الإشارة هنا إلى الذين كذبوا آيات الله، واستكبروا معرضين عنها متجاوزين، والإشارة إلى الموصوف بصفات فيها إيماء إلى أن هذه الصفات هي السبب في الجزاء، فهذا الاستكبار، وذلك التكذيب هو السبب في هذا العقاب وهو دخول النار، وتخليدهم فيها، وأنهم لَا خروج لهم منها، وقد أكد - سبحانه وتعالى - خلودهم في النار بمؤكدات ثلاثة أولها - القصر، فقد قصرها عليهم بتعريف الطوفين، وتعريف الطرفين من أنواع القصر، فالمعنى أولئك وحدهم هم أصحاب النار، ثانيها - أنهم أصحاب النار أي الملازمين لها ملازمة الصاحب لصاحبه. ثالثها - التأكيد بضمير الفصل، إذ يقول سبحانه: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) وتقديم (فيها) في معنى قصرهم على النار، أي أنهم فيها لَا في غيرها خالدون.
وقد بين - سبحانه وتعالى - ظلم أولئك المكذبين للرسل المفترين على الله تعالى وما يكون لهم يوم القيامة فقال تعالت كلماته:
* * *(6/2829)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ ... (37)
* * *
بعد أن بين الله الذين اتبعوا هدى الله، وما منحهم الله من فضله من اطمئنان وأمن ورحمة، وذكر الذين شقوا فكذبوا بآيات الله تعالى واستكبروا - وصف بعض أفعال المكذبين الكافرين ومآلهم، فقال: إنهم افتروا على الله الكذب، وهم بذلك ظالمون، وكذبوا بآياته، وذلك ظلم ثان عظيم، فقال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كذِبًا أَوْ كذبَ بِآيَاتِهِ).
الاستفهام هنا إما للتعجب أو للإنكار، وعلى الأول يكون المعنى: أي ظلم أفحش وأشد من الكذب على الله تعالى، والافتراء عليه، بهذا أمر من شأنه التعجب منه، وإما على كونه للإنكار فيكون إنكار للواقع للتوبيخ على هذا الذي وقع منه، والتعجب أو الإنكار من أمرين: أحدهما - الافتراء على الله، وهو الكذب عليه عن جهل قاطع للحق، والثاني - تكذيب الآيات، وإن الافتراء على الله تعالى قد وقع من بعض، فمنهم حرم بعض الطعام الطيب ونسب ذلك إلى الله تعالى، ومنهم من زعم أن الملائكة بنات الله تعالى، ومن زعم أن الأوثان(6/2829)
تقرب إلى الله تعالى، فكل هذا افتراء عليه - سبحانه وتعالى - عما يقولون علوا عظيما.
وهذا ظلم عظيم بذاته يتعجب منه ويستنكر، والظلم الثاني التكذيب بآياته، ومعناها ألا يأخذ بما يهديه إليه من معجزات باهرات، وآيات في الكون ظاهرات، ومنها آيات توجب الإيمان بها إيمانا بالرسائل الإلهية كآيات التكليف التي أنزلها الله تعالى على رسله، وعلى رأسها القرآن الكريم.
وهنا إشارتان بيانيتان:
الأولى - قوله: (افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا). . " افترى " هنا معناها قال قولا مخترعا له لم يكن له أصل وهو كذب في ذاته، فالمعنى أنه في حقيقته كذب، قد اخترعه أو افتراه كما في قوله: (. . . إِفْكٌ افْتَرَاهُ. . .).
الثانية - في التعبير بأو بدل الواو، وهي للترديد، وهي تشير أن الافتراء على الله بمثل ما ذكرنا من اتخاذ الولد، وغير ذلك من المفتريات ظلم فاحش يستنكر ويتعجب منه، فليس الاستنكار منهما مجتمعين، بل من كل واحد منهما منفردا، ومجتمعا.
بعد ذلك بين الله تعالى ما يترتب على افترائهم وتكذيبهم، فقال تعالت حكمته: (أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهم مِّنَ الْكِتَابِ) الإشارة هنا إلى أولئك الذين ارتكبوا أشد الكذب نكرا، وأفحشه كفرا، وكما ذكرنا هذه الإشارة تفيد أن ذلك الوصف هو سبب ذلك الحكم عليهم.
و (الْكِتَابِ) المراد به عند بعض المفسرين ما كتب لهم في الدنيا من رزق، وما مكنوا منه من متع وما ينالون من مكاسب ومن سلطان، ومن بعد ذلك يأخذهم الله تعالى أخذ عزيز مقتدر، ولذلك ختم قوله تعالى بقوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَوْنَهُمْ) فهذا الذي ينالهم هو في الحياة الدنيا، وذلك كقوله: (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)، ومثل قوله تعالى:(6/2830)
(وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)، وهذا توجيه قول الذين فسروا الكتاب بما كتب في الدنيا من رزق، وما كتب لهم من أجل. ولكن يرد على هذا التعبير بـ (يَنَالُهُمْ) لَا بـ " ينالون "، فالرزق والمتع إذا كانت هي المكتوبة ينالونها، وهذا يخالف التعبير بـ " ينالهم " إنما نيلهم بأمر يكون عقابا لهم لَا متعة ينالونها ويقترفونها.
ولذا نرى أن الكتاب الذي هو كتب لهم في الآخرة من حساب وعقاب، إذ يجدون كتابهم قد سجلت فيه أعمالهم وينالهم هذا النصيب من الكتاب الذي سجل ما فعلوا، والتعبير بـ " نصيبهم " من الكتاب تعبير دقيق يصور عدل الله تعالى فنصيبهم من العذاب هو نصيبهم في أعمالهم، فجزاؤهم مشتق من أعمالهم، فكل نفس تجزى ما كسبت أي جزاؤها من كسبها، فلولا ما كسبت ما عذبت، فعقابهم جزاء وفاق لعملهم.
وإن ذلك الكتاب الذي سجلت فيه أعمالهم يأخذهم بنصيبهم منه من وقت قبض أرواحهم، ولذا قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يتوفَوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ).
" حتي " هنا على قول من يقول: إن النصيب هو الأرزاق والمتع والآجال تكون بمعنى " إلى " أو للغاية، أي أنهم يتمتعون بما كتب لهم حتى تجيء إليهم رسل الموت، الملك عزرائيل ومن معه فيما كلفه الله تعالى إياه، وكان جمع " الرسل " لهذا ومن قال - وهو ما نختار - أن الكتاب ما كتب عليهم من أعمال تنالهم بالعذاب عليها - تكون " حتي " تفريعية أي مبينة تفريعًا العذاب من أول نزولها بإحصائها عليهم من أول لقائهم في الآخرة.
يقول لهم رسل الله تعالى التي تقبفأرواحهم: (أَيْنَ مَا كنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) أي تدعون دعاء عباده تشركون بالله بهم، والاستفهمام هنا للتعجيز والتوبيخ والتبكيت، وتذكيرهم بسوء ما كانوا في دنياهم يفعلون.(6/2831)
وكقوله تعالى: (يَتَوَفَوْنَهُمْ)، أي يفيضون أرواحهم وقد توفوهم نصيبهم من الحياة الدنيا وبقي ما ينالهم من حساب وعقاب في الحياة الآخرة.
ويكون جوابهم ما عبر الله عنه بقوله: (قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ).
فالوا: (ضَلُّوا عَنَّا)، أي غابوا غيبة من لَا يستطيع أن يعودوا منها، وبذلك ثبت عجزهم وثبت لهم بهذا الإقرار أنهم لَا يستطيعون أن ينفعوهم أو يضروهم وفى هذا اليوم العصيب الذي استقبلهم، (وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) الشهادة هنا إقرار وحكم على أنفسهم أنهم كانوا في حياتهم الدنيا كافرين بالحق وبالله وحسب ذلك دليلا عليهم، وعلى استحقاقهم كل عقاب ينزله الله تعالى بهم.
* * *
(قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
* * *
أشار - سبحانه وتعالى - إشارات بينات واضحات إلى ما أغرق فيه المشركون أنفسهم في الدنيا، وبين - سبحانه وتعالى - طغيان أنفسهم، وفساد عقولهم،(6/2832)
وضلال تفكيرهم، وفي هذه الآيات يذكر - سبحانه - عاقبة أمرهم وهي دخولهم في مجتمع أهل النار فقال تعالى:(6/2833)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38)
(قَالَ ادْخلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ).
القائل هو الله تعالى ولم يصرح به بجوار الفعل؛ لأنه مذكور دائما في الأفهام وفي القلوب فلا حاجة إلى ذكره (ادْخلُوا فِي أممٍ) " فى " هنا قيل: إنها بمعنى " مع "، أي ادخلوا مع أمم قد خلت أي مضت من قبلكم في النار، ونحن نرى أن " في " معناها الظرفية كأصل وصفها، وإدخالها في هذه الأمم فيه إشارة إلى أنها وليست غيرا عنها، والمعية قد توهم المغايرة، ولا مغايرة بل هم أمم في ذواتهم، وهم أمة واحدة في كفرهم، فإن فرقتهم الأجيال فقد جمعهم الضلال وجمعهم العقاب، والتكذيب لآيات الله تعالى، والمعاندة لأحكامه.
وقوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم)، أي مضت قبلكم منتحلة ما انتحلتم، مكذبة ما كذبتم من الحق والآيات، كاذبة على الله وغير مصدقة لآياته، ومستكبرة عنها.
وهذا النص يفيد أولا - أن الكفر كله ملة واحدة لَا تفريق بينها، فالباطل قد جمعها والعقاب قد وحدها، ويفيد ثانيا أنه يتسلسل في الأجيال جيلا بعد جيل، وبعد تفرقهم في الأجيال تجدهم قد التقوا في النار جميعا، وإن تنظر إلى تاريخ الملل والديانات الإنسانية تجدها أحيانا تتلاقى في نوع واحد من الكفر، فتجد مثلا عقيدة التثليث في الاعتقاد المزعوم من آلهة ثلاثة يوجد عند المصريين وعند البراهمة، وعند البوذية وعند الأفلاطونية الحديثة التي قبست من البرهمية والبوذية. . وعند النصارى الذين اتبعوا بولس، وقد قبسوها من البرهمية الذين قالوا في " كرشنة " ما قاله هؤلاء في يسوع عند بولس، وقبسوها أيضا من كلام البوذيين في بوذا، فنحلوه ليسوع في زعمهم، ثم قبضوا القبضة الكبرى من الأفلاطونية، وسموا ذلك نصرانية بعد أن انحرفوا عن المسيح - عليه السلام - الذي علمهم التوحيد واعتنقوه حتى غيروا وبدلوا.(6/2833)
وهكذا نجد فكرة وثنية عمت أجيالا، وكذلك عبادة الأوثان سيطرت على اليونان والرومان والعرب في عصر واحد.
فإذا كانت هذه الأجيال والأمم من الإنسان والجن فإنها تدخل النار جميعا، يلحق التابع المتبوع، وقد جمعهم الشرك بالله تعالى ووحد بينهم العقاب، ولذا يقول - سبحانه وتعالى - يوم القيامة: (ادْخُلُوا فِي أُمَم قَد خَلَتْ مِن قَبلِكُم)، أي مضت من الإنس والجن، والنار متسعة للجميع.
و" مِنْ " في قوله تعالى: (مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ) بيانية لبيان شمولها الضالين من الجنسين، الجن أتباع إبليس والإنس الذين أضلهم.
وفى هذا المجتمع الجهنمي يكون التابع والمتبوع، ولقد ذكر الله - تعالى - ما يكون بينهما في ذلك المحشر:
(كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ).
إن الله - تعالى - ذكر تلاحق هذه الأمم التي ضلت، وكان ضلالها واحدا، أو متقاربا مختلفا في شكله، متحدا في معناه؛ إذ كله وثنية وإشراك بالله تعالى، وكفر بالحقيقة الإلهية، وضلال أي ضلال في فهم حقيقة خالق الوجود ومنشئه، وقال تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا) التي دخلت معها، أو التي سبقتها، وذلك يدل على النفرة التي تكون بينهما، فإن من أشد العقوبات النفرة النفسية بين المجتمعين في واحد، ويدل أيضا على أن الاتحاد في عقيدة ضالة جعل واحدا من المتحدين يلغيها ويلعن من يعتنقها، لأنه يحسب أنه هو الذي سهل دخولها عليه، ثم يلعن الأتباع المتبوعين؛ ولذا قال تعالى: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكوا فِيهَا جَمِيعًا) أي تلاحقوا فيها جيلا وراءه جيل، وسلفا وراءه خلف وآباءً وراءهم أبناءُ.
قال المتأخر للمتقدم، أو التابع للمتبوع: (هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا) وعبر الله تعالى عن ذلك بقوله: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ).(6/2834)
أي أن الأخلاف قالوا عن أسلافهم أعطهم يا رب العالمين عذابا مضاعفا عنا لأنهم هم الذين اتبعناهم فأضلونا، فالعرب كانوا يقولون نتبع ما كان عليه آباؤنا، أو نتبع ما ألفينا عليه آباءنا - فكانوا ضالين بضلالهم والضِّعف هو المثْل، والمعنى اجعل لهؤلاء الذين أضلونا عذابا زائدا بمقدار الضعف المماثل لعذَابنا وكأنهم يريدون أن جريمتهم جريمتان: إحداها ما فعلوه وفعلناه، والثانية أنهم أضلونا فعليهم وزر مثل وزرنا وعليهم وزر آخر؛ لأنهم أضلوا. وقد رد الله قولهم بأنهم فعلوا مثل ما فعل أسلافهم فكانوا مضلين لمن بعدهم كما أضلهم من سبقوهم.
وكذا قال تعالى: (قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لَا تَعْلَمونَ).
أي يقول لهم رب العزة لكل منكم أنتم التابعون والمتبوعون ضعف من العذاب مثل العذاب الذي نزل بكل منكم؛ لأن كلا منكم ضال ومضل، فالخلف ضلوا بسلفهم وأضلوا من بعدهم، فإذا كان منطقكم أن يزيد من أضل على من ضل فأنتم أضللتم ولكن لَا تعلمون سريان الفساد من جيل بعد جيل، وكل يضل من بعده.
وإن الترامي بالضلال يتبادل بين التابع والمتبوع، وكل تابع هو متبوع لمن بعده، وقد ردت الطائفة الأولى على من بعدها فقالت:
* * *(6/2835)
وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
(وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
* * *
وأولاهم هي المتبوعة أي هي السلف، والثانية الحلف، وهذه معان نسبية فكل جيل يكون طائفة أولى لمن يليه وتكون ثانية بالنسبة له، وهكذا تتعاقب الأجيال، وتتطارح الوزر، كل تطرحه على من سبقها والجميع. في ضلال مبين.
(وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) و " من " هنا للاستغراق أي ليس لكم علينا أي فضل يخفف العذاب، أو يوجب أن يثقل العذاب علينا فوق عذابكم؛ فأنتم ضللتم كما ضللنا والعذاب للضلال والعناد أو الكفر وقد شاركتمونا في ذلك، وإذا كنا قد أضللناكم واتبعتمونا في ضلالنا، فقد أضللتم غيركم، واتبعوكم في ضلالكم كما اتبعتمونا.(6/2835)
و " الفاء " في قوله تعالى: (فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ) تفصح عن شرط مقدر تقديره مثلا، فإذا كنتم قد ضللتم مثلنا، فما لكم علينا أي فضل يخفف لكم أو يزيد علينا.
ثم يسوق - سبحانه وتعالى - على لسان أولئك المتنابزين قولهم: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كنتُمْ تَكْسِبُونَ) " الفاء " لعطف ما بعدها على ما قبلها، وقوله تعالى: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ)، أي ادخلوا في النار ذائقين لها محسين بآلامها، وعبر عن ذلك بالذوق، للإشارة إلى شدة آلامه، ومتاعبه.
وقوله تعالى: (بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)، أي بسبب ما كنتم تكسبون من ظلم وعبث وفساد، فهذا هو الأصل في سبب العقاب، وكل امرئٍ بما كسب رهين، لا فرق في دْلك بين ضال، ومضل، ما دام قد وقع كلانا في الضلال مختارا، ما دام له عقل يدرك وما دام قد أنذرته الرسل، وقامت بين يديه البينات، فإذا كان قد اتبع من قبله فعليه إثمه، وقد جاءه الهادي الرشيد، فلم يتبعه.
وقريب من هذه المراجعة بين التابعِ والمتبوع قوله تعالى في سورة أخرى:
(. . . وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32).
وقد وصف الله تعالى في بيان أن العذاب بالكافرين لَا مناص منه، فقال تعالت كلماته:
* * *(6/2836)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
(إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)
* * *
السماء في الحس المكان الذي يجيء منه المطر، والخير والبركات، ولقد جعل الله تعالى السماء موطنا لذلك، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. . .) وعندما يدعو الإنسان الله تعالى يتجه(6/2836)
إلى السماء ضارعا، والله تعالى لَا مكان له؛ لأنه منزه عنه والسماء لأنها علو يتجه الناس إليها، لأنهم يريدون العلو، ويبتغونه، وإن المشركين الذين يكذبون بآيات الله لَا يكون لهم رجاء؛ ولذا قال تعالى: (إِن الَّذِينَ كذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ).
يلاحظ أن الله تعالى قال: (كذبُوا بِآيَاتِنَا)، قد عدى التكذيب بالباء، وهو يتعدى بنفسه، فيقال: كذبت هذا القول وكذبت هذا القائل، وكذبت الآيات كذلك، ولكن هنا تعدت بالباء، كما في الآية السابقة، وذلك لتضمن التكذيب معنى الكفر، فالمعنى كذبوا رسلنا كافرين بآياتنا، واستكبروا عادلين أو متجاوزين عن اتباعها.
ذكر الله تعالى للكافرين بآيات الله تعالى جزاءين:
الجزاء الأول - أنه لَا تفتح لهم أبواب السماء، والمعنى في ذلك يحتمل أمورا يصح أن تراد كلها، الاحتمال الأول: أن المراد أن تغلق أبواب الرحمة في الآخرة، وعبر عن ذلك بأبواب السماء؛ لأن الرحمة تكون في كثير من الأحيان من السماء، فالشمس فيها، وهي مصدر النور والحرارة، والنجوم وبروجها، والقمر وضياؤه، ومنها المطر الذي يكون غيث ورحمة، وذكر أبواب السماء إشارة إلى أنهم سدوا على أنفسهم كل مصادر الرحمة والغفران؛ لأنهم سدوا كل سبل الخير على أنفسهم في الدنيا، فحق عليهم هذا في الآخرة. الاحتمال الثاني: أن يكون المراد أرواحهم، فأرواحهم لَا تفتح لها أبواب السماء، بل تغلق دونها؛ لأنها أرواح خبيثة نتنة يتقزز منها أهل السماء والأرض إذ تكون أعمالهم الخبيثة قد أفسدت فطرتها.
والاحتمال الثالث: أعمالهم، فلا تتفتح لها أبواب السماء؛ لأنها في بعثهم يجزون عليها، وإننا نرى أن تفتح أبواب السماء، لَا يكون لهم؛ لأنهم لَا يرحمون ولا يغفر لهم، وأرواحهم خبيثة وأعمالهم لَا ترفع إلى علو السماء بل تهبط إلى أوهاد الأرض، والمراد في كل الأحوال ألا تنالهم رحمة السماء.(6/2837)
الجزاء الثاني - أنهم لَا يدخلون الجنة وأن ذلك مستحيل عليهم، كاستحالة دخول الجمل في سم الخياط؛ ولذا قال عز من قائل: (وَلا يدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ).
أي أنهم لَا يمكن أن يدخلوا الجنة؛ لأنهم لم يعملوا لها، بل كان عملهم لجهنم، وشبه استحالة ذلك باستحالة دخول الجمل بضخامته في سم الخياط، والخياط هو ما يخاط به، وهو (الإبرة) وسمِّها هو ثقبها الضيق الذي لَا يدخل فيه إلا الخيط الرفيع، وليس مُيَسرا.
فهذا حكم الاستحالة كما يقول الرجل لامرأته: أنت طالق إذا قبضت على الشمس، فهذا نفي مؤكد للطلاق؛ لأنه علق على مستحيل.
وكذلك هنا في المعنى لَا يدخلون إلا إذا ولج، أي دخل الجمل في ثقب الخياط، وذلك مستحيل، فلن يدخل الجنة إلا إذا تحقق هذا المستحيل ولن يتحقق، فهو نفي مؤكد لدخولهم، وبيان استحالته عليهم، وإذا لم يدخلوا الجنة، فإنهم يدخلون النار، وإنها للجنة أبدا، وللنار أبدا، قال تعالى:
(وَكذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ).
الواو واصلة هذا الكلام السامي بما قبله، والتشبيه معقود ما بين عذابهم، واستحالة الرحمة بهم، وبين ما أعده الله تعالى بالنسبة لكل من يجرم ويأثم في حق الله تعالى، والمعنى فهذا الجزاء الذي علمتموه يجزي الله المجرمين، والإجرام ارتكاب الجريمة وهي بمعنى المعصية والذنب، بيد أن في لفظها إشارة إلى الاعتداء على غيره، فالمعاصي قسمان معاصٍ هي الآثام، ولا يتعدى فسادها صاحبها ابتداء، وإن كان شيوع الفساد يضر بالرأي العام فيتعدى انتهاءً، ومعاصٍ تتضمن ابتداء معنى الاعتداء كالقتل والقذف والسرقة، وغير ذلك من المعاصي التي تتعدى ابتداء.(6/2838)
ولقد فصل الله القول في عذاب الكافرين المكذبين لآيات الله تعالى:
* * *(6/2839)
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
(لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
* * *
المهاد: المكان الممهد للإقامة فيه، كما قال تعالى: (أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)، وكما قال تعالى: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا).
وأحسب أن التعبير عن جهنم بأن لهم مهاد منها فيه نوع تهكم، أي أنه تعالى مهّد لهم جهنم بدل الراحة التي كانت لهم في الدنيا، بتمهيد الأرض يتمتعون من خيراتها.
وغواش، جمع غاشية وهي الغطاء، وغطاؤهم هنا نار موقدة، فبعد أن كانوا يلتحفون بالرياش، ويفترشون الوسائد، صار مهادهم جهنم، وغطاؤهم نار مشتعلة تشتعل عليهم، (. . . كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودَا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ. . .).
وخلاصة المعنى أن مهادهم أو فراشهم نار، وغطاءهم نار، والنار تحيط بهم يلتفون فيها وتشوى بها جباههم وجنوبهم، وكل أجسادهم، ولا منفذ منها إلا إليها، فلا يخلصون منها أبدا، وإن ذلك جزاء من كذبوا بآيات الله كافرين بها ظالمين، ولذا قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).
أي كهذا الجزاء الذي جازى الله تعالى به الذين كذبوا بآياته واستكبروا، شأن الله تعالى في جزاء الظالمين، فهو العادل القادر الذي لَا يظلم أحدا.
والتعبير هنا بالظالمين، وفي الآية السابقة بالمجرمين؛ لأن الوصفين متحققان فيهما، فهم أجرموا في حق المجتمع فأفسدوه؛ وظلموا أنفسهم، وظلموا الحقائق بما ارتكبوا من معاصٍ، وتعدوا الحدود، ومن تعدى حدود الله فقد ظلم نفسه، وكان ما ينزل بهم يوم القيامة جزاء وفاقا لما ارتكبوا، والله تعالى يتغمدنا بعطفه ومغفرته.
* * *(6/2839)
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
* * *
وبعد أن بين - سبحانه وتعالى - ما ينزل بالمشركين أو الكافرين، عموما أخذ - سبحانه تعالى - يبين في مقابله ما يناله المؤمنون من جنة ونعيم مقيم، وروح وريحان وزوال للأحقاد وغل للأنفس، وذلك نعيم فوق كل نعيم، ولذا قال تعالى:(6/2840)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسا إِلَّا وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الواو هنا عاطفة، عطفت جزاء الصالحين على جزاء الكافرين من مشركين وكتابيين وصابئين ومجوس وغيرهم من براهمة وبوذيين.
وبالموازنة بين الجزاءين، يتبين الفرق بينهما في الآخرة كالفرق بينهما في الحياة الدنيا، فجزاء الآخرة هو ثمرة ما وقع في الدنيا، إن خيرا فخيرا وصف الله تعالى المؤمنين بوصفين هما صلة الموصول، الأول بقوله تعالى: (آمَنُوا) أي اعتقدوا اعتقادا جازما مع الإذعان لكل ما طالب به الله تعالى، وأحبوا الله تعالى، وقدموا أنفسهم له سبحانه:(6/2840)
الوصف الثاني ما عبر عنه - سبحانه وتعالى: (وَعَمِلُوْا الصالِحَاتِ) أي كانت ثمرة إيمانهم واضحة في أنهم صاروا قوما صالحين والصلاح وصف يقتضي أن يكون نافعا، وصالحا في ذات نفسه، ليس في قلبه فساد، ولا يسيطر عليه هواه، وأن يقوم بالعمل الصالح من طاعة لله تعالى في أوامره ونواهيه، فلا يعصي الله تعالى، ولا يرتكب ما نهاه عنه، ولا يتخاذل عن القيام بما أمر به.
ولا تجد في آيات الذكر الحكيم ذكر جزاء المؤمنين إلا كان هذان الوصفان الإيمان والعمل الصالح مذكورين معا فإن العمل ثمرة الإيمان، وغصونه، والشجرة تتغذى من الغصون، كما تتغذى من الجذر، فالعمل يثبت الإيمان، ويغذيه ويقويه.
وقد ذكر - سبحانه وتعالى - الجزاء، وهو خبر الموصول، فقال: (أولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) الإشارة إلى المتصفين بهاتين الصفتين، وهما صلة الموصول، وذكرهما دليل على أنهما سبب هذا الاستحقاق، وقد أكد الله تعالى استحقاق الذين آمنوا وعملوا الصالحات للجنة بقصرها عليهم، وذلك بتعريف الطرفين، وبضمير الفصل " هم " فهم أصحابها الملازمون لها، وأكدها لهم بخلودهم فيها، والله تعالى ذو المن والإكرام.
وقد ذكرت جملة معترضة بين متلازمين، وهما المبتدأ في قوله تعالى:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا)، والخبر في قوله تعالى: (أولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ).
وكانت هذه الجملة التي توسطت بين هذين المتلازمين هي قوله تعالى: (لا نُكَلِّف نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) والوسع هو مما يمكن عمله بيسر وسهولة، كما فسر بذلك معاذ بن جبل - رضي الله تعالى عنه -، والمعنى لَا يكلف الله تعالى نفسا مؤمنة، واعترض بهذه الجملة السامية بعد كلمة " الصالحات "، لبيان أن القيام بالتكليفات الإسلامية سهل ميسر، وليس شاقا إلا على من عصى الله تعالى، فهو سهل في(6/2841)
ذاته، لمن تكون له إرادة، لم يخالطها الهوى، ولم تسيطر عليها الشهوة، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا " (1).
ولقد روت عائشة - رضي الله عنها: " ما خير النبي - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن معصية " (2).
وإن الله تعالى أنعم على المؤمنين يوم القيامة بهذا النعيم المقيم، وأنعم عليهم مع ذلك بنعمة المحبة، والرضا واطمئنان النفس؛ ولذا قال تعالى:
* * *
________
(1) سبق تخريجه.
(2) متفق عليه، وقد سبق تخريجه.(6/2842)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ... (43)
* * *
إن الجنة مكان طاهر مطهر اختاره الله تعالى سكنا لعباده الأتقياء الأطهار، وإنه في مقامه لأطيب من أحب مسكن يختاره في الدنيا، كما ورد في الأثر.
وإنه لطهارته كان من فيه جميعا في طهارة كاملة حسية ومعنوية، طهارة الأبدان وطهارة القلوب التي في الصدور، وإن أشد ما يدرن القلوب الغل والحسد، والأحقاد الدنيوية، فإنها أمراض تصيب القلوب، لتجعل الإنسان في هم مستمر، وعذاب مقيم، فكان من مقتضى النعيم الذي أنعم الله به على الأبرار أن يتم عليهم نعمته بأن يكونوا في نعيم في قلوبهم، كما أن أجسامهم في نعيم؛ ولذا قال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ).
ونزعنا: أي استخرجنا، والنزع أقوى من الاستخراج، لأن النزع إخراج ما هو متأشب (3) بالقلب لَا يسهل إخراجه، ولكن الله تعالى ينزعه نزعا، ويبقى القلب مصقولا بنور المحبة والمودة، فيتحابون ويتوادون، ولا يتباغضون، ولقد قال
________
(3) من التأشب، وهو التجمع من ههنا ههنا. لسان العرب - أشب.(6/2842)
النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الغل على باب الجنة كمبارك الإبل قد نزعه الله تعالى من قلوب المؤمنين " (1).
ورد في بعض الآثار أن أهل الجنة إذا سيقوا وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان، فإذا شربوا من إحداهما ينزع الله ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم نضرة النعيم، فلم يشعثوا، ولم يشيخوا بعدها أبدا، ولقد قال تعالى: (وَسِيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا. . .).
هذا النعيم معنوي، وهناك نعيم حسي قال الله تعالى فيه: (تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ) أي أنهم في غرفات تجري الأنهار، وكأنها تجوس خلالها، فيكون منظر النهر العذب ينساب انسيابا، ومنظر الظلال والأشجار ينسرق (2) من تحتها الماء، ويرزقهم الله تعالى أمرا معنويا هو الاطمئنان إلى الهداية، وفيها إدراك ما وصلوا إليه بفضل الله تعالى، وقد حمدوا الله تعالى على ما وصلوا إليه في الدنيا، وأورثهم الله ثمراته في الآخرة، فيقولون ما حكى الله تعالى عنهم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ).
إن قولهم هذا سرور وفرح واطمئنان إلى الغاية التي آل إليها أمرهم، ويقول صاحب الكشاف في هذا: يقولون ذلك سرورا واغتباطا بما نالوا، وتلذذا بالتكلم به. . كما ترى من رُزق خيرا في الدنيا، يتكلم بنحو ذلك، ولا يتمالك أن يقوله للفرخ.
وقوله تعالى: (وَمَا كنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) أي ما كان من شأننا ونحن لَا نملك من أمرنا شيئا أن نرشد ونهتدي إلى الحق لولا أن هدانا الله تعالى،
________
(1) ذكره القرِطبى، والثعالبي في مستهل تفسيره لهذه الآية دون إسناد. ورواه البخاري بنحو: التفسير (6388) - (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ. . .).
(2) أي ينساب بخفاء وفتور.(6/2843)
و " لولا " يقول النحويون عنها: إنها امتناع لوجود، ومعنى ذلك لولا هداية الله لامتنعت علينا، فهو يملك كل أمورنا هو الذي وفقنا وهدانا وأرسل إلينا الرسل ْهداة مرشدين إلى الحق؛ ولذا قالوا: (لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
النداء لم يذكر فيه المنادى أهو من وحي الله تعالى في نفوسهم أم من الملائكة الأطهار، والميراث هو العطاء من الله تعالى، قد جعل هنا خلفا للعمل الصالح، فهو ملكية ثابتة بالخلافة عن العمل الدائم الذي كان مستمرا في الدنيا، وهذا قوله تعالى: (بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)، أي بالذي كنتم تعملونه مستمرين دائبين عليه ترجون رحمة الله وتخافون عذابه.
والتعبير بقوله تعالى: (أُورِثْتُمُوهَا) والميراث عطاء بغير عوض فيه إشارة إلى أن الله تعالى هو الذي جعل ذلك النعيم عطاء للعمل، فليس العمل وحده منتجا للعطاء، إنما هو يجعل النعيم ميراثا للعمل، والفضل في كل الأحوال لله تعالى صاحب المن والفضل، ولقد روى في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " اعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة قالوا: ولا أنت يا رسول الله؛ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " (1)، وقد روت عائشة أم المؤمنين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " سددوا وقاربوا وبشروا، فإنه لَا يدخل أحدا الجنة عمله " (2) اللهم اغفر لنا وارحمنا.
* * *
________
(1) متفق عليه، وقد سبق تخريجه، وهذا لفظ مسلم عن أبي هريرة.
(2) متفق عليه وقد سبق تخريجه.(6/2844)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
(وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ... (44)
* * *
إن الذين آمنوا بالبعث والنشور، والجنة والنار فرحون مغتبطون بأنه تحقق لهم وعد الله تعالى لهم بالجنة، وقد عاشوا فيها غير حاقدين ولا حاسدين،(6/2844)
حامدين الله تعالى على هدايتهم، وقد أرادوا أن يزدادوا سرورا باهتدائهم، وأن يعرفوا هذا الذي جاءهم وعد الحق، جاء مقابله للذين كذبوا بآيات الله تعالى واستكبروا عنها نالهم ما أوعدوا به من عذاب دائم خالد.
وقد نادى الملائكة مؤكدين إجابتهم التي لم يجدوا عنها حولا (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ).
أي أعلم معلم من الملائكة بينهم، أي بين الفريقين اللذين يتبادلان ذلك الحديث (أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)، أي أن الحال المستقر الثابت لعنة الله والطرد من رحمته ومن نعيم الجنة للظالمين الذين ظلموا أنفسهم بتضليلها وكفرها وظلموا الحق بالكفر به، وظلموا الآيات الإلهية بتكذيبها، وظلموا الناس بأفعالهم.
ومثل هذا أو فيما معناه، قوله تعالى: (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57).
ونلاحظ أن " قد " في قوله تعالى: (أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا) للتحقيق أن ذلك محقق لَا محالة وقد عرَّف الله تعالى الظالمين الذين استحقوا لعنة الله، فقال عز من قائل:
* * *(6/2845)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
(الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
* * *
هذا بيان للظالمين، فذكر - سبحانه وتعالى - لهؤلاء ثلاثة أوصاف:
أولها - (يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) أي يعرضون عنها، ويمنعون غيرهم منها، كالسخرية ممن يؤمنون، واستضعافهم والتشكيك في عقائدهم والغطرسة عليهم، وإيذائهم والاستخفاف بهم والإصرار على باطلهم، والتواصي بالباطل بينهم على مقاومة الهداة المرشدين وتهديدهم بالأذى، كما قالوا: (. . . وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ. . .)، وهكذا. وسبيل الله تعالى هي الصراط المستقيم الموصل إلى الحق فهم يصدون عنه، وكأنهم يقفون على رأس الطريق يمنعون من يدخل فيه، فهم يترصدون أهل الهدى، ويردونهم.(6/2845)
الوصف الثاني - (وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا)، وعوج: مصدر موصوف به، ويبغون يطلبون بشدة كأنها أمر هو بغيتهم التي يبتغونها، والمعنى يريدون الصراط المستقيم معوجة متعرجة سبلا للباطل. إن الفطرة تتجه نحو الاستقامة، فلا تطلب إلا المستقيم الذي لَا عوج فيه فهم يريدون تحويل فطرتهم وفطرة غيرهم عن طريقها، ويعبدون الأوثان، ويعلمون أنها لَا تضر ولا تنفع، ولكنهم يعوجون بها فيقولون (. . . مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. . .)، وهكذا يتركون كل مستقيم، ويريدون كل معوج، وذلك لسيطرة الأوهام عليهم، وتسلط الأهواء والشهوات، والعصبية والغطرسة والعنجهية الجاهلية فيهم.
الوصف الثالث - وهو الذي ذهب بهم في متاهات الضلال وقد ذكره الله - سبحانه وتعالى - بقوله: (وَهُم بِالآخِرَةِ كافِرُونَ) أي أنهم لَا يؤمنون بالبعث والنشور والحساب والعقاب، أو الثواب ويقولون: (إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).
وقد أكد - سبحانه وتعالى - كفرهم باليوم الآخر، وهو يبتدئ من البعث إلى أن توفى كل نفس ما كسبت بأن تنال جزاءها من النعيم أو الجحيم.
أكد كفرهم بعدة مؤكدات أولها - ذكر ضمير الفصل " هم "، فذلك - يؤكد الحكم، وثانيها - تقديم الجار والمجرور، وهو قوله تعالى: (بِالآخِرَةِ) على (كافِرُونَ) ففي ذلك تأكيد لكفرهم به، وثالثها - التعبير بالجملة الاسمية، فإنها تدل على استمرارهم على هذا الكفر، وأنهم جاحدون جحدا (لا مثنوية فيه) (1).
* * *
________
(1) لَا مثنوية فيه، ولا اسثناء بمعنى واحد، أي لَا تحلل منه، من المثنوية في اليمين.(6/2846)
(وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
* * *
أشار - سبحانه - إلى ما عليه أهل الجنة من نعيم روحي بنزع الغل من قلوبهم، ونعيم حسي بكون الأنهار تجري من تحتهم في ظلال الجنة، وما كان بين أهل الجنة والنار من نداء، وهنا يبين أن بينهما حجابا حاجزا لَا يمنع أن يصل صوت كل فريق إلى الآخر بدليل هذه المجاوبة، وقد قال تعالى في ذلك:(6/2847)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
(وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ) " وبينهما " أي بين أهل الجنة وأهل النار (حجاب) أي حاجز يمنع الاختلاط بينهما، والضمير في " بينهما " يعود إلى الفريقين: فريق الجنة، وفريق السعير، وقد قال الله تعالى في هذا السور الحاجز: (. . . فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ). وفي أعلى هذا المسور أعراف وهي جمع عرف وهو أعلى السور، فالعُرف أعلى الشيء ومن ذلك عُرف الديك وعُرف الفرس.(6/2847)
على أعراف هذا السور الحاجز رجال، وإن التعبير برجال يفيد أنهم ليسوا من الملائكة؛ لأن الملائكة لَا يعبر عنهم برجال فليسوا ذكورا ولا إناثا، ولكن من هم أولئك الرجال؟!.
اختلف المفسرون في ذلك على أقوال كثيرة، فروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم ناس استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عمن استوت حسناته وسيئاته فقال: " أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون "، ومع أن الحديث مقوى بنص الآية إذ نصها (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعونَ) ولكن قال ابن كثير وهو من أهل العلم بالروايات: إنه حديث مرفوع، ولكن فيه غرابة.
هذا قول، وهناك قول آخر، وهو أنهم ناس من أهل الفضل فرغوا من أعمالهم في الجنة، وأخذوا يتكلمون إلى الناس، ويتعرفون أمورهم، ويحكمون عليهم، وقد وقفوا على أطراف الصراط.
وقريب من هذا القول، قول من قال: إنهم قوم من المؤمنين نصبوا بفضلهم للشهادة على الناس، ومن بعد سنوازن بين القولين لنختار واحدا منهما.
ويقول الله تعالى في أوصاف أهل الأعراف: (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ)، و " كُلًّا " مضاف إلى محذوف، أي كل فريق من أهل الجنة وأهل النار بسيماهم، أي علاماتهم، فالسيما العلامة ويقولون: إن علامة أهل الجنة البياض، وعلامة أهل النار السواد، والله تعالى أعلم بسيماهم، وهم لَا يكتفون بموقف التعرف، ولكن ينادون أهل الجنة وأهل النار، ونداؤهم لأهل الجنة مقصود، لأنهم مقصودون بالتحية والتكريم، وأما أهل النار فهم غير مقصودين، ولكن بالصرف إليهم؛ ولذا قال تعالى: (وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ).
نادوا أهل الجنة مقبلين عليهم مهنئين مرحبين، ونداؤهم لهم (أَن سَلامٌ عَلَيْكُمْ) أن مخففة من أنَّ واسمها ضمير الشأن؛ أي أن حالكم وشأنكم سلام، أو أن قولنا لكم سلام، وهو تهنئة وأمن، ومشاركة لهم في سرائهم بالقول، وهذا(6/2848)
قريب من قوله تعالى: (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10).
وقوله تعالى: (لَمْ يَدْخلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ)، الضمير في قوله تعالى: (لَمْ يَدْخلُوهَا) يعود على أهل الأعراف وهو ظاهر السياق، وهذا يقتضي أنهم لم يكونوا قد تقرر لهم دخول الجنة، ولكن لأنهم لَا تنزل بهم سيئاتهم إلى جهنم، ولم تنهض بهم أعمالهم إلى الجنة يطمعون في الجنة، وإن هذا بلا ريب يعين في ترجيح أن أهل الأعراف هم الذين لم تنهض حسناتهم حتى يدخلوا الجنة ولم تحبطهم (سيئاتهم) إلى النار.
فهم يطمعون في الجنة، ويرغبون فيها، ولكن لم يدخلوا بعد فيها.
وإن ذلك هو التقسيم العادل الذي لَا يكون إلا من الله، وهو أنه بعد أن توزن السيئات والحسنات بميزان الله وهو الوزن يومئذ بالقسط، منهم من ترجح حسناته فيكون للجنة، ومنهم من ترجح سيئاته فيكون في النار وبئس المهاد، ومنهم من لم يرجح ميزانه.
وقد يرد على هذا أنهم في مكان من الأعراف، فظاهر أنهم فوق الفريقين، ونقول: إن علوهم ليروا الفريقين، لَا لمنزلة لهم فوق أهل الجنة.
وبعض العلماء يرى أن أهل الجنة لم يكونوا قد دخلوا الجنة بعد، فالضمير في " دخلوا " يعود إليهم، والحق أن ذلك ليس متسقا مع السياق؛ لأنهم صاروا أصحابها، ويقتضي ذلك أن يكونوا دخلوا فيها، والله تعالى أعلم.
إن أهل الأعراف يقصدون إلى أهل الجنة قصدا؛ لأنها مطمعهم، ولكن لا يلتفتون إلى أهل النار لأنهم لَا يريدون الاتجاه إليهم، ولكن قد تصرف أنظارهم إليهم؛ ولذا قال تعالى:
* * *(6/2849)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
(وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
* * *(6/2849)
" التلقاء " على وزن تفعال من اللقاء وهي هنا الناحية، و " صرفت " مبني للمفعول وجهل فاعله لعدم الحاجة إلى ذكر من صرفهم، إنما المراد أنهم صرفوا بوجوههم تلقاءهم غير عامدين ولا قاصدين ولا متجهين، فهم يقع نظرهم عرضا على أهل النار فيقع بصرهم تلقاءهم،
وذلك لطمعهم في الجنة، ورغبتهم في دخولها يتجهون إلى أهل الجنة عامدين مستبشرين راجين أن يكونوا معهم، أما نظرهم لأهل النار، فهو عرض صُرفوا إليه ولا يريدونه، والتعبير بقوله ئعالى: (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ) إشارة إلى أن أبصارهم وقعت على أهل النار، أو تلقاءهم من غير إرادة، بل هي إرادة مَن صرفهم.
وإنهم إذا وقعت أنظارهم رأوا هول ما فيهم، فإذا كانوا قد فرحوا عندما رأوا المؤمنين فهم عندما وقعت أنظارهم على أهل النار، اعترتهم رهبة، وخافوا على أنفسهم فقالوا: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
عندما يرون النار متأججة في الأجسام البشرية يأخذهم الهول، فيتجهون إلى الله تعالى قائلين: ربنا الذي خلقتنا وكونتنا، وقمت في الوجود علينا وأنت الحي القيوم لَا تجعلنا مع القوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم وظلموا الحق وكذبوا طاغين بالآيات، واستكبروا عن اتباع الأنبياء، وأنغضوا رءوسهم عن الحق إذ دعوا، لا تجعلنا مع هؤلاء، لَا تجعلنا في هذه النار مثلهم فقد عَتَوْا عُتُوَّا كبيرا، ودخلوا في عذاب أليم اللهم قنا غضبك.
هذا ما قاله أهل الأعراف لأنفسهم، وضرعوا إلى الله حماية لأنفسهم، ولم يصبوا بالملامة يوجهونها لأهل النار، وطمعهم في الجنة يلهمهم قول الحق.
* * *(6/2850)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
(وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
* * *(6/2850)
هذا الكلام موجه من أهل الأعراف لكبراء الشرك وزعمائه، الذين كانوا يعتزون بعصبيتهم وبأنهم أكثر وأعز نفرا، فإنهم كانوا يستكبرون عن أن يكونوا تابعين، وهم أهل الجاه الدنيوي، والكبرياء المادي، ينادونهم، لينبهوهم إلى ما يقولون لهم وقد قال الله تعالى في ذلك: (وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم).
نادوهم ليستمعوا إليهم في قول الحق، وقد كانوا ينادون أهل الجنة يعرفونهم بسيماهم، أما في هذه المرة، فينادون: (رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم)، التي لم تغيرها النيران وإن كَبتْهم وسودتهم، وذكر الرجال هنا للإشارة إلى أنهم يخاطبونهم فرادى تقريعا وتذكيرا بسيئاتهم متفردين عن غيرهم.
(قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكبِرُونَ).
قال لهم وقد عرفوهم وعينوهم: (مَا أَغنى عَنكُمْ جَمْعُكمْ)، وهو العصبية الجاهلية التي كانت تجمعهم على العناد والغطرسة، ويتعاونون لَا لإحقاق الحق، ولكن على الإثم والعدوان، ويدخل فيه قوة المال الذي يعتزون به والنفر الذي يستنصرون به ونظرهم لأنفسهم على أنهم أعلى من غيرهم واستكبارهم عن الإيمان بالآيات بتكذيبها.
ومن استكبارهم أيضا أنهم يرون أن أتباع النبيين ضعفاء فقراء عبيد فقط، كما قاله قوم نوح لنوح: (. . . وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأْيِ. . .).
فسألهم أهل الأعراف: هل أغنى عنكم هذا فلم يعذبكم الله تعالى، بل أنتم هؤلاء في الجحيم تذوقون عاقبة ذلك، تريدون النجاة ولا منجاة.
ويلتفت أهل الأعراف إلى أهل الجنة، فيجدون الضعفاء الذين كانت تزدريهم أعين هؤلاء الطغاة فيخاطبونهم وهم في النار بقولهم:
* * *(6/2851)
أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
(أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
* * *
هذا القول فيه بيان لمقام الإيمان، ودرك الكفر، لقد كانوا يسخرون منهم لفقرهم، ويحسبون أنهم أعلى منهم منزلة في الدنيا، فيجب أن يكونوا أعلى منزلة في الآخرة، وكانوا يقسمون بأن هؤلاء الفقراء أتباع النبيين لن ينالهم الله برحمة من عنده، أخذا من حال الفقر وازدرائهم التي كانوا عليها في الدنيا.
فأهل الأعراف رأوهم في الجنة، فقالوا لأهل النار مشيرين إلى الضعفاء في الدنيا، وهم في الجنة أقوياء مستمتعون: (أَهَؤُلاء الَّذينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ).
أهم الذين ترونهم رأي العين في رحمة الله تعالى في جنة الخلد، أهؤلاء والإشارة إليهم وهم في الجنة تجري من تحتهم الأنهار، (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ)، أن الله لَا ينالهم برحمة، والتنكير الذي جاء على ألسنتهم في الدنيا لتصغير الرحمة. أي أنهم أقسموا أن الله تعالى لَا ينالهم بأي رحمة مهما صغرت وضؤلت.
وذلك لأفن عقولهم، وضلال أفهامهم، إذ ظنوا أن من ينالون القوة والثراء في الدنيا هم الذين ينالونها في الآخرة إن كانت، وما كان قسمهم هذا إلا لازدرائهم، وتكريم الأنبياء لهم، ووعدهم بالثواب عند الله، وإن الله تعالى يجزيهم أحسن الجزاء فما كان قسمهم إلا تكذيبا للأنبياء الذين وعدوهم الحسنى في الآخرة، وإن هذا التوسل على لسان أهل الأعراف نذير لما كان من أهل النار في الدنيا وبيان أنهم في ضلال مبين، وقد كان ضلالهم بالعيان المحسوس، لا بالحدس المتلمس.
وقد وجهوا بعد ذلك الخطاب لأولئك ملتفتين إليهِم من التحدث عنهم إلى خطابهم فقالوا: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزنُونَ).(6/2852)
ادخلوا أيها المخلصون الذين أخلصوا دينهم، وصبروا وصابروا الجنة بما فيها من نعيم حسي، وراحة نفسية، وطلب الدخول هنا تقرير للدخول؛ لأنهم دخلوا فعلا، وما كان دخولهم بعد الطلب، إنما كان قبله، كما ترى إنسانا في أرض طيبة فينتفع وهو فيها، ويستحقها، تقول له: ادخلها وابق فيها.
(لا خَوْفٌ عَلَيْكُم) من شر يحيق بكم، ولا هم يغمكم، بل أنتم في رَوح وريحان، (وَلا أَنتُمْ تَحزنونَ) على الخير لكم، وحاضر نعيم، وسعادة، وقد نزع الله تعالى من قلوبكم الغل فأنتم تنعمون براحة البال والمحبة والتواد بينكم، فلا تنغص من حقد أو حسد، أو تباغض.
تنبيه: إن أهل الأعراف يحبسون عن دخول الجنة، ويرون ما عليه أهل النار، وما عليه أهل الجنة، ويقول. في ذلك الزمخشري في الكشاف: " فائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن التقدم والتأخر على حسبها، وإن أحدا لا يسبق عند الله إلا بسبقه في العمل، ولا يتخلف إلا بتخلفه فيه وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم، ولتصور أن كل أحد يعرف في ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشر، فيرتدع المسيء عن إساءته، ويزيد المحسن في إحسانه، وليعلم أن العصاة موبخهم كل أحد حتى أقصد الناس عملا ".
فإنك كما ترى أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة، وهم يطمعون فيها ومع ذلك كان فيهم ذلك التوبيخ والتنديد بالعصاة.
* * *(6/2853)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)
(وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ... (50)
* * *
انتهت المجاوبة التي كانت بين أهل الأعراف وأصحاب الجنة التي لم يدخلوها، وكانوا يطمعون فيها، وهي دلت على أن الأعمال هي تدخل الجنة، وأن التقاصر عنها هو الذي يدخل غيرها.
وإن أهل النار كانوا في لثمقاء، فعند أهل الجنة ما يشتاهون من لحم، وعسل مصفى، وحور عين، وأنهار تجري. . أما أهل النار ففي حرمان مطلق من كل(6/2853)
هذا، ولقد صورهم القرآن الكريم يتقدمون طالبين الماء وبعض هذه الخيرات؛ ولذا قال تعالى: (وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ) رادوهم مستصرخين من شدة العطش، وحرارة النار (أَنْ أَفِيضوا)، " أن " هنا تفسيرية، لأن المطلوب هو إفاضة الماء، فكان المعنى نادوهم: أفيضوا علينا الماء.
وإفاضة الماء التوسعة في إعطائه، ويبدو أن أهل الجنة كانوا في مرتفع تجري فيه الأنهار والعيون، وأهل النار في منحدر والماء يفيض من الأعلى إلى الأدنى، والمعنى لَا يمنعونه بسدود، حتى يفيض عليهم مدرارا، وينهمر أنهارا.
والماء أهم شيء للأحياء، والصدقة به أبر الصدقات، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أبر الصدقات فقال: الماء، وهل معنى هذا أن أهل النار كانوا محرومين من الماء حرمانا مطلقا؛ نقول لَا، بل كان عندهم، ولكنه حميم، وغساق يمزق الأحشاء فلم يكن عندهم النمير العذب الذي تجري به الأنهار وتنضح به العيون.
نادوهم، وفيهم آباء لمن ينادونهم، وأخلاء في الدنيا، ولكن الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو، فهي قطيعة بين أهل النعيم وأهل الجحيم قطعوها في الدنيا، فسجل الله تعالى عليهم ذلك في الآخرة.
ولقد طلبوا مع الماء شيئا مما هو عند أهل الجنة من طعام شهي، وفاكهة ورمان ولذا قالوا: (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) أي أعطاكم من خيرات من لبن سائغ للشاربين، وعسل مصفى، وخمر لَا غول فيها ولا يصدعون منها، طلبوا هذا، ولكن ذلك حرام عليهم، ولذا أجاب أهل الجنة وقالوا: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ).
قال أهل الجنة معتذرين عن عدم الإجابة، أو مقررين الوقائع التي غابت عن أهل النار تحت تأثير العطش الشديد، والحاجة الملحة إلى الطعام، وهو أن ذلك(6/2854)
جزاء الله تعالى، ووعده الذي وعدهم به وإن الله لَا يخلف الميعاد، قالوا لهم: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ) ذلك أن لكل نصيبه وجزاءه، وحسبكم ما تمتعتم به في الدنيا آثمين ظالمين كافرين بالحق مستكبرين عن اتباعه مكذبين لدعاته.
والتعبير بالكافرين إشارة إلى أن سبب الحرمان هو الكفر، ولا خلاص لكم مما كتب عليكم بأعمالكم.
* * *
(الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
* * *
هذا بيان للكافرين وأعمالهم في الدنيا، وقد ذكر - سبحانه - ما ينزل بهم في الآخرة، وأنهم في شقاء جهنم يطلبون الماء العذب فلا يجدونه، بل يجدون حميما وغساقا، ويطلبون الطعام، فلا يجدون إلا شجرة الزقوم.
وقد ذكر - سبحانه وتعالى - حالهم في الدنيا ليبين عدالة ما يستحقون في الآخرة، وأنه جزاء ما كسبوا. ذكر الله تعالى لهم وصفين خطيرين كانا السبب فيما ينالهم في الآخرة:(6/2855)
أولهما - أنهم اتخذوا دينهم لهوا ولعبا، ودينهم هو ما خوطبوا به من الرسل الذين أرسلوا إليهم، إذ هو الدين الذي طلبوا بالقيام بحقه، فأعرضوا عنه، واتخذوه لهوا وهو ما يلهيهم عن الحق، ويموِّهون به الباطل، ويتعابثون به على الرسل وأتباعهم وازدرائهم، وقالوا هم أراذلنا، فكل هذا ألهاهم عن الحق، ولم يفكروا أن الدلائل الموصلة بل فكروا في أهواء ضالة. واللعب هو الأعمال العابثة التي لم يكن لها حد مقصود بل ترفع إليه أهواء جامحة كشربهم الخمر ولعبهم بالميسر، واتخاذهم القِيان (1)، وانغماسهم في حياة عابثة.
ثانيهما - أنهم غرتهم الحياة الدنيا بزخرفها، وشهواتها، وما ينالون منها، وظنوها الحياة التي لَا حياة بعدها، فاغترارهم بهذه الحياة جعلتهم ينكرون البعث، ويقولون: (. . . أَئِذَا كنا تُرَابًا أَئا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. . .).
ولقد كانوا يتهكمون على هذه العقيدة، ويقولون متهكمين لاعبين: أرجع آباءنا، أرجع قُصَيًّا؛ فإنه رجل خير. . . وهكذا كانوا يعبثون بالحقائق؛ وذلك لأنهم قوم ماديون، لَا يؤمنون بالغيب، ولا يؤمنون إلا بما يرون ويحسون. وقد نسوا الله تعالى، ونسوا مقدرته في هذا الوجود، فكان أن تركهم كما تركوه.
ولذا قال تعالى:
________
(1) القيان جمع قينة، وهي الجارية المغنية.(6/2856)
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
(فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) النسيان على الله تعالى لَا يجوز، لأنه - سبحانه - لَا يغفل عن شيء قلَّ أو جَلَّ، وكل شيء عنده في كتاب أحصاه لَا يتخلف عن علمه شيء، وأريد بالنسيان لازمه، وهو الترك بل بعض علماء اللغة يقول: إن الأصل في معنى النسيان هو الترك، والمعنى في قوله تعالى: (فَالْيَوْمَ) الذي تجزى فيه كل نفس بما كسبت نتركهم في جهنم يريدون الماء فلا يجدونه إلا في حميم، ويطلبون الطعام، فلا يذوقون إلا طعام الزقوم.(6/2856)
وقد ذكر - سبحانه وتعالى - أن ذلك في مقابل أمرين أو عقاب لأمرين: أولهما - أنهم نسوا لقاء يومهم هذا مع كثرة النذر، ومع إرسال الرسل، ومع أنه يوجبه منطق الحياة، وأن الله تعالى لم يخلق الإنسان سدى، يأكل ويلعب كالحيوان، إنما هو مخلوق مدرك، وأن الدنيا فيها الخير والشر، وأنه لَا بد للخير من أن ينتصر، ولا بد للشر من أن ينهزم، وأنه يتناسب مع علو مكانة الإنسان في هذه الأرض.
ثانيهما - ما كانوا بآياتنا يجحدون " ما " هنا على تقدير الكاف، وهي معطوفة على قوله تعالى: (كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا)، أي أن الله تعالى نسيهم، كما نسوا لقاء يومهم هذا، وكما كانوا بآياتنا يجحدون، وجحود الآيات إنكار ما تدل عليه من دلائل التوحيد، ومعاندتهم لله تعالى، وتكذيبهم لأنبيائه، فكان نسيان الله تعالى لهم وتركهم في جهنم يصلونها، من مقابل نسيانهم، وجزاء لجحودهم.
والله على كل شيء قدير.
ولقد بين الله - سبحانه وتعالى - أنه ما تركهم هملا من غير كتاب يعلمهم ويهديهم ويرشدهم، فقال تعالى.
* * *(6/2857)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
(وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
* * *
ما تركهم رب العالمين سدى من غير هاد ولا مرشد، بل أعذر إليهم بإنزال كتاب قد فصله على علم بما يدل عليه من عظات، وما يوجههم إليه من آيات، فقال تعالى: (وَلَقَدْ جِئْنَاهم بِكِتَاب) أكد مجيء الكتاب لهم بـ " اللام " و " قد "، وقد عبر بأنه جاء إليهم ولم يقل أنزل عليهم؛ لأنه نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - والرسول جاء به إليه على أنه معجزته الكبرى، وكلام الله تعالى الذي خاطبهم هم والأجيال القادمة إلى يوم القيامة، فالمراد من الكتاب القرآن، وجاء نكرة ومقامه التعريف؛ للإشارة إلى فخامته، وإلى أنه كتاب لَا يتسامى إلى مثله كتاب.(6/2857)
ويقول تعالى: (فَصَّلْنَاهُ) بيناه ووضحناه، وأتينا بفصوله كاملة على علم بل اشتمل عليه من معرفة بالشرائع وأخبار النبيين، وتنبيه إلى أن يكون القرآن وآياته، للدلالة على وحدانية الله تعالى لَا شريك له، وذلك كقوله تعالى: (. . . كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)، ولقد قال تعالى في آية أخرى: (. . . أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ. . .).
وقد وصفه - سبحانه وتعالى - بوصفين جليلين:
أحدهما - أنه (هُدًى)؛ وذلك لأنه معجزة هادية إلى الحق وصدق الرسول، وكل ما يشتمل هداية ببيان الشرائع والأحكام، وما فيه مصلحة الناس في معادهم ومعاشهم، وما فيه تنظيم جمعهم، والسير بهم في سبيل الخير.
وثانيهما - أنه (رَحْمَةً) لما فيه من أحكام كلها نفع وخير للمجتمع وفيها العدالة، وهي الرحمة الكاملة بالمجتمع، وفيه الأمانة وفيه شرعية القتال، وفيه رحمة ودفع للفساد، (. . . وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251).
وإن رحمة الله وهدايته وعلمه لَا تؤتي أكلها إلا في قلوب مؤمنة غير جافية فهي التي ينبت فيها زرع الخير ويؤتي أكله؛ ولذا قال تعالى: (لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
أي لناس من شأنهم الإيمان بالحق إذا جاءهم، ومن شأنهم الإذعان للحقيقة، يؤمنون بها إذا عوفوها، وهناك قلوب جافية طمس عليها، هي غلف لا يدخلها النور، ولا تصل إليها الهداية، وهذه ليس من شأنها أن تؤمن، ولو جاءتها الأدلة واحد بعد الآخر؛ لأن عليها غشاوة تمنع وصول النور، فالذين يجدون الرحمة والهداية في القرآن هم الذين من شأنهم الإيمان بالحق إذا جاءهم؛ ولذا عبر بالمضارع الدال على الاستمرار، والله تعالى أعلم.(6/2858)
لقد كفر المشركون والكفار من أهل الكتاب، وانتظروا تحقيق ما يدل عليه من بعث وحساب وعقاب وثواب؛ ولذا قال تعالى:
* * *(6/2859)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ... (53)
* * *
إن الكفار من وثنيين وكتابيين لم يؤمنوا بالقرآن، ولا بما اشتمل عليه، يوجه الله تعالى إليهم سؤالا استنكاريا فقال: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأوِيلَهُ)، و " النظر " هنا بمعنى الانتظار كقوله: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ منَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وِإلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ).
والاستفهام هنا إنكاري لنفي الوقوع، والمعنى لَا ينتظرون إلا تأويله.
والتأويل هنا معرفة المآل والعاقبة، أي لَا ينظرون إلا أن يروا مآلهم وعاقبتهم، لقد أنكروا البعث وأنكروا الحساب والعقاب، فهل ينتظرون أن ينزل ذلك بهم واقعا لا فكاك عنه، حيث يأتيهم ما أنكروه من بعث، وحساب ومن ذلك عقاب وثواب. وإن تأويل القرآن كما قال ربيعة: لَا يزال يجيء آنًا بعد آنٍ، فكل خبر فيه يتحقق حتى يجيء الخبر الأكبر، وهو البعث والنشور والحشر والميزان، والصراط وما أخبر به مما ينكرونه، ولا يؤمنون به.
