا:(7/3850)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
رد عليهم في أمر أخي يوسف، كما رد عليهم في أمر يوسف، وَ (بَلْ) هنا للإضراب برد كلامهم، وعدم تصديقه، و (سوَّلَتْ): معناها حسَّنت لكم أنفسكم أمر سوء، وإذا كان ذلك حقا في أمر يوسف فهو ظن في هذا الموضوع سوغه له ماضيهم مع أخيه، (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)، أي فأمري، أو فصبري لَا أنين فيه ولا شكوى لأحد من الناس.
ولكن الرجاء في رحمة اللَّه سابق إليه دائما، ولذا قال؛ (عسَى اللَّهُ أَن يَأْتيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا)، أي بيوسف وأخيه، ولعله قد انضم إليهم أخوهم الأكبر الذي لم يشترك في تفريطهم في يوسف ولامهم بعد عودته، وكان غائبا وقد أكد رجاءه بأن يأتوا إليه مجتمعين غير متفرقين.
وختم اللَّه سبحانه وتعالى الآية الكريمة، بما يقوى رجاءه (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) الضمير يعود إلى الله تعالى الحاضر في الألسن المؤمنة دائما، العليم
الذي يعلم كل شيء، لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، الحكيم الذي يدبر الأمور بحكمته وعلى مقتضى علمه الواسع.
* * *
الأب الحزين الذي ابيضت عيناه من الحزن
قال تعالى:
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)(7/3850)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
* * *
زاد أباهم حزن إلى حزنه، لما عادوا إلى أبيهم من غير ابنه، فنكئوا جرحه القديم على يوسف، ولقد صور اللَّه تعالى حاله عندما أنهوا إليه خبر ولده الثاني فقال تعالت كلماته:(7/3851)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) أعرض عنهم، لأن إخبار أخبار السوء، تضر ولا تسر، فانكفأ على نفسه، والأسِف الحزين الذي يملأ نفسه الحزن، ويستغرق حسه، وهو يقول (يَا أَسَفَى عَلَى يوسُفَ)، وهي جملة تصور ألمه وحزنه، وكأنه ينادي الأسف والحزن؛ لأن هذا وقته، وذكر يوسف مع أنه رزئ رزءا جديدا بولديه شقيق يوسف وولده الأكبر الذي كان يشاركه في أحزانه وآلامه، وذلك لأن أمرهما معلوم، فهو يعدم أنهما على قيد الحياة، وأن أحدهما في الرق، والآخر قد رضي مختارا بالبعد، ويشاركه في الأسف، أما يوسف الحبيب فأمره مجهول لَا يدري أهو حي أم ميت، وأهو في تعب أم في راحة فرزؤه في يوسف كان عاقده المصائب، وكان غضبه آخذا بمجامع قلبه، كما عبر البيضاوي (1).
وقد اجتمع طول الأدهر التي مرت على يعقوب غربة ولده التي لَا يعلم له مآل وقلق مسمَمر، وحنان وشوق شديد إلى رؤيته وبكاء مستمر، دائب، وحزن عميق مؤسف، وانقسام بين أحبابه وفلذة كبده، وكل هذه الآلام أثرت في بصره،
________
(1) انظر البيضاوي - ج 3/ 304.(7/3851)
ولذا قال تعالى: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) أي طوى نفسه على آلام مستمرة من أولاده الذين كادوا لأخويهم، ومن الحوادث التي باعدت بينه وبين أحبابه، وكظم الغيظ في ذاته ممض، وملق بالبؤس في نفسه، لولا ما امتلأ قلبه بالإيمان، ولولا الرجاء الذي يرجوه، والأمل الذي عاش عليه، والكظم أصله كظم البعير إذا ردها من فرقه.
أجابه أولاده في ذكر آلامه المستمرة(7/3852)
قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
(قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) كانت الإجابة غير مخففة لآلامه، بل كانت مؤججة لها، كانت إجابة من لَا يهتم بالأمر في ذاته، والحزين يحتاج إلى من يشاركه في الحزن، لَا إلى من يلومه على حزنه، ويل للشجى من الخلى، والحَرَض هو المريض الذي أشرف على الهلاك أو أذابه الهم والمرض.
والمعنى أنهم يؤكدون بالقسم أنه لَا يزال يذكر يوسف حتى يؤدي به الأمر أن يكون في مرض دائم مستمر يذيب نفسه، وينتهي بالهلاك لَا محالة، و (أَوْ) هنا بمعنى الواو.
قال لأولئك الذين يلومونه على حزنه، وهم سببه، ولا يحسون باهتمام لآلامه، بأنه لَا يشكو حزنه إليهم إنما يشكو حزنه إلى الله(7/3852)
قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
(قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
البث الهم العارض الذي لَا يمكنني الصبر عليه، وينتشر في كل نفسي، ويسدُّ عليَّ أسباب السرور، و (الحزن) ما يكون في النفس من الآلام الدفينة، وقد كان حزنه على يوسف قديما، وبثوا إليه همًّا آخر هو في ولديه شقيق يوسف وكبيرهم، و (إنما) من أدوات الحصر، أي أنه لَا يشكو همومه العارضة، وأحزانه الدفينة إليكم، بل يشكوها إلى اللَّه وحده.
(وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)، هذه الجملة تحوي في نفسه كل الرجاء الذي يرجوه والأمل الذي يأمله، وفيه دلالة على أنه يعلم أن اللَّه كاشف كربه، مزيل(7/3852)
همه، وهو من علم اللَّه تعالى، لَا من علم أحد، يعلمه بالإلهام أولا، وبرجائه في اللَّه ثانيا، وبرؤيا يوسف الصادقة ثالثا، ففيها أنه رأى الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا له ساجدين، وتأويل الرؤيا أن يكون في ظل يوسف، وهو في عز مكين، وإن ذلك واقع لَا محالة.
وقد بني على هذا الأمل، وذلك الرجاء أن كلفهم بالبحث عن يوسف وأخيه، فقال كما حكى اللَّه تعالى:(7/3853)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
(يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
ناداهم بنداء الأبوة الكريمة العاطفة، طالبا منهم أن يذهبوا في الأرض متعرفين أخبار أخويهم يوسف وأخيه، والذهاب إما في بقاع الأرض باحثين، وإما إلى أرض مصر، والظاهر الثاني لأن شقيق يوسف كان في مصر بلا نزاع، فالمعنى اذهبوا إلى أرض مصر (فَتَحَسَّسوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ)، والتحسس التعرف بالحواس الظاهرة والباطنة، أي فتعرفوا الأمور عن يوسف وتتبعوا آثارهما وأخبارهما، ولا تقنطوا من رحمة اللَّه وفرجه، (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)، أي أنه لَا يقنط من رحمة اللَّه وفرجه إلا القوم الكافرون الذين إذا أصابتهم سراء طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، وإذا أصابتهم ضراء، كما قال تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10).
فرجاء نبي اللَّه يعقوب في لقاء يوسف لم يذهب أبدا.
* * *
جمع الشمل
قال اللَّه تعالى:
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا(7/3853)
إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
* * *
طلب إليهم أبوهم أن يتحسسوا، ويتتبعوا أثر يوسف وأخيه، ولا ييئسوا من روح اللَّه، ولعلهم أطاعوا وأخذوا الأهبة، ليتعرفوا آثار أخويهم، وخصوصا أنهم يذهبون لمصر للميرة، وهي مكان تحسسهم، فذهبوا إليها، ولقوا يوسف كبيرها(7/3854)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ).
(الفاء) هنا تفصح عن كلام مقدر تقديره قصدوا إلى يوسف، فلما دخلوا عليه، نادوه بما يليق بمنصبه، وبمكانته التي صار بها عزيز مصر، وخاطبوه بذلك متلطفين طالبين عطفه ورفده (مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ) وهو الضرر الذي يصيب الجسم في داخله، وذلك الضر الذي أصابهم سببه الجوع، (وجِئا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ) أي مردودة مدفوع عنها، لرداءتها وعدم الرغبة فيها، أي جئنا ببضاعة ليس من شأنها(7/3854)
أن تقبل، بل من شأنها أن تزجى وتدفع، (فَأَوفِ لَنَا الْكَيْلَ)، الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وإيفاء الكيل ليس مترتبا على كون البضاعة مزجاة مدفوعة، إنما أيضا الكيل مترتب على إصابتهم الضر، أي بسبب هذا الضر أوف الكيل مع أن الثمن الذي نقدمه بضاعة مزجاة.
(وَتَصَدّق عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يجزي الْمُتَصَدّقِينَ) أي تصدق بهذا الوفاء وبالزيادة عليه مع أن البضاعة التي جعلناها ثمنا رديئة تُردّ ولا تقبل، (إنَّ اللَّهُ يجزِي الْمُتَصَدِّقِينَ)، فاطلب حب اللَّه، ولا تطلب عوضا منا.
آن ليوسف الصديق الرفيق الشفيق الصالح أن يظهر شخصه مع ما مَنَّ اللَّه تعالى به عليه:(7/3855)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
(قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
الاستفهام هنا تقريري تذكيري، وفيه إشارة إلى شخصه وقد أنكروه ابتداء لانقطاع الخبر، ومرور الزمن، وتفريق ما بين رجل مكتمل وحدث صغير، وقد صار رجلا سويا، كان ذلك توجيها لأن يرجعوا بالبصر كرتينِ، فرجعوه، فتبين لهم أنه يوسف، فقالوا مؤكدين ومتأكدين:(7/3855)
قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
(أَئِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ (90)
وأكدوا أنه يوسف بـ (إنَّ) المؤكدة، وبـ (اللام)، وبـ (أنت)، فقال لهم: (أَنَا يُوسُف وَهَذَا أَخِي) ولم يكن ثمة حاجة إلى التأكيد، لأن التوكيد مظنة الإنكار، ثم يبين نعمة اللَّه عليه وعلى أخيه (وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَليْنَا) قد تفضل اللَّه علينا بمنه وأكرمنا: (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) أظهر في موضع الإضمار، فلم يقل إن اللَّه لَا يضيع أجرنا، وكان ذلك أولا لوصف عملهم بالإحسان أولا، ولأن الإحسان هو السبب في مَنِّ الله تعالى وعطائه، وثانيا للتعريض بما فعل الإخوة معه، وأنه لم يكن من الإحسان في شيء ثالثا.
يشتد الإحساس بالخطأ إذ أظهرت النتائج غير الحسنة، ولذلك أحسَّ أولئك الإخوة بظلم ما فعلوا فقالوا:
(قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)(7/3855)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
قالوا مقسمين على حقيقتين:
الحقيقة الأولى: أن اللَّه آثر بالفضل والإحسان والتوفيق يوسف عليه السلام، فقد أعطاه النجاة من الموت والرق، والسلطان على مصر، خير بلاد الأرض تجاورهم، فكان هو ملكا عزيزا، وهم دونه، وأكدوا أن اللَّه آثره: بـ (اللام)، و (قد)، وبـ (القسم).
الحقيقة الثانية: أنهم أحسوا بأنهم كانوا آثمين، ولذا قالوا: (وَإِن كُنَّا لَخَاطِئينَ)، (إِن) هي المخففة من الثقيلة وإنه الحال والشأن كنا لخاطئين، والخاطئ هو الواقع في الإثم، أو الخطيئة، وقد أكدوا إثمهم أولا بـ (إنْ) المخففة من الثقيلة، و (كان) الدالة على استمرار خطئهم، و (لام التوكيد) (لَخَاطِئِينَ) وهذا اعتراف خطير بالذنب، وهو أول خطوات التوبة.
ولكن الكريم ابن الكريم، النبي ابن النبي يعقوب، " وما زاد عبد بعفو إلا عزًّا " (1)، ويقول:
________
(1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ ". رواه مسلم: البر والصلة والآداب - استحباب العفو والتواضع (4689)، والترمذي: البر والصلة (1952)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (6908).(7/3856)
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
(لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ... (92)
التثريب، اللوم والتوبيخ، والرمي بالعار، وقد روي عن قتادة أن النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، قال: " إذا زنت أمة أحدكم، فليجلدها الحد ولا تثريب عليها " (2)، أي لَا توبيخ ولا رمي عليها بالخزي حتى لَا تصاب بالهوان، فتسهل الجريمة عليها، ومعنى (لا تَثْرِيب عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ)، أنه في اليوم الذي بدا نصر اللَّه، وإعزازه لمن كنتم تريدون له الضياع أو الهوان، والرق، فإن ذلك يكفيكم عبرة، وبيانا لسوء مغبة أفعالكم، وأحقادكم، فلا توبيخ أكثر من معرفة النتيجة، ولكن بدل التوبيخ، واللوم محبة الإخوة، ومودة الأهل، ولذا قال بعدها، (يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، يطلب من
________
(2) رواه البخاري: الحدود - لَا يثرب على الأمة إذا زنت (6334)، ومسلم: الحدود - رجم اليهود أهل الذمة في الزنا (3215).(7/3856)
اللَّه تعالى المغفرة لهم مما أساءوا إليه، والرحمة بهم عامة، وهكذا يكون الصفح الجميل الخالي من المنِّ به، واللوم على ما فعلوا، فاستجاب حقا لأمر اللَّه تعالى لأنبيائه (. . . فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، ثم تلفت إلى أبيه وقد أعلمه اللَّه تعالى بحاله، وكيف ابيضت عيناه من الحزن، فقال لهم:(7/3857)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
(اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا ... (93)
وهذا دليل أن بصره قد ذهب من شدة الكمد والحسرة والأسف، وكثرة البكاء، وارتداد البصر من خوارق العادات، وهذا يوسف ويعقوب يرد اللَّه على أيديهما البصر بعد ذهابه قبل عيسى الذي كان يبرئ الأكمه والأبرص.
وقد دعا يوسف الصديق إلى جمع الشمل بالمودة الواصلة، بعد أن فرقه إخوته بالحسد الغامر، وقال: (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) من تربطكم بهم قرابة دانية، وقرابة قاصية.
* * *
الغفران والرحمة ولقاء الأب لابنه الحبيب
قال تعالى:
(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)(7/3857)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
* * *
كان صفح يوسف الجميل هو الخطوة الأولى لجمع الشمل، وما أشبه ذلك بصفح محمد - صلى الله عليه وسلم - عن قريش الذين أخرجوه، وقتلوا أحبته من المؤمنين، من وقت مبعثه إلى فتح مكة، فاستمر الأذى عشرين سنة أو تزيد، ومع ذلك ما إن بعثهم، حتى قال مقالة يوسف: (لا تَثْرِيب عَلَيْكُئم الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحمُ الرَّاحِمِينَ) (1) وموقف محمد صلى الله تعالى عليه وسلم كان جليلا عظيما، يعاظم بعظم ما ارتكبوا في جنبه (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. . .).
صفح عنهم يوسف، والتفت إلى أبيه الشيخ الحزين الأسيف، وكان أن أرسل القميص، وعادت العير إلى البدو حاملة القميص، وقد كان معطرا بعطر
________
(1) انظر ما رواه البيئتي في ذلك (18647): ج 13/ 439. كما رواه النسائي في الكبرى (11193): ج 6/ 355.(7/3858)
ملوك مصر، وقد قالوا: إن عبيقه شمه نبي اللَّه يعقوب من نحو ثمانين فرسخا، وقد يقال إنه إلهام النبوة، جعله يشم رائحة يوسف من مكان بعيد، ويقول عليه السلام:(7/3859)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
(لَوْلا أَن تُفَنِّدُونِ)، أي إلا أن تنسبوني إلى الفَنَد، والفند نقصان عقل بسبب الشيخوخة، وما هي شيخوخة، ولكنها نبوة وشفقة أبوة. و (لَوْلا) حرف شرط وتعليق، وجوابه محذوف، أي لولا أن تفندوني لصدقتم، ولآمنتم بالحق، وتقدير التفنيد لعقليتهم غير المدركة، لَا للأمر في ذاته.(7/3859)
قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
(قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
الضمير في (قَالُوا) يعود إلى الحاضرين، ويظهر أن بعضهم ذهب في العير للقاء عزيز مصر، وبعضهم بقي مع أبيه، أقسموا مؤكدين بأنه ليس فند الشيخوخة، ولكنه حال قديمة، وقالوا إنه ضلال قديم لازمك، ولذا أضافوا الضلال إليه عليه السلام، وهو زعمهم الكاذب فنبي اللَّه تعالى مستحيل أن يكون ضالا، ومهما يكن فقد نفوا عنه فند الشيخوخة.
وكل ذلك قبل أن يجيء البشير،(7/3859)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
(فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا ... (96)
و (أَنْ) مؤكدة لمجيء البشير، وقد سمي بشيرا، لأنه بشر يعقوب عليه السلام بوجود ابنه، وقرب لقائه؛ ولأن معه ما يرد البصر إليه، وبمجرد مجيئه ألقاه على وجهه، و (أَن) كما أكدت الشرط، وهو مجيء البشير، أكدت أيضا ترتيب الجواب على الشرط، ألقاه فور مجيئه، (فَارْتَدَّ بَصِيرًا)، الفاء للعطف مع الفورية، وتلك خارقة للعادة كما أشرنا من قبل، وقد بين يعقوب بعد ذلك أنه لم يكن واهما، ولا ضالا عندما كان يقول لهم: (اذهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يوسُف وَأخيهِ) وعندما كان يذكر لهم ما أعلمه اللَّه تعالى، لذا (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) الاستفهام لإنكار الوقوع مع التنبيه الشديد، داخل على النفي ونفي النفي إثبات، والمعنى لقد علمتم أني أعلم من اللَّه ما لَا تعلمونه أنتم.
عندئذ أحسوا بجريمتهم الشديدة نحو أبيهم، إذ حرموه من ابنه سنين طوالا، وتركوه فريسة الشوق والحزن والأسى والبكاء مع الصبر الجميل من غير(7/3859)
أنين لأحد من العباد، فاتجهوا إلى أبيهم يطلبون أن يستغفر لهم ربه(7/3860)
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97)
(يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) لقد أحسوا بعظم الذنب، وهو أول طريق التوبة وندموا على ما فعلوا، وطلبوا المغفرة، وبذلك توافرت عناصر التوبة طلبوا من بعد ذلك أن يطلب أبوهم المغفرة؛ لأنه مع الذنب العظيم هو المجني عليه، وهم يطلبون مرضاته، وفتح قلبه لهم وهو القريب إلى اللَّه، ولذا لجأوا إليه، وعبرواب (إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ) آثمين غير مدركين سوء المغبة.
فأجاب الأب الشفيق النبي الكريم:(7/3860)
قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
(قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
ما فارق يعقوب نبي اللَّه حنانه على أولاده جميعا، وإن كان يخص يوسف وأخاه بفضل من المحبة لصغرهما، وحاجتهما إلى العطف الأبوي ثم زادته غربة يوسف وجدا عليه ومحبة وشفقة، ولذا لم يلمهم، ولم يذكر ماضيهم معه، ومع أخيه، بل وعدهم وعدا مؤكدا بأنه سيستغفر لهم فـ (سوْفَ) لتأكيد الاستغفار المستمر في المستقبل (لَكُمْ)، واللام لام الاختصاص، (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) وأكد لهم الغفران بوصف اللَّه تعالى بأنه الغفور، أي الكثير المغفرة وصف للذات العلية، وأن ذلك الغفران من رحمته، والرحمة شأنه وصفته الدائمة.
كان يوسف عندما طلب أن يوضع القميص على وجه أبيه ليرتد بصيرا طلب أن يأتوهم بأهله أجمعين ليكونوا معه في عزة الحكم، وإن الكريم عندما يجتمع أهله بعزته ينال متعتين: أولاهما متعة العزة الحلال العادلة لنفسه، ومتعة مشاركة أهله له في العزة والسلطان؛ تلك هي الفطرة.
استجاب إخوته أو من جاءوا إليه منهم لرغبته، وأتوا بأهله، وفيهم الأبوان الكريمان،(7/3860)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99)
رحب بهم جميعا، وخص أبويه بفضل ترحيب، لما قاسا من الهول في(7/3860)
غيبته، ولأنهما الأبوان، وهما أحق الناس بالإحسان، و (آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ) هنا معناها ضمهما، وأسكنهما في مسكنه ليتمكن من رعايتهما وحسن القيام على شئونهما، وليستمتعا بقربه بحد طول فراق، (وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)، ودخول مصر منصبٌّ على الأمن، أي ادخلوا حال كونكم آمنين بمشيئة اللَّه من الخوف والقحط والشدة، أو أن سيدنا يوسف استقبل قبيله شوقا ورغبة في اللقاء خارج الأمصار، ثم قال: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) مطمئنين تجدون سهلا وأهلا وعزة وكرامة، وفي القصص إنها لم تكن أُمَّه بل كانت خالته، وسميت أما كما يسمى العم أبا، ونقول: إن تعبير القرآن هو الصادق حتى يقوم الدليل على خلافه.(7/3861)
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ... (100)
إن السجود هنا ليس سجود الصلاة، وإنما هو تقديم الطاعة والخضوع للحكم والسلطان، ويصح أن نقول: إنه تحية وتكرمة لصاحب عرش مصر وهو يوسف، والخر - ومعناه الانحناء خضوعا وتكرمة وتحية.
وقال بعض المفسرين: إن الضمير في (لَهُ) يعود على يوسف، والمعنى وخروا ساجدين للَّه شكرا على النعمة التي أنعمها على يوسف، وأن صاروا في رحابه، وذلك معنى معقول في ذاته.
وقال بعض المفسرين: إن الضمير في (لَهُ) يعود لِلَّهِ تعالى، والمعنى خروا ساجدين للَّه كأنهم يصلون صلاة شكر للَّه تعالى، والمعنيان الأخيران نميل إليهما، ولا مضاربة بينهما، بل السجود فيهما للَّه.
أخذ يوسف يستمتع بالحديث مع أبيه، ويثيران ذكريات طيبة، (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).(7/3861)
قص يوسف على أبيه ما أصابه من شدة، ولكنه ذكر النعم التي أعقبت النقم، ذكر خروجه من السجن، ولم يذكر دخوله، (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ) وذكر تأويل الرؤيا وغايتها، ولم يذكر ما كان بعد الرؤيا، وكان مستمتعا بنعمة الأبوة إذ يناديه (يَا أَبَتِ) وفيها ياء المتكلم قلبت تاء، حتى كان اللفظ نداء محبة.
ذكر اللقاء السعيد في هناءة وسرور، فقال: (وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) أي جاء بكم من بدو الصحراء حيث لأوائها وشدائدها، وقيظها وريحها الرعناء الساخنة إلى ريف مصر وخصبها.
فهو يذكر النعم، والنفس المؤمنة تذكر النعمة وتشكرها فكانت نفس النبي الصديق ذاكرة للنعمة غير مبينة للشدة، لأنَّ الأساس هو النتائج، لَا الوسائل.
ولم تذكر قضيته مع إخوته إلا بالإشارة غير عائدة باللائمة عليهم، بل يكاد لا يخلى نفسه من ملام، فيقول: (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) أي أفسد ما بيننا من محبة وود وإخاء جامع، و (نَزَغَ) معناها نخس وأفسد من قولهم نخس الدابة فجمحت فألقت حملها، ولم ينسب الشر إلى إخوته، بل نسب النزغ بأنه بينهم مع أنهم المعتدون وهو البريء المجني عليه، ولكنه الكريم ابن الكريم، يريد أن يمحو العداوة بالمودة، وعبر بالأخوة الرابطة، فقال: (نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)، ثم بين لطف اللَّه، وترتيبه الخير وسط إرادة الشر، فقال مثنيا على ربه بما هو أهله، (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ)، أي لطيف التدبير محكمه يجعل الخير من إرادة غيره، ويجعل من النقمة نعمة، ومن السيئة حسنة.
إذ لولا سيئة إخوته ما كانت أرداف الحسنات التي أسبغها اللَّه تعالى عليه، إنه هو العليم بكل شيء، العليم بمقدمات الأمور ونهاياتها الحكيم الذي يدبر كل شيء بمقتضى علمه الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
ثم اتجه إلى اللَّه شاكرا له فضل نعمائه جملة وتفصيلا فقال:(7/3862)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ... (101)
ابتدأ النداء الضارع بقوله: (ربِّ) أي(7/3862)
منشئي والمنعم عليَّ بالوجود والإنسانية والمسرة في الشدة، والنجاة من كل ألم بفضلك وعنايتك.
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ)، (قَدْ) هنا للتحقيق، وقال: (مِنَ الْمُلْكِ) ولم يقل الملك، لأن الملك كله لمالك الملك ذي الجلال والإكرام، والطول والإنعام، فما يملك الحاكمون ليس إلا ذرة من ملكه سبحانه، وهو ليس من جنسه، بل من جنس آخر، وهو ما يكون للعبيد في هذه ومتاعها، وهو قليل بجوار متاع الآخرة.
(وعَلَّمتَنِي من تَأْوِيلِ الأَحَاديث)، أي من معرفة مآل الأحاديث سواء أكانت رؤيا في المنام أم كانت أحاديث الناس فمعرفة أحاديث الناس، شعوبا ودولا وجماعات، من علم سياسة الدولة، وكيف يُدبَّر أمرها، وقال عليه السلام:، (مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ)، أي علمه بعضها، لَا كلها، وفوق كل ذي علم عليم، فما علم كل سياسة الحكم، ومعاملة الناس، وما علم كل تأويل الرؤى، ولكن علم بعضه، وذلك من تواضع العلماء، أمام العلم العام.