وعلى ذلك لَا تكون كلمة التأويل مرادا بها التفسير، إلا أن يراد هذا التفسير الواقعي الذي يكون يوم القيامة، وإنه عندم يجيء ذلك المآل الحق يتذكر الناسون، ويتنبه الغافلون، ويرون لنا عيانا ما أنكروه في الدنيا جهارا؛ ولذا قال تعالى: (يَوْمَ يَأتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)، أي الذي نسوا تأويل الكتاب من قبل أي وهم في الدنيا متذكرين قد ذكرتهم الزواجر وقرعت حسهم العقوبات (قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ)، أي ور جاءت هذه الرسل منذرة ومبشرة داعية إلى الحق، ولتتميم قولهم وعاندناهم وجحدنا بالآيات(6/2859)
وكذبناها. ويقرون الآن بالحق الذي أنكروه فَيَنُصُّون على أن الرسل جاءوا بالحق، أي الأمر الثابت الذي لَا يرد ولا ينكر، وأحسوا بغفلتهم عنه في الدنيا وأن العذاب واقع بهم لَا محالة، فيتجهون إلى طلب الشفعاء، فيقولون؛ (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا).
" الفاء " هنا لتفصل ما اعترى نفوسهم في هذا الهول، ومع أن الله قد قال في كتابه عن هذا اليوم لَا يُقبل فيها شفاعة ولا عدل، مع ذلك طلبوا الشفعاء، أو رجوا أن تكون ثمة شفاعة، فقالوا: (فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا)، و (من) هنا لاستغراق الطلب، والمعنى هل يوجد لنا من شفعاء أي شفعاء كانوا، سواء أكانوا أولياء أم كانوا أعداء ولو شامتين، ولكنها أمنية لَا تتحقق؛ ولا يمكن أن تتحقق؛ لأن الله تعالى نفي ذلك في الدنيا، وهو لَا يخلف موعده.
ولأنهم يئسوا من أن يكون لهم شفعاء قالوا أمرا آخر وهو أن يردوا إلى الدنيا، فيعملوا غير الذي عملوا فيقولون: (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ).
ولكنهم إذا عادوا إلى الدنيا سيطرت أهواؤها وغرتهم بغرورها فكانوا كما هِم، ولقد قال الله تعالى في آية أخرى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28).
ولقد ختم الله تعالى الآية بتسجيل الخسارة عليهم، وتخلي أوليائهم عنهم فقال عز من قائل: (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ).
أكد الله تعالى خسارتهم بقيد، فقد خسروا في ذات أنفسهم إذ ضلوا، والضلال خسارة للنفس، وخسروا أنفسهم فأوقعوها في الهلاك الذي يكون يوم تأويله، وخسروا الحق فكانوا من المبطلين، وخسروا أيضا أولياء لهم يناصرونهم، ولذا قال تعالى: (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي غابوا غيبة منقطعة لَا يعرفون أين هم، وهم الأوثان التي كاتوا يفترونها، فخسروا خسرانا مبينا، وعبر - سبحانه(6/2860)
وتعالى - عن الأصنام بما كانوا يفترونه؛ لأنهم لَا وجود لهم إلا في افترائهم، فصنعوها بأيديهم، وأضافوا عليها افتراء من عند أنفسهم معاني العبودية فكان ضلالهم كبيرا.
* * *
آيات الله في الكون
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
* * *
بعد أن ذكر الله تعالى حال الكافرين يوم القيامة، وحال المؤمنين وبين حال كفرهم في الدنيا الذي تأدّى بهم إلى العذاب في الآخرة.
أخذ يبين - سبحانه وتعالى - آياته في الكون التي تدل على أنه الواحد الأحد؛ لأنه الذي خلق الكون كله، والمشركون من العرب كانوا يعرفون ذلك، ويؤمنون به (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ. . .)، ولكنهم كانوا يعبدون الأوثان ويقولون. (. . . مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَربُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. . .).
ولقد قال تعالى:(6/2861)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ).(6/2861)
إن ربكم الذي خلقكم وبرأكم أخرجكم من بطون أمهاتكم هو الله - جل جلاله - وكمل كماله، الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام، و " ستة " أصلها " سدسة " فقلبت الدال تاء وأدغمت في السين فصارت ستة؛ ولذا تجمع على " أسداس "، ومنه الوصف " السادس " جريا على مقتضى الأصل لبنية الكلمة. وقد أكد الله - سبحانه وتعالى - ذلك بـ " إنَّ " الدالة على التوكيد وذكر لفظ الجلالة الذي يكسوا الكلام مهابة وجلالا، و " رَبَّكُم " مبتدأ، ولفظ الجلالة هو خبر القول، وقد وصفه الله (1) - سبحانه - بأنه الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام.
فما هي هذه الأيام، إن اليوم الذي نعرفه هو الذي يتم بدورة الأرض حول الشمس مرة، وهو يبتدئ من الغروب إلى الغروب، ولا يمكن أن يكون ذلك قبل السماوات والأرض، وخلق الشمس والقمر والنجوم، قال بعض المفسرين: إنه ألف سنة كما قال تعالى: (. . . وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كألْفِ سَنَةٍ ممَّا تَعُدُّونَ). وإن الذي يقدح في ذهني أن اليوم هنا هو دور التكوين للسماوات والأرض، وقد أشار - سبحانه وتعالى - إلى ذلك بشكل يبين أدوار خلق السماوات والأرض، فقال تعالى:
(قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12).
ونستطيع أن نحصي الأيام الستة من هذه الأدوار؛ فالأرض والسماوات السبع قضاهن في يومين، إذ قال: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرضِ
________
(1) أي وصف الخبر، وهو لفظ الجلالة.(6/2862)
ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ. . .)، وهما اليومان نفسهما الذي قضى فيهما الأرض.
ثم كانت الأرض، كون - سبحانه وتعالى - القشرة الأرضية وجعل فيها رواسي، وبارك فيها، وقدر أقواتها، وجعل من الماء كل شيء حي فيها، وكان ذلك في أربعة أيام سواء للسائلين.
فنحن نرى أن الأيام الستة هي أدوار التكوين الذي قدره الله تعالى في خلقه، وهو العزيز العليم، وهو الأعلم بخلقه بعد أن خلق الله - سبحانه وتعالى - السماوات والأرض في ستة أيام أي في ستة أدوار كونية، ذكر - سبحانه وتعالى - أنه يدير أمرها ويشرف على وجودها، ويسيرها في مدارجها، فقال تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ).
العرش: يطلق على كرسي الحكم كما في قوله تعالى: (. . . نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا. . .). وما قال تعالى عن يوسف - عليه السلام: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْش. . .).
واستوى بمعنى استقر، والعلو على هذا العرش.
ويقول علماء الكلام: إن للعلماء في مثل هذا النص السامي (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) منهاجين: أحدهما يفسر، فيقول: إن معنى استوى استولى على عرش هذا الوجود، وصار له السلطان الكامل فيه، لأنه مالك كل شيء، ولا شيء لغيره فيه، فهو المالك وحده. والثاني يفوض، فيقول: إن الله ذكر أنه استوى على العرش، فنؤمن بذلك ولكن لَا نحاول أن نبحث عن مدى هذا المعنى، كما قال الإمام مالك - رضي الله عنه: " الاستواء معلوم والكيف مجهول، والسؤال عن ذلك بدعة "
فهو يرى أننا نؤمن بالحقيقة، ولا نسأل عن كيفها، ونؤمن بنزاهة الله، فننزهه عن أن يكون له مكان، فإن ذلك شأن الحوادث، والله تعالى لَا يماثل(6/2863)
الحوادث في شيء، كما قال تعالى: (. . . لَيْسَ كمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير).
وإنه ليبدو لنا غير مفتاتين، ولا مدعين، أن قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) تعبير مجازي، قصد به استيلاء الله تعالى على حكم هذا الذي خلقه فهو تشبيه سلطان الله تعالى فيما خلق من السماوات والأرض وما بينهما وتدبيره لهما، وتسييره أمرهما - بمن يستوي على عرش ملك يدبره ويسير أمره، ولله - سبحانه وتعالى - المثل الأعلى في السماوات والأرض.
بعد ذلك وجه الأنظار إلى ما يجري بين الناس كل يوم من ليل ونهار، شمس وقمر ونجوم مسخرات بين السماء والأرض، فقال عز من قائل: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ أي يجعل الليل غاشيا للنهار؛ لأنه ظلام، والظلام هو الذي يغشى النور، وذلك في الحس، فالظلام يجيء ويستر النور، والنور يعقبه، وكل ذلك في ترتيب مستمر، وكان كل واحد منهما يطلبه حثيثا (1)، ولا يتخلف، لَا الليل يسبق النهار، ولا النهار يسبق الليل كما قال تعالى: (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
وقوله تعالى: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) أي خلقهما، فـ " الشمس " معطوفة على " السماوات والأرض " - في يومين، وقوله تعالى: (وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) أي خلق الله - سبحانه وتعالى - النجوم مذللات بأمره، تسير في مداراتها كل نجم يسير في مداره باستمرار بأمر الله تعالى، وهذا يدل عليه قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا. . .)، فكل شيء يسير بأمر الله تعالى، وهو على كل شيء قدير.
________
(1) حَثِيثًا أي مُسْرِعا حَريصا. لسان العرب - حثث.(6/2864)
وقد أكد هذا المعنى بقوله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْق وَالأَمْر تَبَارَكَ اللَّه رَبُّ الْعَالَمِينَ).
" ألا " للتنبيه، وهي كثمرة، لما ذكر - سبحانه وتعالى - من أمر خلق الكون، وما يسير عليه فله وحده الخلق ولو الإنشاء والتكوين، والآمر فيه والسلطان عليه والمسير له والمدبر لبقائه، لَا إله إلا هو الحي القيوم.
فتبارك الله تعالى وعلت بركته - سبحانه وتعالى - على هذا الوجود، وهو أحسن الخالقين. وأفعل التفضيل ليس على بابه، أي أنه - سبحانه وتعالى - خلقه خلقا هو الكمال في الحسن والتنسيق، ولا خالق سواه حتى يقال أن خلق الله تعالى أحسن من خلقه! إنه عزيز حكيم.
* * *(6/2865)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
* * *
كان الأمر بالدعاء بعد أن بين أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، وأن الله صاحب السلطان فيها، والأمر بالدعاء يشمل دعاء الله تعالى وعبادته وحده سبحانه، فقال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً).
ادعوا ربكم: اعبدوه، فالدعاء مخ العبادة. ادعوه وحده؛ لأنه ربكم الذي خلقكم، ويربكم ويربيكم، ويدبر أموركم، ولا تدعوا مع الله أحدا، وادعوه تضرعا، أي في ضراعة وخضوع وتذلل إلى الله - سبحانه وتعالى - وخُفية " أى في خفاء مستترين غير مجاهرين، ولا معلنين، فإن الإعلان قد ترفقه برياء، وإن الله لَا يقبل الدعاء إلا أن يكون له وحده، فالعبادة له - سبحانه وتعالى - وحده لا يشاركه فيها أحد.
والدعاء كما قلنا يشمل العبادات من صلاة وصوم وأدعية فيها ذكر الله كثيرا، وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أمر الله تعالى بأن يكون الدعاء خفية، وإن جهر لا يكون بإعلان وضجة، فقد روى البخاري عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا ارتفعت أصواتنا،(6/2865)
فقال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ " (1).
وإن المأثور عن الصحابة والتابعين أنهم كانوا يدعون الله تعالى، ويعبدونه متسترين إلا ما يكون في جماعة، ولقد كانوا وهم في أعمالهم يدعون الله تعالى بالتوفيق والعمل الصالح، حتى وهم في المجاهدين يدرعون بالصبر، والالتجاء إلى الله تعالى ورجاء رحمته ونصرته، وهم في خيرهم يتسترون ولا يجهرون، لأن الستر يجعله خالصا لله، مخلصين له الدين، روي عن الحسن البصري أنه قال: " إن كان الرجل قد جمع القرآن وما يشعر به أحد، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزَّوْرُ وما يشعرون به، ولقد أدركنا أقواما ما كان مع الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدا، ولقد يجتهدون في الدعاء، وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم؛ وذلك أن الله يقول: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)؛ وذلك أن الله ذكر عبدا صالحا وحكى عنه فقال: (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا).
وكان الدعاء " خفية " ذا فضل عظيم، لأنه مناجاة الله، وكأنه يُودع ربه سرَّه وعلانيته، وهو مظهر المحبة، وهو بعيد عن كل رياء، ولأن النية مطلوبة قالوا: إن الإشارة في الدعاء إلى السماء ليست مطلوبة، ونحن نقول:
إن الدعاء الخفي أفضل من الدعاء الجلي، بيد أن الدعاء بالجهر قد يكون مطلوبا كالتلبية، وفي هذه الحال تجوز الإشارة بالأيدي لأن ذلك انفعال ضارع. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ويشير بيديه (2)، وقالوا: إنه كان يدعو وهو
________
(1) متفق عليه؛ رواه بهذا اللفظ البخاري: الجهاد والسير - ما يكره من رفع الصوت في التكبير (3992)، ومسلم بنحوه: الذكر والدعاء (2704). عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(2) من ذلك ما رواه البخاري: الحج - إذا رمى الجمرتين (1751).(6/2866)
على ناقته، فإذا مالت أخذ بزمامها بيد، واستمرت يده الثانية الكريمة ممتدة بالدعاء (1).
ويختم سبحانه الآية الكريمة بقوله: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).
إنه - سبحانه وتعالى - لَا يحب الذين يعتدون، أي يتجاوزون الحدود المحدودة عليهم، فيعتدون على غيرهم، أو يتجاوزون الأمور المفروضة عليهم، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، فتعدى الحدود أمر لَا يحبه الله تعالى، وقد يكون حراما، كالاعتداء على حق غيره، وقد ذكروا أن ذكر الاعتداء عقب طلب الدعاء يدل أن الاعتداء قد يكون في الدعاء.
والاعتداء في الدعاء كأن يقضي وقته كله في دعاء، ولا يقوم بواجب الحياة، كأولئك الذين ينقطعون للعبادة ويتركون أمر الحياة ولا يدبرون أمرها، فذلك اعتداء في الدعاء، وقد جىء برجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: هذا عابدنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ومن يؤكله، قالوا: أخوه يؤكله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أخوه خير منه. وكأولئك الذين ينقطعون في الزوايا، أو ما يسمونه الخانقاه، بحسبان أنهم يدعون الله تعالى ويعبدونه، فإن ذلك اعتداء في الدعاء وتجاوز لحد المطلوب، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " سيكون قوم يعتدون في الدعاء " (2). ولعله سبحانه ينبئ بهؤلاء.
ولقد ذكر القرطبي وجوها في الاعتداء في الدعاء منها:
الجهر الكثير والصياح، ومنها أن يدعو الإنسان في أن تكون له منزلة نبي أو يدعو في محال، ونحو هذا من الشطط، ومنها أن يدعو طالبا معصية، ومنها أن يدعو ما ليس في الكتاب والسنة.
________
(1) رواه النسائي: مناسك الحج - رفع اليدين بالدعاء في عرفة (3011).
(2) رواه أحمد: مسند العشرة - مسند أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص (1486)، وأبو داود: الصلاة - الدعاء (1480).(6/2867)
وفى بعض هذه الوجوه نظر، فالدعاء بطلبه المعصية معصية وليس بدعاء يدخل في باب العبادة، وتجاوز المراتب الإنسانية شطط وليس بدعاء.
والله تعالى لَا يستجيب إلا لما يكون حقا، ولا يقبل من الدعاء إلا ما يكون خالصا لله، ولا يكون قاطعا عن الحياة ومطالبها، فإنه لَا رهبانية في الإسلام.
ويقول - سبحانه - في عمارة الأرض والدعاء مع الإصلاح:
* * *(6/2868)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
(وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
* * *
ذكرنا أن من الاعتداء في الدعاء، أن ينصرف عن العمل في الدنيا كاسبا متكلا على الدعاء كما يفعل الرهبان، وإنما يجب مع ذكر الله أن يندمج مصلحا في الأرض منتجا مثمرا فإن ذلك فيه إرضاء لله؛ لأن فيه خيرا للعباد ونفعا لهم، و " خير الناس أنفعهم للناس " (1).
وإن الله تعالى في وسط الأمر بالدعاء نهى عن الإفساد في الأرض، ويتضمن ذلك العمل فيها بالإنتاج والإنماء يقوله تعالى: (وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا).
إصلاح الأرض: خلقها صالحة لأن يعيش عليها الإنسان في زرعها وغرسها، ومستمتعا بكل حلالها وطيباتها، وقد أرسل الرسل منذرين ومبشرين، وهداة إلى الحق ومصلحين وعاملين للخير.
وإفسادها إشاعة الظلم، وإفساد ما تنتج، والتعدي التعاون على الإثم والعدوان وقطع الأشجار وحرق الثمار، وجاء في القرطبي (تجارة الحكام من الفساد في الأرض).
________
(1) سبق تخريجه.(6/2868)
ونرى أنه قد جاء النهي عن الفساد، ولم يجئ الأمر بالإصلاح؛ وذلك لأن الله تعالى تولى جعل الأرض صالحة لأن يعيش فيها أهلها آمنين مطمئنين بأن جعلها مهادا، وجعل الجبال أوتادا، وأنزل من السماء ماء فأخرج به ثمرات كل شيء: أخرج به حبا متراكبا، وغروسا ذات ثمار يانعة، فهو - سبحانه وتعالى - تولى ما به صلاح ذات الأرض، وأرسل الرسل تصلح ما بين الناس بالحق، وأجرى على أيديهم شرائع تهديهم إلى الرشاد، وتأخذهم إلى الحق إن استقاموا على الطريقة، وإذا عرفنا معنى الإصلاح الذي كان من الله تعالى في الأرض، عرفنا معنى الإفساد الذي يكون بعد الإصلاح الأزلي الذي قرره الله تعالى فيكون الإفساد تخريب العامر، وقطع القائم وإهلاك الحرث والنسل، وتعطيل شرائع الله، وإشاعة الأخلاق الفاسدة، وإثارة الغرائز الفتاكة والقاتلة لكل فضيلة بين الناس، وفتح باب الرشا وأكل السحت.
وقوله: (بَعْدَ إِصْلاحِهَا)، تقرير لواقع الأمور؛ لأن الفساد لَا يكون إلا تقويضا لصالح، وإنه في وسط تلك المعرفة القائمة بين الصلاح والفساد، مع الامتناع عن الثاني يكون الالتجاء إلى الله تعالى؛ ولذا قال تعالى: (وَادْعُوهُ خَوفَا وَطَمَعًا).
أي ندعو إليه - سبحانه وتعالى - بدعاء: ربكم الذي خلقكم ويكلؤكم بعنايحَه وتدبيره وحكمته (خَوْفًا وَطَمَعًا)، أي خائفين من مغبة أعمالكم في الحياة (الدنيا)، ومن آثارها في اليوم (الآخر)، وطامعين في غفرانه ورحمته التي وسعت كل شيء رحمة وفضلا. فمعنى (خَوْفًا) أي خائفين من عذابه، و (طَمَعًا) أي طامعين في غفرانه - وإن الله تعالى يقرن رجاءه بخوفه، ورحمته بخوف عذابه.
قال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50).
وقدم - سبحانه وتعالى - الخوف على الطمع؛ بأنه يجب على المؤمن أن يغلب الخوف على الرجاء؛ لأن من غلب الخوف على الرجاء أمن(6/2869)
واحترس، وسار على الصراط المستقيم آمنا، وإن غلب الطمع، ربما انساق وراءه، وإذا انساق ربما سار في غير الطريق السوي.
ولقد قرب الله تعالى رحمته لعباد، فقال: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّه قَرِيبٌ منَ الْمُحْسِنِينَ).
المحسنون هم الذي أجادوا أعمالهم في الدنيا، وبلغوا بها الكمال الإنساني، وبالغوا في أداء واجبهم، وزادوا عليه وأطاعوا ربهم في كل ما أوجبه عليهم وألزمهم به.
ورحمة الله غفرانه (ذنوبهم)، والإنعام عليهم، وأن يكتب لهم الثواب بففمل منه وكرم، وقد قال تعالى في دعاء الأبرار:
(وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156).
وقوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ منَ الْمُحْسِنِينَ) فيها إشارة إلى أن الله تعالى يعطي رحمته لمن يستحقها بغير حساب، ومن غير تسويف، والمسافة بين الرحمة وطالبها قريبة إن قدم لها العمل الصالح وعدم الإفساد.
وهنا بحث لفظي، يقول الله تعالى: (قَرِيبٌ) على أنها خبر لرحمة، وهي مؤنث لفظي لحقته التاء، وكان مقتضى السياق اللغوي أن يقول " قريبة " بدل " قريب ".
خرج بعض النحاة ذلك على أن (رحمة) مؤنث مجازي، ولا يلزم في خبره التأنيث، بل يجوز فيه التذكير.
وبعضهم قال بتقدير مكانها، فقال السياق: " وإن رحمة الله مكانها قريب " أي أنها سهلة في الوصول إليهم؛ لأنه كلما قرب المكان كان الوصول إليها أسهل.(6/2870)
وخرج آخرون بأن الرحمة متضمنة معنى الثواب أو الغفران، وهو مُذكَّر.
وهذه وغيرها تخريجات نحاة ليستقيم إعرابهم، أما كلام الله فهو فوق طرائق إعرابها وهو سليم منزه عن أي عيب بياني.
* * *
(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
* * *
بين الله تعالى آياته في الكون كيف خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وبين - سبحانه وتعالى - وجوب الضراعة من بني الإنسان كما يسبح له كل ما في الوجود، وإن كنا لَا نفقه تسبيحهم، (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ)، وفى هاتين الآيتين: يعدد - سبحانه - على الإنسان ما سخر له في الأرض، فقال عز من قائل:(6/2871)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)
(وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) " الواو " هنا عاطفة على قوله تعالى: (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا)، أي أنه وقد أنعم بنعمتي الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات أنعم بالماء يسقي الأرض فتنبت نباتا طيبا، وهو - سبحانه وتعالى - الذي يوزعه في الأرض، على حسب حاجة كل بلد إليه، وتوزيعه عادل صالح يحي الأرض بعد مواتها.
(وَهُوَ) الضمير يعود على الله تعالى جل جلاله، وتعالى كماله، يثيرها سبحانه، ثم يرسلها بقدرته (بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)، أي أمام رحمته مبشرة(6/2871)
الناس بأن السماء ستمطر، والمطر غيث يغيثهم، يشربون منه، وينبتون به زرعهم ويسقون به أنعامهم، وغرسهم، ويجنون به ثمارهم، فهي بشرا لهم، مبشرة لهم برحمة من الله ويكون المطر. وبشرا: جمع بشير، كقُلب جمع قليب، وأصلها " بُشُرًا "، وسكنت للتخفيف، وهناك قراءة بالنون، لَا بالباء، وبضم الشين، أي (نُشُرًا) (1)، وهي جمع ناشر، كما أن شهدًا جمع شاهد، والمعنى أن الرياح تنتشر، مبشرة بأن السحاب سيمطر مطرا يكون غيثا، وحول هاتين القراءتين قراءات أخرى يبلغ عددها سبعا، والفرق بينها في الكلمة، ولا يؤثر اختلافها في مضمونها.
وهي تكون منتشرة معلمة بالبشرى بالماء الذي يحيي الأنفس، ويحيي موات الأرض.
ويقول سبحانه في تحقيق البشارة: (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا) حتى ثارت هذه الرياح فبخرت البحار فتكون منه الماء، وحملت السحاب، وتكاثفت الرياح. .
و (أَقَلَّتْ) أي حملت، ولا تقال كلمة (أَقَلَّتْ) بمعنى " حملت " إلا إذا كان سحابا ثقالا أي ممتلئة ماء.
وسحاب اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين مفرده بالتاء أو بياء النسب كتمر، وتمرة، وبقر وبقرة، وعرب وعربي، وروم ورومي. والثقال جمع ثقيل.
امتلأت السحاب بالماء، وحملتها الرياح، ولم تنزل حيث كانت، بل إن الله تعالى المنعم الموزع لرحمته لَا ينزلها إلا في مواطن الحاجة إليها على ما مضت به حكمته، وعلى مقتضى علمه - سبحانه وتعالى - فهو الحي القيوم المدبر للوجود، ولأهل الأرض (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي سقنا السحاب، فالضمير يعود إليها، وهي تذكر وتؤنث، فأوما - سبحانه وتعالى - إليها مذكرا. ساق: تتعدى بـ " اللام " وتتعدى بـ (إلى)، ومعنى سوقها دفعها، وتعديتها باللام هنا لمعنى الاختصاص
________
(1) قرأها: (نُشْرًا)، بضم النون ابن عامر، و (نَشْرًا) بفتح النون حمزة والكسائي وخلف والمفضل، و (بُشْرًا) بباء مضمومة عاصم إلا المفضل، و (نُشُرًا)، بضم النون والشين نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب. غاية الاختصار: الجزء الثاني - برقم (896).(6/2872)
بقسمة الله تعالى العادلة، فالمعنى سقناه إلى هذا البلد، ليكون مختصا بها حتى يحيي مواتها، فإذا ماتت أرض أخرى اختصصناها بما يحييها من غير تثريب (1) فسبحان الرزاق الحكيم.
والبلد الميت، هو الأرض الميتة التي لَا ماء فيها، ولا ينتفع بها في زرع أو غرس، ولا يوجد ما يأكل منه حيوان أو يحيا به إنسان، فيحيي الماء بعد مواتها بإذن الله العليم الحكيم الرزاق ذي القوة المتين.
وقال تعالى: (فَأنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأخْرَجْنَا بِهِ مِن كُل الثمَرَاتِ).
إن السحاب الذي ساقه الله تعالى إلى البلد الميت يلقي حمولته من الماء بإذن الله وبأمره وبنعمته؛ ولذا قال: (فَأنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ) والضمير في (به) يعود على البلد الميت، أي فاخرجنا بهذا البلد الميت، الذي لَا ينبت زرعا (مِن كُل الثمَرَاتِ) من: هنا بيانية، أي أخرجنا كل الثمرات بهذا البلد الميت، أخرجنا حبا وزيتونا ورمانا، متشابها وغير متشابه، وأخرجنا نخلا وعنبا، وأخرجنا كل شيء، وجعلنا منه كلأ تأكل منه الإبل والبقر والغنم، وكل ذي كبد رطبة ينتفع بها، ويختبر بها.
فكان من هذه الأرض الموات تلك الحياة، وذلك الخَضِر من كل شيء، وإن ذلك يقرب لكم إعادة الأموات إلى الحياة؛ ولذا قال تعالى خاتما الآية الكريمة: (كذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَرُونَ).
أي كهذا الذي رأيتم من إخراج ثمرات كل شيء نباتا حيا، وغرسا مثمرا، وحبا متراكبا، وكلأ طعاما للنعم كهذا الذي شاهدتم، وتشاهدون كل يوم يخرج الله تعالى الأموات من قبورهم أحياء، فالتذكير بقدرة الله تعالى على البعث ثابت في كل ما يشاهدون، يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي.
________
(1) التثريب: كالتأنيب والتعيير والاستقصاء في اللوْم، يقال: لَا تثريب عليك.(6/2873)
فشبه الله تعالى إخراج الأموات من قبورهم وبعثهم، وإنشارهم بعد موتهم بإخراج النبات من الأرض الميتة أحياها. ولقد جاء في بعض الأخبار أن الله عند إحياء الأموات ينزل المطر، أربعين يوما فيخرج الأموات أحياء كالنبات (1).
ولقد قال: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، أي رجاء أن تتذكروا، وأنتم ترون ذلك في الأقوام، والبلدان. إنه عليم حكيم.
* * *
________
(1) وذلك كما ورد في الصحيحين عَنْ أبِى هُرَيرَةَ رَضي اللَّهُ عَنْهُ.
[البخاري: تفسير القرآن - (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (4935)، ومسلم: الفتن وأشراط الساعة - ما بين النفختين (2955)].(6/2874)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
* * *
البلد: الأرض، وهي الأرض ذات التربة الخصبة المشتملة على كل ما يتكون منه النبات أو الغراس مع الماء والحرارة، وما تقتضيه طبيعة النبات، وما يكون غذاء له، والأرض الخبيثة أو البلد الخبيث ما تكون تربته غير منبتة كالحجارة أو ما يشبهها، وكالأرض التي تكون قريبة من المالح، فيكون ملحها مفسدا لطينتها وخصبها، وخبيثها حجارتها وسبخها، وكل ما لَا ينبت، ومنه الرمال التي لا تحبس الماء، فالبلد الطيب يخرج نباته طيبا غزيرا كثيرا يشبع، ويرضى الزارع بإذن الله، والذي خبث لَا يخرج إلا نكدا، أي القليل الذي لَا يسمن ولا يغني من جوع، فالنكد هو القليل، هو يصيب الزارع بنكد وغم وحزن، وكأنه ينبت ذلك النكد الذي لَا طيب فيه ولا نفع منه.
وإن ذلك مثل لتقسيم الأرزاق، فمن الناس من رزقه الله تعالى أرضا طيبة تأتي له بالخيرات والثمرات، ومن الناس من اختبره الله بأرض خبيثة لَا تخرج إلا(6/2874)
نكدا، وهذه تدعوه إلى أن يبحث عن أرض خير منها (. . . فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)، وأن يبحث عن خيرات الأرض من باطنها مما اختزنته من معادن وفلزات وكنوز، وأحجار وماس، وكل ما له نفاسة، فكل أرض الله تعالى لَا تخلو من خير.
وهذا معناه أنه لَا يمكن أن يمحى الفقر والغنى أو يذاب ما بينهما من فروق كما يقول الجهلاء الذين لَا يؤمنون بشيء، وقد نقص إدراكهم عن أن يصل إلى حقائق الوجود، وإن تزعموا وتحكموا، وحكموا بالباطل.
وإن بيان معاني هذه الآية المحكمة على أنها حقيقة تبين قدرة الله وتصريف خيرات الوجود بمقتضى علم الله تعالى، وتدبيره وحكمته، وأن بلاد الله فيها الطيب الذي يحييه خير الله، وينزل الماء فيه، وفيها الجدب الخبيث الذي لَا ينبت إلا نكدا، وإن كان قد ضم باطنه خيرا آخر، لَا في الطعام والثمر والزرع، ولكن في منافع الناس.
وقد رأى ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكافر، فالمؤمن كالبلد الطيب يخرج نباته وثماره بإذن ربه، فقلب المؤمن كالأرض الرطبة لَا يكون منها ما هو طيب، وقلب الكافر خبيث كالبلد الخبيث الذي لَا ينتج إلا نكدا، قبيحا وشرا.
وإنا نقول غير جامعين بين الحقيقة والمجاز، إن الآية تدل على تصريف الله تعالى، وتشير عن بعد إلى قلب المؤمن وقلب الكافر، وتقاربهما من البلدين، الأول من البلد الطيب، والثاني من البلد الخبيث.
وقد روى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ، كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ، قَبِلَتِ المَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الكَلَأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ، أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا(6/2875)
هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ ". (1).
ولقد ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: (كَذَلِكَ نصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْم يَشْكرُونَ). التشبيه والإشارة هنا (كَذَلِكَ) الذي رأيت من تصريف القول من بيان نعمة الله على الوجود بخلق السماوات والأرض في ستة أيام، وبيان النعم في الإنبات والإثمار، وإخراج كل ما هو نافع للأحياء، كهذا الذي رأيت نصرف الآيات، ونبينها في تصريف محكم مقرب للنفوس، أي كهذا التصريف في ذكر هذه الآيات، نصرف في بيان الحقائق دائما، لقوم من شأنهم الشكر، وتقبل النعمة بالقيام بحقها؛ ولذا عبر بالمضارع الدال على تجدد الشكر المنبعث من النفس الإنسانية المؤمنة، والله غفور شكور.
* * *
القصص القرآني
* * *
بعد الآيات الكونية التي ذكرها الله تعالى دالة على وحدانيته - سبحانه وتعالى - ساق أنباء الرسل، ودعوتهم إلى التوحيد، وتبليغهم رسالات ربهم في إصلاح الإنسان، والقيام بحق ما أنعم الله به عليه، وأنباء من أرسلوا إليهم، وكفر من كفر، وعناده، وأخبر عن دعوة كل رسول وما أجيب به، وذلك لأمور كثيرة: أولها - العبرة بأحوال السابقين والوثنيين الذين اعترضوا على الأنبياء، لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب.
________
(1) متفق عليه، وقد سبق تخريجه.(6/2876)
وثانيها - بيان ما نزل بالمشركين الذين كفروا بالله وكذبوا الأنبياء وعاندوهم وآذوا من اتبعوهم، من عذاب حتم عليهم، ومن خسف جعل عالي ديارهم سافلها، ومن ريح صرصر عاتية، وليعلم الوثنيون الذي يخاطبون النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى يمهلهم ولا يهملهم، كما قال تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6).
وثالثها - أن الآيات مهما تكن شديده قارعة حسية لَا تجعل من القلب الجاحد مؤمنا، فهؤلاء السابقون جاءتهم الآيات الحسية القارعة، ولكن لم تحمل الوثنيين على الإيمان، بل جحدوا وإن كانوا مستيقنين.
ورابعها - التسرية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه لم يكن أول من كُذِّب وجُحدت آياته بل كذبوا من قبل.
وخامسها - أن في نبأ كل نبي من الأنبياء تساق الحجج على التوحيد، والتنبيه إلى آيات الله تعالى في الكون.
وسادسها - أن في القصص علم الأمم، وأخلاقها، وضلالها، وهداية من يُهتدى.
* * *
من نبأ نوح - عليه السلام -
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ(6/2877)
مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
* * *
ابتدأ نوح كلامه مع قومه مستدنيا قلوبهم، مقربا القول إلى نفوسهم، وكان إرساله إليهم، ولم يوجد ما يدل على أنه أرسل لغيرهم، كما قامت رسالة رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الناس.
قال عليه السلام:(6/2878)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
(يَا قَوْمِ) نادى بالرابطة التي تربطه بهم، وهي أنهم قوم الذين يستنصرهم، ويعتز بصلتهم ويريد الخير لهم، ويجب كل كمال لهم: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) والجملة الأولى دعوة إلى عبادته لأنه خالق الكون ومنشئ الوجود، والجملة الثانية تدل على انفراده وحده بالألوهية، فهي نفي وإثبات؛ نفي أن يكون لهم إله غير الله، ولذا قال: (مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، أي ليس لكم من إله غيره سبحانه، و " من " لاستغراق النفي، والمعنى: ليس لكم أي إله يعبد غيره، لأنه الخالق، ولأنه ليس كمثله شيء في ذاته أو صفاته، فهو المعبود وحده.
وقد حذرهم من عصيان الله تعالى، والكفر به، وعبادة غيره، فقال: (إِنِي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوم عَظِيم) وفي هذا يظهر عطفه عليهم داعما دعوته بخشية ما ينزل بهم، ومع ذلك هو تهديد لهم بعاقبة إنكارهم. وقد أكد خوفه عليهم بكل مؤكدات القول، بـ " إن "، وبقوله (عَلَيْكُمْ)، وتنكير العذاب، و (عَظِيم)، وأنه لا يدرك جهته، ولا تدرك المشاعر الآن حقيقته. هذه هي الدعوة إلى التوحيد والترغيب فيها، والترهيب من عصيانها؛ فبماذا أجاب قومه؟.
قال الملأ من قومه، أي قال الكبراء والرؤساء والأشراف من قومه مستنكرين مستهترين: إنا نراك في ضلال مبين، وكذلك نجد الكبراء في كل قرية أكابر(6/2878)
مجرميها كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم. كانت إجابتهم إصرارا على غيهم، واستمساكا بما هم عليه، وعدوا غيره ضلالا وسفهًا:(6/2879)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60)
(إِنَّا لنرَاكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)، أي إنا نراك في بعد عن الهداية، والحق واضح. وقد أكدوا ذلك بـ " إنا "، وبأنهم يرونه كذلك، وإنه يستفاد من هذا أمران:
أولهما - أنهم يردون قوله، ولا يقبلونه ويعصونه، وأنهم يرون أن صاحبه في ضلال واضح لَا هداية معه، وأنهم بهذه الحال لَا يمكن أن يجيبوه بل أن يفكروا في إجابته.
وثانيهما - أنه يلاحظ أن ذلك من كبرائهم، كما ذكرنا، أما ضعفاؤهم فإنه لم تعرف لهم إجابة، لأنهم مغمورون غير مذكورين، كما كان الأمر من بعد ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ مكث وقت الدعوة المحمدية في مكة، ما كان يتردد في جنباتها إلا صوت أبي جهل وأبي لهب، والوليد بن المغيرة، ولا يتردد صوت عمار، وبلال وأبي بكر، وإن نوحا النبي الأمين، منهي عنهم ولا يرد عليهم، بل يقول في أناة المؤمن:(6/2879)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61)
(يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) يقول مبتدئا القوم بندائهم، بما يقربهم ويدنيهم لَا بما يبعدهم، وينبئهم، يناديهم يا قومي يا من أنا منكم وقطعة من جمعكم يضيرني ما يضيركم، ويؤلمني ما يؤلمكم ثم يقول نافيا (لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) أي ليس بي حال أضلتني عن الحق، وكأنهم قصدوا من الضلالة أنه مسحور قد ضل عقله وغاب، فهو يقول ما بي ضلال، بل أنا برشدي الكامل وأنا فوق ذلك هاد مرشد متحدث عن الله تعالى، ولذا أردف نفي الضلالة بقوله: (وَلَكِنِّي رَسُولٌ من رَّبِّ الْعَالَمِينَ) والاستدراك من نفي الضلالة إلى مرتبة عالية، وذكر أنه رسول، قد أرسله الله تعالى رحمة بهم، وإنقاذا لهم من ضلالهم، وأضاف الرسالة إلى الله تعالى معبرا بقوله: (رَبِّ العَالَمِينَ)، أي الذي ربى الناس وكونهم، وهو القائم عليهم، والمصرف لأمورهم، وللوجود كله سبحانه وتعالى.
وإنه لهذا ما أرسل الرسالة إلا رحمة بكم، وهداية وتوجيها إلى الصراط المستقيم.(6/2879)
ثم بين الرسول الأمين واجبه وهو التبليغ والنصيحة، والدعوة إلى الهداية فقال الله تعالى عنه:
* * *(6/2880)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
* * *
(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي) وعبر عنها بصيغة الجمع للدلالة على أنها متعددة النواحي، فهي للتوحيد، وهو رأسها، وعمادها. وإصلاح الجماعة، ونشر الفضيلة، وتكوين الأسرة، وتنظيم المعاملات الإنسانية على أساس العدل ومنع البغي ولتعميم الإحسان، وإصلاح الأرض ومنع الفساد.
ولقد قال بعض العلماء: ما كانت بعثة نوح لقومه فقط، بل لجيله ومن يتبعه إلى أن يجيء من ينسخ شريعته، وأضاف الرسالات إلى ربه - سبحانه وتعالى - لأنه منزلها، ولأنه القائم على الوجود، والمربي له، والعالم بكل ما يصلحه، وذكر أمرين يقوم بهما بعد تبليغ رسالات ربه، وإعلانها لهم:
أولهما - أنه ينصح لهم، بمحض الحق مخلصا لهم، لَا يأتي إلا بما فيه نفعهم، والخير العميم لهم، والنصيحة والنصح إخلاص النية من الغرض وقصد الفساد، نصحته ونصحت له، أي أخلصتها له.
ثانيهما - الإشارة إلى أنه عنده علم من الله لَا يعلمونه؛ لأنه يخاطبه الله تعالى وحيا أو برسول من الملائكة أرسله إليه؛ ولذا قال في تأكيد نصحه، وبيان صدقه، وأنه هاد مرشد: (وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) فاقبلوا نصحي وإرشادي، فإنه ليس مني، ولكن من الله ربكم ورب العالمين.
ولقد أدرك أنه يجوز أن يكونوا في استغراب، وهو يريد هدايتهم، فيريد أن بزيل غرابتهم، فقال متقربا متحببا مخاطبا وجدانهم مزيلا اسنغرابهم:
* * *(6/2880)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
* * *(6/2880)
الواو هنا عاطفة ما بعدها على ما قبلها، فهي عاطفة كلام نوح - عليه السلام - الأخير على ما قبله، ولكنها أخرت في الذكر عن الهمزة، وهو بهذا ينبههم إلى ما يزيل عجبهم واستغرابهم، فهو استفهام في معنى النفي، أي لا يصح أن تعجبوا من ذلك فإن الله لَا يَنزل، ويكلم الناس، ولا يُنزل الملائكة، (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9).
ولقد أزال عجبهم، وأمرهم بألا يعجبوا.
وموضع العجب الواهم هو (أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِن رَّبِّكُمْ) " أن " تذكير بالحقيقة المستكنة في قلوبهم التي يطمسونها طمسا، حتى لَا يذكروا، (عَلَى رَجُلٍ منكمْ)، أي على لسان رجل منهم، أو أن " على " بمعنى " مع " أي: مع رجل منهم، وكذلك قال المشركون لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: (. . . أَبَعَثَ اللَّه بَشَرًا رَّسولًا)، (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسولِ يَأكل الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ. . .)، وقد بين الله الغاية من الرسالة التي جاء بها نوح - عليه السلام - وهي غاية الرسل أجمعين فقال: (لِيُنذِرَكمْ) بهذا الذكر الذي يثير العلم الذي تطمسونه فيذكركم به منذرا من عذاب، ومبشرا بثواب (وَلِتَتَّقُوا) ولتعملوا على أن تتخذوا من عملكم وقاية لكم من العذاب، (وَلَعَلَّكُمْ ترْحَمُونَ)، أي ولترجوا أن يرحمكم الله باتباع ما أمركم به من توحيد، وإصلاح، فإن ذلك هو الرحمة الحقيقية بكم.
قال نوح ذلك متوددا متحببا، مخاطبا بما يجمعهم من مودة، ولكنهم نفروا من دعوته، ومن هدايته فكذبوه.
* * *(6/2881)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
(فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
* * *
الفاء: هنا للإفصاح، أو للترتيب، أي أنه ترتب على هذا الذكر، وهذه الدعوة الهادية الباعثة على العبرة أن كذبوه، وكان لَا بد بعد هذا التكذيب القاطع للحق، والهادم لكل صالح أن يكون العذاب لمن طغى، والنجاة لمن هدى، أمره الله تعالى بأن يصنع الفلك، لينجى فيه من آمن من قومِ نوح، وأن يغرق من عاند وكفر، فقال: (فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، أي بسبب تكذيبهم؛ لأن الصلة في الموصول هي سبب الحكم،(6/2881)
وقد أكد - سبحانه تعالى - وصفهم بالضلال، فقال: (إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ) عمين جمع عم، وهو صفة مشبهة من عَمِي، فهم ضالون قد أعمى الله تعالى بصائرهم. وإنها لَا تعمى الأبصار، ولكن تعمى الأفئدة التي في الصدور.
هذا ما ذكره الله تعالى في هذا الموضع من قصة نوح - عليه السلام - ونكتفي بالكلام هنا، ونتكلم في باقي قصة نوح مع قومه في مواضعها من القرآن الكريم، فلكل جزء منها عظة قائمة بذاتها.
وسيدنا نوح - عليه السلام - هو أبو الأنبياء بعد آدم، وقيل: إن إدريس أكبر منه، ولكن الظاهر من سياق القرآن للأنبياء، أنه أبو البشرية بعد آدم، والله - سبحانه وتعالى - أعلم.
* * *
من قصة هود عليه السلام
(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ(6/2882)
يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
* * *
يدل ما ذكره - سبحانه وتعالى - هنا من قصة هود - عليه السلام - أنه جاء من بعد نوح - عليهما السلام - فقد قال تعالى: (وَاذْكرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نوحٍ) إلى آخر الآية الكريمة. يقول تعالى:(6/2883)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
(وَإلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا)، الواو عاطفة على قوم نوح، وهي على نية تكرار العامل أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، وقدم قوم هود، وهم عاد؛ لأنهم كانوا في عتو شديد. قال لهم هود الهادي المرشد: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقونَ).
ابتدأهم بدعوة النبيين إلى التوحيد، وهي دعوة نوح من قبل، ودعوة من بعد عاد إلى أن تكون دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - (قَالَ) لهم: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُة)، فـ " من " هنا لاستغراق النفي وانحصار الألوهية في الله تعالى وحده، وحذرهم من الكفر كما حذر نوح إذ قال: (إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم)، وقال هود محذرا ومحرضا على أن يجعلوا لأنفسهم وقاية بينهم وبين العذاب، فقال: (أَفَلا تَتَّقُونَ) والفاء للترتيب والتعقيب، وموضعها مقدم على الهمزة، ولكن الاستفهام له الصدارة، والمعنى، أنه يترتب على المطالبة بعبادة الله وحده أن تتقوا عذابه، وتخافوه، فهي تتضمن ذكر الخوف والتحذير من عذاب الله تعالى، وأن يجعلوا لأنفسهم منه وقاية، فأجابوه إجابة المتعنت المستخف.
* * *(6/2883)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)
* * *
وإن الذين يردون هم الكبراء البارزون، فيهم كشأن أعداء الأنبياء دائما؛ لأنهم الذين يخافون على سلطانهم، كما رأيت في الذين عاندوا نوحا وكفروا به، وكما رأيت في الذين عاندوا محمدا - صلى الله عليه وسلم -. وكما نرى في الذين عاندوا هودا أخا عاد، وقد بادروه بالطعن في شخصه. قالوا في شخصه: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ) وأكدوا ذلك بـ " إنَّ " وباللام، أي: إنا لنراك في خفة عقل وحمق وطيش وذلك استخفاف به، لأنهم ضالون. ودعاهم إلى الحق الذي لَا ريب فيه. وأما طعنهم في قوله، فهو قولهم: (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) والظن هنا هو العلم المزعوم عندهم، بدليل أنه أكدوا حكمهم بـ (إن) و (اللام)، وكونه داخلا في زمرة الكاذبين، وقد يطلق الظن بمعتي العلم، وهو هنا كذلك. أجاب هو إجابة النبيين:
* * *(6/2884)
قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)
(قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)
* * *
ناداهم مدنيا
مقربا لهم، بقوله يا قوم وقد اختاره الله على أنه أخ لهم، إذ قال: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ)، ليس بي سفاهة فما خالفتكم، ودعوتكم إلى عبادة الله تعالى وحده لحمق أو سفه، وإنما لأني أرسلت بذلك؛ ولذا قال: (وَلَكِنِّي رَسُولٌ من رَّبِّ الْعَالَمِينَ) أرسلنى إليكم، داعيا إلى عبادته وحده قال:(6/2884)
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)
(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي) من شرائع وأحكام فيها صلاحكم في الدنيا والآخرة، وإني مع الرسالة (نَاصِحٌ أَمِينٌ)، أي أنصحكم النصيحة بأمانة لَا أغشكم ولا أخدعكم بل أدعوكم إلى سواء السبيل، وقد توقع استغرابهم من أن يكون منهم رسول، وقد ذكروا ذلك كما ذكروه من بعد لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فالعقلية الوثنية الجاحدة واحدة، تختلف الأقوام، ولا يختلف المنزع.
* * *(6/2884)
قال لهم مقالة نوح:(6/2885)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
(أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ ... (69)
* * *
وأنذرهم بالعذاب
الشديد إن لم يؤمنوا، وذكرهم بما كان من قوم فرعون، ونعم الله تعالى فقال: (لِيُنذِرَكُمْ)، أي يببن لكم عقاب الله، وإني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ذكرهم بثلاثة أمور تدنيهم، وتجعلهم يشعرون بأن الله أنعم عليهم، وأعطاهم العبر ليعتبروا:
ذكراهم أولا - بأنهم خلفاء قوم نوح، وإن ذلك فيه عبرة لهم لأنهم كيف أُغرقوا، ولم ينج إلا من حملته السفينة الربانية، وخلفاء جمع خليفة، أي أنهم خلفوهم في سكنى أرضهم وأرسل هو إليهم، كما أرسل نوح من قبل.
وذكرهم ثانيا - بأن الله زادهم في الخلق بصطة، أي قوة في الجسم فكانوا عمالقة، وبصطة أصلها بسطة، وتكتب السين صادا، لاتصالها بالطاء، وهي ساكنة.
وذكرهم ثالثا - بنعم الله تعالى عليهم من زروع وثمار، فقال: (فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ) أي نعمه، واحدها " إلي " و " ألي ".
ذكرهم بهذه الأمور الثلاثة رجاء أن يعتبروا ويتعظوا ويؤمنوا، وبذلك ينالون الفلاح والفوز، ولذا قال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، أي لترجوا الفلاح والفوز بالصلاح في الدنيا والنعيم في الآخرة.
ولكنهم مع هذا التذكير الواعظ المرشد، لم يهتدوا، بل قالوا مجادلين: (أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)(6/2885)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
يستنكرون أن يجيئهم، ليدعوهم إلى عبادة الله تعالى وحده، و " نذر "، أي نترك ما كان يعبد آباؤنا. وهكذا يذهب بهم الغلو في الكفر إلى درجة أن يعتبروا أمرًا نكرًا يستحق الاستنكار أن يعبدوا الله ويتركوا ما كان عليه آباؤهم، وهكذا قال المشركون، عند قول الله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170).
أنذرهم هود بعذاب شديد فتحدوه أن ينزله، وقالوا: (فَأتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِن الصَّادِقِينَ) تحدوا هودا أن ينزل الله العذاب الذي هددهم به، وطلبوا من نبيهم أن ينزله كأن الأمر بينهم وبينه، وذلك للاستمرار على كفرهم وجحودهم، إذ إنهم لا يعتبرونه مرسلا من الله تعالى، ولقد وقع بهم ما استعجلوه، وقال لهم قبل وقوعه:(6/2886)
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)
(قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ ... (71)
* * *
وقد أنزل اللهً تعالى - بهم عذابين أحدهما " الرجس "، وهو الضلال الذي أدى إلى هذا الكفر، و " غضب الله " وهو وحده عذاب من الله، وسيؤدي إلى العذاب الذي نزل بهم في الدنيا والآخرة وإنه لقريب؛ ولذا: (فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ).
وقد اشتمل كلام هود - عليه السلام - على أمور ثلاثة هي إشارات بيانية. أولها - قوله: (أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا) فهذا استفهام توبيخي على ما وقعوا من عبادة أشياء لَا تنفع ولا تضر.
ثانيها - أنها لَا وجود لها في ذاتها إلا أن تكون أحجارا، ليس لها إلا أسماؤهما الباطلة التي سموا بها.
ثالثها - أنه ما أنزل معها بحجة تسوغ عبادتها، أو قوة فيها تكون سلطانا لها.(6/2886)
وما كان من بعد هذا إلا العقاب، فنزل بهم عذاب ساحق أهلكهم الله تعالى، وأنجى الله تعالى هودا ومن معه من المؤمنين، ولذا قال تعالى:
* * *(6/2887)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
(فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ... (72)
* * *
وترى التشابه التام، بين ما لقي النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من المشركين، وبين ما لقي نوح، وهود من قبله - عليهم الصلاة والسلام - وإن ذلك يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبر، ويحمل التبعة، وشدائدها فإن تلك سنة الله مع الدعاة، والذين يدعونهم، وما كنت بدعا من الرسل.
بيد أن الله تعالى أهلك المجرمين الذين يعصون الأنبياء، أما قوم محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنه - سبحانه - أمهلهم ليكون من أصلابهم من يعبد الله، وليجاهدهم على الحق هو ومن اتبعه إلى يوم الدين.
* * *
من قصة صالح - عليه السلام
* * *
نذكر من قصص الأنبياء في هذا الموضع، ما قصه الله تعالى في هذه السورة الكريمة، ونترك بقية قصص الله تعالى فيها إلى موضعها، وبمجموع ما يذكره سبحانه يكون خبر النبي من الأنبياء، ولكنه مفرق في السور، كل جزء منه في موضع عبرته، وإرادة مغزاه.
* * *
(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ(6/2887)
الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
* * *
كان بعث صالح بعد هود، وكانت ثمود خلائف لعاد، قال الله تعالى:(6/2888)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
(وَإِلَى ثَمودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا)، أي أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا، كما كان لعاد أخوهم هود، وذكر الأخوة في هذا المقام فيه إشارة إلى أنه واحد منهم قد ربط بينهم برباط الأخوة، وكذلك كان يبعث الله تعالى لكل أمة رسولا منهم، كما بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - من أنفسهم.
قال صالح لقومه: (يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ). هذه دعوة التوحيد، وهي دعوة النبيين أجمعين ودعوة الفطرة، ودعوة المنطق العقلي.
ولقد أردف دعوته إلى الله، ببيان أنه مرسل إليهم من الله تعالى، ومعه البينة الدالة على إيمانه، ولذا قال لهم: (قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ من رَّبِّكُمْ)، أي معجزة(6/2888)
مبينة من ربكم دالة على رسالته، هذه البينة هي: ناقة لكم آية، أي دليل على الرسالة، ويظهر أنها كانت لها أوصاف خاصة تميزها عن غيرها، قال بعض الناس: إن الله تعالى خلقها من حجر صلد، ولكن لم يثبت ذلك بسند صحيح عمن بين القرآن للناس، ولم يرد بسند صحيح شيء عن أوصاف هذه الناقة، ولكنها على أي حال كانت مميزة عندهم معروفة بشخصها لديهم، ولذا قال لهم: (فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، أي: فاتركوها تأكل.
وأردف نبي الله صالح - عليه السلام - يبين لهم العبرة من أسلافهم عاد، ونبيهم هود - عليه السلام - قال لهم:(6/2889)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ... (74)
* * *
أي اذكروا أنه جعلكم خلفاء لهؤلاء الذين كانوا أقوياء وطغوا، ورأيتم ما آل إليه أمرهم، من العذاب الذي نزل بهم جزاء عصيانهم، وسكنتم في مساكنهم الذين ظلموا فيها أنفسهم، وقد بوأكم في الأرض وثبتكم، وجعلكم مستمتعين مترفهين، فجعلتم من سهل الأرض قصورا بنيتموها، ونحتم الجبال فجعلتم منها بيوتا، وذلك أعلى درجات الترفة في المسكن قصور في السهول، وبيوت في أكناف الجبل، فكانت لكم الوقاية من البرد والحرور.
وإذا كنتم تمكنتم من ذلك، فاذكروا آلاء الله تعالى ونعمه، وقوموا بحق شكرها، (وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين) لَا تطغوا وتظلموا، فيؤدي ذلك إلى فساد، ولذا قال: (وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ)، العثى والعثو، لغتان في مصدر عثى، وهو الفساد، والمعنى لَا تفسدوا في الأرض ويستمر فسادكم حتى تكونوا مفسدين، وقوله مفسدين حال دالة على استمرار الفساد، هذا قول صالح - عليه السلام - وهو كلام يتضمن الدعوة الرفيقة الحكيمة إلى عبادة الله تعالى وحده، والتذكير بنعمه تعالى عليهم، وتحذيرهم من الإفساد، والاستمرار عليه بالإشراك والظلم وترك أمورهم فوضى، لَا ضابط من دين ولا خلق.(6/2889)
وهنا نجد الكبراء وأشرافهم الذين يعارضونه، والضعفاء هم الذين يتبعونه، ويتوجه الكبراء بالاستعلاء على المستضعفين، وقد قال تعالى عنهم:
* * *(6/2890)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)
(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ ... (75)
* * *
وقوله تعالى: (لِلَّذِينَ اسْتضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ منْهُمْ) فيه أن قوله السامي: (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل اشتمال، والمعنى أي قال الملأ للمؤمنين، وسبق بقوله تعالى: (لِلَّذِينَ اسْتضْعِفُوا) للإشارة إلى أن المجيبين هم الضعفاء، وكذلك يسارع الضعفاء لاتباع النبيين، لسلامة فطرتهم، وعدم وجود الأهواء التي توجب الإعراض، ولأنهم يرون في الأوامر النبوية ما يرفع الظلم عنهم، ولأنهم أقرب إلى الحق دائما، فالمساكين أقرب إلى الاستجابة، وكذلك كان أتباع محمد الأولين من أمثال بلال، وصهيب، وآل ياسر، وغيرهم من العبيد والفقراء.
قال المستكبرون من ثمود قوم صالح للمستضعفين المؤمنين: (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ من رَّبِّهِ) كأنهم مستنكرون ذلك منهم، ويسخرون منهم، فرد عليهم المؤمنون الرد القاطع الحاسم قائلين: (إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنونَ) أكدوا إيمانهم بالتعبير بالجملة الاسمية، وبـ " إن " وبالقصر إذ قدموا (بِمَا أُرْسِلَ بِهِ)، وهذا يفيد القصر أي أنهم يؤمنون به، ولا يؤمنون بالشرك، فلا يؤمنون بغير ما أرسل به.
وقال المستكبرون يحسبون أنهم يغرونهم بتقليدهم وحكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله:
* * *(6/2890)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)
(قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76)
* * *
وقدْ أكدوا كفرهم، كما أكد المؤمنون إيمانهم، وفي هذا إيماء إلى أنهم يجب أن يتبعوهم؛ لأنهم أهل القوة، ولكنهم لم يفعلوا وإن آذوهم. استرسل المستكبرون في غيهم فأخبر الله عنهم فقال:
* * *(6/2890)
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
(فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
* * *(6/2890)
تحدى هؤلاء صالحا، وتحدوا معه ربهم، أمرهم بالحفاظ على الناقة لأنها ناقة الله، فشرفها بالنسبة إليه سبحانه، وأمرهم بأن يجعلوا لها شربا ولهم شرب معلوم، وأن يتركوها تأكل في أرض الله، فعقروها، أي ضربوا قوائمها وذبحوها وتحدوا نبي الله أن يأتيهم بالإنذار، إن كان من المرسلين، وعتوا: أي استكبروا بذلك التحدي.
وعظهم صالح أقوى الوعظ، وأبلغه، فلم يتعظوا وتحدوه، فنزل بهم ما أنذرهم به في الدنيا فأخذتهم هزة أرضية، زلزال شديد، فالتصقوا بالأرض، وهذا معنى قوله تعالى في أمرهم:(6/2891)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أي الهزة الشديد بالزلزال، (فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ)، أي هدمت مبانيهم، والتصقوا بالأرض، ميتين إلى يوم يبعثون.
وانتهت مهمة صالح بهذا التبليغ الحكيم، والنهاية المحتومة التي انتهوا إليها بتحديهم رسولهم وربهم، وقال صالح متأسيا، آسفا، ولذا قال تعالى عنه:(6/2891)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
(فَتَوَلَى عَنْهُمْ) أي أعرض ض، (وقَالَ) مخاطبا من بقي أو مخاطبا من مات، ولصق بالأرض كما خاطب محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أهل القليب من قتلى بدر (1)، قال لهم صالح: (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لَا تُحِبُّونَ النَّاصحِينَ) بغلبة أهوائكم، واستكباركم، وعتوكم وفسادكم.
* * *
________
(1) عن ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَهْلِ القَلِيبِ، فَقَالَ: «وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟» فَقِيلَ لَهُ: تَدْعُو أَمْوَاتًا؟ فَقَالَ: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لاَ يُجِيبُونَ. رواه البخاري: الجنائز - ما جاء في عذاب القبر (1370).(6/2891)
لوط - عليه السلام - وقومه
قال تعالى في هذه القصة في هذا الموضع، وقد كان لوط في عصر إبراهيم، وله قرابة، وما بينه وبين إبراهيم نؤجله للبيان القرآني في موضعه.
* * *
(وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
* * *
كان قوم لوط، أفحش الأقوام العربية فجورا، وانحرافا وإسرافا، فكانوا مع إشراكهم قد انحرفوا عن الفطرة وشذوا عنها؛ ولذا كان أول ما واجههم به نبي الله لوط أن ذكر لهم تلك الجريمة البشعة التي شذوا بها عن الفطرة، والإنسانية، والأخلاق العربية.(6/2892)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80)
(وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ).
وقوله تعالى: (وَلُوطًا) مفعول لفعل محذوف، تقديره واذكر لوطا، وهو في هذا يذكر مساوئ الشرك وأهله، فإذا أضلهم عبادة غير الله فهو انحراف في الفكر والنفس يؤدي إلى أعظم الانحراف في العمل: (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ)، وذكر قومه يدل على أنه ليس دخيلا بينهم، بل هو من أسرتهم وجماعتهم، ولكنهم انحرفوا عن الإنسانية، قال لهم: (أَتَأتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَد مِّن(6/2892)
الْعَالَمِينَ) الفاحشة: الأمر الزائد زيادة فاحشة بعيدة عن كل معقول، ما سبقكم بها أحد من البشر أي اخترعتموها لانحراف نفوسكم وعقولكم عن حكم الفطرة، فارتكبتم فاحشة لم يقع أحد من الناس قبلكم، وفسرها بعد ذلك الحكم القاسي الذي يليق بهم وأمثالهم من شواذ بني الإنسان(6/2893)
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
(إِنَّكمْ لَتَأتُونَ الزِجَالَ شَهْوة مِّن دُونِ النِّسَاءِ) أكد لوط - عليه السلام - فعلتهم النكراء، بـ " إنَّ " وباللام. يأتونهم أي يضعون فيهم ما يوضع في النساء، وعبر بالرجال لبيان مخالفة الفطرة بوضع ما هو للنساء في الرجال، وهذه شناعة لَا حدود لها، ويظهر أنها كانت معروفة عند اليونان والرومان ولكن ليست شائعة؛ ولذا وجد خالد بن الوليد عند فتح الشام مثل هذه فأرسل إلى خليفة رسول الله أبي بكر - رضي الله عنه - يخبره بأنه رأى عجبا، رأى الرجل يفترش الرجل كما تفترش النساء، فسأل عن هذه الحال، فاستشار الصحابة في حكم هذه الحال والحد الواجب.