ثم نادى ربه بأنه خالق الكون كله وانتقل من نعمته عليه إلى نعمته على الكون كله، فقال: (فَاطِرَ السًمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، أي مبدعهما على غير مثال مسبق فهو بديع السماوات والأرض.
ثم أعطاه الولاية كلها، أو اعترف بالولاية كلها، فقال: (أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)، أي أنت ناصري ومتولي أمرى في الدنيا والآخرة، توليتني
بحمايتك ورحمتك في الدنيا، فتولني بها في الآخرة، ثم قال ضارعا لربه، (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)، توفني إليك مخلصا الدين لك أنت وحدك، واجعلني في الصالحين من الصديقين والشهداء ومن ارتضيتهم يا رب العالمين.
* * *(7/3863)
الاعتبار والاستدلال
قال تعالى:
(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
* * *
هذه قصة نبي اللَّه يوسف عليه السلام كان القطب الذي دارت عليه القصة تلك الشخصية العالية، التي تغلبت عليها، وقد بينا أنها ليست قصة غرام، كما توهم ذلك بعض الذين خرجوا عن الإسلام بهذا الوهم الذي توهموا وبنوا عليه ما كفروا به، فقد حققنا أن ما يتعلق بغرام امرأة العزيز به عليه السلام، واستعصامه بأمر اللَّه ونهيه لَا يتجاوز ثماني آيات، كانت فيها المفاضلة بين الفضيلة والرذيلة، وإذا أضيف إليها إقرارها بأنها راودته عن نفسه تكون تسع آيات من إحدى عشرة آية.
وإن القصة - كما رأيت - صورت لك الغلام ينتقل من عز الأبوة الحرة الكريمة إلى الرق، ثم من الرق والسجن ينتقل تحت عين اللَّه تعالى وبصره إلى ملك مصر الذي كان يملكه فرعون وأصلح يوسف في الأرض، ونمى الخير،) ودبر به أمر البلاد، ولم يقل أنا ربكم الأعلى، بل قال أنا عبد اللَّه، ولم يقل مفاخرا(7/3864)
(أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي)، بل قال شاكرا (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) أنت لطيف لما تشاء، وإذا كانت مصر قد اشتهرت بحكم الفراعنة والاستبداد، فقد جاء حكم يوسف حكما صالحا، ليثبت اللَّه أن الإصلاح زرع طيب يربي النفوس، ويقوي العزائم حتى في أرض فرعون الذي طغى وبغى وأكثر فيها الفساد.
والسورة فوق ذلك تصور كثرة أسباب الرق وفوضاه، وتصور أسباب السجن ومظالمه، وتصور الحال الاقتصادية في مصر، والبلاد التي تجاورها، وكيف كانت مصدر الرفد لمن حولها، وغير ذلك مما ذكرناه في تفسير قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ)، الذين يبحثون عن حقائق الأمور ومآلاتها.
يقول تعالى:(7/3865)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
(ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ ... (102)
الإشارة إلى ما ذكر من أنباء كان يوسف قطبها، والخطاب فيه للرسول ليكون ذلك المذكور من نبأ يوسف تسلية لابن عمه محمد صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، يتسلى به إذ يرجو النصر، وإن كان الشرك هو الظاهر، فهذا غلام ملقى في الجب، ثم يباع ويشترى، وتنكشف الأمور بعد سجنه عن ملك عادل يسوس أخصب أرض الشرق نماء وثروة، إن من يحكم الأمور بتدبيرها ليس ببعيد عليه أن يخرجك من وسط بأساء قومك، إلى عز اللَّه تعالى:
(مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نوحِيهِ إِلَيْكَ)، الأنباء جمع نبأ، وهو الخبر الخطير ذو الشأن، و (الْغَيبِ) أي متلبسا الغيب؛ لأنه غائب عنك، وعن قومك، وما كان ليعلمه أحد من قومك، لأن أحداثه ليست في بلاد العرب، وما كانت في أرض مجاورة لبلاد العرب، بل في أرض غير مقاربة، ولا في إقليم كالعرب، بل في إقليم له تقاليد فرعونية طاغية، يقول حاكمها ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، فهو حاكم يُفْني الشعب في شخصه، ولا يفنى في شعبه، يظلم ويسيطر، ولا يعدل ويشاور.(7/3865)
وإذا كانت غيبا بعيدا عنك وعن العرب فئهو وحي من الله (نوحيهِ إِلَيْكَ)، وقد أكد سبحانه أنه غيب عليه بقوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) وهذا فيه أمران: فيه استدلال على أنه بوحي من الله تعالى، وفيه تصوير لحالهم، وهم يمكرون ليغتصبوا أخاهم من أبيهم، (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ)، أي ما كنت عندهم حتى تعلم حالهم إذ تكون مختلطا بهم متعرفا أمرهم، (إِذ أَجْمَعوا)، أي إذا عزموا أمرهم على رميه في غيابة الجب، ويقال. أجمع أمره، إذا اعتزم الأمر جازما من غير فكاك، وهم يدبرون بمكر سيئ على أخيهم، وعلى أبيهم.
هذا أمر فيه عبرة، وفيه بيان آن هذا القرآن ليس من عند محمد صلى الله تعالى وسلم، بل هو من عند الله علام الغيوب وكان عليهم أن يصدقوا به، ولكن لَا يرجى تصديقهم، ولكن يرجى الغلب عليهم، وجعل كلمة الذينِ كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، ولذا قال تعالى:(7/3866)
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
(وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
(الواو) واصلة هذه الجملة بسابقتها، وحي تشير إلى أنه مع كثرة الأدلة التي توجب الإيمان وتضافرها فإن أكثر الناس ليسوا بمؤمنين، وما المراد بالناس، أهم كل من يشملهم اسم الناس من عرب وعجم، وبيض وسود، وصفر وحمر؟ أم المراد أهل مكة، ومن يشبههم من المشركين.
وعلى أن المراد بالناس أهل مكة، وما أكثر الناس ولو حرصت على إيمانهم بمؤمنين لك ومسلمين بهذه الأدلة، إلى حين، حتى تصير كلمة الله هي العليا، فإنه بعد مكة صار أكثر الناس مؤمنين، وكان منهم أبطال الجهاد والإمرة شيء الجيوش، فكان منهم أمثال خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، فيكون النفي، وإن كان ظاهره العموم فإنه مقيد بالزمان، فإن شمل عموم المكان لَا يشمل عموم الأزمان.(7/3866)
وإن أردنا الناس جميعا عربا وعجما، فإن الحقائق الواقعة أن أكثر الناس لا يؤمنون، فالنصارى المثلثون والبوذيون غير الوحدين، والبراهمة الكافرون، أضعاف المسلمين، فالآية صادقة.
ونحن نرى أن الناس هم مشركو مكة، لقوله تعالى: (وَلَوْ حَرَصْتَ) فإن هذا يدل على أن الناس هم الذين كان النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم يعاصرهم، ويرجو إيمانهم، ويحرص عليه، حتى قال اللَّه تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ. . .).
وقوله تعالى: (وَلَوْ حَرَصْتَ) تدل على رغبة النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى قال اللَّه تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسكَ أَلًا يَكُونُوا مُؤمِين).
وقوله (بِمُؤْمِينَ) الباء لتأكيد النفي، وقد نفَى الله سبحانه وتعالى عنهم وصف الإيمان الذي يوجب عليهم الخضوع والتسليم، وذلك لأن النفوس قسمان نفس تؤمن بالحق وتذعن له إذا جاءها دليله، وهي التي خلصت من أدران الفساد، ومطامع الشيطان، وقليل ما هم، ونفس دُرّنَتْ بالفساد، والعناد، وجمحت بها الأهواء والشهوات، فتحكم فيها الشيطان، وهذه لَا تؤمن، ولا يقنعها إلا مقامم من حديد، والحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وهؤلاء تكون حربهم لتمكين غيرهم من حرية الرأي ثم الإيمان، كأمثال أبي لهب وأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وغيرهم من لهاميم (1) قريش الذين كانوا يؤذون المؤمنين، ويفتنونهم عن دينهم الذي ارتضوا، ويسخرون منهم، سخر اللَّه منهم.
وإن هذه الدعوة إلى اللَّه التي يقوم بها محمد صلى اللَّه تعالى عليه وسلم هي تبليغ من اللَّه لَا يريد بها ملكا، ولا سلطانا، ولا رياسة، ولا مالا، ولا أي أجر من الأجور التي اعتاد الناس أخذها في دعاياتهم، ولذا قال تعالى:
________
(1) واللهموم: الجواد من الناس والخيل، واللهام: الجيش الكثير، كأنه يلتهم كل شيء. الصحاح للجوهري (لهم).(7/3867)
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
(وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
الضمير في (عَلَيْهِ)، يعود إلى أنباء الغيب والقرآن، والتبليغ بهذا الدين، وما تسألهم على هذا التبليغ بهذه الأنباء وبالوحدانية، لَا تسألهم أي أجر، فـ (مِنْ) لبيان عموم النفي لَا تسألهم أي أجر من أنواع الأجور، لَا تسألهم رياسة، ولا إمرة ولا شيئا من هذه الأمور الدنيوية، ولقد عرضوا على النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم الأمر والسيادة، وقالوا إن أردت سَوَّدْناك، وعرضوا عليه الأموال، ورضوا بأن يعطوه كل جاه ومال، وأن يتركهم وما يعبدون، ولكنه حَقَّر ما يرضون بجوار ما يدعوهم إليه من التوحيد، وعدم الشرك.
بل قال اللَّه تعالى في رد ما يعرضون (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ للْعَالَمِينَ)، (إِنْ) هي النافية والضمير يعود إلى التبليغ وما يتضمنه من القرآن الكريم، وقصصه الحق الموحى به، ليس هذا إلا تذكير للعالمين، لأهل العقل في هذه الدنيا. ثم بين سبحانه وتعالى أن آيات اللَّه الدالة على وحدانيته كثيرة، فقال تعالى:(7/3868)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
(وَكَأَيِّنْ) بمعنى كم الدالة على كثرة العدد، وعن سيبويه أن (كَأَيِّنْ) هي (أيّ) بالتنوين، ودخلت كاف التشبيه وبنيت معها، فصارت في الكلام في معنى (كم)، ولا يهمنا أصلها النحوي، إنما يهمنا أنها للكثرة في العدد، والآية هي الأمر الدال على قدرة الله تعالى في الكون في السماء والأرض، وعلى قدرته على العصاة، وأماكن هلاكهم بما عثوا وأفسدوا، ورسومهم دالة على هلاكهم، وأن اللَّه بدل بهم غيرهم، ولم يضروه شيئا.
وأنهم ليمرون على هذه الآيات، وهم عنها معرضون غير ملتفتين إلى ما فيها من عبر، فالكون كتاب فيه الدلائل على الوحدانية، والأرض كذلك، وفيها عبر من آثار العصاة.(7/3868)
وقال ابن كثير في هذا: " عبر تعالى عن غفلة الناس عن التفكر في آيات اللَّه، ودلائل التوحيد بما خلقه في السماوات والأرض من كواكب زاهرات ثوابت، وسيارات وأفلاك دائرات، والجميع مسخرات، وكم في الأرض من قطع متجاورات وحدائق وجنات، وجبال راسيات، وبحار زاخرات، وأمواج متلاطمات، وقفار شاسعات، وكم من أحياء وأموات، وحيوان ونبات، وثمرات متشابهة، ومختلفات في الطعوم والروائح والألوان والصفات، فسبحان الواحد الأحد خالق أنواع المخلوقات، المتفرد بالبقاء والصمدية للأسماء والصفات " (1).
نقلنا هذه الكلمة مع طولها وسجعها المتكلف، لعموم ما تشير إليه من آيات اللَّه تعالى في السماء والأرض.
وإن العرب كان فيهم إيمان باللَّه، كانوا يؤمنون بأنه الخالق لمن في السماوات والأرض، وأنه هو المغيث، وأنه ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته، ولكنهم مع هذا الإيمان بخلق اللَّه تعالى يشركون معه الأوثان في العبادة، ولذا قال تعالى:
________
(1) تفسير القرآن العظيم: ج 4/ 358.(7/3869)
وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
(وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
(أَكْثَرُهُم)، أي أكثر الناس، وما المراد بالناس هنا؟ أراد بهم العرب قبل ظهور الإسلام أم الناس أجمعون؟ لَا مانع من إرادة أحد العرضين أو إرادتهما معا بمعنى شمول الكلمة لكل ما تدل عليه من ناس عرب وعجم.
على الفرض الأول يكون في هذا النص السامي بيان حقيقة تاريخية تومئ إلى حكمة بعث النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم في العرب ابتداء، وعموم دعوته من بين صفوفهم من بعد (. . . اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. . .)، ذلك أن العرب من شعوب الأرض كانوا يعلمون اللَّه، ويؤمنون بأنه الخالق لكل شيء وأنه واحد في ذاته وصفاته، ولكنهم مع ذلك يعبدون الأوثان مع اللَّه سبحانه وتعالى، وكانوا في تلبيتهم في الحج، يجمعون بين الإيمان باللَّه الواحد الأحد(7/3869)
وإشراك غيره معه، ففي الصحيحين: أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك (1)، وفي صحيح مسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان سمعهم قالوا لبيك اللهم لبيك، قال عليه الصلاة والسلام: " قَد قَد "، أي حسب حسب لَا يزيدون على هذا (2).
وإنهم كانوا في الشدة لَا يستغيتون إلا باللَّه لعلمهم بأنه وحده الخالق المغيث، ولكنهم يشركون به غيره في العبادة، ولقد كانوا بهذا أقرب إلى التوحيد من غيرهم، فليس على الداعي إلى الوحدانية إلا بطلان عبادتهم للأوثان وقولهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّه زلفى، فاللَّه قريب من عباده (. . . ادْعُونِي أَسْتَجِب لَكمْ. . .)، وما لهم عنده من شفعاء.
هذا على منطق أن الناس المراد بهم عرب الجاهلية، وعلى الفرض الثاني والثالث يكون المعنى أن أكثر الناس تعتريهم حال إشراك مهما أخلصوا التوحيد للَّه تعالى، فالأوهام تسيطر على الناس وقد تأدت بالوثنيين إلى عبادة الأوثان، ولكنها بالنسبة لمن جاء بعدهم تأدت بهم إلى أوهام حول الأشخاص، لم يعبدوهم ولكن اعتقدوا فيهم قوى خفية، وإن آمنوا بأنهم مخلوقات، وأنهم بشر.
وإن أظهر ما يكون ذلك في الرُّقي، روي عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه خبر روته امرأته زينب قالت: كان عبد اللَّه إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح كراهة أن يهجم على أمر يكرهه، وإنه جاء ذات يوم، فتنحنح، وعندي عجوز ترقيني، فأدخلتها تحت السرير، فدخل فجلس إلى جانبي، فرأى في عنقي خيطا، فقال: ما هذا الخيط؟، قلت: خيط رُقِي لي فيه، فقال: إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك، سمعت رسول الله صلى اللَّه تعالى عليه وسلم قال: " الرقى والتمائم شرك " (3).
________
(1) رواه مسلم: الحج - التلبية وصنهتها ووقتها (2032).
(2) المرجع السابق.
(3) انظر ما رواه أحمد: مسند المكثرين من الصحابة - مسند عبد اللَّه بن مسعود (3433)، وبنحوه ابن ماجه: الطب - تعليق التمائم (3521)، وأبو داود: الطب - في تعليق التمائم (3385).(7/3870)
ولقد كانت رقية النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم الخالية من الشرك:
" اذهب البأس رب الناس، اشف وأنت الشاف، لَا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لَا يغادر سقما " (1).
وروي أن رقية النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم كانت بالمعوذتين: قل أعوذ برب الفلق إلى آخرها وقل أعوذ برب الناس إله الناس إلى آخرها (2).
وفى الحق إن الأوهام التي تسيطر على الناس من ناحية الغيب دفعت النصارى إلى التثليث، وهو شرك، ودفعت المشركين من العرب إلى عبادة الأوثان.
والآية الكريمة تدعو المؤمنين إلى الحرص على التوحيد، وتفويض الأمر إلى اللَّه تعالى، وأن يبعدوا عن الأوهام المضلة، فلا يعتقدون في مخلوق أن فيه قوة تشفي، أو تنفع، فإن الأوهام أدت إلى الشرك في جاهلية العرب وأدت النصارى إلى التثليث، ولا تزال الأوهام تسيطر عليهم حتى تأدت بهم إلى عبادة الأحجار والصور والتماثيل.
* * *
سبيل الله
قال تعالى:
(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
________
(1) رواه الترمذي: الدعوات - دعاء المريض (3488) قال أبو عيسى هذا حديث حسن. وانظر السابق.
(2) انظر ما رواه الإمام أحمد: باقي مسند الأنصار - مسند عبد اللَّه بن فضالة (22832)، ومسلم. السلام - رقية المريض بالمعوذات والنفث (4065).(7/3871)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
* * *
إن من يخدعه الشيطان يكون في لهو عن مستقبله يستغرقه حاضره اللاعب اللاهي، ولا يتخذ من الماضي لغيره أو له عبرة يتعرف بها المستقبل، بل هو ساه في لهو لَا يفكر في أمر مستقبله، كأنه أمنه واستقر على ما يجيء به، ولذا قال تعالى في المشركين الذين استغرقهم حاضرهم وما هم فيه:(7/3872)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
(أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ منْ عَذَابِ اللَّهِ) (الفاء) مقدمة عن تأخير؛ لأن الاستفهام له الصدارة دائما، أو الهمزة داخلة على فعل مناسب محذوف دل عليه ما بعده، ألَّهوا وأشركوا وعبثوا (أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عذَابِ اللَّهِ)، أي أي غاشية من الغواشي التي تكون من عذاب، فتعمهم من فوقهم ومن أسفل منهم، وكأنها ثياب تغشاهم وتعمهم، وتكون سابغة عليهم، ولهم في ذلك العبر من الأمم العربية التي كفروا بأنعم اللَّه فجاءتها ريح صرصر عاتية، أو جعل اللَّه تعالى عاليها سافلها أو دمر اللَّه عليهم، كما قال تعالى فيهم: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47).(7/3872)
(أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)، إما أن تأتيهم نقمة تخصهم لكفرهم وغيهم وفسادهم في الأرض، وإما أن تأتيهم القاضية، وهي ساعة القيامة، وسمي يوم القيامة ساعة، لأنه يتم بين غمضة عين وانتباهتها، وفي هذا إشارة إلى أن أعمال الكافرين أعمال من يظن الحياة الدنيا دائمة، ولا يترقب يوم القيامة وما وراءه، وقوله تعالى: (وَهُمْ لَا يشْعُرُونَ) بإقبالها، وقوله: (بَغْتَةً) إشارة إلى أنها تفجؤهم من حيث لَا يحتسبون ولا يتوقعون، بل هم في غيهم مستمرون.
وإن اللَّه تعالى أمر نبيه بأن يدعوهم إلى الحق غير مبال بإنكارهم وعنادهم، وإنه مستمر في دعوته لَا ينى عنها أبدا.(7/3873)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
أمر اللَّه تعالى نبيه بأن يبلغهم أمره فقال: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي) الإشارة هنا إلى ما يدعوهم إليه من التوحيد في العبادة، وألا يشركوا باللَّه شيئا، وأن يؤمنوا بالبعث والنشور، وأنهم يموتون كما ينامون، ويحيون كما يصحون، ومن ذلك تكون الجنة أبدا أو النار أبدا، فهذه الدعوة " هى سبيلي " التي أسلكها، لَا أحيد، وماضٍ فيها، وأدعو إليها، أنا مستمر في الدعوة إلى أن يقبضنى الله تعالى (وَمَنِ اتًبَعَنِي) يحملون عبء التكليف بهذه الدعوة والسير في سبيلها غير وانين ولا مقصرين.
وهذا يدل على أن الدعوة إلى اللَّه فرض على المؤمنين كل يقوم بواجبه فيها، الدولة الإسلامية تهيئ دعاة إلى الحق، ويختلف الوجوب علوا ودرجات باختلاف الجماعات والآحاد من حيث العلم والثقافة والقدرة على القيام بحق الدعوة، وقوله تعالى: (عَلَى بَصِيرَةٍ)، أي على علم بالحق وحجته ودليله، وهذا يدل على وجوب علم الداعي، وأن يكون له بصيرة نافذة يدرك الحق ويعلم نفوس الناس، وما يجب اتباعه لدعوتها.(7/3873)
ويقول: (وَسُبْحَانَ اللَّهِ) أنزهه عن الشريك، وأسبِّح له خاضعا خاشعا، أرجو رحمته وأخاف عذابه، وكل من في الوجود يسبح له: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. . .)، وقوله تعالى: (سُبْحَانَ اللَّهِ) تنزيه مطلق، وخضوع للَّه تعالى من الرسول، ومن الوجود كله، ثم أيأسهم من أن يكون مثلهم فأمره بأن يقول:
(وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إن استمررتم على شرككم فأنا بريء منكم، وإن هذه السبيل هي سبيل النبيين أجمعين بعثوا بها في أقوامهم، ودعوهم إليها، وإن النصر من اللَّه لهم: لأنهم أصحاب دعوة الحق، ولذا قال تعالى:(7/3874)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
هذه الآية بعد قوله تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي) تدل على أن التوحيد، وتنزيه اللَّه تعالى رسالة النبيين أجمعين، فهي تدل على ذلك، وتدل ثانيا، على أن النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم لم يكن بدعا من الرسل، بل سبقه بهذه الدعوة أنبياء سابقون. وتدل ثالثا على أن رسالة اللَّه إلى خلقه تكون برجال يدعون بها، لا بملائكة، وذلك رد على قولهم: (. . . مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُل الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ. . .)، وعلى طلبهم أن ينزل عليهم ملك يخاطب برسالة اللَّه، وقد قال تعالى في الرد عليهم (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ).
وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ. . .)، وقال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكلُونَ الطَّعَامَ
وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ).(7/3874)
وهكذا كانت هذه الآيات الكريمات وغيرها تحمل الدلالات القاطعة التي ترد إنكارهم.
وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ) ليس من أرسلناهم من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم أي أنهم ليسوا ملائكة، ولكن اتصالهم باللَّه تعالى بطريق الوحي يوحي إليهم سبحانه وتعالى بأوامره ونواهيه، وبعبادته وحده لَا شريك له، وقوله تعالى: (مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى) أي أن هؤلاء الرسل من أهل القرى، والقرى هي المدن العظيمة، وفي هذا بيان أمرين أحدهما: أن الرسول يكون من أهل المدن العظيمة، وثانيهما أنه يكون من قومه، عرفوه من أوسطهم، وأكثرهم أمانة وصدقا، كما قال تعالى في شأن النبي محمد صلى اللَّه تعالى عليه وسلم (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ منْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رحِيمٌ).
وكان رسل اللَّه من أهل المدن يبعثون فيها، ليكون الرسول على علم بأحوال الناس، وليكون معروفا بينهم مشهورا غير مغمور، يكون ذا مكانة من غير غطرسة فيهم، قبل النبوة، فتكون شهادة له بالصدق بعدها.
وقد بين اللَّه تعالى هذه الحقيقة، وهي أن الرسل من الناس، وليسوا ملائكة، وأنها معروفة بالعيان لمن سار في الأرض، وتعرف ديار الذين كفروا بالرسل، فقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) هذا النص السامي فيه برهان أن الرسل كانوا رجالا، وفيه إنذار لمشركي العرب بالمآل الذي يئولون إليه إذا استمروا على غيهم، وإنه إنذار يحمل في نفسه دليله، وبرهانه من الآثار والرسوم للذين هلكوا بسبب إنكارهم وكفرهم، وانتحالهم التعلات للعناد والإنكار.
وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيروا) (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهي مؤخرة عن تقديم للاستفهام؛ لأن الاستفهام له الصدارة في البيان، والاستفهام(7/3875)
للنفي، ونفي النفي إثبات، والمعنى لم تسيروا، وفيه تحريض على السير في الأرض ليروا عاقبة الذين من قبلهم، وأنكروا ولجّوا في الإنكار، وعاندوا مثلهم، فليعرفوا حالهم مما آل إليه أمر من سبقوهم.
مآلهم بعد ذلك في الآخرة أشد وأنكى وأدوم، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك ببيان عاقبة الذين من قبلهم، فقال تعالت كلماته: (وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْر لّلَّذِينَ اتقَوْا) أي أنه سيصيبكم ما أصاب الذين من قبلكم، والذين اتقوا ينجون من العذاب الساحق الذي ينزل بالكافرين، وليست النجاة وحدها جزاءهم فذلك جزاء سلبي، والجزاء الإيجابي في الآخرة، ولذا قال مؤكدا (وَلَدَار الآخِرةِ خيرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا)، أي اتقوا غضب اللَّه، واتقوا الشرك، واتقوا العذاب، وغلبت عليهم في ذات أنفسهم التقوى والإيمان والإذعان للحق.
ودعاهم سبحانه وتعالى إلى التفكير، واستعمال عقولهم، فقال: (أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (الفاء) كما ذكرنا لترتب ما بعدها على ما قبلها، فإن ما قبلها من أحوال
الأمم، وما يكون يوم القيامة للأبرار يدعوهم إلى التعقل والتفكير، والهمزة للاستفهام الإنكاري الباعث على العقل والفكر، فإنه إنكار للدعوة إلى إعمال العقل، وتدبر مآلهم، واللَّه بكل شيء عليم.
وقد بين سبحانه وتعالى سنته في أعمال الرسول، ومآل الأمر حال يأسهم، فقال تعالت حكمته.(7/3876)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
هنا كلام مقدر بما جاء بعد، و (حَتَّى) غايته، والمعنى أن الرسل جاءوا ودعوا وكُذبوا وحوربوا، وقل المؤمنون بجوار الكافرين وكانوا يسخرون من الذين آمنوا (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا).(7/3876)
استيئس الرسل اعتراهم اليأس الشديد، واستولى على نفوسهم كأنهم طلبوه، وما طلبوه، وصارت حالهم يأسا، وصور صورة من يأسهم، فقال، (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) جال في روعهم أنهم كذبوا، ولم يعد مجال للإيمان أو النصر، وهنا قراءتان في (كُذِبوا) القراءة الأولى بالتخفيف والبناء للمجهول، وهي قراءة الأكثرين، والثانية بتشديد (الذال) للبناء للمجهول أيضا، وهي قراءة أم المؤمنين عائشة رضي اللَّه عنها وأرضاها، وطائفة من القراء بعدها (1).
والمعنى على قراءة التخفيف كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني علموا أنهم تُلقوا من جهة الذين أرسلوا إليهم بالكذب، أي ظنوا أن الذين تَلَقَّوا عنهم أخبار الإنذار يظنون الكذب فيهم، وإليك نص عبارة الراغب رضي اللَّه عنه: قوله تعالى: (حَتَّى إذَا اسْتَيأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَد كُذِبُوا) أي علموا أنهم تُلُقُّوا من جهة الذين أرسلوا إليهم بالكذب، فكذبوا نحو فسقوا، وزنوا - إذا نُسبوا إلى شيء من ذلك، والمعنى على هذا ظنوا أنه وقع في نفوس من يخاطبون كذب ما أنذروا.
أي أنه قد طال الأمد الذي أجلوه، حتى توهم الرسل أن الذين يخاطبونهم من المشركين قد وقع في نفوسهم كذب الرسل، واتخذوا من المطاولة في الزمن، أنهم كاذبون في إنذارهم، واتخذوا من طول الزمن دليلا على كذبهم. وعلى قراءة التشديد يكون المعنى أن الرسل قد استيئسوا حتى ظنوا أي علموا أنهم كذبوا فيئسوا من إيمانٍ غير من آمنوا، كما قال اللَّه تعالى: (. . . لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ. . .).
والظن هنا بمعنى العلم، أو بمعنى ما يعرض للبشر عند اليأس من خواطر تجعلهم يظنون في أمر المبعوث إليهم، ولننقل لك كلام الزمخشري في هذا، فهو يدل على نفاذ بصيرة في معاني العبارتين ومراميها من غير تهجم، ولا تقحُّم على
________
(1) قراءة (كذبُوا) بالتخفيف عاصم وحمزة والكسائي وخلف)، ويزيد (أبو جعفر)، وقرأ الباقون بتشديد الذال. غاية الاخصار ج 2/ 530.(7/3877)
المعاني قال: (وَظَنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا) أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم عنهم بأنهم يُنصرون، والمعنى أن مدة التكذيب والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله، قد تطاولت وتمادت حتى استشعروا القنوط، وتوهموا أن لَا نصر لهم في الدنيا، فجاءهم نصرنا فجأة من غير احتساب. وعن ابن عباس رضي اللَّه عنهما، وظنوا حين ضعفوا أو غلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم اللَّه من النصر. وقال: كانوا بشرا، وتلا قوله تعالى: (. . . وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ. . .)، فإن صح هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشر، وأما الظن وهو ترجيح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل اللَّه الذين هم أعرف الناس بربهم، وإنه متعال عن خلف الميعاد، منزه عن كل قبح، وقيل: وظن المرسل إليهم بأنهم كذبوا من جهة الرسل، أي كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم.
وإنه بعد هذا التحليل نقول: إن أم المؤمنين عائشة ردت قول ابن عباس رضي اللَّه عنهما وقالت: إن الرسل لَا يظنون باللَّه خلف الوعد.
وخلاصة القول أن نقول: إن معنى وظنوا أنهم قد كذبوا، على التخفيف والبناء للمجهول أن يظنوا أنه ألقى في نفوس المرسلين إليهم أنهم كذبوا في إيقاع العذاب بهم، وإن ذلك النطق نوع من هواجس الفكر البشري، وهي تتلاقى مع قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214).
وقوله تعالى: (جَاءَهُمْ نَصرنَا)، أي بغتة من حيث لَا يحتسبون، (فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ)، وهم الذين استقاموا على الطريقة واتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات، (وَلا يُرَدُّ بَأسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرمِينَ) الذين اجتمعوا على الإجرام واتفقوا عليه، حتى كانوا قوما من شأنهم الإجرام واجتمعوا عليه.
* * *(7/3878)
خاتمة
قال تعالى: في ختام هذه السورة التي بلغت أقصى غاية القصص بلاغة وبيانا، وعلما نفسيا وخلقيا، وبيانا للإرادة القوية، وكيف تصبر في مواطن الهجوم عليها بالأهواء الجامحة، والشهوات المنحرفة، والوفاء، والمحبة، والرفق في المعاملة، وعلاج الأمور بالحكمة، والتدبير، ولطف المواتاة للخير.
قال تعالى في ختام هذه السورة:(7/3879)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
القَصَص بالفتح: الإخبار عن الماضين، والقصص بالكسر جمع قصة، كقطع جمع قطعة، وغير ذلك، وقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، قصر بعض المفسرين القصص على قصة يوسف عليه السلام، وبعضهم عممه على قصص الأنبياء جميعا، وعلى ذلك يكون الضمير في قصصهم يعود إلى الأنبياء الذين ذكرت أخبارهم في القرآن الكريم كنوح وإدريس وإبراهيم وموسى وعيسى، ولوط، ويوسف، ويعقوب، وعلى الرأي الأول يكون الضمير يعود إلى يوسف وأبيه وإخوته.
وقد رجح الزمخشري الثاني بعود الضمير إلى الأنبياء، وذلك لقراءة كسر القاف، إذ إنها تكون قِصصا، وليست قصة واحدة، وقصة يوسف واحدة، وليست قصصا متعددة.
ومهما يكن فإن قصة يوسف قصة واحدة، اختص بها يوسف عليه السلام، وهي أخبار متنوعة قُطبها يوسف عليه السلام، وفيها عبر مختلفة، فيها بيان لحال النفوس، وما يعروها من منازع، وما تعترك به من أهواء، وما في النفس من قوة إرادة وصبر للمهتدين، ونزوغ فاسد للضعفاء الذين ينساقون، وما فيها ما يحمي البيوت من آفات، وما يعروها من انحرافات، وفيها بيان لتدبير الجماعة، وتنظيم(7/3879)
لاقتصادها، وإحكام، وإخلاص، وعدل، وبيان لما يجب من الادخار من سني الرخاء لسني الشدة، كما قال تعالى: (. . . فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُله إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكلُونَ).
وفى سورة يوسف صورة للحاكم العادل، تراها في أوصاف يوسف عليه السلام.
وأولى هذه الصفات البارزة قوة الإرادة، ومظهرها الصبر عندما تعتلج النفس بأسباب الشهوات.
وثانيها: الأناة، وأن يضبط نفسه عند الغضب، ولا ينساق وراءه، فالحاكم الذي يسير وراء الغضب يشط، ويظلم، وقد رماه إخوته بالسرقة كاذبين عليه، مغرضين عليه.
وثالثها: العناية بذوي الحاجات، ولو كانوا مؤذين له، أو سبق لهم منه الأذى كما عامل إخوته.
ورابعها: الثقة بالنفس، وطلب الأمر إن كان يصلحه، كما قال يوسف (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ) فلم يفرّ من تحمل التبعة عن بينة وجدارة واستحقاق، مع ذاكرة قوية مدركة، يعلم ما مضى وما حضر.
وخامسها: الإخلاص لِلَّهِ تعالى، وعبادته وحده، فلا يشرك، فتديّن الحاكم يجعله خاضعا للَّه.
وسادسها؛ أن يكون رفيقا في معاملة الناس شفيقا بهم، فهو كالوالي على اليتيم، يعطيهم من رفقه ورفده ما يدنيهم إليه، وهكذا كان يوسف حتى وهو في سجنه، فقد كان يناديهم، وهو في سجنه مع المسجونين بأنهم أحبابه وأصحابه، وإن من الشفقة والرفق العفو عندما توجد أسباب يداوى به الحسد والعداوة، فلا يجتث شيء الحسد والأحقاد كالعفو والمحبة وإدناء البعيد، وتقريب العشير، وكل ذلك كان في يوسف.(7/3880)
وسابعها: التأني للأمور، وقد رأينا كيف أخذ الثقة في لين، ومن غير إعنات من العزيز، ظهر ذلك فيمن هو أعلى منصبا منه، وظهر في صغائر الأمور، كما رأيت في استبقائه أخاه من غير اقتتال، بل بوضعه السقاية في رحل أخيه من غير اتهام لشخصه، ثم أخذ الحكم من ألسنتهم، ونفذه بقولهم.
ثم من بعد ذلك أخذ الأمور بالتأني، حتى التقى بأبيه على مائدة الرحمة والمودة والإيثار، وقد قتل الحقد بالعفو، والغيرة بالمحبة، والضلال بالهداية.
وفي السورة عبر كثيرة، وقد ذكرنا بعضا منها في أول السورة في معاني قوله تعالى: (لقد كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوتِه آياتٌ للسَّائِلِين).
وقلنا: إن قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ) الضمير يعود إلى الأنبياء، وخصصنا نحن قصة يوسف ببعض ما يلوح منها من عبر، والعبرة والاعتبار الحال التي يعرف فيها، ما يجب عمله في الحاضر بالأخذ مما كان في الماضي بأن يتفكر ويتدبر ما كان في الماضي من وقائع، ويعلم أنه نور يضيء للحاضر، فالإنسان ابن الإنسان يتشابه في آثامه، ويتشابه في عواقبها ونهايتها، فذكر هذه الآرام لجماعة أو قبيل، وبيان العواقب بيان للعواقب في كل جيل لمن يقع فيها من أهل هذا الجيل الذي خلف الأول، ولذا كان في قصص الرسل إنذار للمشركين وتسلية للنبي والمؤمنين بأن نصر اللَّه آت، وكل آت قريب مهما يتأخر الزمان.
ويقيد سبحانه وتعالى المعتبرين بأن يكونوا من ذوي الألباب أي العقول التي تذهب في إدراكها إلى لب الأمور وحقائقها، ويتدبرون مباديها، ونهاياتها، ويبين اللَّه سبحانه أنه لم يكن حديثا يفترى ويخترع كأساطير الأولين (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى) كمما قال الأفاكون أنها (. . . أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)، والتنكير في - حديثا - لعموم النفي أي ما كان (حَدِيثًا) أي حديث يفترى ويخترع اختراعا لمجرد التسلية وتزجيه الفراغ،(7/3881)
والتسلي المجرد، بالأحاديث، بل كان أخبارًا جاءت بها الكتب السماوية من قبل، ولذا قال تعالى: (وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي أنه كلام فيه تصديق لما بينِ يديه من الكتب السماوية التي نزلت من قبله كالتوراة الصادقة، وقوله: (تَصْدِيق الذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) فيه إثبات صدقه فيما أخبر، وصدقها فيما أخبرت به؛ لأن الصدر فيها واحد، ويعبر بكلمة (بَيْنَ يَدَيْهِ) في القرآن بما سبقه، وكأنه بعلمه حاضر بين يديه.
لقد ذكرها النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، وقال إنها من القرآن، وهي موافقة للصادق من الكتب عند اليهود والنصارى ومبينة للزائف منها، وكان ذلك على لسان رجل لَا يقرأ ولا يكتب، وفي قوم أميين ليس عندهم علم ولا معاهد للعلم، وما كان كثير النجعة والارتحال، بل لم يعرف له إلا رحلتان إلى الشام، إحداهما في الثانية عشرة، والثانية في الخامسة والعشرين من عمره.
والضمير المستتر في قوله تعالى: (مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى) عائد إلى القصص، وهو مصدق لما جاء في الكتب السابقة، ودليل على صدق النبي صلى اللَّه تعالى عليه وسلم، وفيه هداية ورحمة لقوم من شأنهم الإيمان بالحق إذا جاءهم فالقصص فيه هداية لأن فيه دعوة النبيين وعاقبة المكذبين، وفيه رحمة لتجنيب المؤمنين عاقبة الكفر.
ويصح أن يكون الضمير عائد إلى القرآن الكريم المشتمل على القصص فهو في ذاته هدى، لأنه من عند اللَّه، وهو رحمة، لأن الهداية رحمة، وخص ذلك بالذين يؤمنون ويذعنون للحق إذا جاءهم، (وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أما من لَا يذعنون ولا يؤمنون فهم قوم بور.
* * *(7/3882)
(سُورَةُ الرَّعْدِ)
تمهيد:
سورة مدنية، وعدد آياتها ثلاث وأربعون آية، وسميت " سورة الرعد " لقوله تعالى فيها: (وَيُسَبحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ. . .) ولو سُميت الكون والهداية لكانت التسمية محكمة.
وقد ابتدأت بالحروف المفردة (المر)، وأعقبها بإشارة إلى القرآن الكريم: (وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ).
ثم بعد ذلك بيّن اللَّه سبحانه وتعالى ما في الكون مما يدل على قدرة القادر ووحدانيته، فاللَّه هو الذي رفع السماوات بغير عمد مرئية، ولكن عدم رؤيتها لا ينفي وجودها، وسخَّرَ الشمس والقمر كلٌّ يجري لأجلٍ مسمى، فسبحان الذي يدبِّر الأمر يفصِّل الآيات لعلهم بلقاء ربِّهم يؤمنون.
وهو الذي مدَّ الأرض وبسطها، وجعل فيها جبالا رواسي، وأنهارا وجعل من كلِّ الثمرات، ومن كل من الحيوان وكل الأحياء زوجين اثنين، وجعل الليل والنهار آيتين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، وجعل في الأرض قطعا متجاورات وجنات من أعناب، وزرع، ونخيل صنوان وغير صنوان، يسقى بماء واحد، ومع أنها متجاورة وتسقى بماء واحد، يفضّل اللَّه بعضها على بعض في الأُكُل، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون.
وإن هذا الكون وما فيه يدل على أن الذي قدر على خلق الإنسان قادر على إعادته، كما بدأكم تعودون، (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)(7/3883)
وقد استرسلوا في إنكارهم النبوات، والعث، وإذا أُنذروا بالعذاب واستعجلوه إمعانا منهم في الإنكار، (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6).
وإنهم لينكرون المعجزات التي جاءت داتة على رسالة الرسول الذي أُرسل إليهم، ويتجرءون على اللَّه باقتراح معجزات، وينكرون أن يكون غيرها آية (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7).
ثم يبيّن سبحانه إحاطة علمه، (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ. . .)، ينشئ كل ذلك، ويرونه عيانا ومع ذلك يجادلون في شأن اللَّه تعالى (. . . وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ).
ويبين اللَّه تعالى الحقائق التي يجب أن يذعن لها المؤمن، (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)، وبين سبحانه وتعالى بعد ذلك أن كل ما في الوجود ومن في الوجود خاضع له بمقتضى التكوين طوعا وكرها، ونبّه سبحانه إلى أنه خالق السماوات والأرض فسألَهم (. . . مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. . .) ووبخهم على اتخاذهم آلهة من دون اللَّه (. . . قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي(7/3884)
الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ. .).
وضرب اللَّه مثلا بين الحق وِالباطلِ، فقال تعالى: (أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17).
وبعد ذلك يبين جزاء الذين يستجيبون، ويشير إلى الذين يكفرون وهم الذين لم يستجيبوا له (. . . لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ).
ويبين اللَّه على طريقة الاستفهام فيقول: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19).
ويبين أوصاف أهل الحق بأنهم: (. . . يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ). و (. . . يَصِفونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ)، وهم الذين (. . . صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ. . .)، ثم يبين جزاءهم في الآخرة فيقول: (. . . أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24).
وبين اللَّه سبحانه وتعالى أوصاف الكفار، وهي نقيض أوصاف المؤمنين فهم: (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِه أَن يوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ. . .) وجزاؤهم بينه سبحانه بقوله: (. . . أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ).(7/3885)
وقد كان المشركون يتخذون من بسط الرزق وضيقه دليلا على الفضل عند اللَّه، وإذا كان اللَّه تعالى قد بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقيرا، ومجيبوه من الفقراء فقد ظنوا أنهم أولى، فقال تعالى: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26).
وقد طلبوا آيات أخرى مادية، وما كانوا ليؤمنوا إذا جاءتهم، فقال تعالى:
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29).
ثم بين سبحانه أن مثل هذه الآيات جاءت من قبلهم ولم يؤمنوا، فقال تعالى: (كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30).
ويبين منزلة معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي القرآن فيقول تبارك وتعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31).
وإذا كانوا يستهزئون بك وبمن معك فقد استهزى برسل من قبلك (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34).(7/3886)
وبعد بيان عذابهم في الدنيا والآخرة ذكر الجنة التي ينالها المؤمنون، فقال سبحانه: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35).
وبيّن سبحانه وتعالى موقف اليهود من القرآن والنبي، فقال تعالى:
(وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37).
ولقد بيّن سبحانه من بعد ذلك أن اللَّه أرسل رسلا من قبله من البشر لهم أزواج وذرية، وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن اللَّه، يمحو اللَّه ما يشاء من الآيات، ويثبت، وعنده أم الكتاب، وهو التوحيد، وألا يشركوا باللَّه شيئا ومهما يكن من أمر المشركين، فإما نرينك بعض الذي نعدهم من العذاب، وإما نتوفينك.
فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب.
ولقد بيّن سبحانه وتعالى العبر، وقدرة اللَّه تعالى ليعتبروا فلم يعتبروا:
(وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)، وبين سبحانه أنهم يدبرون تدبيرهم الخبيث واللَّه يعلم ما تكسب كل نفس (. . . وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43).
* * *(7/3887)
معاني السورة الكريمة
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
* * *(7/3888)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
(المر) هذه حروف مفردة، وقد تكلمنا عن هذه الحروف وقلنا: إنها من المتشابه الذي استأثر علم اللَّه تعالى به، ولسنا من الذين زاغت قلوبهم، يتبعون ما تشابه ابتغاء تأويله، ولكنا نلتمس الحكم في ابتداء السور بهذا، وقد حاولنا تلمس هذه الحكم، وقلنا: إن أكثر السور التي ابتدأت بهذه الحروف يذكر بعدها أمر الكتاب بالإشارة إليه تعالت كلماته، ويقولون في مقام هذه الحروف من الإعراب: إنها اسم للسورة أو الكتاب، وتعرب على أنها مبتدأ، خبره: (تِلْكَ آيَاتُ(7/3888)
الْكِتَابِ)، والإضافة إليها باعتبارها جزءا من آيات اللَّه، فالإضافة في قوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ) إضافة بمعنى (من)، أي إن تلك آيات من كتاب اللَّه، أو الإضافة بيانية، أي تلك آيات هي الكتاب. من قبيل أن جزءا في الكتاب هو قرآن يتحدى به، فقد كان يتحدى بآيات القرآن على أن فيها كلها ما امتاز به الكتاب الكريم من المجاز. و (أل) في (الْكِتَابِ) للدلالة على أنه الكتاب الكامل الذي هو جدير بأن يسمى كتابًا، كأن غيره ليس جديرا بأن يسمى كتابا؛ لأنه من عند اللَّه تعالى، وكلام اللَّه تعالى.
وقوله تعالى: (وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) جملة معطوفة لبيان أن ما أنزل منه من ربك هو الحق الثابت، وهذا من صفات كمال الكتاب، فكان من هذه الصفات:
أولا: أنه ليس من عندك، بل أنزل من اللَّه تعالى إليك، فليس افتراءً ولا كذبا.
وثانيا: هو من ربك الذي يدبر الأمر بحكمته، وينزل كل شيء منزلته، وهو الذي اختار أن يكون المعجزة المحمدية الكبرى.
وثالثا: هو الحق الثابت الذي ما جاء فيه إلا الحق في العقيدة وفي الشريعة، وفى دفع الأوهام، ودفع الفساد في الأرض، وعلاج أمور الناس بالحق، فهو الحق في كل مما جاء به لأنه من الحق جل جلاله، وعلا كماله.
ويكون العطف بين الجملتين (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ)، (وَالَّذِي أُنزِلَ. . .) إلى آخره، لبيان أن الكتاب متصف بصفتين كلتاهما تؤدي معنى الكمال:
الأولى: أنه الكتاب الكامل في ذاته.
والثانية: أنه الكامل لأنه من عند اللَّه تعالى، فالتقى فيه الكمالان: الكمال الذاتي والكمال الإضافي.(7/3889)
وكان حقا أن يؤمن الناس جميعا به، ويذعنوا لحقائقه. . (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ)، فالاستدراك لما كان تقتضيه حقيقة الكمال في القرآن، فكانت تقتضي الإيمان (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنونَ)، أي لَا يذعنون للحق وليس أن شأنه أن يذعنوا، بل إنهم يمارون، ويجادلون، فتضيع الحقائق في وسط لجاجة الجدل (. . . وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا).
وإن أول الحق الذي جاء به القرآن، وأوحى به الديّان عبادة اللَّه تعالى وحده، وألا يشركوا به شيئا، ولذا بيّن اللَّه استحقاقه للعبادة وحده بالكون، وما خلقه وبديع صنعه في السماوات والأرض، وما خلق من كل شيء، فقال تعالى:(7/3890)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
(اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
صدر الآية الكريمة بلفظ الجلالة الذي يتضمن الخالق المدبر المتصف بكل كمال، والمستحق وحده للعبادة، ولا يعبد معه شيء: حجر، أو حي، أو نجم، أو غير ذلك مما توهم فيه بنو الإنسان في العصور المختلفة قوة يعبد لأجلها.
وبين سبحانه فضله في خلق الكون فابتدأ بذكر الكون الأعلى مجملا عرّفه بخلق اللَّه فقال: (الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا)، هنا اتجاهان: نفي العمد، ووجود العمد ونفي رؤيتها:
الاتجاه الأول: أن النفي متجه إلى وجود العمد، وقوله تعالى: (تَرَوْنَهَا) دليل على نفي وجود العدم، أي دليل على عدم وجودها عدم رؤيتكم لها، فاللَّه سبحانه وتعالى أنشأ السماوات كالقبة المحيطة بالأرض من كل أطرافها، من غير عمد قائمة، ويرشح لهذا المعنى قوله تعالى: (. . . وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ. . .).(7/3890)
والاتجاه الثاني: أن النفي واقع على الرؤية، وعلى هذا يكون هناك عمد، ولكن لَا ترى، فاللَّه سبحانه وتعالى قد أوجد تماسكا بين السماء والأرض بالجاذبية، وكأنها عمد ولكنها لَا ترى، وبهذه الجاذبية، وهذه الجاذبية كأنها العمد التي لَا ترى. والاتجاهان يحتملهما اللفظ، وهما صادقان، وأميل إلى الاتجاه الثاني، ورجح ابن كثير الاتجاه الأول، وكلاهما فيه قدرة اللَّه تعالى الجلية واضحة، والعمد (بفتح العين وضمها) جمع عماد أو عمود، وهي الأسطوانة التي يقام عليها السقف المرفوع.
(ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (ثُمَّ) هنا لبيان مراتب الخلق في ستة أيام، أي أدوار كما مضى القول في ذلك في سورة الأعراف، فإنه بعد أدوار الخلق التي تمت بإرادة اللَّه تعالى، والاستواء على العرش كمال سلطانه في الكون، كما يستوي الملك العادل على عرش ملكه، وللَّه المثل الأعلى، وما مثلنا إلا للتقريب، فلا مساواة، تعالى اللَّه عن ذلك علوا كبيرا.
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي ذللهما في حركتهما وسيرهما في مداريهما، فكل له مدار، وكل له خواصه، فالشمس هذا الضياء المشرق الذي يملأ الوجود حرارة يكون بها الأحياء والأزهار والأشجار. والقمر يستمد نوره من ضوء الشمس، ولأشعته الصافية المستمدة يكون السير ليلا، ويؤثر في النفوس، وفي البحار بالجزر والمد، وفي الأحياء، فيكون الحمل والإرضاع تابعين لأدواره.
(كُلٌّ) في قوله تعالى: (كلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مسَمًّى) أي لأجل معين ينتهي عنده ذلك الأجل الذي حد له، وقد قال البيضاوي في ذلك عند قوله تعالى:
(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ذللهما لما أراد منهما كالحركة المستمرة على حد من السرعة ينفع في حدوث الكائنات وبقائها. (كُل يَجْرِي لأَجَلٍ مسَمًّى) لمدة معينة يتم فيها أدواره، أو لغاية مضروبة دونها سيرها وهي: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2).، (1)، أي أن الأجل المسمى يفسره بتفسيرين:
________
(1) تفسير البيضاوي: ج 1/ 316.(7/3891)
أولهما: الأجل الذي تتم به أدوار الشمس من حيث قربها نسبيا من الأرض وانحرافها نسبيا عنها فتبعد، ويكون من ذلك الفصول الأربعة التي تتغير فيها حال الأرض، وما تنبت من زرع، وما يكون من دفء وحرارة ونوعها. وما يختلف به الليل والنهار طولا وقصرا، وما ينتظم به الزرع والثمر ويختلف باختلاف الفصول، إلى آخر ما هو معروف في العلم، ويحس به الناس في أدوار الحياة وتعاقب الليل والنهار.