وقوله: (شَهْوَةً) مفعول مطلق لمحذوف تقديره، تشتهونهم شهوة من دون النساء، أي يكون منكم ما يكون للنساء، وهو في الفطرة. وهذا بيان لعكسهم للفطرة، إذ يشتهون ما ليس موضع شهوة لانحراف نفوسهم وعقولهم، وإنسانيتهم، مُضْرِبا عن ذلك بالترقِّي في أوصافهم بقوله: (بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مسْرِفُونَ) وبل هنا للإضراب ببيان أوصافهم، فوصفهم بأنهم مسرفون في البهيمية، إذ أتوا ما لا ترضى به البهائم، ومسرفون في التفحش إذ خرجوا على سنة الإنسانية، ومسرفون في هذه العادة الشاذة، فهم يُعرِضُون عن النساء، ويطلبون الرجال، ومسرفون في أفعالهم، فإن من يشيع فيهم هذه الحال تكون كل أفعالهم شذوذا في شذوذ، كما ترى الآن في أمريكا، وما يشبهها ممن تقع فيهم هذه الحال، حتى إنه في إنجلترا يعترف بأن للشاب أن يتزوج الشاب، وتحترم هذه العلاقة الشاذة.
ومعنى شيوع هذه العادة الشاذة في قوم لوط، أنها كانت تقع ولا تستنكر، وكان ذلك كثيرا، وكان أكثرهم لَا يتناهى عن ذلك، ولا يعده سبة وأمرا غير جائز، ويروى الحسن البصري أنهم كانوا يفعلون ذلك فيمن يجيئون إليهم من(6/2893)
الغرباء. فهل أجاب قوم لوط بالارتداع؛ بل طلبوا إخراجه؛ لأنه يتطهر؛ ولذا قال تعالى:(6/2894)
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
(وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) استمكن ذلك الفساد، حتى أصبحوا لَا يطيقون أن يكون معهم من يتطهرون عن فعله، وقد أجابوا شاعرين بأنهم ليسوا على خير، وأنهم في دنس لَا يلتئم معهم من يتطهرون عن إثمهم، و " القرية " كما علمنا هي المدينة التي يجتمع الناس فيها.
أنزل الله تعالى على هولاء الذين رضوا بهذه المهانة الإنسانية، وذلك الشذوذ عذابا مهينا، بينه في آية أخرى نستعيرها من موضعها في هذا الموضع، فقد قال تعالى مبينا الحال عند نزول العذاب في الدنيا: (قَالُوا) أي الملائكة (. . . إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83).
قال تعالى:(6/2894)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
(فَأَنجَيْنَأ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَة كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)).
وهكذا عاقبهم الله تعالى بجعل أرضهم عاليها سافلها، وبحجارة نزلت عليهم؛ ولذا قال مالك إمام دار الهجرة: إن عقوبة الذين عندهم هذا الشذود الرجم؛ لأن الله تعالى رجمهم، سواء أكانوا محصنين أم كانوا غير محصنين.
وقال أبو حنيفة: إن هذا فساد ولم يوجد له حد منصوص عليه فتكون عقوبته التعزير، وقال الشافعي: عقوبته كعقوبة الزنى في حالتي الإحصان وعدمه، وروي عن علي وأبى بكر وتبعهما بعض المجتهدين: الإحراق بالنار؛ لأن أبا بكر عندما أرسل إليه خالد كتابه الذي أشرنا إليه استشار الصحابة، فأشار علي بحرقهم بالنار فارتضاه.(6/2894)
وإن هذا الشذوذ نراه الآن ذائعا في إنجلترا حتى أباحته قوانينها بالنص عليه، ويشتهر بينهم، حتى صار زواجا بين رجلين، كما أشرنا.
وهو في أمريكا شائع ذائع، حتى رأينا من يشغل مناصب سياسية يقبض عليه متلبسا لَا بأنه فاعل، بل على أنه مفعول به؛ ولذا شاعت عندهم السياسة المتبجحة التي لَا تخجل قط!!
* * *
من قصة شعيب عليه السلام
(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
* * *(6/2895)
بعث الله - سبحانه وتعالى - بعد لوط صالح إلى مدين، أخاهم شعيبا، ولم يذكر في القرآن الكريم معجزته التي ثبت بها أنه رسول الله، ولكن عدم ذكرها لا يدل على عدم وجودها، فإن كل نبي بعث ومعه ما مثله آمن عليه البشر، فما بعث نبي إلا ومعه حجته، وإن لم يكن من حجة فلا بد أن يطالبوه بها، وإذا كان القرآن الكريم لم يذكر معجزته فلم يذكر أنهم طالبوا بمعجزة دالة على الصدق ولكنهم جحدوا واستكبروا.
وما ذكره القرآن الكريم من رسالة شعيب - عليه السلام - يدعو على أنه دعا إلى ثلاثة أمور:
أولها - عبادة الله تعالى وحده، وهي لب الرسالة، وهي أول ما نادى به:(6/2896)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
(قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَينَةٌ من رَّبِّكُمْ) ناداهم: (يَا قَوْمِ) للإشارة إلى ما يربطهم به من نسب، وأنهم أولى بتصديقه، وأولى الناس بأن يَصْدُقْهم ولا يكذبهم، وقال: (قَدْ جَاءَتْكُم بيِّنَةٌ من رَّبِكمْ) أي معجزة مبينة رسالته، وهذا دليل على أنه كانت مع هذا الرسول الأمين معجزة ملزمة تحدى بها، وعجزوا عن أن يأتوا بمثلها.
ثانيها - أنه جاء بإصلاح اقتصادي اجتماعي، ومظهره الوفاء بالكيل والميزان في التعامل: (فَأوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) ومقتضى هذا الأمر بالوفاء في الكيل والميزان في كل ما يتعاملون فيه، ومقتضاه ثانيا ألا يبخسوا أي لَا ينقصوا الناس أشياءهم أي حقوقهم، فلا يأكلوا أموال الناس بالباطل، ولا يرشوا الحكام، ولا يمطلوا الدين وهم قادرون، وأن يعطوا كل ذي حق حقه كاملا غير منقوص، ولا ممطول، ولا يكون تطفيف فيه على وجه ولا تصعيبا في الأداء.
ثالثها - ألا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها؛ ولذا قال - عليه السلام - فيما طلبه إلى - قومه: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لكُمْ إِن كُنتُم(6/2896)
مُّؤْمِنِينَ)، أي بالحق؛ ذلك أن إعطاء الناس حقوقهم كاملة غير منقوصة خير لكل جماعة؛ لأنها متوادة متراحمة، ويكون أداء الحقوق قوة لها في نفسها وأمام أعدائها، فلا قوة لأمة إلا بإقامة العدل والقسطاس، وإعطاء كل ذي حق حقه من غير وكس.
ولقد كان منهم من يقطعون الطريق، ويحاربون أمن الناس، ومنهم من كان يمنع الذين يريدون أن يستمعوا إلى شعيب، وكان منهم المكاسون الذين يفرضون من أنفسهم ضرائب على الناس ليمروهم إلى مأمنهم، ففي سبيل منع الفساد، والتهيئة للقضاء على المفسدين قال لهم - عليه السلام:
* * *(6/2897)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)
(وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ... (86)
* * *
" الصراط " الطريق المعبَّد المستقيم الذي يسير فيه السابلة وينتقلون فيه من مكان إلى مكان أو قرية إلى قرية أو مصر إلى مصر، لَا تقعدوا فيه توعدون المارة، وتقطعون الطريق، وهذا هو القعود الحسي والمنع الحسي الواضح الأذى، وهناك منع معنوي، وهو ليس لمنع المارة وقتلهم، أو سرقتهم، ولكنه للصد عن سبيل الله بمنع الناس من الإيمان بالله وحده، يصدون بهذا عن سبيل الله تعالى من آمن ويبغونها عوجا أي معوجة لا استقامة، وهم يغفلون الأمرين بكل صراط مستقيم، يقطعون السبيل على المارة، ويصدون عن سبيل الله.
ويصح أن يفسر " الإيعاد " بإيذاء المؤمنين وتعذيبهم أو التهديد بتعذيبهم، كما يتبين من بعد. وصد من آمن، يراد به منع من هم بصدد الإيمان من أن يدخلوا فيه، وإيذاء من آمنوا، وإيعادهم بالعذاب الشديد. ويذكرهم بأمرين، بنعمة الله تعالى عليهم إذ كثر جمعهم بعد قلة، والثانية بعاقبة من أفسدوا من قوم نوح، وعاد وثمود، فقال لهم:
(وَاذْكرُوا إِذْ كنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ) أي جعلكم كثيرين، (وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) الذين أفسدوا في دينهم، فأشركوا مع الله تعالى غيره، وأفسدوا(6/2897)
في جمعهم، فلم يوفوا الكيل والميزان، وبخسوا الناس أشياءهم وأكلوا أموالهم، وظلموهم.
وقد استجاب ناس من قومه، فآمنوا، وعصى آخرون فجحدوا، فذكر القسمين، وأن الله تعالى هو الذي يحكم بينهم، فقال لهم - عليه السلام:
* * *(6/2898)
وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
(وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
* * *
وهذا فيه تبشير للذين آمنوا؛ لأنهم يعبدونه وحده؛ لأنه لَا يمكن أن يحكم لصحة ما يقول الذين يشركون معه حجارة، وهو إنذار للذين لم يؤمنوا؛ لأنهم يشركون ويعبدون غيره وهو - سبحانه وتعالى - وحده خير الحاكمين، وأفعل التفضيل ليس على بابه، لأنه لَا خير في حكم سواه، فهو أحكم الحاكمين.
كان هذا ما بين شعيب وقومه، فماذا كان جواب قومه؟، قد أشار - سبحانه - في النص الكريم السابق إلى أن منهم من آمن، ومنهم من لم يؤمن وكان رأس من لم يؤمنوا، كبراؤهم، وقد قال تعالى في موقف هؤلاء الكبراء:
* * *
(قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا(6/2898)
كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
* * *
هكذا كانت دعوة شعيب الهادية المرشدة بعد أن بين لهم الحجة الدالة على رسالته، ولقد آمن بعضهم، وأعرض غيرهم، فماذا كان جواب قومه الذين يقودون الشرك منهم؟.
قال رؤساؤهم المسيطرون: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ)، وإليك ذكر القرآن الكريم لأقوال هؤلاء:(6/2899)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)
(قَالَ الْمَلأُ) أي الكبراء وسادتهم، ووصفهم - سبحانه - بأنهم الذين استكبروا وكذبوا بآيات الله تعالى وصموا آذانهم عن الحق: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا) أكدوا بالقسم بأن يخرجوهم من قريتهم، أو يعودوا في ملتهم، مؤكدين الإصرار على الخروج بالقسم، أو الإصرار على العودة في ملتهم.
فأجابهم شعيب نبي الله - عليه السلام - موبخا بأن ذلك ضد الحق، والحرية فقال: (أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ)، أي تخرجوننا على الرغم منا، ولو كنا كارهين فعلتكم لأنها غير الحق، وأنها الباطل الذي لَا ريب فيه.
ويؤكد لهم شعيب أن مطلبهم العود لن يكون أبدا، فهما حاولتم الإيذاء والتهديد فيقول - عليه السلام - لهم:(6/2899)
قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
(قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا) " قد " هنا للتحقيق كما هي في كل استعمالات القرآن الكريم، سواء أدخلت على فعل ماض أم دخلت على فعل مستقبل (افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) أن نعود إلى ملتكم أي كذبنا على الله تعالى كذبا مقصودا متعمدا إذا عرفنا الحق، واعتنقناه، ثم كفرناه، وأكد - عليه السلام - هذا المعنى بقوله: (بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا) أي بعد نجاتنا، وإخراجنا من الضلال إلى نور الهداية، ثم قال - عليه السلام - مؤكدا عدم العود: (وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا) أي ليس لنا بعد أن(6/2899)
رأينا النور وسرنا فيه، أن نعود إلى الظلمة، (إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا) أي إلا أن يريد ربنا وخالقنا لنا الضلالة بعد الهداية، ويكون ذلك بعمل منا، ثم صرح - عليه السلام - بالتفويض لله تعالى فقال: (وَسِع رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) وعلما هنا تمييز محول عن مفعول، ومعناه وسع ربنا علم كل شيء، فهو يعلم ما كان وما يكون، وما هو كائن ثابت، ولذا لَا يتوكل إلا على الله (عَلَى اللَّهِ تَوَكلْنَا) وذلك رد لتهديدهم بالإخراج، فالله ربنا عليه توكلنا، ولن يغلبه تهديدكم، فإذا كنتم تستعينون بجبروتكم وكبريائكم، وغطرستكم، فنحن نعتمد على الله، ومع ذلك تذهب رحمة النبوة إلى تجنب العداوة والاتجاه إلى الله تعالى الذي يعلم الحق كله: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ)، أي افصل بيننا وبين قدمنا بالحق، (وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).
وقد ذكر - سبحانه - تهديد الكافرين للمؤمنين بالإيذاء فقال تعالى عنهم:
* * *(6/2900)
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
(وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90)
* * *
انتقلوا من التهديد العام لشعيب ومن معه إلى تخصيص الذين اتبعوه بتهديد خاص، وواضح أنه للمؤمنين الذين آمنوا بالله تعالى استجابة لدعوة شعيب ليستغلوا ضعفهم، وهم الكبراء، مؤكدين خسارتهم بسبب اتباعهم لشعيب، وأكدوا تهديدهم بالقسم بما يقسمون به وبقوله (إِنَّكُمْ)، واللام في قوله تعالى: (لَخَاسِرونَ) ويترتب ذلك على الاتباع، بذكر الإيذاء باعتبار الخسران نتيجة للخسران.
وما كان الله ليذر المشركين يهددون المؤمنين، ويصدون عن سبيل الله، وهي سبيل الحق، ولذا أنزل تعالى بهم ما أوعدهم، وما تحدوا به شعيبا، أن يأتي به إن كان من المرسلين؛ ولذا قال تعالى: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)(6/2900)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)
الفاء هنا فاء السببية، أي أن ما قبلها سبب لما بعدها، أي أنه بسبب تكذيبهم وكفرهم وصدهم عن سبيل الله تعالى أخذتهم الرجفة، وهي زلزال شديد، هز ديارهم هزا عنيفا فتهدمت على أهلها، وصاروا مقيمين أمواتا تحت ركامها، وذهب تعالى بهم كافرين، وكأنهم لم يكونوا فيها، ولم يقيموا بأرضها؛ ولذا قال تعالى:(6/2901)
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) لم يغنوا أي كأن لم يكونوا مقيمين فيها، فقد قطع دابر القوم الظالمين، وذلك بسبب تكذيبهم لشعيب وصدهم عن سبيل الله، وإن الله تعالى غالب على كل شيء.
لقد تهدد الكافرون المتغطرسون المؤمنين بأن يكونوا خاسرين إن استمروا على اتباعهم لشعيب، فذكر - سبحانه - أن أولئك المكذبين هم الخاسرون حقا وصدقا، فقد خسروا أنفسهم فكفروا وضلوا، وخسروا ديارهم فهدمت، وخسروا يوم القيامة، فكانوا حطب جهنم، وهم فيها خالدون.
وماذا كان من أمر نبي الله تعالى الذي كذبوه وهو شعيب فقال سبحانه:(6/2901)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) أي أعرض عنهم عندما علم أنهم قد أصروا على الكفر إصرارا، وآذوا المؤمنين، أعرض عنهم ونزل بهم ما نزل، وعند إعراضه، قال لهم - عليه السلام - عند نزول البلاء عليهم، وقد توقعه فوقع (وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْم كَافِرِينَ) كيف أحزن على قوم كفروا، وأصروا على كفرهم حتى ماتوا وهم كافرين.
وفى هذا الكلام من نبي الله شعيب إشارة إلى محبته لهم ابتداء، وطلب الهداية لهم، ولكنهم كفروا، فلم يحزن عليهم، وكان غريبا أن يحزن عليهم مع موتهم كافرين.
* * *(6/2901)
سنة الله في الأمم
(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
* * *
بعد أن قص الله - سبحانه وتعالى - قصص نوح، وهود وصالح ولوط، وشعيب، أخذ يبين - سبحانه وتعالى - سنته في الناس، ومعاملتهم لأنبياء الله،(6/2902)
وكيف يختبرهم بالشر والخير فتنة، وذكر هذه السنة سبحانه، ليعتبروا بالقصص، ويروا ما يصلح حالهم، وما يحملهم على السير في طريق الخير، وليعلموا أن الله تعالى يختبر بالنعمة، ويعاقب من لَا يشكر، وليروا بأعينهم سنة الله تعالى في الظالمين، وما ينزله من عقاب دنيوي يحل بديارهم فوق العقاب الأخروي الذي يستقبلهم، فقال:(6/2903)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
(وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ).
هذا بيان الله تعالى للأمة من الأمم إذا بعث فيها نبيها الذي يدعوها إلى الإيمان بالله تعالى وحده، ويدعوها إلى الخير الذي يصلحون به في الدنيا والآخرة، ويقدمون على الله يوم القيامة بالعمل الصالح، فيجزيهم جزاءه وفقا لما قدموا، فيقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ) أي في مجتمع أمة من الأمم (مِّن نَبِيٍّ) من هنا بيانية، والمعنى وما أرسلنا في مجتمع كبير، فالقرية المجتمع الكبير الذي يقرى إليه الناس (إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَاسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) أي أن الله تعالى لا يرسل نبيا مؤيدا بالمعجزات، إلا يوطن النفوس به - عليه السلام - ببيان قدرة الله تعالى، فيأخذها (بِالْبَأسَاءِ) وهي شدائد الفقر والحرمان والتعرض للطغيان من الحكام، (وَالضرَّاءِ)، وهي ما يصيب الأبدان من مرض شديد مختلف الأنواع، لا قبل لهم به، وإذا مسهم الضر دعوا الله تعالى، وضرعوا إليه، كما نزل بأهل مكة عند مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الكون الإنساني.
وأخْذ الله تعالى للقرى التي بعث فيها النبي بذلك؛ لأن الشدة تُولِّد في قلب من عنده استعداد للإيمان الاتجاه إلى طلب النجاة، فتخضع النفس للحق إذا دعيت إليه، فإنه حيث الضعف أو الشعور به تنبع منابع الإيمان، وتتجه النفوس إلى الديان، وإن الله تعالى يختبرهم بذلك رجاء أن يضرعوا ويخضعوا، ويذلوا له - سبحانه وتعالى - وحده، فإنه وحده الخالق لكل شيء الذي يلجأ إليه عند هذه الشدائد.(6/2903)
ولذا قال تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) أي ليرجو الضراعة والخشوع لله تعالى، وحيث كانت الضراعة، كان انفتاح القلب للإيمان، لأن الضراعة أعظم العبادة، كما قال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تضَرعا وَخُفْيَةً. . .). يختبرهم سبحانه من بعد الشدة بالنعمة، ولذا قال سبحانه:
* * *(6/2904)
ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
(ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ... (95)
* * *
(ثُمَّ) هنا لبيان التراخي والافتراق بين ما كانوا عليه من بأساء أصابت أحوالهم، وضراء أصابت أجسامهم وما اختبرهم من نعماء عمتهم، فالفارق المعنوي والحسي بينهما عظيم.
وقوله تعالى: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي جعلنا بدل السيئة في مكانها الحسنة، والسيئة هي ما يسوء وهي هنا البأساء والضراء، لأنهما تسوءان، والحسنة هي هنا الخير الذي يفيض به عليهم بعد الشدة، وصور الله زيادة الخير بقوله تعالى: (حَتَّى عَفَوْا)، أي كثروا، ونموا وزادوا، فالعفو يطلق بمعنى الكثرة وبمعنى اليسير، وبمعنى درس، وقدم.
وهي هنا بمعنى كثروا ونموا، وزاد الخير فيهم، فعندئذ لَا يذكر الجاحدون أنه فضل الله تعالى ونعمته، وأنه إذا كانت الشدة توجب الضراعة، فالنعمة توجب الشكر، ولكنهم بدل أن يشكروا، يقولون ذلك لنا وهو ما كان لأسلافنا وآبائنا مستهم الضراء والسراء، وهكذا دواليك، نسوا الله، وحسبوها أمرا ينزل بهم خيرا بعد ضر، وإذا كانوا ضرعوا في الشدة، فقد كفروا بالنعمة وهم يمرحون، وكذلك شأن الجاحد دائما كما قال تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ. . .)، كما قال تعالى في شأن النفس الإنسانية: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11).(6/2904)
وهكذا شأن الكافر، تبئسه الشديدة، وتطغيه النعمة، فهو غير ثابت النفس، منكر لحكم الله تعالى، وأما المؤمن فقلبه مطمئن بالإيمان ثابت قار؛ ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " (1) - فالنعم والنقم للمؤمن سواء في خيريتها؛ النقم تصقله وتهذبه والنعم يحس فيها بوجوب شكر المنعم، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن المؤمن إذا أصابه السقم ثم أعفاه الله منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه وموعظة له فيما يستقبل، وإن المنافق إذا مرض ثم أعفى كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه فلم يدر لم عقلوه، ولم يدر لم أرسلوه " (2).
إن الجاحدين أذلتهم المحنة، وأطغتهم النعمة وكفروا بالنبي الذي بعث لهم، ولم تُجْدِ فيهم الشديدة ذاقوها، ولا النعمة فاضت عليهم، بل زادتهم النعمة جحودا، وقالوا هكذا كان آباؤنا مستهم الضراء والسراء، فسنة الأولين تجري علينا، ونسوا الله تعالى فأنساهم أنفسهم، وبينا هم يرتعون فيما أنعم الله عليهم لاهين عنه - أنزل بهم عذابه فقال: (فَأَخذْنَاهُم بَغْتَةً وهُمْ لَا يَشْعُرُونَ).
" الفاء " هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنه بسبب أنه لم تُجْدِ فيهم الشدة، وأغرتهم النعمة، عاقبناهم، فأخذناهم إلى الهلاك، بالرجفة أو بريح فيها عذاب شديد، أو جعلنا قريتهم عاليها سافلها، وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل، وكان ذلك بغتة، لم يتوقعوا وقوعه، بل جاءهم فجأة وهم لَا يشعرون، أي لا يحسون بأنه سينزل بهم، وإن الفجاءة تكون شديدة على من لَا يؤمن بالله تعالى " لأنها تأخذه وهو في مرحه وعبثه، وذلك بخلاف المؤمن؛ ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " موت الفجأة راحة للمؤمن، وأخذه أسف للكافر " (3).
* * *
________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه الدارمي، وأبو داود بزيادة فيه، وراجع الفتح الكبير 1/ 332، ومشكاة المصابيح 2/ 612.
(3) رواه أحمد: باقي مسند الأنصار - باقي المسند السابق (24521).(6/2905)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
* * *(6/2905)
إن الكون يسير على سنة الله وعلى نواميس محكمة يدبرها منشئ الكون وخالقه، والقيوم عليه بحكمته وإرادته المختارة، فهو الفعَّال لما يريد.
وإن من سنته - سبحانه وتعالى - أن يوزع الأرزاق علمي من يستحقها في علمه المكنون، وهو العزيز العليم، وفي هذا النص الكريم يتبين أنه - سبحانه - يعطي القرى حسب إيمانها وتقواها، ويشير إلى أنه إن أمهل الظالمين قاطع عليهم خيرهم جزاء ما اكتسبوا.
يقول سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا).
(وَلَوْ) يُسمُونها امتناع لامتناع، وهي داخلة على فعل مقدر تقديره: لو ثبت أن أهل القرى - أي المجتمعات الكبيرة - التي يقرى إليها الناس آمنوا بالله حق إيمانه، واتقوه حق تقاته لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، وقوله تعالى:
(لَفَتَحْنَا) جواب، و " اللام " دالة على الجواب، والمراد - والله أعلم - أنزلنا عليهم من السماء، وأنبتنا لهم النبات في الأرض، على أن يكون ذلك بركة، أي خيرا كثيرا ناميا، فالظاهر إنزال المطر، وإنبات ثمرات كل شيء من عند الله تعالى.
والتعبير بـ " فتحنا "، تعبير مجازي، شبه فيه نزول المطر وانهماره بفتح السماء والأرض فشبه نزول المطر مدرارا من السماء عليهم بفتح باب يدخل فيه الناس أفواجا أفواجا، وذكر قوله تعالى: (عَلَيْهِم) قرينة على أنه المطر، وإن ارتباط الأرزاق بالتقوى والإيمان ذكره الرسل في دعواتهم إلى أقوامهم، فقد قال نوح لقومه: (. . . اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا)، وقال هود لقومه: (. . . ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرارًا. . .)، ورسل الله تعالى لَا يخدعون أقوامهم، بل إنهم الصادقون المبعوثون رحمة للعالمين. ولقد قال في يونس وقومه: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَة أَلْفٍ أَوْ يَزِيدونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)، وقال تعالى: (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98).(6/2906)
وهكذا نجد النصوص الكريمة تفيد أن مقت الله تعالى من الضراء، والشدائد تنزل بالعاصين كما قال سبحانه، وكما جرى على ألسنة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.
ولقد رأينا ذلك رأي العين، فقد وجدنا رجالا كفروا بأنعم الله وساقوا أممهم إلى الفجور، والعصيان، فنزل عليهم غضب الله تعالى في خذلان مستمر، ونكسة وراء نكسة.
وإنا لَا نقول مقالة بعض الفلاسفة الذين يربطون الأخلاق الإنسانية بنظام الكون، فيقولون: إذا فسدت الأخلاق، اضطرب الكون، وانعكس الفساد في سير الأفلاك، وفي السماء وفي الأرض، وهي الفلسفة الكونفوشيوسية.
لا نقول ذلك، ولكنا نرى أن الله تعالى ربط الكفر والعصيان بهلاك الأمم، وربط فتح الأرزاق بالتقوى والإيمان، لنؤمن به، ولكن لَا نغالي مغالاة الفلاسفة. ويجب أن ننبه إلى أن المؤمنين قد يختبرون بالشدائد والمكاره ليتبين صبرهم، ويحق جزاؤهم، ولذا قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).
فإن ذلك الاختبار للقوى المؤمنة في تقواها، لَا يمنع أن الله تعالى ينزل عليهم خيرهم، والعاقبة للمتقين.
بين الله تعالى أن أهل القرى لو آمنوا لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، ولكنهم لم يفعلوا، ولذا قال: (وَلَكِن كذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكسِبُونَ) الاستدراك هنا من الوعد بفتح السماء والأرض بالبركات، فهم كذبوا ولم يؤمنوا، ولم يتقوا، فحق عليهم العذاب الشديد في الدنيا والآخرة، ولذا قال تعالت كلماته: (فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) " الفاء " هنا لترتب ما بعدها على(6/2907)
ما قبلها، أي بسبب هذا التكذيب أخذناهم بالرجفة أحيانا، وبإمطار الحجارة أحيانا، وبعذاب من رجز أليم.
وذلك بسبب ما كانوا يكسبون من كفر وجرائم إنسانية، واغترار بالحياة الدنيا.
ومع توالي العبر، ووقوع عذاب الله بالكافرين يفترون بالدنيا، ولا يحسبون حسابا لعذاب الله النازل بهم في الدنيا؛ ولذا قال تعالى:
* * *(6/2908)
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)
(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)
* * *
" الفاء " عاطفة ترتب ما بعدها على ما قبلها، وهي داخلة على ألف الاستفهام، ولكن قدمت ألف الاستفهام، لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام إنكاري لإنكار الوقوع، أي ما آمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون.
إن الذين تأخذهم الدنيا بغرورها ينسون بأس الله تعالى، ولو كانوا يذكرونه ما غفلوا، وما نسوا أنه قادر على كل شيء، وفي أي وقت، فليس لهم أن يأمنوا أنهم مستمرون في غيهم من غير أن يبغتهم الله ببأس شديد.
فهذا الاستفهام تنديد لهم بفعلتهم، فهم لَا يأمنون هذا، ولكن حالهم توهم أنهم آمنوا، فالله تعالى ينبههم إلى أنه أمان الغافل الذي لايعرف أنه يعاند الله.
و (بَأْسُنَا) أي الشدة التي تنزل بهم عقابا على جحودهم، وعبرة لغيرهم تجيئهم ليلا، وتجيئهم ضحى، والله محيط بهم، وقوله ثعالى: (بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ) يشير إلى أن بأس الله تعالى يأتيهم وهم في غفلتين، غفلة الليل والبيات فيه حيث الأمن والدعة والقرار، والغفلة الثانية - غفلة النوم حيث يكون النعاس قد غشيهم، وهم لَا يفكرون فيما ارتكبوه من عناد وجحود لله تعالى الذي لَا يغفل عنهم أبدا.(6/2908)
فهل أمِنوا هذا، وهم لَا يملكون شيئا بجوار قدرة الله تعالى: وإذا كانوا لا يامنون بأس الله (بَيَاتًا)، فإنهم لَا يأمنونه ضحى؛ ولذا قال تعالى:(6/2909)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
(أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
" الواو " واو العطف دخلت على همزة الاستفهام، ولكن قدمت الهمزة في السياق؛ لأن الاستفهام له الصدارة، والاستفهام هنا إنكاري، بمعنى نفي الوقوع مع التوبيخ، أي لَا يؤمنون أن بأس الله وشدته التي تكون نكالا وعبرة، أن يأتيهم ضحى، في النهار وضحاه، والشمس ساطعة تبين كل شيء وتكشفه، (وَهُم يَلْعَبُونَ) سمى الله تعالى عملهم لعبا، واللعب هو العمل العابث الذي لَا يقصد ضرا ولا نفعا، سمى - سبحانه وتعالى - عملهم لعبا لأنهم ما داموا لَا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر يكون عملهم كاللعب؛ لأن القصد الطيب هو أن يكون طاعة لله تعالى، وقد عصوه، فإن العمل الذي يخرج عن اللعب هو عمل الخير، ولا خير في معصية، ولا خير يكون من جاحد، يشرك مع الله أحدا.
وإن الآيتين الكريمتين تفيدان أولا أنهم في غفلة لاهون لا يشعرون بعاقبة أعمالهم، وآثامها، وإنهم عمون غير مدركين. وتفيدان ثانيا أن بأس الله تعالى يأتيهم من حيث لَا يحتسبون ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم يلعبون، وإن ذلك بتدبير الله تعالى، ولذا قال بعد ذلك:(6/2909)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
" الفاء " هنا عاطفة يترتب ما بعدها على ما قبلها، لأنهم إذا كانوا لم تجدهم النقمة ولا النعمة، وبأس الله يأتيهم في مأمنهم ليلا وهم نائمون، وضحى وهم يعملون عملا لَا جدوى فيه فهو لعب أو كاللعب، فهم لَا يأمنون.
ومكر الله تعالى تدبيره المحكم الذي يُنزل به العذاب السريع على من يستحقه، والأمن والطمأنينة لمن يستحقه، وهو الحكيم، وقد فسر بعض المفسرين بأنه العذاب، أو البأس الشديد، وهو تفسير بالنتيجة، إنما هو من الله التدبير(6/2909)
المحكم. والمكر قسمان: مكر سيئ وهو الذي يكون من الأشرار، ونتيجته شر، ومكر طيب وهو رد مكر الأشرار، ونتيجته طيبة، ولقد قال في شأن قريش في تدبيرهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)، أي أنهم كانوا يدبرون لإيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويمكرون المكر السيئ الذي لَا يحيق إلا بأهله، والله تعالى يدبر لنبيه نجاته منهم، وهجرته من أرضهم من غير إخراج، حتى يكون الفصل بينه وبينهم.
والاستفهام إنكاري بمعنى النفي والتوبيخ، فهم لَا يأمنون مكر الله، ويوبخهم الله - سبحانه وتعالى - لأنهم غفلوا عن الحق، ونسوا تدبير الله تعالى المهلك لهم جزاء بما كسبوا، وبما كذبوا بآيات الله، لأنهم يامنون مع ذلك العذاب الشديد ينزل بهم، وهذه غفلة شديدة، وعدمِ اعتبار بما كان لمن قبلهم؛ ولذا ختم الله - سبحانه وتعالى - الآية بقوله: (فَلا يَأمنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
إن المؤمن يتفطن دائما لمقام قدرته تعالى بجوار قدرته، وإذا عصى يتوقع عذاب الله تعالى من عصيانه، ويتخوف ولا يأمن أن تنزل به العقوبة، وإن المؤمن لفرط حسه بمعصيته، وإيمانه بالله يخاف دائما عذابه، ولا يرجو إهماله وقد عصاه؛ ولذا كان من المبادئ الصوفية (تغليب) الخوف على الرجاء، لأن الخوف من غيبر إسراف على النفس من ورائه التقوى، والرجاء من غير أسبابه يفضي إلى الغرور، ووراء الغرور الاستهانة بأمر الله تعالى ونهيه.
والكافر يعصي، ويرى عصيانه حسنا، وينسى قوة الله، وأنه يعاند ويحارب أمره ونهيه، ناسيا أنه يعاند القوي القادر القهار الذي هو غالب على كل شيء، وأنه لَا إرادة لمخلوق بجوار إرادته - سبحانه وتعالى - وعلى ذلك يأمن عذاب الله وتدبيره، وإن ذلك هو الخسران المبين، ولذا حكم الله تعالى بأنه: (فَلا يَأمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ).
وحكم الله تعالى بخسارتهم، مؤكدا الخسارة بالقصر، وأن الخسارة مقصورة عليهم، وخسارتهم في أنهم خسروا أنفسهم فليسوا في حال عقلية مدركة،(6/2910)
وخسروا أنفسهم بالاستمرار على غيهم، وخسروا بالعذاب الأليم الذي ينزل والله سبحانه هو الذي يقي المؤمنين شر الغفلة والنسيان وأمن عذاب الله، وجعلهم في فطنة دائمة واعتبار بأمر الله ونهيه، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
وقد حذر الله تعالى الذين يرثون الأرض بأسه الذي ينزل بهم، ولذا قال:(6/2911)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) الواو عاطفة، وقدمت عليها همزة الاستفهام؛ لأن الاستفهام له الصدارة في الذكر، وإن هذه عبرة القصص من ذكر أولئك الذين ذكر الله - تعالى بيانه - ذكرهم، وورث هؤلاء أرضهم.
والاستفهام إنكاري، للنفي، وهو حض للذين يرثون الأرض بعد أولئك الذي أنزل الله تعالى بأسه بهم، ومن الذين ورثوا الأرض أهل مكة، فهو تحريض لهم على النظر في العبر من هذا القصص الذي ذكر فيه مال الكافرين من قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وقوم شعيب، وآثارهم بجوار الأرض التي يقيمون فيها، فعليهم أن ينظروا ويعتبروا إن كانت لهم أبصار يعتبرون بها وعقول يهتدون بها.
وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا)، معناه يتبين لهم، وقرئ بقراءة مشهورة متواترة: " أولم نهد "، بالنون بإسناد الهداية إلى الله، ومعنى القول الكريم على هذ!: أولم نبين لهم هادين مرشدين معتبرين بالقصص، أن لو نشأ أخذناهم بذنوبهم، وأنزلنا عليهم البأس الذي نزل بغيرهم.
و" هدى " يتعدى بنفسه، في المفعول الأول، وباللام أو " إلى " في المفعول الثاني، فيقال: هديناه إلى الخير، أو: إلى الطريق، أو للطريق.
وهنا في قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ) فيه نهدي، أو يهدي متضمنا معنى يبين، وذكر لفظ الهداية للدلالة على أنه بيان للهداية الحقة.(6/2911)
وقوله تعالى: (أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصباهُم بِذُنُوبِهِمْ) و " أن " هنا مخففة من الثقيلة أي أنه الحال والشأن لو نشاء أصبناهم أي أنزلنا عليهم بأسنا، كما أنزلناه على من سبقوهم بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها من شرك ومحاربة لله تعالى، وكفر بالمبادئ التي جاء بها النبيون معاندين جاحدين، وأسباب الصدق ثابتة، وطرائق الهداية قائمة.
وقوله تعالى: (وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ)، أي الحال أننا في على قلوبهم بخاتم الضلالة فلا يسمعون. وإن مغزى الكلام السامي في هذا أن المشركين الذين كانوا يستعجلون العذاب، كما قال تعالى: (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ. . .)، إنهم كانوا يستعجلون العذاب، وساق لهم الله من قصص الكافرين وما نزل بهم، ألم يبين لهم؟! وقد استدرك - سبحانه - فقال: (وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعونَ)، أي أن الله طبع على قلوبهم، فهم لَا يسمعون القصص الحق، ولا يحاولون أن يدركوا مغزاه، وختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، وفي هذا المعنى قال الله تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَات لأوْلِي النُّهَى)، وقال تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6).
* * *
قال تعالى: (تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
* * *
الخطاب في قوله تعالى:(6/2912)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)
(تِلْكَ الْقُرَى) للنبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد جاء بالحق الذي يتفق مع الفطرة، فكان يجد الكفر والإنكار والعصيان ومعاداة الله ورسوله،(6/2912)
فتذهب نفسه عليهم حسرات، حتى قال الله تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، فالله تعالى يبين له العبرة في قصص النبيين، وأن أقوامهم كفروا بهم وعاندوهم، حتى جاء أولئك بأسُ الله، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد.
والقرى: المجتمعات الكبيرة التي قص الله تعالى قصصها من أخبار قوم نوح، وعاد وثمود، وآل مدين، وقوم لوط.
وقوله تعالى: (نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا) نتبع أخبارها بالقصيص، والأنباء: هي الأخبار ذات الشأن الخطر التي تفيد العظة والاعتبار، والاطمئنان للنبي - صلى الله عليه وسلم -. هذه أخبارهم أو أنباؤهم ذات الشأن (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبينَاتِ)، أي بالأدلة المعجزة الموجبة للإيمان، وأكد - سبحانه - أن الرسل جاءتهم بالبينات بقوله (وَلَقَدْ)؛ لأن اللام للتأكيد، وقد للتأكيد، والتأكيد ليس لمجيء الرسل، إنما هو لمجيئهم بالبينات التي فيها الحجج القاطعة التي لَا يرتاب فيها طالب للحق، وإنما يرتاب المرتابون الذين لَا يؤمنون بحق، ولا يطلبون الهداية، ولا يخضعون للحق إن بدت أماراته، وظهرت بيناته.
وقد وصف الله تعالى حال الذين يصلون، ويختم على قلوبهم بالباطل، فذكر أنهم مبادرون بالإنكار والتكذيب من غير أن يفحصوا ما جاء به الرسول من أدلة فإذا سبق الإنكار والتكذيب تشبثوا بهما وقد حجبوا عن أنفسهم النور وكلما أمعنوا في التعلق بما سبق إلى نفوسهم ازدادوا جحودا ولا تزيدهم الآيات إلا كفرا، وإعناتا.
ولذا قال تعالى: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ) " الفاء " للإفصاح إذ تفصح عن شرط مقدر، وقوله تعالى: (فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا)، أي مما كان من شأنهم أن يؤمنوا وقد سارعوا إلى التكذيب بمعنى قبل أن يفحصوا بميزان الفعل،(6/2913)
ويثبتوا، ولقد قال في ذلك ابن كثير في تفسيره والباء في قوله تعالى: (بِمَا كَذَّبُوا) للسببية أي ما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد لهم، حكاه ابن عطية رحمه الله، وهو متجه حسن.
وذلك لأن أول خاطر يتعلق بالنفس، ويلتصق بالفكر، فيكون التخلي عنه محتاجا إلى جهد لَا يستطيعه إلا الصابرون، وإن أولئك الذين يكذبون لأول وهلة من غير نظر يصلون إلى الحق بمجهودين أولهما الانخلاع مما سبق إليهم، والثاني التماس البينات بلب سليم، وفكر مستقيم قد خلا مما يعوقه.
ولقد بين تعالى أن هذا طريق إغلاق القلوب عن نور الحق (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ).
أي كهذه الحال التي رأيتموها من المسارعة بالتكذيب لأول وهلة والاستمساك بأهدابه، ليطبع الله على قلوب الكافرين، فلا يدخلها نور الحق، فهم سلكوا الباطل مسارعين إليه، قبل أن يتبعوا، فلما جاءهم الحق بالبينات فكان القلب قد أغلق على الباطل، فضلوا وما أضلهم الله، إذ هم الذين سدوا الطريق وإن أولئك الذين طبع الله تعالى على قلوبهم قد أفسدوا فطرتهم بإصرارهم على التكذيب، وخالفوا العهد الذي أخذ الله على بني آدم من ظهورهم ذريتهم؛ ولذا قال تعالى:(6/2914)
وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
(وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
الفطرة الإنسانية توجب الإيمان، لو استقامت على طريقتها من غير وسوسة الشياطين؛ ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري ومسلم: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبوه يهودانه، وينصرانه ويمجسانه " (1).
وروى مسلم بسنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى: " إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم " (2).
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.(6/2914)
وإن الله تعالى عهد إلى بني آدم من ظهورهم ذريتهم أن يؤمنوا بالله، فقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172).
هذا عهد الله على بني آدم، وهم في ضلال آياتهم، قبل أن يصلوا إلى أرحام أمهاتهم، وهذا يدل على أن الإيمان الذعن هو استجابة للفطر، ومن يكفر بالحق إذ جاءه إنما يحيد بالإنسان عن طريق الفطرة المستقيمة.
وقوله تعالى: (وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) الذين فسقوا عن أوامر الله تعالى ونواهيه التي جاء بها النبيون وكذبوا ليس لهم من عهد، يوفون به، حتى عهد الفطرة التي فطرهم الله تعالى، فهم خالفوا العهد الأول، وخالفوا كل عهد عاهدوه، حتى انحلت نفوسهم انحلالا، و " مِنْ " هنا لاستغراق النفي، أي ما وجدنا لأكثرهم أي عهد يحترمونه، وينفذونه، وأولها وأقواها عهد الفطرة الذي أخذه الله تعالى في الأصلاب.
وإذا كانوا لَا عهد لهم، وخالفوا فطرة الله التي فطرهم، فهو فاسقون خارجون عن قضايا العقل البديهية؛ ولذا قال تعالى: (وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ) إن هنا هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن اسمها، وقوله تعالى: (وَجَدْنَا أَكثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ)، والمعنى إنه أي الحال والشأن وجدنا.
واللام في قوله (لَفَاسِقِينَ) لام التوكيد، واقعة في خبر إن.
ونجد هنا حكم الله تعالى العادل، يحكم بالكثرة الغالبة، لَا بالكلية الشاملة، فمنهم صالحون ومنهم فاسقون وإن الأمم لَا توصف كلها بالفسوق؛ لأنها تفسق كلها، إنما توصف بالفسق، لأن كثرتها الغالبة المسيطرة، الفاسقة فهي الظاهرة البارزة، وهي المسيطرة على الجماعة، وهي التي توجد رأيا عاما فاسدا، يسوده الشر، ويختفي فيه الخير والله رءوف بالعباد.
* * *(6/2915)
موسى وفرعون وبنو اسرائيل
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَإِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
* * *(6/2916)
ذكر الله تعالى أخبار الأنبياء الذين أشرك أقوامهم، ودعوة الأنبياء لهم فذكر نوحا وقومه، وما نزل بهم، وذكر عادا، ونبيهم هود، وثمود ونبيهم صالحا، وذكر لوطا وقومه وما كانوا عليه من مفاسد لم يسبقهم بها أحد من العالمين.
وقد بين - سبحانه وتعالى - سنته في هداية الأقوام، وكيف يضلون.
ومن بعد ذلك ذكر موسى - عليه السلام - وأنه لقي أكبر طاغية في عصره، وإن وجد من حاول محاكاته من بعده ومع موسى وفرعون ذكر لأحوال بني إسرائيل، بعد أن أنقذهم موسى - عليه السلام - من فرعون الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم.
وإن هؤلاء في الزمن بعد من سبق ذكرهم في القرآن من نوح إلى شعيب، وأكثر أولئك كانوا في البلاد العربية. وموسى - عليه السلام - نشأ في مصر، وبعث في أرض مصر، وتقدم هو وأخوه هارون لدعوة فرعون.
قال تعالى:(6/2917)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
(ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).
والتعبير بـ (ثُمَّ) يدل على بعد الزمان والمكان ما بين هؤلاء الذين جاء ذكرهم من الأنبياء، وموسى - عليه السلام - فأولئك كانوا قبله بقرون وكانوا في أرض العرب، وموسى في أرض مصر، وأولئك خاطبوا أقوامهم في صحراء أقرب إلى البادية ولم تعرف لهم حضارة، وموسى - عليه السلام - كان في أرض فرعون، وفيها ملك ثابت، وإن لم يقم على الإيمان، وكانت مصر ذات علوم وفنون.
ويقول الله تعالى في بعث موسى: (إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ) فلم يكن إلى فرعون وحده، بل كان إليه وإلى الكبراء من قومه فذكرهم مع أنه إذا ذكر جاءوا في ذكره ضمنا، ونقول: إن كل ذي طاغوت لَا يكون طاغوته من شخصه وحده،(6/2917)
بل منه ومن حاشيته فهم مطبوعون بطابعه، يزينون له ما يفعل، ويحسنونه ويؤيدونه، ويشجعونه، ولولا أنهم حوله ما طغى وبغى، أو ما كان طغيانه بالمقدار الذي وصل أو يصل إليه كل طاغية، ولقد رأينا بعض الطواغيت في هذا الزمان يتخذ حاشية تعينه على الظلم، بل تطغى عليه وهو لَا يشعر، رأينا ذلك رأي العيان؛ ولذا خص الله تعالى ملأ فرعون بالذكر، وسنجد من سياق القصص الحكيم في أمر فرعون أنه ملأه كان يعاونه بالقول والفعل، ويسكت عن جرائمه من اعتراض دائما.
وقد نسب الله تعالى الظلم إليهم مع فرعون ولم يفرده بالظلم، فقال: (فَظَلَمُوا بِهَا) فلم يكن الظلم من فرعون وحده بل كان منه ومن هذا الملأ والشعب مأكول فيهما ومأسور بظلمهما.
والظلم يشمل ظلم الرعية، ويشمل الظلم في العقيدة بالشرك، وإن الشرك لظلم عظيم، والظلم يؤدي الفساد، فالشرك في العقيدة إفساد للعقل والفكر والنفس بالضلال، والضلال أبلغ أنواع الشرك، والشرك ينشأ من الأوهام ويؤدي إلى كثرة الأوهام والضلال، ألم تر أنهم كانوا يعبدون العجل، والظلم يؤدي إلى فساد الرعية بالخنوع والطاعة للظالم، والرضا بالهون، وفقد الحرية والاندفاع في الظلم، حتى ساغ له أن يقول لهم: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى.
ولذا قال تعالى بعد أن ذكر الظلم: (فَانظُرْ كيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) انظر يا محمد مآل الذين أفسدوا في الأرض بشركهم وإرهاقهم للرعية، واستبدادهم إني عاقبتهم أن أغرقوا في اليم، ولم يُجْد فرعون وملأه أن قالوا: آمنا برب هارون وموسى.
فلننظر إلى ما كان من فرعون أكبر طاغية في عصره، ويحاكيه الطغاة في كل عصر، وقد كان فرعون جاهل في أرض مصر، وسام أهلها سوء العذاب، لجنونه وحمقه وجهله، حتى أرداها فيما لم تترد فيه شيء أي عصر من عصورها.(6/2918)
أيد الله موسى بمعجزات كثيرة، عدها الله تعالى آيات، أيده بالعصا، وباليد البيضاء من غير سوء والسنين، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، وكانت هذه الآيات الكثيرة لإمعانهم في الضلال والطغيان، وكانت كل آية تأتي في حال تناسبها، ووقت الحاجة إليها.
* * *
موسى يواجه فرعون(6/2919)
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)
(وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)
* * *
" الواو " عاطفة على (بَعَثْنَا) وهذا الكلام تفصيل لمعنى بعثة موسى، واجه فرعون ومعه أخوه كما جاء في سورة طه، وكما سيجيء في هذه، وتقدما إليه، وهما في وجل بَشَرى (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى)، والطاغي يرهب لأنه لَا قيد من حق أو دين أو إيمان أو خلق، ولكن الله أيدهما، فقال: (. . . لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى).
تقدم موسى إذ علم أن الله معه، وهو فوق الجبارين قاهر فوقهم.
(وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يُشعر فرعون بالخوف من الله كما شعر أولا بالخوف من فرعون حتى ثبته الله وإشعاره بالخوف بذكر الحق، وهو أنه رسول من الذي خلق الناس ورباهم وهو المسيطر على كل من في الوجود، ولست المسيطر.
وقد جابه فرعون بأنه يخاطبه بالحق الذي لَا ريب فيه، وأنه يطالب برفع الظلم عن قومه بني إسرائيل، قال له:(6/2919)
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)
(حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ... (105)
(حَقِيق): فعيل من الحق، وفيها مبالغة في التمسك، أي حقا عليَّ ألا أقول على الله إلا الحق، أي أنه حق عليَّ ألا أقول على الله إلا أنه رب العالمين، وإني لَا أعترف لك بشيء مما تدعيه لنفسك، وهذه مجابهة لمن هو في حال فرعون(6/2919)
الذي يقول: ما علمت لكم من إله غيري، فهذا صدع بالحق من غير أي مواربة، وقال ذلك موسى، ولم ينتظره حتى يطلب دليلا، بل قال له موقنا مفحما (قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَة مِّن رَبِكُمْ) أي قد جئتكم بحجة مثبتة مبينة من ربكم، وخاطبة بقوله: (مِّن رَّبِّكُمْ) سالبا منه كل معاني الربوبية، وقاصرا لها على رب العالمين، فهو ربي وربكم، وأول طلب طلبه رفع الظلم القائم، وابتدأ بما يخصه فقال: (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) الفاء للإفصاح عن شرط، أي إن كنت قد أرسلت إليك وملئك من رب العالمين، فأطلق معي بني إسرائيل من الذل الذي هم فيه. ونلاحظ بعض إشارات بيانية:
الأولى - أنه حصر الألوهية في الله تعالى وأن فرعون ليس بإله، وأن الله وحده هو الإله الحق في قوله: (أَن لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ) أي في ألوهيته وعدله، ولتكن أنت ما تكون.
الثانية - أنه أفرد الخطاب لفرعون في قوله: (يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ)، وجمع في قوله: (قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ)، وأفرده في قوله: (فَأَرْسِلْ مَعِيَ بنِي إِسْرَائِيلَ)؛ لأنه بسلطانه أسرهم، وما كان ملؤه له إلا معاونين.
وجمعهم في قوله: (قَدْ جِئْتُكُم)؛ لأن الدعوة الموسوية، لهم جميعا، ولأنهم أعوانه المشاركون له في ظلمه.
الثالثة - الإشارة بالرسالة بأنه حق عليه أن يبلغها صادقا.
أجابه فرعون، ولم يفرط عليه أو يطغى، كما توقع أولأ لأنه أحس برهبة الحق، ولأن الله تعالى ألقى في روع فرعون مع طغيانه رهبة الحق، أجابه بقوله: وقال:(6/2920)
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)
(قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) إن ذا الجبروت إذا وجد في الموقف ما يرهبه اتزن في القول ولم يشطط في الخطاب، ومعنى قوله: إن كنت قد جئت إلينا بآية أي معجزة تدل على أنك رسول، أو على صحة ما تدعو(6/2920)
إليه، فأتنا بها إن كنت من الصادقين، أي إن كنت من زمرة الصادقين الذين لا يفترون ولا يكذبون.
أمر الله تعالى موسى - عليه السلام - بأن يجيب جوابا عمليا، والعمل يبهت الظالمين،(6/2921)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107)
(فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108).
معجزتان من المعجزات التسع التي أيد الله تعالى بها موسى أمام فرعون الطاغية، لعنه الله تعالى، ولعن كل من حاكاه من الطغاة، أما المعجزة الأولى فإنها العصا، ألقاها على الأرض، وهي في يده عصا، فإذا هي على الأرض حية تسعى، أذهلت وأفزعت، وأثارت العجب.
هذه هي الأولى، وقد جاءت على الصورة من انقلاب العصا إلى ثعبان واضح مبين، وذلك في مظهره قريب من السحر، وقد كان أهل مصر اشتهروا بالسحر، فالسحرة علماؤهم وكهنتهم، وما كان فرعون يحكمهم إلا بهذه الأوهام، وكذلك تجد كل الطغاة الذين حاكوه وخصوصا في مصر يستجلبون كل من يتعاطون السحر، ويقربهم زلفى إليهم.
وعلم السحرة - كما سيأتي - أن ما جاءهم به ليس من السحر في شيء، وإن بدا أمام الناظرين في صورته.(6/2921)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
الآية الثانية أو المعجزة الثانية أنه أدخل يده في جيبه، فخرجت من الجيب ساطعة البياض لها نور، ولها لمعان من غير سوء أي مرض، كما قال تعالى: (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ. . .)، ولقد روي عن ابن عباس أنه قال: " كان ليده نور ساطع يضيء ما بين السماء والأرض " أفزع فرعون هذا، ولم يتكلم، ولكن تكلمت الحاشية متحدية الحق والرسالة، تأكيدا لولائهم، وتشجيعا على الإنكار، وما كان لهم أن يتكلموا عن بياض اليد؛ لأنه فوق ما يستطيعون وما يعلمون، وحاولوا إبطال الأولى؛ لأنها تتعلق بنوع علم(6/2921)
عندهم، والعاجز عن رد الحجة يختار ما يحسبه أسهل في الاستدلال عليه فيتكلم فيه، ليشغل الناس عن الآخر، وما كان كلام الحاشية إلا تشجيعا على الإنكار؛ لأنهم طوعوا أنفسهم على العيش بجوار فرعون، وقد رأوا دعوة موسى اعتداء على ألوهية فرعون في زعمهم، فسبقوه إلى الإنكار مرضاة له، حتى رموه في البحر(6/2922)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)
(قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
اتجهوا إلى الإنكار سابقين فرعون ليرضوه بالإنكار، وليشجعوه عليه، ولم يكتفوا بتحريض فرعون، ورميه بأنه ساحر عليم بل أرادوا أن يحرضوا الشعب عليه،(6/2922)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
وشعب مصر، وإن لم يحافظ على حريته أمام فرعون يحافظ على استقلال بلده، وأن يحكمه حاكم من أهله، ولو كان مستبدا عاتيا، كفرعون؛ ولأن موسى من بني إسرائيل جاءوهم من قبل استقلالهم، فقالوا يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره، أي يفقدكم استقلالكم ويجعلكم محكومين ببني إسرائيل كما حكمكم الهكسوس من قبل، (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) أي فماذا ترون وتأمرون يا معشر شعب مصر، فدَبِّروا الأمر لهذا الذي يفقدكم استقلالكم، وعبر عن ذلك بقولهم: (يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ) لأن من يفقد استقلاله يخرج عن أرضه، ويتسلمها من يتحكم فيها؛ إذ يتصرف فيها كما يشاء، وليس لأهلها فيها أمر، كأنما أخرجوا.
قال الممثلون للشعب، أو الحاضرون منه، أو من جمعوهم ليؤلبوهم على موسى وهارون.(6/2922)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)
(قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
كان أمرا خطيرا ذلك الذي جاء به موسى، فما تعودوا من فرعون إلا أن يأمر وحده، وأن يطاع وحده فيجيء من تربى في بيته، ويصدع بين يديه بالحق، يشتد في دعوته، ويجيء الكبراء يحرضون الشعب عليه، إنه لأمر خطير، لم يعهدوه، فلابد أن تجمع الجموع لتتضافر في مقاومته.(6/2922)
قال الذين تكلموا من الشعب: (أَرْجِهْ وَأَخَاهُ) أي أرجئه وأخاه، أي أجِّله زمنا، وأرجه أصلها أرجئه وأخاه، فحذفت الهمزة تخفيفا، والضمير يعود على موسى، وأخوه هو هارون الذي أرسله الله تعالى مع موسى ردءا له يعضده، ويعاونه - أرجئهما، أي أجلهما، وقيل أرجه بمعنى احبسه، ونرى أن (أَرْجِهْ) معناه تأجيلهما، والشعب أو المتكلمون باسمه كانوا أقرب إلى الحصفة؛ لأنهم يقولون لَا تتعجل أمرهما حتى ندرسه مع أهل الخبرة بالسحر (وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ) في قرئ مصر وريفها (حَاشِرِينَ) اسم فاعل من حشر، أي جامعين الناس لمشهد عظيم،(6/2923)
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
(يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) أي يأتوك بالمهرة من السحرة، وعبروا عن أولئك المهرة، ووصفوا أيضا بأنه (عَلِيمٍ) مدرك لألاعيب السحر، وأفانينه، فهو عمليا (سَاحِرٍ)، وعلميا (عَلِيمٍ) ذو خبرة.
تضافرت القوي ضد موسى وهارون، إذ جابها فرعون بإنكار ألوهيته الموهومة، وحرض ملؤه الناس بأنهما يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما.
اجتمعوا، وهنا يظهر الفرق بين المخلص الذي يدعو إلى الحق احتسابا لله، والمأجور الذي يطلب الأجر. استمع إلى قول الله تعالى عنهم:(6/2923)
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)
(وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)
ساوموه قبل أن يبدأوا يطلبون الأجرة، وهذا يدل على أنه مع طغيانه كان أرفق من بعض الحكام الذين حاكوه وساروا على طريقته.
أجابهم فورا:(6/2923)
قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
(قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) ذكر لهم أجرين أحدهما مادي، والثاني معنوي، أما الأول فهو المال الذي طلبوه، والثاني رضاه عنهم، وتقريبه لهم، ولذا أكد الثاني بالجملة الاسمية وبـ " إنَّ " وباللام، وبإدخالهم في ضمن المقربين منه كحاشيته.
وهذا ما كان يعبر في حكم اللوك بالرضا السامي، وعبر به الطغاة في كل زمان بعد أن ضمنوا الأجر والقرب، إن كانوا هم الغالبين. اتجهوا إلى موسى في المشهد العظيم:(6/2923)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)
(قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)
خيروا موسى - عليه السلام - بين أن يبدأواهم بإلقاء حبالهم وعصيهم أو ما معهم بشكل عام، وبين أن يلقي هو، وقدموا التخيير بإلقائه هو عن إلقائهم لأنهم يريدون أن يعرفوا ما عنده من طاقة ويقدروا طاقتهم على قدرها، وعبروا عن إلقائه بقولهم: (إِمَّا أَن تلْقِيَ) معبرين بالفعل استهانة بإلقائه غرورا وتعصبا، وليرضوا فرعون بأنهم فوق موسى في الحلبة، وعبروا عن أنفسهم بقولهم: (وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) بالجملة الاسمية وتأكيدها بلفظ " نحن " وبقولهم " نكون "، وثوقا بأنفسهم وليثبتوا لفرعون أنهم الغالبون.
ولكن فطنة النبوة عند موسى جعلته يقدمهم عليه في الإلقاء، ليعرف ما عندهم:(6/2924)
قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
(قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
ألقوا حبالهم وعصيهم، والسحر لَا يغير حقائق، فلا يجعل العصي والحبال حيات، ولكنه يؤثر في الرائي في نفسه؛ ولذا قال: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ) جعلوهم يرون غير الحقيقة، (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أي طلبوا رهبتهم بذلك السحر، وقد قلنا عند الكلام في السحر: إنه نوع من استهواء النفس، والسيطرة عليها بحيث يجعله في يد المستهوي، أو ما يعبر عنه بالتنويم المغناطيسي، فيغير إحساسها من محبة إلى بغض، ومن بغضٍ إلى محبة؛ ولذلك قال الله تعالى عما يفعله الذين يسحرون: (. . . يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ. . .) فيغيرون حال المحبة بينهما بهذا الاستهواء.
فكل ما فعله السحرة الذين نازلوا موسى - عليه السلام - أنهم استطاعوا أن يموِّهوا على الأنظار، ويسحروا الأعين لَا أن يغيروا حقائق الأشياء، فلم يجعلوا الحبل ثعبانا، ولكن العيون مسحورة، وأرهبوا الناس بعملهم وجاءوا في هذا بسحر عظيم في بابه الذي أتقنوه، إرادة الأجر من فرعون وإرضائه، ليكونوا من المقربين عنده.(6/2924)
عندئذ أثر الحس في نفس موسى، وخاف ألا ينتصر، فأوحى الله إليه (أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ) ولقد صرحِ الله سبحانه في آية أخرى بما أوجس في نفس موسى خيفة فقال تعالى: (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68).