والثاني: أن الأجل المسمى هو أجل الدنيا، الذي يكون بعدها زلزلة الأرض، وفناء العالم ليجدد في حياة أخرى هي الجزاء والتعويض لما كان في الدنيا.
وإني أرى أنه لَا مانع من إرادة الأمرين، فهما ليسا أجلين، بل هو أجل واحد يكون أولهما في دائرة الوجود الدنيوي وهو في الثانية الذي هو النهاية.
وإن النص القرآني يقول: (كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مسَمًّى)، أي أن الشمس والقمر يجريان لأجل مسمى، فالقمر يجري حول الأرض ويدور حولها دورته الشهرية. وتكون من هذه الدورة درجاته وصوره من كونه هلالا إلى أن يكون بدرا (. . . وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يسْبَحُونَ)، وإن القمر له بهذا الدوران أوقات تؤثر في الأحياء، فالحمل والرضاع، ونمو الأطفال، وحياة الجنين، وولادته، والحياة التناسلية لها ارتباط وثيق بالقمر وأدواره، وطمث المرأة، وقرؤها، له ارتباط بالقمر، والميزان الدقيق لمعرفة ذلك وأدواره هو الشهر القمري، بل إن القمر له أثر في الإخصاب، حتى عبروا في بعض اللغات عن الأمراض العصبية بأنها الأمراض القمرية. وهكذا، وإن القمر يجري لأجل مسمى في دائرة المعاني التي ذكرناها، وإنه يستمر جاريا إلى أن تنقضي الدنيا، واللَّه أعلم.
وإن اللَّه تعالى بعد بيان القدرة المشيئية (يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ) الأمر هو ملكوت السماوات والأرض من حركات النجوم، وأبراجها، وإحياء الأحياء وإماتتهم و (أل) في قوله تعالى: (الأَمْرَ) للعهد، وهو ما يتعلق بهذا الملكوت.(7/3892)
(يُفَصِّلُ الآيَاتِ) ينزل عليهم الآيات المبينة للقدرة من خسف وكسوف، وزلازل وغيث يحيي الأرض، وغيث يدمر ما عليها، كل هذه لتكون آيات بينات تدل على القدرة، وعلى أن الكون يسير بإرادة مختارة، وأنه يبدئ ويعيد، وينشئ، ثم يميت، ثم يحيي، وهو على كل شيء قدير.
وإن اللَّه تعالى أشار إلى هذه القدرة العظيمة رجاء أن يؤمنوا بالمعاد فقال تعالى: (لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنونَ).
أي: لعلكم ترجون لقاء ربكم وتوقنون به، فالرجاء ليس من اللَّه، ولكن الرجاء من الخلق وهو على كل شيء قدير، أي لعلكم إذا تأملتم ما في السماوات والأرض من خلق توقنون بلقاء ربكم ولا تنكرون ولا تظنون ظنا. بل تستيقنون استيقانا، وهنا إشارات بيانية في هذه الآية وما قبلها نذكرها إجمالا:
أولاها: أن تعريف الطرفين في قوله: (الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ) للقصر، أي لَا حق سواه.
الثانية: في قوله: (رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) فيها دليل على وجود الصانع المنشئ والمدبر، وأن وراء كل جزئية من الكون سرا إلهيا، هو الذي يدبر، وهو الذي يقوم عليه فهو الحي القيوم.
الثالثة: أن قوله عن البعث: (لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) فيه إشارة إلى أن البعث لقاء اللَّه، وقدر (بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ) على الفعل (تُوقِنُون) لمزيد الاهتمام.
وبعد ذكر اللَّه تعالى رفع السماوات، وما فيها من أجرام ذكر الأرض وما فيها من آيات بينات فقال عز من قائل:(7/3893)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
بعد أن بين سبحانه وتعالى قدرته في رفع السماء بغير عمد ترونها، وما فيها من كواكب ونجوم رمز إليها بأجلها شأنا، وهي الشمس مصدر نورها، والقمر،(7/3893)
وكان رمزا لمن استمد نوره منها، وهو من أكبر أتباعها. أنزل آياته إلى الأرض وهي قريبة من الأنظار غير بعيدة عنها، وفيها يمرحون، ومن خيراتها يتخذون نماءهم؛ ولذا قال: (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ)، أي بسطها طولا وعرضا بحب يسهل افتراشها أو الانتقال في أجزائها شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا وليس ذلك دليلا على أنها غير كروية، بل كونها كروية ثبت من الليل والنهار، ومن أدلة عقلية كثيرة وكرويتها لَا تنافي مدها، وجعلها مفترشا لابن آدم، وذلك لكبرها وامتداد أطرافها.
ثم أخذ يبين سبحانه ما جعل فيها، فقال تعالى: (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ) أي جعل فيها جبالا كالأوتاد لها، كما قال تعالى: (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)، ورواسي جمع راسٍ، وقال البيضاوي وغيره: إنها جمع راسية، وجاءت التاء لأنها وصف لأجبُل. ونحن نرى أن ذلك تكلف لَا داعي إليه؛ لأنها جمع (راسٍ).
وهو وصف لما لَا يفعل وفواعل تجمع ما تكون وصفا لما لَا يفعل، و (رِاسٍ) من رسا إذا ثبت، فـ (رَوَاسِيَ) معناها ثوابت مستقرة كأنها أثقال تزن الأرض، وعطف على الرواسي الأنهار (وَأَنْهَارًا) للتقابل بينهما؛ لأن الجبال أحجار أو نحوها، والأنهار ماء سهل فهما متقابلات في الجملة؛ ولأن أودية الماء تكون بجوار الجبال وتتخذ منها، أو تتكون مياه الأنهار ما ينحدر من الجبال، أو تنزل الأمطار على الجبال، ثم تنحدر حتى تجري في الأنهار، كما ترى في نهر النيل، إذ إنه تكون من البحيرات التي ترفدها بمائها ثم تنحدر المياه من جبال الحبشة، فيكون فيضانه بخيراته التي أفاض اللَّه بها على عباده، فأوجد الخصب في وادي النيل، وأخصب مصر من وقت أن جرى فيها.
وإنه من وراء الأنهار يكون إنبات النبات، وإثمار الأشجار، فإن هذا كله يكون من الماء الذي جعل اللَّه تعالى منه كل شيء حي، وكذا قال سبحانه وتعالى بعد الأنهار وجريانها وتحدرها من الجبال: (وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَينِ)،(7/3894)
أي جعل سبحانه وتعالى صنفين متقابلين كالحلو والحامض، والأسود والأبيض، وجعل منها زوجين أي الذكر والأنثى، فمنه الذكر الذي يلقح بما تحمله من البذر الرياح اللواقح، والأنثى التي تحمل بذر الذكر، كما تحمل أنثى الحيوان بذر الذكر في رحمها.
ومن هذا يتبين أن كلمة زوجين تتضمن معنى التقابل الذي يعم التقابل بين الذكر والأنثى، والتقابل في الألوان، والتقابل في الطعم، والتقابل في الصغر والكبر، وهذا كله في أرض واحدة، وكان مقتضى اتحاد الأرض واتحاد الماء أن تكون شيئا واحدا في لونه أو طعمه، أو ذكورته أو أنوثته، أو صغره أو كبره، ولكن تعددت وتخالفت، فدل هذا على وحدة الصانع الحكيم العليم المريد الذي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى.
ثم بين سبحانه بعض العلاقة بين السماء والأرض، وهي الليل والنهار، فهما من دروان الأرض حول الشمس، وكل يدور في مداره، فبدوران الأرض يكون الليل والنهار، وبدوران الشمس تكون الفصول الأربعة. ولقد قال تعالى: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ) بسكون (الغين) وهاك قراءة بفتح الغين وتشديد الشين من التغشية، وكلاهما بمعنى اللباس الذي يغشى الجسم، وفي هذا الكلام استعارة تبعية وأصلية، فأما الأصلية: فهي تشبيه الظلمة بالثوب الأسود، والضوء بالجسم الأبيض، وتبع ذلك أن شبه النهار بأنه يغشى الليل.
وإن هذا من اتصال الشمس بالأرض، أي اتصال الأرض بالسماء.
هذه آيات اللَّه تعالى، وبيناته، وخلقه، وتكوينه، وهي تدل على أنه فعل فاعل مختار لما يريد، وأن الأشياء لا تنشأ عنه سبحانه نشوء المعلول عن علته، كما يقول الفلاسفة، ويسميهم الناس حكماء وليسوا كذلك؛ ولذا قال الله تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ).(7/3895)
(إِنَّ فِي ذَلِكَ) الإشارة إلى المذكور من: مد الأرض، ووجود أوتادها، وتحدر الأنهار منها، ووجود الأزواج المختلفة (لآيَاتٍ) أي لدلالات بينات (لِّقَوْمَ يَتَفَكَّرُونَ) لجماعة يفكرون ويتفاهمون على التفكير ويتدبرون المعاني، فإنها لو كانت بالتعليل المجرد ما تنوعت هذا التنويع، وما تقابلت هذا التقابل فيما بينها، بل كانت صنفا واحدا ولم تكن أصنافا، وكانت لونا واحدا، ولم تكن ألوانا، واللَّه بكل شيء عليم.(7/3896)
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
إن القضية بين الفلاسفة الطبيعيين، والدين الإسلامي في أصل الخلق أن الطبيعيين يقولون - باطلا -: إن الأشياء كانت من العقل الأول كما يكون المعلول من علته. وإن ذلك يقتضي جدلا وحدة المخلوقات جنسًا وشكلا وحقيقة، ولكنها متغايرة في كل شيء، متغايرة في طبعها وشكلها وطعومها وألوانها مما يدل على أن لها خالق مدبر فعال لما يريد، مبدع على غير مثال ولا محاذاة.
(وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ متَجَاوِرَاتٌ) بعضها طيب تخرج نباتها، وبعضها سبخة لا تخرج زرعا، وبعضها صخري، وبعضها رملي، وبعضها صالح للزرع دون الغراس، وبعضها صالح لها. وإنه لَا يخصص هذه لهذه الصفة، وللأخرى غيرها إلا للطيف الخبير مبدع السماوات والأرض، فدل هذا على وجود المنشئ المدبر لهذا الكون، الذي يغير ويبدل بإرادة مبدعة.
وفوق هذا، هذه الأرض المتدانية المتقاربة تسقى بماء واحد، ويختلف بعضها عن بعض في الأكل مع أن التربة تكون أحيانا واحدة، وتسقى بماء واحد، وتبذر بها بذور واحدة ورعايتها واحدة، ومع ذلك تأتي إحداها بالخير الوفير وإحداها لا يكون فيها الخير الكثير، فدل هذا على أن هناك مريدا يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، وكل عنده بمقدار، وكلّ بوقت معلوم، ولِحِكَم يعلمها اللطيف الخبير.(7/3896)
(وَجَنَّاتٌ منْ أَعْنَابٍ) انتقل البيان من الأرْض إلى ما تثمره، وما تأتي به من خير، وابتدأ بجنات الأعناب؛ لأنها كانت أحب الثمار إليهم، يتخذون منها سكَرا ورزقا حسنا، ولأنها سهلة لينة، ولأنها أطيب ما تخرجه الأرض العربية.
(وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) هذا إحصاء من غير استقراء لبعض ما ينتج في الأرض العربية وغيرها من الأرضين، وهي متنوعة، فزروع مختلفة من حبوب وبقول، ومختلفة الأنواع، وتخرج مختلفة في طعومها، ونوعها، وإشباعها للحاجات المختلفة ففيها اللين، وفيها الصلب، وذكر الجنات من الأعناب رمز لغيرها من أنواع الثمار كالرمان والخوخ وغيرها.
(صِنْوَانٌ وَغَيْر صِنْوَانٍ) النخلات، أو النخلتان اللتان تخرجان من أصل واحد، أي النخيل سواء أكان مجتمعا من أصل واحد، أم كان متفرقا، وفي هذا إشارة إلى أنه لو كانت مخلوقة بالطبع أو بالعلة ما اختلفت صنوانًا وغير صنوان.
ثم بين سبحانه اتحاد سبب الإنتاج فقال: (يُسْقَى بِمَاءِ وَاحِد)، أي أن التربة واحدة، والبذر واحد، والسقي واحد، ومع ذلك يفضل بعَضها على بعض في الأكل ما بين حلو ومر، ورديء وجيد، وغير ذلك مما هو مختلف؛ ولذا قال تعالى: (وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) والأُكُل هو الثمر.
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (ذلك) إشارة إلى الاختلاف مع أن قطع الأرض متجاورة، وأن الجنات من الأعناب والزرع والنخيل - الممتدة الجذور وتسقى بماء واحد - وهو صنوان وغير صنوان، في كل ذلك آيات مبينة لقدرة الخالق، لقوم يعملون عقولهم ويدركون أن هذا يدل على خالق مختار فعال لما يريد.
* * *(7/3897)
إنكار البعث أعجب العجب
(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
* * *
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل الخطاب لكل من يقرأ القرآن، والأول أولى لأنه جاء بعد ذلك (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) والاستعجال منهم لَا يكون إلا للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومعنى النص السامي: وإن يكن من شأنك يا محمد أن تعجب من أمر فالأمر الجدير بالعجب، أو هو أجدر الأمور بالعجب، فهو قولهم(7/3898)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
(أَئِذَا كنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أما إن هذا هو وحده الأمر الحقيق بالعجب، ونكر (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) لإفادة عظم هذا العجب لشدة الغرابة فيه.
والعجب منصب على قولهم (أَئِذَا كنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)، فموضوع العجب هو هذا القول، لأنه غريب في ذاته ينافي كل معقول، وكل محسوس، لأنهم يرون في خلق اللَّه تعالى أن اللَّه سبحانه خلق السماوات والأرض، وخلق كل نوع نباتا، وأشجارا، ويحيي ويميت، ويفلق الحب والنوى. فيجعل منه زرعا(7/3898)
متراكبا، ونخيلا وجنات، وفوق ذلك هم يسلمون بأنه الذي ابتدأ خلقهم، والابتداء في حكم العقل والفكر أشد من الإعادة، كما قال تعالى: (. . . كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)، وعجبهم الضال هو في أنهم بعد أن يصيروا ترابا يعودون أحياء.
والاستفهام للإنكار، لإنكار الوقوع مع الغرابة من هذا الوقوع، إن كان، وكرر الاستفهام (أَئِذَا كنَّا تُرَابًا)، وقولهم: (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)؛ لأن موضع الغرابة هو الخلق الجديد بعد أن يصيروا ترابا، فدخل الاستفهام على الحالين، والتعبير بـ (خَلْقٍ جَدِيد) يدل على موضع استغرابهم، ونسوا أن الذي يخلقهم خلقا جديدا هو الذي أنشأهم ابتداء على غير مثال سبق، ومن أنشأ على غير مثال سبق قادر على الإعادة على المثال الذي بدأه.
والسبب في ذلك أنهم كفروا بربهم؛ ولذا قال تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) الإشارة إليهم محملين بهذا العجب من إعادة الخلق جديدا ممن بدأه، وفي هذه الجملة السامية بيان سبب الإنكار وهو أنهم كفروا بربهم، كفروا بقدرته القاهرة، والتعبير بربهم في هذا المقام له سره العميق؛ لأنهم يكفرون بقدرته وهو الذي أنشأهم، ويربيهم، ويقوم على أمورهم، فكيف يعجز عن حال من أحوالهم.
(وَأُوْلَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ) الإشارة إليهم على النحو الذي بيناه، والأغلال جمع غل وهو القيد الذي يرفع اليد إلى الأعناق، وذكرت الأعناق في الآية لتأكيد وجود الغل، وفي الكلام ما يفيد أن الأغلال معنوية؛ ذلك أنهم لسيطرة المادة عليهم كانوا كأنهم في أغلالها لَا ينفصلون عن هذه الأغلال، فالكفر بالغيب أدَّاهم إلى هذه الحال المثيرة للعجب من أمرهم، ففي الكلام استعارة، شبهت حالهم في استغراق المادة لنفوسهم بحال من وضع الغل في عنقه، فلا يتحرك إلا تحت سيطرة هذه الأغلال، و (أَعْنَاقِهِمْ) ترشيح للاستعارة.(7/3899)
وهناك تخريج آخر، وهو أنهم يكونون في أغلال من حديد يساقون بها إلى جهنم، وقد أكد سبحانه وتعالى بعد ذلك أنهم أصحاب النار هم فيها خالدون.
فقال سبحانه وتعالى: (وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ همْ فِيهَا خَالِدُونَ) الإشارة لما ذكرنا إلى موضع العجب من أمورهم، وقد أكد خلودهم في النار بالتعبير عنهم بأنهم أصحاب النار، أي الذين يلازمونها بالصحبة الدائمة المستمرة، وبـ (هم) التي تدل على التوكيد، وتدل أيضا على اختصاصهم بالدخول في النار والخلود فيها،، أنهم يبالغون في إنكار البعث، ولا تجديهم النذر، بل يستهزءون بالإنذار بعد الإنذار.(7/3900)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
السين والتاء للطلب، فهم يطلبون التعجيل بالسيئة قبل الحسنة، أي أنهم عندما يسمعون البشير والنذير، يستعجلون العقوبات التي تكون في الإنذار بدل أن يعملوا الحسنات ويستعجلونها طالبين لها، وذلك من فساد الفكر وضلال النفي، وسيطرة العادة، والمبالغة في إنكار الحق، فإذا جاء إنذار بعذاب شديد إن استمروا في غيهم، وجنات النعيم والعزة في الدنيا إن استقاموا على الطريقة واهتدوا، لا يفكرون في فعل الخير يستعجلون به بل ينساقون في الإنكار ويستعجلون السيئة متهكمين، مهملين مستهترين، والسيئة هي ما يسوء في ذات نفسه، والحسنة ما يحسن في ذات نفسه فهم يطلبون السيئ تحديا وتهكما، واستهتارا، وكأنهم لا يعبئون.
ويفعلون ذلك، ويقولونه، مع أن العبر بين أيديهم شاهدة بصدق ما يخبرهم به ربهم! ولذا قال تعالى: (وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم الْمَثُلاث) و (خَلَتْ) معناها مضت) (مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ) والمثلات جمع (مَثُلَة)، كـ (سَمُرَة)، أي خلت العقوبات التي نزلت بالذين من قبلهم كما عتوا وتجبروا، وعاندوا رسلهم، كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وسميت مَثُلَة؛ لأنها كانت عقوبة(7/3900)
متماثلة لما ارتكبوا، ويصح أن تكون مشتقة من مثال بمعنى قصاص للتماثل بين الجريمة والعقوبة، وذلك أعدل وأردع.
وإنه سبحانه وتعالى مع عدله في أن تكون العقوبة على قدر الجريمة، وملاحظة التماثل بينهما من غير أي بخس لعمل ولا مجاوزة للعقاب يعفو عن كثير، ولذا قال تعالى بعد أن قرر أن المثلات قدْ مضت، أنه عندما يشتد سيل الشر ويتفاقم أمره ينزل العقاب، دفعا للشر ووقفا له حتى لَا يعم الفساد، ويضل العباد، قال تعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ) أي إن ربك لذو مغفرة، تلازمه المغفرة كما يلازم الصاحب صاحبه حال كونهم ظالمين لأنفسهم بالشر الذي ارتكبوه، ولكنه يقبل التوبة فالتوبة الغفران، كما قال تعالى: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ). فالظلم بمعنى ظلم النفس بارتكاب المعاصي وليست بمعنى الشرك، فإنه ظلم كما قال تعالى عن لقمان: (. . . إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، ولكنه هنا بما دون ذلك، لأن اللَّه تعالى لَا يغفر الشرك، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ. . .)، وكما أن اللَّه سبحانه وتعالى صاحب المغفرة التي هي ستر الذنب، ولا يحاسب عليه إذا كانت دون الشرك، فهو أيضا شديد العقاب على المصرِّين على المعاصي الذين أحاطت بهم خطيئاتهم واستغرقت نفوسهم، ولذا قال تعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ)، أي إن عقابه شديد لمن أصر على المعصية وتدرنت بها نفسه وأظلمت.
وقد أكد سبحانه وتعالى عقابه بالجملة الاسمية، وبـ (إنَّ) التي للتوكيد، وباللام.
ويلاحظ أنه سبحانه وتعالى عبر بالرب في صحبة المغفرة، وشدة العقاب، وفى ذلك إشارة إلى أنه من مقتضيات الربوبية، فهو يهذب عبيده بالإنذار بشدة العقاب، وفتح باب التوبة من غير أن يقنط العصاة من رحمته، كما قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا. . .).(7/3901)
وقد ورد في معنى هذا النص السامي آيات كثيرة منها قوله تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)، ومنها قوله تعالى: (. . . إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفورٌ رحِيمٌ)، وقوله تعالى: (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلأ يُرَدُّ بَأسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)، وهكذا النصوص القرآنية الدالة على أنه لَا يصح أن يطمع العاصي في عفو مطلق، ولا أن ييئس من رحمة اللَّه تعالى، ولقد قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى: " لولا عفو اللَّه وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل واحد " (1) واللَّه أعلم.
وإنهم مع قيام الدلائل على الوحدانية، وقيام المعجزة الكبرى، وهي القرآن يطلبون آيات أخرى وينكرون إعجاز القرآن مع قيام التحدي الشامخ. وعجزهم عن أن يأتوا بمثله؛ ولذا قال اللَّه تعالى لهم:
________
(1) أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن المسيب.(7/3902)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
أظهر لنا، ولم يضمر، كما قال من قبل: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) فعبر بالموصول بدل الضمير؛ وذلك لبيان أن الكفر ابتداء هو الذي دفعهم إلى طلب آية أخرى، فصلة الموصول، وهي الكفر، علة الطلب، فليست علة الطلب الحق ليهتدوا، فقد طمس على قلوبهم، وإنما اتخذوا ذلك تعلة لكفرهم، وتماديهم في غيهم، وإلا ففي التحدي والعجز دليل على الإعجاز.
و (لَوْلَا) في قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) معناها هلا أُنزل عليه آية من ربه، وإن ذلك يتضمن أنهم لَا يؤمنون لعدم وجود آية، ويتضمن بالتالي إنكار أن يكون القرآن آية مع التحدي المتوالي.
وقوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كفَرُوا) في التعبير بالمضارع ما يفيد بتكرار هذا الطلب عنادا وسترا لكفرهم، ولعجزهم عن التحدي فقد طلبوا أن ينزل عليهم(7/3902)
كتاب في قرطاس وأن يلمسوه بأيديهم، وأنكروا ان يبعث اللَّه بشرا رسولا، ورد اللَّه تعالى قولهم بقوله: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)، وطلبوا آت أخرى يسترون بها كفرهم:
(وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94).
وهكذا يكفرون بالمعجزة الكبرى وينتحلون لأنفسهم ما يحسبونه عذرا بإنكارهم القرآن، وقوله تعالى (لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ من رَّبِّهِ) فيه تنكير (آيَةٌ) للمبالغة في الإنكار، كأنهم يطلبون أي آية، ولا يعدون القرآن الكريم آية، وهو أعظم الآيات وأبقاها.
رد اللَّه سبحانه وتعالى قولهم بقوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ) (إِنَّمَا) أداة من أدوات القصر، أي لست إلا منذرا ينذر بسوء العقبى، ومآل الإنكار، وقد أنذرت، وأقمت الحجة على أنك متكلم من عند اللَّه تعالى، وقوله تعالى:
(وَلِكُلِّ قَوْمِ هَادً) متضمن معنيين، وتشملهما؛ الأول: أن كل قوم لهم نبي يهديهم ويرشدهم، فإن اهتدوا كانت لهم الحسنى، وإلا كان لهم السوءى، وهذا كقوله تعالى: (. . . وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، والثاني: أن كل قوم لهم معجزة تهديهم إلى الرسول تناسبهم، فكانت معجزة عيسى ما كان لأنه بعث في عصر لَا يؤمنون فيه بالسببية، ويعتقدون أنها لَا تتخلف، فجاءت معجزاته هدما لقانون السببية، وخرقا لنظامه، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - جاء للخليقة كلها من بعده إلى يوم القيامة، فكانت معجزته من النوع الذي يبقى ولا يزول ولا يحول، وهو كلام اللَّه الذي يبقى ويتحدى بإعجازه الخليقة إلى يوم الدين (قُل لَّئِنِ(7/3903)
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88).
وإن الذين أرسلت إليهم الآيات المادية منهم من كذب بها، وكانوا الأكثرين؛ ولذا قال تعالى: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ. . .).
وقوله تعالى على النحو الذي نهجناه وهو (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ) جملة مستقلة عن التالية، فيكون معناها ما ذكرنا من أنه عليه الصلاة والسلام مختص بالإنذار، (وَلِكُلِّ قَوْمِ هَاد) جملة أخرى دالة على ما ذكرنا من الأمر، وجاء في حاشية الشهاب علَى البيضاوي أن (هَادٍ) معطوف على (مُنذِرٌ) أي إنما أنت منذر وهاد، وتكون هاد مؤخرة عن تقديم، ويكون المعنى: إنما أنت منذر وهاد لكل قوم. وهو معنى محتمل ولكنه ليس الظاهر البيّن من السياق.