في وسط هذا المظهر السحري، أوحى الله تعالى إلى موسى أن يلقي عصاه.(6/2925)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)
ألقى موسى عصاه، فإذا هي حية تسعى، وإذا هي تلقف وتبتلع حبالهم وعصيهم، (تَلْقَفُ) مضارع لقف بمعنى تلقم وتبتلع، وقد لقفت الحبال والعصي كان يراها الذين سحرت أعينهم حيات وأفاعي، وقد قال تعالى: (تَلْقَفُ مَا يَأفِكُونَ)، أي ما يصرفون به أعين الناس كاذبين، وقد أطلق على الحبال والعصي، أنها (مَا يَأفِكُونَ)؛ لأنها مادة إفكهم وكذبهم وتمويههم، وتضليلهم.
وقد رأى السحرة أن هذا ما ليس بسحر؛ لأن يعلمون أن السحر لَا يغير الأشياء، ولكن يموه على الأنظار، ولكن هذا يغير الأشياء، وليس تمويها على الأنظار، فأدركوا أن آيته تعالى حق، ولقد رأى بحس الأعين المستيقظة أن حبالهم، وعصيهم لَا وجود لها، إذ ابتلعتها العصا.(6/2925)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
(فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)
(فَوَقَعَ الْحَقُّ) أي ثبت وتبين وظهر، (وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون)، أي ظهر أنه كان باطلا، لَا حقيقة، وأن آية الله في العصا ثابتة لَا ريب فيها.
وبدل أن يطلبوا أجرا وتقربا، غلبوا، وقال الله تعالى:(6/2925)
فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
(فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)
غُلب أولئك السحرة، وعادوا صاغرين أذلهم الحق
وغلبهم، وبعد أن كانوا يعتزون بسحرهم أحسوا بصغار الهزيمة يذهب بافتخارهم.(6/2925)
ولكنهم إذا كانوا قد خسروا المعركة، فقد ظفروا بما هو أعظم وهو الإيمان، إذ علموا أنها معجزة حقا وصدقا، وإن موسى وهارون صادقان بالبرهان والدليل، ولذا قال الله تعالى:(6/2926)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
(وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
أي ألقوا بأنفسهم خارين
سجودا لله رب العالمين(6/2926)
رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
(رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)، أي رب العالمين العاقلين، وذكر موسى وهارون على أنه ربهما لَا للاختصاص به، بل لأنهما دعوا إليه.
* * *
فرعون يعذب السحرة الذين آمنوا
(قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
* * *
إن الطاغية لَا يفكر إلا في نفسه، ولا يحس بحق غيره إلا من زاوية استقامة الأمر لأهوائه وشهواته، لقد ثارت نقمة فرعون لأمور:
أولها - إنكار موسى ألوهيته.
ثانيها - تحديه بآياته، وكان يرجو ويتوهم أنه يقضى على موسى بحجته، فاستعان بالسحر والسحرة، فما أسعفوه بحجة، فكان الغلب عليه، فأثاره ذلك. ثالثها - ثم كان من بعد ذلك أن من استعان لهم ليغلبوا موسى وهارون خذلوه.
رابعها - وأيدوهما، وآمنوا بهما، وتشايع بين الناس إيمانهم، فغلت بالشر نفسه، والمعاند لَا تزيده الآيات البينات إلا كفرا، رأى فرعون ما رأى، فلم يؤمن؛(6/2926)
لأن نفسه لم تكن نفس مؤمن، بل طغى وبغى، وقد رأى ملكه يزول، وأوهامه تضمحل فطغى وبغى وآثر الملك والحياة الدنيا على الآخرة، واتجه إلى السحرة، يعذبهم، ويصب جام غضبه عليهم.(6/2927)
قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)
(قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ).
يوبخهم على إيمانهم قبل إذنه، فالاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، وإنكار الواقع توبيخ، وموضع التوبيخ أنهم آمنوا قبل أن يأذن لهم!!، وكان طاغوته قد سول له أنه ملك قلوبهم وألسنتهم فلا تتحرك إلا بإذنه، وقد رأينا ذلك من فرعون دونه عقلا، وفوقه طغيانا.
ولم يذهب إلى نفسه أنه حق أدركوه، وإيمانا صدقوا به موسى وهارون، بل حكم على أساس من وهمه أنه مؤامرة عليه، وهو الذي اصطفاهم واختارهم من بين رعيته وهم مختارون من الشعب فَموَّه على الشعب بباطله أنها مؤامرة عليه وعلى الشعب، فقال: (إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مكَرْتُموهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا)، أي لتفرضوا على أهلها سلطانا غير سلطانها، فتفقد استقلالها، ولا تكون لها أرضها، ردف ذلك بالتهديد الشديد، والعذاب العتيد، قال: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)، أي سننزل بكم عذابا تعلمونه بالعيان، لَا بالبيان، و (سوف) هنا لتأكيد الكلام. أصدر الحكم بخياله وهواه، لَا بعقله والبرهان وهو أغلظ عقاب:(6/2927)
لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
أقسم الطاغي بما يُقسم به عنده أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، أي يقطع من جانب يدا، ويقطع من الجانب الآخر رجلا، وأقسم أيضا ليصلبنهم أجمعين، ولا يستثني أحدا، وقد صرح في آية أخرى بأنه يصلبهم في جذوع النخل.
وهكذا يبتكر الطغيان هذا العقاب الشديد، روى الحسن البصري عن ابن عباس - رضي الله عنهما: إن فرعون أول من عاقب بقطع اليد والأرجل من(6/2927)
خلاف والصلب. وقد كنا نقرأ ذلك ونعجب من أن يكون هذا من فرعون، ويرضى به الشعب المصري، ولكن رأينا ما يقرب منه؛ من طاغية يحاكيه في غير عصره، ورأينا من الشعب المصري من يهلل ويكبر، ويعاون!!
هذا ما هدد به فرعون ونفذ واختص السحرة بذلك، لأنهم أول من تمرد عليه من الشعب، وخشي أن يسري التمرد فشدد العقاب، وترك موسى وأخاه مؤقتا؛ لأنهما لم يكونا من المصريين، بل كانا من بني إسرائيل، ومع ذلك سينتبه إليهم.
وماذا كان موقف من آمنوا عن بينة، وعرفوا الفرق بين السحر والمعجزة لقد قوي إيمانهم؛ لأن الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب، سكن فيها، ولا يستطيع أحد ولو كان فرعون، ومن يحاكيه أن يخرجه من الصدور، لأنه وديعة القوي الجبار الرحمن الرحيم.(6/2928)
قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125)
(قالوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ).
(مُنقَلِبُونَ) أي عائدون إلى ربنا، وهو القوي، فنحن قد لجأنا إلى ركن لا تقوى عليه أنت ومن معك ممن ألفناهم أتباع ظلم وظغيان، إنا عائدون إليه، وسيكون لنا النعيم الخالد، وهو يعوضنا من أذاك، وقد تحررت قلوبنا ورقابنا من طغيانك، يا من ألعن مَن في هذه الأرض، ومعك من يحاكيك عن جهل (أو عن علم) في غير عصرك.
ثم عللوا طغيان فرعون فقالوا:(6/2928)
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
(وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ... (126)
أي ما أخذوا علينا إلا حقا، نقموه علينا هو أننا آمنا بالمعجزة أو هي من آيات الحق التي جاء بها موسى، وهي آيات ربنا.
وأعلنوا صبرهم على الأذى ضارعين إلى ربهم قائلين: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) ربنا أفرغ علينا صبرا، أي أنزل علينا صبرا يملأ فراغ قلوبنا، وتوفنا مسلمين مخلصين لك يا رب العالمين.
* * *(6/2928)
الملأ من حاشية فرعون يحرضونه
(وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
* * *
ذكرنا أن حاشية الطغاة لَا تقف من الطاغي موقفا سلبيا، أو محايدا، بل إنهم يحرضونه مرضاة له، وطلبا لما ينفذه إجابة لهم، فهم لَا يهمهم إلا أن يأخذوا منه ما يشبع نهمتهم، وليسوا مخلصين له يمنحونه النصيحة، إنما هم المالئون له في باطله، لم يكف الملأ والحاشية ما أنزله بالسحرة، أو ما هم أن ينزله بهم، بل نبهوه إلى موسى وقومه من بني إسرائيل، وأرادوا اجتثاثهم من الأرض، قالوا محرضين:(6/2929)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
(أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) أي أتترك موسى وأخاه وقومه من بني إسرائيل ومآل ذلك الترك أن يفسدوا في الأرض بإشاعة التمرد عليك، والانتقاض على حكمك والخروج عليك، وذلك فساد أي فساد، فاللام في قوله تعالى: (لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) هي ما تسمى لام العاقبة، أي أتتركهم لتكون عاقبة الترك أن يؤلبوا الناس عليك، وينتفضوا على حكمك.(6/2929)
والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، وهو بمعنى لَا ينبغي لك أن تترك موسى وقومه يؤلبون عليك.
هكذا حرضوا فرعون على بني إسرائيل ذلك التحريض الخبيث ليزدلفوا إليه، وكذلك الحاشية المفسدة تسبق إلى فكر الطاغي، ليتوهم إخلاصهم له، وما هم إلا الممالئون المنافقون الكذابون، ولم يكتفوا بالتحريض على بني إسرائيل، بل علا التحريض إلى موسى، وجاءوه من جهة ما، فقالوا عن موسى: (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ).
أي بتركك موسى، فيخرج عليك غير طائع لك، بل معاند، ومجاهر بالمخالفة وإنكار ألوهيتك، في أول دعوته ويترك آلهتك، ولقد كان لأهل مصر عدة آلهة كبيرهم الإله رع، وقالوا: إنه يحل في فرعون، وينتقل بينهم من سلف إلى خلف، والمعنى لَا ينبغي أن تتركه وقد تركك بالخروج عليك، وعلى آلهتك المقدسة، وقال: إن الله واحد أحد.
استجاب فرعون الطاغي لهم، لأنها رغبته، وقد سبقوه إلى ذكرها، ممالئين مزدلفين إليه بالباطل.
(قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)
قال سنقتل الأبناء ونترك النساء، وسمي تركه النساء استحياء لهن، وهو لا يحيي ولا يميت، تركهن ليكُنَّ جواري وخدما في البيوت، وأكد قدرته على ذلك وإذلاله لهم بقوله وإنا فوقهم، المسيطرون عليهم، الذين نستطيع استئصال من نحب، وإبقاء من نحب أذلاء مقهورين، وهنا قد يسأل سائل: لماذا ترك موسى وهو الرأس فلم يقتله وأخاه؟.
ونقول في الإجابة عن ذلك: إن موسى تربى في قصر فرعون، فكان له فيه أولياء، وكان على رأسهم امرأة فرعون، فكانوا يخذلونه عن أن ينزل به أذى، أو يقتله مثلا.(6/2930)
وإن لموسى لهيبة ورهبة في نفس فرعون تمنعه من أن ينزل به ما يريد، وهو يرى الآيات تجري على يديه وهو إن لم يؤمن بها أفزعته، وأرهبته.
وإن مثل أوليائه من آل فرعون، كمثل أبي طالب في حمايته للنبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى قريش وأن ينالوا منه، وهكذا يؤيد الله تعالى رسله ببعض خلقه.
لم يكن لموسى وقد رأى الإرهاب لبني إسرائيل إلا أن يثبتهم، فقال لهم:(6/2931)
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
(اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)
أي اجعلوا استعانتكم بالله واتكلوا عليه، واصبروا على ما ينزل بكم، ولا تحسبوه الشر الذي لَا ينتهي فإن ملك فرعون زائل، وطغيانه منته، ولن يخلد أو يبقى، فإنه ستزول دولته. والأرض تكون لمن يرثها من الصالحين، والعاقبة والنهاية للمتقين، قال ذلك تثبيتا لقلوب بني إسرائيل، ومن اتبعه من المؤمنين: فقد حكى الله تعالى قولهم فقال:(6/2931)
قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
(قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
كان بنو إسرائيل متمليلين من عذاب فرعون من قبل موسى - عليه السلام - ورجوا من مجيئه أن يرحمهم الله تعالى من عذابه على يد موسى - عليه السلام - وقد غلبه بالحجة الباهرة، وكان هو وقومه صاغرين أمام حجة الحق وقوته.
ومن يكون من عذاب يتلهف على الرحمة، ويطلبها سريعا، ولكن فرعون قرر استمرار عذابهم فقالوا متململين: قد أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض.
طمأنهم موسى بأن الله لَا يخلف وعده، وأنه وعده بهلاك الطاغية العاتي؛ ولذا قال: (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَذوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) يتضمن كلام موسى الكليم - عليه السلام - أمورا ثلاثة:(6/2931)
أولها - رجاء هلاك فرعون؛ لأن الله أعلمه بذلك، وأن لذلك وقتا معلوما، لم يحن حينه، ثانيها - أنهم يرثون الأرض من بعده، وأنهم سيكونون مستقلين أحرارا ليس لأحد عليهم سلطان إلا الله، ثالثها - أنه قد تكون مخالفات، ومناقضات، ولذا قال: (فَيَنظُرَ كيْفَ تَعْمَلُونَ)، أي فيرى منكم عملكم أو يقدر لكم من الجزاء بمقدار عملكم، والله بكل شيء عليم.
وإن سياق القصص القرآني قد يشير إلى أن فرعون عندما كان يقتل الأبناء، ويستحيي النساء - ما كان يستأصل، بل فرض فيهم هذه العقوبة يستعملها ما يشاء.
هذا، وإننا نرى آل فرعون وسكان مصر، لم يدفعوا طغيانه، وإن الله تعالى لا يأخذ العامة بظلم الخاصة إلا إذا رأوا الظلم ولم ينكروه، والمصريون لم ينكروا فعل فرعون؛ ولذا عاقبهم الله تعالى بعقوبات دنيوية مختلفة، فقال الله تعالى في ذلك:
* * *
(وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)(6/2932)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
* * *
إن المصريين شاركوا فرعون فيما أوقع من مظالم ومآثم ببني إسرائيل؛ لأنهم رأوا الظلم ولم ينكروه، فكانوا مسئولين، وما استمكن فرعون منهم ومن بني إسرائيل إلا بهم، لأنهم لم يقولوا: ظلمت.
ولذا قال الله تعالى:(6/2933)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
(وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ).
وآل فرعون هنا ليسوا حاشيته ولا خاصته إنما هم أهل مصر جميعا؛ لأنهم أيدوه، ولو بالرضا، أو على الأقل بالصمت من غير نكير، والدليل على أنه أريد أهل مصر جميعا، أن السنين ونقص الثمرات لم يكن خاصا بفرعون وحاشيته؛ لأنه بلاء إذا جاء يعم ولا يخص، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ)، أي آل مصر الذين هم آل فرعون، ومن يقوم بهم وبالحكم فيهم، وأخذناهم معناه اختبرناهم بالسنين، أي بالجدب والقحط، فيقال: أُصبت بالسنة، أي بالجدب والنقص والجوع. وقد أصابهم الله بسنين جدب وقحط، ونقص من الثمرات، ويقال: أخذنا فلانا بالرفق والإكرام، وأخذناه باللوم، والتأنيب بمعنى عاملنا، وتأويل القول أخذناه وضممناه معاملين له بالرفق أو معاملين له باللوم أو التأنيب.
فأخذ الله آل فرعون معاملا بالسنين بحدبة تصيبهم، ونقص الثمرات، يختبرهم سبحانه بذلك لعلهم يذكرون، أي لعلهم يتذكرون أن هناك مدبرا غير فرعون، وأن الأمر ليس بإرادتهم ولا بإرادة فرعون، إنما هو بإرادة من خلق فرعون، وخلق الزرع والثمار، وأنشأها جنات معروشات، وغير معروشات ولكنهم لم يتذكروا لفنائهم في فرعون وملئه، وكذلك أهل فرعون دائما، لَا ينفصلون في نفوسهم(6/2933)
عن حكامهم، وإن كانت قوتهم عليهم، يقودون إلى النكسات نكسة بعد نكسة، وهم من ورائهم راضون راغبون فيهم على سوءاتهم غير راغبين عنهم. وكانت معاملتهم لموسى الهادي الرشيد، معاملة غير رفيقة يحملونه إثم ما ينزل بهم من شر، وما ينزل بهم من حسن يحسبونه استحقاقا لهم؛ ولذا قال الله تعالى فيهم:(6/2934)
فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
(فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)
(الْحَسَنَةُ) هي الحال الحسنة التي يستحسنونها، ويستطيعونها، ويرون فيها مسرة لهم، لم يذكروا أنها من عند الله تعالى؛ أفاض بها عليهم من عنده، إنما يحسبون أنها جاءتهم لأنها لهم ويستحقونها وجاءتهم من غير معط؛ ولذا وصفهم الله تعالى بقوله: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ)، أي لنا نستحقها، ولا يتصورون معطيا يستحق الشكر، والطاعة، والرضا بما أعطى، وإذا جاءتهم السيئة، أي الأمر المسيء لهم من تمحط وجدب وطوفان اطيروا بموسى ومن معه أي تشاءموا.
وأصل الطيرة في الاستعمال العربي أنهم كانوا يزعجون الطير، فإذا اتجه إلى اليمين تيمنوا به وسموه السانح، وإذا اتجه إلى الشمال تشاءموا به وقالوا البارح.
ولقد جاء في تفسير القرطبي ما يتعلق بالتطير " وكانوا يتطيرون أيضا بصوت الغراب، ويتأولونه البيْن، وكانوا يستدلون بمجاوبات الطيور بعضها بعضا على أمور وبأصواتها في غير أوقاتها المعهودة على مثل ذلك، وهكذا الظباء إذا مضت سانحة أو بارحة، ويقولون: إذا برحت بالسانح بدل البارح، إلا أن أقوى ما عندهم كان يقع في جميع الطير فسموا الجميع تطيرا من هذا الوجه، وتطير الأعاجم إذا رأوا صبيا يذهب يه إلى المعلم بالغداة، ويتيمنون برؤية صبي يرجع من عند المعلم إلى بيته، ويتشاءمون بروية السَّقاء على ظهره قربة مملوءة مشدودة، ويتيمنون برؤية فارغ السِّقاء (مركبة) مفتوحة ". وهكذا كما جاء في ذلك التفسير، وعلى أي حال التطير في اللغة العربية التشاؤم.(6/2934)
وإن المصريين قد قالوا هذا المعنى مواجهين موسى - عليه السلام - وعبر عنه بذلك التعبير العربي، وكأنه ترجمة لتعبيرهم في لغتهم.
ولقد أجابهم بقوله كما حكى القرآن الكريم: (إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عندَ اللَّهِ)، أي إن ذلك قضاء الله تعالى وقدره فيكم. وعبر عنه بطائركم تشبيها للقدر المحتوم بالطائر المشئوم؛ لأنه في معناه لاحق بهم، فإن تَعُدُّوه شؤما فهو من سوء عملكم، وختم الآية بقوله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُون) أي لَا يعلمون أن كل شيء عند ربك بمقدار، فيتشاءمون؛ ولذا نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الطيرة، وقال: " لا عدوى ولا طيرة " (1) أي لَا عدوى إلا بإذن الله تعالى العلي القدير.
ومع أن الله تعالى قد ابتلاهم (بالسِّنِينَ وَنَقْصٍ منَ الثَّمَرَات لَعَلَّهُم يَذَّكَّرُونَ) ويطمئنون إلى الله الذي هو منشئ العالم، وأنه ليس لفرعون أَية ألوهية، ومع ذلك أصروا على كفرهم، ورموا موسى بأن هذا الابتلاء سحر يسحرهم به موسى، وأنهم لَا يؤمنون؛ ولذا قال الله تعالى عنهم:
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: الطب - الفأل (5756)، ومسلم: السلام - الطيرة والفأل (2224)، وتتمة الرواية: " ويعجبني الفأل الصالح الكلمة الحسنة ".(6/2935)
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
(وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
مهما تأتي من معجزة باهرة قاهرة، فإنها لَا تعدو أن تكون سحرتنا بها، فما نحن بمؤمنين لك، أي بمسلمين لله بالحق الذي تدعو إليه، نفوا إيمانهم مؤكدين النفي بالباء الدالة على استغراق النفي، وبالجملة الاسمية وتقديم الجار والمجرور " لك " على " مؤمنين "، وقولك مؤمنين لك، أي إجابة لدعوتك منضمين لك، فلن نخرج عن صفوف الفرعونية الكافرة الجاحدة إلى صفك المؤمن المذعن لله تعالى. نزلت عليهم آيات قاهرة أشد من الأولى بسبب إصرارهم على الكفر، وقد ذكرها الله تعالى بقوله:(6/2935)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
(فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
وأرسلنا: بمعنى أنزلنا قاصدين كأن هذه مرسلة من عندنا، والطوفان هو المطر الشديد، وفيضان النيل الطاغي الذي أغرق الزرع، وأهلك النسل، وهدم البيوت، وما كان لفرعون طاقة على إنجائهم والسيل قد طم، وحزب، وصار عبثًا، لَا غيثًا.(6/2935)
والجراد، وهو الطير الصغير المعروف الذي يأكل الزرع، ويفسده، وخصوصا ما كان قوتا، فإنه يسلط على القمح، والشعير، والأرز، ويتعدى طعام الإنسان إلى طعام الحيوان.
وبعد البلاء في زرعهم وحرثهم ونسلهم كان البلاء في أجسامهم، فسلّط عليهم القمل، وهي دويبة صغيرة، وقال ابن عباس: القمل السوس، وهو يصيب الزرع المخزون لأكلهم فيصيبهم، وقيل: إنه القمل المعروف الذي هو داء في الأجسام ومرض من الأمراض.
والضفادع جمع ضفدع، وهي الحيوان المعروف، كثرت وكثر ضجيجها حتى أزعجتهم، وأفسدت زرعهم وملأت أرضهم فكانت الحياة مع هذه الكثرة حياة شاقة شديدة لَا تحتمل.
والدم، قالوا: إن النيل صار ماؤه دما، ومات السمك فيه، فأصبح لا يسقي، بل يميت، وإنا لَا نعترض على ذلك التفسير، وقد روي عن بعض الصحابة، ولم نر فيه حديثا صحيحا، يذعن المفسر لمثله، ولكن صريح اللفظ أنه الدم، ولعل الله تعالى اختبرهم بذلك وقتا وإن لم يكن طويلا، ولكنه أراهم آياته مفصلات، ويصح تفسير الدم بمرض أصيبوا به كرعاف ونزيف وضغط.
ولقد قال الكثرة من المفسرين: إن الله تعالى اختبرهم أولا بالطوفان الذي خرب ديارهم، وأفسد زرعهم فدعوا الله أن يكشف ذلك عنهم، ودعا لهم موسى ووعدوه بأن يؤمنوا إذا كشف عنهم الضر، فكشف فلم يؤمنوا، فأصيبوا بالجراد فطلبوا أن يدعوا لهم فاذا كشف عنهم آمنوا، فكشف فلم يؤمنوا، ثم اختبرهم بالضفادع كذلك، وبالدم كذلك ولم يؤمنوا فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين.
والاستكبار عن الحق سبيل الضلال والوقوع في الذل، وقوله تعالى: (وَكانُوا قَوْمًا مّجْرِمِينَ) فيه تسجيل الإجرام والعتو عليهم، وقد أكد - سبحانه وتعالى - إجرامهم واستمرارهم على الإجرام، وسيطرة الأخلاق الفرعونية عليهم، وإنها فساد كلها،(6/2936)
يصيب النفس، فلا تنخلع منه، والنوازل تصيب نفوسهم، ولا تصل إلى أعماقها ولا تجتث الشر منها، ككل من امتلأت نفوسهم بالشر، فإنه يكون لونا من ألوانها لا تمحوه عظة ولا يدفعه بلاء.
ولقد قال تعالى في ذلك:(6/2937)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
(وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)
(الرِّجْزُ): هو العذاب، وهو يشمل ما سبق أو هو هو، وإن ذكر هذا يدل على أن طلبهم من موسى كان بعد أن نزل بهم الرجز جملة وتفصيلا وتوالى عليهم نزوله، وأن التجاءهم إلى موسى - عليه السلام - بعد ذلك التوالي.
أو نقول إن الله حكم عليهم بالاستكبار والإجرام، ثم بين بعد ذلك كيف كانوا مجرمين، وقد ذكر إجرامهم إجمالا، ثم فصل كيف كان ذلك العتو والاستكبار.
لما نزل بهم هذا الابتلاء آيات مفصلات وغيره، اتجهوا إلى موسى - عليه السلام - وكأن الشك قد عراهم بالنسبة لما كانوا عليه (قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ) أي يعهده عندك وإيمانك به، ووعده لك بالنصرة والتأييد (لَئن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، طلبوا كشف الرجز من موسى، مع أنهم طلبوا أن يدعو ربه، ونسبوا إليه كشفه، لأنهم اطمأنوا إلى أن الله سيجيبه، ولأنهم تعودوا أن يكون الأشخاص هم ذوي السلطان، ولا سلطان إلا لشخص (لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ)، أي لنؤمن بما تدعو إليه مسلمين لك بالحجة والدليل وأن كلامك الحق، ومع إيماننا لنرسلن معك بني إسرائيل، أكدوا إيمانهم بالقسم(6/2937)
ومؤكداته، وأكدوا إرسالهم بني إسرائيل بالقسم ومؤكداته من نون التوكيد، ولام القسم.
ولعلهم كانوا في ذلك صادقين في أنفسهم، لوقع الرجز عليهم، ولإحساسهم بالضعف أمام جبروت الله تعالى الذي تخاذل أمامه جبروت فرعون، وطغيانه، ولكن الحق لم يصب قلوبهم، وليس لهم إذعان صادق، بل هو عارض عرض لهم، ولم يكونوا مؤمنين. وما هؤلاء الذين طلبوا من موسى ذلك الدعاء يظهر أنهم الكبراء والسادة من ملأ فرعون، ولعله كان معهم، أو طلبوه بأمره بدليل أنهم وعدوا موسى بأن يرسلوا معه بني إسرائيل، فما كان يملك ذلك إلا فرعون وقادته وملؤه، والكبراء، معه ومع هذا القسم الذي أقسموه، ما وفوا، ولذا قال سبحانه:(6/2938)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
(فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
الفاء للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إذا كانوا قد أقسموا ذلك القسم فقد نكثوا، فلما كشفنا عنهم الرجز إذا هم ينكثون فلا يؤمنون، ولا يرسلون بني إسرائيل، والتعبير عن زوال الرجز بـ (كَشَفْنَا) تشبيه له بالغمة التي تَغم عليهم، وتكشف.
وقوله تعالى: (إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ) إشارة إلى أنه سينزل بهم ما هو أشد، فالإزالة للرجز لم تكن دائمة، بل هي إلى أجل محدود، فإن الله خبأ لهم في قدره ما هو أشد وأقوى، وهو إغراقهم في البحر؛ ولذا قال تعالى:(6/2938)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
(فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ)، أي جازيناهم بذنوبهم، وسمى الله تعالى عقابه لهم بأنه انتقام، لأنهم مردوا على الشر، وعقابه لهم استئصال، والله تعالى هو المنتقم الجبار فعاملهم(6/2938)
معاملة المنتقم؛ ولذا قال.
(فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)
أي عاملناهم معاملة من ينتقم ممن أعلن الحرب على الله ورسوله موسى - عليه السلام - اختبرناهم ثم كشفنا عنهم ما اختبرناهم به رجاء أن يتذكروا ويعتبروا، فما زادوا إلا ظلما واستكبارا وعتوا وفسادا، فليس لهم إلا أن ينزل بهم العذاب الأكبر، الذي يكون استئصالا، وهو الإلقاء في البحر، واليم هنا البحر، وذلك بسبب تكديبنهم بالآيات التي توالت لهم آية بعد آية وغفلتهم عن مغزاها ومعناها؛ ولذا قال (وكانوا عَنْهَا غَافِلِينَ)، أي أنها كانت لهم بمرأى العين والحس ولكنهم غفلوا عنها، واستهواهم الشيطان فضلوا.
* * *
بنو اسرائيل بعد الإنقاذ
(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ(6/2939)
أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
* * *
كان بنو إسرائيل مستضعفين في أرض مصر، ومن يكون تحت فرعون يكون مستضعفا ذليلا ولو كان من أهلها، ولكن بني إسرائيل استضعفوا لغربتهم، ولحكم فرعون.
خرجوا من ذل فرعون وملئه، وأورثهم الله تعالى مشارق الأرض ومغاربها بعد أن استضعفوا بذل فرعون، وأرهقهم ظلما خاصا بهم، وقد صار لهم بعد خروجهم من مصر مُلك عريض: شرق وغرب، وخصوصا في حكم داود وسليمان، والملوك، ووصف الأرض بأن الله بارك فيها، ويشير هذا إلى أنها الأرض المقدسة، فقد أخذوا شرقها وغربها، وما أحاط بها، وكانت أرضا قد بارك الله فيها بالخصب، وأنها يجتمع فيها النبيون في إسراء النبي - صلى الله عليه وسلم - والمعراج.(6/2940)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
(وَتَمَّتْ كلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) وكلمة الله هي ما وعد به تعالى بنصرهم، إذ قال: (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةَ وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ).
ووصف الله - سبحانه - الكلمة بأنها الحسنى - وهي مؤنث - لأن هذه الكلمة المباركة أوصلتهم إلى أحسن أحوالهم، وأبركها عليهم.
(بِمَا صَبَرُوا)، هذا ما كان لبني إسرائيل، أما ما كان لفرعون وملئه، فقد دمر الله تعالى ما كان يصنع فرعون من بناء وما كان من جنات، وما كانوا يعرشون فيها زراعات وغروس تكون بالعرش والسقف على الأرض، فلا يرى سوداؤها من خضرائها، كما قال تعالى:
(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28).(6/2940)
هذه نعم أنعم الله بها على بني إسرائيل بسبب صبرهم على ظلم فرعون، وإنه لبلاء عظيم. ولكن هل قدروا النعمة حق قدرها، ذلك ما ستبينه الآيات التالية:
قال تعالى:
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141).
أنهى الله تعالى قصص فرعون بهلاكه وابتدأ بقص قصص بني إسرائيل، ونرى في هذا القصص الحكيم ما أحدثوه بعد أن منَّ الله تعالى عليهم بإخراجهم من استعباد فرعون وظلمه لهم، ومعاينتهم الآيات الكبرى بفلق البحر بعصا موسى، وكيف عبدوا العجل، وكيف أرادوا أن يجعل لهم موسى إلها غير الله يعبدونه، وما استرسلوا فيه من كفر ومعاص، وقال الزمخشري: ذلك ليعلم حال الإنسان، وأنه كما وصفه الله تعالى ظلوم كفار جهول كنود، إلا من عصمه الله تعالى: (. . . وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).
يقول تعالى:(6/2941)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)
(وَجَاوَزنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا) جاوز بمعنى اجتاز، والبحر هو البحر الأحمر كما نسميه الآن، وكما كان يسمى بحر القلزم اجتازوه حتى وصلوا إلى اليابس (فَأَتَوْا) أي أقبلوا على قوم يعكفون، أي يقيمون على عبادة أصنام لهم، وقالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، إن المقام الطويل الذي أقاموه في مصر هزع (1) فيهم الوحدانية التي كانت دين آبائهم، وإنهم وإن كانوا لم يعبدوا ما عبد
________
(1) هزع: هَزَعَه يَهْزَعُه هَزْعًا وهَزَّعه تَهْزِيعًا كَسَّرَه فانْهَزع أي انْكَسَرَ وانْدَقَّ. وهَزَّعَه: دَقَّ عُنُقَه. وانْهَزع عَظْمُه انْهِزاعًا إِذا انْكَسَرَ وقُدَّ. لسان العرب - هزع.(6/2941)
المصريون فقد لانت عقيدتهم، وصاروا مترددين لَا يؤمنون بشيء ولذلك قالوا لما قالوا؛ لأنه لم يثبت في قلوبهم التوحيد الذي جاءهم به موسى، وصاروا كالأعراب الذين قالوا لرسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - آمنا، فأمر الله تعالى نبيه بأن يقول: (. . . قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ. . .).
والقوم الذين أتوا عليهم قيل إنهم كانوا بالسويس، إذ كانت أول يابسة جاءوا إليها، والله أعلم ما هؤلاء الأقوام، ولكن نستبعد أن تكون السويس؛ لأن ظواهر الأخبار تبين أنها كانت تحت حكم فرعون، وجزءا من مصر.
(قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)، أي تجهلون العقائد السليمة، والعقائد الباطلة، والمتردد جاهل، غير مدرك، وإنهم خرجوا من حال كافرة إلى حال مؤمنة موحدة، ولما يدخل الإيمان قلوبهم.
وأكد لهم موسى ببيان بطلان هذه العبادة، فقال:(6/2942)
إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
(إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ) هالك ما هم فيه، والتعبير يتضمن معنى التخريب والفساد، كما قال تعالى: (. . . وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبيرًا)، أي أنه عمل فاسد، لَا أصل له من الحق، فهم في ضلال (وَبَاطِلٌ ما كَانُوا يَعْمَلُونَ) وقدم الخبر على المبتدأ لتأكيده الحكم بالبطلان على ما يعملون، ثم أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوبخهم على ما طلبوا من ناحية بطلانه في ذاته، ومن ناحية أنه كفر بالنعمة التي أنعم بها عليهم، فقال في توبيخهم في الأولى:(6/2942)
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)
(قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا)، أي أطلب لكم إلها وحذفت اللام، وذلك توبيخ بالاستفهام الإنكاري، أي لَا يمكن أن أفعل ذلك وأنا الذي دعوت فرعون إلى التوحيد، وبيَّن أن ذلك كفر بنعمة الله تعالى، وهو يزيد الأمر استنكارا فقال: (وَهُوَ فَضَّلَكمْ)، أي جعل لكم فضلا (عَلَى الْعَالَمِينَ) بأن تولى هو إنقاذكم من ذل فرعون واستعباده. وهو دال على استنكار موسى بسبب ما أعطاهم الله من نعم لم ينعم بها أحد من العالمين، وهي آية عظيمة من آيات رب العالمين تدل على كمال توحيده، وأنه المتفرد بالإيجاد والخلق والتدبير، فقال:(6/2942)
وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
(وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ... (141)
أي اذكروا نعمة الله(6/2942)
عليكم، وآياته فيكم، إذا نجاكم من آل فرعون وذكر آل فرعون؛ لأن آل فرعون وحاشيته هم المعاونون المُحَسّنون لما ارتكب من طغيان وظلم، والذين يسولون له كل ظلم، ويبررون ما يفعل من شر، وذكرهم ذكر له لأنه رأس الفساد، وغيره تابع له محسن، ومسول وهم كالشياطين حوله يشاركونه في الإثم، ولا يعفى منه. (يَسُومُونَكُم)، أي يذيقونكم سوء العذاب، ثم بينه سبحانه بقوله:
(يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).
أي ويل شديد اختبرتم به أشد اختبار، فهل تكفرون بالله تعالى الذي نجاكم، وتشركون به.
* * *
تلقى موسى الألواح من ربه
(وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
* * *(6/2943)
ذهب موسى إلى جبل الطور ليتلقى تعاليم ربه على موعد منه، وكانت المدة ثلاثين ليلة، أي ثلاثين يوما، وذكرت في القرآن الليالي دون الأيام؛ لأن الأشهر القمرية أمارة ظهورها بالليل، إذ يبزغ القمر هلالا، ويتدرج في النمو حتى يصير بدرا، وتعرف الأوقات من الشهر بمقدار الهلاك.
وقد قيل: لماذا ذكر الثلاثين ثم أتم الأربعين بعشر ليال أخر؛، فقالوا: إن موسى عندما ذهب إلى التجلي استشعر روحانية، وقالوا: إنه استنشق ريح المسك، فطلب تلك العشر الزيادة، فأتمها الله تعالى أربعين ليلة، والتصريح بالأربعين مع أن العدد مفهوم من ذكر العشر بعد ثلاثين، وذلك لبيان استجابته سبحانه لما طلب موسى، وذكر ذلك من شعائر الإنعام.
خلَّف موسى بني إسرائيل، وفيهم عناصر متضاربة متباينة وهم أهواء مختلفة وفيهم تردد، كما ظهر عندما أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم، فطلبوا أن يكون لهم إله كما لهؤلاء آلهة.
مع هذه الحال، خَلَفَهُ فيهم أخوه هارون، فهو رِدءُ موسى ومعينه وهو نبي، ولكن الذي تلقى التوراة أو الألواح هو موسى.
قال موسى لأخيه هارون(6/2944)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
(اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي)، أي كن خليفتي في قومي، ترعاهم وتصلح أمرهم؛ ولذا قال في تحقيق الخلاقة: (وَأَصْلِحْ) أقم فيهم الحق، والعدل والإصلاح بينهم، فاحفظ وحدتهم وحارب دعاة التفرق؛ ولذا قال له: (وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ)، أي تجنب أن تساير المفسدين، بل اقطع عليهم الطريق، ولا تمكنهم من فسادهم، وكأنه بفطنة النبوة أدرك أنهم سيحدثون أحداثا من بعده - كما سيجيء - باتخاذهم العجل، وإن لم يكن قد توقع ذلك بالذات، ولكن توقع غيره وسبل الشيطان مثارات مختلفة.(6/2944)
ذهب موسى - كليم الله تعالى - إلى الجبل في الميقات الذي وقته الله تعالى، وقيل: إنه ذو القعدة وعشر من ذي الحجة، والله أعلم بالميقات. قال تعالى:(6/2945)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ... (143)
استأنس كليم الله بربه
وطمع الكليم في أن يرى حبيبه (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ)، أي افتح بصري بالرؤية لأنظر إليك، أو تبين لي أنظر إليك.
قال الله الذي كلم موسى، وحسب موسى أن الرؤية كالكلام، وإن كان الكلام من وراء حجاب، وقد شجعه على طلب الرؤية أنه سمع الكلام، ومن سمع الكلام الجميل الجليل طمع في رؤية من يكلمه.
قال الله - تعالى - له: (لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي).
لن للنفي، المؤكد، وقال الزمخشري: إنها للنفي المؤبد، أي لن تراني أبدا، وهذا على مذهبه من أن رؤية الله تعالى غير ممكنة، ونحن إذا قلنا: إنها لتأبيد النفي، فإن ذلك موضوعه في الدنيا، أما في الآخرة، فأمرها عند علم الله وهو العليم بما فيها، والحياة فيها غير الحياة في الدنيا، وما يكون مستحيلا في الدنيا، أو ما يُرى كذلك لَا يكون مستحيلا في الآخرة والله بكل شيء عليم، وفسر بعضهم قوله تعالى: (لَن تَرَانِي)، أي لن تستطيع رؤيتي.
وفد استدل الجماعة على أن رؤية الله ممكنة وإلا ما طلبها موسى، وقد علقها الله تعالى على استقرار الجبل وهو أمر ممكن فهي ممكنة.
ولنترك الأقوال في ذلك، فليس القرآن موضع جدل، وهو منزه عن ذلك، وفوق جدال المتجادلين.(6/2945)
قال تعالى: (لَن تَرَانِي) وقد علمت قول الناس في ذلك، ثم كان الاستدراك تلطف لموسى، وتقريب له لمعنى نفي الاستطاعة، فقال: (وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)، والجبل أقوى وأشد وأضخم من موسى فإن استقر حين تجلى الله وبزوغ النور الإلهي فسوف تراني، ولكنه إن لم يستقر فإنك لن تراني.
(فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا) أي فلما ظهر نور الله على الجبل متجليا له (جَعَلَهُ دَكًّا)، أي مستويا بالأرض، وكان لذلك ما يثير الفزع في نفس موسى (وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا)، كأنما أصابته صاعقة، وغشى، (فَلَمَّا أَفَاقَ) أحسَّ بأنه طلب ما ليس له، وما هو فوق طاقته البشرية، وما لَا يتحقق في الدنيا - استغفر ربه، وسبحه، فقال: (سُبْحَانَكَ تُبْتُ إلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ).
تاب موسى من هذا الطلب الذي تبين له أن الله لَا يجيبه في الدنيا، وما كان ذلك خطيئة ارتكبها، ولكنه خطأ لَا ذنب، ولكن النفس المؤمنة التي تحس تستكثر خطأها، وتستقل صوابها، أحس أنه ذنب يتاب منه، وما هو بذنب، وكذلك استتابة المرسلين تكون من أخطاء تغتفر، بل لَا حساب عليها، ولكن يعظم أمرها في نفوسهم فيتوبون.
وأكد - عليه السلام - استغفاره، وكمال إيمانه فقال: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)، أي ببعدك عن الشبيه، وأنك منزه عن كل نقص، وأول المؤمنين بأنك لَا تُرَى في هذه الدنيا.
وقد استجاب الله تعالى لاستغفاره وتوبته النصوح وقال تعالى: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)(6/2946)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
نادى الله تعالى نبيه موِسى، ويبين ما ميزه به على أهل جيله، وعلى كثير من الأنبياء ناداه (يَا مُوسى) وفي النداء بالاسم نوع إدناء وتقريب، وإبداء للمحبة، والدنو منه. (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ)، أي اخترتك مفضلا لك على الناس، فـ (اصْطَفَيْتُكَ) متضمنة معنى التفضيل، ولذا تعدى بـ (عَلَى)، وقوله: (بِرِسَالاتِي)، وهي جمع رسالة، وجمعت لشمول شريعة التوراة التي نزلت على موسى - عليه السلام - من عقائد التوحيد والتنزيه وشرائع الزواجر الاجتماعية من قصاص وحدود، وشرائع مدنية في معاملات الناس وتحريم الربا، وأحكام الأسرة؛ وبعبارة أعم في التوراة شرائع كثيرة جامعة ضمت رسالات. وقوله تعالى: (وَبِكَلامِي)، أي بكوني اختصصتك من بين الأنبياء بأن كلمتك من وراء حجاب، وليس ذلك دليلا على فضله المطلق عليهم، بل هو من هذه الناحية وليس فضلا من كل النواحي.
وقال تعالى بعد بيان اختصاص موسى بأنه كليم الله، واختياره للرسالات كاملة وإن لم تكن النهائية (فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ) (الفاء) هنا فاء الإفصاح، أي فإذا كنت قد اخترتك من بين الناس بالرسالات وبكلامي، فخذ ما أعطيتك، واقنع به، (وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ) الذين تظهر النعم عليهم، ولا تطلب الزيادة على ذلك بالرؤية، فإن هذا ليس لك.
* * *
(وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا(6/2947)
وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
* * *
ذكر الله - سبحانه وتعالى - ما أرسله الله لموسى من رسالات فقال:(6/2948)
وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
(وَكتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ) الألواح هي ما اشتملت عليه التوراة.
وقوله تعالى: (وَكتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ)، فسر بعض رواة الحديث بأن الله تعالى كتب على هذه الألواح، فقد ذكر الترمذي أنه قبض عليه جبريل بجناحه فمر به في العلا وأدناه حتى سمع صريف القلم حين كتب الله تعالى له الألواح.
وإنا لَا نرد خبرا إذا ثبتت صحته عن الرسول، ولا نعلم مقدار صحة هذا، وإن الذي نراه في هذا أن (كَتَبْنَا) معناه فرضنا وشرعنا شرعا ثابتا مقررا ومفروضا في الألواح، وقد تكون قد ألقيت عليه مكتوبة في الألواح.
وقوله: (مِن كلِّ شَيْءٍ) " مِنْ " فيها بيانية، أي كتبنا له كل شيء في أمر الشرع من حيث العقيدة، ومن الشرائع المختلفة. وتكون موعظة، وتفصيلا لكل شيء فيها بيان لنوع ما في هذا الذي كتب وفرض، ففيه العظة والاعتبار بما فيها من أصل التكوين، والإخبار عن الأنبياء الذين سبقوه، وفيه تفصيل أحكام الشرائع تفصيلا مبينا موضحا، لَا يخفى على الذين يدركون، ويطلبون الحق.
وقوله تعالى: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأخذُوا بِأحْسَنِهَا) أي يختاروا أحسنها، وكل حسنٌ، وأحسن، أي اطلبوا الأحسن فيها، فإذا كان واجبا فيه تخيير، فاختاروا الأحسن، فإذا خيرتم بين العقاب والعفو فاختاروا العفو، أو نقول: إن الأحسن وصف للتكليفات كلها، إذ كلها بلغ الأفضل في ذاته، وأفعل التفضيل ليس على بابه بل المراد الأخذ بها كلها، لأن كلها أحسنها، كقوله تعالى: (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا(6/2948)
أُنزِلَ إِلَيْكم. . .)، وقوله: (. . . يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ. . .)، أي يتبعون الحسن وهو القرآن أحسن القول.
وقوله تعالى: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ)، أي خذها بعزم صادق على تنفيذ أحكامها من غير هوادة، والمراد بالأخذ بقوة لازمها، وهو العمل بقوة وصدق، والأمر لموسى هو أمر لأمته، وصرح بأمر حسن بلغ أعلى درجات الحسن، كما ذكر فقال: (وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) وأشار - سبحانه - إلى أنه سيكون من يفسق عنها من قومه، وذلك ببيان أنه سَيُرى موسى وخاصته الفاسقين ومكانهم، فقال تعالى: (سَأُرِيكمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ) أي: الفاسقين من بني إسرائيل، ومؤدى القول: ستعلم منازلهم وفسقهم ودرجاته.
ويصح أن يقال (1): (دَارَ الْفَاسِقِينَ) هي دار فرعون ومن سبقه من الفاسقين، وعندي أن التخريج الأول أوضح، ويؤكده قوله تعالى بعد ذلك:
_________
(1) في النسخة المطبوعة [سقين] وأظنها وضعت بطريق الخطأ. والله أعلم. اهـ (مصحح النسخة الإلكترونية).(6/2949)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)
(سَأصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ... (146)
التكبر في الأرض بغير الحق ولا يكون التكبر بحق قط، وهذا وصف كاشف لبيان مضرة الكبر وفساده أن التكبر يجعل التكبر لَا يفكر إلا في نفسه وما يستعلى به على الناس، فإذا غمره كبره في هذا لَا يرى إلا من ورائه، فلا يتجه نظره إلى ما يجب عليه، بل يتجه إلى ما يحسبه حقا له، وبذلك ينصرف عن الخير منصرفه فيصرفه الله عنه، وهذا قوله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)، فصرْف الله تعالى للمتكبرين نضيجة حتمية لانصرافهم لغمرتهم في الكبر، فهو سبب هذه النتيجة وقوله تعالى: (بِغَيْرِ الْحَقِّ)، هو كشف لحقيقة المستكبرين من الطغاة والحكام، وكل المفسدين في الأرض.
ولقد صور الله تعالى تفكيرهم فقال في نظرهم إلى الحق وإلى الباطل تعالت كلماته: (وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا)، لأن قلوبهم صرفها هواهم عن الحق، فصارت متدرنة بالباطل لَا تستسيغ الحق. إن كل آية، أي آية مهما تكن(6/2949)
واضحة الدلالة بينة الهداية (لا يُؤْمِنُوا بِهَا) لَا يصدقون بها، لأنهم عميت عن الحق أبصارهم، وأصبحوا في صمم عنه، فإن القلب إذا أعمي كره الحق، وغفل عن آياته، ومثل ذلك آل فرعون، جاءتهم العصا فكفروا بها، وجاءت يد موسى بيضاء تلمح بالنور، فأعرضوا، وأصابهم الله بالعذاب، وأصاب أنفسهم وأموالهم وزروعهم، ورأوا آيات فيهم رأي العين، وخضعوا بالحس لله، ولكن ما زالت قلوبهم كافرة فاتجهوا إلى الله رب موسى وربهم، وطلبوا إلى موسى أن يدعو الله ليكشف عنهم، فلما كشف ذهب نور الإيمان، وبقي ما استقر في نفوسهم بسبب الكفر.
وقال تعالى في تصوير نزوعهم إلى الباطل: (وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا) إن الرشد يحتاج إلى عزيمة وقوة نفس، وسيطرة على الشهوات، وحمل على الإيثار، ومنع للأثرة، والذين يستكبرون ويطغون فيهم أثره، وفيهم شهوات مستحكمة، وهو غالب، وكما قال محمد خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -: " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ". فلهذا إذا رأى المكذبون سبيل الرشد الذي يعطي لله وللناس حقوقهم فإنهم لَا يتخذونه سبيلا لسلوكهم، وطريق حياتهم لأنه يحتاج إلى بصيرة مدركة، وعزيمة صادقة، وإرادة عاقلة. (وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا)، أي إن يروا سبيل الضلال وهو الغي يتخذوه مسلكا لهم؛ لأنه سبيل الأثرة والهوى والشهوات والطغيان فهو يتفق مع نزعة التكذيب لآيات الله تعالى، والغفلة عن هدايتها، والاستكبار الذي أعماهم عن التأمل فيها، وتعرف أسرار الله في مكنونها.
ولقد ذكر الله تعالى سبب ذلك الضلال الذي يحولهم من الرشد إلى الغي، فقال سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ).(6/2950)
الإشارة في (ذَلِكَ) إلى الحال التي آلوا إليها من استحسانهم للشر وسبيله، واستهجانهم للخير وطريقه (بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، أي بسبب أنهم كذبوا بآيات الله، سارعوا بتكذيب آيات الله، فاجتالهم الشيطان عنها، وساروا منحرفين عنها غافلين عن معانيها، ومن سار في طريق منحرفا عن الخط المستقيم أوغل في الانحراف حتى يضل ضلالا بعيدا، وكلما أمعن في السير أمعن في الضلال، حتى لا تكون هداية، أخذهم الكبر فكذبوا بآيات الله (وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)، ففسدت نفوسهم وأذواقهم حتى صاروا يذوقون المر فيحسبونه حلوا، وفسدت مداركهم، فصاروا لَا يفرقون بين الخير والشر، ولا بين الحسن والقبيح، فإن رأوا سبيل الرشد لا يختاروه وإن رأوا سبيل الغي اختاروه وهكذا إيفت مشاعرهم، وضلت أفهامهم، وإنما يستقيم الفكر إذا استقامت النفس.
ولقد قال تعالى في جزاء الذين كذبوا بآيات الله، فقال عز من قائل:(6/2951)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) هذا النص السامي وصف عام لكل المكذبين لآيات الله ولقائه وأخصّ من ينطبق عليهم المشركون الذين كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
قوله تعالى؛ (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ).
أنكر هؤلاء أمرين وكذبوهما. أولهما - آيات الله تعالى أي معجزاته القاهرة الباهرة، فلم يؤمنوا بموجبها ولم يصدقوا ما تدعوا إليه من إيمان، وأهملوها، وافتاتوا عليها، فقالوا: سحر مبين، وكذبوا بدلائل الوحدانية فيها فغفلوا عن إدراك ما تهدي إليه.
وثانيهما - كذبوا بلقاء الآخرة، أي بلقاء الله تعالى في الآخرة، أو كذبوا بلقاء الآخرة بأن كذبوا بالبعث وما يعقبه، وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب، وما نحن بمبعوثين، وحسبوا أن الإنسان يترك سدى، ونزلوا به عن مكانته(6/2951)
التي خلقه الله تعالى عليها، وجعل الملائكة يسجدون له خاضعين، وحسبوا أن الله خلقهم عبثا، وأنهم إليه لَا يرجعون.
وبسبب هذا التكذيب لهذين الأمرين أصدر الله تعالى الحكم، فقال: (حَبِطَتْ أَعمالهُمْ)، أي بطلت أعمالهم فلا ثواب لهم على عمل، ولو كان فيه نفع ظاهر أو ظاهره النفع؛ وذلك لأن الأعمال ثوابها بحسب القلوب، وما دامت القلوب ممتلئة بالشرك، مدرنة بتكذيب الحق فلا خير فيها، ولا خير منها، فإن إشراق الحكمة لَا يكون إلا من قلب سليم.
ومع أن أعمالهم تكون باطلة لَا ثواب فيها، إلا أن عليهم العقاب فيما يرتكبون، ولذا قال تعالى: (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانوا يَعْمَلُونَ).
الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الوقوع بمعنى النفي، وفيه معنى تأكيد النفي بمعنى أنه لَا يتصور إلا أن يجزون بعملهم، فهو نفي فيه معنى حصر العقاب فيهم.
وفى قوله تعالى: (يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا) فيه بيان عدل الله تعالى في جزائه، فالجزاء من العمل ذاته، فهو الذي يقرره، وكأن الجزاء هو ذات العمل لتساويهما وتلازمهما، إنه العليم العدل الحكيم.
* * *
عبادة العجل في بني إسرائيل
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)(6/2952)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
* * *
عاشر بنو إسرائيل أهل مصر زمانا فأثروا فيهم بأخلاقهم، وإن الضلال يعدى كما تعدى الأمراض البدنية، وقد سرت إليهم عدوى تقديس العجل، وعبادته، كما انحلت عقيدة الوحدانية منهم، وقد أكدها موسى - كليم الله عليه السلام - ولكنهم لما رأوا قوما عكفوا على أصنام لهم طلبوا من نبيهم موسى - عليه السلام - إلها كما لهم آلهة.
وقد ذكر الله تعالى عبادتهم العجل في آيات كثيرة، وكان يذكرها في أكثر الأحيان بالإشارة العابرة، بيانا لضلالهم، وفي هذه يذكرها - سبحانه وتعالى - ببعض التفصيل، ويذكر وقتها وهو أنه كان، وقد غاب موسى لتلقي الألواح، ومناجاة ربه، فجاءهم، وقد اتخذوا العجل، صنعوه من حلي صناعة محكمة وعبدوه، صنعوه بحليهم، وجعلوه على صورة جسد عجل، ومهارتهم في الصناعة التي اشتهرت بها مصرفي ذلك الإبان، وضعوه في وضع إذا مرّت الريح في موضعه من الخلف صار له صوت يشبه خوار البقر وادّعوه إلهًا، ولنتلُ الآيات الكريمة في ذلك:(6/2953)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ).
(وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى)، أي فعل بعضهم ذلك وسكت عنه سائرهم، فنسب الفعل إلى كلهم، فقد كان فيهم هارون، وما كان ليرضى ولم يسكت، حتى استضعفوه وكادوا يقتلونه وفيهم صفوة من الفضلاء، كان منهم النقباء.(6/2953)
وقوله: (مِنْ حُلِيِّهِمْ)، أي صنعوا من حليهم، جمعوها وصهروها، وصنعوها على شكل عجل، يعبدونه كما يعبده المصريون و (جَسَدًا) أي جسما، (لَهُ خُوَارٌ)، أي صوت كصوت خوار البقر، لما مهروا في صناعته وفي وضعه، والجسد لم يكن فيه حياة ككل الأجسام، وقد فهم بعض الناس من كلمة جسد أنه كان فيه حياة، والحقيقة أن كلمة جسد تكون بمعنى جسم في كل دلالاتها، وسواء أكان فيها حياة أم لم تكن، وإن استعمال جسد في التعبير عن الجسم كثير في القرآن، ولقد قال الأصفهاني في مفرداته: " والجسد كالجسم، ولكنه أخص، وقال الخليل: لَا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، وأيضا فإن الجسد ما له لون، والجسم يقال لما لَا لون له كالماء والهواء، وقوله عز وجل: (وَمَا جَعَلْنَاهُم جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ). . وقال: (. . . عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خوَار. . .)، وقال تعالى: (. . . وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ).
والخلاصة أن الجسد بمعنى الجسم، وأنه لَا يشترط في الجسد أن تكون فيه حياة، وأنه يطلق على الجماد. وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكلُونَ الطَّعَامَ. . .)، أي ما جعلناهم جمادا لَا يحتاج غذاء، بل جعلناهم أحياء يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق. ولقد بين الله تعالى بطلان عبادة العجل وبيان أنه ليس بحي فقال تعالت كلماته: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ)، وفي آية أخرى في غير هذه السورة، فقال تعالى في سورة طه: (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89).
وإن ذلك دليل على أنه لَا حياة في هذا الجسد، وإنما هو جماد قد ذكر القرآن أصله وهو الحلي، (اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) فقد ظلموا الحق بعملهم على خلاف التوحيد، وظلموا أنفسهم بعبادة ما صنعوه بأيديهم، وظلموا موسى الذي أنقذهم من طغيان فرعون، وكذبوا آيات الله تعالى الدالة على وحدانيته وأفسدوا تفكيرهم الذي هدى موسى إليه.(6/2954)
ولقد كان من المفسرين أو أكثرهم من أخرجوا كل بيان للقرآن على أنه من خوارق العادة، فزعموا أن العجل كان جسدا حيا، وسرت إليه الحياة من أن السامري الذي صنعه، أخذ قبضة من أثر فرس جبريل، ووضعها في صناعته، فجعلته حيًّا له خوار، وزعموا أن ذلك يؤخذ من قول السامري الذي حكاه القرآن عنه إذ قال: (. . . فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)، فزعموا أن قول السامري فقبضت قبضة من أثر الرسول: أي جبريل. فبض السامري قبضة من أثر فرسه فوضعها في صناعته.
وهذا تأويل بعيد عن الحقيقة، وعن مدلول الألفاظ.
أولا - لأن الرسول، " أل " فيه للعهد، ولا بد من رسول مذكور في السياق أو معهود حاضر في الذهن وهو موسى، وأثره هو شرعه، ونبذه إهماله وتركه، وهو التوحيد.
ثانيا - أنه اعتبر ذلك مما سولت به نفسه الشيطانية.
ثالثا - أن جبريل ما كان طريق خطاب الله لموسى، إذ قال: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا. . .)، فكان كلام الله تعالى لموسى من وراء حجاب كما قال تعالى: (. . . وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا)، وإن قوله تعالى عن السامري أنه قال: (. . . بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ. . .)، أي في صناعة الحلي التي لم يكن غيره ذا بصر بها. وأخيرا إنه لَا حاجة إلى هذا التكلف والإغراب والتقدير.
وتخريج الآية على ما بينا ابتداء هو المعقول الذي لَا يحتاج إلى تأويل به، ولا إلى تقدير كلام مطوي بلا دليل.(6/2955)
وخلاصته أن السامري اتخذ من الحلي شكل عجل، وبمهارة الصناعة وتمكين الرياح من أن تدخل منافذ فيه كان له صوت يشبه صوت البقر وهو الخوار، فعبدوه، وقبض قبضة من أثر موسى وهو التوحيد فنبذه وأهمله.
أدركوا أنهم ضلوا، ولقد حكى الله ذلك فقال:(6/2956)
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
وكلمة (سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) تستعمل حال الندم، ومثله أسقط في أيديهم، والأفضل سُقِط، وخطأ بعضهم أسقط، وهو مردود لكونه استعمال قرآني، قيل: إن العرب لم تسبق إليه، ومعناه اللفظي سقط تفكيرهم من رءوسهم إلى أيديهم، وصار فيها وذلك أن من يقع في خطأ يندم عليه يضرب كف على كف، وأحيانا يعض على بنانه، وهذا الكلام يدل على أن في الكلام كناية عن الندم لأنه ذكر اللازم الحسي له.
وقد سجل الله تعالى ندمهم بذكر سببه، فقال: (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلوا)، أي علموا علم اليقين أنهم ضلوا ووقعوا في الضلال، فقلدوا أتباع فرعون فيما صنعوا، وأحسوا بأنه لَا منجاة لهم إلا أن يرجعوا إلى ربهم، ويتضرعوا إليه، وقالوا: (لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا) رجوا الرحمة، والرحمة تكون بالغفران، فالغفران هو الرحمة وهي لازمة، وذكر الشيء ولازمه.
وجواب القسم (لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) والخسران خسران تفكيرهم بسبب ضلالهم، وخسران الحق، والخسران المبين بشركهم، ولا منجاة من ذلك إلا برحمته وغفرانه.
وهذا الندم أكان بعد حضور موسى من الميقات ولومهم وتأنيبهم، أم كان بعده؛ والظاهر هو الثاني. وقد قال في حال موسى - عليه السلام - عندما رجع: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ... (150)(6/2956)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
أخبر الله - سبحانه وتعالى - موسى أخبارهم، ولما رجع ظهر غضبه عليهم، فقال تعالى: (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ)، أي أنه غضب غضبا شديدا، لأن التعبير بغضبان تدل على امتلاء النفس بالغضب، لأن صيغة فعلان تدل على الامتلاء كسكران وشبعان، ونحوها، و (أَسِفًا) أي حزينا، أي أنه غضب لهذا الأمر الشاذ، ولما تفكر في الحال حزن حزنا شديدًا، فالأسف: الحزن. كقول يعقوب: (. . . يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ. . .)، أي أنه في حال الحزن الذي لَا حزن وراءه.
قال لهم: (بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي)، أي بئس ما صنعتم خلفي من بعدي وفي غيبتي أي خلفتموني بشر، وهو جدير بالذم، وكان ذلك في غيبتي، فكأنهم خانوه مرتين مرة بهذا العمل الفاسد الضال المشرك، ومرة بأنهم انتهزوا فرصة غيبته وفعلوا ما فعلوا، فكانوا آثمين، إثمين، إثم العمل، وإثم أنهم خانوه في غيبته، وقال: (أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ) أردتم العجلة في أمر ربكم وذلك خروج عن حدودكم.
(وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ)، التي تلقاها عن ربه مكتوبة مفروضة جانبا، لَا أنه رماها حتى تكسرت كما زعم بعض المفسرين. بل ألقاها جانبا ليفرغ لمناقشة الذين غيروا وبدلوا من بعده، ومن سكتوا عن تغييرهم، وأول مسئول سأله هو أخوه هارون، قال تعالى: (وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجرُّهُ إِلَيْهِ) أكثر المفسرين على أنه في غضبه، قد أخذ لحية أخيه وقبض قبضة من شعره يجره إليه، وقالوا: إن ذلك كان متعارفا عندهم، أو لأنه أراد مناجاته، أو أراد أن يسر إليه أمر الألواح، أو أراد نصحه، ونرى ذلك بعيدا عن روح النص، إنما الظاهر أنه أراد لومه لوما شديدا؛ بحسب أنه قصَّر عن مَقْدِرة بدليل رد هارون: (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي). ويصح لنا أن نقول على هذا إنه يصح أن يكون أخذ اللحية وجر الرأس لَا يراد به حقيقته إنما يراد به لازمه، وهو إلقاؤه التبعة عليه لأنه خلفه عليهم، ونهاه عن أن يتبع القوم المفسدين، وأن ذلك كناية عن هذا، لأن ذلك يكون عند اللوم الشديد، وقد اعتذر(6/2957)
لأخيه بأنهم استضعفوه، أي عدوه ضعيفا، أو طلبوا موضع الضعف فيه، وهو أنه ليس المسئول الأصلي، وإنما هو ردْءٌ لأخيه، وقد غاب الأصل، فاستضعفوا خليفته، وقال: (وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي) أي شدد النكير عليهم حتى كادوا يقتلونه، أي قاربوا أن يقتلوه، (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) طلب من أخيه أمرين: أولهما، ألا يتمادى في مؤاخذته فيشمت الأعداء بهارون وهو المداوم على نصرته، وعرض نفسه معه لأذى فرعون الطاغية، الثاني: ألا يجعله في عداد الظالمين، بأن يعتبره ممن عبدوا العجل، أو تهاونوا في استنكاره، فإنه قد قام بحق الخلافة عن أخيه، ولكنهم وقعوا فيما وقعوا فيه بأمر لَا قبل له في دفعه، وهو له مُنْكِر.
ولقد كان موسى - عليه السلام - شديد الغضب، لكنه كان سريع الفيئة؛ ولذا قال راجعا إلى الحق في أمر أخيه معلنا الرضا. فقال:(6/2958)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
طلب الغفران لنفسه لأنه يحس كما يحس الأبرار بقصور نفسي من تقصير حقيقي، ولأنه ألقى التبعة على أخيه، وما قصر أخوه، وأن يغفر لأخيه، إذا كان لم يحملهم على الجادة، ولم يمنعهم عن غيهم، ثم يقول: (وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ) التي كتبتها للمؤمنين، (وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ).
وهنا إشارة بيانية في القول فإن هارون قال (ابْنَ أُمَّ) وهو نداء استعطاف واسترحام، وخصت الأم بالذكر؛ لأنها مجتمع الحنان والرفق والمودة بين أولادها.
* * *
جزاء الذين اتخذوا العجل(6/2958)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
* * *(6/2958)
غضب موسى، وغضب له ربه؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ).
أكد سبحانه وتعالى أن الذين اتخذوا العجل بأن صنعوه بأيديهم، وعبدوه من دون الله فاتخذوه إلها تقليدا وعماية عن الحق، وعن الإيمان بالآيات البينات، حكم الله تعالى عليهم بسبب اتخاذهم العجل فقال: (سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
السين في سينالهم لتأكيد ما ينزل بهم و (غَضَبٌ) حال تقوم بالذات العلية، وهي غير غضبنا، وإن مظهره عذاب شديد، وبعد عن رحمته (. . . وَلا يُكَلِّمُهمُ اللَّهُ وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ. . .)، وذلك إذا لم يتوبوا إليه، كما تدل على ذلك الآية التالية لهذه.
وينالهم مع الغضب ذلة، وهي ذلة المبطل إذا ظهر الحق، وتضرب عليهم الذلة إلى يوم القيامة إن لم يتوبوا إلى ربهم، ويرجعوا إليه.
وإن ذلك جزاء الجرمين؛ ولذا قال تعالى: (وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)، أي كهذا الذي ينالهم حتما من غضب الله الذي يكون أثره العذاب الشديد، والبعد عنه، والذلة تكون جزاء المجرمين الذين مردوا على الإجرام والمخالفة والعصيان، أي صار الإجرام وصفا ملازما لهم، لَا يخرجون منا، ولا يتركهم؛ لأنهم لَا يتوبون، وقد فتح الله تعالى باب التوبة مما يدل على أن ذلك العقاب هو لغير الذين يتوبون ويعملون الصالحات.(6/2959)
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
(وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
" الواو " عاطفة واصلة بين هذه الجصلة وما قبلها، و (السَّيِّئَاتِ) جمع سيئة، وهي ما يسوء الناس، وهو قبيح في ذاته (ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمنُوا) " ثم " هنا(6/2959)
للترتيب والتراخي لبعد ما بين السيئة والتوبة؛ لأن السيئة فعل قبيح لَا يرضي الله - سبحانه وتعالى - والتوبة رجوع إلى الله، فالمنزلتان متباعدتان تباعد البعد من الله بالسيئات، والقرب منه بالتوبة، وقوله تعالى: (تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا) يوحي إلى أن التوبة لَا تكون بعيدة الزمن، كما قال تعالى: (إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ. . .).
(آمَنُوا)، أي أذعنوا للحق، فكأن التوبة لها ثلاث خطوات هي الشعور بالذنب والندم، ثم التوبة، ثم الإذعان لحقائق الإيمان بحيث لَا يعودون لمثلها أبدا.
وقد وعدهم الله تعالى بقبول التوبة فقال: (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)، أي إن ربك الذي خلقك وكونك من بعد هذه التوبة النصوح (لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) إن هذا بيان لقبول التوبة ببيان وصف قابلها، وهو أنه غفور للذنوب قابل للتوب، وأنه رحيم بعباده يريد لهم التوبة، ولا يريد لهم العقاب إلا أن يصروا إصرارا.
وفى هذا النص تأكيد بقبول التوبة بالتأكيد بالجملة الاسمية، وبوصف الربوبية، وبوصف الغفران والرحمة، وبـ " إن " وباللام في قوله: (لَغَفُورٌ رحِيمٌ).
وإن الله تعالى في القرآن الكريم حيث يذكر العقاب يذكر التوبة وقبولها حتى لَا ييئس المذنب من غفرانه، فينساق في معاصيه وهو يقنط من غفران الله ورحمته، قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53).
* * *(6/2960)
موسى بعد الغضب ينظم الدعوة للإيمان
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
* * *
كان الغضب أمرا عارضا لموسى بسبب أن قومه انتهكوا حمى التوحيد، وأشركوا بالله، ولم يغب عنهم إلا أربعين ليلة، فاستطالوها وعجَّلوا به مخالفين أمر ربهم، وبعد أن هذا الغضب، إذ أقام أمر الله ونهيه، وقد كان سريع الفيئة كما روينا أي سريع الرضا، وكذلك شأن النبيين لَا يلج بهم الغضب؛ حتى لا يشغلوا عن الدعوة إلى الحق الذي بعثهم الله تعالى لإقامته.
وقوله تعالى:(6/2961)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) يدل على أنه عارض زال فعاد الواجب قويا قائما، بعد زواله (أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا)، أي في المكتوب فيها، وهو الأصل الثابت الذي كتب بأمر الله تعالى، وكأنه - سبحانه وتعالى - هو الذي كتبه (هُدًى وَرَحْمَةٌ)، أي في نسختها الأصلية. . (هُدًى وَرَحْمَةٌ)، أي(6/2961)
هداية إلى الحق في وسط دياجير الباطل والظلمات ورحمة بشريعتها التي اشتملت عليها، فالشريعة في التوراة بأخذها على أيدي الظالمين وإقامة العدل، يكون ذلك رحمة، فالعدل في ذاته رحمة، كما جاء في القرآن الكريم: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ. . .).
وإن هذه الهداية وتلك الرحمة إنما ينتفع بها الذين يرهبون الله تعالى ويخافونه، والذين يخافون الظلم ويجتنبونه، والذين في قلوبهم رأفة بالناس، ويخافون أن يؤذوهم ويتجنبؤن الأذى، ويخافون عذاب الله، ولذا قال تعالى: (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ).
أي إن الهدى والرحمة للذين هم يخافون الله تعالى ويرهبون عذأبه، فإنه مع رهبة رب العالمين يكون الاتعاظ والازدجار، والانتفاع بالهداية، وتلقي الرحمة؛ واستحقاقها. وقوله تعالى: (لِلَّذينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبونَ) فيه تأكيد لرهبتهم لله بعدة مؤكدات: أولها ضمير الفصل (هُمْ) وثانيها: تقديم (لِرَبِّهِمْ)،، أنهم لا يرهبون إلا ربهم، ولا يخافون غيره، وثالثها: في قوله (لِرَبِّهِمْ) فاللام هنا تفيد زيادة الرهبة، إذ إن (يَرْهَبُونَ) تتعدى بنفسها دون اللام، فذكر اللام لتقوية التعدي أي لتقوية الرهبة، وهكذا لَا ينتفع بما اشتملت عليه من الهداية إلى الطريق، والرحمة بالانتفاع بنظمها إلا هؤلاء؛ لأن هذه الرحمة لَا ينتفع بها إلا الذين يخافون الله تعالى ويرجون ثوابه ويخافون عذابه فيكونون منه دائما على حذر، فينجون.
بعد أن ذكر الله تعالى الميقات الذي واعد الله موسى عليه، وما كان من عبادة العجل، ولوم موسى لأخيه على عبادة بني إسرائيل العجل، بين الله - سبحانه - اختيار موسى لسبعين من رجال بني إسرائيل يمثلونهم، وكأنه اختار بني إسرائيل كلهم، فقال تعالى: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا ... (155)(6/2962)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
اختار موسى سبعين رجلا لميقات الله تعالى الذي واعده موسى - عليه السلام - وكأنهم صحبوه في هذا الميقات، ولكن انفرد بمكالمة الله موسى - عليه السلام.
وقد طلبوا أن يروا الله تعالى جهرة، ويظهر أن موسى - عليه السلام - طلب أن ينظر الله تعالى تمهيدا لأن يروه، فقال الله تعالى لن تراني، (. . . فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا. . .) وكانت رجفة في ِالأرض خر من أجلها موسى صعقا، وأخذتهم الرجفة.
وانتهى من هذا إلى أن الذهاب للميقات واحد، ذهب موسى ومعه سبعون رجلا اختارهم ممثلين لبني إسرائيل، وهذا ما يمكن أخذه من ظاهر السياق القرآني، وهو أن الميقات واحد.
ولكن يذكر محمد بن إسحاق أن هذا ميقات آخر، وهو أن موسى عندما رأى من عبادة العجل ما رأى، أخذ ميقاتا من ربه، ليذهب هؤِلاء السبعون معه، ويستغفروا ربهم، فقالوا: (. . . لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ. . .)، فصعقوا.
وإن هذا الكلام مقبول في ذاته، ولكن لَا نجد له سندا صحيحا من سنة وليس في الكتاب إشارة واضحة إليه ولعله يرشح لهذا النظر قوله تعالى:
(أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا) ولكنه لَا يقطع؛ لأنه ربما يشير إلى أن طلب الرؤية ذاته كان تعديا وسفها، ولذا استغفر عنه، على أن الاستفهام للإنكار، أي لإنكار الوقوع من الله تعالى أي أنت يا رب العالمين لَا تهلكنا بما فعل السفهاء منا، أي بما يكون بسبب خفة أو تسرع.
وهنا إشارات بيانية:
الأولى - أن الله تعالى يقول: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا) وسبعون بدل من (قَوْمَهُ) بدل بعض من كل، ولكنه يشير إلى أن اختيارهم هو اختيار لجميعهم، لأنهم يمثلونهم، وكأنهم هم أنفسهم(6/2963)
الثانية - في قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) نادى الله بعنوان الربوبية أنه لوشاء أهلكهم وأهلك موسى معهم، وذكر نفسه معهم؛ لأن السبب، وهو طلب رؤية الله تعالى، قد اشترك فيه موسى، وتلك مساواة منصفة من كليم الله تعالى موسى مع غيره.
الثالثة - أن الله تعالى هدى موسى لأن يستنكر بنفسه طلبه الرؤية، وظنه أن ذلك سفه أو تسرع، ولكنه ليس بذنب مقصود، وإنما دقة الحس بالإيمان جعل يظن أن ذلك سفه يدخله في جملة السفهاء؛ ولذا قال هذا، وقال من قبل: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي).
الرابعة - من الإشارات البيانية، قوله تعالى: (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ)، أي من وقت الميقات وأنا معهم ثم قال موسى: (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ)، الفتنة: الاختبار، وهي مضافة إلى الله تعالى، ومعناها إنك تعاملنا معاملة من يختبرنا في أنفسنا، تهدي بها من تشاء ممن يعتبرون بالعبر، ويؤمنون بقدرتك، ويطيعونك فيما تأمر به وتنهى عنه، ويضل في هذا الاختبار الحكيم، فلا يدرك عظمتك وجلالك، فيضل عن الطريق (أَنتَ وَلِيُّنَا) أي أنت ناصرنا ومعزنا، ومتولي أمورنا، والقريب منا العفو الغفور.
(فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ).
الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كنت ولينا وناصرنا، والقريب الداني منا برحمتك وعفرك، فاغفر لنا ذنوبنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.
فإذا كان منا مخالفة فانت خير الغافرين، و (خَيْرُ) هنا للتفضيل، ولكنه في غير بابه، والمعنى أنت غفار بقدر لَا يتصور أن يكون فوقه قدرة، ولا يفاضل بينه وبين غيره.
* * *(6/2964)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
(وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ... (156)
هذه ضراعة إلى الله تعالى إلى أن يوفقهم للخير، وألا يجعلهم من الأشقياء، دعوا ربهم أن يكتب لهم في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة، وحسنة الدنيا هي الحال الطيبة التقية النقية الطاهرة التي تكون غايتها إرضاء الله تعالى، والبعد عن معصيته وفي الآخرة، والدعوة إلى الكتابة في الدنيا، دعوة إلى العمل الطيب، فحسنة الدنيا عمل صالح ونفع وخير، وأن يكون مصدر خير دائم، وفي والآخرة تكون الحسنة جزاء يكون وفاقا للعمل.
ولقد ذكر الله تعالى حسنة الدنيا، وطوى في الذكر حسنة الآخرة؛ لأنها ليست عملا، بل هي جزاء على عمل في الدنيا ثمرة الأولى، فمن حسنت دنياه وكانت للخير، حسنت آخرته، وكانت نعيما مقيما (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ. . .) وهو لمن اختار النفس والهوى، (وَرَحْمتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) وذلك لمن اختار طريق الحق والهداية كما قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8).
وقال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، أي نجد الخير، ونجد الشر وقد أسند العذاب إليه وإلى مشيئته سبحانه لعظم العقاب، ولبيان أنه حق، وأنه من عند الله، وقد كتب العدل على نفسه كما جاء في الحديث القدسي (1)،
________
(1) عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا ".
جزء من ْحديث طويل رواه مسلم وقد سبق تخريجه.(6/2965)
فهو العدل وهو خير الفاصلين، وقدم الله تعالى ذكر العذاب على الثواب، لأنه يكون لمخالفي الفطرة وللتحذير قبل التبشير، ليختار المكلف نجد الخير.
وقوله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَلسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) العموم فيها عموم كامل صادق، وقال سبحانه وتعالى: (كُلَّ شَيْءٍ) ولم يقل كل شخص، للإشارة إلى أن الرحمة شاملة عامة للأشياء والأشخاص، فشريعته عدل ورحمة وإرساله الرسل عدل ورحمة وخلقه الكون وما فيه من شمس مشرقة مضيئة للكون، وقمر منير، ونجوم ذات بروج، وسحاب ورياح مرسلات رحمة، وهكذا كل ما سخره الله تعالى للإنسان، وما مكنه منه رحمة به.
هذه إشارة إلى معنى العموم الذي اشتمل عليه ذلك النص السامي، وما ترمي إليه رحمته، وإن نعيم الجنة رحمة من الله، وقد كتبها الله تعالى للذين يؤمنون بالله وبالآخرة، ولذا قال تعالى: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ).
الفاء هنا لتفصيل بعض العام، والسين لتأكيد المستقبل، و " أكتبها "، أي أسجلها غير قابلة للمحو، وذكر أعمال أو أوصاف من يستحقونها، فكانت خصالا ثلاثا:
الأولى - التقوى واستشعار مخافة الله، وأن يتخذوا وقاية بينهم وبين الشر، وذلك بتهذيب أنفسهم بالعبادات المهذبة للنفس، التي يستشعر فيها المؤمن خشية الله تعالى، وابتدأ - سبحانه وتعالى - بها لأنها أساس قوة الخير، وهي روح التدين، وعمران القلب بذكر الله تعالى.
الثانية - الائتلاف مع المجتمع الإسلامي بالمعونة والبر، وأشار بذلك إلى إيتاء الزكاة، فهي أساس التعاون الاجتماعي، وهو سبحانه يذكرها بجوار التقوى، وهي(6/2966)
الكلمة الشاملة لاكثر العبادات تقريبا لله - سبحانه وتعالى - وإن التعاون الإنساني قرين العبادات، بل هو منها، وأقربها عند الله - سبحانه وتعالى.
الثالثة - أنهم يؤمنون بآيات الله تعالى وحدها، يؤمنون بالمعجزات ولا يؤمنون بما يحيط به المشركون أنفسهم مما يثيرونه من أهواء ومفاسد وجحود، ولذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنونَ) وقد قدم فيه الجار والمجرور على كلمة يؤمنون للدلالة على أنه لَا يصح أن يؤمن بغيرها، والإيمان بآيات الله إيمان بما دلت عليه، وهدت إليه من إيمان بالوحدانية، وحدانية الله تعالى بألا يشرك به شيئا، وأكد سبحانه وجوب هذه الخصلة بثلاثة مؤكدات أولها - أنه كرر الموصول، فإن التكرار تأكيد، فقال: (وَالَّذينَ).
وثانيها - التعبير بالجملة الاسمية.
وثالثها - بضمير الفصل، وأخيرا بذكر كلمة (يُؤْمِنُونَ)، فإن التعبير بالمضارع يفيد استمرار الإيمان وتجديده بالزيادة آنًا بعد آنٍ. جعلنا الله تعالى ممن كتب له رحمته برحمته وغفوانه.
* * *
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)(6/2967)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
* * *
إن ذلك القصص القرآني فيه تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وشد لعزيمته، وعزاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - بكفر الأقوام الذين كفروا بالأنبياء قبله كقوم نوح وصالح وهود، وموسى من بعد هؤلاء، وفي هذه الآيات الكريمات مع العزاء الرباني وشد العزم المحمدي، بيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم -ومبشر به في التوراة والإنجيل، وأن اليهود الذين يعاندون محمدا - صلى الله عليه وسلم - مخاطبون، وأنه إليهم جميعا، وأن اتباعه واجب عليهم، وأنهم ينحرفون عن دين موسى - عليه السلام - إن لم يؤمنوا به، وبهديه الذي جاء إلى الخليقة الإنسانية كلها به.
ولذا قال تعالى:(6/2968)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ).
قوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ) بدل اشتمال منْ قوله تعالى: (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) أو تكون منصوبة على التخصيص، ويكون المعنى أن الذين كتب الله تعالى عليهم الرحمة، الذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم به يؤمنون، ويخص - سبحانه - الذين يتبعون النبي الأُميّ الذي يجدونه إلى آخر الآية الكريمة، وكان تخصيص الذين يتبعون النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم يؤمنون بكل الأنبياء، ولأنه خاتم النبيين، ولأن شريعته هي الشريعة الخالدة الباقية إلى يوم الدين، وهو خاتم النبيين، فكان أتباعه جديرين بالتخصيص، ولأنهم شهداء على الناس مكلفون تبليغهم والنبي - صلى الله عليه وسلم - شهيد عليهم، وهو مبلغهم والشاهد عليهم(6/2968)
بوجوب التبليغ، ونشر الإسلام، والدعوة إليه، من أجل هذا خصوا بالبيان بين الذين كتب الله تعالى لهم الرحمة.
وقوله تعالى: (الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ) نقول في الكلام في معناه: الرسول هو المرسل من قبل واحد إلى واحد أو جماعة، والرسول في القرآن الكريم هو المرسل من الله تعالى لخلقه لتبليغ شريعته وبيان التكليف الذي كلف الناس إياه، والنبي الذي أنبأه الله تعالى، وشرفه بتلقي وحيه، وإن وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة والنبوة فيه للملزوم واللازم، فإن الرسالة تلزمها النبوة في المعنى القرآني، لأنه لا يعد رسولا إلا إذا كان نبوة عن الله، وقد تلقى العلم عن الله جل جلاله بوحي، أو يكلمه من وراء حجاب أو يرسل رسولا.
وذكرها - أي وصف الرسالة والنبوة - مع هذا التلازم فيه إشارة إلى التبليغ، وإلى أنه يُنبأ من الله تعالى، والأُميّ نسبة إلى الأم، أي أنه جاء في العلم والكتابة كما ولدته أمه، أو نسبة إلى أمه، ذلك أن العرب لم يكونوا أهل علم وكتاب، فلم تغلب عليهم العلوم والكتابة، وإن كان فيهم من يعرفون الكتابة وبعض العلوم، ولذا كان يطلق عليهم الأميون، وذكر القرآن الكريم ذلك الوصف لهم، فقال تعالى: (هُوَ الَّذِي بعثَ فِي الأُمِّيِّينَ رسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ. . .).
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أميا لَا يقرأ ولا يكتب لتكون الحجة عليهم قاطعة بنزول القرآن الذي فيه علم الأولين والآخرين، وهو لَا يمكن أن يكون من أمي قط، ولذا قال تعالى: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48).
ولقد حاول الذين لَا يرجون للإسلام وقارا أن يكذبوا فيدعوا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعرف القراءة والكتابة ليشككوا في القرآن، وقد حاول بعض المتحذلقين من المسلمين أن يقول في هذه المقالة الكاذبة فردهم القرآن الكريم ردا عنيفا؛ لأنهم يسايرون الكفار الكذابين.(6/2969)
هذه أوصاف ثلاثة. ووصف رابع ذكره الله تعالى بقوله تعالى: (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ)، وهذا الوصف يدل على أمر بالنص، وهو أنهم يجدون النبي - صلى الله عليه وسلم - مذكورا مكتوبا في التوراة والإنجيل، ويدل على أمرين آخرين:
أولهما - وحدة الديانات السماوية فهي تدعو إلى دين واحد، قد تتغاير بعض الفروع، ولكن الأصل واحد. كما قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. . .).
وإن اليهود والنصارى قد حرفوا القول عن مواضعه، وغيروا وبدلوا، ولا يزالون يغيرون، ويبدلون على حسب أهوائهم، وقد ظهرت في مصر طبعة لإنجيل متى فيها تغيير عن سوابقها، ولا تكاد تجد نسخة مكتوبة في مصر، تتلاقى في كل أجزائها مع التي جاءت من بعد، يغيرون لفظا بدل لفظ، ويزيدون قيدا أو شرطا، ولا يلمح ذلك القارئ العادي بادي ذي بدء حتى يخفى ذلك على عامتهم بل بعض خاصتهم.
لقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاسم وذكر بالوصف، فغيروا الاسم وأحاطوه بما يجعله مبهما مع ملاحظة اختلاف اللغة العربية على اللغة العبرية.
ولكن الأوصاف لم يستطيعوا تغيير كثير منها، وهم يحاولون التغيير، ولنأت بنصين أحدهما من التوراة، والثاني من الإنجيل، وهما لم تمتد إليهم أيدي التبديل والتحريف ونرجو ألا يغيرا من بعد.
ما في التوراة - جاء في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر التثنية: " جاء الرب من سيناء، وأشرق لنا من سعير، وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس وعن يمينه نار شريعة لهم ".
وصريح أن إشراق الرب من سيناء هو إنزال التوراة، وإشراقه من سعير - وهي موضع بالناصرة - إنزال الإنجيل، وإشراقه من فاران، وهي مكة أو ما(6/2970)
حولها، لأنها التي نزل بها إسماعيل، كما جاء في التوراة نفسها فقد جاء فيها: " أنجبت هاجر ابنا لإبراهيم وكان هذا الابن قرة عينها وبهجة قلبها ولكن سيدتها سارة حاولت إذلاها فاستجارت بزوجها إبراهيم لكنه تركها لسيدها بقوله لها: هو ذا جاريتك، فاشتدت بها إيلاما وإيذاء حتى هربت ترجو النجاة مما ألم بها، فقابلها ملاك الرب في الطريق فقال: ما لك يا هاجر، وقال لها شدى بابنك لأني سأجعله أمة عظيمة، وفتح عينيها، فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة، وسعت بالغلام فكان الله مع الغلام فكبر وسكن في برية فاران ".
وإشراق الرب في فاران إذن هو إنزال القرآن (راجع رسالة بشرى زخارى ميخائيل بعنوان: محمد رسول هكذا بشرت الأنانجيل).
وجاء في إنجيل يوحنا وهو بعض ما في الأناجيل - التبشير بلفظ " الفارقليط "، ففي الإصحاح الرابع عشر من هذا الإنجيل جاء النص التالي على لسان المسيح: " إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي وأنا أطلب من الآب، فيعطيكم فارقليط آخر، ليثبت معكم إلى الأبد، وهو روحُ الحق الذي لَا يطيق العالم أن يقبله لأنه ليس يراه، ولا يعرفه وأما أنتم فتعرفونه، لأنه مقيم عندكم، وهو ماكث فيكم ".
وجاء في الإصحاح السادس عشر من هذا الإنجيل " لكني أقول لكم الحق، إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لَا يأتكم الفارقليط، فأما إذا انطلقت أرسلته إليكم، فأما إذا جاء فهو يبكتُ العالم على خطيئته وعلى بر، وعلى دينونة. أما على الخطيئة فلأنهم لايؤمنون بي ".
راجع المرجع السابق فهو يبين أن مجيء الفارقليط هو مجيء محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وصدق الله تعالى: (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوراةِ وَالإنجِيلِ) وقد ذكر الله تعالى ما يقوم به الرسول النبي الأُميّ، دال: (يَأمرهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ).(6/2971)
هذا أحد أمور أربعة خص الله تعالى رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وصف عام للشريعة الإسلامية، فكل أمر تأمر به من الحلال، وتكلف الناس أن يقوموا به هو من الأمور التي تقرها العقول، وتعرفها، إذ المعروف الأمر الذي ترضاه العقول، وتراه صالحا مصلحا للناس، تقره وتعرفه بفطرتها، ودين الفطرة يأمر بكل ما يستقيم مع الفطرة، فالعبادات كلها، ومنها الزكاة تقرها الفطرة، والعقل المستقيم، والوفاء بالعهود، وجهاد الأشرار لحماية الفضيلة، وإقامة الحدود، والقصاص من المعتدين تقره الفطرة ويؤيده العقل.
وكل أمر نهى عنه الإسلام هو من الأمور التي لَا تقرها العقول، وتتجافاه، فالزنا والسُّكر، وقذف الأطهار، والاعتداء على الأنفس والمال، ومحاربة العدل، ونصرة الظالمين والرضا بظلمهم أمور تنكرها العقول السليمة وتجافيها. وقد سئل أعرابي أسلم: لماذا آمنت بمحمد؟ قال: ما رأيت محمدا يقول في أمر افعل والعقل يقول لَا تفعل، وما رأيت محمدا يقول في أمر لَا تفعل والعقل يقول افعل.
والأمر الثاني الذي ذكره القرآن مما يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا إليه في رسالته ما ذكره الله تعالى بقوله: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)، والطيبات هي الأمور المستحسنة في ذاتها، من أطعمة طيبة مريئة، هنيئة، لَا تفسد الأجسام ولا تضر العقول، ولباس حسن من غير إسراف ولا مخيلة، ولذات طيبة في حدود الخُلق والمروءة، وتصرفات طيبة لَا اعتداء فيها، ولا نكث وخيانة، وغير ذلك مما هو طيب في ذاته، وحصل عليه بطريق طيب أحله الله تعالى ولا اعتداء فيه ولا اغتصاب.
(وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) وهي الأشياء الخبيثة في ذاتها التي تضر الأجسام، كالخنزير والميتة والدم المسفوح أو تضر العقول كالخمر، أو تلقي بالعداوة بين الناس كالميسر والبغضاء أو الاعتداء على حق غيره بالسرقة والاغتصاب أو القتل، فكل هذه خبائث تدخل في باب الفحشاء والمنكر والبغي، وكذلك أكل أموال الناس بالباطل كالربا ونحوه.(6/2972)
والأمر الرابع ذكره سبحانه وتعالى في قص له: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ) والإصر هو الثقل، والمراد ثقل التكليفات فلم تكن تكليفاتهم يسيرة، بل كان فيها شدة وكان فيهم غلظة في طباعهم، وقسوة في نفوسهم، فكان تشديد التكليف عليهم تهذيبا لهم، وكفا لشَّره في نفوِسهم، فكان لابد لفطمهم عن بعض الطيبات، كما قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ. . .)، أي هي في أصلها حلال.
وقال تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146).
ومما رفعه سبحانه وتعالى: (وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) والأغلال جمع غل، وهو ما يوضع في العنق في مخنقة ليثقل ويوضع كذلك تقييدا لحركته وإثقالا عليه، والمراد هنا ما وضع من قيود في الحلال عليهم تهذيبا كتحريم الصيد يوم السبت، ومنع بعض المحللات في ذاتها، ولكنها حرمت عليهم تربية لهم.
والأغلال مجاز عن هذه القيود التي شدد الله بها على نفوسهم لقمعها عن الإسراف في الشهوات، شبهت هذه القيود بالأغلال الحسية؛ لأنها ثقيلة على النفوس المستقيمة، ولكنها علاج للنفوس المريضة السقيمة، وإن شريعة النبي الأُميّ جاءت موائمة للفطرة السليمة جاءت لليسر، دون العسر، وكانت عزاءً للإنسانية كلها لَا فرق بين أحمر وأسود، وهي الباقية ما بقي الإنسان.
وإذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - قد جاء برفع الآصار فإن الواجب تأييده ونصره؛ ولذا قال تعالى: (وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر يتضمن الكلام المتقدم فحواه، ومؤدى القول إذا كان هذا النبي الأُميّ ينعم الله على يده عليكم تلك النعم، وهو قد جاء بالحق في ذاته، ورفع عنكم الآصار والأغلال؛ فعزروه أي فوقروه وأيدوه،(6/2973)
وانصروه على من يعادونه، فإن نصرته تأكيد للحق، وشكر للنعمة، وقيام بواجب الحق على أهله.
وكلا الأمرين واجبان بالنسبة للنبي الأُميّ، وهناك واجب أعظم، وهو جماع الإيمان، وفيه تنفيذ أحكام الرشاد، وهو ما قال الله تعالى: (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ)، أي أنزل من عند الله تعالى ومصاحبا لدعوته، مؤيدا لرسالته وهو المعجزة الكبرى الخالدة، وهو القرآن، والتعبير عنه بالنور فيه استعارة فقد شبه بالنور؛ لأنه مبين للحقائق مزيل للجهالات، دافع للأوهام، كما أن النور يزيل غياهب الظلام.
واتباع القرآن اتباع لصراط الله المستقيم الذي لَا عوج فيه، وهو الخلاصة الإلهية للرسالة الإلهية، وهو سجل النبوات جميعا، فيه أحكامها، وأخبارها، ومعجزاتها.
وقد حكم الله سبحانه وتعالى على الذين قاموا بهذه الصفات بأنهم الفائزون في الدنيا باتباع الحق، وأن حياتهم كلها فاضلة وأن تكون حياتهم في الآخرة نعيما مقيما، ورضوانا من الله العزيز الحكيم، وهو أكبر الفوز العظيم، ولذا قال تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
والإشارة إلى الصفات، يفيد أنها علة الحكم وسببه، أي بسبب هذه الصفات ينالون الفلاح في الدنيا والآخرة، لأن الهداية والاستقامة فلاح لَا يدركه إلا من استقامت إلى الحق نفوسهم.
وقد أشار - سبحانه وتعالى - بالبعيد للدلالة على بعد الشرف، وعلو المنزلة، وقد قصر الله تعالى الفلاح عليهم، بتعريف الطرفين، وبضمير الفصل، أي أنهم المفلحون، ولا يفلح سواهم، والقصر قصر حقيقي، إذ إنهم سلكوا الصراط المستقيم، ومن لم يسلك سبيل الله فقد سلك مثارات الشيطان، وهذا فرق ما بين الهدى والضلال.(6/2974)
وإذا كان ذلك طريق الفوز عند الله، وفي الحياة الدنيا والآخرة فإن الإنسانية كلها مخاطبة بها، ولذا قال تعالى آمرا نبيه بخطاب الناس كافة بهذه الشريعة السمحة البيضاء.
* * *(6/2975)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
* * *
إن شريعة النبي الأُميّ هي شريعة الناس جميعا لَا فرق بين أحمر وأسود وأصفر، ولذلك أمره الله تعالى أن يخاطب بها الناس جميعا؛ ولذلك كان الخطاب بقوله: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) لَا فرق بين قبيل وقبيل وجماعة وجماعة، فما كان ما اشتملت عليه رسالتي علاجا لجماعة ظهرت فيها أمراض نفسية واعتقادية ولكن لصلاح البشرية أينما كانوا، وكما قال تعالى على لسان نبيه: (. . . لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ. . .). ولذا نادى الناس، ولم يختص بندائه المؤمنين، بل عم بندائه الناس، وأكد هذا التعميم بقوله تعالى: (جَمِيعًا) وبأن الرسالة إليكم معشر الناس أجمعين.
وإن الرسالة السامية ذات خطر وشأن، وتجب طاعتها، والاستجابة لها، وذلك لأنها من الله تعالى: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) فله ملك الكون والسلطان وهو مالك كل شيء دهذا الوصف، لإلقاء مهابة الرسالة في نفوس الناس، فهي رسالة من ملك السماوات والأرض، وله السلطان المطلق فيها، ولا يوجد سلطان مطلق في الوجود لغيره، وهو العزيز الرحيم.
وهو لَا يملك السماوات والأرض وما فيهما من أكوان فحسب، بل يملك كل حي فيها من نبات وحيوان وإنسان، وهو الذي يملك الحياة والموت؛ ولذا قال تعالى: (يُحْيِي وَيُمِيتُ).(6/2975)
وإذا كان له الملك هو مالك كل شيء، ومالك الحياة والموت لكل الأحياء، فإنه الجدير بالعبادة، وحده وهو الذي يكرم رسوله، فمكانة الرسول مستمدة من مكانة من أرسله، ولذا قال تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ) الفاء هنا لربط ما قبلها بما بعدها برابطة السببية، أي ما ذكر من كمال سلطانه في الكون جماده، والأحياء فيه.
والإيمان بالله تعالى هو الإيمان بوجوده، وأنه الخالق الفاعل المختار، وأنه صاحب السلطان في الأكوان والإنسان، وأنه المعبود وحده بحق، ولا معبود بحق سواه، وبعبارة أعم الإيمان بالله وبوحدانيته في الخلق والتكوين والذات والصفات والإيمان بالله تعالى إلها معبودا.
والإيمان بالرسول: التصديق به رسولا من رب العالمين، والإيمان بصدق ما يدعو إليه، وأنه من عند الله العليم الحكيم واتباعه في كل ما جاء به، والاقتداء به، واتخاذه أسوة في العمل الصالح الذي يهدي إليه، ووصفه سبحانه بثلاثة أوصاف تفيد كماله في رسالته.
الوصف الأول: أنه النبي أي الذي يخبر عن الله تعالى، وأن ما يدعو إليه هو ما كلفه الله إياه (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. . .).
والوصف الثاني: أنه الأُميّ، الذي ينطق بالفطرة وبالوحي، وأن حاله تدل على صدق معجزته، وأنه لَا علم عنده إلا ما علمه الله تعالى رب العالمين، وإن ما معه من كتاب لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه تنزيل من عزيز حميد.
والوصف الثالث: ما ذكره - سبحانه وتعالى - بقوله: (الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكلِمَاتِهِ) وإيمانه بالله هو ما ذكرنا، وإيمانه بكلماته هو الإيمان بالقرآن، فهو(6/2976)
كلمات الله التامة الكاملة التي لَا يعادلها أو تقارب أي كلام من البشر، والذي تحدى الناس أن يأتوا بسورة منه فعجزوا فقامت عليهم الحجة.
ورجح بعض المفسرين أن كلمات الله تعالى لَا تخص القرآن وحده، وإن كان أكملها، وأبقاها، إنما يشمل الكتب التي نزلت على النبيين من قبل من التوراة والإنجيل والزبور، وغيرهما مما لم يذكره الله - سبحانه وتعالى - وإن هذا يدل على أن رسالة كل الأنبياء واحدة.
وذكر الإيمان بالله وبكلماته في هذا الموضع للدلالة على أنها رسالة واحدة، وهي الإيمان بالله وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد الذي ليس بوالد ولا ولد.
وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذه الأوصاف السامية التي اختصه الله تعالى بها فإن الإيمان به واجب، واتباعه اتباع لأمر الله ونهيه؛ ولذا قال تعالى: (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكمْ تَهْتَدُونَ)، الفاء لربط ما قبلها بما بعدها يالإفصاح عن سببيتها لرجاء الاهتداء، والرجاء من العباد لَا من الله تعالى؛ لأن الله تعالى لَا يرجو إنما يرجو عباده، يرجون بالإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - واتباعه أن يهتدوا إلى الحق والبر، فيهتدوا إلى الجنة وهي نعم الجزاء الأوفى.
والآية دليل على عموم الرسالة المحمدية، وأنه - عليه السلام - بعث للألوان كلها، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: " كان كل نبي يبعث في قومه، وإنما بعثت في الأحمر والأسود " (1) وروى مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " والذي نفسي بيده لَا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لَا يؤمن بي إلا دخل النار " (2).
* * *
________
(1) رواه أحمد باقي مسند المكثرين - مسند جابر بن عبد الله (13852).
(2) رواه مسلم: الإيمان - وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (153)، وأحمد بنحوه: باقي مسند المكثرين (27420).(6/2977)
عود إلى بني إسرائيل
(وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
* * *
إن القرآن الكريم ينصف القلة من الكثرة، فإذا كانت الكثرة طاغية عاتية، وفيهم قلة هادية مرشدة؛ يذكر القرآن الكريم أهل الخير من بينهم، وإن طغى الشر في جمعهم، وصار الفساد هو المظهر فيهم.
ولذا قال تعالى في وسط بيان مآثم اليهود:(6/2978)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
(وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَق)، أي ومن هؤلاء الذين كانت فيهم عبادة العجل، وكان منهم من قالوا: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، من هؤلاء جماعة كأنهم أمة وحدها منفصلون(6/2978)
بشعورهم وعقولهم عنها؛ ولذلك عبر بأمة من حيث إنهم قد اجممعوا على طاعة الله وطاعة رسوله موسى، وذكرهم منتسبين إلى موسى، إشارة إلى اتباعهم له، وأنهم قومه الحقيقيون الجديرون بنسبتهم إليه، وهم منه وهو منهم وذكر الله تعالى لهم وصفين هما كمال في كمال:
أولهما - أنهم يهدون بالحق، أي أنهم في وسط انحراف بني إسرائيل إخوانهم وبني جلدتهم ونسبهم يدعون بالحق، أي يعلنونه ويدعون إليه، ويؤمنون به غير محرفين، والهداية بالحق كلمة جامعة للدعوة بكل ما هو خير، يهدون إلى التوحيد، وهو الحق أو من الحق، ويدعون إلى طاعة موسى وهي حق، ويدعون إلى شكر نعمة الله التي أنعمها عليهم،، ويذكرون آلاء الله تعالى عليهم، ونجاتهم من فرعون، ويعبدون الله وحده.
الوصف الثاني - ذكره الله تعالى بقوله: (وَبِهِ يَعْدِلُونَ)، أي بالحق وحده يزنون كل شيء، فيزنون كل قول وفعل يكون في جماعتهم بميزان الحق وحده لا بميزان الهوى والشهوة، فإنها والحق نقيضان لَا يجتمعان. وقدم الجار والمجرور للدلالة على قصر الحكم على الحق وحده لَا يحكمون بغيره، ولا يتجهون لسواه، وهذا النص الكريم مثله قوله تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)، وقوله تعالى: (. . . مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مقْتَصِدَةٌ وَكثِيرٌ منْهمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ).
وهكذا شأن الكتاب الحكيم لَا يدغم الخير في الشر، بل يخص الخير بالذكر، ويخرجه من وسط ظلمات الباطل.
وقد أخذ - سبحانه وتعالى - يعرض من بعد ذلك قصص الذين انحرفوا عن الحق من بني إسرائيل، ومنعوا وصول الحق إلى قلوبهم.
وقد ذكر بعض هذا القصص في آيات أخر، ولكنه سيق لَا لأجل التكرار، بل لأنه تكملة لعبرة جديدة تساق، ولا تذكر مقطوعة عن أصلها، ولأن الذي لم(6/2979)
يذكر في الماضي لَا يتم بيانه إلا بربطه بما مضى من القول، ليكون الكلام بينا ولتكون العبرة واضحة بينة.
ابتدأ سبحانه وتعالى بذكر تقسيمهم إلى أسباط، وشعب بني إسرائيل فقال تعالت حكمته:
* * *(6/2980)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
(وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ... (160)
* * *
قلنا: إنه ليس في القرآن قصة مكررة تكرارا كاملا من غير زيادة، إنما الذي في القرآن يكون التكرار لخبر لم يذكر في القصة في موضع، وبذكر في الموضع الآخر، ويقتضي إعادة أجزاء ذكرت ليكون التناسق بين القصة في أصلها وفي أحداثها، وكذلك الأمر في قصة أسباط بني إسرائيل، فلم يذكر تقسيمهم من قبل هذه الآيات في القرآن، وفي هذه ذكر خبر التقسيم، وحكمته، ذلك أن بني إسرائيل قطعة جماعية واحدة، فرقها الله تعالى أقساما ليعنى كل قسم بنفسه، ويندمج من بعد ذلك في المجموع بالتأليف، فإن الجماعات لَا تصلح بمجموعها ابتداء، إنما تصلح بأجزائها أولا ثم تنضم الجماعات الصغيرة أو الأجزاء بعضها إلى بعض، وتتآلف صالحة متعاونة على البر والتقوى غير متعاونة على الإثم والعدوان؛ ولذلك كان في سنة الاجتماع إصلاح المجتمعات الصغيرة في القرية أو أحياء المدينة، لتتآلف مع المجتمع الأكبر، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمة الإسلامية التي ابتدأ بها المجتمع في المدينة، وكما قوى الإسلام مجتمع الأسرة، ليكون بتآلفه قوة المجتمع الأكبر.
قسم الله تعالى بني إسرائيل أسباطا، لتتعاون كما يتعاون أقارب القاتل خطأ في دفع الدية.
والأسباط جمع سبط وهو الفرع من فروع بني إسرائيل، وقال بعض الكتاب: إنه بمنزلة القبيلة في العرب، ولكن على أساس التعاون والمناصرة، لَا على أساس المعاداة بين القبائل والعصبية، كما هو في جاهلية العرب.(6/2980)
وقوله تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ) فيه إشارتان بيانيتان:
إحداهما - في التعبير بكلمة (قَطَّعْنَاهُمُ) فإنها تدل على كمال الصلة بينهم، وأنهم كقطعة واحدة، قطعت أجزاؤها وهي متجاذبة يجذب بعضها بعضا لا نفور بينها ولا تنافر، بل تواصل وتراحم بينهم، ولكن ليصلح كل أمره في خيره ويلتقى الجميع على مودة ورحمة.
وثانيتهما - أن قوله: (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) عبر بالجمع الدال على تأنيث المعدود مع أن أسباطا ليست جمعا لمؤنث، بل جمع سبط، وهو ولد الولد ولكن قالوا إنه - سبحانه وتعالى - بعد ذلك قال: (أُمَمًا) على أنها بدل، أي أن هؤلاء الأسباط أمم فلوحظت كلمة أمم، وهي غاية التقسيم، وهي جمع أمة وهي مؤنث لفظي.
وذكر - سبحانه وتعالى - التعبير عن الأسباط بالأمم لمعنى التعاون بين كل سبط كأنه أمة مجتمعة متحيزة متعاونة في الخير، ثم من بعد ذلك يكون التعاون بين أمة بني إسرائيل، وهي الجماعة الكبرى لهم. ولقد ذكر سبحانه أحكاما ذكرت من قبل على أنها نعمة في ذاتها، وتذكر الآن على أنها اجتمعت لطلب النعمة، واجتمع بعضها على الكفر بها، فذكر - سبحانه - ما طلبوه، وذكر - سبحانه - ما أكرمهم به رفعا للألم عنهم.
وأول أمر طلبوا وهم في هذه الصحراء المجدبة الاستسقاء أي طلب الماء لشربهم فقال تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) انبجست أي انفجرت، وكلمة انبجست تدل على أن الانفجار كان من حجر، لَا من تراب سهل، وهو موضع من مواضع الإعجاز؛ لأن خروج الماء من الأرض السهلة كثير معهود، ولكن خروجه من الحجر هو أمر خارق للعادة وكانت المعجزة الأخرى أنها انفجرت عيونا على قدر عددهم، وهو اثنتا عشرة عينا، فكان إخبارا بأن كل سبط له عين قائمة بذاتها.(6/2981)
وقد قال تعالى: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أناسٍ مشْرَبَهُمْ) معناها أنه علم كل سبط من الأسباط المكان الذي يشرب منه فلا يتزاحموا على مشرب واحد، فيأخذ كل الماء براحة من غير مشاحة ولا تزاحم.
والنعمة الثانية - أن الله تعالى ظللهم بالغمام ليدفع حر النهار ووهج الشمس، فقال تعالى: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ).
والنعمة الثالثة - أن الله أطعمهم في وسط هذه الأرض المجدبة التي لَا زرع فيها ولا ثمر، فقال: (وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى) وقد ذكرنا معناهما في سورة البقرة، وكيف تململوا منها مع طيبها، وجودة غذائها، وأمرهم سبحانه أمر إباحة بأن يأكلوا منها طيبة، فقال تعالى: (كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَما رَزَقْنَاكمْ) و " من " هنا بيانية والمعنى كلوا طيبات ما رزقناكم، والمغزى وصفها بأنها طيبة كلها، ومن البيانية دالة على كمال طيبها، وكمال الإنعام بها.
ولكنهم كفروا بالنعمة ولم يقوموا بشكرها، وما ظلموا الله بكفر النعمة، ولكن ظلموا أنفسهم بهذا الكفر لأنه انهواء لنفوسهم، وحط من كراماتهم، وتسهيل للذلة عليهم، لأن الطاعة عزة، والعصيان ذلة لذوي النفوس المدركة، ولذا قال سبحانه: (وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)، أي لم يظلموا إلا أنفسهم، ولذا قدم الجار والمجرور على الفعل، وتأكد ظلمهم لأنفسهم وحدها بـ " كانوا " الدالة على الاستمرار باستمرار عصيانهم، والله تعالى هو العدل الحكيم.
وقد ذكر - سبحانه وتعالى - ما كان منهم من الكفر بهذه النعمة، فقال:
* * *(6/2982)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)
(وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)
* * *
طلبوا أن يغيروا نوع الطعام الذي أنزله تعالى عليهم، وقالوا: لن نصبر على طعام واحد، وهو الذي كان في الصحراء إذ أنزل عليهم المن والسلوى، فأمرهم الله تعالى أن يدخلوا قرية فيها الطعام الذي يريدونه وقال لهم: (اسْكُنُوا هَذِهِ(6/2982)
الْقَرْيَةَ) التي فيها أنواع من الأغذية فيها فومها وقثائها، وسائر بقلها، وقال لهم مبيحا لهم الطيب منه: (وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ)، أي مكان للنبت شئتم، مما تنبت الأرض، من طعام مختلف ألوانه.
وأمرهم - سبحانه - وقد مكنوا من العيمش الذي يريدونه رغدا أمرين: أحدهما أن يقولوا حطة، والثاني أن يدخلوا ساجدين.
ومعنى حطة: دعاء الله تعالى أن يحط عنهم ذنوبهم التي ارتكبوها، من عبادتهم للعجل، وطلبهم أن يكون لهم آلهة، كما لهؤلاء آلهة، ومن كفرهم الله، ومن قولهم لموسى: (. . . لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نرَى اللَّهَ جَهْرةً. . .)، وأمرهم سبحانه على لسان موسى - عليه السلام - أن يكونوا مع ذلك خاضعين خاشعين ساجدين، وهذا ما دل عليه قوله: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سجَّدًا)، أي ادخلوا باب المدينة سجدا، أي خاضعين خاشعين، أي طالبين في ضراعة غفران الذنب.
وقد سرنا في هذا على أن القرية قرية تحقق فيها ما طلبوه من ألوان الطعام، ولكن بعض المفسرين ذكر أنها الأرض المقدسة أو بيت المقدس، فما مقدار قولهم من الصحة.
لقد ذكر الله - سبحانه وتعالى - في سورة المائدة ما يفيد أنهم لم يدخلوها في حياة موسى - عليه السلام - بل دخلوها من بعده فقد قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا(6/2983)
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
* * *
وإن هذه الآيات الكريمة تومئ إلى أن دخول الأرض المقدسة رغبوا فيه في عهد موسى، ولكن لم يدخلوها في عهده - عليه السلام - ولكن دخلوها في عهد الأنبياء من بعده.
والآيات الكريمة التي نتكلم في معانيها السامية تومئ إلى أن طلب دخول القرية كان في عهد موسى - عليه السلام - لأنه متناسق مع ما قبلها وما بعدها.
ولذا نميل إلى أن هذه القرية غير الأرض، وإن الأرض المقدسة ذكرت بعنوان الأرض المقدسة، لَا بعنوان القرية فإنها ليست ككل القرى.
وقوله تعالى: (نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ) جواب فعل الأمر في قوله: (وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبًابَ سُجَّدًا). وقد زادهم الله تعالى نعمة فوق نعمة الغفران، وهي نعمة الثواب، والرحمة بنعيم الجنة، فقال تعالى: (سَنَزيدُ الْمُحْسِنِينَ) والسين لتأكيد الزيادة للمحسنين وهم الذين يؤدون واجبهم، ويخلصون لربهم.
ولكن لم يغفر الله لهم خطاياهم، لأنهم لم يطيعوا وعصوا عابثين بأمر ربهم؛ ولذا قال سبحانه:(6/2984)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
(فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
طالبهم الله تعالى بأن يقولوا وهم يدخلون: حطة، أي حط علينا ذنوبنا، فبدلوا ذلك الأمر المعنوي الذي كلفهم الله تعالى، وهو غفار لمن تاب، بدلوه بما يدل على ماديتهم، واستغراق الملاذ الجسمية، فقالوا: " حنطة " أي طعاما، فماضيهم كحاضرهم لَا يطلبون إلا المادة ولا يبغون غيرها سبيلا ولا مطلبا، وكأنهم يستخفُّون بأمر الله تعالى، وطلب غفرانه، ويطلبون ما تهوى أنفسهم، فلا يطلبونه، كما تقول لرجل اطلب مغفرة الله، فيطلب مأكلة لَا مغفرة.(6/2984)
وذلك كفر يضاف إلى كفرهم، ولذا قال سبحانه وتعالى: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ).
أي أن الله تعالى عاقبهم عقوبة دنيوية بعذاب أنزله الله تعالى بهم من السماء بأن أرسل عليهم حاصبا يتعبهم ويعذبهم ولا يبيدهم، وقيل لطاعون أصابهم، والله أعلم بما أنزل بهم، وما دام سبحانه لم يبينه، فلنعلمه ولا نفصله؛ لأنه سبحانه لم يفصله، وقوله تعالى: (بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ) أي بسبب ظلمهم، واستمرارهم عليه، فلا يرعوون عن عيهم، ويلاحظ هنا أمران:
أولهما - أن الله - سبحانه وتعالى - نسب تبديل القول إلى بعضهم دون كلهم، فقال تعالى: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) وكأنهم كانوا صنفين ظالما وعادلا، فبدل الظالم ولم يبدل العادل، ولكن في العذاب ذكرهم جميعا، ولم يذكر بعضهم، فهل طغى ظلم الظالمين على غيرهم كقوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِين ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةَ. . .). الظاهر ذلك؛ لأن العادلين رأوا ولم يَنْهَوْا، ولا يأخذ الله العامة بظلم الخاصة إلا إذا رأوا الظلم ولم ينكروا.
وثانيهما - أن الذي ذكر في سورة البقرة في هذه القصة: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. . .)، ولم يذكر منهم، وقال تعالى: (. . . بِمَا كَانوا يَفْسُقُونَ)، وهنا (بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ).
وإنه بمجموع الآيتين يستفاد أن الذين بدلوا كانوا الكثرة، فحكم بما يعم لأنه الغالب، وفي الثانية نسب الظلم إلى بعضهم، وإن كانوا الأكثر عددا، والأقوى صوتا.
والتعبير في سورة البقرة بالفسق يدل على الانحراف العقلي والنفسي والخروج عن الحق، وفي هذا الموضع بالظلم وهو الإيذاء بالفعل للنفسر، والكفر، وهما متقاربان من حيث إنه يلزم كل واحد الآخر.
* * *(6/2985)
يوم السبت
(وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
* * *
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - مأمورا بأن يسأل اليهود الذين عاصروه - عليه السلام - عما كان من أسلافهم، ويقرونه ويرضونه، ولقد ذكر - سبحانه وتعالى - اعتداءهم في يوم السبت، وظلمهم فيه. وفي هذه الآية الكريمة يذكر اختبارهم بالحيتان تجيء في هذا اليوم، ولا تجيء يوم لَا يسبتون؛ أي في يوم لَا يكون يوم السبت، وذلك ليعاملهم الله معاملة المختبر لهم حتى يتميز الخميث من الطيب، وحتى تظهر حالهم، ومقدار قوة إيمانهم، وما تخبئه نفوسهم، وما تنطوي عليه جوانحهم.(6/2986)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
(وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ)، أي بجواره، يقال حضره إذا قاربه وداناه، فمعنى حاضرة البحر مشرفة عليه دانية منه على سيفه، وقد سجل الله تعالى في هذه الآية أمورا ثلاثة:(6/2986)
أولها - أنهم كانوا لَا يحترمون السبت، ولا يلتزمون حدوده، وهذا معنى قوله تعالى: (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ)، أي في الوقت الذي كانوا لَا يلتزمون حدوده، بل يعدونه ويتجاوزون ما أمروا فيه.
وثانيها - إن الله تعالى يكشف حالهم، ويعاملهم معاملة المختبر لهم، (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ) " سبتهم " فيه إضافة اسم اليوم إليهم لأنه اليوم الذي فرض عليهم ألا يقوموا بالصيد، وقوله: (وَيَوْمَ لا يَسْبِتونَ)، أي لَا يكونون في يوم السبت، أي لَا يدخلون في السبت الذي يمنعون فيه من الصيد، والمعنى أنهم في يوم السبت تأتي حيتان السمك (شُرَّعًا)، أي شارعة معلنة نفسها، اختبارا لهم، ويوم لَا يكون الصيد محرما عليهم لَا يأتون.
وقد اختبرهم الله تعالى ليكشف حالهم، ويهذبهم بأمرين: بتحريم الصيد يوم السبت ليفطموا شهواتهم ويقرعوا نفوسهم الشرهة، والسلطة عليهم، وثانيا - بأن تأتيهم حيتان السمك شرعا، لتثور شهوتهم ويقمعوها إن كانت فيهم إرادة، فإن لم تكن ربوها وهذبوها، وقدعوها عن شهواتها استجابة لأمر ربهم؛ فالنفس الشرهة التي تسيطر عليها الشهوة لابد من فطمها.
وثالثها - أن الله تعالى ذكر أنهم كانوا يعدون في السبت، فمنهم من كان يتناول المحرم في السبت غير متأثم ولا متحرج ومنهم من يحتال، وقالوا: إنه كان يحفر حفرة بجوار البحر، ويعمقها فإذا جاءت حيتان السمك شرعا يوم السبت نزلت في هذه الحفر، فإذا جفت بعد قطع الماء عنها لَا تستطيع الخروج، فيأخذونها بأيديهم، وتلك حيلة تفوت معنى تقوية النفوس وتربيتها، وهم بذلك يعدون يوم السبت، لأنهم يخرجون بذلك عن الابتلاء الذي يكشف الله به نفوسهم.
ولقد قال تعالى في حكمة تحريم الصيد يوم السبت، وإتيان حيتانهم شرعا فيه: (كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)، أي كهذا الذي صنعناه معهم من تحريم(6/2987)
السبت ومجيء الحيتان فيه - نعاملهم معاملة المبتلى المختبر لتهذب نفوسهم وتربي إرادتهم، وذلك بسبب استمرارهم على الفسوق، وانحراف النفوس وخضوعها لشهواتها، ولأجل تعويدهم ضبط النفس، والصبر على الحرمان، فإن الصبر نصف الإيمان.
وإن الله تعالى وصاهم، ودعاهم إلى الهدى، وشرع لهم ما يصقل نفوسهم ويهدي قلوبهم ولكن كتبت عليهم الشقوة فلم يهتدوا، ولقد شعرت بذلك أمة شهم، فقال - سبحانه وتعالى - عنها:(6/2988)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ... (164)
الأمة هي الجماعة المؤتلفة التي تجمعها فكرة واحدة وشعور متحد، بحيث يوائم كل واحد فيها من معه، و " إذ " ظرف زمان ماض، والمعنى اذكر يا محمد ذلك الوقت الذي هم فيه بلغ اليأس من اهتدى منهم حتى قالت منهم جماعة مهدية يائسة من إيمانهم، منكرة وعظ من يعظهم: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا)، والوعظ بيان الحق مقارنا بمغبة الباطل ذاكرا ما ترتب على الباطل من أذى لأهله، وهلاك لمن استمسكوا بالباطل استمساكا وتركوا الحق وانحرفوا عنه، والعاقل من اتعظ والجاهل من يأبه ولا يتعظ. يستفهم هؤلاء المهديون مستنكرين، أو متعرّفين الغاية، لم تعظون قوما قد تضافروا على الشر، وتقرر هلاكهم وهم على ضلالهم، وبعد هذا الهلاك يعذبهم عذابا شديدا، ما الباعث على ذلك، فيجيبهم فريق ممن اهتدوا وهم الواعظون: (قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ)، أي يجب علينا أن نعظ لنعتذر إلى ربنا بأننا قمنا بحق بيان الهدى والنور، وليكون استحقاقهم الهلاك على الضلال بعد بينة أقيمت وحق أعلن، ونقدم هذه المعذرة إلى ربنا عن ضلالهم.
وهذا كله على أساس أن المستفهمين مهديون وهو الأنسب لمعنى الآية، وفرض بعضهم أن المستفهمين هم الذين وقعوا في الضلالة، وكأنهم يقولون إنكم(6/2988)
تحسبون أننا هالكون ومعذبون، ونحن مصرُّون، فاتركونا بضلالنا، حتى نلقى جزاءنا بزعمكم، ويكون الاستفهام لإنكار الواقع، وتوبيخ الواعظين على وعظهم.
وإن ذلك تحتمله الآية الكريمة، ولكنا نميل إلى الأول، وقد قسم القرطبي في تفسيره اليهود إلى ثلاثة أقسام، ونسب التقسيم إلى جهود المفسرين، فقال: " قال جمهور المفسرين: إن بني إسرائيل افترقت ثلاث فرق، وهو الظاهر من الضمائر في الآية؛ فرقة عصت وصادت (أي يوم السبت). وفرقة نهت واعتزلت، وفرقة اعتزلت ولم تنه ولم تعص، وأن هذه الطائفة قالت للناهية: لم تعظون قوما - تريد العاصية - الله مهلكهم، فقالت الناهية موعظتنا معذرة إلى الله ".
وإن هذا تقسيم حسن، وإن الذين اعتزلوا، ولم ينهوا، وإن اهتدوا وأطاعوا، لم تتم طاعتهم وهدايتهم لأنهم لم ينهوا العاصين، وكمال هدايتهم في نهيهم، فالتناهي عن المنكر مطلوب من الذين اهتدوا. ولقد قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79).
وإن المعذرة التي قام بها الناهون يرفعونها إلى ربهم تقربا إليه بقول الحق والدعوة إليه، والقيام بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورجاء أن يتقوا أو يخافوا العذاب، ويتوبوا إلى الله، ويقلعوا عن الذنوب التي وقعوا فيها؛ ولذا قال تعالى عنهم: (وَلَعَلَّهمْ يَتَّقونَ) ويكون الرجاء من هؤلاء، على حقيقة الرجاء؛ لأنه من المكلفين في شأن مكلفين.
وإن ذكر الذين لاموا الناهين، وإجابة هؤلاء فيها دعوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الاستمرار على دعوته ومداومة موعظته، ولو كان المشركون يعاندون، ويصرون على شركهم (. . . إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ. . .)، فعليه أن يستمر على دعوته، ولو كانت حال موئس من الاستجابة فإن الله تعالى قد يغير من حال إلى حال.(6/2989)
وقد عصوا أمر ربهم، وذكروا بموعظة قومهم فنسوا ما ذكروا، ومنهم من لم ينس فقط، بل استكبروا عاتين عن أمر ربهم، وقال تعالى في مؤاخذتهم فابتدأ بمن عتوا فقال تعالى:(6/2990)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)
" الفاء " هنا لارتباط ما بعدها بما قبلها، أو للإفصاح عن شرط مقدر تقديره وإذا كان النهي من الناهين وتقدير المعذرة لرب العالمين، فقد كان استقبالهم لذلك، بين قوم نسوا ما ذكروا، ومن ذكروهم.