بعد أن أشار سبحانه إلى خلق السماوات وما فيها بيّن سبحانه آياته في خلق الإنسان.
قال اللَّه تعالى:
* * *
(اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
* * *(7/3904)
بيّن سبحانه قدرة اللَّه تعالى في خلق السماوات بغير عمد ترونها، وسخر الشمس والقمر وغير ذلك من الكائنات التي هي سمات هذا الوجود، والآن يبين خلق الإنسان، وكيف كان في علمه الذي لَا يعلم به أحد غيره سبحانه. فقال تعالى:(7/3905)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
(اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
(اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى) (ما) هنا قد تكون موصولة بمعنى الذي، ويكون السياق: اللَّه جل جلاله يعلم الذي تحمله كل أنثى، والذي تغيض به الأرحام والذي تزداد، وكل شيء عنده بمقدار قدّره، وحدّه وعيّنه.
يعلم ما تحمل كل أنثى من ذكورة وأنوثة، ومن حجمه، وشكله، وامتداده، وعمره، وما قدر له من حياة سعيدة أم شقية، وإيمان، وصباحة ودمامة، واستقامة وفجور، وما يكون في قابله هاديا مهديا، أو مقيتا شقيا، وغير ذلك مما يكون في حياته البدنية والنفسية، وكل ما يتعلق به.
يعلم أدوار الحمل من مضغة مخلقة وغير مخلقة، ومن وقت وضعه نطفة في قرار مكين، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)، وبقوله سبحانه: (. . . هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم منَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ. . .)، ويقول تعالى: (. . . يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ. . .)، يعلم اللَّه تعالى ما تحمل كل أنثى من هذه الأطوار كلها طورا بعد طور، وما يعلمه اللَّه هو علم الخالق لما خلق، ومهما يكن متعلقاب (ما) في الأرحام فالعلم عند اللَّه علام الغيوب، وقد روى في الصحيحين عن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال(7/3905)
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: " إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك " (1).
(وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ)، الأرحام جمع رحم، وهو وعاء الولد في بطن أمه الذي تلقى فيه النطفة، وتمكث فيه أربعين يوما كما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم تصير علقة، ثم مضغة، كما روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وتغيض أي تنقص، يستعمل لازما ومتعديا، ومنه غاض الماء، ويقال غضته أي نقصته، ومنه قوله تعالى في قصة الغرق لقوم نوح (. . . وَغِيضَ الْمَاءُ. . .)، و (تَزْدَادُ) فأخذه زائدًا.
ومعنى هذا بالنسبة للحمل أن يكون الرحم خاليا من الولد أو يزداد فيه بالحمل ونموه، وتعدده، ويغيض بالخلو من الدم الذي يشتمل على خلايا التولد وامتلائه بهذا الدم، يكون التوالد من نطفة الرجل وخلايا المرأة.
وخلاصة القول في هذا أن الذكورة والأنوثة، وكل ما يخص التكوين الخلقي من عمل هو في علم اللَّه، واللَّه وحده الذي يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد، وإن ذلك كله بعلم اللَّه تعالى وتسييره، ويسير على سنة مرسومة محدودة لَا يغيرها إلا خالقها، ولذا قال تعالى: (وَكُل شَيْء عِندَهُ بِمِقْدَارٍ) أي كل شيء عنده بمقدار معلوم محدود، فأدواره مقدورة محدودة قدرها اللَّه سبحانه وتعالى، ولا يعلمها إلا هو لأنه العالم بالشاهد والغائب، وبالسر والجهر، ولذا قال تعالى:
________
(1) رواه البخاري: بدء الخلق - ذكر الملائكة (2969)، ومسلم: القدر - كيفية خلق الآدمي (4781).(7/3906)
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
(عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى علمه بما تحمله كل أنثى، وهو من الغيب الذي لا يظهر في حِسِّنا والذي لَا يعلم إلا بعد ظهوره لنا، ذكر سبحانه أنه المحيط علمه(7/3906)
للحاضر والغائب، وما يسُّر به الإنسان وما يجهر، وما يستخفى ويظهر، فقال تعالت كلماته: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ).
هو تأكيد ما تضمنته الآية السابقة من علمه بما في الأرحام منذ وجودها فيها ومكنونها، وأدوارها، وقابلها، وكان التأكيد بذكر عموم علمه للغائب والحاضر، والغيب مصدر غاب، وأطلق على ما يغيب حتى اشتُهر، فيه مبالغة في غيبه عن الرؤية والحس، والشهادة من شهد بمعنى حضر، ثم أطلقت على ما هو حاضر محسوس، مبالغة في حضوره والحس به، والمعنى: عالمٌ بما يغيب عن الحس، وما هو محسوس حاضر، وقال (عالم) ولم يقل يعلم، للإشارة إلى أسمائه وأنه صفة ملازمة له سبحانه وتعالى، وذكر الغيب والشهادة لإثبات أن علمه واحد بالشاهد والمغيب على سواء؛ لأنه علم محيط، لَا يفترق فيه شيء عن شيء.
ووصف ذاته العلية بأنه فوق البشر وفوق كل ما هو من شأن البشر، فقال: (الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) الكبير أي المجسم في قدرته وإرادته، وكمال سلطانه وتدبيره وخلقه لكل هذا الوجود بسمائه وأجرامه وكواكبه وسياراته، وأرضه، وكل ما هو مسخر في هذا الوجود (الْمُتَعَالِ) أي التسامي في صفاته، وفي كل ما هو من شأنه فلا يشبه شيئا من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، تعالى اللَّه سبحانه عن مشابهته للمواد علوا كبيرا وهو الواحد الأحد الفرد الصمد.
ثم بين سبحانه وتعالى علمه بالناس في سرهم وجهرهم، في خواطرِ نفوسهم وما تنطق به ألسنتهم، فقال تعالى:(7/3907)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
(سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ... (10)
التفت سبحانه وتعالى من الغيبة إلى الخطاب عندما تحدث بعلمه عن الأحياء، فقال: (سَوَاءٌ منكم مَّنْ أَسَرَّ. . .) ليشعر الأناس من خلقه بأنه معهم، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم ويخاطبهم سبحانه وتعالى، وهذا إشعار لهم بمقام المشاهدة ليتجهوا إليه؛ ليحسوا برقابته، وكمال شهادته.(7/3907)
و (سَوَاءٌ) بمعنى يستوي منكم من أسر القول فلم ينطق بما تحدثه به نفسه، ومن يجهر بما في قلبه فهو سبحانه وتعالى يعلم السر وأخفى، يعلم ما يجول بالخواطر وأحاديث النفس، وما يجهرون به، يعلم ما يبيتون وما يظهرون، يعلم النيات والأعمال على السواء، فهم تحت رقابته وعلمه، وهو بكل أحوالهم محيط فيما يسرون، وما يعلنون، ويكون (مَنْ) فاعل يستوي.
(وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) المستخفي بالليل: السين والتاء للطلب، أي من هو طالب للاختفاء بالليل، فهو لَا يكتفي بخفاء الليل وظلمته، بل يطلب خفاء آخر بأن يكون في كُنّ من الأرض مستور لَا يعلمه أحد، و (السارب)، هو السائر في سِرب، أي في طريق ظاهر بالنهار، فحاله لَا تخفى على أحد؛ لأنه في وضح النهار، ولأنه سائر في سربه معلوم، وذكر هذا بجوار الاستخفاء بالليل للدليل على أنه لَا تفاوت في علمه بين الظاهر والخفي، بل الجميع في علمه على سواء، إنما التفاوت يكون فيمن يكون علمه مبنيا على الحس فيختلف عنده المحسوس عن غير المحسوس، وعلم اللَّه سبحانه وتعالى ذاتي، كل المعلومات عنده سبحانه وتعالى على سواء، ولإشعار الناس جميعا بأنهم تحت سلطان علمه المحيط.
ولقد قال العلماء: إن (سَوَاءٌ) بمعنى الاستواء تكون لمعادلة اثنين، ولا شك أن (مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) عطوف على (مَّنْ أَسَرَّ)، فتكون سواء داخلة عليه، لأن عطف النسق على نية تكرار العامل، فسواء مقدرة في الاستخفاء، وسارب، فما هما المتعادلان؛ قالوا: إن (مَنْ) مقدرة في قوله تعالى: (وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) لأنها معطوفة على (مُسْتَخْفٍ) فتقدَّر (مَنْ) الداخلة على (مُسْتَخْف)، وليس في هذا كبير خفاء.
وقد بيّن سبحانه إحكام رقابته على عباده ورعايته لهم فقال تعالى:
(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)(7/3908)
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
بين الله تعالى في الآيتين السابقتين علم اللَّه تعالى بالغائب والحاضر علما واحدا، وعلم الإسرار والجهر علما واحدا، لَا فرق في علمه بين إسرار النفوس وجهار الألسنة، وأنه يعلم المستخفي في ظلام الليل كعلم السارب بالنهار على حد سواء، وفي هذه الآية: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ منْ بَيْنِ يَدَيْهِ) الآية تبين أن علم اللَّه تعالى يحيط بالحسنات والسيئات، ويحفظ الإنسان في حياته ما دام حيا، وكل بأمره، ويعرف حاضر أمره وقابله وتفسير أحواله وأسباب التغير كل في علم اللَّه تعالى وكل بإرادته، فالمستغرق في ضلاله يعلمه ويغير ما به إذا غير - ما بنفسه؛ ولذا قال تعالى: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ منْ بيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) " المعقبات " جمع معقبة، والتاء للمبالغة مثل علَّامة وفهَّامة، فإنها تدل على المبالغة في العلم والفهم، ومثل رحالة ونسابة، فإنها تدل على كثرة الرحلة، ودقة العلم في النسب.
والمعنى تعقبه فهي تكون ملازمة له محتذية عقبه لَا تختلف عنه، والضمير يعود إلى الإنسان المتحدث عنه في قوله تعالى: (سَوَاءٌ منكَم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) فكما أن اللَّه تعالى يعلم سره وجهره، واستخفاءه وظهوره، قد أحاطه بمعقبات من بين يديه ومن خلفه يحيطون به إحاطة الدائرة بقطرها، وهم من الملائكة يحصون عليه ما يفعل من خير وشر، ويكتبون ما يفعل من حسنات وسيئات، ولقد قال تعالى: إنها مع هذه الإحاطة الشاملة به وأنهم يعدون عليه سيئاته وحسناته، مع هذا فإن عمل هؤلاء الملائكة أنهم يحفظونه من أمر الله تعالى، ويقول الزمخشري: إن قوله تعالى: (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) صفتان، أي بعد (مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ).
وتقدير الصفة الأولى، أي أن هذه المعقبات (تحفظه)، وقوله: (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) صفة ثانية أي يحفظونه لأنه أمرهم بذلك، وكلفهم الحفظ وصيانته، وقال الزمخشري: إنه يؤيد لذلك قراءة (يحفظونه بأمر الله) فهم مكَّلفون الحفظ بأمر اللَّه تعالى.(7/3909)
ويصح أن يكون (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) ليست وصفا جديدا بعد (يَحْفَظُونَهُ)، إنما التقدير يحفظونه من أمر اللَّه، أي مما كتب اللَّه تعالى عليه أن ينزل من صواعق أو خسف، أو غير ذلك من ملمات الأمور، فاللَّه سبحانه ينزل عليه ما قد يؤذيه، ويكلؤه بحفظه من الملائكة يحمونه، وكلا الأمرين بعمل من اللَّه تعالى، فهو رحيم في ابتلائه، ويقارب هذا المعنى ما قاله شاعر العربية في زمننا شوقى، إذ يقول:
وقى الأرض شر مقاديره ... لطيف السماء ورحمانها
فاللَّه تعالى ينزل البلاء، وينزل معه الحماية والاتقاء.
ويصح أن نقول: إن المعنيين مرادان، إذ لَا تناقض بينهما، ويمكن الجمع فيهما إعمالا للقراءتين، فالحفظ بأمر اللَّه، ومما ينزله تعالى من أمور تكرثه كتعرض للغرق أو الحرق أو غير ذلك، وإن كل شيء بقدر، وكتبه اللَّه تعالى.
وإن التعبير عن الكوارث والنوازل بأنها من أمر اللَّه تعالى ينبئ بأن ذلك يكون في كثير من الأحيان عن معاصي يرتكبها الناس في ذات أنفسهم، أو مجتمعهم، أو تخاذلهم عما أمر اللَّه تعالى به من أخذ الأهبة.
وقد أشار سبحانه وتعالى أن الريح الصرصر العاتية قد تجيء بسبب الظلمِ، فقال في شأن الخير الذي يفعله الكافرون من غير إيمان (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117).
وقد صرّح اللَّه سبحانه وتعالى بأن المعاصي والمفاسق يصيب أصحابها بالجوع والفقر، فقال: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112).
هذا بعض ما يدل عليه قوله تعالى: (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)، أي أن المحن تكون بأمر اللَّه ويحفظ الناس بحَفَظةٍ من الملائكة حتى لَا يعم الهلاك.(7/3910)
وإن الوقاية ليست في حفظ الملائكة فقط، بل إن تغيير الحال من ظلم إلى عدل، والنفوس من انحراف إلى استقامة، هو الحماية الكبرى، ولذا قال تعالى عقب حفظ اللَّه بالملائكة عند نزول قدره: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ).
والمعنى الجملي أن اللَّه تعالى لَا يغير ما بقوم حتى يغيروا أنفسهم، فإن كانوا في خير يأتيهم رزقهم رغدا من كل مكان لَا يغير حالهم إلى ضراء وبأساء إلا إذا غيروا أنفسهم من خير إلى شر وانحراف، ولا يغير اللَّه حال قوم أصابهم الضر والشر والخذلان والهزيمة أمام أعدائهم، إلا إذا غيروا حالهم من فساد إلى صلاح، ومن تخاذل نفس وتفرق كياني إلا إذا غيروا أنفسهم واجتمعوا على الحق، وتركوا التنابز والتدابر، وقد أكد سبحانه وتعالى هذا المعنى بالجملة الاسمية، وبتصدير الكلام بلفظ الجلالة اسم اللَّه العلي الأعلى القادر على كل شيء وبالغاية (حتي)، فجعل تغير الحال الأليمة إلى حال صالحة راضية منتفية إلا إذا غيروا ما بأنفسهم، أي إنهم يستمرون في الآلام تنزل بهم إلى أن يغيروا أنفسهم.
وما أحرانا نحن المسلمين بالاعتبار بهذه الآية، لقد كنا أعزّة بعزة اللَّه تعالى حتى تفرقنا، وأضعنا أحكام القرآن بيننا، حتى صارت غريبة تستغرب إذا ذكرت، وضاعت لغتنا، واستنكرت حال من يستمسك بها، وتقاتل المسلمون بعضهم ببعض، ووالوا الكفار واستنصروا بهم على بعض وصرنا وراء كل الأمم، فهل لنا أن نغير ما بأنفسنا حتى يغير اللَّه حالنا.
ولكن أراد بنا هذا التخاذل، وقد قال: (وِإذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْم سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ). (السوء) ما يسوء الأمم من الهلاك أو الهزيمة، أو الخسران، أو الحرمان، أو الفساد والدمار، إذا أراد اللَّه تعالى ذلك وأشباهه، مما تضيع به الأمم وتذهب قوتها من أعمالها، بأن ارتكبوا الشر واستعذبوا فعله، إذا أراد اللَّه ذلك بسبب ما في نفوسهم وما يرتكبون فإنه نتيجة حتمية لعملهم، وأراده اللَّه تعالى فيهم بسبب سوء ما يصنعون.(7/3911)
وقد سمعنا أن شر حاكم رآه التاريخ الإنساني أصيبت بلاده التي حكمت به بسبب تقاصره، وظلمه، وقتله الأنفس البريئة وطغيانه المستمر الدفين، ذُكِّر بالصلاة فقال: كيف أصلي له وهو لم ينصرني، ونسي أنه سبب الهزيمة النكراء، وإذا كان ما ينزل بسبب الظلم، وأراد اللَّه النزول كمسبب يكون ثمرة للاعتداء فإنه لا يرد، و (مرَدّ) مصدر ميمي، بمعنى الرد، ثم أكد أن الشر لَا محالة نازل بمن ظلموا أنفسهم، فقال تعالى: (وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ)، أي ليس لهم غير اللَّه من والٍ يواليهم وينصرهم ويدفع عنهم.
وقوله تعالى: (وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) (مِنْ) الثانية لاستغراق النفي، والمعنى ليس لهم من غير اللَّه أي والٍ من العباد أو غيرهم، لأن ما ينزله اللَّه لا يدفعه أحد من عباده.
بعد أن بيّن سبحانه وتعالى علمه الشامل بكل شيء بين مظاهر الخلق والتكوين قال تعالى:
* * *
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
* * *(7/3912)
بيّن اللَّه سبحانه في الآيات السابقة ما يسير الإنسان، وعلم اللَّه المحيط الذي يشتمل ما يظهر وما يختفي، والمعقبات التي تحفظ وتحصى ولا تُرى.
ثم بين سبحانه وتعالى ما يرى وما يسمع، وما يحرق، واللَّه مسيّره، وموجهه، بحيث ترى آثاره، ولا يكون من الإنسان تفاعله، بل يتولى أمره رب العالمين، فقال تعالى:(7/3913)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) الضمير يعود على اللَّه تعالى الذي يكون الحفظ من أمره، ومن كل ما يقدره، فهو الذي يرينا البرق حالة كوننا خائفين من منظره، ومن عاقبته، طامعين في أن يعقبه مطر يكون غيثا، وخائفين من أن يكون غيثا مدمرا مفسدا. والبرق ينشأ عند اصطدام سحابتين بعضهما ببعض فيحدث من الاصطدام النور البارق. ويقول علم خواص الأجسام: إن إحدى السحابتين تكون ذات كهرباء موجبة، والأخرى ذات كهرباء سالبة، فيحدث من احتكاكهما برق، ويكون معه الرعد، بيد أن الرعد لَا يصل إلى الأسماع إلا بعد فترة من رؤية البرق؛ لأن الرعد صوت الاصطدام والبرق صوته، ولكي يصل الصوت إلينا يمر بأجواء الفضاء فلا يصل إلى مسامعنا إلا بعد فترة يقطع فيها مروره، والصواعق إذا كانت أحيانا من هذا الاصطدام تكون مع البرق في فترة واحدة تقريبا. وهذه الآية تبين رؤية البرق، والتي تليها تبين سماع هزيم الرعد، والثالثة تبين إصابة اللَّه تعالى بالصواعق لمن يشاء.
ولقد ذكر سبحانه في الآية الأولى أنه يُرى الناس البرق خائفين طامعين، وذكر بعد البرق السحاب الملوء ماء، فقال سبحانه: (وَينشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ) السحاب اسم جنس جمعي لسحابة، واسم الجنس الجمعي هو الذي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء أو ياء النسب، مثل شجر وشجرة، ومثل عرب وعربي، فمفرده كما رأيت سحابة، والثقال جمع ثقيلة، وعبر سبحانه وتعالى بالنسبة للسحاب بأنه أنشأها، ولم يقل سيرها؛ لأن اللَّه تعالى يشير بذلك إلى رحمته بالناس، أي أن ماء البحر الملح يتبخر ثم يتكاثف ماءً عذبا، يثيره سبحانه وتعالى سحابا مملوء بلاء، فبين أنها ثِقالا لَا تحمله من هذا الماء العذب الفرات، ويرسلها لمن يشاء من(7/3913)
عباده، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43).
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى مزية البرق المثير للخوف والطمع معا ذكر ملازمها وهو الرعد فقال:(7/3914)
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ).
للمفسرين اتجاهان في هذا:
الاتجاه الأول: أنه يفسر الرعد بمن يسمعه، فالتسبيح ليس تسبيح الرعد ولكن تسبيح من يسمعه؛ لأنه يكون خائفا فزعا، كما يكون الفزع من كل صوت مزعج، فيجعله الخوف والفزع في حال إدراك لقوة منشئه كما تكون النفس عند رؤية أي أمر مزعج.
والاتجاه الثاني: أن الرعد ذاته يكون في حال تسبيح اللَّه تعالى وحده؛ لأن هذا الصوت المزعج الرهيب المفزع يكون خاضعا للَّه تعالى، دالا على توحيده، وعلى كمال سلطانه، فكل شيء يسبح بحمده ولكن لَا تفقهون تسبيحهم.
وإني أميل إلى الاتجاه الثاني؛ لأنه يتفق مع النسق القرآني، إذ إن النسق القرآني يبين خضوع الكون ومظاهره للَّه تعالى مسبحًا بحمده، وهي تدل على الباعث على هذا التسبيح، وهو حمده على نعمة إيجاده، وكمال خضوعه.
وقوله تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أي من خوفه ووانه، و (خيفة) بكسر الفاء، وهي هيئة الخوف، أي هيئة الخوف الرهيب من اللَّه تعالى، فلا يدرك عظمة اللَّه القوي الجبار إلا من يكون قريبا منه سبحانه وتعالى. ومع تسبيح الرعد بهزيمه، والملائكة الأبرار بخيفتهم من اللَّه، ينزل اللَّه تعالى الصواعق وهي من احتراق البرق، فالبرق يحدث معه الرعد، وأحيانا يكون السحابتين السالبة والموجبة محدثة شرارًا ينزل على الأرض فيحرق ما يصيبه ومن تصيبه؛ ولذا قال تعالى:(7/3914)
(وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ) ومع هذا البرق الخاطف للأبصار الذي يرونه ويفزعون له، ويرجون المطر منه، وهزيم الرعد الذي يسبح للَّه تعالى، وتسبيح الملائكة من خيفته، وإرسال الصواعق الحارقة مع رؤيتهم هذه الظاهرة الدالة على القدرة القاهرة، والإبداع الباهر يجادل المشركون في اللَّه؛ ولذا قال تعالى: (وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ) يجادلون في قدرة اللَّه تعالى على إعادتهم في البعث، كما بدأهم، ويجادلون في اللَّه فيحسبون أن الأحجار تعبد لأنها تكون شفيعه عنده، ويجادلون في قدرتها فيحسبون أن لها قدرة مع قدرته سبحانه وتعالى، وغير ذلك من الأوهام الفاسدة التي يثيرونها حول الذات العلية، والجدل من جدل الحبل إذا فتله فتلا شديدا ليحمل به الأشياء الثقيلة، ويشد عليها، واستعمالها هنا بمعنى فتل الحجة الباطلة يريدون أن يعتمدوا تفكيرهم الفاسد، ووهمهم الباطل عليها، (. . . وَكَانَ الإِنسَان أَكْثَرَ شَيْء جَدَلًا).
ولقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك أن جدلهم في هباء أمام قدرة اللَّه تعالى، فقال سبحانه وتعالى: (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) الضمير في (وَهوَ) يعود إلى اللَّه تعالى، والمحال: قال الأزهري: إنه القوة والشدة، ويقال: ماحلت فلانا أي قاومته حتى يتبين أينا أقوى، ومِحَال فِعَال من المماحلة، أي أنه لَا يغالبه في الوجود أحد فهو أقوى من كل الوجود، ومع ذلك يجعلون ذاته الكريمة موضع جدال. ولكنه الضلال الذي أوجد غمة على العقول فلا تدرك الحق المبين الواضح الذي قامت فيه الدلائل على قوته القاهرة.
ويجادلون في اللَّه بأوهام توهموها؛ ولذا بين سبحانه وتعالى أن دعوة اللَّه هي الحق ودعوة أندادهم هي الباطلة، فقال تعالى:
(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)(7/3915)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
بعد أن بين سبحانه علمه الذي لَا يفرق بين جهر وإسرار، وإخفاء وإظهار وقدرته الباهرة ويرونها عيانا في آياته في البرق والرعد والصواعق: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ) الضمير في (له) يعود إلى اللَّه جل جلاله، وتقديم (له) على ما بعدها يدل على الاختصاص أي له وحده لَا لغيره دعوة الحق.
و (دَعْوَةُ) إما أن تفسرها بمعنى الدعاء وهو العبادة، أي له وحده العبادة الحقة، والإضافة بيانية، أي أن المضاف إليه فيه بيان للمضاف، أي الدعوة التي هي الحق، والحق ضد الباطل أي العبادة الثابتة الصادقة التي هي الحق، وغيرها الباطل. وإما أن يفسرها بمعنى الطلب، والالتجاء، أي لَا يلجأ إلا إليه، ولا يجيب غيره دعوة اللاجئين المستغيثين، ولا مانع من إرادة المعنيين، لأنه لَا تضاد بينهما، ولا تضارب، فيمكن الجمع بينهما، ويكون المعنى العبادة هي الحق، ولا التجاء بحق إلا له سبحانه، وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك بطلان دعوة غيره، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِه لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كبَاسِطِ كَفَّيْه إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ).
كثر في الكلام العربي تشبيه الذي لَا يقبض على شيء ثابت بالقابض على الماء، لأنه لَا يستقر في يده؛ إذ لَا يمكن القبض عليه، وجاء القرآن الكريم بأبلغ مما عند العرب في هذا المثل الرائع في لفظه ومعناه، فشبه حال من يدعو غير اللَّه بحال من يبسط يده للماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه، أي ليرتفع إلى فمه، وما هو من شأنه أن يبلغه؛ ولذا كان النفي باسم الفاعل، فنفي عن الماء ذلك الوصف، ونفي الوصف أبلغ من نفي الفعل، والتشبيه تشبيه تمثيلي، فيه تشبيه حال بحال، ففيه حال من يدعو ما لَا يضر ولا ينفع ولا يجيب، ولا يدرك معنى الطلب أو العبادة، بحال العطشان الذي أمضه العطش، فيطلب من الماء أن يرتفع إلى فمه إذا بسط يده، ومد أنامله إليه على قرب أو بعد، فإن الماء لَا يجيء إليه، ولا يستطيع أن يتناول منه بهذه الطريقة ما ينقع غلته ويطفئ ظمأه.(7/3916)
ولقد روي عن علي كرم اللَّه وجهه في تفسير هذا التشبيه: كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده وهو لَا يناله أبدا فكيف يبلغ فاه.
وفسره مجاهد - تلميذ ابن عباس - بأنه يبسط يده إلى الماء في نهر أو عند غدير يدعوه إليه فلا يأتيه.
وأغرب بعض المفسرين فقال: إن المثل هو تشبيه حالهم في دعوتهم ما لا يضر ولا ينفع بمن يرى خياله في الماء يبسط يده إلى الماء ليبلغ فاه، وما هو ببالغه.
وكلها يفيد معنى محققا في عبدة الأوثان، وهو أنهم يتوهمون القدرة فيما لَا قدرة عنده على شيء، وهو مستحيل أن ينفع، وأن يحقق مبتغى.
وهنا إشارات بيانية:
أولاها: قوله تعالى: (لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ) فقد أعاد الضمير على الأنداد بضمير العقلاء، وذلك على زعم المشركين في وصفهم إياها في صفوف العقلاء المدركين، وليست إلا أحجارا، وقال تعالى: (لا يَسْتَجِيبونَ لَهُم بِشَيْءٍ) الباء لاستغراق النفي، وتنكير (شيء) لبيان عموم النفي، أي لَا يستجيبون بأي شيء من الاستجابة.
الثانية: في قوله تعالى: (كبَاسِطِ كَفَّيْهِ) هنا مضاف محذوف، أي إلا كاستجابة باسط كفيه، والاستجابة مستحيلة، فتكون استجابة أندادهم مستحيلة.
الثالثة: في قوله تعالى: (لِيَبْلُغَ فَاهُ) فيه بيان وجه الاستحالة؛ لأنه يمكن أن يكون بلل الماء، ولكن لَا يمكن أن يرفع إلى الفم، فكأنه يرى الماء والعطش يقتله، وبمحاولته لَا ينال شيئا، فتعبه في هباء، ومن غير جدوى، ولقد قال تعالى: (وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ).
ومعناها: ما دعاء المشركين الذين يشركون الأنداد مع دعائهم لها بالعبادة، والالتجاء في الحاجة إلا في ضياع إجابة له، فضراعتهم للأنداد ضراعة لأوهام، إذ(7/3917)
لا حقيقة لها في شيء ولا وجود لها إلا أن تكون أحجارا صنعوا وابتدعوا لها قوة أرادوها، وما يستطيعون تغيير حقيقتها بأوهامهم.
ولقد بين سبحانه بعد ذلك أن الوجود - كله عقلاء وغير عقلاء - خاضعون له طوعا وكرها، فقال تعالى:(7/3918)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
بعد أن بين سبحانه وتعالى بطلان الشرك، وضرب الأمثال على ذلك، وهي أمثال على عظمة البيان القرآني الذي لَا يسامى، ولا يناهد، أخذ يبين سبحانه وتعالى خضوع الوجود كله له سبحانه، والانقياد له سبحانه، فقال تعالت كلماته: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ من فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا)، والمراد من السجود في ظاهر القرآن، وكما قرر أكثر العلماء الخضوع، وتسخير اللَّه سبحانه وتعالى له، وبذلك يكون المعنى خضوع الموجودات كلها لإرادته سبحانه وتعالى، فالرياح تسير بأمره، والكواكب والنجوم مسخرات بأمره.
وإذا كان المراد من السجود لازمه، وهو الانقياد يكون التعبير من قبيل المجاز المرسل حيث أطلق السجود وأراد لازمه.
وإذا كان المراد الخضوع والانقياد فإن فيهم العقلاء وغير العقلاء، وقد نصّ على الظلال بالغدو والآصال، ولا تعد من العقلاء التي تخاطب، فلماذا عبر بـ (مَن) التي تدل على العقلاء؟ ونقول: إن ذلك من قبيل تغليب العقلاء على غيرهم، كما يعبر بجمع المذكر السالم على الذكور والإناث تغليبا للذكور العقلاء على غيرهم، وقد تطلق (مَنْ) على العموم، ولو لم يكن في مضمونها عاقل وغير عاقل. وذلك كما في قوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45).(7/3918)
وإن كل شيء يسجد للَّه تعالى حتى الظلال بالغدو والآصال، فهي أيضا تسجد خاضعة للَّه تعالى منقادة له سبحانه، وذكرت مع أنها تابعة لأشخاصها، وذلك للإشارة إلى أن أولئك المشركين خاضعون منقادون حتى ظلالهم التي تلازمهم، ويقال: فلان ألزم لفلان من ظله، فالوجود كله تابع ومتبوع، ملازم وغير ملازم، خاضع للَّه تعالى، والغدو جمع غداة، كالقُنُوّ جمع قناة، والغدو مصدر.
ويصح أن نقول: إن ذكر الغدو والآصال توجيه النظر إلى مظهرها في طول الظل وقصره، بين الغدو في الصباح. والآصال، وهي جمع أصيل، وكيف أنه في الصباح غير مرتفع، ثم يرتفع شيئا فشيئا حتى يكون عموديا على الأرض في وقت الزوال، ثم ينحدر من بعد الزوال إلى الغروب، فيعود منخفضا نحو الأرض، وتصفرّ الشمس، وإن من وراء ذلك التغيير المستمر الدائم اتصال الشمس بالأرض، ووجود الحرارة في ارتفاعها فيكون الدفء، وفي انخفاضها فيكون البرد، ثم ما يكون للظلال من أثر، فتنبت الزرع وتنميه، حتى يستغلظ سوقه، ويعجب الزراع وهكذا، وذكر الوقتين وهما الغدو والآصال؛ لأنهما الوقتان اللذان يختلف فيهما الطول والعرض؛ ولأن الغدوة تشرق فيها الشمس على الوجود فتمده بكل أسباب القوة والنماء للأحياء؛ ولأن الأصيل هو الوقت الذي تؤذن فيه الشمس بزوال، واللَّه على كل شيء قدير.
وننبه هنا إلى أمرين:
الأمر الأول: أن كلمتي (طَوْعًا وَكَرْهًا) تدل على عموم السجود في حالي الطوع والاختيار والكره والاضطرار، وهذا دليل على كمال السلطان للَّه تعالى.
الأمر الثاني: أن بعض المفسرين قال: إن المراد من السجود سجود الصلاة، ومعنى الطوع الملائكة والدخول في الإسلام طوعا، ومعنى كرها: الدخول في الإسلام بعد الحرب نفاقا أو ضعفا، ولكن ذلك ليس بظاهر السياق. أولا لعموم من السماوات والأرض، والمناسب لذلك أن يكون الخضوع للوجود كله.(7/3919)
وثانيا: فإن الكلمة السامية (وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) تعين أن يكون الواضح السجود بمعنى الخضوع.
* * *
الله تعالى رب كل شيء
قال اللَّه تعالى:
(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
* * *
كان العرب يؤمنون بأن الله تعالى خالق السماوات والأرض، وأنه ليس كمثله شيء، ولكنهم مع الإيمان بهذه القدرة القاهرة الغالبة كانوا يعبدون مع اللَّه آلهة أخرى؛ ولذلك كان الاحتجاج عليهم بالخلق والتكوين احتجاجا بأمر يعترفون به ويقرونه، ولا يخالفون فيه، لذلك أمر اللَّه تعالى نبيه بأن يقول لهم:(7/3920)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
(قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) كان السؤال لهم للإلزام، لَا للإثبات، فهذا أمر ثابت(7/3920)
لا خلاف فيه عندهم؛ ولذا أمر اللَّه تعالى نبيه بأن يتولى هو الإجابة، فقال: (قُلِ اللَّهُ) لأنهم يقرون بذلك ولا ينكرونه؛ ولأن ذلك بدهي في ذاته؛ إذ لم تكن فيهم انحرافات الفلاسفة الذين يقولون فيها بالعلة والمعلول. ولم تكن فيهم خرافات المصريين في عهد الفراعنة؛ ولذلك أمر نبيه أن يجيب عنهم، ثم أمره سبحانه أن يسألهم عن شركهم لماذا يكون مع اعتقادهم أن خلق السماوات والأرض للَّه تعالى وحده، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. . .).
أمره اللَّه تعالى أن يسألهم ما رتبوه على هذا الاعتقاد، وهو نقيضه، (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعَا وَلا ضَرًّا) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والهمزة للاستفهام، وقدم على الفاء؛ لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام للتوبيخ أو التهكم، والمعنى: فقد رتبتم على قولكم: إن اللَّه خالق السماوات والأرض أن اتخذتم أولياء أو نصراء لهم ولاؤكم كأنهم آلهة غير اللَّه تعالى ودونه في العقول عند كل المعقول، وتركتم من خلق وحده، وبدل أن تعبدوه عبدتم ما لَا يملك لنفسه نفعًا وإن أراده، ولا ضرا إن أراد دفعه، ومن لا يضر نفسه ولا ينفعها، فبالأولى لَا يضر ولا ينفع غيره، فلا يرجى خيره، ولا يدفع شره إلا ما يكون في أوهامكم، وإن هذا التوبيخ يتضمن التوجيه إلى الوحدانية والبعد عن الشرك بالدليل القاطع المانع.
ولقد بيّن سبحانه ما تنكره العقول في هذا النحو من التفكير، وأمر اللَّه تعالى نبيه أن يوجه إليهم الأسئلة ليتنبهوا إلى بطلان ما هم فيه، ومناقضته لاعتقادهم أن اللَّه خالق كل شيء (قُل هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ) هذا الاستفهام إنكاري في الاثنين، وهو توبيخي، وفيه معنى التهكم، هل يستوي الأعمى الذي لَا يرى بالبصير الذي يرى الأشياء، وإنكم قد أبصرتم الحق بإقراركم أن اللَّه خالق السماوات والأرض، فأقررتم بأنه الخالق، ومع(8/3921)
ذلك عبدتم ما لَا يملك جلب خير لنفسه، ولا دفع ضر لها، فلا يستويان، كما لا يستوي الأعمى والبصير، والظلمات والنور.
و (أَمْ) في قوله (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ) للإضراب الانتقالي، فينقل اللَّه نبيه من السؤال عن استواء الأعمى والبصير إلى السؤال عن استواء الظلمات والنور.
وينتقل آمرا نبيه بأن يسألهم سؤالا إيجابيا عن الخلق عساهم يشركونهم في الخلق بدل التوحيد الذي قرروه من قبل فقال: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) (أَمْ) هنا للإضراب الانتقالي، وهو استفهام إنكاري لإنكار الواقع، أي توبيخ لهم لأن حالهم فيها إنكار؛ لأن اللَّه خالق كل شيء، إذ إنهم يؤمنون بالأوثان كإيمانهم باللَّه أو أشد، فحالهم حال من جعلوها شركاء للَّه تعالى في خلقه وإنشائه للوجود، حتى تشابه الخلق عليهم، فحسبوا أنهم خلقوا كما خلق.
والخلاصة أن حالهم ليست حال من يعتقد أن اللَّه تعالى خالق الوجود وحده سبحانه؛ لأنهم يشركون بل يفردون الأوثان بالعبادة.
ولذا أمر اللَّه تعالى نبيه أن يؤكد أنه سبحانه وتعالى خالق كل شيء وحده، ولذا قال تعالى: (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) اللَّه تعالى هو الخالق لكل شيء (وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) أي الواحد الأحد الفرد الصمد القاهر الغالب لكل شيء، وهنا إشارة بيانية وهي قوله تعالى: (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ) معناها أن ذلك مثل جعلوه، وزعم زعموه، وهو أنهم شاركوا اللَّه في الخلق، ولم يستطيعوا تمييز عمل أوثانهم عن عمل اللَّه، فتشابه الخلق عليهم، ولم يميزوا بينها.
وإن ذلك الفرض أخذ من حالهم في عبادة الأنداد مع إقرارهم بأن اللَّه تعالى خالق كل شيء سبحانه وتعالى. وبعد أن بيّن سبحانه وتعالى إقرارهم بأنه خالق السماوات والأرض، ومناقضة حالهم لهذا الإقرار - بين سبحانه فضله الدائم المستمر المثبت لربوبيته الكاملة فقال تعالت كلماته:(8/3922)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
(أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
هذه الآية الكريمة فيها: أولا: بيان نعمة اللَّه تعالى على الناس، فيما ينزل من ماء يجري في الأودية والأنهار فينتفع به الناس آمادا، يأمنون فيها على أنفسهم وزرعهم وضرعهم من العطش الشديد، والجدب، وضياع الحرث والنسل. وفيها ثانيا: نعمة اللَّه تعالى عليهم فيما أودعه باطن الأرض من فلزات يوقدون عليها فتكون منها حليهم وأمتعتهم من أوان وأدوات حروب، ودفع لأعدائهم، وبذلكَ يكون منها متاع وحماية ودفاع.
وفيها ثالثا: وهو الذي سيق له القول ظاهرا، وهو ضرب المثل بالحق والباطل، فالحق هو الأمر الثابت الباقي الذي ينفع الناس، والباطل هو الزبد الذي يجيش الماء فيوجده كالرغوة لَا تبقى، والذي يوحده الغليان في الفلز فيظهر خبثا غير مفيد، والفلز يبقى من بعده خالصا ينفع الناس.
هذه خلاصة مقاصد الآية الكريمة السامية، بعضها بالقصد الأول، وبعضها بالقصد الثاني، وكلاهما فيه فضل اللَّه واضح بين، بلا فرق بين ما سيقت له الآية قصدا، وما سيقت تبعا، فالجميع كلام اللَّه تعالى مقصود كل معانيه أصليا وتبعيا.
ولنتكلم في أجزاء الآية الكريمة:
قوله تعالى: (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) السماء هي العلو، والماء ينزل من المزن، وهي السحاب الثقال التي ذكر اللَّه تعالى أنه ينشئها في الآية السابقة، وتلك نعمة من اللَّه أنعمها على الناس، نزلت من السماء على الجبال أو المرتفعات فتحدرت عليها المياه وسالت حتى كونت أودية وأنهارا، وهذا قوله تعالى: (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا)، الأودية جمع واد، وهو المكان الذي يجري فيه الماء، وليست الأودية هي التي تسيل، إنما الذي يسيل هو الماء الذي يجري فيها،(8/3923)
وأطلقت الأودية وأريد ماؤها من قبيل إطلاق المحل وإرادة ما يحل فيه، مثل قوله تعالى: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ)، أي أهل ناديه، وقيل: سالت الأودية وأريد الماء؛ لأن السيل شديدا عنيفا قد طم، حتى اختفت الأودية من شدته فصار الناظر لا يرى إلا المياه المتدفقة، وكان حكمه على ما يراه، لَا على محله، وقوله تعالى: (بِقَدَرِهَا) وقرئ بسكون الدال لَا بفتحها، والمراد بمقدار ما يملؤها، وقيل: بما قدر لها من ماء يكفي الناس في معاشهم وزرعهم وضرعهم، ويصح إرادة المعنيين، والنص يحتمل الجمع، ولا تعارض بينهما.
و (الزبد) ما يحمله الماء عند جريانه وجيشانه من أتربة وغيرها، وإن هذا بلا ريب يذهب ولا يبقى، بل أحيانا يكون رغوة يبددها الهواء، فهي كأزيز (1) الموج يصطخب ولا يبقى منه شيء.
ولقد قال تعالى توجيها لأمر آخر، وهو الفلز عندما يُفْتَن ليخرج ما فيه من خبث تعلق به من باطن الأرض فقال شأنه: (وَمِمَّا يوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مثْله) (مما) مدلولها الفلزات من المعادن وهي القابلة للطرق والسحب أو التي تنصهر بالنار كالذهب والفضة والنحاس والحديد والقصدير وغيرها، و (فِي النَّارِ) الجار والمجرور متعلق بمحذوف يفهم من القول، والمعنى: مما يوقدون عليه ملقى في النار، وقوله: (ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مثْلُهُ) أي مما يلقى في النار الموقدة بقصد طلب حلية كالذهب والفضة (أَوْ مَتَاعٍ)، أي أمر ينتفع به كالأواني، وأدوات الحروب وغير ذلك (زَبَدٌ مثْلهُ)، أي أن خبث الفلزات يكون كالزبد الذي يجيء من إثارة الماء للتراب واصطخاب الأمواج. والجُفاء هو ما يلقيه السائل بعيدا ليصفو، وذلك من قولهم جفأه السيل، وقد مثل اللَّه تعالى المهتدي بالبصير، والضال بالأعمى، والعبادة الحقة بالنور، والباطلة بالظلمات في الآية السابقة. وفي هذه الآية مثَّل الحق بالماء الذي ينزل من
________
(1) الأزيز: كل صوت يأتي من شدة الحركة، فيقال أزيز الموج، وأزيز الطائرة، وأزيز النحل، لذلك.(8/3924)
السماء فتسيل منه أودية مختلفة تأتي بالزروع والثمار مناوبة، ولذا نكر أودية، وشبه الحق بالفلز الخالص، والزبد الذي يكون في حال جيشان الماء، ويكون من إيقاد النار على الفلز، أي شبه الباطل بهذا الزبد الذي لَا يبقى، بينما الماء والفلز الخالص يبقيان نافعين دائمي النفع ووجه الشبه بين الحق، والفلز والماء، أنها مفيدة دائما، وباقية لغذاء الإنسان، ومتاعه وحليه، وأنها جوهر صالح. ووجه الشبه بين الباطل والزبد، أولا: أنه لَا بقاء لهما، ثانيا: أنهما لَا حقيقة لهما، وثالثا: أن السلامة في الخالص منهما.
ويصح أن يكون التشبيه تشبيها تمثيليا، بأن يشبه حال الحق في بقائه ودوامه بالماء والجوهر الصافي من حيث النفع والبقاء والدوام، ويشبه حال الباطل من حيث إنه لَا حقيقة له، وإذا كانت له حقيقة فهو خبث تجب إزالته وتطهير الجسم النافع، شبه حال الباطل بالزبد الذي يكون من الماء، أو يكون من إيقاد الفلز في النار، لأنه لَا حقيقة لها، وإذا كانت لها حقيقة فهي خبث يجب زواله.
وقد قال تعالى: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ) كذلك يبين الله الحق والباطل فيشبه الحق بالماء والفلز ويشبه الباطل بالزبد، وقد بين سبحانه وجه الشبه، فقال: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) وقد ذكر في الأول المشبه به لتأكيد ذهاب الباطل، وفي الثاني ذكر المشبه وهو الحق لبيان بقائه ونفعه وثباته، وأن النهاية دائما له (لِيحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ. . .)، وقد ختم سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ).
والإشارة إلى بيان مثل الحق بالماء والفلز، ومثل الباطل بالزبد الذي لا يبقى، والمعنى كهذا المثل الذي بين الله تعالى به الحق والباطل يبين الأمثال المشابهة، ويبين المعاني الجلية، والحقائق الثابتة، ويهدي بها من يشاء من عباده.
* * *(8/3925)
المؤمنون الذين يستجيبون لله
قال اللَّه تعالى:
(لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
* * *
بعد أن ضرب اللَّه تعالى الأمثال للحق، وبين الدلائل المبينة الدالة على عبادة اللَّه وحده لَا شريك له من أنداد وأوثان، أو أحد من خلقه، وضرب الأمثال للحق والباطل، بين سبحانه وتعالى من يستجيب للحق وجزاءه، ومن لَا يستجيب، فقال تعالى:(8/3926)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
(لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى) الحسنى هو مؤنث أحسن، وليس أفعل التفضيل على بابه هنا، بل المراد الحال البالغة أقصى درجات الحسن ونهايته التي لَا غاية في الحسن بعدها. و (استجاب) معناها أجاب، ولكنها في أصلها طلب الإجابة؛ لأن السين والتاء للطلب، والمعنى: للذين أجابوا دعوة ربهم الذي خلقهم، وقام على شئونهم الجزاء الأحسن الذي لَا حسن بعده.(8/3926)
هذا جزاء الذين استجابوا لدعوة الحق ولربهم ورسوله، أما الذين لم يستجيبوا لربهم ولم يلبوا دعوته إلى الحق وعدم الشرك فلهم السوءى، أي أسوأ الأحوال التي لَا نهاية بعدها في السوء. ويلاحظ أن الذين استجابوا جعل استجابتهم لربهم، والذين لم يستجيبوا لم يذكر في النفي أنها لربهم، وذلك لسببين:
السبب الأول: أن عدم ذكر ذلك لعدم التكرار، والتكرار في الأمر مذموم في ذاته غير مقبول.
والسبب الثاني: بيان أنهم ليس من شأنهم أن يستجيبوا لحق، فقد طمس اللَّه على قلوبهم، وعلى أعينهم غشاوة ولا يبصرون.
وقد ذكر اللَّه الجزاء الذي يقابل الحسنى بقوله تعالى: (لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ) وهذا يدل على أنه عذاب عظيم يحاول من ينزل به الخلاص منه، وأنه لَا يخلص منه إلا بفداء عظيم يساوي الفداء منه كل ما في الأرض من أموال وأعراض ومتع ومناصب وجاه، فكان له كفاء، ومعنى (لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ. .) إلى آخره لو ثبت أن لهم كل ما في الأرض من ملاذ وشهوات جميعا غير منفرط منه شيء، لافتدوا أي رضوا أن يقدموه فداء له، فما في الأرض إن كانوا يملكونه يقدمونه.
و (لو) حرف امتناع لامتناع، أي امتنع عليهم الافتداء؛ لأنهم لَا يملكون ما في الأرض جميعا.
ولقد صرح سبحانه بأنه سوء في ابتدائه وانتهائه، فقال تعالى: (أُوْلَئِكَ لَهُمْ سوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) وسوء الحساب أنه شاق يسوء في نتائجه لا تخفى فيه خافية. بل يحاسبون حسابا عسيرا شديدا في شكله وغايته، وقد ذكره سبحانه وهو الإلقاء في الحميم. و (المأوى) ما يأوي إليه الإنسان يتقى به الحر والبرد، والمأوى الذي يأوون إليه في الآخرة هو جهنم، وهي بئس المهاد، و (الْمِهَادُ) جمع مهد وهو الفراش الذي يفترشه لينال به الراحة والقرار، ولكنه(8/3927)
في الآخر ليس للراحة ولكن للعذاب الدائم (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
وقد أخذ يبين - سبحانه - الفرق بين جزاء الذين استجابوا لربهم والذين لم يستجيبوا، فبين سبحانه أنه العدل الذي لَا يدخله شيء من الضير، وغيره هو الظلم، فقال تعالى:(8/3928)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
(أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
هذا النص الكريم لتأكيد الفارق بين جزاء المتقين وجزاء الذين لَا يستجيبون للحق ولا يذعنون، والاستفهام هنا إنكاري، لإنكار الوقوع، أي أنه لنفي التشابه بين من يعلم الحق، ويذعن له، ويؤمن به، ومن يعرض عن الحق ويترك الآيات الدالة على الحق المبين وكأنه الأعمى الذي لَا يبصر، إذ عدم البصيرة كعدم البصر على السواء.
والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه يترتب على اختلاف الجزاءين تقوير أن التشابه بينهما غير ممكن، وأخّر الفاء عن تقديم، لأن الاستفهام له الصدارة كما ذكرنا من قبل، لا يستوي الذين يعلمون والذين لَا يعلمون، أفيستوي الذين يعلمون (أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقّ كمَنْ هُوَ أَعْمَى). والمراد بالذي (أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) القرآن، وذكر بهذا الموصول ليكون متضمنا الحكم، وهو أنه الحق لأنه أنزل إليك من اللَّه الذي خلقك ورباك وأيدك، فلابد أن يكون الحق، وتعريف الطرفين يدل على القصر، أي أنه لَا يمكن أن يكون إلا حقا، ولا يمكن أن يكون فيه باطل قط (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ. . .)، وقوله تعالى:
(كَمَنْ هُوَ أَعْمَى) المراد من لَا يصدق أنه الحق، كأنه كالأعمى، إذ إنه أعرض عن الآيات الشاهدة بالصدق، وأنه المعجزة الكبرى، والآيات الدالة على أن اللَّه واحد(8/3928)
أحد فرد صمد، وقد خلق كل شيء وقدره تقديرا، فاستعير لفظ الأعمى لمن أعرض عن ذكر ربه وأنكر آياته كأنه لم يرها. وإن فَقْد البصيرة كفقْد البصر على سواء.
ثم قال تعالى: (إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (إِنَّمَا) أداة من أدوات القصر، أي لا يتذكر إلا أولو الألباب، أي العقول التي تدرك لُبَّ الأمور، وخواصها، وما تدل عليه من غير شائبة تقليد، ولا اتباع لغير المؤمنين، و (أولو) أي أصحاب الألباب، ومعنى التذكر إدراك الآيات، وكأنها لَا تحتاج إلى تعرف جديد، لأن أصلها في الفطرة.