والنسيان غفلة العقل عن تذكر ما نبه إليه، وقد يكون غفلة النفس عن إدراك ما ذكرت به، والنسيان غفلة النفس عن الحق بعد التذكير به، والمعنى حينئذ: ولما غفلوا عن الحق وأهملوه تاركين له كان أولئك بين يدي الحق - فريقين: فريق نهى وذكر، وفريق غفل الحق وأهمل، وذكر ما يستحق كل فريق:
فقال فيمن ذكر ونهى: (أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ)، أي عن الفعل الذي هو سيئ وليس بحسن في شيء، فهو سيئ في ذاته، وسيئ إلى الناس فيفسد جماعتهم، وإلى النفوس فيمرسها بالباطل، والحق فينكره، وتسوء عقباه بالعذاب يوم القيامة.
أنجاهم الله تعالى لأنهم اهتدوا، ودعوا العصاة إلى الهداية فقاموا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وأما الذين نسوا الذكر وغفلوا عنه وأهملوه فإن الله تعالى قال فيهم: (وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
بئيس مشتق من البأس، وهو الشدة والقوة، فالعذاب البئيس هو العذاب الشديد العنيف في ذاته الذي يلقي بالبؤس في ذاته.
وعبر الله تعالى عن الذين نسوا ما ذكروا به بـ (الَّذِينَ ظَلَمُوا) لأنهم إذ نسوا ما ذكروا به استمرءوا الشر الذي وقعوا فيه، وأدى بهم ذلك إلى ظلم أنفسهم والناس والحق، فكانوا ظالمين، وكان العقاب الشديد البأس في ذاته بسبب ذلك(6/2990)
الظلم لأن صحلة الوصول في (الَّذِينَ ظَلموا)، وهذا الظلم هو سبب العقاب الشديد.
وقوله تعالى: (وَأَخَذنَا الَّذِينَ ظَلَموا) أي: أخذناهم من مراقدهم مصحوبين بعذاب شديد، فالباء للمصاحبة كقول القائل لمن أساء أخذناه بالعقاب، أي أخذناه مصاحبا للعقاب.
وذكر - سبحانه وتعالى - سبب ذلك الأخذ الشديد، فقال: (بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)،، أي بسبب استمرارهم على الفسق الذي كان يتجدد ويستمر، والفسق الخروج عن الحق.
وقد وصفهم الله تعالى بوصفين؛ وهما الفسق والظلم، والفسق هو الانحراف والخروج من نور الحق، والظلم ما ترتب على ذلك من إيذاء أنفسهم وإيذاء غيرهم.
ولقد ذكر - سبحانه - أن أولئك الظالمين عتوا عن أمر ربهم، وبذلك خرجت نفوسهم عن أن تكون نفوسا آدمية، تدرك الحق وتعمل به، إلى خنزيرية شهوانية، تنزو نزو القردة، وتغلظ غلظ الخنزير، حتى لَا تسمع هاديا، ولا تجيب داعيا.
قال تعالى:(6/2991)
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
العتو: الاستكبار وتجاوز الحد في الظلم، مستكبرين سادرين في الباطل صادين عن الحق جاعلين الدعوة إليه دبر آذانهم، لم يكن ثمة سبيل لهدايتهم، فكان اليأس منهم، ويقول تعالى في نتيجة ذلك: (قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) وقلنا هنا هي مقالة التكوين، أي جعلنا نفوسهم نفوس قردة نارية لَا تجدي فيها موعظة، ولا تهتدي بهداية، فهي كنفس القرد في شهواته ونزواته وانسياب نفسه في الشر من غير اعتبار بموعظة، ولا إدراك الحق ولا إيمان.(6/2991)
وقوله: (خَاسِئِينَ)، أي مطرودين لَا يسمع لهم ولا يلتف إليهم، وهنا شبههم بالقردة، وفي آية أخرِى شبههم بالقردة والخنازير فقد قال تعالى: (. . . وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِير. . .)، ومن بيانية أي جعلناهم قردة وخنازير.
وإنهم بسبب فساد نفوسهم، وتجردهم من الإنسانية المهدية جعلهم الله تعالى أذلة في الأرض فأذن الله تعالى لهم بمن يسومهم سوء العذاب.
* * *
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
* * *
في هذا القصص عبرة لأولى الأبصار، وفي أخبار بني إسرائيل العبرة الكبرى، إذ تقلبوا في النعيم، وعوقبوا بالنقم - فلم يشكروا النعمة، ولم تردعهم النقمة، وضلوا ضلالا بعيدا، ولذلك ساق الله تعالى أخبارهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - لتكون سلوانا له في معاندة المشركين الجاحدين، وتذكير النبي - صلى الله عليه وسلم - بأحوالهم كثير في القرآن الكريم.(6/2992)
(وَإِذْ) في قوله تعالى:(6/2993)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ) هي دالة على الوقت، ومتعلقة بمحذوف تقديره اذكر، أي اذكر أيها النبي ذلك الوقت وتذكر أحداثه، واعتبر به في قومك وغيرهم ممن ناوءوك ويناوئونك ويعاندونك ويحاربونك، وتذكر هذه الأحداث من بني إسرائيل، واعتبرها في بني إسرائيل الذين عاصروك، ويعاندونك ويتمالأون مع المشركين في عداوتك ومحاربتك.
و (تَأَذَّنَ رَبُّكَ)، معناها آذنهم بقوة وشدة، فتاذن بمعنى أذن بشدة، ولشدة الإيذان والإعلام كانت متضمنة معنى القسم؛ ولذلك كان فيها لام القسم، وفيها نون التأكيد التي تلازم جواب القسمِ (لَيَبْعَثَنَّ) جواب القسم أو في معنى جواب القسم (عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ)، وعدَّى بـ " على " دون " اللام " للإشارة إلى علوه عليهم وتغلبه وسيطرته، وأنهم يكونون دونه وهو فوقهم مستعليا قاهرا.
و (يَسُومُهُمْ) يعني يذيقونهم (سُوءَ الْعَذَابِ)، أي العذاب الذي يسوؤهم، ويؤذيهم، ويكون عاقبة سوء لهم، وبئس المصير، وقد صدق وعد الله تعالى فإنه قد سيطر عليهم وعذبهم في الأرض من الشرق بختنصر والكلدانيون، ومن الغرب الرومان قبل بعث المسيح وبعده، وكانت الذلة مفروضة عليهم، واصطنعوا مع الرومان النفاق وهو صنيع الأذلاء، فنمُّوا على السيد المسيح عند سادتهم ونجى الله تعالى عيسى من الفريقين الغالب والمغلوب والقاهر والمقهور، وأذاقهم الرومان من بعد أن دخلوا في النصرانية، أكؤسا من الذل والهوان، واستمروا في أوربا أذلاء مقهورين يتَّسمون بالخسة والهوان، حتى وإن الأوربيون في أنفسهم مثلهم، ولقد صدق الله تعالى إذ يقول: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6).(6/2993)
وقد يقول قائل: إن لهم في هذه الأيام غلبا، فهم يسيِّرون دفة الأمور في الأرض الجديدة، وإن كانوا عددا قليلا، وهم يتحكمون في مال الدنيا وخيراته، وهم قد اقتطعوا من أرض العرب قطعة طاهرة مقدسة.
ونقول في ذلك: إنها فترة صغيرة في حكم الزمان، وعرض من أعراض الحياة الفاسدة في الأرض، وهم الأذلاء وإن بدوا في غطرسة، فمن يستمد القوة من غيره ذليل، ولو حكم وملك، ولقد قال تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفوا إِلَّا بِحَبْلٍ منَ اللَّهِ وَحَبْل مِّنَ النَّاسِ. . .).
ولقد صدق الله إذ يقول: (إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ)، أي إن العقاب الذي ينزله تعالى سريع مؤكد وقوعه، والسرعة هنا تطوى في ثناياها معنى الشدة، لأنه يفجؤهم من حيث لَا يحتسبون، ويجيئهم من حيث لَا يتوقعون فيكون أشد وأقسى.
وإنه - سبحانه وتعالى - بجوار عذابه للمعاندين الكافرين المستكبرين تكون رحمته ومغفرته للمؤمنين المتقين، ولذا يقول تعالت كلماته: (وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رحِيمٌ)، أي أنه يغفر الذنوب جميعا برحمته، وقد أكد غفرانه ورحمته بالجملة الاسمية، وبإن، وباللام في خبر إن، وكذلك كان تأكيد العقاب.
وقد تفرف بنو إسرائيل في الأمم، وكان منهم الصالحون، ومنهم القاسطون، ولذا قال تعالى:(6/2994)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
(وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ... (168)
إن الله تعالى كتب على المعاندين من بني إسرائيل الذلة إلى يوم القيامة، وحكم فيهم القاهرين من المغول، والرومان، وأهل أوربا، حتى ضلوا بهم، ومن أخذهم برفق أخذوه بالعنف والدس اللئيم. أشار - سبحانه - إلى أنه كان من بعد موسى أخيار صالحون، وأشرار فاسدون، فقال: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أممًا)، أي فرقناهم في الأرض أمما، أي جماعات منفصلة عن غيرها، كأنها أمم قائمة بذاتها،(6/2994)
والتعبير بـ (قَطَّعْنَاهُمْ) يدل على أنهم وإن دخلوا في أمم أخرى في الأرض متصلون بعضهم ببعض، وكذلك الأمر في شأنهم كما نراهم حتى اليوم، وإن هذه الجماعات التي تفرقت كانت في الماضي (مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ) قائمون بالحق آخذون به مهتدون بهدْي الكتاب الذي نزل على موسى - عليه السلام - (وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ)، أي دون الصلاح، أي ليسوا صالحين، وعبر سبحانه بقوله: (دُونَ ذَلِكَ) للإشارة إلى أن الصالحين في المنزلة العليا مهما يكن حالهم من فقر أو غنى، وأن غير الصالحين في المنزلة الدنيا مهما كانوا من سطوة ومهما يكونوا من غنى وقوة، فالصلاح له العلا، والفساد له المنزلة الدنيا مهما يكن حال أهله.
ويذكر - سبحانه وتعالى - أنهم وهم متفرقون في الأرض إنما يختبرهم سبحانه بالحسنات، فإن شكروها كانوا صالحين، وإن كفروها كانوا في المنزلة الدون، ويختبرهم بالأمور التي تسوء فإن صبروا أُجِروا، وإن جزعوا فإن اعتبروا اهتدوا، وإلا فهم في ضلال بعيد، وذلك كقوله تعالى: (. . . وَنَبْلُوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. . .).
والحسنة هي الحال الحسنة كالخصب وتوفير الرزق، والاطمئنان. والسيئة الحال التي لَا تسر، بل تسيء كالجدب والآفات، والله - سبحانه وتعالى - هو الحكيم الخبير.
وإن ذلك الاختبار بالحسنة والسيئة وتوالى الأمرين، والضراعة في حال النقمة، رجاء أن يوفوا قدره وأنه هو الذي ينفع ويضر، وأنه هو القادر على كل شيء، وإذا عرفوا ذلك وآمنوا به رجعوا إلى الحق ورجعوا إلى ربهم واهتدوا؛ ولذا قال تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)، أي أن الله - سبحانه وتعالى - عاملهم معاملة من يريد أن يرجعوا إلى جنابه الأعلى وساحته العليا، فيهتدوا بعد بُعْدٍ عنه سبحانه.
كان هؤلاء فيهم الصالحون ومن هم دون ذلك، وكلما تقادم العهد وطال بينهم وبين موسى - عليه السلام - قست فلوب الأكثرين، ولذا كان الأكثرون من(6/2995)
الأخلاف فيهم الشر أوضح، وقال تعالى في ذلك:(6/2996)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ... (169)
إن الذين سبقوهم كان منهم الصالحون، ومنهم دون ذلك، أما الذين جاءوا من بعدهم فالشر قد غلب فيهم وظهر على سطح جماعتهم، واختفى الخير، وإن كان موجودا فهو في كِن غير ظاهر، وصار جوهم العام فاسدا، والعبرة في فساد المجتمعات أن يكون الفساد هو الظاهر، والحق مختفيا وإن كان موجودا وقائما، ولكنه مغلوب.
(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) - الخلف بالسكون العقب الذي لَا خير فيه، ومن ذلك قوله تعالى: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59).
وقد قال الله تعالى فيهم أمورا تثبت وهن اعتقادهم وفساد أعمالهم: ذكر أولا أنهم ورثوا الكتاب أي جاءهم علم الكتاب، وهو التوراة، بالوراثة لا بالتلقي، فلم يفتحوا له صدورهم ولكن جاء إليهم من غير أن يتدارسوه ويتقبلوه، والشيء الموروث الذي لَا يقوم عليه وارثه يكون حجة عليه، ولا ينتفع وذكر ثانيا نظرهم إلى هذا الكتاب ونظرهم إلى الدنيا وعرضها، إذ ينظرون إليه على الغرض المقصود، والمطلب المنشود؛ ولذا قال سبحانه عنهم: (يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى) - أي يأخذون عرض هذا العيش الأدنى وهو أدنى معيشة في الحياة، أي يطلبون أدنى ما في الحياة من متاع، ويطلبون المتاع الأدنى وهو الحرام، ويستمرئونه فيأكلون السحت والرشوة والربا ويتناولون الحياة في صورتها المحرمة، ويحسبون أن الاستغفار يمحو ما فيها من عصيان، ولا يتوبون توبة نصوحا، إذ إن من أركان التوبة النصوح ألا يعود إلى الذنب الذي اقترفه، ولكنهم يعودون؛ ولذا(6/2996)
يقول سبحانه: (وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ)، وهكذا يتوالى أخذ الآثام والاستغفار عنها، ولا توبة ولا إقلاع من قلوبهم.
وإن التعبير عن متع الحياة التي يأخذونها بقوله تعالت كلماته: (يَأخذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى)، والأدنى هو مذكر دنيا، أو دنيا مؤنث أدنى، والعرض هو الأموال التي ليست دراهم ولا دنانير، ولكنها أهون من ذلك فهم يتخذون عرض الأدنى من الأموال، إما لضآلتها وإما لخبثها وخبث كسبها كالميسر، والربا والرشوة والسرقة. يفعلون ذلك ويقولون: (سَيُغْفَر لَنَا)، وكأنهم متأكدون من ذلك من غير توبة ولا استغفار. ويتوالى ذلك منهم، كما حدث في عصور ضعف الإيمان، إذ يقولون: إن الذنوب تغفر ولو أصروا عليها.
ولقد روى في ذلك عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: " سَيَبْلَى الْقُرْآنُ فِي صُدُورِ أَقْوَامٍ كَمَا يَبْلَى الثَّوْبُ، فَيَتَهَافَتُ، يَقْرَءُونَهُ لَا يَجِدُونَ لَهُ شَهْوَةً وَلَا لَذَّةً، يَلْبَسُونَ جُلُودَ الضَّأْنِ عَلَى قُلُوبِ الذِّئَابِ، أَعْمَالُهُمْ طَمَعٌ لَا يُخَالِطُهُ خَوْفٌ، إِنْ قَصَّرُوا، قَالُوا: سَنَبْلُغُ، وَإِنْ أَسَاءُوا، قَالُوا: سَيُغْفَرُ لَنَا، إِنَّا لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا " (1).
وهكذا تكون الحال، إذا ضعفت القلوب والهمم وضعف الإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ينسون المواثيق التي أخذت عليهم؛ ولذا يوبخهم القرآن الكريم.
وإن كل المحرمات هي العرض الأدنى في هذه الحياة؛ لأن الله ما حرمها إلا لخبثها، ولأنها أدنى طرق الكسب، فالكسب الطيب يكون من كرام الرجال، ومن العرض الطيب، وليس الأدنى.
وقد بين الله تعالى أنهم كان في نفوسهم خبث، وطلبوا خبث الكسب والأدنى في الحياة مع أنهم أخذت عليهم المواثيق بأن لَا يقولوا على الله إلا الحق؛ ولذا قال تعالى: (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ).
________
(1) رواه الدارمي هكذا موقوفا على معاذ بن جبل: فضائل القرآن - تعاهد القرآن (3346).(6/2997)
الاستفهام للإنكار بمعنى النفي والتو بيخ، وقد دخل الاستفهام على المنفي بـ " لم " ونفي النفي إثبات، فالمعنى قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب، وهذه الصيغة فيها تأكيد لأخذ الميثاق بإقرارهم كأنهم سئلوا ذلك، وأجابوا بالإيجاب، ولأنه يتضمن استنكار وقوعهم في مخالفة الكتاب وترك الأخذ بميثاقه، أي أحكامه المؤكدة الموثقة عليهم التي توجب الطاعة (أَن لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ) أي فحصوه وعلموه وأدركوا مغازيه وما يرمي إليه، ويدعوهم الله فيه، فما فعلوا ذلك عن جهالة بل قد قدمت لهم أسباب العلم كاملة، وإذا كانوا قد أهملوا الأخذ بها بعد بينة تجعلهم يحملون التبعة كاملة غير منقوصة.
ويلاحظ هنا بعض عبارات تشير إلى حقائق ثابتة:
أولاها - أن الميثاق الذي أخذ عليهم ألا يقولوا على الله إلا الحق مع أن ما فسقوا به عن أمر ربهم أمور عملية، وخلاصتها أنهم يأخذون بالعرض الذي هو أدنى وهو عمل لَا قول، ونقول في الإجابة عن ذلك:
أولا - أنه ساد فيهم الكذب على الله والادعاء عليه كقولهم: (. . . نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبًاؤُهُ. . .)، وذلك بلا ريب غير الحق، قالوا على الله تعالى كذبا وافتراء عليه، فخالفوا الميثاق الذي أخذ عليهم بألا يقولوا على الله إلا الحق.
وثانيا - أن فعل الباطل يسبقه قول باطل يحسنه، فالنفس المنحرفة يبتدئ انحرافها في الفكر، فيدفع إلى القول الباطل يزين الفعل الباطل، والذين يغيرون الشرائع يبتدئون بتزيين مخالفتها وتسهيلها فيقولون أولا على الله غير الحق، ثم يفعلون الباطل المنهي عنه، فالقول ذريعة العمل.
ثانيها - أن العصاة دائما يغرهم الغرور، فيغلب عليهم الطمع من غير عمل على الخوف الذي يدفع إلى العمل، فهؤلاء بنو إسرائيل طمعوا في الله دائما حاسبين أنه لَا يعذبهم وأهملوا أمره ونهيه، وكانوا مثلا للفاسدين، فكان من التربية للنفس المؤمنة أن تغلب الخوف من العذاب، على رجاء الثواب.(6/2998)
هؤلاء اختاروا الدنيا، وأخذوا بأدنى ما فيها، وهي خبائثها ومحرماتها، فكانوا أشد لهجة من غيرهم، بل من بعض الذين لم ينزل عليهم كتاب سماوي به مواثيق أخذت عليهم وتدارسوه.
ونسوا الآخرة، وما فيها من نعيم مقيم لمن أطاع، وعذاب أليم لمن ضل وغوى، وقد ذكَّر الله تعالى بها في مقام نسيانها فقال تعالى: (وَالدَّارُ الآخِرةُ خَيْر لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ)، أي أنها في أعلى درجات الخير للذين يتقون الله وامتلأت قلوبهم بذكره، فأعرضوا عما نهى عنه، وطلبوا ما أمرهم به.
وخاطب الله بني إسرائيل بما يدل على أن غوايتهم وأهواءهم أفسدت عقولهم، فصاروا لَا يدركون، فقال تعالى: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الفاء هنا لترتيب إنكار أن يعقلوا على ما يفعلون، وأخرت عن همزة الاستفهام؛ لأن الاستفهام له الصدارة بحكم تنسيي القول العربي، والمعنى فانتم لَا تعقلون؛ لأن الاستفهام إنكاري توبيخي، فهو تأكيد لحضهم على التفكير، وتوبيخ على عدم التفكير في عواقب أمورهم، وإن العذاب يستقبلهم بسوء ما يفعلون.
هذا شأن العصاة منهم، وهم الأكثرون؛ إذ فعلوا الشر، ولم يستنكر أكثرهم، ولقد ذكر من بعد ذلك الصالحين بعد أن ذكر فضل الدار الآخرة على الحياة الدنيا، فقال:(6/2999)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
(وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
إذا كان عصاة بني إسرائيل قد استهانوا بأحكام التوراة، معرضين عنها إهمالا، فتقاتهم قد استمسكوا بها؛ لأنها العروة الوثقى لهم، وقال تعالى في استمساكهم بها: (وَالَّذِينَ يُمَسكُونَ بِالْكِتَابِ) وفي قراءة " يُمْسكون " بتسكين اللام وكسر السين، وقالوا إن معنى يمسكون به: يستمسكون به، وفي اللغة: مسك به واستمسك به، وتمسك به كل بمعنى واحد.(6/2999)
وأقول مع الاتحاد في جملة المعنى أظن أن مَسَّكَ به فيه قوة في التمسك، ليست في مَسَكَ به، بل أكثر من استمسك، لأنها تتضمن الأخذ به، والعمل بما فيه والإذعان لأحكامه من غير إهمال ولا نسيان، ودعوة إلى مسكه والعمل به من دون غيره، واستنكار لمن لَا يمسك به.
ومعنى التمسيك به، الإذعان لأحكامه، والدعوة لهذا الإذعان، والعمل به مخلصين غير متحايلين لتركه، وإلقاء المعاذير عند ترك العمل به.
والتمسيك به كما ذكرنا يتضمن معنى الدعوة إلى الاستمساك، وبالأولى يستمسك الممسك فيعتقد، ويؤمن ويدعو.
وقد ذكر أعظم أعمال الطاعة بعد التمسك بالكتاب، فقال: (وَأَقَامُوا الصَّلاةَ) أي أتوا بها مقومة على وجهها الأكمل، وتكون الصلاة على الوجه الأكمل إذا كان ذكر الله، واستشعار خشيته في كل ركن من أركانها، واختصها الله تعالى بالذكر، لأنها ركن الدين، ولبه، ولا دين من غير صلاة كما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولأنها سبيل للابتعاد عن المنكرات التي كان بنو إسرائيل يفعلونها، وقد قال تعالى في القرآن كتابه الخالد الباقي إلى يوم القيامة: (. . . إِنَّ الصَّلاةَ تَنهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ. . .).
وقد ذكر الله تعالى جزاء هؤلاء الذين يمسكون بالكتاب، فقال: (إِنَّا لا نضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) والمعنى لَا نضيع أجرهم.
ولكن هنا إشارات بيانية لَا بد من التنبيه إليها:
الأولى - أن الله تعالى ذكر الجزاء بطريق الاقتضاء، فوصف ذاته العلية بأنه لا يضيع أجر المصلحين، وقد أصلحوا فاستحقوا أجره الذي لَا يضيعه أبدا، فهو إعطاء مع ذكر داعيه.
الثانية - أنه ذكر - سبحانه - ما يليق بذاته وهو أنه لَا يضيع أجر من أحسن عملا.(6/3000)
الثالثة - أنه أظهر في موضع الإضمار، مصرح بقوله: (الْمُصْلِحِينَ) بدل قوله لَا يضيع أجرهم، وذلك لأمرين؛ أولهما - أنه للدلالة على أن ذلك شأن من شئون الله العلي الأعلى، وثانيهما - الإظهار للإشارة إلى السبب في الجزاء وهو الإصلاح، أي كونهم مصلحين.
وفى التعبير بقوله: (الْمُصْلِحِينَ) إشارة إلى أن تمسيكهم للكتاب يتجاوز الإمساك إلى الدعوة إليه كما أشرنا.
* * *
أخد الميثاق عليهم وعلى الإنسانية
(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
* * *
ميثاقان يذكرهما الله تعالى، واحد منهما خاص ببني إسرائيل لأنه يتعلق بميثاق التوراة، والثاني يتعلق بميثاق الإنسانية كلها.
والأول قال الله تعالى فيه:(6/3001)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَهُ وَاقِعٌ بِهِمْ).(6/3001)
نتقنا معناها رفعنا، ولكن يظهر أنها لَا تكون إلا في رفع الثقيل الذي لا يستطيعه إلا الأقوياء، فمن الألفاظ العربية ألفاظ تحمل في نفسها قوة المعاناة في دلالتها، فلا نقول: نتقت العصا، أو نتقت السيف، ولكن قد تقول: نتقت الجبل، أو نتقت أطنان الحديد. ولقد نتق الله الجبل وعلا عليهم، وكأنه ظلة من ظلال السحاب فوق رءوسهم، ولأنه جبل أو جِرم كبير ثقيل (وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ)، أي واقع نازل بهم قاصد رءوسهم. والله يقول: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقوَّة)، أي خذوا التعاليم في الحلال والحرام، وما كلفتموه عامة بقوة، أي بتقبل منكم، ورضا به، واطمئنان إليه واذكروا ما فيه أي اذكروه وتدبروه، وعوا ما فيه، واعملوا به لعلكم تتقون، والرجاء منهم، أي راجين بذلك أن تتقوا السيئات. بل إن تتقوا شر أنفسكم الأمارة بالسوء، وهذا كقوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُم الطّورَ خُذوا مَا آتَيْنَاكم بِقوَّةٍ. . .)، وقد يسأل سائل: لماذا كان رفع الجبل مع إعطائهم الميثاق بقوة؟ الظاهر أنهم ترددوا في قبوله وتلكأوا كشأنهم دائما في قبول الحق المنزل والعمل به، فأتى موسى - عليه السلام - معجزة حسية قاهرة تلزمهم، ولا يحيرون جوابا فيها، فكان نتق الجبل، وكانت هذه المعجزة الرهيبة الدافعة إلى الإيمان، المانعة من كل تردد، وقد جاءت الآثار بما يفيد ذلك: روى ابن كثير أن موسى - عليه السلام - قال لهم: هذا كتاب تقبلونه بما فيه، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم، وما أمركم وما نهاكم، قالوا: انشر علينا ما فيها - أي الألواح - فإن كانت فرائضها وحدودها يسيرة قبلنا. قال: اقبلوها بما فيها. قالوا: لَا حتى نعلم ما فيها، كيف حدودها وفرائضها، فراجعوه مرارا، فأوحى الله تعالى للجبل، فانقلع، فارتفع إلى السماء حتى إذا كان بين رءوسهم والسماء فقال لهم موسى: ألا ترون ما يقول ربي عز وجل؟! فأخذوا التوراة وهو الميثاق بهذه القوة الدافعة.
وإنه مع هذا الدليل المادي الحسي القارع نجدهم غيروا وبذلوا وانحرفوا عما أمرهم به الله - سبحانه وتعالى - وقد أردف - سبحانه وتعالى - ذلك ببيان ميثاق الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فقال تعالى:
* * *(6/3002)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172)
* * *
" إذْ " ظرف للزمن الماضي، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو تذكير بأن الفطرة الإنسانية توجب الإيمان بأن الله رب هذا الوجود وحده، وأنه هو الذي خلقه، وهو واحد بذاته وبصفاته، وقد حتم تعالى ذلك بالفطرة الإنسانية.
قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) عبر عن ذي الجلالة بربك بالإشارة إلى معنى الربوبية التي تملأ نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أدركها قبل النبوة بالفطرة الإنسانية الكاملة، فنفر من عبادة الأوثان، وعبد الله تعالى وحده، وقال إنه الديان وحده.
(وَإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ) ومن بني. آدم: عطف بيان على قوله تعالى: (مِن بَنِي آدَمَ) وهذا بيان لنوع من أخذ من ذريتهم، وهم بنو آدم، وهذا مبين عموم الذين ينتسبون إلى آدم أبي الخليقة، وقوله تعالى: (مِن ظُهُورِهِمْ)، أي وهم في أصلاب آبائهم، قبل أن يصلوا إلى أرحام أمهاتهم، وهذا يدل على أن ذلك من وقت الإنشاء، فوقت إنشاء الآدمي من وقت أن يكون في صلب أبيه.
وقوله تعالى: (ذُرِّيَّتَهمْ) منصوبة على أنها مفعول أخذ، ومؤدى القول أن لربك أخذ الذرية من التي هي من الأصلاب وهي في الأصلاب ذلك العهد، أو ذلك الإقرار الذي كان بحكم الفطرة. قال لهم ربهم: (ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وهو تفسير لمعنى الأخذ.
الهمزة للاستفهام، والاستفهام هنا إنكاري بمعنى النفي، و (لست) للنفي، وقالوا: إن نفي النفي إثبات، والمعنى أنا ربكم الحق، وجيء بذلك النحو من القول لتأكيد الإيجاب كأنه سألهم، وأجابوا بالإثبات، أي بإثبات الربوبية، وقد أجابوا على هذا السؤال مثبتين موجب نفي النفي، قالوا: بلى، وهي تثبت ما بعد النفيين، أي أنت ربنا، وقالوا: (شَهِدْنَا)، أي أقررنا.(6/3003)
وقوله تعالى (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ)، أي حملهم على الإقرار على أنفسهم، أو اتخذ منهم شهداء على أنفسهم فاستجابوا وشهدوا على أنفسهم فهي شهادة الفطرة الإنسانية السليمة بالربوبية لله تعالى.
وقد بين - سبحانه - حكمة هذا الميثاق فقال تعالى: (أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) أن تقولوا: مضاف إليه لمضاف محذوف تقديره: كراهية أن تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين، فإنه في فطرتكم التي خلقكم الله تعالى عليها، ولن تغفلوا عما فطركم الله تعالى عليه، إلا أن تطمسوا فطرتكم بالأهواء والأوهام التي تطمسون عليها، فلا تدرك، وتحولون بينكم وبين نورها الهادي المرشد.
وإن هذا الذي ذكره الله تعالى من أخذ ذرية بني آدم من الأصلاب فيه تصوير محكم دقيق لتكوين الفطرة الإنسانية على الإقرار بمعنى الربوبية والتوحيد، لسلامة التكوين وأنه سوَّى خلقه فأحسن تسويته، وأنه صوره فأحسن صورته وقد قال بعض المفسرين: إن هذه المجاوبة مجاز، إذ شبهت حال خلق الإنسان مفطورا على الإيمان بهذه المجاوبة، ونحن نقول تبعا لهذا التخريج: فهذا الأخذ فيه تصوير لتكوين الفطرة، ولقد قال تعالى في الإسلام ودعوة الله: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30).
وإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - آمَن بفطرته، وهجر الأوثان بعقله، وإبراهيم أبو الأنبياء فكر بفطرته، حتى اهتدى إلى ربه، وقال بعد اهتدائه: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا. . .).
ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم: " يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم " (1).
________
(1) سبق تخريجه.(6/3004)
وروى الطبري بسنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها، أو ينصرانها (1).
قلنا: إن الله تعالى ذكر قصة الفطرة الإنسانية لكيلا يكون اعتذار لمنحرف لأنه يخالف الفطرة، وأيضا لكيلا يحتج بأنه يتبع آباءه فقال تعالى:
________
(1) جزء من حديث رواه أحمد: مسند المكيين - حديث الأسود بن سريع (15162).(6/3005)
أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
(أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)
" أو " هنا عاطفة على قوله تعالى: (أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ومقتضى السياق أن يكون المعنى كراهية، إن تقولوا إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا وكنا ذرية من بعدهم.
والمعنى أخذ عليكم الإقرار، وأنتم ذرية ليتبين أن فطرتكم تناديكم بالإيمان فلا تعتذروا بأن آباءكم كانوا مشركين، وأنتم اتبعتموهم، فإن أوخذتم فإنما تؤاخذون بشركهم، ولكن أخذ عليكم من قبلهم بالإيمان، فأنتم مسئولون عن عهدكم الذي عاهدتم الله تعالى عليه أولا، لَا عن تقليدكم لآباكم، وإنه لَا يصح هذا التقليد وفيكم فطرة الإيمان، أتتبعون آباءكم ولو خالفوا الفطرة التي شهدوا فيها بأن الله وحده هو المعبود بحق هو أنكم بمقتضى الفطرة مؤمنون فلم تتبعون آباءكم في كل حال، ولو كانوا لَا يعقلون شيئا ولا يهتدون، وخالفوا سنة الفطرة. فإن خالفوها، فإن ذلك لَا يخليكم من الإقرار الذي أخذ عليكم.
وقوله تعالى: (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكنَّا ذُرِّيَّةً مِّنْ بَعْدِهِمْ) فيها ما يوهم أن شركهم بهان بالوراثة، وأنهم لهم تبع، فكما ورثوهم في أجسامهم ونسبهم، فقد ورثوهم في اعتقادهم.
ولذا قال الله تعالى عنهم: (أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وهي مؤخرة عن تقديم لأن الاستفهام له الصدارة، وهو(6/3005)
استفهام إنكاري لأنهم ينكرون مؤاخذتهم، إنما المؤاخذة على من سبقوهم، فالله تعالى بمقتضى سياق الآيات الكريمة يبين أنهم مسئولون ومؤاخذون، هم يقولون إنا تبع لمن سبقونا ولا نؤاخذ بفعلهم وقد سرنا مسارهم، فالله - سبحانه - يبين لهم أنهم مؤاخذون بمقتضى الفطرة، وكان الواجب عليهم أن يعرفوا أنهم مأخوذ عليهم ميثاق بإقرارهم بأن الله وحده ربهم، وما كان لهم أن يتبعوهم. بعد ذلك ختم الله تعالى هذه ببيان تصريفه للآيات وتفصيله فيقول تعالى كلامه العزيز:(6/3006)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
(وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
أي كهذا البيان الذي فصل الله تعالى هذه الآيات وبينها من تصوير الحال في الخلق والتكوين؛ يفصل الله - سبحانه وتعالى - الآيات ويقربها ببيان أصل الخلق والتكوين، وأن الذين يضلون هم المنحرفون عن أصل الفطرة. يبين البيان كذلك دائما ليهتدوا ويدركوا الحق، (وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) إلى أصل فطرتهم التي فطرهم الله تعالى، ويعودون إلى التوبة وإلى الإنابة إلى ربهم. بعد هذا البيان وضرب الأمثال من ماضيهم، وبيان سوء حاضرهم.
* * *
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ(6/3006)
الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
* * *
هذا مثل ضربه الله تعالى لمن تهديه فطرته إلى الحق، ولمن يرى الآيات بينة واضحة تغمره بنورها، وتسبغ عليه كما يسبغ الثوب على لابسه، فينسلخ منها ويخلعها ويتبعه الله تعالى الشيطان فيكون من الغاوين، وقال تعالى في ذلك:(6/3007)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ).
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ)، أي اذكر لهم نبأ الذي آتيناه آياتنا. والنبأ الخبر ذو الخطر والشأن، وكان خطره وشأنه في أنه قد جاءته الآيات بينة قد غمرته بالنور، وصارت كأنها اللباس السابغ، الذي لَا يفارقه، ولكنه تعمد أن يخرجها من ملابسه وجسمه، وينسلخ: أي يخرج منها كما تخرج الذبيحة من إهابها.
وإنه إذ فعل ذلك يكون قد سلك سبيل الضلال وسار فيه، (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَان) أي فجعله الله يتبع الشيطان؛ لأنه إذا انسلخ من الآيات السابغة المنيرة قد اتجه إلى الضلال، فأتبعه الله للشيطان وصار تابعا له؛ لأنه ترك رحمة الرحمن بترك آياته، ومن ترك رحمة الله، أدخله الله تعالى حظيرة الشيطان، وصار من أتباعه.
وإن في هذا النص القرآني المصور لمن يغوى ويضل عدة مجازات، تبدو فيما يأتي:
أولا - أنه شبه الآيات النيرة الدالة بالثياب السابغة التي تلازم الشخص، ولا تنفك عنه حتى يخلعها.(6/3007)
وثانيا - أنه شبه تركها وعدم الأخذ بها بالانسلاخ منها، فشبه تركه لها بالانسلاخ والذي هو خاص بسلخ الشاة الذبيحة فيتعرى كما تتعرى الشاة.
وثالثا - أنه عبر عن اتباع الهوى، والتردي في مهالكه بـ (فَأتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) لأن السبب هو سيطرة الهوى، والهوى هو باب الشيطان الذي يدخل منه إلى القلوب، فعبر باسم المسبب وأراد السبب وهو اتباع الهوى.
وإن اتباع الهوى أو الشيطان يؤدي إلى الضلالة لَا محالة، ولذا قال تعالى: (فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ)، أي من الضالين، فغوى معناها ضل بسبب اتباع الشهوات.
وقد قلنا: إن هذا مثل من تحيط به آيات الله التي تدعم فطرته التي فطر الناس عليها، فلا يلتفت إلى دلالتها، ويتركها منسلخا عما تدعو إليه كما ينسلخ اللابس من ثوبه الذي يستره، ويجمله، وينحط إلى مهاوي الشيطان.
هذا، وإن كتب التفسير في هذه الآية مملوءة بأساطير يهودية لم تثبت بسند صحيح يصلح تفسيرا للقرآن، ولذلك ضربنا عن ذكرها صفحا، ذلك أنهم زعموا أن قوله تعالى: (نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا) يتعرض لقصة شخص معين، فاستعانوا بالإسرائيليات، ليعلموا من هو. والحقيقة أنه ليس بشخص معين، إنما هو تصوير لمن تأتيه الآيات السابقات بالنور فيتركها.
وزعموا أن قوله تعالى: (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) ففهموا من هذا أنها قصة لها أشخاص ورجال وحوادث، فاستعاروها من بني إسرائيل، وهذا لَا يساعده النص، إنما النص في قصص المثل ذاته، ولذلك قال تعالى: (ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، وسنتكلم في هذا إن شاء الله تعالى.
وقد صور الله تعالى حال ذلك الذي تأتيه آيات الله نيرة سابغة فينسلخ منها فقال تعالى:
(وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ... (176)(6/3008)
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
أى إن ذلك الذي انسلخ من آيات الله تعالى، وقد أسبغها الله تعالى عليه لو شاء الله لرفعه بها إلى أعلى الدرجات لو سلك سبيله، واتجه إليه ولم ينسلخ عنها؛ ولذا قال تعالى: (وَلَوْ شِئنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا) لو شئنا له أن يهتدي رفعناه بها إلى مقام المؤمنين الصادقين، لو كان قد سلك سبيلنا ولم يرفض نعمة البيان وإسباغ الآيات، ولكنه أخلد إلى الأرض وسكن فيها بنزواتها وأهوائها وشهواتها، واتبع هواه، فلم يسيطر على شهواته، وكان عبدا لها، فاستوى عنده البينات والظلام، ولذلك مثله الله تعالى بالكلب الذي يندلع لسانه لاهثا دائما، فقال تعالت كلماته: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث).
أي إن حاله كحال الكلب المندلع لسانه، إن تحمل عليه بأن تهيجه ينبح مندلعا لسانه، وإن تتركه من غير تهييج ينبح مندلعا لسانه أيضا.
أي إن أولئك الذين ينسلخون من الآيات التي ينعم الله تعالى عليهم ببيانها يستوي عندهم البيان والترك بل إنهم يضلون دائما، إن ضلالهم في حال البيان أشد وأوغل، فالجامع بين المشبه والمشبه به هو البقاء على حال سوء دائما، سواء أكان البيان أم لم يكن.
وقد شبههم الله تعالى بالكلب، في أقبح صوره، وهي الحال التي يكون فيها خارج اللسان يسيل فيها لعابه، وهي أقبح مناظره؛ ولذا قال تعالى: (ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)، أي تلك الحال التي قصصناها وبيناها، حال الذين كذبوا بآياتنا نقدوا تفكيرهم وتقديرهم للأمور، فلم يعرفوا الفرق بين النور الذي تجيء به الآيات هادية مرشدة، وبين الظلام الذي يعمهون فيه متحيرين، وكانت حالهم لحال هذا الحيوان في أقبح صوره.
إذا كانت هذه حالهم، ومآل أمرهم، (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ) الفاء كما ترى للإفصاح، ومعنى اقصص: اذكر حالهم وخبرهم، فإنه يصور حالهم (لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، أي لعل هذا التصوير الذي تقصه عليهم يحملهم على التنبه في(6/3009)
حالهم العقلية التي ينزلون فيها إلى الحيوان الذي لَا يدري الفرق فيما يعمل، فيتفكرون ويتدبرون الآيات ولا يتسلخون منها.
ولقد بين الله تعالى سوء حالهم، فقال:(6/3010)
سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
(سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
ساء تستعمل أحيانا بمعنى التعجب، فيكون المعنى ما أسوأه مثلا هذه الحال، وتكون (مَثَلًا) تمييز، وهو يدل على المتعجب منه، أي أن حالهم بلذت أقصى أحوال السوء في الضلال، ومجافاة الحق، وجعلهم النور ظلاما والهدى ضلالة وأنهم في ذلك لَا يضرون غير أنفسهم، فالله يغضب عليهم والرسول (وَأَنفسَهُمْ كأنُوا يَظْلِمُونَ) يظلمون أي يستمرون على ظلمها باستمرارهم على تكذيب آيات الله الهادية المرشدة، وانسلاخهم عنها. وإن الله - سبحانه - تركهم في غيهم؛ لأنهم سلكوا سبيل الغي، وتركوا سبيل الرشد، فحقت عليهم كلمة الضلال؛ ولذا يقول الله تعالى:(6/3010)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
(مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
" مَنْ " اسم شرط، أي الذي يهديه الله تعالى فهو المهتدي وحده، وليس معنى ذلك أنه ليس مختارا في سلوك طريق الهداية، فإن الله عدل، لَا يظلم أحدا، إنما يكون بين يديه طريق الرشد، وطريق الغي، فيختار طريق الغي، فيصل إلى نتيجته ويختار الله ما اختاره لنفسه، وإن كان غير راض عما اقترف، ويقترف من سيئات، (وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وإضلال الله تعالى لَا يتنافى مع اختياره؛ لأنه اختار سبيل الغي، والفساد، فسار فيه لإذن الله واختياره، وإن كان الله تعالى غير راض، فالله تعالى أراد له الشر إذ سلك طريقه، ولكنه لَا يرضى لعباده الكفر.(6/3010)
وهنا إشارتان بيانيتان:
أولاهما - في قوله تعالى: (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) فيه تعريف الطرفين، فيفيد القصر، والمعنى لَا يهتدي غيره، فالهداية من الله تعالى.
ثانيتهما - أن الله تعالى قال: (فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) وفي هذا النص السامي الإشارة إلى الموصوفين بتكذيبهم لآيات الله، والإشارة إلى الأوصاف تفيد أنها سبب الحكم.
وقوله تعالى: (هُمُ الْخَاسِرُونَ) تفيد تأكيد الخسارة وقصرها عليهم، وذلك لضمير الفصل " هم "، وخسارتهم في أنهم خسروا نعيم الآخرة، وخسروا بضلالهم وفقدهم التمييز بين الحق والباطل، والضلال والهداية، وخسارتهم بتركهم نعمة الله تعالى في آياته، وخسارتهم رضوان الله، وهو أكبر.
* * *
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
* * *
أكد الله تعالى أنه خلق الخلق من ذريات آبائهم، وعلم أنهم لَا يهتدون، بل يدخلون في الضلالة، ومن ورائها الكفر، ومن وراء الكفر جهنم، وليس معنى ذلك أنه أجبرهم على الكفر الذي يلجئهم إلى جهنم إجبارا، بل معناه أنه كتبه عليهم في علمه الذي أحاط بكل شيء، ولا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، فالله - سبحانه وتعالى - علم ما يكون منهم فهو - سبحانه - يعلم ما كان وما سيكون عالم الغيب والشهادة، وهو السميع العليم.(6/3011)
قال تعالى:(6/3012)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ).
أكد الله تعالى ذلك بـ " قد "، وهي للتحقيق دائما، وباللام، وذرأنا معناها، خلقناها من ذرية، كما قال تعالى: (وجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا. . .)، ذرأ ليست بمعنى خلق كأي خلق، بل معناها أنه خلق من وقوله تعالى: (لِجَهَنَّمَ)، أي أن مآلهم إلى جهنم، لأنهم يختارون الضلالة، فيكفرون فتكون جهنم مآلهم وبئس المصير، ووصفهم سبحانه بأنهم كثيرون من الجن والإنس، فليس الضلال بقليل في الأرض، وإنه لكثير، كما قال تعالى: (وَإنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ. . .)، وقد ذكر - سبحانه وتعالى - حال الذين كتب عليهم أن يكونوا لجهنم فقال: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا)، أي لهم قلوب لَا ينفذون بها إلى الحق فيذعنوا له، وهذا معنى فقهها، ولهم أعين لا يبصرون آيات الله في الكون من شمس لها ضياء، وقمر له نور، وسماء ذات أبراج، ورياح تحمل السحاب الممطر، يساق إلى بلد ميت فيحييه، ولهم آذان لا يسمعون بها نداء الحق فيجيبوه، وآيات الله تتلى فلا يدركوها، ويسمعون صوت المنادي " الله أكبر " وكأنهم لَا يسمعون.
وقد يقال: إن هذا مثل للضالين وتصوير لهم، فهم كمن لَا عقل له ولا بصر ولا سمع، وقد قال تعالى في ذلك: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ).
إن فرق ما بين الحيوان والإنسان هو العقل والتدبير، وترتيب النتائج على المقدمات، والنظر إلى المستقبل على ضوء الماضي والحاضر، فإذا فقد ذلك فقد صار كالأنعام في أنفسها، ولذلك قال سبحانه: (أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ) والإشارة إلى الذين لهم قلوب لم يدركوا بها إدراكا نافذا إلى ما وراء. وأوتوا أبصار لم يعرفوا عظمة الكون وخالقه منها، وأوتوا سمعا، لم يستمعوا به إلى المواعظ النيِّرة، والزواجر الزاجرة.(6/3012)
هؤلاء ما دام لم ينتفعوا بهذه المواهب، يصيرون كالأنعام؛ لأن ما أعطاهم سبحانه من مواهب جعلوه هملا فكأنهم لم يعطوه كالأنعام، ويقول سبحانه: (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) لأن من أُعطي شيئا ولم ينتفع به أضل ممن لم يُعطَ شيئا.
هذا هو الحكم الأول عليهم، والحكم الثاني هو أنهم غافلون عن الأمور التي يجب عليهم إدراكها، فقال تعالى: (أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) عما يجب التنبه إليه ليقوموا بواجبهم وليستعملوا ما وهبهم تعالى من هبات مميزة مدركة، وأكد الله - سبحانه وتعالى - الحكم بغفلتهم بالجملة الاسمية، وبضمير الفصل، وبقصر الغفلة عليهم بتعريف الطرفين، أي أنه لَا غافل غيرهم، لأنهم غفلوا عن أهم ما يجب أن ينتبهوا له.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى في عدة آيات معاني هذه الآية فيما يناسبها فقال تعالى: (. . . وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْء إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ. . .).
وقد شبههم سبحانه بالأنعام فقال عز من قائل: (وَمَثَل الَّذِينَ كفَرُوا كمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً. . .)، وهكذا كل من يعطل المواهب التي وهبها الله تعالى له.
وإن المشركين كانوا يعبدون عْير الله تعالى، وينكرون صفات الله تعالى التي تجعله وحده المستحق للعبادة، ولذا قال تعالى:(6/3013)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
تطلق الأسماء ويراد المسميات، والأسماء هنا يراد بها صفات الذات العلية التي لَا يماثلها صفات الحوادث، كما قال تعالى: (. . . لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، مثل القاهر القادر المريد السميع البصير، والغفور(6/3013)
الرحيم الرحمن، فإن هذه وأشباهها أسماء الله تعالى، وهي أيضا صفاته وهي ليست شيئا غير ذاته، إنما هي مبينة لها، معرفة بها، فنحن نعرفه سبحانه بهذه الصفات التي هي أسماؤه سبحانه وتعالى، وبعدد الأسماء أو الصفات لَا يقتضي تعدد المسمى، أو الموصوف، ولقد سمع مشرك قول المؤمن في وصف الله تعالى بأنه الغفور الرحيم، فقال جاهلا أو متجاهلا: إن محمدا يدعو إلى إله واحد، فما باله يذكر إلهين. وهذا إلحاد في أسمائه سبحانه، فالموصوف لَا يتعدد بتعدد الوصف، والمسمى لَا يتعدد بتعدد الاسم، وقد روى الترمذي وغيره أن لله تعالى تسعة وتسعين اسما، أي وصفا، وقد ذكر ابن كثير هذه الأسماء التي بلذت هذا العدد فقال: (هو الله الذي لَا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور).
وقد رويت هذه الأسماء في الصحاح بأحاديث مختلفة، والله قد اتصف بكل هذه الأسماء.
وصف أسماء الله تعالى بالحسنى، وهي مؤنث أحسن، وأفعل التفضيل ليس على بابه، والمعنى أنها بلغت أقصى درجات الحسن والكمال، لأنها صفات المتصف بكل كمال.(6/3014)
وقد قال تعالى: (فَادْعُوهُ بِهَا) الفاء للإفصاح، أي إذا كانت الأسماء هي صفات الكمال المطلق، فادعوه بها أي نادوه في دعائكم وضراعتكم إليه بها.
(وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ)، أي يتخذون الإلحاد والشرك في أسمائه، وذلك بالزيادة فيها بما لايليق بالذات العلية أو يغيروها بما لَا يليق بذاته، كالمعطلة والمشبهة الذين يفسرونها بما يشبه الحوادث، أو ينقصون منها تبعا لأهوائهم، وقوله تعالى: (ذَرُوا) أي اتركوهم بمعنى لَا تقيموا لقولهم وزنا، ولا تتبعوا ما يقولون.
ثم ذكر الله تعالى جزاءهم فقال: (سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) السين هنا لتأكيد وقوع الفعل في المستقبل، وقد قدروا الباء، أي: سيجزون بما كانوا يعملون.
وإن حذف الباء فيه إشارة بيانية، وهو توافق الجزاء مع العمل، حتى لكان الجزاء هو العمل ذاته، لاتحاد السبب والمسبب، فكان جزاء وفاقا للعمل لَا يزيد عليه، وقد يغفر له متغمدا له برحمته.
وقد ذكر الله تعالى الضالين ممن ذرأ من الجن والإنس، وأنهم كثيرون، وليسوا قليلا ذكر المهتدين، فقال تعالى:(6/3015)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
(وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
ليس الناس جميعا أشرارا، بل إنه من رحمة الله تعالى بعباده أن كان الوجود لَا يخلو من الأخيار الذين يقاومون أهل الشر، ويدفعون شرهم (. . . وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
وقد ذكر الله تعالى في هذه الآية أخيار الناس فقال تعالى: (وَمِمَّنْ خَلَقا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ)، أي من الذين خلقناهم من الجن والإنس من ذريتهم أمة طائفة مجتمعة على الهدى والخير يؤم كل واحد منها الجماعة، ويعينها ويقصدها بخير،(6/3015)
(يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) أي اهتدوا، ويهدون غيرهم بالحق، أي هداية مصحوبة بالحق، (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) أي بالحق وحده يعدلون في كل أمورهم، ففي حياتهم عدل بالحق، وفي شئونهم العامة والخاصة عدل بالحق، وفي كل ما يباشرون من أعمال يبتغون الحق ولا يريدون سواه، فحياتهم كلها عدل وحق. وفي تقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) قصر؛ أي لَا يعدلون بغيره، بل يزنون به الأعمال والأشياء والصلات كلها، فهو ميزان الوجود الإنساني، وبه قامت الإنسانية الفاضلة.
وقد بين الله تعالى ما يعامل به الذين يكذبون بآياته، ويعادون أولياءه، ويعاندون الحق، فقال:
* * *
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
* * *
كان ما قصه - سبحانه - من قصص لنوح وهود وصالح وشعيب، وموسى وما كان من قومه ومعاناته في سبيل هدايتهم وبث الإيمان في قلوبهم؛ تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - وبيان ما يلقاه أولو العزم من الرسل من عند الكافرين والضالين.
ومن بعد ذلك أخذ - سبحانه وتعالى - يبين حال المشركين الذي يدعوهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال سبحانه:(6/3016)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ).(6/3016)
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم) هذا حكم عام بالنسبة للمكذبين بالآيات، لَا يأخذهم سبحانه بمجرد تكذيبهم، بل يمهلهم ويغدق عليهم الرزق حتى إذا تمادوا في شرهم، ولم تهدهم النعمة، ولم يحسوا بشكرها أخذهم الله تعالى من حيث لَا يحتسبون، فهو يختبرهم بالآيات فيها العبر، ثم يختبرهم بالنعم.
ومعنى (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ) نأخذهم درجة بعد درجة نازلين إلى الهاوية من حيث لَا يشعرون؛ من مكان لَا يشعرون فيه أنهم كلما أنعم عليهم بنعمة وكفروها يسيرون إلى الهاوية وهم لَا يشعرون، إن الله يختبر المكذبين لآياته الكونية وما تدل عليه، والمكذبين لمعجزات النبوة كالقرآن، وسائر آياته لأنبيائه، يختبرهم بالنعيم أحيانا يذوقونه ثم يحرمون منه.
ولقد قال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45).
وإن ما يكون عليه الكافرون من ملاذ وزخارف لَا يصح أن يكون علامة الرضا، بل هو في أكثر الأحوال علامة السخط، وقد قال تعالى: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35). وإن ذلك من إملاء الله تعالى، ليزدادوا ضلالا وفتنة. ولقد أكد الله تعالى ذلك فقال:(6/3017)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
(وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
في هذا النص السامي يبين سبحانه عاقبتهم، وهي العذاب الشديد الذي يستدرجون إليه فيقول: (وَأملِي لَهُمْ)، أي أطيل عليهم الأمن، أي أتركهم ملاوة من الزمن يستمتعون فيها، كما تستمتع الأنعام، وهم سادرون في طغيانهم(6/3017)
وكفرهم، وكلما أمعنوا في لذاتهم وشهواتهم وما مكنوا منه، ازدادوا إثما، حتى إذا امتلئوا آثاما بما كسبت أيديهم أخذوا أخذ عزيز مقتدر، وما أفلتوا من عقاب شديد، ولذا قال تعالى مبينا ما بيته لهم: (إِنَّ كيْدِي مَتِين)، هو التدبير للأشرار معاملة لهم بمثل تدبيرهم وشرهم، وإيذائهم لأهل الإيمان (مَتِينٌ)، أي غليظ شديد مأخوذ من من الجسم وهو الجانب القوي في عظامه.
وإنه قد قالوا: إن هذه الآية نزلت في كبراء قريش الذين كانوا يؤذون المؤمنين وخصوصا ضعفاءهم، فالله تعالى يبين لهم أنهم مأخوذون وسينتقم الله تعالى منهم، وقد أخذهم الله تعالى بذنوبهم في موقعة بدر، أخَذ الذين بالغوا في إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ عزيز مقتدر.
ونقول: إن عموم الآية يشمل هؤلاء وغيرهم ممن يظهرون مغترين، يقولون في غرورهم نحن أكثر أموالا وأولادا، فالله تعالى يمهل ولا يهمل.
وإن اغترار المشركين بالمال والنفر يمنعهم من التفكير في مآل أمرهم، والداعي إلى الحق وماضيه، ولذا قال تعالى:(6/3018)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمين الصادق في قريش، وعاش بينهم أربعين سنة كان يعرف بينهم بالأمين، وإذا ذكر اسم الأمين لَا ينصرف إلا إليه، يحكم بينهم في خلافهم إذا تنازعوا، ويرتضون حكمه إيمانا بعقله وكمال تدبيره، فلما دعاهم إلى الحق وترك عبادة الأوثان قالوا مجنون، وقد رد الله قولهم بقوله: (وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُون).
ولما رموه بهذا دعاهم الله أن يتدبروا ما يقولون، ويوازنوا بين قولهم هذا وما عرفوه من قبل، حتى يدركوا الحق وينفوا قولهم فيه، فقال: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) أي يقولون هذا القول، ولم يتفكروا، ويعلمون أنه ما بصاحبهم من جِنَّةٍ، فالتفكر ليرودا عقولهم إلى ماضي قولهم فيه من أنه العاقل الأمين في(6/3018)
شبابه، حتى إذا بلغ أشده وبلغ الأربعين قالوا فيه ما قالوا، وإن نتيجة التفكر والموازنة أن ينتهوا إلى الحكم بأنه (مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ). وعبر الله تعالى بقوله: (مَا بِصَاحِبِهِم) من فيه إشارة إلى مصاحبته أربعين سنة في صحبة كريمة عاقلة أمينة يرجعون إليه في أمورهم المهمة ويشركهم في فعل الطيبات أنَّى اتجهوا إليها. وإن ما دفعكم إلى هذا الوصف الذي ينافي ماضيه وحاضره إنما هو أنه جاء بالحق بشيرا ونذيرا وهاديا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا؛ ولذا قال تعالى: (إِنْ هوَ إِلَّا نَذِيرٌ مبِينٌ) أي ذاكر لكم عاقبة الكفر، وهو العذاب الشديد، مبين لكم ذلك وموضحه.
والاستفهام هنا إنكاري للتوبيخ؛ لأنهم اندفعوا في رميه بالجنون من غير أن يتفكروا.
وقد وردت آيات كثيرة في هذا المعنى فقد قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46).
فالله تعالى في هذه الآية يدعوهم إلى أن يتفكروا مجتمعين وفرادى، ومتذاكرين وستنتهون إلى أنه (مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ)، إثه الكامل فيكم صبيًّا وشابا ورجلا مكتملا، ولكنه العناد قد جركم إلى إنكار ما هو ثابت ثبوتا لَا مجال للريب فيه، وبعد أن دعاهم الله تعالى إلى التفكير في أمر النبي الصادق الأمين، دعاهم إلى النظر في الكون ليؤمنوا بالله وحده، فقال تعالى:(6/3019)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
عقيدة الإيمان الإسلامية شهادة أن لَا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنه الصادق الأمين، وقد بين سبحانه في الآية السابقة أن صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - ثابت عند المشركين لصحبته لهم قبل أن ينادي بأنه رسول رب العالمين، ولم تتغير حاله(6/3019)
بعد الدعوة وليس به جنون كما ادعيتم ولكنه حمل الرسالة بالإنذار والتبشير لكم فلا مسوغ لكم في تكذيبه، وقد علمتم من ماضيه فيكم أنه الصادق، وتأيد صدقه بالمعجزة الباهرة القاهرة فيكون كل ما جاء به حق.
وإنه إذا ثبتت المعجزة، وإنها ثابتة لَا محاله، فقد ثبت كل ما جاء به ودعا إليه من التوحيد، وألا يشركوا بالله شيئا.
وقد أخذ - سبحانه وتعالى - يثبته بالأدلة الكونية، وقد دعاهم - سبحانه -
إلى النظر في الكون، وما خلق من شيء فقال تعالى: (أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) الملكوت صيغة مبالغة في الملك، وهي تدل على كمال السلطان وقوة الملك، وأن كل شيء في هذا الملكوت لَا يسير إلا بأمر الله تعالى ونهيه - سبحانه وتعالى - والاستفهام للتعجب من أمر المشركين الذين هبط حالهم إلى عبادة حجر لَا ينفع ولا يضر، وهو ملقى ككل الحجارة الملقاة ولا ينظرون إلى الكون العظيم وخالقه، لَا ينظرون إلى السماء وأبراجها والشمس وضوئها، والقمر ونوره، وتعاقب الليل والنهار، ولا إلى الأرض وسهولها وأوتادها (وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ)، والأشياء التي خلقها الله تعالى من حيوان، وجماد وفلزات في باطن الأرض، لَا ينظرون إلى ذلك ويسجدون للصنم، ويجعلونه إلها كخالق هذا الكون، وخالق الوجود كله! إن هذا قصور في الفكر والعقل، وضلال في القول والعمل، وخبط في العبادة صن غير إدراك.
وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) الفعل فيها عطف على فعل محذوف تقديره أيشركون بالله أصناما، ويجعلونها أندادا له - سبحانه وتعالي - ولم ينظروا إلى خلق الله وعظم هذا الخلق، والأثر يدل على المؤثر، والمخلوق يدل على الخالق سبحانه، وهذا الكلام فيه دعوة إلى النظر في الكون، (وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) في السماء والأرض، فقد قال تعالى: (قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. . .)، وقال تعالى: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)(6/3020)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20).
وقال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22).
وهكذا يجب ابتداء النظر إلى الكون وما فيه، وإلى النفس الإنسانية وما هي، ومم تكونت، ولقد أمر الله تعالى في الآية بالنظر إلى مآل الإنسان، وأنه داع إلى الاعتبار، ولا يمكن أن يكون قد خلق عبثا، فقال تعالى: (عَسَى أَن يَكونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ)، و " أنْ " هنا مخففة من " أنَّ " الثقيلة، وإنها ضمير الشأن، أي: وأنه الحال والشأن أن يكون قد اقترب أجلهم.
والله - سبحانه وتعالى - يذكرهم بضرورة النظر إلى الموت، وإلى أن الأجل الذي أُقِّت لحياتهم انتهى، وهذا التذكير فيه فوائد:
أولاها - أن غرور الحياة يدفع إلى الطغيان فيها، فينهوي إلى ضلالها، فإذا ذكر بالموت علم أنها فانية فيقل طغيانه وغروره بها وتلك نافذة إلى الإيمان.