وقد بين سبحانه وتعالى القول في أوصاف أولي الألباب، فقال سبحانه:(8/3929)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
(الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
هذا هو الوصف الأول من أوصاف المؤمنين أولي الألباب.
يصف اللَّه سبحانه وتعالى المؤمنين بالوفاء بالعهد، وما بعده من أوصاف.
كما قال تعالى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177).
فالوفاء بالعهد من صفات المؤمنين، ومن خصال الإيمان، وذلك لأن الوفاء يقتضي أن تصدق النفس في ذاتها وأن تدرك ما يجب في حق النفس، ويشعر المرء بالمعادلة في الحياة بينه وبين الناس، يشعر بحقهم عليه كما يطالبهم بحقه عليهم، ولذا كان علامة من علامات الإيمان. وكان خُلف العهد علامة من علامات النفاق؛ لأن المنافق يحسب أن الناس خلقوا له يستغلهم ولا يعطيهم، يأخذ منهم ولا يقدم لهم.(8/3929)
والعهد أُضيف إلى اللَّه تعالى، كما في قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا. . .).
والعهد سواء أكان مضافا إلى اللَّه تعالى أم كان مضافا إلى العبد واجب الوفاء؛ لأنه من أمر اللَّه، والنقض من أمر اللَّه تعالى، فمن أوفى بعهده للناس فقد أوفى بعهد اللَّه تعالى، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقودِ. . .).
والعهود تشمل التكليفات الشرعية كلها فهي عقود اللَّه تعالى على عباده، وتشمل العهود التي عُقدت موثقة بيمين سواء أكانت نذورا أم كانت عهودا للناس، وثقها على نفسه بيمين اللَّه تعالى، فالوفاء بها من الإيمان، ويشمل العهود التي يعقدها مع الناس ولو لم يذكر فيها يمين لما ذكرنا، لأن الشعور بالوفاء شعور بالمبادلة الاجتماعية بينه وبين الناس في الحقوق والواجبات، وبذلك يكون الاجتماع المستقيم القائم على هدى رب العالمين.
وأكد اللَّه تعالى الوفاء بذم نقيضه، فقال تعالى: (وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ)، و (الميثاق) وهو ما وثق من العهود بيمين اللَّه أو غيره، و (أل) فيه للعهد، وقد ذكر الميثاق على بني إسرائيل وهو ميثاق اللَّه تعالى الذي حمله الأنبياء، وقد بينه اللَّه تعالى على بني إسرائيلِ فقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83).
هذا ميثاق اللَّه تعالى على عباده أجمعين، جاء على لسان الأنبياء الأكرمين، ولكن ذكر مع بني إسرائيل لأنهم أشد الناس مخالفة له. وقد أمرِ به في القرآن أمرا، فقال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36).(8/3930)
هذا ميثاق النبيين، وهو يقوم على القيام بحق اللَّه تعالى، والقيام بحقوق العباد التي أكدها اللَّه سبحانه وتعالى بأمره، وهذا المثياق هو ميثاق الجماعة، وميثاق العدل الاجتماعي الكامل.
الوصف الثاني والثالث والرابع من أوصاف الإيمان:
قال تعالى فيه:(8/3931)
وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)
وذكر اللَّه تعالى لهم ثلاثة أوصاف: وصف يتعلق بالصلات الاجتماعية التي بها يقوم بناء اجتماعي سليم يبتدئ من الأسرة بمعناها الممتد الذي يشمل القرابة جميعها قريبة كانت أم بعيدة، ويشمل المجتمع الصغير، ومجتمع المدينة، ثم الدولة، ثم المجتمع الإنساني، وهذا هو الوصف الأول (الَّذِينَ يَصِلُون مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يوصَلَ)، والوصف الثاني نفسي، وهو أساس البناء الاجتماعي الفاضل، ورمز اللَّه تعالى إليه بقوله تعالت كلماته: (وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ)، أي يخافون اللَّه تعالى في كل عمل يعملونه، فلا يطغون، ولا يظلمون، ولا ينقصون الناس حقوقهم، فمن خشي اللَّه تعالى يتذكره في كل عمل يعمله في ذات نفسه، وفي أهله وبينه وبين الناس.
والوصف الثالث: الإيمان بأنه يحاسب عليه، وقد ذكره سبحانه بقوله تعالى: (وَيَخَافُونَ سوءَ الْحِسَابِ)، وخوف الحساب يتضمن الإيمان بالبعث والنشور، ولقاء اللَّه تعالى يوم القيامة أولا، وأنه سيحاسب على ما كان في الدنيا ثانيا. ويتضمن ترجيح الخوف على الرجاء، وأنه يخشى السوء قبل أن يرجو الثواب. ثالثا: فهو يستقل ما قدمه من خير، ويستكثر دائما ما وقع فيه من هفوات، وهذا شأن الأبرار، يستقلون ما يفعلون من خير، ويستكثرون ما يقع منهم من هفوات.(8/3931)
ولنذكر كلمات موجزة عن هذه الصفات الثلاث:
فأما الأولى، فهي: أن يصلوا ما أمر اللَّه به أن يوصل، فنقول: إن ما أمر اللَّه به أن يوصل هو ما يتعلق ببناء المجتمع على المودة والرحمة، فيصل قرابته القريبة والبعيدة، فقد أمر سبحانه وتعالى بصلة الرحم، فقال: (. . . وَأُولو الأَرْحَامِ بعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ. . .)، وأمر على لسان رسوله بصلة الأرحام في أكثر من حديث، وأمر بالصلة بين الناس بالتعاون فيما بينهم على الخير، فقال تعالى: (. . . وَتَعَاوَنوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنوا عَلَى الإِثْمِ والْعُدْوَانِ. . .)، ودعا إلى إقراء السلام على من عرفت ومن لم تعرف، وأمر بإغاثة المستغيث، وفك كرب المكروبين. فكل هذه صلات قد أمر اللَّه تعالى بوصلها. ولقد جاء في الكشاف للزمخشري ما نصه: ما أمر اللَّه به أن يوصل من الأرحام والقرابات، ويدخل فيه وصل قرابة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وقرابة المؤمنين الثابتة بسبب الإيمان (إِنَّمَا الْمُؤْمِنونَ إِخْوَةٌ. . .)، بالإحسان إليهم على حسب الطاقة، ونصرتهم، والذب عنهم، والشفقة عليهم، والنصيحة لهم وطرح التفرقة بين أنفسهم، وإفشاء السلام عليهم، وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم، ومنه مراعاة حق الأصحاب والخدم والجيران والرفقاء في السفر) (1).
وهكذا نجد من الأمر بأن يصل ما أمر اللَّه به أن يوصل، أن يعملوا على رأب الصدع وجمع الوحدة، وإزالة الفرقة، وأن يحسنوا إلى الضعفاء والمساكين، وقد روى ابن كثير عن عبد الله بن عمر أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أول من يدخل الجنة من خلق الله الفقراء المهاجرون الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره، لَا يستطيع لها قضاء، فيقول الله تعالى لمن يشاء من الملائكة: إيتوهم فحيوهم، فتقول الملائكة: نحن سكان سمائك، وخيرتك من خلقك، فتأمرنا أن نأتيهم فنسلم عليهم، فيقول: إنهم كانوا يعبدونني لَا يشركون
________
(1) الكشاف للزمخشري: ج 2/ 357.(8/3932)
بي شيئا، وتسد بهم الثغور، وتتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع قضاءها " (1).
هذه صلة من أمر اللَّه به.
وأما خشية اللَّه تعالى فهي امتلاء القلب باللَّه، وخشية عقابه، ورجاء ثوابه، وأن يكون ذاكرا للَّه، شكورا لنعمه، راجيا قبول طاعته (. . . إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ. . .)، فهم أعم الناس به ذاتا، وصفاتٍ، وقدرا، وإكبارا.
ومنها خوف سوء الحساب، فهو خوف نتائج السر الذي كان في الدنيا، واللَّه عْفور رحيم.
الوصف الخامس والسادس والسابع والثامن من صفات المؤمنين، وهو من مقتضيات الإيمان: الصبر، وما بعده، قال تعالى:
________
(1) رواه أحمد: مسند الكثرين من الصحابة - مسند عبد الله بن عباس (6282).(8/3933)
وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
ذكرت هذه الآية أربع خصال للمؤمنين، أولها: الصبر ابتغاء وجه اللَّه تعالى، وإقامة الصلاة والإنفاق من رزق اللَّه تعالى، ودرء السيئة بالحسنة.
أما الصفة أو الخصلة الأولى: وهي الصبر ابتغاء وجه اللَّه، فإن معناها ضبط النفس عن الشهوات، وتسيطر على منازع النفس فتقوى الإرادة، وتكون الأهواء أمةً لها، ولا تكون سيدا عليه، وإن الصبر في المصائب التي تنزل، والإصرار على الوقوف عند أمر اللَّه تعالى ونهيه، ولقد فسر ابن كثير الصبر ابتغاء وجه ربهم بقوله: " الصبر عن المحارم والمآثم، فقطعوا أنفسهم عنها للَّه عز وجل ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه " وفسره الزمخشري بقوله: " (صَبَروا) مطلق فيما يصبر عليه من(8/3933)
المصائب في النفوس والأموال، ومشاق التكليف ابتغاء وجه اللَّه، لَا ليقال ما أصبره، وأحمله للنوازل، وأوقره عند الزلازل، ولا لئلا يعاب بالجزع، ولا لئلا يشمت به الأعداء كقول القائل: (وتجلدي للشامتين أريهم) (1)، ولا لأنه لَا طائل تحت الهلع، ولا مر فيه للفائت كقول القائل:
ما إن جزعت ولا هلعـ ... ـت ولا يردُّ بكاي زندًا
فكل عمل له وجوه، فعلى المؤمن أن ينوي منها ما كان حسنا عند اللَّه، وإلا لم يستحق ثوابا، وكان فعلا كلا فعل " اهـ (2). قيل هذا الكلام بليغ، وفيه بيان متى يكون الصبر ابتغاء وجه ربه، ومتى لَا يكون، وإنه بلا ريب كلام حق، ولكني أزيد عليه، بأن كلمة: (وَالَّذِينَ صَبَروا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) لابد أن يكون في موضع معين يكون الصبر فيه ابتغاء وجه اللَّه، أي يبيع المؤمن نفسه للَّه تعالى صابرا محتسبا، وهو الجهاد، فهذه الجملة السامية أو الخصلة الكريمة مع أنها تفيد أن الصبر في كل أحواله خير، وخصوصا إذا لم تقصد به المفاخرة، كما جاء على لسان بعض الشعراء، فإن الأخص هو الصبر في الجهاد، يدفع نوازع النفس، وبالتقدم للميدان رجاء ما عند اللَّه تعالى، والصبر في كل أحواله خير.
ومعنى (ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ) أن يطلب رضا ذات اللَّه تعالى العلية عليه.
وعبر بالوجه عن الذات؛ لأنه في أصل معناه اللغوي ما يواجه الإنسان.
والخصلة الثانية: إقامة الصلاة، أي الإتيان بها مستوفية الأركان، وبخشوع وخضوع، وبأداء حقيقة معناها الناهية عن الفحشاء والمنكر، كما قال تعالى:
(. . . إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. . .).
________
(1) يعني إظهار الصبر مراءاة كي لَا يشمت الشامتون.
(2) الكشاف للزمخشري: ج 2/ 357، وتتمة البيت كما ذكره البيضاوي ج 6/ 376:
وتجلدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لَا أتضعفع
البيت لأبى ذؤيب قاله يرثي بنيه.(8/3934)
وإن الصلاة إذا أقيمت لقويت النفس، وناجى المؤمن ربه حق المناجاة، وقرب من ربه، وامتلأت نفسه به، وصار قلبه نورا، وفكره نورا، واستقامت نفسه وقلبه.
الخصلة الثالثة: كما قال تعالى: (وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً)، وقوله تعالى: (مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) معناها: إنفاق بعض ما رزقناهم، أي من حلال مكاسبهم، فالكسب الحلال رزق من اللَّه، وإضافة الرزق إلى اللَّه تعالى يقتضي أولا ما ذكرنا وهو أن يكون حلالا، ويعتبر ثانيا أن المال مال اللَّه تعالى فهو الذي رزق، وما تكلف من إنفاق إنما هو مما أعطاك، فقد أعطاك لتنفق، فهو ابتلاك بالمال لتنفقه وتشكر، وابتلى غيرك بالفقر ليصبر، واللَّه فضل بعضكم على بعض في الرزق.
وقوله: (سِرًّا وَعَلانِيَةً) ولكل حال فضلها، ففضل السر الستر على من يعطيه، وألا يكون تفاخرا، وأن يكون العطاء لوجه اللَّه لَا رياء فيه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من تصدق يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك " (1)، وفي العلانية فضل أحيانا كأن تحرض الناس على العطاء، وأن يمنع الاتهام بالشح ليقي نفسه والخصلة الرابعة: بينها سبحانه وتعالى بقوله: (وَيَدْرَءونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ).
(درأ) بمعنى دفع، ومن ذلك قوله تعالى في اللعان: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ).
ودرء السيئة بالحسنة فسرها المفسرون بأنه دفع الإساءة بالإحسان، ومقابلة الحرمان بالإعطاء، والقطيعة بالوصل، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها " (2)، وقد روي عن ابن عباس أنه
________
(1) رواه أحمد، وقد سبق تخريجه.
(2) رواه البخاري: الأدب - ليس الواصل بالمكافئ (5532). كما رواه الترمذي: البر والصلة (1831)، وأبو داود: الزكاة (1446)، وأحمد: مسند المكثرين (6238).(8/3935)
قال في معنى هذه الآية: يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سيئ غيرهم، وعن الحسن البصري: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قُطعوا وصلوا.
وجملة هذه المعاني تتجه إلى نشر التسامح، ومنع مبادلة السوء بالسوء حتى لا يؤدي ذلك إلى التقاطع والتدابر، وأن يكون بأس المسلمين بينهم شديدا، وهذا هو ما أمر اللَّه تعالى به منعا للعداوة، فقد قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34).
هذا معنى سليم مستقيم، ويصح أن نقول: إن معنى قوله تعالى:
(وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ)، أن الإكثار من الحسنات يدفع السيئات، ذلك أن.
الحسنات طهارة للنفس، والطهارة تزيل أخباث النفس، كما قال تعالى: (. . . إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. . .) فإن السيئات تخط في القلب خطوطا، والحسنات تزيلها، أو تذهب بنكتها السوداء، ويصح أن يراد المعنيان. ولقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن الحسنة تمحو السيئة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " وأتبع السيئة الحسنة تمحها " (1).
وقد بين اللَّه تعالى جزاء المؤمنين الذين اتصفوا بهذه الصفات السامية المطهرة للنفوس وللجماعات، وهي تدل على أن هذه الصفات هي سبب الجزاء العظيم، (أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) وعقبى الدار (الجنة)، ولذا بينها سبحانه وتعالى بقوله:
(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
________
(1) رواه الترمذي: البر والصلة - ما جاء في معاشرة النساء (1910)، كما أخرجه أحمد في مسند الأنصار (20392)، والدارمى: الرقاق (2671).(8/3936)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)
(جَنَّاتُ عَدْنٍ) بدل أو بيان لمعنى عقبى الدار، أو الدار نفسها التي تكون عاقبة العاملين عملا صالحا، والذين صبروا في الجهاد ابتغاء وجه ربهم، و (عَدْنٍ) يعني إقامة، أي جنات يقيمون فيها إقامة دائمة وهي الفردوس، وتكون في وسط الجنة، وفوقها عرش الرحمن الذي يحكم في عباده بما يشاء، وهذا تصوير بياني رائع لبيان النعيم المقيم الذي يختص به الأبرار المجاهدون الأطهار.
يدخلونها، لَا عائق يعوقهم، ولا حائل بينهم وبينها، ويُدخلون معهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم. ذكر هؤلاء الذين يكوِّنون الأسرة، والمؤمن في حنان مستمر إلى هؤلاء، من آباء وأمهات وأبناء وأحفاد. فاللَّه سبحانه وتعالى يطمئنه عليهم، وبأن الأسرة الدنيوية تكون معه في الآخرة يأنس بها وتأنس به، وقيد هؤلاء بأنهم الصالحون، وغير الصالحين ليسوا منه، وليس هو منهم كابن نوح، إذ قال ربه: (. . . إِنَّهُ لَيْسَ مِن أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ. . .)، وهذا يشير إلى أن الجنة جزاء للأعمال، لَا للأنساب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأحبابه من بني هاشم: " يا معشر بني هاشم، لَا يأتيني الناس بالأعمال وتأتوني بالأنساب، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " (1). وقد فهم بعض المفسرين أن أولئك ألحقوا به إكراما له، ولكن اشتراط الصلاح يقيِّد دخولهم (وَمَنْ صَلَحَ)، إنما كان استقلالا لعملهم بدليل ذكر الصلاح، ولكن ذكروا معه لبيان أنسه بأحبابه في الدنيا أولا ولاطمئنانه على من يحدب عليهم ثانيا.
وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى أنس المجاهدين الصابرين المتقين بذوي الصلات بهم في الدنيا إذا صلحوا - ذكر أُنسا روحانيا كريما، وهو إيناسهم بالملائكة الأطهار، فقال تعالت كلماته: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّنْ كُلِّ بَابٍ) أي يحفون بهم، يجيئون إليهم من كل ناحية، فهم في أنس روحي، كما أنهم في متعة الجنة، وهي نعيم مادي، (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرمَّان)، وفيها كل ما تشتهي النفس، وفيها ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب
________
(1) رواه أبو يعلى مرسلا، ووثقه ابن حبان وغيره، مجمع الزوائد (29672): ج 10/ 390.(8/3937)
بشر، وأولئك الملائكة الأبرار يقولون ما يملأ نفوسهم بالأمن والبشر والاطمئنان؛(8/3938)
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
(سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ)، (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ. . .)، وهذا يتضمن معنى الإيناس بإقراء السلام، فإقراء السلام في ذاته إيناس، وفيه مع ذلك بث الاطمئنان وطيب الإقامة، وذلك بسبب الصبر، أي بسبب صبركم في الجهاد، وصبركم على الطاعات وتجنب الشهوات، وصبركم على تحمل المكاره، وصبركم على البعد عن الأحبة، وقد روى عبد اللَّه بن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟ "، قالوا: اللَّه ورسوله أعلم، قال: " المجاهدون الذين تسد بهم الثغور، وتتقى بهم النار، فيموت أحدهم وحاجته في نفسه لَا يستطيع لها قضاء، فتأتيهم الملائكة فيدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " (1).
ولقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأتي على قبور الشهداء كل حول فيقول: " السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار " (2)، وكان أبو بكر وعمر وعثمان يفعلون ذلك، ولم يذكر عليّ مع أنه بطل الجهاد الأول بعد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وهو أعرف الناس بعد الرسول بحق الجهاد وهو القائل: (الجهاد باب من أبواب الجنة).
وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الجهاد ماض إلى يوم القيامة " (3)، وإن المسلمين هانوا على أنفسهم يوم بث أعداؤهم التخاذل عن الجهاد، فأطاعوهم، فخذلهم اللَّه تعالى، ولا تزال تطلع على المتخاذلين من المسلمين عن الجهاد، فقد ساروا وراء أذيال النعم، وصاروا عاملين لأعدائهم يقدمون لهم أسباب المال الذي يستخدمونه ضدهم.
ثم بين سبحانه أن هذا الجزاء هو خير الجزاء، فقال: (فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ).
الفاء للإفصاح، أي إذا كان ذلك هو العقبى والنتيجة، فنعم هذه العقبى، وتلك النهاية.
* * *
________
(1) سبق قريبا.
(2) انظر ما جاء في البداية والنهاية - ج 4/ 218.
(3) رواه أبو داود: في الغزو مع أئمة الجور (2170).(8/3938)
أوصاف الضالين
قال اللَّه تعالى:
(وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
* * *
هذه أوصاف الذين عتوا عن أمر ربهم، وخرجوا عن جادة الحق، وأوصافهم في مقابلة أوصاف المؤمنين، وهم متصفون بصفات ثلاث، جعلتهم يمردون على الكفر والطغيان، وهذه الصفات الثلاث هي: نقض عهد اللَّه، والثانية: قطعهم ما أمر اللَّه به أن يوصل، والثالثة: الفساد في الأرض.
أما الأولى فقد بينها سبحانه وتعالى:(8/3939)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
(وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ) وعهد اللَّه تعالى بَدَهي تدركه البديهة السليمة؛ لذا سمي دين التوحيد، فطرة اللَّه تعالى التي فطر الناس عليها. وهي إدراكها حقيقة، حتى إن بعض(8/3939)
العلماء المسلمين قال: إن إدراك اللَّه تعالى تدركه البديهة السليمة، لذا سمي دين التوحيد، فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها. وقد نص على عهد اللَّه في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174).
ولم يشرك الناس بعد هذا العهد الذي أخذ بمقتضى الفطرة، بل وثَّقه بميثاق، ولذا قال تعالى: (مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِه) وهذا الميثاق الذي وثق به الرسل الذين أرسلهم مبشرين ومنذرين (. . . وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِير)، وقال تعالى:
(. . . وَمَا كنَّا مُعَذِّبِين حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
ولقد جاءت النذر بهلاك الأمم التي فسقت عن عهدها، فكان ذلك توثيقا بعد توثيق، وإنذارًا بعد إنذار، ومع ذلك نقضوا عهد اللَّه من بعد ميثاقه. الصفة الثانية: قطعهم ما أمر اللَّه به أن يوصل من الأرحام، والعلاقات الاجتماعية الفاضلة على ما بينا في معنى قوله تعالى في صفات المؤمنين:
(وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يوصَلَ).
الصفة الثالثة: أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله: (وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) الفساد في الأرض ألا يقوم فيها النظام الاجتماعي على التكافل بين الآحاد، ومعاونة بعضهم، وألا يستعلي قوي على ضعيف، وألا يندغم الضعفاء في الجماعة، وألا يراعى لهم حق، وأن يكون التفاوت الظالم بين الآحاد، وألا يكون ضابط يحمي الضعفاء من الأقوياء والأغنياء من الفقراء، وأن يسود الظلم من الحكام لرعاياهم، فإن ذلك فسادا أي فساد، وقد رأينا حكاما ظالمين يقتلون الرعية بغير حق إلا أن يقولوا ربنا اللَّه، واللَّه أكبر، ويدعون أنهم يصلحون وهم المفسدون، لأن أساس كل نظام العدل. إفساد أي حكم بالظلم أولا، وما يتبعه(8/3940)
تحسس وتجسس وسعاية ثانيا، وما يجري وراءه من نفاق ثالثا: وإذا جاء النفاق عمَّ الفساد. ولقد قال أبو العالية: " ست صفات في المنافقين، إذا كانت الظهرة (أي السيطرة) على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا، ونقضوا عهد اللَّه بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر اللَّه به أن يوصل، وأفسدوا في الأرض، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا ثلاث خصال: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا ائتمنوا خانوا ".
وإن النفاق دائما وليد الاستبداد الغاشم، والظلم الطاغي، وقد رأينا وشاهدنا.
وقد بين اللَّه سبحانه الجزاء الأوفى للذين لايؤمنون، فقال تعالى: (أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) اللعنة هي الطرد، وقد ذكرت غير مقيدة، فإنها في الدنيا أو الآخرة، أما لعنتهم في الدنيا فالمقت الشديد والبغض والكراهية، وسوء الأحدوثة، واقتران حياتهم بالخوف من الناس، والاضطراب النفسي حتى يموتوا بغيظهم، وسوء الحديث عنهم تتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل. ويقال فيهم ما قاله الشاعر البطل محمود سامي البارودى:
زالوا فما بكت الدنيا لطلعتهم ... ولا تعطلت الأعياد والجمع
واللعنة في الآخرة: الطرد من رحمة اللَّه ورضوانه، فلا ينظر إليهم ولا يكلمهم اللَّه ولا يزكيهم (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) والدار هي الآخرة وسوءها جهنم وبئس المهاد.
وإن المشركين كانوا يغترون بمالهم ونفوذهم، والمؤمنون كانوا في أكثرهم فقرا وضعفا وكانوا يعقدون ملازمة بين رضا اللَّه والفقر، فمن كان غنيا فهو موضع رضا اللَّه، ومن كان فقيرا ضعيفا فهو موضع مقت اللَّه تعالى، فازدادوا بذلك كفرا وطغيانا، فبين اللَّه سبحانه أنه لَا ارتباط بين الغنى والإيمان، ولا بين الضعف والكفر.(8/3941)
قال تعالت كلماته:(8/3942)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
(اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
صدّر سبحانه وتعالى الآية الكريمة بلفظ الجلالة الذي يطالبهم اللَّه تعالى بعبادته وحده من غير أن يشركوا به شيئا، ويبين سبحانه أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء، أي يمده ويجعله ممدودا واسعا، ويقدره لمن يشاء أي يجعله محدودا قليلا، كقوله تعالى: (. . . وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّف اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا. .).