ثانيها - أن تذكر الموت يدفع إلى التفكير في قيمة الحياة فإذا عرف قيمتها عرف قيمة الدنيا؛ ولذلك كان بعض الصالحين إذا عزى في وفاة قال: اللهم انفعنا بالموت، لأنه عبرة وفيه إنذار بالنهاية فإن لم يؤمن باليوم الآخر، فالحياة تكون لغير غاية.
ثالثها - أن التفكير في الموت والنظر فيه يدفع إلى الإيمان باليوم الآخر، وأن حياته ليست عبثا كما قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعونَ). إنها آيات الله البينات، فيها عبرة وعظة لقوم يؤمنون.
ولقد قال تعالى من بعد ذلك في استفهام تعجبي: (فَبِأيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر تقديره إذا لم يؤمنوا بالله الخالق المنشئ المدبر، وآياته الدالة عليه ولا في الموت النازل بهم لَا محالة، إذا لم يؤمنوا بذلك، فبأي حديث يحدَّثون به يؤمنون.(6/3021)
والاستفهام إنكاري توبيخي، هو نفي لإيمانهم بأي حديث مهما يكن، وذلك فيه توبيخ، وفيه إثبات أن أمثال هؤلاء لَا يؤمنون بشيء وفقدت قوة الإيمان بأي أمر، ومن فقد أصل الإيمان بالأشياء فهو حائر بائر ضال لَا يهتدي؛ ولذا قال الله تعالى بعد ذلك:(6/3022)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
(مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
إن من لَا يؤمن بشيء كتب الله تعالى عليه الضلالة؛ لأنه سلك طريق الغي، واتخذه سبيلا، فسار فيه من غير تبصر، وبذلك كتب الله تعالى عليه الضلال، وعبّر عنه بأن الله أضله، فإن الله لَا يكتب الضلالة إلا لمن سار في طريقها، واختار سبيل الغي، ولم يختر سبيل الهدى، وإن من يكتب الله تعالى عليه الضلالة - لَا هادي له لأنه ارتكس في الشر، ولم ينقذه الله تعالى منه، لأنه اختاره، ولذا قال تعالى: (مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَه)، أي من سار في طريق الغي، حتى بلغ نهايته فقد أضله، ومن كتب الله تعالى عليه الضلال فلا هادي له؛ لأن الضلالة استمكنت في نفسه وتغلغلت في أطوائها (1)، فلا مدخل للنور في قلبه الذي ختم الله تعالى عليه.
وإن الله يتركه في ضلاله، وقد قال تعالى: (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)، أي يتركهم الله تعالى في (طُغْيَانِهِمْ)، أي ظلمهم الطاغي الذي تجاوز كل حد، فطغيانهم يكون ظلما لأنفسهم، وظلما للناس وعُتُوا عليهم واستكبارا في الأرض، (يعْمَهونَ) أي يتحيرون ويترددون، والتحير أو التردد هنا في موضعه؛ لأنهم خالفوا الفطرة وقاوموها، فهم في حرب معها، وإذأكانت الحرب داخلية نفسية فإن الإنسان يكون في حيرة مستمرة بين فطرة تدعوه إلى ألا يطغى ولا يظلم، وبين حال قائمة قصدها، وهي ما عليه من طغيان وعتو، والله - سبحانه - لطيف بعباده، ولي لمن اهتدى ولم يخالف فطرته التي فطر الناس عليها.
* * *
________
(1) يعني ما تنطوي عليه. من الطي وهو ضد النشر. لسان العرب - طوى.(6/3022)
الساعة
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
* * *
يقول ابن كثير: إن هذه الآية مكية، وإن كانت في سورة أكثرها مدني، وإن لذلك موضعا فيما نقول عن السائل من هو؟ فقيل: إن السؤال من يهودي ليعجز النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلى ذلك يرجح كون الآية مدنية، وقيل - ويرجحه الحافظ ابن كثير - إن السائل من قريش قالها استبعادا لوقوعها، واستعجالا لها لأنه لَا يؤمن بها، كأنه يقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن كنت صادقا فبين متى تجيء كما قال تعالى: (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ). وقال تعالى عن كفار قريش: (وَيَقُولُون مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كنتًمْ صادِقِينَ).
ونقول: إن السؤال عن الساعة يرد على خاطر المؤمن والكافر، فالكافر يسأل مستبعدا، والمؤمن يسأل لأنه مؤمن بها، والعقل طُلَعَة يريد أن يعرف زمانها، وتعرف المجهول المستور غاية من غايات العقول، تتطلع لعرفته.
سؤالهم ذكره الله تعالى بصيغة(6/3023)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
(أَيَّانَ مُرْسَاهَا) المرسى: اسم زمان أو مكان، ويطلق على مرسى السفن، ونهاية مسير المركب إلى الأرض اليابسة.(6/3023)
والمعنى يسألون عن وقت تنتهي إلى المرسى الذي ترسى إليه أو إلى الزمن الذي ترسى إليه، وتنتهي عنده، فشبه زمن وجودها بالمرسى الذي ترسى عنده السفن، ويكون المعنى على هذا أيان ينتهي الزمن إليها، وأي قدر من الوقت يمضي حتى نعرف منتهاها.
أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله الذي أمره به ربه (قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي)، أي إن علمها عند ربي وحده لَا يعلمها أحد سواه، ولذلك عبر - سبحانه - بـ " إنما " الدالة على القصر، ولقد صرح الله تعالى بهذا القصر، وقال تعالى على لسان نبيه الكريم: (لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)، أي لَا يوضحها في وقتها إذ يجيء إلا الله، فاللام هنا بمعنى " في "، كما قال تعالى: (أَقِم الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ. . .)، أو تتعلق بمحذوف، ويكون السياق هكذا لَا يوضحها ذاكرا لميقاتها إلا الله تعالى.
(ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) وقد وصفها الله تعالى بأنها تثقل على النفوس، لأنها تشتمل على وقت الحساب، والكافر يحس بعظم ما ارتكب، والمؤمن لَا تزين له أعماله فيحسبها كلها حسنة فهو مُشفق منها، والمغتر بما عمل من أعمال حسنة فهو مشفق منها، ثم هي عندما تجيء يختل نظام الكون ويضطرب، فإذا جاءت انشقت السماء، وانتثرت الكواكب والنجوم، وكورت الشمس، وسيرت الجبال، فثقلت على النفوس وصعب احتمال ما يصحبها.
وإنها تكون حيث لَا علم بها، ولا توقع لها؛ ولذلك قال: (لا تَأتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً) إلا مباغتة لَا تتوقعون مجيئها، وذلك يزيد في ثقلها.
وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أشراطا لها، تنذر بقربها، ولكنها لَا تعين ميعادها، وإذا جاءت لَا تنفي أن مجيئها كان بغتة، فالأشراط مقربة للزمان، وليست معينة له.
ويقول الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) وقالوا: إن " حَفِيٌّ " معناها عالم، وعُدِّي بـ " عن " على معنى كأنك عالم شيئا عنها، وقد فسرها عبد الله بن(6/3024)
عباس بأنه (كأن) بينك وبينها مودة تتقاضاك أن تعرف الكثير عنها، فإنه يقال في العربية إن فلانا حَفِيٌّ بفلان أي بينه وبينه مودة تقتضي أن يعرف عنه الكثير مما عنده، والمؤدى واحد، وهو أن سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم يحسبون أنه عالم به أو (حَفِيٌّ) وَمَعْنيٌّ بأن يعرف عنها ما يُعرف.
وذكر السؤال عنها مرة أخرى لاختلاف متعلق السؤال، فالسؤال في الأول لمعرفة ميقاتها، وتكرار ذكر السؤال لبيان ظنهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حَفِيٌّ بمعرفة شيء عنها.
وهكذا التكرار في القرآن لَا يعد تكرارا؛ لأن ذكر اللفظ المكرر يكون ذكره لمقصد آخر، غير المقصد، وقد أشرنا إلى ذلك عند الكلام في قصص القرآن الكريم.
ولقد قال الزمخشري: فإن قلت لم كرر (يَسْألُونَكَ إنما علمها عند الله)؟ قلت للتأكيد، ولما جاء به من زيادة (كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا) وعلى هذا تكرار العلماء الحذاق في كتبهم لَا يخلون المكرر من فائدة زائدة.
ولقدْ أمر الله تعالى نبيه بأن يقول لهم ما أمره به أولا، وهو: (إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي) وذلك لتأكيد اختصاص علم الله تعالى بها، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. . .).
وإنما جهَّل الله تعالى العلم بالساعة لكي يقدم الناس على أعمالهم جاهدين مثمرين مستغلين الأرض مخرجين خيراتها، ولو علموا زمانها، لقلت همتهم، وضعفت عن الإنتاج والإثمار عزيمتهم، والإسلام لَا يريد أن يفتُروا في أعمال الحياة والعبادة وإن يتموا أعمالهم، ولا يبطلوها، ولقد ورد أنه إذا جاءت، والرجل(6/3025)
قد أخذ يزرع فسيلة فعليه أن يتم ما بدأ (1) ثم ختم الله - سبحانه - الآية بقوله تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الاستدراك هنا عما وهمه الناس من أن العلم بميقات الساعة ينفع ولا يضر، ولذا قال أكثر الناس لَا يعلمون حكمة القادر الحكيم العليم، فيما يبين ويترك بيانه لميقاتها، والله - سبحانه وتعالى - بكل شيء عليم.
ولقد بين - سبحانه وتعالى - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله تعالى عليه، ولم يطلعه عن ميقات الساعة، فقال تعالى:
________
(1) عن أَنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ ". رواه أحمد: باقي مسند المكئرين (12569). الَفسيلة: صغَار النخل.(6/3026)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
(قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
بعد أن بين الله - تعالى - أمر الساعة وأن علمها عند الله وحده، أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبين لهم أنه بشر رسول وأنه لَا يملك لهم أن يأتي بها قبل أن يقدِّر الله تعالى؛ لأنه لَا يملك في نفسه لنفسه شيئا، لَا يملك لنفسه نفعا يجلبه ولا ضرا يدفعه، بل إنه يجري عليه ما يجري على البشر، فلا يملك أن يغير في أمر الساعة شيئا، فليس لهم أن يسألوه عنها ويطلبوا منه ميقاتها، ولقد قال تعالى مثل ذلك في آية أخرى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49).
(وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ).(6/3026)
وإن هذا النص بما فيه من رد على أسئلتهم فيما يتعلق بالساعة فيه تأكيد لبشرية النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه لَا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله تعالى، فأنا تحت سلطانه وظله، لَا أملك إلا ما يملكني، وما لَا يملكني ممنوع على لَا سلطان لي فيه " وإن علم الغب لله وحده، فعلم الساعة له وحده، وأنا لَا أعلم الغيب، وإنما علمه عند الله عالم الغيب لَا يُطلع أحدا عليه، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر من ربه: (وَلَوْ كنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) لطلبت الكثير من الخير ونلته، فكنت أستنصر في الحروب في غير مكيدة ولا تدبير، ولدفعت أمر الشرك، ولجعلت الأرض خصبة إن كانت جدبا، ولكني أفوض أمري إلى، إن أعطاني فبإحسانه، وإن منعني فبحكمته وهو العليم.
(وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)، ولو كنت أعلم الشيب ما مسني السوء فما يمسني ضر، ولا أنهزم في حرب، ولا أغلب في أمر، إنما أنا كسائر البشر أغالب أهل الشر وأنازعهم، وأنال منهم، وربما ينالون مني.
وإنما ما اختصصت به هو الرسالة وحدها، وأن الله يكلفني؛ ولذا قال: (إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لقَوْمٍ يؤْمِنونَ)، أي أنه مقصور على الرسالة لَا يتجاوزها، ولا يعدوها، فهو نذير للكافرين، بشير للمؤمنين (إِنْ) في الآية نافية، فهي نافية إلا ما ثبت بعد الاستثناء، إلا وهو الرسالة من الله ينذر بها الكافر، ويبشر بها المؤمن.
وإنما ينتفع بالبلاغ المحمدي بالإنذار والتبشير - المؤمنون، فهم الذين يخافون عذابه إن أنذروا، ويجيبون نداءه ويستبشرون برحمته إن أطاعوا، والله سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل.
* * *(6/3027)
النفس الإنسانية
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)
* * *
بين الله تعالى أن الفطرة الإنسانية تتجه إلى الإيمان بالله تعالى، وأنها شهادة النفس الإنسانية، وأنها العهد الذي أخذه الله تعالى على الناس وهم في ظهور آبائهم، وقد بين كيف انحرفت، وتوالت هذه الانحرافات، وصارت الخلائف تتجه إليها في ذرياتهم، وكأنها حيلة وليست كذلك. يقول الله تعالى:(6/3028)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا)، أي أن الناس جميعا يرجعون إلى نفس واحدة في جنس واحد، ولذلك كانوا متجانسين ملتقين في طبيعة واحدة مهما تختلف أجناسهم أو تتباين شعوبهم وقبائلهم، فهم من جنس(6/3028)
واحد، أو نقول النفس الواحدة هي نفس آدم وجعل الله تعالى زوجها من جنسها أو منها (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)، ليأنس روح كل منهما بصاحبه والمؤدى في التخريجين واحد، وهو التجانس التام بين النفسين، النفس التي انبعثت منها زوجهما والزوج المنبعث. وقوله تعالى: (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) توضح التجانس، سواء أذكر ابتداء، أم كان ذكر بانتهاء القول، أي سواء أفسرنا النفس بالوحدة الجنسية، أم فسرنا النفس بآدم وحواء.
وقوله: (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) أي ليستأنس ويطمئن، ويمتزج روحاهما، كقوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً. . .).
ويلاحظ هنا من الناحية البيانية أنه - سبحانه وتعالى - ذكر النفس في السياق بالسياق مرة بأنها مؤنثة الضمير عليها مؤنثة فقال: (خَلَقَكم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوجَهَا) فلما بين الله - سبحانه وتعالى - ثمرة ذلك التجانس، وهو التلاقح بين الذكر والأنثى ليبقى الوجود، وليكون ذلك التجانس منتجا أقصى غايته، قال: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا) بيَّن حينئذ الذكر والأنثى، وأن الذي تغشى عند اللقاء المنتج بينهما هو الذكر، وأن التي تُغشى هي الأنثى، وبذلك تكون الثمرة الإنسانية هي نتيجة ما بينهما، ولذا عاد الضمير مذكرا، فتغشى معناها: كان بينهما ما أوجبته الفطرة.
ولقد ذكر - سبحانه وتعالى - مراتب الشعور بالحيل الذي يكون نتيجة لذلك التغشي فذكر مراتب ثلاثة:
المرتبة الأولى - مرتبة الحمل في أوله، وهي مرتبة تردد وتعرُّف، فقال تعالى: (فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا)، أي سهلا محتملا، ولم يمنعها من عمل، وكان من صفات هذه المرحلة أنها لم تعقها عن عمل، ولم تمنعها من أداء واجباتها المنزلية، ولذا قال تعالى: (فَمَرَّتْ بِهِ)، أي كانت تنتقل به، فـ " الباء "(6/3029)
بمعنى " مع "، أي أنها كانت مع هذا الحمل الخفيف تروح وتغدو وتتقلب في أمور بيتها وفي شئونها.
المرتبة الثانية - هي أن يثقل حملها، وتشغل به، ولا تفكر هي وزوجها إلا فيه، وفي هذه الحال يشركها زوجها في شعورها، ورجائها ويضرع هو وهي إلى الله تعالى أن يجعله ذرية صالحة؛ ولذا قال تعالى في هذه المرحلة: (فَلَمَّا أَثْقَلَت) أي صارت تحمل حملا ثقيلا، ونسب الإثقال إليها دون الجنين، مع أنه هو الذي أثقل؛ للإشارة إلى أن الأنس بالجنين، والفرحة به والرغبة في استقباله تنسيها ثقله، فليس ثقيلا على نفسها، وإن أثقل جسمها.
وفى هذه المرحلة كما أشرنا يشترك الزوج والزوجة في شعور واحد وهو الدعاء له بالسلامة. وهنا لَا يذكر إلا هو، ولذا قال تعالى: (فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) يشتركان في الدعاء، لأنه يلتقى شعورهما، شعور الأبوة، وشعور الأمومة، ولا تفكير إلا في سلامته من الآفات، ومعنى صالحا، أي أن يولد قويا مستقيما في تكوينه سويا في خلقه، ليس به آفة من آفات الخلق والتكوين. يدعون ربهما مقسمين بالله: لئن آتيتنا مولودا قويا سويا لنكونن من الشاكرين. والشكر هو شكر النعمة بالقيام بحقها، وعدم الكفر بها.
والمرتبة الثالثة - أن يفصل عنها، ويلقى عنها ثقلها، ويكون حق الوفاء بعهدهما قد جاء ميقاته، ويلاحظ أنهما عندما ضرعا إلى الله تعالى؛ عبر عن ذلك بـ (رَبَّهُمَا) - لأنه الخالق المربي المدبر، وهو الذي يُلجأ إليه سبحانه.
ولكن هل وفيا بحق العهد واليمين:
يجيب الله تعالى عن ذلك بقوله عز من قائل:(6/3030)
فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
(فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
من شأن المشركين أنهم في الشدائد يرجعون إلى الله تعالى خائفين طامعين، يرجونه خوفا وطمعا، وإن هؤلاء عندما أثقل الحمل اعتراهم شعوران: أحدهما(6/3030)
الخوف من أن يضر ذلك بالأم، والطمع في أن يكون منهما ولد سويّ الخلق والتكوين يفرح به ويسر، ولا ملجأ يلجأ إليه إلا الله، ولا مأمن إلا عنده، فلما ذهب الخوف، وتحقق الطمع تركا الضراعة وراءهم ظهريا، وبدت سوءات الشرك في نفوسهم، وسيطر الجحود عليهم، والكفر والبهتان حكما أمورهما، وقد صور الله تعالى هذا المعنى السامي بقوله: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) كان يقرّان بأنه المعطي وحده، فلما أعطاهما ولدا سليم الجسم سوي البنية جعلتم ثمة شريكا في خلقه وتكوينه، فزعمتم أن ما تدعون من دونه له دخل في تكوينه وخلقه فزعمتموهم بأوهامكم أنهم شركاء لله في الخلق والتكوين.
وهكذا نفس من يضل عن سبيل الله، ويسير في طريق الغواية، وتستولي عليه الوساوس، إذا كان في شديدة يستولي عليه الخوف والذعر فيستقيم تفكيره، فإن اطمأن وذهب عنه الخوف لَا يهتدي بل يضل.
(فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْركُونَ)، أي تسامي قدر الله تعالى، وتعالى علوه عما يشركون. " ما " هنا إما مصدرية، والمعنى تعالى قدره عن إشراكهم، وطغيان الأوهام على تفوسهم، أو " ما " موصولة بمعنى " الذي "، ويكون المعنى: تعالى الله بذاته العلية الذي لَا يماثله شيء في الأرض ولا في السماء أن يكون له مماثل من هذه الأوثان التي لَا تضر ولا تنفع.
وإن هذه قصة تصور حال الإنسان في أمور ثلاثة:
أولا - أنه وزوجه من جنس واحد مؤتلف متجانس فكلاهما متمم لصاحبه، وكلاهما من خلق واحد، وتكوين واحد، وخلقا متقابلين متكاملين.
وثانيا - تصور أنه حال الخوف والطمع لَا يلجأ إلا إلى الله، فهو الذي يشبع حاجته، وهو الذي يرجى وحده في الشدة.
وثالثا - في أنه إذا ذهب الخوف غلبته الأوهام، وسيطرت عليه.(6/3031)
يقول القفَّال في هذه القصة: لما آتاهما ولدا صالحا سويا جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما؛ لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائعيين كما هو قول الطبائعيين، وتارة إلى الكواكب كما هو قول المنجمين، وتارة إلى الأصنام والأوثان كما هو قول عبدة الأصنام، وذلك الأخير أكثر ما كان عند العرب؛ ولذا قال تعالى: (أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192).
إن مقياس الألوهية هو الخلق والتكوين، فإن كان الله هو الخالق المكوِّن فهو المالك لما خلق وكوَّن، وهو وحده المستحق للعبادة، سبحانه وتعالى، والله تعالى مالك السماوات والأرض وخالقهما، وخالق الإنسان فكيف يعبد غيره؟!؛ ولذا قال تعالى مستنكرا ما عليه الضالون:(6/3032)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
(أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)
الاستفهام إنكاري لإنكار الواقع بمعنى التوبيخ، أي أتشركون بالله في العبادة ما لا يخلق شيئا وهو ذاته مخلوق، وننبه هنا إلى ثلاثة أمور:
أولها - أنه هنا ذكر شركهم ولم يذكر من يشاركونه، وهو الله، تساميا لاسم الله تعالى عن أن يذكر مقارنا بالأوثان.
ثانيها - أنه - سبحانه وتعالى - ذكر أنهم لَا يخلقون. والله خالق كل شيء وهم مخلوقون. والله خالق وليس بمخلوق.
ثالثها - أنها لَا تضر ولا تنفع ولا ينصرون أحدا، ولا ينصرون أنفسهم، والله تعالى غالب على كل شيء ينفع ويضر وينصر من ينصره، إنهم لو كانت لهم عقول ما أشركوا مع الله أحدا أو شيئا من هذه الأوثان أو غيرها.
وكل مقدمات هذه الفارقات ثابتة بالبداهة لله جلت قدرته، والأوثان ثابت كل ما سلب عنهم. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74).(6/3032)
وقد كان إبراهيم - عليه السلام - يقول لأبيه: (. .، يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا)، وجاء إبراهيم وكسر الأوثان جذاذا إلا كبيرا لهم فلم يستطيعوا نصرا، قال تعالى في ذلك: (فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعونَ).(6/3033)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
أي إن هذه الأصنام فوق أنها لَا تضر ولا تنفع، ولا تنصر أحدا، ولا ينصرون أنفسهم إذا رامها عدوها السوء لَا تجيب نداء، ولا ترد دعاء، ولذا قال تعالى:
(وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ) وهذا لَا يخلو من تهكم، لأن الأحجار لَا تعقل ولا تدرك، فلا يتصور منها ضلال أو هداية، إنما ذلك لصاحب العقل الذي يرشد أو يضل، وأصل العقل ليس قائما فيهم.
وإنه سواء عليكم أقلتم أم لم تقولوا فهم لَا يسمعون قولا، ولا يردون قولا، ولذا قال تعالى: (سَوَاءٌ عَلَيكُمْ أَدَعَوْتموهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ).
أي أنه يستوي دعوتهم بألسنتكم أم صمتكم عنهم، وعبر في الجملة الأولى بالفعل الماضي (أَدَعَوْتُموهُمْ)، وعبر عن العادلة الثانية بالجملة الاسمية (أَنتُمْ صَامِتُونَ)، لأن الأصل هو الصمت، ولأن الصمت أولى؛ لأنه هو الجدير بالأخذ في هذا المقام، إذ القول لغو، وصون اللسان عن اللغو أولى، ولأن الأوثان غير جديرة لأنها أحجار، والخطاب شأن العقول.
ساق كتاب السير والصحاح أنه روي أن معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ ابن جبل - رضي الله عنهما - وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله المدينة، فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ليعتبر قومهما بذلك، ولم يؤثروا لأنفسهم، فكان لعمرو بن الجموح - وكان سيدا في قومه - صنم يعبده، ويطيبه، فكانا يجيئان في الليل، فينكسانه على رأسه ويلطخانه(6/3033)
بالعذرة فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنعا به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا، ويقول له: انتصر، ثم يعود لمثل ما صنعوا، ويعود لمثل صنيعه أيضا حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت ودلياه في حبل في بئر هناك، فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل، وقال:
تالله لو كنت إلها مُسْتَدَنْ ... لم تك والكلب جميعا في قَرَن
هذه صورة من صور الوثنية.
ولقد أدرك عمرو بن الجموح الدين الحق فأسلم وحسن إسلامه واستشهد يوم أحد.
تدرج الله تعالى مستنكرا لعبادتهم من أدنى حال متصورة لهم إلى أعلاها، فذكر أنها أحجار لَا تضر ولا تنفع ولا تستطيع لأحد نصرا ولا تنصر نفسها، ثم صور لهم أنها تُنادَى فلا تجيب لأنها لَا حياة فيها، إنما يجيب النداء للأحياء ولو كانت تنعق، ثم تدرج إلى تصور أنها من الأحياء، فإنها لَا تستجيب للدعاء، فقال تعالت كلماته:(6/3034)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)
(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194)
الخطاب للمشركين من أول الحديث في عبادتهم الأوثان، والله - سبحانه وتعالى - يتدرج في تصويره لما يعبدون من أحجار لَا تنفع ولا تضر ولا تسمع، وليس فيها حياة إلى فرض أن فيها حياة، وفي هذا الفرض البعيد لَا يعلون عليكم معشر المشركين، بل ينهدون إلى أن يكونوا عبادا مثلكم والمعبود يجب أن يكون أعلى منكم لتسجدوا له، فكيف تعبدون مثلكم، ولماذا تختارونه للعبادة وهو على أكثر تقدير له - مثلكم؟!.(6/3034)
والحق أنه دونكم لأنه أصم لَا يسمع، أبكم لَا يتكلم، قد محيت منه آية الإبصار فلا يرى. ولقد تحداهم أن يدعوهم، فإن استجابوا كان لكم أن تدعوا ما تدعون زورا وربما تعدون في العقول، ولذا قال تعالى: (فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) دعواكم الألوهية. والأمر للتحدي أو للتعجيز لَا للطلب ولا الإباحة.
وهنا ملاحظات بيانية:
الأولى - أنه سبحانه وتعالى قال عن الأحجار: (عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) وكيف يقال إنها عباد، وكيف يقال: إنها مثل المشركين، وكيف يتحدث عنها كأنها جمع مذكر سالم؟. والجواب عن هذا أن الواضح هو بيان مثليتها في أنها مخلوقة مثلهم، وعلى الأقل هي متماثلة مع المشركين في أنها خلق لله لَا تُعبد كما لا يعبدون، فكيف يعبدونها، وهذا القدر كاف لاستنكار عبادتها، وتسميتها عبادا من حيث إنها خاضعة لله، فلله يسجد طوعا أو كرها كل ما في السماء والأرض من أجرام.
والبعض يزعم أن للجماد روحًا (. . . وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ. . .). وعود الضمير عليها كضمير جمع العقل مجاراة لهم في تفكيرهم، إذ جعلوها من العقلاء فعبدوها.
الثانية - لام الأمر في قوله تعالى: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ) ما موضعها من القول؟ نقول: إن موضعها أنها لام الأمر، يطلب إليهم رب العزة أن يأمروهم ليستجيبوا، أي أن الأمر بالاستجابة ليس من الله تعالى، لأن الله تعالى لَا يطلب الاستجابة ممن لَا يجيب، بل الأمر يكون من غيره ممن يعبدها وليكون التعجيز والتحدي كاملا.
وبهذا التخريج يكون طلب الاستجابة من المشركين لَا من الله تعالى.(6/3035)
الثالثة - أن سياق القول يدل على أن الاستجابة غير ممكنة، ولذا كانوا غير صادقين، وبذلك ينتهي التحدي بالتعجيز والعجز، فعجزوا أن يثبتوا صدقهم.
ولقد بين الله من بعد ذلك أنها أدنى خلقا ممن يعبدونها فقال تعالى:
* * *
(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
* * *
إن الآية السابقة، ذكرت أنهم عباد أمثالهم، وقد خرجنا معناها على ذلك، ويكون قوله:(6/3036)
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)
(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا) وتكون الآية هنا تنزيلا لهم عن مقام المماثلة إلى ما دونها، فأنتم لكم أجسام مصورة، لكم أرجل تمشون بها، وأيد تبطشون بها ولكم آذان.
وأُنسينا عند الكلام في معاني الآية السابقة أن نذكر قراءة (إنْ) بالتخفيف بمعنى النفي، ويكون المعنى: " ليس الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم " فتكون لنفي المماثلة بينهم، بل إن المشركين في الخلق والتكوين أكمل وأعلى فكيف يعبد الأعلى من هو أدنى منه مقاما، وأقرب منه إلى الإكرام. ويكون قوله تعالى: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا)، الآية بيانا لهذه الأفضلية، ومنع المماثلة. وأن قوله تعالى: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ(6/3036)
آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) الاستفهام كله للإنكار بمعنى نفي الوقوع، أي ليست لهم أرجل، ولا أيد، ولا آذان. وجاء النفي بصيغة الاستفهام لتأكيده بالدعوة إلى الالتفات لهم، ثم الحكم ينفي هذه الجوارح عنهم، ومن عنده هذه الجوارح أكمل بلا ريب في الخلق والتكون والآخر أدنى منه.
وقد ذكر المشي بالنسبة للرجل، والبطش بالنسبة لليد، والسماع بالنسبة للأذن مع أنه إذا انتفى وجود الرجل انتفى المشي لَا محالة، وكذا السمع واليد، فلماذا ذكرت هذه الصفات مع أن نفي الأصل ينفيها، ذكرت للدلالة على قوة العابدين لهم، وضعف هذه المعبودات، فكيف يعبد القوي الضعيف، وكيف يعبد القادر غير القادر، وكيف يعبد من أوتي الحركة الجماد الذي لَا يتحرك، ولا يستطيع أن يدفع الباطش به أن يبطش.
ومع هذا الضعف الدال على الزراية بمن يعبدونها، كانوا يخوفون النبي - صلى الله عليه وسلم -
منهم، كما خوف من قبل قوم نوح وعاد وثمود أنبياءهم. فقد قال تعالى عن هود إذ هددوا عاد: (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56).
كانوا يخوفون النبي - صلى الله عليه وسلم - منها، كما كانوا هم يخافون، ولقد تحداهم الله تعالى أن ينزلوا هم وأوثانهم بالنبي ما يخوفون فيكون ذلك بيان لعجزهم؛ ولذا قال تعالى: (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنظِرونِ).
إن كنتم تخافونهم، وتخوفون محمدا فقل يا محمد: ادعوا شركاءكم، أي من جعلتموهم شركاء لله، فالإضافة لأدنى ملابسة، أي الشركاء الذي هم شركاء في زعمكم أي هم شركاء في زعمكم أنتم (ثُمَّ كِيدُونِ)، أي دبروا لي وأعلنوا الحرب، وقد يطلق الكيد ويراد به الحرب. تقول كتب السيرة في بعض سرايا النبي - صلى الله عليه وسلم -(6/3037)
(عادوا ولم يلقوا كيدا) (1)، أي حربا. والمعنى أعلنوها حربا مدبرة (فَلا تُنظِرونِ)، أي لَا تؤجلوني لحظة من زمان، هذا تحد أمر الله تعالى به نبيه، وبيان لضعف ما يعبدون - وإنما هي الأوهام، ووساوس الشيطان هي التي تفرض فيهم قوة، وما هم بشيء فضلا عن أن يخوَّف عاقل مدرك بهم.
ولئن كانت لهذه الأصنام قوة، أو لكم أنتم معشر العابدين لها - قوة، فقوتكم من الشيطان وهو وليكم والله ولي المؤمنين، وأين أولياء الشيطان من أولياء الله؛ ولذا قال تعالى:(6/3038)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
(إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)
(إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ) الولي هو الحبيب الموالي، والنصير، والمظل بالرعاية، وكل هذا يتضمنه ولاية الله لنبيه فهو حبيبه وناصره، ومن يعيش في ظله، ومن يفيض عليه برحمته وهدايته، ومن يكون الله تعالى وليه لَا يضار، ومن يرومه رد عليه. وقد أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - ولايته لله بالجملة الاسمية، و " إنَّ " المؤكدة. والكلام يفيد القصر، أي إن ولايتي لله تعالى وحده، لَا ولاية لأحد سواه، هنالك الولاية لله الحق، وإنه نعم المولى ونعم النصير.
وقد ذكر بعد ذلك أن الله تعالى هو منزل القرآن، وهو جدير بأن يحفظه كما وعد، وكما ذكر، وأن يؤيد من بلَّغه رحمة للعالمين، فقال تعالى: (الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ) وصلة الموصول علة في الحكم أو مؤكد لمعنى القول، أي أن الله تعالى ناصر محمدا - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه صاحب الولاية المطلقة؛ ولأنه رسوله، وصاحب الكتاب المبين الذي يماري فيه الضالون، فالله ناصره.
وأمر ثالث يوجب عون الله تعالى، ونصرته، وهو أن الله تعالى من شأنه أن يتولى الصالحين، أي يتعهدهم برعايته وتأييده وتوفيقه، ولا يتولى المفسدين.(6/3038)
وفى هذا الكلام إشارتان بيانيتان:
إحداهما - الحكم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه من الصالحين الذين يصلحون في الأرض ولا يفسدون، وأن عبدة الأوثان مفسدون، قد أفسدوا في تفكيرهم وفي اعتقادهم، وأفسدوا وأضلوا باتباعهم الأوهام، وبعبادتهم من لَا ينفع ولا يضر.
والثانية - أن الله تعالى ناصر الصالحَ على الفاسد، ويتولى الصالحين برعايته، وأنه - سبحانه وتعالى - لن يضيعهم أبدا، وأن النصر في النهاية للفضيلة لا للرذيلة، وللحق لَا للباطل، وهو يتولى عبادة المخلصين دائما.
وإذا كان الله ناصر المؤمنين، فالشيطان ولي الكافرين؛ ولذا قال تعالى:(6/3039)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197)
(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ) الخطاب للمشركين، وقد ذكر معناه آنفا، وكرر القول فيه لبيان الحق الذي ينكرونه، ولتثبيت القول في نفوسهم، ليخرج منها الوهم، فإن القول إذا قيل فتح خطأ في النفس، فإذا تكرر عمقه، ولا يزال يتعمق حتى يستكن فيها، فإذا كتب الله تعالى له الهداية استرشد، وعلم أنها أوهام، وإن لم يهتد فمآله الضلال. إن الأوثان لَا تضر ولا تنفع فلا تستطيع نفعا، ولا تنصر نفسها. ثم قال الله تعالى:(6/3039)
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
(وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، والمتحدث عنهم المشركون فإنهم مع هذه البراهين ومع هذه الأدلة الحسية التي تفيد أنها لَا تضر ولا تنفع، وأنها دون من يعبدها حسا ومشاهدة، وأنهم لَا ينصرون أحدا ولا ينصرون أنفسهم، مع كل هذا عاكفون على أصنامهم يعبدونها، وإذا سمعوا دعوة الحق أعرضوا عنها، ولذا قال تعالى: (وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا) أي لَا يسمعوا سماع وعي وإدراك وتأمل، بل هم معرضون، وشبهت حالهم في عدم تدبر القول، وتعرف ما فيه بعدم السماع، باعتبار أن سماعهم الحسي لَا جدوى فيه، إذ لَا يتدبرون، بل على(6/3039)
قلوبهم أقفالها، وصور - سبحانه وتعالى - حالهم فقال عز من قائل: (وَتَرَاهُمْ يَنظُرونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)، أي أنهم بعد أن يستمعوا إلى الهدى مشدوهين متحيرين، يأخذهم نور الحق حيث يفكرون ويتدبرون ولكن لَا يلبثون أن يغلبهم التقليد وزيف الباطل، فيترددون وتصيبهم حيرة بين ماضٍ ألفوه، وحق بزغ نوره فغلب ضياؤه فعميت أعينهم عن أن ترى.
وقد صور الله - سبحانه وتعالى - بهذه الجملة السامية (وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)، أي تراهم ينظرون إليك، وما تدلي به من بينات باهرة، وأمارات للحق ظاهرة، (وَهُمْ لَا يبْصِرونَ) أي إبصار تأمل وتدبر في آياته، فهم المبصرون الذي لَا يرون، والناظرون الذين لَا يعرفون ما ينظرون إليه، فهم في حيرة أدت إلى ضلالهم.
وهذا استعارة تمثيلية، فقد شبهت حالهم التي يلوح لهم فيها الحق ولا يعرفونه، ويبرق لهم النور ولا يعرفونه، بحال الذين ينظرون ولايبصرون، لأنها رؤية لَا ترى الحق ولا تضع أيديهم عليه، فهم في ضلال مبين، والله - سبحانه وتعالى - يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
* * *
الدعوة إلى الله
(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا(6/3040)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)
قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
* * *
بعد أن بين الله - سبحانه وتعالى - أن البراهين العقلية لَا تجدي معهم، وأن الأدلة الحسية لَا ترشدهم، وأنهم في الغي يعمهون فيه - أمر الله تعالى نبيه أن يستمر في دعوة الحق في رفق، وحكمة، وأن يبين مكارم الشريعة في ذاتها، فإنها بما فيها من صلاح ودفع فساد، وهداية داعية لنفسها من غير برهان ولا دليل، مع التأليف (1)، كما قال تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. . .)، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: " تآلفوا النفوس " (2). والآيات الكريمة تبين:
أولا - جماع مكارم الأخلاق في قوله تعالى:
(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
________
(1) أي مع تأليف القلوب بالمال والخلق الحسن.
(2) انظر كنز العمال: ج 4، ص 49 (10158).(6/3041)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
وثانيا - تبين علاج النفس إذا عراها نزغ الشيطان وفساده بالغضب أو الجهل والحمق، وهو الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وذلك بقوله تعالى:
(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
فالالتجاء إلى الله في أزمات النفس فيه النجاة، كالالتجاء إليه سبحانه في الكروب.(6/3041)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
وثالثا - أن ذكر الله تعالى يبصر القلب بعماه إذا ضل، وما ضل الذين ضلوا إلا بتركهم لذكر الله، وقد بين ذلك بقوله تعالى:
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)(6/3041)
وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
ورابعا - وتبين أن عدوى الشر تجيء من إخوان السوء، وهم الذي يمدون في الغي ويجعلون الضال يسير شاردًا عن هداه. وقد بين - سبحانه وتعالى - ذلك بقوله:
(وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدونَهُمْ فِي الْغَي ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ).(6/3042)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
وخامسا - أن ضلال الضالين إنما يكون بإغوائهم بطلب آيات يريدونها ويريدون أن يجتبيها لهم، ومصداق هذا قوله تعالى:
(وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203).
هذه آيات بينات وهي تكشف معانيها من غير تبيين مبين، ولا تفسير مفسر، فهي كتاب مبين واضح، ولكن ما نذكر من بيان ليس تفسيرا، إنما ذكر لنسق القرآن الحكيم، وضرب في ناحية من إعجازه الذي لَا تتطاول إليه الأعناق، فهي تنهد إليه وتتسامى ولا تسمو، وتحاول ولا تصل.
(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ).
العفو هو الزائد الميسَّر الذي يسهل أخذه، ويسهل إعطاؤه، ويسهل القيام به، فالنص داع لمن يعطي بأن يعطي السهل الذي يمكن المداومة عليه من غير ضيق وتبرم، كما قال تعالى: (. . . وَيَسْألُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ. . .)، ويقبل من الناس القليل، ولا يكلفهم ما لَا يطيقون من قول أو عمل، ويفعل اليسير من العبادات الذي يمكن المداومة عليه، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ " (1). وكان يقول - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يحب الديمة من الأعمال " (2). وإن العفو السهل اليسير يسهل المداومة عليه، والاستمرار في عمله، واقبل من الناس ما يسهل عليهم ولا تكلفهم شططا، واجعل العفو دائما شعارك، لَا تشتط في الطلب، ولا تعاسر الناس بل خذهم برفق؛ فإنك إن فعلت كسبت خيرهم، واجتنبت شرهم، وكنت أليفا مألوفا.
________
(1) متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها.
(2) سبق تخريجه.(6/3042)
هذا هو الأمر الأول، أما الثاني فهو قوله تعالى لنبيه: (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)، أي أمر بالأمر الحسن في ذاته الذي تألفه العقول، ويألفه الناس، ويدركونه، وإن هذا يجمع كل ما أمرت به الشرائع الإلهية في معاملات الناس، وفي اجتماعهم، ولقد روينا في عدة مناسبات قول الأعرابي الذي سئل لماذا آمنت بمحمد فقال: ما رأيت محمدا يقول في أمر افعل، والعقل يقول لَا تفعل، وما رأيت محمدا يقول في أمر لَا تفعل، والعقل يقول افعل.
وإن هذا النص الكريم يدل قطعا على أن كل ما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - وجاء به القرآن أمر متفق مع ما تأتي به العقول، وما أمر به هو حسن في ذاته، وما نهى عنه قبيح في ذاته، وقال بعض العلماء: إن ما كان حسنا في ذاته فهو من أمر الله، وما كان قبيحا في العقل فقد نهى الله عنه.
وقد أسرف ناس على أنفسهم وعلى الله فظنوا أن ما يستحسنونه أو يقبحونه فلهم أن يمنعوه، وإن أباحه الله، ولهم أن يوجبوه، وإن منعه الله: (. . . كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5).
وقوله في الأمر الثالث: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) أي أهل الحمق والجهل، الذين لَا يهتدون بهدى، ولا يسمعون مرشدا، بل يعملون على إيذاء الداعي، ويستهزئون بالمرشد، وهؤلاء ليس لهم إلا أن يعرضوا عن هؤلاء، كقوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ. . .)، وكقوله تعالى: (. . . وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا).
ولما نزلت هذه الآية قال جبريل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك " (1)،
________
(1) رواه الحاكم في المستدرك: ج، 2، ص 563 برقم (3962).(6/3043)
وفى الحق إن هذه الآية جمعت محاسن الأخلاق وبينت محاسن الشريعة، وحكمت بين الناس (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
النزغ الإفساد، ومن ذلك قول الله تعالى على لسان يوسف - عليه السلام - مخاطبا أبويه: (. . . وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَن نَّزغً الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ. . .)، ويظهر لي من استعمال القرآن الكريم أن النزغ يكون إفساد ما بين من يجب الارتباط بهم بالمودة، وإسناد النزغ إلى الشيطان؛ لأنه يكون من وساوسه التي تكبر السيئات وتصغر الحسنات. وقد قالوا: إن النزغ والنغز والهمز والوسوسة بمعنى واحد، وقد قال تعالى: (وَقُل رَّبِّ أَعُوذ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ).
وإن العلاج من نزغات الشيطان هو الاتجاه إلى الله تعالى أن ينزع من النفس أضغانها، وهمزات الشيطان فيها ليرتاح نفسيا، وليكون خيرا للناس، ويفتح قلبه لهم، وينبسط بالسرور لِلِقائِهم. ومعنى استعذ بالله، أي اجعل الله تعالى معاذك وملجأك، فإن الالتجاء إليه مُطْمَأن النفوس، ومكان استقرارها، ومن علا إلى ملكوت الله تعالى أحس بعلو عن الضغن وحسك الصدر، وأحس بأنه رباني لا ينزل إلى موضع التحاسد والتباغض.
وقول تعالى: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ) فيه " إن " مدغمة في " ما " الدالة على توكيد ما بعدها. والمعنى إن ينزغنك بشدة وقوة نزغ مصدره الشيطان، فاستعذ بالله، ولأن (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ) فيها توكيد ألحقت به نون التوكيد الثقيلة، وكانت في معنى القسم، وقوله: (مِنَ الشَّيْطَانِ نَزغ) بتقديم الجار والمجرور يكون تأكيد أن النزغ من الشيطان وحده، فلا يكون إلا منه، وفي ذلك حض على مقاومته، والاستعانة على مقاومته، بكل ما يدفع شره، وفي ذكر أنه من الشيطان وحده بيان أنه شر مفسد ما بين الناس دائما.(6/3044)
وإذا كان الشيطان ينزغ دائما، فالمعاذ به هو الله، وهو وحده الفادر على دفع الشر؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)، أي هو وحده السميع العليم، وذلك يزكي معنى الالتجاء إليه - سبحانه وتعالى - وحده فهو (عَلِيمٌ) بما نخفي النفوس، وما تظهره الألسنة، وهو سميع أي عليم علم من يسمع ومن يبصر.
ومن كان له الصفات العليا فهو الجدير بأن يلجأ إليه لتطهير النفوس من أدرا نها.
وهذا النص كقوله نعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36).
ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنكم لَا تسعون الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق " (1).
(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)
إن المؤمنين الصادقين في إيمانهم لَا تتمكن منهم نوازغ الشيطان فيقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذكَّروا) ومعنى (اتَّقَوْا) جعلوا وقاية لأنفسهم من خوف الله والحرص على طاعته، بسبب ذلك (إِذَا مَسَّهُمْ)، أي إذا أصابهم إصابة تمس إحساسهم ومشاعرهم (طَائِفٌ منَ الشَّيْطَانِ)
________
(1) رواه الحاكم في المستدرك (432) ج 1، ص 212، ورواه أبو يعلى والبزار، وزاد: " وَحُسْنُ الخُلُقِ ". وانظر: مجمع الزوائد (27621).(6/3045)
وفى قراءة (طيف من الشيطان) أي غضب، أو خيال يمس الوجدان من الشيطان بأن همز الشيطان في نفوسهم فسرعان ما يستيقظ وجدانهم العامر بتقوى الله تعالى فيتذكرون الله ويرجون ثوابه، ويخافون عقابه سبحانه، فإذا غشاوة الشيطان تزول عنهم، ويرجعون إلى ربهم، وكما قال تعالى: (فَإِذَا هُم مُّبْصرُونَ).
والتعبير بالموصول يفيد أن الباعث على ذكر الله تعالى، وحضوره في القلب واستيلائه على الإحساس والشعور بالواجب أنشأته التقوى.
والطيف والطائف معناه الغضب، ومنهم من فسره بإلمامة الشيطان، ومنهم من فسره بالهم والذنب، ومنهم من فسره بالذنب.
وإن الطائف يحتمل كل ذلك، وربما يشملها جميعا، وهي من الشيطان.
وقد يكون طائفٌ من الرحمن كما في قصة أصحاب الجنة التي قال الله تعالى فيها: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20).
فالطائف يطوف من الشيطان بالغضب أو الذنب، أو الهم بالذنب، أو نحو ذلك.
ومعنى النص الكريم أن الذين اتقوا ربهم إذا هموا بالشر أو أرادوه سرعان ما يرجعون فيتوبون فيقبل الله تعالى منهم. وينطبق عليهم قول الله تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ. . .).
وإن أهل التقوى لَا يكونون بعيدين من ربهم، بل هم على مقربة منه، قلوبهم عامرة بذكره، فإن أصابتهم غمزة، فغفلوا، فسرعان ما يتنبهون، وسرعان ما يبصرون ويثوبون.
وقال تعالى في التعبير عن تنبههم للمعصية عندما تساورهم أسبابها: (فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) عبر أولا بالمفاجأة للناظر لحالهم، وطائف الشر يطوف بهم، فهو(6/3046)
يفاجأ بقطع السير إلى الرذيلة، والمفاجأة بأنهم يبصرون، والإبصار هنا هو يقظة الضمير وقوة الوجدان وسيطرة النفس على أهوائها، وشبهت هذه الحال بالبصر الدائم المستمر، الحارس على النفس أن تنفعل لداعي الشيطان، وعبر بقوله: (هُم مُّبْصِرُونَ) بالتعبير بالجملة الاسمية، للإشارة إلى دوام البصر بالحقائق بإدراكها، وتغلبها على الأهواء والمنازع.
هذه هي النفس من داخلها تدفع شرورها وتعالج أسقامها، وإن الذين يجعلونها في معركة مستمرة وهم الذين يقاومون الفطرة، حتى إبصار الضمائر المستيقظة، هم إخوان السوء، وعشراء الشر؛ ولذا قال - سبحانه وتعالى - بعد ذلك: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
أشار الله - تعالى - في الآية السابقة إلى ما في المؤمن التقي من حراسة على النفس من أن يتدلى إلى الشر تدليا، فإذا جاءها طائف تذكروا الله وعظمته، وآياته الباهرة، فيدركون بفطرتهم كما يدرك المبصر بنصره، فلا يتردى في معصية، ولا يصل إلى أقصاها.
ولكن لَا يكون العيب من ذات نفوسهم، بل يكون من إخوان السوء الذين يزينون له سوء الأفعال فيحسبها حسنة، ويكون ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا، فأولئك هم الذين يقاومون فطرة المؤمن ويحاولون طمس النور فيها، ويزيدونها سيرا في الغي إن سارت فيه، فبينما الحق يذكرهم، إخوان السوء يمدونهم في الغي، ولذا قال تعالى: (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَي).
الإخوان هم الذين يرتبطون معهم بصلة نسب، أو صلة مودة أو صلة جوار أو يتصلون بهم بأي صلة إنسانية (يَمدُّونَهُمْ)، أي يسيرون يمدونهم بكل أسباب الطغيان والعتو. ويقال مده في عمله وزينه له وحسنه، ولذا كانت قراءة الأكثرين بفتح الياء وضم الميم، (يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَي) والمد التزيين والتحسين والتشجيع، والغي هو الضلال والفساد، وكل ما يؤدي إلى الوقوع في مراتع الهوى.(6/3047)
وإنه توجد موازنة حكيمة، بين نفس متقية مؤمنة هدايتها من نفسها إذا جاءها الشر أو طائف منه قاومته بذكر الله وبصيرة المؤمن، وبصبر الإيمان.
والنفس الأخرى نفس شقية أغواها السوء، فلما طاف عليها طائف الشر، زينته وأغرى النفس إخوان السوء وزينوه وحسنوه، فأصرت على طائف الشر بتزيينهم، وتشجيعهم ومدهم، فهم في طغيانهم يعمهون وأن يستمروا على تحسين الشر، ولا ينهون تحسينهم وتزيينهم. فهم في غمرة من الشر لَا تنتهي، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ) أقصر معناها أنهى، و (ثُمَّ) هنا للدلالة على تَراخي الزمن واستمراره، فهي في موضعها، والمعنى ثم بعد استمرارهم في غيهم وضلالهم (لا يُقْصِرُونَ)، أي لَا ينتهون بل دائمون.
وهكذا الشر يستمر مع مقاومة الفطرة باستمرار دعاة الغي وأنصاره، وكان مدهم وتزيينهم مستمرا يغذي شجرة الشر، كما يغذي الماء القذر النبات الخبيث الذي لَا يكون إلا نكدا.
فالشر يتغذى بدعاة الشر، وينمو ويغلظ سوقه بهم، والفساد لَا يستشري في جماعة ويعمها بالشر إلا بالبيئة الفاسدة وبالرأي العام الفاسد المرذول، فإخوان السوء يمدون بالغي وسواء أكانوا آحادا، أم كانوا جماعات، وكلمة إخوانهم تنطبق عليهم.
وإن من يرد إصلاح جماعة لَا يصلح آحادها ابتداء إنما يصلح نية الإخوان الذين يسيطرون على جوها العام أولا، ثم يصلحون الآحاد، فيصلحون بالجولة الأولى.
وإنك إن علوت من رذائل الأفعال إلى فساد العقول، تجد إخوان السوء هم الذين يمدون في فساد العقول بعبادة الأوثان والكفر بالآيات؛ ولذا قال تعالى:
(وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)(6/3048)
الشيء الغائب معظم مذكور بالخير في زعم الذين يسيرون وراء الأوهام، ولا يحكمون الحقائق في ذاتها، فكل مستور تتوهم فيه الأوهام، وتحاط به، وكذلك كان إخوان السوء يجيئون إلى تضليل الناس من وراء ما يستتر عنهم، فالغيب عن الناس لم تجئ من ورائه إلا الأباطيل.
بين أيدي الناس معجزة باهرة قاهرة تحداهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأتوا بسورة فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة مفتراة فعجزوا، ومع ذلك طلبوا هم وإخوان الغي فيهم أن يأتيهم بآية غائبة لم تأتهم، فما دامت لم تأتهم فلها قدسية، فقال الله تعالى عنهم: (وَإِذَا لَمْ تَأتِهِم بِآية قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا).
أي إن الذي أغراهم بطلبها أنه لم يأت بهذه الآية، ولو سايرهم بمنطق تفكيرهم لتأدى بهم أنه إذا جاءتهم الآية وصارت حاضرة مهيأة بين أيديهم طلبوا آية أخرى وقالوا لولا اجتبيتها، وهكذا تتوالى الطلبات عبثا؛ لأن من لايؤمن لا يقنعه بشيء.
والأولى الوقوف عند حال معينة فاطمة للنفس، عن متطلباتها، والوقوف عندها. وقوله تعالى: (وَإِذَا لَمْ تَأتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا) لولا بمعنى هلا للحض على الإتيان باية معينة طلبوها بذاتها، (اجْتَبَيْتَهَا)، أي اخترتها، وهي آية حسية، وقد جاءت من قبلهم مثلها فكفروا، وإذا كانت الجملة شرطية فمؤداها أنهم مطالبون بما لم يأتهم آية بعد آية، وما هذا شأن المؤمنين، فالدليل إذا كان مقنعا، فهو كاف وحده.
ولقد أمر الله تعالى نبيه بأن يرد عليهم بقوله: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).
هذا هو الجواب الذي أمر الله تعالى به نبيه أن يجيبهم على الطلب الذي دفع إليه أوهامهم الباطلة وهو مكون من أجزاء ثلاثة:
الجزء الأول عبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقول: (قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي) وخلاصته أن الآية يختارها لي ربي لَا أبدى عليه، ولا أعين له، وقد قصر الآية(6/3049)
على ما يوحى به الله، وحصره بـ " إنما " أي ليس لي أن أقترح عليه آية لم يأت بها، وبين الدليل على وجوب الطاعة فيما اختار، فهو ربي الذي خلقني وأرسلني، وهو أعلم بما يصلح دليلا لرسالتي وما لَا يصلح، وهو وحده الذي يوحي إليَّ فليس لي أن أقترح عليه، وإن كفرتم بآياته فقد كفرتم به، وفي هذا الجزء برهان صدق الآية التي تحداهم بها.
الجزء الثاني وصف الآيات. فقال تعالى: (هَذَا بَصَائِر مِن رَّبِّكُمْ) البصائر جمع بصيرة وأصلها من البصر وهي الرؤية والنظر ثم الإدرك والفهم ثم أطلقت على ما يؤدي إلى الإدراك أو هو آلته، فإطلاق البصائر على الآيات من قبيل المجاز؛ لأنها سبب إدراك الحقائق الربانية، والسبيل إلى معرفة الله تعالى وقدرته، ورسالاته الإلهية، فهي من قبيل إطلاق اسم السبب، وإرادة المسبب، وهو إبصار الحقائق الربانية، ومعرفتها.
وإذا كانت هي بصائر آتية من قبل الله تعالى فهو الذي يجتبيها ويختارها، ويريدها، وهي من ربكم الذي خلقكم وبرأكم، وهو أعلم بمن خلق ورلت وبرأ وهو اللطيف الخبير.
والجزء الثالث قاله تعالى في وصف هذه الآيات، وهو الذي قاله بقوله تعالى: (وهُدًى وَرَحْمَةٌ لقَوْم يُؤْمِنُونَ).
هذان وصفان وصف الله تعالى آياته، وأخصها القرآن، ففيه أمران جليلان ذا شأن في الرسالات الإلهية:
أولهما - فيه هدى يهدي إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، فهو يبين الهدى من الضلالة، والنور من الظلمات بما اشتمل عليه، وبدلالته الذاتية، وبإعجازه، وبأنه يهدي إلى الطيب من القول، ويهدي إلى الصراط الحميد.(6/3050)
وثانيهما - أن فيه الرحمة بما اشتمل عليه من شريعة حكيمة تصلح أمور الناس، وتذهب عنها الفساد، فهي بما شرعت من النظم في الأسرة، ومعاملات بين الناس، ومنع لأكل أموالهم بينهم بالباطل.
وإن هذه الهداية وتلك الرحمة لقوم من شأنهم الإيمان؛ ولذا قال تعالى: (لِّقَوْمٍ يُؤْمِنونَ) فوصفهم بالجملة التي يتصدرها الفعل المضارع للدلالة على إيمانهم المستمر، المتجدد آنًا بعد آنٍ على وجه الدوام.
وذلك لأن شأن المؤمن أن يتجدد إيمانه، فيقوى بالعمل المستمر والمتجدد، فإن العمل الصالح يجدد الإيمان، فلو كان العمل فهو للإيمان كالماء العذب الفرات يغذي الإيمان كما يغذي الماء الزرع.
* * *
قراءة القرآن عبادة، وجزء من أكبر عبادة
(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
* * *
بين الله - سبحانه وتعالى - في الآية السابقة أن الآية التي تحدى بها العرب أن يأتوا بمثلها هي بصائر مبينة للناس الحقائق الدينية، ومثبتة لصدقها، وهي هدى ورحمة، وهي القرآن، ولا يمكن أن ينتفع بها بعد إعجازها بأن ينتفع بهدايتها ورحمتها إلا إذا قاموا بحقها عند قراءتها بالاستماع إليها، والإنصات لها، وتدبر(6/3051)
ما جاء فيها من تكليف هو رحمة للعالمين، ومواعظ، وعبر وقصص في ذكر
الأولين؛ ولذا قال تعالى بعد ذلك:(6/3052)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
(وَإذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمعُوا لَهُ وَأَنصتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
القراءة للقرآن عبادة من القارئ؛ لأنه يتلو كلام الله تعالى، وأي منزلة في القربى إلى الله تعالى أعلى من أن يكون متحدثا بحديث الله فهو يتكلم بكلام خالق الوجود، وتجري على لسانه عباراته جل وعلا، ويرطب لسانه بأطيب كلام، فهو عبادة؛ ولذلك وجب أن يكون متطهرا من الجنابة ويحسن أن يكون على طهارة كاملة. إن قراءة القرآن سمو إلى المكان الأعلى والمقدس الأقدس لمن تدبر موقفه عند القراءة ومقامه.
والاستماع إلى القراءة عبادة، إذا استشعر بأن الله تعالى يخاطبه بالقرآن من أعلى الملكوت، وهو إن يستمع يناهد إلى مقام رب العزة فيستمع إليه، أكاد أرى أن هذا مقام طهر، لَا يستمع إليه من به نجاسة من جنابة وإذا كان الفقهاء لم يصرحوا بهذا فإني أراه مقتضى مقام الطهر لمستمع أطهر قول في الاستماع افتعل من السماع أي طلب سماعه، والإقبال عليه، وتلقيه بقوة وتقبله وتقبل معانيه؛ ولذا قال بعض المفسرين: إن الاستماع هو تدبر المعاني، والاستبصار بها، وإدراك مراميها ومغازيها، فليس المراد مجرد السماع، بل السمع في تدبر وتفهم وتذكر واعتبار.
وقال تعالى: (فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) الإنصات معناه السكوت للاستماع والمراعاة، والإصغاء، فمعنى (أَنصِتُوا)، أي هيئوا أنفسكم للاستماع وأعدوها وراعوا ما تسمعون، وكان الإصغاء تقدمه للاستماع، بأن يفرغ النفس له، ويقدم عليه، كأنه مقدم علمي صاحب الكلام، وهو رب العالمين، ألم تر الناس وهم يقدمون على استماع كلام عظيم من عظماء الأرض في سلطانه، يستعدون وينصتون فكيف بكلام مالك الملك ذي الجلال والإكرام والإنعام.(6/3052)
القرآن قراءته عبادة، والاستماع إليه مع التدبر والتأمل وتعرف أسراره عبادة، وهو جزء من أكبر عبادة (وهى الصلاة)؛ ولذا قال تعالى: (. . . فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ. . .). وقال بعض العلماء: إن قوله تعالى: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا) نزلت للقراءة في الصلاة.
ونقول: إنها عامة، ولو نزلت في مقام خاص؛ لأن الأصوليين يقولون العبرة بعموم اللفظ لَا بخصوص السبب.
ولقد قال تعالى في ختام هذه الآية الكريمة: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، أي رجاء أن ترحموا بطلبكم للقرآن، وتدبر آياته والإنصات إليه، والأخذ بتكليفاته، ومواعظه، فهو رحمة، ومنه الرحمة، وهو نور وبرهان.
والرجاء من العباد والله تعالى يعاملهم معاملة من يرجو وهو القادر العليم.
وإذا كان تدبر القرآن والاستماع إليه وتلاوته رحمة، فذكر الله تعالى هو أصل الرحمة، فقال:(6/3053)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
(وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205)
القرآن هو الذكر الحكيم، وهو الذكر الأكبر، وهو خير أوراد المؤمنين؛ ولذلك بعد الأمر بالقراءة والاستماع إليه مع الإنصات رجاء الرحمة أمر - سبحانه وتعالى - بدوام الذكر لله تعالى، بأن يكون الله تعالى حاضرا في نفسه أطراف الليل وآناء النهار لَا يغفل عن ذكره - سبحانه وتعالى - وأن يكون حاضرا في قلبه فى كل وقت يعمر قلبه، ويملأ نفسه؛ ولذا قال تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
فالذكر يبتدئ بامتلاء النفس بالله يعمر قلبه دائما، وأن تكون في حال تضرع وتذلل لله تعالى، فالذلة لله تعالى هي عين العزة، والتكبر في حق الله تعالى هو عين الذلة، وإن كان لَا يشعر؛ لأن من ذَلَّ لله استعلى على الناس بأمر الله تعالى، ومن تعالى على جانب الله استعان بأحط الناس قدرا فكان ذليلا، وسبحان من له العزة والكبرياء في السماوات والأرض.(6/3053)
وذكر الله تعالى يكون في حال خوف من عقابه؛ ولذا قال تعالى: (وَخِيفَةً)، أي حال خوف فإن الخوف من الله يطهر النفس، ويجعلها لا تستحسن ما تقدم، بل تستصغر ما تقدم وتطلب المزيد من الخير فترضي الله تعالى أو تنال رضوانه، وهو أكبر جزاء، وإن الخوف يوجب استصغار شأن العبيد، ومن عز عند الله كانت له العزة، ومن عز عند العبيد كانت له الذلة، ومن خاف من الله لَا يخاف الناس.