والمعنى في تصدير الآية بلفظ الجلالة هو أن اللَّه تعالى هو الذي بسط لكم الرزق، فكان حقا عليكم أن تشكروا لَا أن تكفروا وتشركوا أحجارا. وهو الذي قدر الرزق للضعفاء والفقراء فصبروا فحق لهم التكريم وحسن الجزاء، ولا يستوي المحسن والمسيء، ولا الأعمى والبصير.
وإن اللَّه الذي بسط الرزق وقدره لم يجعل أمر الدنيا في السعة والضيق دليلا على الرضا أو البغض إنما هذا للاختبار، فهو سبحانه وتعالى يختبرنا بالتوسعة ويطالب بالشكر، ويختبر بالقدر والضيق ويطالب بالصبر، وكل له جزاؤه.
وإن أولئك المشركين بسط اللَّه تعالى لهم في الرزق فلم يشكروا، ولأن الشكر يقتضي أن يحسوا بفضل المنعم، لَا أن يحس فقط بالاستمتاع بما أعطى، والاستطالة به على الناس وإن ذلك ينشأ من الفرح ببسط الرزق، لَا ينشأ من القيام بحق الشكر؛ لأن إحساس المؤمن بأنها ابتلاء، كما قال تعالى: (. . . وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. . .)، وإحساس الكافر بأنها متعة ينتهزها.
ولقد قال في ذلك: (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أي إن الكافرين فرحوا بما بسط اللَّه تعالى من الدنيا، ففرحوا بها فرحا أدى إلى أن بطروا معيشتهم، وغمطوا الناس حقوقهم، وإن فرحهم بالحياة الدنيا لم يكن فرحا يذوقون حلوها ومرها، بل فرح استعلاء واستغواء لَا يلاحظون إلا أنها متعتهم يستكبرون بها على غيرهم،(8/3942)
وينسون في سبيل ذلك كل حق عليهم، ولا يعرفون أن المتعة حق يتبعه واجب، وبذلك تكون متعة لَا يعقبها خير في الآخرة ينالون به نعيما مقيما؛ إذ لم يلتفتوا إلى الآخرة ومما فيها، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ) التنكير في (مَتَاعٌ) للتحقير لَا للتكبير، أي الإمتاع نزر قليل، لَا بقاء له، لأنه سرعان ما يزول إذ هو في الدنيا، والدنيا زائلة، ويقول الزمخشري في ذلك: (وخفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئا نزرا يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله به من تُميرات، أو شربة سويق أو نحو ذلك) (1).
ولقد ذكر اللَّه تعالى في آيات أخر، مثل قوله تعالى: (. . . قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)، وقوله تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)، وقوله تعالى:
(أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56).
وإنهم يتعللون لكفرهم الطاغي بأنهم لم تجئ إليهم آية تثبت رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويطالبون بآية كونية، كالآيات التي جاءت للأنبياء السابقين مستهينين بالآيات المتوالية التي جاء بها محمد - صلى الله عليه وسلم - أو غافلين عنها.
________
(1) الكشاف: ج 2/ 359.(8/3943)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
إن هذا من تعنتهم ومحاولة إعناتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وحالهم كحال الأعمى الذي لا يحسن أن يعيش في ضوء الشمس وحرارتها، ويقول لَا توجد شمس ولا دفء، وما العيب إلا في مشاعره التي إيفت، فهو ينكر ما لَا يحس به، طلبوا ملكا رسولا، وطلبوا أن تفجر الأنهار، وغير ذلك من المطالب التي ساقوها، وما هي إلا تعلَّات الكفر والإشراك، ولقد تحداهم القرآن أن يأتوا بمثله أو بعشر آيات من مثله فعجزوا، وكان عجزهم دليلا على أنه من عند اللَّه، ولقد أمر اللَّه سبحانه(8/3943)
وتعالى نبيه أن يرد عليهم بأن الذي دفع إلى طلب هذه الآية هو ضلالهم، وإصرارهم على الكفر والعناد، وقد جاءت هذه الآيات وأشباهها لمن سبقوهم وكفروا وضلوا سواء السبيل، أمر اللَّه نبيه فقال: (قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ).
(أَنَابَ) رجع، أي رجع إليه، وابتدأ السير في طريق الهداية، فإن اللَّه يأخذه بيده حتى يصل إلى نور ربه، والمعنى: الذين كتب اللَّه تعالى عليهم الضلالة، وهم الذين ساروا في طريق الغواية يكتبهم سبحانه من الضالين فتعمى قلوبهم عن إدراك ما في الآيات من أمارات الحق وهدايته، وإن كانت هي في ذاتها منيرة بينة، أما الذين عادوا إلى ربهم وأنابوا إليه فإنه يهديهم إليه سبحانه وتعالى.
وهذا يفيد أن الذين يريدون آية غير القرآن وغير ما جاء على يديه من خوارق العادات كالإسراء والمعراج إنما يريدون هذه الآية إمعانا في ضلالهم.
وهنا إشارات بيانية نذكرها:
أولاها: التعبير بالمضارع في قوله تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فيها إشارة إلى تكرار قولهم هذا وهم مبطلون.
الثانية: التعبير بالموصول يدل على أن الصلة علَّة الطلب، فكفرهم هو علة طلبهم، أي أنهم سبقوا إلى الكفر فاعتنقوه، ثم حاولوا الاستدلال لتأييده، فما طالبوا ببراءة، طالب الحق بل حكموا أولا وأخذوا يتعنتون لإثبات ما هم عليه ومثلهم كمثل القاضي الذي يحكم ثم يحاول تقديم البينة لإثبات ما حكم به.
الثالثة: أن الهداية تكون لمن فتح قلبه للرجوع إلى اللَّه؛ ولذا عبر بالماضي في قوله: (مَنْ أَنَابَ) أي من فتح قلبه للإنابة إلى اللَّه، فأخذ اللَّه سبحانه وتعالى بيده إلى الحق، والتعبير بالمضارع في قوله تعالى: (وَيَهْدِي إِلَيْهِ)، للإشارة إلى تكرار الهداية بشرطها من غير إجبار على كفر، ولا طاعة، بل الطاعة بالإرادة، ولذا كان الثواب والمعصية بإرادة العاصي؛ ولذا كان العقاب.(8/3944)
وقد قال الزمخشري شيء الكشاف في قوله تعالى: (يضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) قال ما خلاصته: كيف كان قوله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ردا لقولهم: (لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ من رَّبِّهِ)؛ فأجاب بأن قوله تعالى يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب كلام جارٍ مجرى التعجب من قولهم، وذلك لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يؤتها نبي قبله، وكفى بالقرآن وحده آية، وراء كل آية، فإن جحدوها ولم يعتبروا بها وجعلوه كأن آية لم تنزل عليه قط، كان موضعا للتعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم ما أعظم عنادكم، وما أشد تصميمكم على كفركم، إن اللَّه يضل من يشاء ممن كان على صفتكم من التصميم وشدة الشكيمة، فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن نزلت كل آية (1).
وإن ذلك بيان يليق بمقام الزمخشري في البيان، وإدراك ملامح القول، وهو لا ينافي ما بينا من قبل، وإن زاد معنى التعجب من صلابة تفهم.
وأناب في قوله تعالى: (وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ) معناها: أقبل إلى الحق، ودخل في توبة الخير؛ لأن أناب معناها اللغوي دخل في التوبة، والمناسب هنا دخوله في توبة الخير.
وقد بين الله تعالى الذين أنابوا من الاطمئنان والإيمان فقال:
________
(1) المرجع السابق.(8/3945)
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
(الَّذِينَ آمَنُوا) بدل أو بيان لقوله تعالى في الآية السابقة: (وَيَهْدِي إِلَيْه مَنْ أَنَابَ)، فهي بدل من قوله: (مَنْ أَنَابَ)، وعلى ذلك يكون محل (الًّذِينَ آمَنُوا)، النصب؛ لأن (مَنْ) حلها النصب، على أنها مفعول به لـ (يَهْدِي)، ويكون قوله تعالى: (وَتَطمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ) الفعل (تَطْمَئِنُّ) يكون معطوفا على (يهْدِي)، ويكون الفعل المضارع معطوفا على مثله، وليس في الكلام السامي عطف مضارع على ماض.(8/3945)
أى أن الله يهدي من أناب، وهم الذين آمنوا وصدقوا وأذعنوا، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله تعالى بهذه الهداية، والرجوع إلى الله تعالى وبذكر الله، وذكر الله تعالى يجعل القلوب مطمئنة، لأنه إذا امتلأ القلب بذكر الله تعالى سكن إليه، وأصبح لَا يبالي شيئًا من كوارث الدنيا، فالقلق والفزع، والخوف من الحرمان، والشدائد، كل هذا يذهب، ولا يكون شيئا إذا عمر القلب بذكر الله، فلا يكون فيه فراغ لشيء من هذا الخوف أو الفزع، وذلك لأن الأنس بالله يوجد في القلب اطمئنانًا، ويجعل النفس في حال رجاء لرحمته، ومغفرته.
وقد قرر اللَّه تعالت حكمته هذا أي فقال: (أَلا بِذِكرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، أي أنها تكون في فزع هالع إذا لم تذكر الله، فإذا ذكرت الله تعالى هانَ كل شيء، لأنها حينئذ تلجأ إلى حصن من القرار، لَا تصل إليه عوامل القلق والاضطراب، وقوله تعالى: (بِذِكْرِ اللَّهِ) بتقديم الجار والمجرور على الفعل يفيد الاختصاص، أي بذكر الله وحده لَا بشيء آخر تطمئن القلوب، و (ال) في (الْقُلُوبُ) لبيان عمومها، فالقلوب كلها لَا تطمئن إلا بذكر الله تعالى؛ ولذلك تكون القلوب الخالية من ذكر الله تكون في فزع مستمر، لأنها خالية من الإيمان غير عامرة.
وإن المؤمنين لفرط إحساسهم بالواجبات عليهم وإدراكهم للنذر تقشعر جلودهم عند سماع القرآن، وما فيه من نذر تقشعر جلودهم، ولا يذهب بذلك إلا ذكر الله تعالى، اقرأ قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23).
ذلك جزاء معنوي للمؤمن الذاكر لله تعالى العامر قلبه بأنسه ونوره، وفي الآخرة يكون هذا الجزاء، وجزاء رضوان الله تعالى، ونعيم الجنة، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك فقال عز من قائل:(8/3946)
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
(الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
هذا جزاء آخر، غير جزاء الاطمئنان والقرار الذي يختص به المؤمنون دائما، (طُوبَى لَهُمْ) وهي على وزن فعلى كبشرى، وزلفى، وأصلها طيبى، وقعت الياء ساكنة بعد ضمة فقلبت واوا، وقد قال الزمخشري عالم البيان في تصريفها: " وطوبى مصدر من طاب كبشرى وزلفى، ومعنى طوبى لك أصبت خيرًا وطيبًا ومحلها النصب أو الرفع كقولك طيبا لك، وطيب لك، وسلاما لك، وسلام لك ".
وعلى كلام الزمخشري تكون هذه الكلمة السامية تحية من الله تعالى لعباده المؤمنين، وتكون هذه التحية مقررة لهم بأن لهم السلام والاطمئنان، والطيب في إقامتهم في الجنة، بدليل ما جاء معطوفًا عليها، وهو قوله تعالى: (وَحُسْنُ مَآبٍ) أي مَآبٍ، ومرجع ونهاية هي حسنة في ذاتها، ليجتمع لها طيب الإقامة، وحسن الثواب، بل كلاهما من الثواب.
وطوبى، محلها هنا الرفع، بدليل المعطوف عليها، فإنه مرفوع.
وقد ذكر سبحانه وتعالى لاستحقاق هذه التحية المباركة وصفين:
الوصف الأول: الإيمان.
والوصف الثاني: العمل الصالح.
فالعمل الصالح غذاء الإيمان، وإذا لم يكن جف الإيمان، وصار حطاما أو غثاءً أحوى، وإن أساس الخير هو الإذعان للحق، ثم الجهد به، ثم العمل، ثم السير على مقتضى الإيمان في أعمال الحياة، اللهم هب لنا من لدنك رحمة، وهيئ للمسلمين من أمرهم رشدا، وهبهم الاطمئنان إلى ذكرك، وحتى لَا يرهبوا، ولا يفزعوا ولا يطمعوا، واجعل قلوبهم تعمر بك، حتى يجتمعوا، ولا يتفرقوا.
* * *(8/3947)
معجزة القرآن تسير الجبال
قال اللَّه تعالى:
(كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
* * *
بين الله تعالى لنبيه الكريم الذي لاقى ما لاقى في سبيل دعوة الحق أن ذلك سنة الجهاد في سبيل دعوة الرسل وقد أتيت في رسالته بأمر خطير، (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. . .).
قال تعالى:(8/3948)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
(كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ)، أي كذلك الإرسال الذي أرسلنا به الرسل السابقين أرسلناك، فالشبه هو إرسال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الإرسال الذي حمله الواجبات الكبرى والجهاد الأعظم، والمشبه به إرسال الأنبياء السابقين، فالإشارة هي إلى إرسال الرسل السابقين.(8/3948)
ويصح أن تقول: إن الإشارة إلى إرسال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو المشبه به، والمشبه هو إرسال الرسل إلى الأمم الأخرى، والمعنى على هذا أن ما تعانيه من إنكار المنكرين في سبيل الحق الذي لَا ريب عاناه من قبلك رسل سبقوك في أمم قد خلت، فاصبر كما صبروا فلا تحسب أن من سبقوك وجدوا أرضا طيبة وقولا ولا كلاما مجابا ولا تسليما سهلا لَا معاناة فيه.
قوله: (فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ)، أي أمة الشرك التي قد مضت من قبلها أمم على مثل ما هي عليه من إنكار وجحود ولاقى رسلهم منهم مثل الذي تلاقي من عنت واستهزاء وسخرية، وإيذاء لمن اتبعوك، وفتنة للضعفاء في دينهم، وعناد ومحادة لله ولرسوله، ولأهل الحق؛ ولذلك قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ)، أي مضت من قبلها أمم.
والغاية من الرسالة التي بعثت بها أن تتلو عليهم القرآن؛ ولذا قال: (لِّتَتْلوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) اللام للتعليل، والمعنى أرسلناك لتتلو عليهم القرآن الذي أوحيناه إليك، والتلاوة القراء المتتابعة المتناسقة في اللفظ والمعنى، ويصح أن تكون بمعنى الترتيل، وقد نقل إلينا القرآن متلوا مرتلا، فلم تثبت روايته هو بذاته فقط، بل تواتر طريق ترتيله، فجبريل الأمين علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ترتيله، كما حفظه القرآن ذاته؛ ولذلك نزل القرآن منجما، ليحفظه النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتلا؛ ولذا قال تعالى في بيات حكمة نزوله منجما: (. . . كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا).
ومع هذا الترتيل الذي تذهب به المعاني في النفس حالهم حال إنكار شديد؛ ولذا قال تعالى: (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) وقد نص على كفرهم بالرحمن، وكان التعبير بالرحمن عن الذات العلية مع أنهما اسمان للذات العلية، ولا تتغير الذات بكثرة أسمائها، وإن التعبير بالرحمن لملاحظة الرحمة الشاملة، فهم مغمورون برحمته في وجودهم وكلاءتهم، إذ هو الذي يكلؤهم في السماوات والأرض، ومع(8/3949)
أن نعمه سابقة لهم، ورحمته لهم، كفروا به، والتعبير بالمضارع يفيد استمرار كفرهم وتجدده آنَا بعد آن.
ولقد روى أن العرب كانوا في إيمانهم الناقص بالله سبحانه وتعالى ما كانوا يعرفون إلا لفظ الجلالة، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو يملي شروط صلح الحديبية وابتدأه بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قالوا: الرحمن هو رحمان اليمامة لَا نعرفه قل باسمك اللهم، وقد نزل فيهم: (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى. . .).
وقد أمر الله تعالى أن يعرفهم بالرحمن فقال تعالت كلماته: (قُلْ هُوَ رَبِّي)، أي هذا الذي يكفرون هو ربى الذي خلقني ورباني وقام على شئوني، فهو الحي القيوم القائم على كل شيء، وهو الله.
(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ)، أي عليه وحده توكلت في الدنيا، لأنه هو القائم على كل نفس بما كسبت، وتقديم الجار والمجرور على الفعل للدلالة على القصر، أي لا أتوكل على غيره، والتوكل لَا ينافي العمل، بل إن التوكل بين أمرين كلاهما باطل، الأمر الأول أن يعتقد أن الأسباب وحدها هي التي تؤثر في النجاح، وينسى قدرته المحيطة بكل شيء، والثاني من الباطل التواكل، وهو أن يهمل الأخذ بالأسباب، بل يأخذ بالأسباب، ويترك الوصول إلى النتائج لله سبحانه وتعالى فهو تعالت قدرته لَا يغفل عن شيء، والقادر على كل شيء (وَإِلَيْهِ مَتَابِ)، (متاب) مصدر ميمي لتاب بمعنى رجع وتقديم الجار والمجرور يفيد الاختصاص، أي أن مرجعي إليه وحده، وله الحساب وحده، وله الثواب والعقاب وحده، لَا شريك له، فالملك اليوم لله الواحد القهار.
وإن المشركين طلبوا آيات: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ من رَّبِّهِ. . .)، وكأنهم لَا يعتدون بما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - من معجزة القرآن، وأنه سبحانه وتعالى تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، وبدا عجزهم، وظهر إعجازه، ولم يكن(8/3950)
لأي آية غير ذلك التحدي المعجز، ولأجل ذلك بين الله سبحانه وتعالى مقام القرآن في ذاته، وأنه أغلى كلام في الوجود، ولو أن كلامه يسير الجبال لسيرها، ولو أن قرآنا يقطع الأرض أجزاء لقطعها، فقال تعالى:(8/3951)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
(وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ... (31)
جاء في السيرة النبوية أن نفرًا من كفار قريش ذهبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحدونه فيهم أبو جهل، وعبد الله بن أمية، فقال عبد الله: إن سرك أن نتبعك سيِّر لنا جبال مكة بالقرآن فادعها عنا حتى فإنها أرض ضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا؛ حتى نغرس ونزرع فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخر الجبال تسير معه، وسخر لنا الريح لنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا ونواتجنا، ثم نرجع من يومنا، فلقد كان سليمان سخرت له الريح كما زعمت، فلست أهون على ربك من سليمان داود، وأحْيي لنا قصي بن كلاب جدك، أو من شئت أنت من موتانا، فعيسى كان يحيي الموتى، ولست أهون عند الله من عيسى ابن مريم.
ولقد حكى القرآن الكريم فيما تكون من قبل عنهم مثل ذلك فقد قالوا:
(. . . لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا. . .)، إلى آخر ما تلونا.
وقد نزلت هذه الآية الكريمة: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا)، ولا نقول: إن أقوالهم التي رواها القرآن الكريم عنهم أم التي روتها كتب السنة هي السبب في نزول هذه الآية كما ذكر في أسباب النزول، أم أن الآية الكريمة جاءت لتحقيق معنى في القرآن لا يوجد في غيره من الأمور الخارقة للعادة، فالآية الكريمة تبين أن القرآن أعلى من(8/3951)
كل ما ذكروه وطلبوه من آيات لولا أنه من طبيعة غير طبيعتها، ومنهاج غير منهاجها، وهو أبقى وأخلد، فما يطلبون هو حوادث تنقضي بانتهاء وقتها، أما القرآن فباق خالد إلى يوم الدين، يتحدى الأجيال كلها شامخًا عاليًا أن تأتي بمثله، كما تلونا من قبل: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88).
يقول تعالى: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى)، أي لو ثبت أن قرأنًا يقرأ ويتلى سيرت به الجبال، فانتقلت من أماكنها، وانفسحت عن شعابها لتتسع رقعة للزرع والغراس، أو قطعت الأرض فتشققت - لا تكون منها بحار تجري فيها المياه، أو يكلم به الموتى بمعنى أنه يحييها، ثم يكلمها، وجواب الشرط محذوف يفهم من سياق القول، وهو لكان هذا القرآن، ولكن الكلام لَا يسير الجبال، ومع ذلك فهو أقوى تأثيرًا، وكان يمكن أن يؤثر في قلوب المشركين بأشد من ذلك، لولا أن عنادهم حجر قلوبهم، وكما قال سبحانه: (لَوْ أَنزَلنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. . .)، ولكن القلوب التي سكنها الشرك والكفر، وهي كالحجارة أو أشد قسوة، بل لله الأمر جميعا، الإضراب للانتقال بين هذا إلى بيان أن اختيار المعجزات من أمر الله، وله وحده كل الأمر. ويقول تعالى: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا)، فسر كثير من المفسرين أن ييئس هنا بمعنى لم يعلم، وساقوا شواهد من العربية للدلالة على ذلك، وفسرها الزمخشري بذلك، وبجواز أن تكون ييئس بمعنى اليأس، وهو اليأس من إيمان المشركين، ويزكي هذا قوله تعالى بعدها: (أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاس جَمِيعًا)، ولنترك الكلمة له فهو يقول رضي الله تعالى عنه: " ومعنى (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) أفلم يعلم قيل هي لغة قوم من النخع، وقيل إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمينه معناه؛ لأن اليائس عن الشيء عالم بأنه لن يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك لتضمن(8/3952)
ذلك، قال سحيم بن وئيل الرباحي: (أقول لهم بالشعب، إذ ييسرونني، ألم ييئسوا أني ابن فارس زهدم. . .) إلى أن قال: (يجوز أن يتعلق (أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ) بآمنوا، على مععنى أولم يعتظ من إيمان هؤلاء الكفرة (لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا).
ومعنى الكلام الأخير، أفلم ييئس الذين آمنوا من إيمان الكافرين، ويعلموا أن لو يشاء الله لآمن الناس جميعا.
وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَيْأَسِ) الفاء للإفصاح عن شرط مقدر مؤداه أن تكون المعجزة في هذا المقام من الإعجاز، يقول الذين كفروا غير معتدين بها، فلم ييئس الذين آمنوا من إيمانهم، والاستفهام لإنكار الوقوع أي للمعنى، ونفي النفي إثبات، والمعنى ييئس الذين آمنوا من أن يهتدوا، ويعلمون أن لو شاء الله لهدى الناس.
والمعنى لو شاء الله إيمان الناس جميعًا لآمنوا، ولكنه سبحانه وتعالى تركهم ليطهر المؤمن عن نيته، ويعلم الكافر عن ضلاله، وتركه الحق، ويكون الجزاء عقابًا أو ثوابًا.
وكان على الكافرين أن يرجعوا عن غيهم، ويسيروا في طريق الرشاد، فالقوارع تنزل بهم قارعة بعد قارعة، أو تحل قريبا من دارهم؛ ولذا قال تعالى: (وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ) القارعة: الكارثة الداهية أو الشديدة التي تقرع حسا قرعا، تنبههم إلى ما هم فيه من الضلال، فمن لَا ينهه الدليل والبرهان، ولا يجديه البرهان لَا يتنبه بالعقل، بل لابد من الشده تقرع حسه، وكان الإقدام قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - إن لم يقتنعوا وعائدوا ينزل بهم ما يزيل ديار، أو ريح صرصر، أو غرف، وغير ذلك مما يبيد خضراءهم، وتبقى من بعدهم من اتبع النبيين، أما محمد، فإن رسالته، باقية خالدة، لَا يؤثر في اتجاهها كفر من كفر، ولكن يغالب الكفر بالإيمان، ليكون من بعدهم من يعبد الله تعالى، ويدعو إلى ربه؛ ولذلك كانت القوارع التي تقرع حسهم، ليست(8/3953)
إبادة، ولكنها مغالبة، ودفع الفساد، فالقارعة التي تصب الكافرين هزيمة منكرة، تنزل بهم كالتي نزلت بهم ببدر، والخندق، وكأحد فقد رجعوا فيها إلى حنين من الغنيمة بالآيات، وإن كان المسلمون توجهوا بهم قرع، وكان تعليما، وتوجيها، كما قال تعالى: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مثْلُهُ. . .)، لكن قرحهم كان هزيمة، وقرح المؤمنين لم يكن انهزامًا ولا فرارًا.
فالقارعة هي الهزيمة لَا تزال تصيبهم مرة بعد أخرى، أو تحل قريبا من دارهم، في السرايا التي يبثها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان يبقيها النبي - صلى الله عليه وسلم - حول مكة تدعو إلى الله، وتنذرهم، حتى كان صلح الحديبية، وبه أمنوا على أنفسهم، وأخذ الناس يدخلون في دين الله في مكة وغيرها.
وتلك القوارع، والسرايا التي تحل قريبا من دارهم، حتى يأتي وعد الله بالنصر الحاسم، وأن تكون الكلمة للإسلام في البلاد العربية وما وراءها، وهذا معنى قوله تعالى: (حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِن اللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ).
وإن المشركين كانوا يستهزئون بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في إبان نصرته، كانوا في إبان مقامه في مكة، وهم يحسبون أنه في قبضة أيديهم والله ناصره، وخاذلهم، ألم ترهم يقولون بعد حديث هرقل لهم في سؤاله عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لقد أَمرَ أمر ابن أبي كبشة ".
وقد بين الله تعالى أن النبيين استهزئ بهم كما استهزئ به، فإن من لَا يدرك الحق يهزأ به، ومن استغرقتهم المادة يستهزئون بأهل الحق، والعالي والروح؛ ولذا قال تعالى:(8/3954)