وإن الذكر لله الأصل فيه القلب، ولكن يكون مع القلب ذكر اللسان، بحيث لَا يسمع إلا نفسه؛ ولذا يقول تعالى في حال الذاكر لله: (وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ).
وإن الله - سبحانه - حد النطق باللسان فجعله دون الجهر من القول، أي لا يرفعه جاهرا، ولا يخفضه خافتا ولكن لَا بد من ذكر اللسان؛ لأن ذكر اللسان، يسد منافذ الشيطان، فحركة اللسان المقصودة تضبط النفس نحو ذكر الله تعالى: ويجعل ذكر النفس ثابتا، وعمرانها بالله قائما لَا يُنسى وحدَّ الله تعالى الوقت فقال: (بِالْغُدُوِّ) أي في غداة اليوم، (وَالآصَالِ)، وهي جمع " أصيل "، كـ " يمين " و " أيمان ". إن الذكر يكون وقت الغدو أي وقت الصفاء، والآصال أي وقت استرواح النفسر من عناء عمل الناس، وبعض العلماء يقول: إن تحديد هذين الوقتين لدوام الذكر آناء النهار وطرفا من الليل، أي يكون في ذكر دائم، ويقرب هذا قراءة " وبالإيصال " أي من الغدوة وأصلا الذكر دائما ما دام صاحيا.
وقد يقول قائل: كيف يكون وقت المعاش والقيام بالصناعات؛ نقول: يجب دوام ذكر الله تعالى وهو في عمله؛ لأن العمل عبادة والذكر عبادة ولا مانع من أن يجتمعا، فيكون عاملا عابدا، مجدا ذكر الله، وينطبق على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا الله " (1) فهو يعمل لينفع الناس ويقصد ذلك، وهذه عبادة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " خير الناس أنفعهم للناس " (2).
* * *
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.(6/3054)
(سُورَةُ الْأَنْفَالِ)
تمهيد
هذه السورة مدنية، وقالوا: إن سبع آيات منها مكية، وعباراتها السامية تنبئ عن أنها مكية، وهي تبتدئ من قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)، فإن هذه الآيات السبع مكية، تدل عليها عباراتها وزمانها، ولكن لأنها متصلة بالهجرة أضيفت إلى سورة مدنية.
والأنفال سميت بأولها، وهو (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ)، فسميت بهذا الاسم، وإن هذه السورة تشتمل على أعمال من أجل ما قام في الإسلام، ففيها كان يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، وبهذا اللقاء كان الفرق بين عزة الحق وذلة الباطل، وفيها تشريع الأنفال والغنائم، وفيها حكم الأسرى، ومتي يكون الأسر، وفيها إعداد العدة، وفيها الوفاء بالعهد، ومتى ينقض.
وقد ابتدئت السورة بذكر الأنفال، وما يؤخذ من الحرب، وبين الله تعالى أنها في الأصل لله تعالى ورسوله، ليقوى بها الجيش، ويتخذ منها العدة والأهبة، وكان ذلك إيذانا بما يجيء بعد ذلك من يوم الفرقان.
ابتدئت السورة بالإشارة إلى ما كان من تساؤل حول الأنفال، ثم تكلمت بعد ذلك عن الاستعداد للالتقاء يوم الفرقان، وكانت أول العدة طاعة الله ورسوله، وامتلاء القلوب بهيبة الله، وبيان أن المؤمنين المجاهدين إذا ذكر الله وجِلَت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، ويتوكلون على ربهم إذا أعدوا العدة، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وإنَّ ذكر الماضي وإرادة تغييره يكون(6/3055)
بالعمل والجهاد، وإنه يجب الصبر على فراق الأحبة، ومنع المجادلة في الحق، قال تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
ثم يملأ الله تعالى قلوب المؤمنين إيمانا وهو من عدة النصر، (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8).
ويبين من بعد ذلك الالتجاء إلى الله واستغاثئه فاستجاب بإمداد الملائكة الروحي الذي جعله الله تعالى بشرى لهم ولتطمئن قلوبهم.
ورزقهم الله الأمان فناموا، والنوم آمنين قوة، وأنزل الله تعالى من السماء ماءً ليطهرهم به، ويذهب عنهم رجس الشيطان، ويوحي رب العالمين إلى الملائكة أن يثبتوا الذين آمنوا فيثبتوهم، وألقى في قلوب الذين كفروا الرعب، وصار المؤمنون على استعداد للقتال يضربون فوق الأعناق، ويضربون منهم كل بنان؛ لأنهم عاندوا الله ورسوله وساقوه فليذوقوا ذلك البأس ومن بعد النار.
ثم يكون التحريض على القتال والثبات (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16).
وإنه بعد انتهاء المعركة التي كانت فيصل الحق بين قوة الإيمان والكفر، بيَّن الله أن ذلك كان بفضل الله للمؤمنين، وأنه هو الذي رد كيد الكافرين، ووهن تدبيرهم، وأنه سبحانه هو الذي جاء بالفتح وأمر من عنده، وأنه مع إرادة الله تعالى للنصر، لن تغني عنهم فئتهم من الله سبحانه، وإن ذلك من طاعة المؤمنين لله وسماعهم لأوامره، وأنهم لَا يقولون سمعنا وعصينا.
وقد بين الله بعد ذلك أن شر الدواب الذين آتاهم الله عقولا، فأصموا آذانهم عن الحق وتردَّوا في الباطل تردَّيا، وليعلموا أن الله هو المسيطر على القلوب(6/3056)
به يهتدون، ويتركهم إن ساروا في طريق الغواية فيضلون، وبين أن الفتن إن جاءت تعمّ ولا تخصّ، وأن أشد الفتن أن يخونوا الله ورسوله ويخونوا أماناتهم، وأن التقوى حصن القلوب، وهي فرقان ما بين الحق والباطل، وبها يفرق بينهما.
ويذكر الله تعالى بعد ذلك ما كان في آخر إقامتهم بمكة إذ يدبرون لمحمد حبسه أو قتله، أو يخرجوه، ويمكرون، والله سبحانه يدبر له أمر هجرته، (وَيَمْكُرونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّه خَيْر الْمَاكِرِينَ).
ويذكر بعض ما كان المشركون ينالون بالباطل من القرآن، وما تلبى به عداوتهم فيقولون مستهينين بالحق الذي يدعوهم الله تعالى إليه: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)، وذلك أبلغ التحدي والاستهانة بالحق فبدل أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه، يقولون متحدين (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، ولكن الله تعالى ما كان ليعذبهم والنبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم قائم بدعوته.
ثم يفرق الله تعالى بين المؤمنين الذين ينفقون في سبيل الله والكافرين الذين ينفقون ليصدوا عن سبيله، وأن مآلهم جهنم، ويفتح الله تعالى لهم باب الرجاء وأَلمغفرة إن ينتهوا، وإن نهاية القتال هو انتهاء الفتنة في الدين (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40).
في هذه السورة من أولها إلى هذه الآية، بيان القتال، وأن النصرة فيه بالتأييد من الله العزيز الحكيم والإيمان الصادق المستجلب لهذا التأييد، فهو قوة المسلمين، وضعف المشركين من كفرهم، وأنهم ينفقون ليصدوا عن سبيل الله تعالى.
بعد ذلك يتكلم الله تعالى في توزيع الغنائم، فيقول: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41).(6/3057)
ويبين الله مواقع القتال يوم بدر الذي انتهى بالنصر المؤزر، وإذ يربي الله تعالى قوة روح المؤمنين برؤية الأعداء في المنام قليلًا، (وَلَوْ أَرَاكهُمْ كثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ. . .) وإنه في رؤية العيان تستقلونهم لتتقدموا، ويستقلونكم لأنكم فعلا قلة، وذلك (لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا. .).
ويدعو الله تعالى إلى الثبات مكررا له؛ لأن الثبات في الصدمة الأولى هو قوة الصبر كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " (1).
ويدعو مع الثبات إلى ذكر الله تعالى؛ لأنه عدة الأتقياء، وينهى عن التنازع حتى لَا تذهب القوة، ولا يكن خروجكم بطرا بالمعيشة ورجاء الترف أو رئاء الناس فإن هذه هي مفاسد الجهاد، ولا يصح أن يزين الشيطان لكم ويركبكم ويقول لكم: (لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ. . -) وإذ التقى الجمعان قال إني بريء منكم.
وعندئذ يجد المنافقون سبيلًا إلى جموعكم، ويقولون: (غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ. .)، فاطرحوا الشيطان وغروره، وتوكلوا على الله، وإن الملائكة يضربون وجوه الكافرين وأدبارهم عند موتهم، وقد ضرب الله تعالى الأمثال بآل فرعون إذ أخذهم الله بذنوبهم، وإذ كذبوا، وإن الله تعالى: (لَمْ يَكُ مُغَيِرًا نِّعْمَة أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْم حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنفُسِهِمْ. .).
ومن بعد ذلك يعود إلى الجهاد، والوقوف أمام الأشرار وحربهم، والاستعانة بالعهد لمن يقدم عهدا، إن وفوا (وَإِمًا تَخَافَنَّ مِن قوْم خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ. .) وإنه يجب أن يكون المؤمنون على حذر واستعداد (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وأنه مع وجوب الاستعداد والإعداد، (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. .)
________
(1) متفق عليه، من حديث أنس بن مالك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد سبق تخريجه.(6/3058)
ولا تنس التحريض على القتال، فيتجمع العهد مع الوفاء، والاستعداد للسلم وللحرب معا، ولابد مع ذلك من تأليف قلوب المؤمنين، فإنه أقوى أسباب النصر، وإن القوة المعنوية مع ائتلاف القلوب تضاهي الألوف (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .). وإن أدُخل فيكم ضعف بوجود المنافقين فيكم، وضعاف الإيمان فإنه (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
وقد بين الله بعد ذلك وقت الأسر، وهو بعد الإثخان في الأرض، وعتب الله على نبيه والمؤمنين أن كان لهم أسرى وأخذوا فدية، فقال: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70). هذا إذا أرادوا، وإن يريدوا خيانة الرسول فقد خانوا الله من قبل.
وبعد ذلك بين الله تعالى ولاء المؤمنين فقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72).
وقد بين سبحانه أن الكافرين بعضهم أولياء بعض، فلا تربطنا بهم ولاية، وإلا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
وقد ذكر سبحانه بعد ذلك (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75).
هذه إشارات إلى ما اشتملت عليها سورة الأنفال، ولولا أنها سميت بذلك لقلنا إنها سورة من سور الجهاد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *(6/3059)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
* * *
قال تعالى:(6/3060)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) الأنفال: جمع نَفَل بفتح الفاء، وهو هنا الغنائم، وسميت أنفالا؛ لأن النفل هو الزيادة، لأنها ليست في مقابل، حتى تكون أجرة للمحارب كالمرتزقة من الجنود في هذا الزمان، وإنما أجر المجاهد عند ربه، وثوابه ورضوانه أعظم، فهي زيادة على ثواب الجهاد، وقد جعلت الغنائم من خواص الرسالة المحمدية.
ويطلق على الغنيمة، وقد يطلق على كل ما يؤخذ من العدو من غير قتال كالفيء، وقد يطلق على ما نفله النبي - صلى الله عليه وسلم - من خمس الله ورسوله لبعض المؤمنين، ومنه ما كان يعطي للمؤلفة قلوبهم، ومهما يكن ما يعطي من نفل غير ما يكون في الجهاد، فإن الظاهر المراد من الأنفال الغنائم التي غنمت في غزوة، فقد جاءت قريش بخيلها ورجلها، وكثير من مالها، فآل ذلك كله للمؤمنين المنتصرين، فأخذ كل من المجاهدين ما عده حقا له دون غيره، وثبت في الصحاح بعض الاختلاف، إذ لم يكن ثمة منهاج يتبع، ولم يكن لهم بهذه الغنائم في الإسلام مثال يحتذى، فيروي الإمام أحمد في مسنده عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا، فَالْتَقَى النَّاسُ فَهَزَمَ اللهُ الْعَدُوَّ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي آثَارِهِمْ يَهْزِمُونَ وَيَقْتُلُونَ، وَأَكَبَّتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَسْكَرِ يَحْوُونَهُ وَيَجْمَعُونَهُ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصِيبُ(6/3060)
الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ، وَفَاءَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ: نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَجَمَعْنَاهَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ. وَقَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا نَحْنُ نَفَيْنَا عَنْهَا الْعَدُوَّ وَهَزَمْنَاهُمْ. وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا نَحْنُ أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخِفْنَا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً وَاشْتَغَلْنَا بِهِ، فَنَزَلَتْ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} (1)، ولقد حاول بعض المجاهدين أن يأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، فيروي الإمام أحمد عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قُتِلَ أَخِي عُمَيْرٌ، وَقَتَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، وَأَخَذْتُ سَيْفَهُ، وَكَانَ يُسَمَّى ذَا الْكَتِيفَةِ، فَأَتَيْتُ بِهِ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " اذْهَبْ فَاطْرَحْهُ فِي الْقَبَضِ " قَالَ: فَرَجَعْتُ وَبِي مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلا اللهُ مِنْ قَتْلِ أَخِي، وَأَخْذِ سَلَبِي، قَالَ: فَمَا جَاوَزْتُ إِلا يَسِيرًا حَتَّى نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْفَالِ " إلى آخر الآية " (2).
لم يكن بالمسلمين عهد بالغنائم ولا تقسيمها، فاختلفوا في ذلك، فأنزل الله تعالى أنها لله تعالى ورسوله يضعانها حيث تكون القسمة العادلة التي تجمع بين العدل والمصلحة، وقد أخذها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقسمها حيث أراه الله. وهل قسمها قسمة الغنائم المنصوص عليها في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) إلى آخر السورة!!
يرجح بعض الرواة أنه لم تكن نزلت آية الغنائم فقسمها النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المحاربين بالسوية، ورجح الحافظ ابن كثير أنه قسمها قسمة الغنائم في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ. . . . .).
________
(1) مسند أحمد: باقي مسند الأنصار - حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه (22256).
(2) رواه أحمد: مسند العشرة المبشرين - مسند أبي إسحاق سعد بن أبي وقاص (1559)، كما رواه مسلم: السير والجهاد (1748).(6/3061)
واستأنس لذلك بما روي عن علي - كرم الله وجهه - أنه كانت له شارفتان أخذهما من الخمس؛ بمقتضى الآية الكريمة.
ولقد قال الزمخشري: إن من الخلاف في الأنفال، أن المهاجرين طلبوها دون الأنصار؛ لأنها بدل عما اغتصب من أموالهم عند الهجرة، ولكن ذلك لَا سند له من الرواية، فلعله قياس قاسه الزمخشري، ولعل عنده رواية ولم يذكر نقلها.
بعد الإجابة عن التساؤل عن الأنفال، وكانت بادرة خلاف، وإن كان قد حسمه الإيمان والجهاد واحتساب النية لله، وأن الأمر آل إلى أعدل العادلين وأحكم الحاكمين.
ولكن الله تعالى دعا إلى الادراع بالتقوى، حتى يسد منافذ الخلاف ومثارات الشيطان فقال آمرا بكل ما يقضى على الخلاف في موطنه، فقال تعالى:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
أمرهم سبحانه بأمور أربعة وقاية من النزاع، وإبقاء للمودة:
أولها - التقوى، فإن القلوب إذا امتلأت بالتقوى لم يكن للشيطان منفذ، ولم يكن للخلاف موضع، و (الفاء) في قوله تعالى: (فَاتَقُوا اللَّهَ) فاء الإفصاح؛ لأن المعنى إذا كان الأمر في القسمة لله ورسوله، ففرغوا أنفسكم لتقوى الله، ولا تشغلوا أنفسكم بالمال وتقسيمه، فقسمة الله هي العدل والمصلحة معا، وهي العدل والحق والنظام.
وثانيها - في قوله تعالى: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكمْ) وهي الأمر الذي يربطكم، فليس المراد البين نفسه، إنما المراد ذات الرابط، وهو كما قلنا المودة الواصلة، ومعنى إصلاحه رعايته، وتعهده، بأن تكون المودة ملاحظة في كل ما يربطنا، فيكون الإيثار بدل الأثرة، والمحبة الموصولة بدل الحرص المفرق.
الأمر الثالث والرابع - طاعة الله ورسوله بألا تجعلوا لأنفسكم إرادة بجوار إرادة الله، وأن تجعلوا الله ملء أسماعكم، وطاعة رسوله هي سنة حياتكم.(6/3062)
وقد بين سبحانه أن ملاحظة هذه الأمور هي نور الإيمان وموجبته، ولا إيمان إلا كانت معه هذه الأمور؛ ولذا قال تعالى: (إن كنتُم مُّؤْمِنِينَ) أي إن كان الإيمان حالة نفسية ملازمة لكم.
وقد قال الزمخشري: " جعل التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله من لوازم الإيمان وموجباته؛ ليعلم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها ".
وبعد أن ذكر المؤمنين الكاملين أخذ سبحانه وتعالى يبين صفاتهم فقال تعالى:
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
ذكر الله بعد أن ذكر موجبات الإيمان من إصلاح ذات البين والتقوى والطاعة ذكر سبحانه صفات المؤمنين، فذكر صفتين معينتين، وعملين تدفع إليهما قوة الإيمان.
أول الأمرين الأولين - ذكره الله تعالى بقوله تعالت كلماته:(6/3063)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)
(الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ)، الوجل الخوف منه والفزع إليه، فالله سبحانه هو مالك الوجود من استحضر عظمته وجلاله وكبرياءه وملكوته خافه وفزع إليه في الملمات، وركن إليه مطمئنا إلى ساحته العظمى، فهو المخوف المحبوب المرجو في الملمات؛ ولذا جاءت هذه الآية تقول: إن القلوب توجل لذكره، أي ترهبه وتحس بعظمته، وتعتمد عليه وحده، وتطمئن بالالتجاء إليه، كمن يخاف رجلا عظيما، فيرهب قوته، وفي الوقت ذاته يطمئن إليه؛ ولذلك قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، فهو المخوف الذي يركن إليه.
وقال تعالى جامعا بين وجل المؤِمن واطمئنانه: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ).(6/3063)
وثاني الأمرين - (وَإذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا) أي إذا قرئت عليهم الآيات القرآنية زادتهم إيمانا، فكل آية فيها نور مبين، والإيمان استضاءة بالنور، فكلما تعددت مشارق النور عم الضياء وازداد النظر إبصارا، كذلك آيات الله تعالى، كلما تليت عليهم آيه أضاءت القلب وازداد نور الإيمان فازداد إيمانًا، فزيادة الإيمان بزيادة الدليل وكثرته، وكل آية تقوى ناحية من نواحي الإيمان، (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124).
وهناك مسألة تثار، وهي زيادة الإيمان ونقصه، ونحن ممن يقولون إن الإيمان يزيد بتضافر الأدلة، وكثرة الآيات الموحية، فإنها تقويه وتثبته، وتزيل الريب والشبهات، وليست زيادة الإيمان إلا قوته ودعمه بالأدلة، وكل آية في القرآن دليل قائم بذاته.
وهناك أمر ثالث يتعلق بالأمرين السابقين، وهو التوكل؛ ولذا قال تعالى: (وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوكلُونَ) التوكل على الله تعالى حق توكله يتحقق بعد اتخاذ الأسباب في ثلاثة أمور:
أولها - أن يحس بأنه مهما يكمل إعداد أمره فإنه لَا ينتج ثمرته إلا بإرادة الله تعالى، فمن يظن أن الأسباب وحدها تنتج الأثر فقد ضل؛ لأنه توهم أنه يؤثر في الإيجاد، وذلك وَهْم يفسد العقول.
ثانيها - أنه يفوض أموره لله تعالى وحده.
ثالثها - ألا يعتمد على أحد سواه؛ ولذا قال تعالى: (وعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) فقدم الجار والمجرور على الفعل أي لَا يتوكلون على أحد سواه، وبهذا يكون التوكل عبادة من العبادات.
هذه الأحوال النفسية للمؤمن، أما الأمور للعملية المدفوعة بأمور نفسية فهي إقامة الصلاة والإنفاق مما رزق الله تعالى:
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)(6/3064)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
وهاتان صفتان أو عملان لهما مظهر عملي، ولهما مظهر نفسي إيجابي: أولاهما - إقامة الصلاة؛ أي الإتيان بها مقومة على وجهها من أداء الأركان الحسية مستوفاة، وأن تكون مصورة للمعاني الروحية من خضوع وخشوع، واستحضار لصفات الربوبية بأن يكون قائما بحق الله فيها كأنه يراه، مستشعرا الإحساس بأنه في حضرة الله تعالى جل جلاله، وبذلك تتحقق للصلاة خاصيتها، وهي أنها تجانب المرء من فعل السوء، كما قال: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ. . .)، فليست الصلاة نقر كنقر الديكة، ولكنها تجرد لله تعالى، وانصراف، وقضاء وقت في حضرته.
والتعبير بالمضارع في قوله تعالى: (يقِيمُونَ الصَّلاةَ) يفيد المداومة عليها في أوقاتها من غير تخلف؛ لأن التعبير بالمضارع يفيد التجدد المستمر الدائم، والمحافظة عليها من غير انقطاع.
وإن الصلاة فريضة عملية مهذبة تجريدية لله سبحانه وتعالى، وهي فريضة اجتماعية، لتأليف مجتمع متحاب متواد مترابط بصلات من الرحمة والتعاون، يجمعه الإلف الروحي والطهر والإخلاص والالتقاء عند الله تعالى في كل يوم خمس مرات.
ومهما يكن فالأساس في أمر الصلاة أنها تهذيب روحي، وتأليف اجتماعي على الطهر، واجتماع على الألفة والمودة والرحمة. أما الزكاة فهي تعاون اجتماعي، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها مغنم لَا مغرم، لأنها تغني الفقراء، وتدفع الآفات الاجتماعية الناجمة عن الفقر، ولقد قال تعالى: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) أي أن الزكاة من رزق الله تعالى، لَا منَّ فيها، فالله هو المعطي وهو المنفق وهو الآمر وهو المكلف، فتقديم الجار والمجرور، لبيان الاختصاص أو القصر، أي أن الإنفاق مما أعطاه الله دون غيره، وفيه من الاهتمام بأنه من رزق الله الذي رزقه للأغنياء ليعطوا منه للفقراء، فالمال مال الله، والجميع عباد الله، فهو يأخذ من مال الله ويعطي عباد الله. وإن الله اختبر بعض الناس بالمال وجعلهم مستخلفين، كما(6/3065)
قال تعالى في آية أخرى: (وَأَنفقُوا مِمَّا جَعَلَكم مُسْتَخْلَفِينَ فِيه) وأمرهم بالعطاء، واختبر بعض الناس بالفقر، وأمرهم بالصبر والعمل واحتمال البلاء.
ولقد حكم الله تعالى للمؤمنين الذين وجلت قلوبهم عند ذكر الله، والذين يزداد إيمانهم إذا تليت آيات الله تعالى، والذين بعد إحكام العمل، لَا يتوكلون إلا على الله، حكم الله تعالى لهم بما كتب فقال:(6/3066)
أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
(أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
حكم الله تعالى لهم بأنهم المؤمنون حقا، أي إيمانا حقا صادقا ثابتا، وفي النص الكريم ما يدل على القصر، أي أنهم وحدهم دون غيرهم المقصور عليهم وصف الإيمان، أي لَا مؤمن على وجه الكمال غيرهم، وهذه شهادة من الله تعالى بانفرادهم بكمال الإيمان، وكفى بالله شهيدًا.
وقد وصفهم الله تعالى بثلاثة أوصاف هي صفات الكمال للمؤمنين:
أولها - أن لهم عند الله درجات، والدرجات لَا تذكر إلا للدرجات العليا، ومعنى (لهُمْ دَرَجاتٌ)، أن السبق عند الله، وأنهم علوا على الناس بهذه الدرجات فهو بيان للتشريف كما نقول - ولكلام الله المنزلة - لفلان مكانة عندي فأي درجة أعلى من درجات عند الله.
الوصف الثاني - أن لهم مغفرة أي أنه غفار الذنوب وقابل التوب يغفر لهم وذلك تقريب من الله تعالى لهم، فإنه تعالى يتجاوز عن سيئاتهم إذا تابوا وأنابوا، وتلك منزلة مقربة، وتثبت أنهم قريبون منه تبارك وتعالى.
والثالثة - رزق كريم، والرزق عطاء الله تعالى، وهو رزقان: مادي ومعنوي، فأما المادي: فهو عطاء الله في الدنيا، بحيث يغنيه عن الناس لَا يجعل حاجته عند أحد، بل تكون حاجته عند الله، والمال نعمة لمن أحسن تحصيله، فلم ينله إلا من حلال، ولم ينفقه إلا في حلال، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد ورد أنه قال: " نعم المال الصالح للمرء الصالح " (1).
________
(1) رواه أحمد: مسند الشاميين - حديث عمرو بن العاص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (17096).(6/3066)
والمعنوي: هو رضا الله تعالى وتغمده برحمته في الآخرة، بالنعيم المقيم وإبعاده عن العذاب الأليم، فهذا رزق، ومن الرزق المحامد، وأن يقول أهل التقى فيه الخير، ولا يقولون إلا خيرا، ومن الرزق الكريم ألا يوفق لعمل السوء، ولا يوفق إلا للخير.
ووصف الرزق بالكريم يفيد أنه لَا يكسب إلا بشريف الأعمال، ولا يتدلى في طلبه إلى حيث الأشرار، والمعنى أنه يرزق من خير، ولا ينفق إلا في خير، ولا يكتسب إلا من مكان كريم، والله يرزقه من حيث لَا يحتسب.
* * *
مقدمات يوم الفرقان
(كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
* * *
الآيات بعضها متصل ببعض، فهذه الآيات متصلة بما قبلها في النسق والبيان والموضوع، إذ كلها في مقدمات غزوة بدر، والسير النفسي حتى تصل إلى نهايتها، وقوله تعالى:(6/3067)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)
(كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ).(6/3067)
ما موضع " كما " في التشبيه، ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري عدة تفسيرات كلها تحتملها الآية، فذكر أنها متصلة باختلافهم في الأنفال، وأن الله تعالى انتزعها من أيديهم على رغبتهم فيها كذلك (كمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) بالأمر الثابت (وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) يقول الطبري في توضيح هذا المعنى: " ومعنى هذا أن الله تعالى يقول: كما أنكم لما اختلفتم في المغانم، وتشاححتم فيها، فانتزعها الله تعالى منكم وجعلها إلى قَسْمِهِ، وقَسْمِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمها على العدل فكان هذا هو المصلحة التامة لكم، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة، وهم النفير الذين خرجوا لنصر دينهم، وإحراز عيرهم فكان عاقبة كَراهتهم للقتال بأن قدره الله لكم، وجمع به بينكم وبين عدوكم على غيرِ ميعاد رشدا وهدى ونصرا وفتحا، كما قال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216).
وخلاصة المعنى أن الله يختبركم الآن كما اختبركم في الغنائم، فقد أخذها منكم وتولى النبي - صلى الله عليه وسلم - قسمتها بالعدل والمصلحة، كذلك اختبركم، فأخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - لذات الشوكة والمصلحة (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ).
ونرى أن هذا التخريج مؤداه أن الله اختبركم بمنع نفوسكم من المشاقة في المال ترويضا على الصبر على هوى النفسر، وقمعها عن شهواتها استعدادا للقتال كذلك اختبركم بحمل أنفسكم على ما تكره ابتلاء بالصبر على المكاره، كما اختبركم بالصبر على رد هوى النفس، فكلاهما لابد منه للجهاد.
ويذكر ابن جرير وجهًا آخر، فيقول: " قال آخرون معنى ذلك: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره من فريق من المؤمنين، كذلك هم كارهون للقتال، فهم يجادلونك فيه من بعد ما تبين لهم أنه الحق ".
ومؤدى هذا أنهم وجد فيهم حال تردد أو على الأقل كراهية للقتال مرتين: مرة عندما أخرجك ربك من بيتك بالحق وهو الأمر الثابت الذي قامت الدواعي إليه وكان ذلك للعير، ومرة أخرى عندما تعين القتال، وصار الأمر للنفير(6/3068)
لا للعير، وإني أميل إلى التخريج الثاني لأنه يساوق اللفظ ولا يحتاج إلى تأويل، ولا تأباه الألفاظ، ومؤداه أنه كما وجد فريق من المؤمنين كاره للخروج من بيتك لتتبع الحير، وجدت كراهية القتال عند إرادة الحرب، ويكون قوله تعالى: (كمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ) متعلقا بقوله تعالى:(6/3069)
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
(يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
ونقف هنا عند أمرين: أولهما - أن الله تعالى ذكر الحق بالحق مرتين:
أولاهما - (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيتِكَ) أتى بالأمر الثابت الذي هو الحق في ذاته، والحق في رفع شأن الدين، والحق في مصلحة المؤمنين، والحق في أنه أمر الله تعالى وإرادته، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أراده من ذات نفسه، وإنما أراده الله تعالى له، وهو ربه الذي خلقه ورباه وهو أعلم بمصالحه ومصالح المؤمنين والإسلام، وإعزازه تعالى كلمة الحق، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا.
ثانيهما - عندما ذكر الجدال في قوله تعالى: (يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ).
والحق هنا هو أمر القتال فقد فرت منهم العير التي خرجوا إليها ليأخذوها، وبدا لهم النفير، فبدل أن يلقوا عيرا ينقلوها، لقوا جيشا يقاتلونه، وذلك هو الحق الثابت الذي فيه الشوكة إن انتصروا، والصبر عند الصدمة، وقد جادلوا في هذا مع أنه صار أمرا لَا مناص منه.
وفى الحق كانت قوة الكفر مسيطرة، وما كان للمؤمنين قِبَلٌ بها لولا تأييد الله تعالى ونصرته، فالخوف كان لَا بد منه، وليس الشجاع هو الذي لَا يخاف، إنما الشجاع هو الذي يقدر قوة عدوه ويخافها، ولكن يدبر للقائها، ويعمل على التغلب عليها، ولقد كان جدلهم في هذا منشؤه المحافظة على النفس كجدلهم حول الغنائم فمنشؤه الرغبة في الموت.(6/3069)
وقد قال الله تعالى في تصوير خوفهم وتقديرهم للِّقاء (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ) فقد شبه سبحانه وتعالى حالهم بحال من يساق إلى الموت، وهو مشدوه ناظر إليه، متوقع له كأنه يراه رأي العين، وأنه نازل به لَا محالة. ولقد تجسم لديهم الخطر، كأنه نازل بهم لَا محالة، ولا منجاة منه، وإن رضوا بالفداء فالله سبحانه وتعالى يبين لهم أن ثَمَّة خطر، ولكن ثمة أيضا وعد الله تعالى بالنصر والتأييد وثمة الإيمان الثابت الذي تزلزلت معه الجبال ولا يتزلزل.
وإن الله تعالى يدعوهم في هذا إلى الصبر والاطمئنان إلى وعد الله تعالى وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبث فيهم روح الاطمئنان والأمن، ولكنه كان يريد أن يتثبت من اعتزامهم اللقاء وطلبهم للنصر، وطاعتهم له.
ويروى الحافظ ابن كثير وأصحاب السِّير الصحاح أنه لما بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - خبر فرار العير إلى سيف البحر، ومجيء جيش المشركين وكان النزال لابد منه أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يتثبت من جيشه فاستشار من معه وأخبرهم عن قريش.
فقال أبو بكر، فأحسن القول، ثم قام عمر فقال فأحسن.
ثم قام المقداد بن عمرو، فقال: امض يا رسول الله لما أمرك الله به فنحن معك، والله لَا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة بالحبشة) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرًا، ودعا له بخير.
ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أشيروا عليَّ أيها الناس "، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا، وكان رسول الله يتخوف من ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى(6/3070)
عدوهم من بلادهم، فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك. قال سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال: " أجل ". قال: فقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله كما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر، فخضته لخضناه معك، ما يتخلف منا رجل واحد، وما نكره أن نلقى بك عدونا غدا، إنا لصُبُر عند الحرب صُدُق عند اللقاء، ولعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك، فَسِرْ بنا على بركة الله تعالى، فَسُرَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول سعد ونشطه، وقال: " سيروا على بركة الله " (1).
انظر إلى حكمة القائد المحنك لَا سير إلا بعد أن يعرف أن إرادة جيشه قد اجتمعت على الحرب.
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
لقد أراد الله تعالى أن يعز الإسلام، ويضع الحواجز المانعة من أن يستمر الشرك في غيه، لقد طاوَلهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصابَرَهُ في مكة، وتحمل أذاه حتى كون الله للإسلام شوكة في المدينة دار الإيواء والنصرة، فكان لَا بد من بعد ذلك من وضع حد للطغيان، ووقف للفتنة فكان لابد من القتال. كانت عير لمكّة تذهب إلى الشام وتمر على المدينة أو على مقربة من المدينة وكانت فيها أموال كثيرة لقريش، فاراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأخذها المسلمون بدل الأموال التي أخرجوا منها، ولأنه لَا سلم بينهم، ولأنهم أباحوا دماء المسلمين في مكة وأموالهم، فكان حقا أن تباح دماؤهم وأموالهم، خرج نحو ثلاثمائة لمصادرة العير، فانفلت بها المشركون وعلى رأسها أبو سفيان، ولكنه كان قد أرسل إلى مكة يستنفرها لتحمي عيرها، فنفرت بجيش كبير اتجه إلى بدر، ومع أن العير قد نجت فقد أصر الحمقى من المشركين على غزو المدينة، ونسوا المآل والرحم فكان اللقاء أمرا لابد منه.
________
(1) البداية والنهاية: ج 4، ص 60، وتاريخ الطبري): ج 1، ص 954، وقصص الأنبياء: ج 1، ص 360.(6/3071)
ولقد كان بعض المؤمنين، وخصوصا الذين أخذت أموالهم يودون العير، ولم يريدوا القتال لأنها غنيمة أتت إليهم، وأنفلهم الله إياها، ولأن القتال كره لهم، والنفس المؤمنة رقيقة تكره الدماء، وكما قال تعالى: (كتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُو كرْهٌ لَّكمْ)، وإن كان خيرا في مثل حال المشركين معهم ولذلك كانوا يودون العير، لَا الحرب، وتلك هي الفطرة، وقال تعالى:(6/3072)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ).
وعد الله تعالى إحدى الطائفتين إما طائفة العير وإما طائفة النفير، والطائفة هنا الجماعة، والمراد هنا جماعة العير يأخذونها بما معها من مال، أو جماعة الحرب يقتلون ويأسرون فيهم، ويغنمون أموالهم، ولكن فيها الشوكة والقوة وإذلال المشركين.
وهم يودون السهلة الهينة الخالية من الدماء، ولكن ليس فيها شوكة، ويختار الله تعالى لهم ما فيه الشوكة.
وعبر عن القوة بالشوكة على سبيل المجاز؛ لأن نتيجة الحرب ستكون رهبة للمشركين تجعلهم يتحفظون في معاملة المسلمين، ولا يقدمون على إيذائهم إلا إذا أقدموا على أمر خطير يشوكهم قبل أن ينالوه، فلا يكون طُعمة تؤكل أو تُنتهز الفرص لأكلها.
وقد عبر الله سبحانه وتعالى عن إرادتهم العير بقوله تعالت كلماته (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكون) أي تودون العير وهي تعطيكم مالا، ولا يكون لكم بأخذها قوة ترهبهم، فهي ما لَا حماية ولا عزة فيها، وعبر سبحانه وتعالى عن إرادتها بقوله: (وَتَوَدُّونَ) أي تحبون مائلين للعير، للمعاني التي ذكرناها.(6/3072)
وفى هذا التعبير إشارة إلى معنى من معاني العتب، وتنبيه إلى أن الواجب هو طلب القوة، لمن كان المشركون يستضعفونهم، فيبدل الله تعالى من خوفهم أمنا، ومن استضعافهم قوة، وتمكينا في الأرض؛ ولذلك يقول الله تعالى: (وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ).
عبر الله تعالى بقوله يودون في جانبهم، وعبر بقوله (يرِيدُ اللَّهُ) دون " يود " للإشارة إلى أن ذلك من جانب الله إرادة، وإرادة الله نافذة وهي المصلحة وهي الخير، وكان التعبير في جانبهم بقوله: (وَتَودُّونَ) للإشارة إلى أنه مجرد ود، ولم يصر إرادة، وكيف يريدون ما لم يرد الله تعالى، وكيف وهم المؤمنون حقا وصدقا، وإرادة الله إعلاءً لهم، وميلهم ميل إلى ما هو أدنى.
وقد عبر سبحانه عن إرادة الشوكة والقوة بقوله:(6/3073)
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
(لِيحِقَّ الْحَقَّ) أي أراد سبحانه وتعالى ذات الشوكة، ليقوى الحق ويثبته ويؤيده ويؤكده، وليكون له الكلمة العليا، وتكون كلمة الذين كفروا هي السفلى، فمعنى إحقاق الحق إعطاؤه حقه من التأييد والتثبيت والنصر والاستعلاء على الباطل وخفض نقيضه. وذكر الله تعالى نتيجة إحقاق الحق وليقطع دابر الكافرين؛ وذلك لأن نصر الحق وإعلاءه خبصٌ (1) للكفر شيئا فشيئا، حتى تذهب قوته ليجتث من أرض العرب احتثاثًا، وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالت كلماته: (وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) الدابر هو الخلف، وعبر بذلك كناية عن أن لَا يبقى من الكافرين من يجهر بكفره، ويعاند الله تعالى، ويستعلى عليه، وذلك فيه تشبيه للكفر بالجيش الذي يولِّي مدبرًا، ويقاتل بقناه (2) حتى يقضى عليه بقطع أدباره والقضاء عليه.
هذا ما أراده الله تعالى، وذلك ما كانوا يودونه، وقد أراد الله تعالى لهم العزة، فكان النصر المؤزر، وكانوا قليلًا فكثَّرهم الله، وقوله: (بِكَلِمَاتِهِ)، أي بالقرآن الذي هو حجة، فالتأييد تأييد للقرآن الكريم.
ثم أكد سبحانه معنى تأييد الحق، فذكر أنه سنة الله في تأييد الإيمان، وإبطال الشرك وهو الباطل: فقال عز من قائل:
________
(1) أي القفاء عليه شيئا فشيئا، من خبص خبصا: مات. لسان العرب.
(2) أي يَسلب سلاح العدو ويُقاتل به.(6/3073)
(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ ... (8)
(اللام) هنا لام العاقبة، وهي تدل على الباعث على القتال، و (الحق) هنا هو الدين الثابت، و (الباطل) هو الشرك المفترى، والمعنى لتكون عاقبة القتال الذي هو الحق المؤيد للحق الذي أراده الله، وهو ذات الشوكة أن يثبت الحق ثبوتا دائما مستمرا ما دام أهل الإيمان مستمسكين، ويبطل الشرك وهو الباطل مستمرًا، (وَلَوْ كرِهَ الْمُجْرِمُونَ) ولو كان ذلك رغم المجرمين الذين يجرمون في الأرض فيفسدون فيها ولا يصلحون ونجد هنا أن المجرمين مكرهون على قبول بما يقع، ولو كان وبلاء. وعبر هنا بالمجرمين، وفي الآية السابقة بقطع دابر الكافرين، وذلك لتنوع عنادهم وتعدد صوره، فهم كافرون لجحودهم مع قيام البينات، وهم مجرمون مفسدون لفتنتهم المؤمنين، فإذا كان الكفر تعديا على أنفسهم، وهم به كافرون، فالفتنة تعد على غيرهم، وهم بها مجرمون.
والحق الذي أحقه الله وثبته هو الجهاد وطلب ذات الشوكة، ولذا اقترن بها قطع دابر الكافرين، والحق الثاني هو الدينِ الحق، وتثبيته وإبطال الباطل، وهو منع الفتنة، كما قال تعالى: (وقَاتِلُوهُمْ حتَّى لَا تَكُونَ فتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كلُّهُ للَّه).
* * *
المعركة
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا(6/3074)
سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
* * *
كان النص القرآني السامي يحث المسلمين على أن يطلبوا الجهاد، بطلب الطائفة ذات الشوكة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أمامهم يستحثهم ويستوثق منهم، حتى لَا تغلبهم الدنيّة في دينهم، وقد ظهر أنهم يودون غير ذات الشوكة، حتى إذا دنت الواقعة كان مع الاستعداد بالقلوب، والاطمئنان كان لابد من الالتجاء إلى الله تعالى ليكون الغوث، وليكون النصر، فهم مؤمنون، وليسوا مغرورين؛ ولذلك لابد من الالتجاء إلى الله، وخصوصا من الرسول الذي أحس بأن عليه العبء الأكبر، فاستغاث هو ومن معه بالله، وكان هو أظهرهم. قال تعالى:(6/3075)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ).
والاستغاثة طلب الغوث، و " إذ " ظرف يكون للماضي، وهو هنا للماضي المتصل بالحاضر، كما في قوله تعالى: (وَإِذْ يَعِدُكمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ. .) وجاء المضارع بعدها لتصوير الاستغاثة وأنها كانت التجاءً متجددًا مستمرا لله تعالى.
وقد روت السنّة استغاثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كانت ضراعة له سبحانه وتعالى، وروى مسلم والإمام أحمد، وغيرهما من الصحاح عن عمر بن الخطاب أنه قال: " لما كان يوم بدر نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه، وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - القبلة، وعليه رداؤه وإزاره، ثم(6/3075)
قال: " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لَا تعبد في الأرض أبدًا " فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه، ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك " (1).
هذه هي استغاثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهي استغاثة من معه، فهو إمام الصلاة استغاثته استغاثة لهم، كما أن الإمام قراءته قراءة للمأمومين، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما اتجه إلى الاستغاثة اتجه إلى القبلة، وكأنها صلاة، يمم وجهه فيها شطر المسجد الحرام.
وقد استجاب الله تعالى لاستغاثة نبيه، فقال تعالى: (فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ).
(الفاء) للعطف الدال على الفورية، أي أن الإجابة كانت فور الدعاء، وكذلك دعاء النبيين ومن معهم من الصديقين والشهداء والصالحين.
والاستجابة يالسين والتاء هي شدة الإجابة كأحسن ما تجاب به الاستغاثة؛ لأنها استغاثة لله تعالى فهي إيمان لأجل قوة الإيمان وعزة المؤمنين، وقرنت الإجابة بما يدل على قوتها، فهي من ربكم الذي يكلؤكم، ويرعاكم، وذكر الاختصاص في قوله سبحانه: (لَكُم)، أي الإجابة لكم أنتم من ربكم ولا إجابة لغيركم لأنكم على الحق، وتدعون للحق.
وفسر سبحانه وتعالى الاستجابة بقوله: (أَنِّى مُمدكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) هنا ثلاث قراءات في (ألف)، فقرى بـ (ألْف)، ويكون الإمداد بألف من الملائكة على قدر عدد المشركين، فإنه إذا كان عددكم ثلاثمائة ونيفا وعددهم ألف، فقد أمدكم الله تعالى بألف من الملائكة، فيكون العدد في الحسبة متساويا أو تزيدون.
________
(1) رواه مسلم: الجهاد والسير - الإمداد بالملائكة في غزوة بدر (1763)، والترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة الأنفال (81ْ3)، وأحمد: مسند العشرة - أول مسند عمر بن الخطاب رضي الله عه (208) عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم.(6/3076)
وهناك قراءة أخرى بـ (آلُف)، جمع ألف، على وزن أفعُل، وبذلك لا يكون العدد محدودا بل بألوف، وذكر الزمخشري قراءة ثالثة وهي (آلاف)، والرسم الإملائي العثمانى القرآني غير المنقوط والمشكول يحتمل القراءات الثلاث.
و" مردفين " أي متتابعين، مشتقة من أردف، وهي لغة في ردف وتقرأ بفتح الدال وهي قراءة (1)، والمعنى أنهم جاءوا وقد أردف بعضهم ببعض.
وهنا تقرر أن الله تعالى أمدهم بألف أو عدد من الألوف، وذلك أمر لا ريب، ولا تناقص بين الإمداد بآلاف، أو بآلاف، فالمراد جنس الألف لَا تعيين العدد.
ولكن كيف كان الإمداد، جاء في روايات لم نرها في صحاح السنة أنهم صوروا بالإنس، وكان بعض الناس يرى سيوفا لَا يرى حاملوها.
ولكن الثابت في الصحاح أنه كان إمداداً من غير أن يتعرض لبيان أنهم كانوا بصور إنسانية أم لم يكونوا، وهذا ما نراه.
وإذا لم تكن ثمة صور أو أجسام إنسانية، فإننا نقرر أنه كان إمدادا روحيا، ومن الإمداد الروحي شحذ العزائم وطمأنينة نفوسهم، وإبعاد الشياطين ومنازع الشيطان، وهذا بلا ريب من إمداد الله بالملائكة، فهو حقيقة ثابتة، وإنه يؤيد أن الإمداد روحي - آمنا بحقيقته وجهلنا كيفيته - قوله تعالى:
________
(1) (مردَفين) بفتح الدال، قراءة نافع وأبي جعفر ويعقوب، وقرأ الباقون بالكسر. غاية الاختصار - الهمداني (929).(6/3077)
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
(وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى ... (10)
الضمير يعود إلى المصدر المشتق من (ممددكم)، أي أن ذلك الإمداد كان روحانيا فيه بشرى أي تبشير لكم بالنصر وإنه آت لَا ريب فيه، وفيه أمن للقلوب، ولتدخل الحرب مع رجاء النصر، فرجاء النصر والاطمئنان إليه مع أخذ الأهبة(6/3077)
نصر على النفس، وابتداء النصر اطمئنان النفس فلا تفزع، ولا تهاب، ولا تخور؛ ولذا قال سبحانه، (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلوبُكُم)، فلا تجزع فتقدم في غير خوف ولا وجل، وإنه وحده الناصر فما كان الإمداد بالملائكة، والإخبار به إلا لتطمئن القلوب.
وإنه بعد اتخاذ الأسباب لَا يكون النصر (إِلَّا مِنْ عند اللَّه) العزيز الحكيم أي الغالب الذي يدبر لكل شيء وبأمره سبحانه وتعالى.
وفى الآيتين الكريمتين إشارات بيانية تليق بكتاب الله معجزة الوجود الإنساني كله:
أولاها - تأكيد الإمداد بالملائكة تلك القوي الروحانية التي تبشر وتطمئن فقد أكدها بالتوكيد بأن في قوله تعالى: (أَنِّى مُمِدكُم) وبإضافة الإمداد إليه سبحانه، وهو القوي القهار - الغالب على كل شيء.
وثانيها - بالجملة الاسمية الدالة على البقاء والاستمرار.
وثالثها - الحد بألف الذي يوازى عدد المشركين أو يزيد، وهو على القراءات الأخرى أضعاف عدد المشركين.
ومن الإشارات البيانية - ضرورة الاعتماد على الله بعد أخذ الأهبة، وإعداد العدة، فقد قال تعالى: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فقد قصر النصر مهما تتوافر أسبابه على أنه من عند الله فلا نصر إلا منه، والقصر بالنفي والإثبات فنفي وجود أي نصر إلا أن يكون من عند الله، ووصفه سبحانه وتعالى بما يزكي هذا القصر، فهو العزيز الذي لَا يغلب، وهو الحكيم الذي يدبر الأمور بحكمته ومن مقتضاها أن ينصر الحق ويخذل الباطل، فهو وحده ناصر الحق دائما، وتأكيد ذلك بـ (إن) والجملة الاسمية.
وبين لله تعالى أنه أفاض الأمن والاطمئنان، فقال تعالى:
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)(6/3078)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)
يقال: غشَّاه، بمعنى غلبه النوم، و (غَشَّى) ((أغَشى) يجوز فيها التعدية بالتضعيف وبالهمزة، كقوله تعالى: (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ).
وكقوله تعالى: (فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55).
وغشاهم الله تعالى بالنعاس أي وضعه على عيونهم كأنه غشاء من نعاس.
ونعاس مفعول ثان.
و (أَمَنَةً) مصدر أمن، والمعنى غشاهم الله تعالى بالنعاس آمنين، أي لأجل أن يكون ذلك أمنا لهم من الخوف، أي للدلالة على أمنهم واطمئنانهم، فإن النعاس أمن وقرار، وبُعد عن الهم، فمع القلق السهر، ومع الأمن النوم.
وإن النعاس عند الإقدام على أمر مهم يقوى النفس، ويشحذ العزيمة، ويذهب القلق والاضطراب، وهو أمارة الاطمئنان، وقد أنعم الله تعالى على المؤمنين، ليلتقوا بالأعداء آمنين مطمئنين راجين النصر، مُحِسِّين بتأييد الله، ومحسين بأن الحق معهم، ولقد قال علي - كرم الله وجهه - في ليلة بدر: " ما كان منا إلا نائم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والنعمة الأخرى التي ثبت الله تعالى بها قلوبهم نزول المطر، فقد قال تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً) فقد كان المشركون في مكان فيه ماء، ولم يكن عند المؤمنين ماء فغلب عليهم الظمأ، فوسوست في بعضهم الوساوس، فأنزل الله سبحانه وتعالى الماء حتى سال الوادي، وملأوا الأسقية وسقوا الركاب، واغتسلوا من الجنابة فجعل الله ذلك الماء طهورا، وثبت به الأقدام إذ لبَّد الله به الأرض، ويقول الحافظ ابن كثير: " وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله تعالى المطر عليها فضربها حتى اشتدت وثبتت عليها الأقدام ".
وهذا قول الله تعالى: (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ).
فالماء الذي أنزله الله تعالى سقوا منه، وكان طهورا أذهبوا به رجز الشيطان وهو الجنابة، وطهُروا حسا ومعنى، وربط الله تعالى به على قلوبهم، وثبتهم(6/3079)
وأذهب عنهم وساوس الشيطان، ولبدَّ به الأرض وثبتت عليها الأقدام، فلا تغوص في الرمال، وإن هذا الماء كان وبالا على المشركين فقد انهمر حتى دعثر (1) عليهم الأرض وصارت الأرض لَا تقوى على تحمل أقدامهم.
هذا كله تأييد حسي من الله اقترن به اطمئنان وذهاب القلق، والطهر، وهو يزيد النفوس اطمئنانا.
وقد كان بجوار ذلك تثبيت الله تعالى بالملائكة فقد قال تعالى:
________
(1) الدَّعْثَرَةُ بفتح الدال: الهدم والمُدَعْثَرُ المهدوم. الصحاح - دعثر.(6/3080)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
موقعة الفرقان هي موقعة الحق أيدها الله، واتخذت كل الأسباب لها، والله تعالى يؤيد بنصره من يشاء، أيدهم الله تعالى أولا بالمدد من الملائكة الذي كان بشرى واطمئنانا، وأيدهم ثانيا بأن الله مع المؤمنين والملائكة، وأيدهم ثالثا بأن أمر الملائكة بأن يثبتوا الذين آمنوا، وأيدهم رابعا بأن ألقى الرعب في قلوب الكافرين، وأيدهم خامسا بأن كان الضرب فوق أعناقهم، والضرب في الأيدي التي تقتل.
(إِذْ) في قوله تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ) هي للماضي المتصل بالحاضر، والمضارع للدوام المتجدد، أي اذكر أيها النبي ومن معك، وحي الله تعالى المستمر الذي لَا ينقطع إلى الملائكة أن الله معكم أيها الملائكة في تأييدهم للمؤمنين فهو سبحانه جل جلاله في ملكوته الأعلى معكم في تأييد المؤمنين وتثبيتا قلوبهم، (فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) و " الفاء " هنا للإفصاح عن شرط مقدَّر، والمؤدى: إذا كان الله معكم في هذا التأييد فثبتوا الذين آمنوا، أي قووهم معشر أرواح الله، واملأوهم بروحانيتكم لتمتلئ قلوبهم بروح من عند الله، وإحساس بعظمته، وجبروته وقوته وعزته ليطلبوا العُلا والعزة ولا يذلوا.
وقد التفت سبحانه من خطاب الملائكة إلى خطاب المؤمنين، (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ) وهذا معناه اضربوا الرءوس، فما فوق العنق هو الرأس، والبنان(6/3080)
الأيدي، والمعنى أن اضربوا رءوسهم، فإنها موطن الشيطان، واقطعوا أيديهم، فإنهم يبطشون بها وآذوا المؤمنين وعذبوهم، وفتنوهم عن دينهم.
والمعنى لَا تأخذكم بهم رأفة، فرد الاعتداء يكون بمثله، فاقتلوهم وأضعفوا قواهم يشفِ الله بذلك صدور قوم مؤمنين.
وإن ذلك جزاء بما ارتكبوا، ولمحاربتهم الله ورسوله؛ ولذا قال تعالى:(6/3081)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
الإشارة إلى الرعب الذي ألقاه الله في قلوبهم، وإلى إمداد الملائكة للمؤمنين وإلى تثبيت الملائكة لقلوب المؤمنين، وإلى الغلب في المعركة، وأمر الله للمؤمنين أن يضربوا رءوسهم وأطرافهم، كل ذلك لأنهم شاقوا الله ورسوله، أي صاروا في شق، والله ورسوله في شق آخر، يحادون الله ورسوله، ويغالبونهم حاسبين أنهم الغالبون، و " الباء " في قوله تعالى: (بِأنَّهُمْ) للسببية أي بسبب أنهم حادوا الله ورسوله، وما دام الأمر أمر مغالبة، فالله هو الغالب، وذكر الله ورسوله، وكان يكفي ذكر الرسول أو ذكر ربه؟ والجواب عن ذلك الإشحارة إلى أن محاربة الرسول حاربة لله، وأن طاعة الرسول طاصة لله (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، وإلى أن عصيان الرسول محادة لله سبحانه وتعالى، وأظهر في موضع الإضمار: فقال: (وَمَن ئشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)، ولم يقل من " يشاققهما " وذلك لبيان عظيم ما يقترفون، فهو تنديد بهم، وتكرار لعظم جرمهم.
وقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) بيان لشدة العقاب في الدنيا والآخرة، وهي دالة على جواب شرط محذوف هذه علته، والمعنى فإن الله منزل عقابه الشديد بهم في الدنيا، لأنهم يغالبون الله ورسوله، ونسوا أن الله تعالى غالب على كل شيء.
وسماه الله عقابا لهم، للإشارة إلى أنهم ليسوا في مقام المغالبة لله، بل إنهم في مقام من يؤدبون ويعاقبون، ويُردون خاسئين.(6/3081)
وإن عقاب الدنيا والتنكيل بهم فيها، لكيلا يستشري الشر، ولكيلا يُغْروا بالمؤمنين، ولكيلا يكون على المؤمنين حرج، ولكي ينالوا جزاء ما فعلوا، ولأن السابقين كان ينزل العقاب الدنيوي بهم بخاسف أو بريح صرصر عاتية، أما أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإن الله تعالى يفنى الأشرار، ويبقى الأخيار.
كان عقاب الدنيا لذلك، وهذا لَا يمنع عقاب الآخرة، وهو الأوفى جزاء؛ ولذلك قال تعالى:(6/3082)
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
(ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) الإشارة إلى هذا العذاب الأليم، وأتى بكاف الخطاب للجمع، تأكيدًا لعموم الخطاب للكافرين، وأنهم جميعا يخاطبون بذلك حتى يتوبوا، فإن تابوا فقد انتهوا والله قابل للتوب شديد العقاب.
وذلك كما قلنا إشارة إلى العذاب، والإشارة استحضار له، و " الفاء " في قوله تعالى: (فَذُوقُوهُ) فيها إشارة إلى العذاب الدنيوي الذي " يذوقونه " وهي للإفصاح أي إذا كان هذا عذابكم فذوقوه، والتعبير بذوقوه إشارة إلى آلامه وقد ذاقوها وأحسوها، فقد ذاقوا النكال وذاقوا القتل، وذاقوا الذل بعد الاستكبار، وذاقوا عذاب الهون بما كانوا يكسبون.
وإنهم مع ذلك لِن يفلتوا من عذاب الآخرة، فإذا النار لاحقة بهم، ولذا قال تعالى: (وَأَنَ للْكَافِرِين عَذَابَ النَّارِ) وفي العبارة ما يوحي بأنه العذاب المعد لهم، وكأن عقاب الدنيا أمر عرضي ليس هو الجزاء الحقيقي لهم، إنما كان لمنع استمرار شرهم، وإنهاء فسادهم، ولمنع الفساد في الأرض.
(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251).
ولذا أكد جزاء الآخرة، لأنه الأصل الثابت، فقال: (وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ) فأكده أولا - بـ " أن " الدالة على التأكيد، وثانيا بالجملة الاسمية الدالة على الاستمرار والدوام، وثالثا - بتقديم الجار والمجرور الدال على اختصاصهم بعذاب النار، ورابعا ببيان أن الكفر هو السبب، لأنه عبر بالوصف، وذلك دليل على أن الكفر هو السبب في عذاب النار. .(6/3082)
اللهم اكفنا شره، واقبل من حسناتنا ما يمحو سيئاتنا، فإنك قلت قولك الحق: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ).
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
* * *
هذه معركة الإيمان والكفر، وإن شئت فقل معركة الله ورسوله مع الكافرين؛ لأن المؤمنين اتخذوا الأسباب، لأنهم توكلوا على الله واستغاثوا به، ولأنه لم يكن فيهم ضعفاء الإيمان أو المنافقون، فكانت معركة الله حقا وصدقا، وهو (عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
يبين الله تعالى أن أول النصر الثبات، وألا يفر من الميدان؛ ولذا شدد سبحانه وتعالى في منع الفرار، لأن الفرار أول الهزيمة، ولأنه خور في العزيمة، ولأنه والصبر نقيضان لَا يجتمعان ولا معذرة في فرار قط، ولأن يقتل الرجل وهو مقبل بصدره، خير من أن يقتل وهو مدبر بظهره.(6/3083)
وقال تعالى:(6/3084)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا).
النداء للمؤمنين بوصف كونهم مؤمنين، والإيمان صبر وفداء، فالنداء بالذين آمنوا تحريض على الصبر واللقاء والثبات، وذكر لقاء الكافرين، وهم كانوا يتمنون لقاءهم لينتصروا لله منهم، وليردوا كيدهم، فكان نداء أهل الإيمان بعنوان الإيمان تحريضا على الثبات والمجاهدة، وكان ذكر لقاء الكافرين تحريضا أشد؛ لأنهم الذين آذوهم وأخرجوهم من ديارهم وظاهروا على إخراجهم؛ ولذا كان النهي بعد التمهيد، فقال: (فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ) و " الفاء " واقعة في جواب الشرط، وعبر سبحانه وتعالى عن النهي عن الفرار بقوله تعالى: (فَلا تُوَلّوهُمُ الأَدْبَارَ) ومعنى تولي الدبر، أي أن يتركوا ظهورهم للسيوف تضرب في أدبارهم، وذلك منظر هو من أقبح المناظر وأقبح تصوير للفرار من الميدان بضرب السيف في دبره وقفاه، وإن من ئقتل في صدره لَا ئقتل إلا بعد أن يَقْتل من الأعداء، أما من يُقتل في ظهره، فإنه يذهب دمه عبيطا (1)، لَا يثأر لنفسه.
وقد قال تعالى:
________
(1) ذهب دمه عبيطا أي خالصا طريا.(6/3084)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
ذكر مفردا فارا؛ للإشارة إلى وجوب التضافر والتآزر، وألا ينفرد بقرار، وألا يكون إلا في جماعة.
وقد استثنى الله تعالى من الذين يتركون الميدان طائفتين لَا تُعدان فارتين، بل تُعدان متقاتلين.
أولاهما - المتحرفة لقتال، والثانية - المتحيزة إلى فئة.
المتحرفة معناها المائلة، والمتحيزة هي التي تتجه إلى حوزة جماعة من جماعة المسلمين.(6/3084)
والمتحرفة المراد بها المائلة في القتال غير تاركة، ولكنها آخذه بضرب من ضروب الحيلة والخديعة، وقد ضرب لذلك الحافظ ابن كثير مثلا، فقال: " ذلك الذي يظهر أنه يميل إلى الفرار حتى إذا اطمأن محاربه انقض إليه غرة وقتله، والمتحيز إلى فئة الذي يلجأ إلى فئة يحسبها تحتاج إلى قوة فينضم إليها مقويا صفوفها ".
وهاتان الطائفتان لَا تعتبران فارتين ولا موليتين الأدبار، ولذا نقرر أن الاستثناء منقطع، بمعنى لكن، أي لكن التحرف أو المتحيز لطائفة لَا يعدان مولين الأدبار.
وقد يكون الفرار أمراً ضروريا إذا كان العدو أغلب، ولكن الفرار لَا يكون بتولية الأدبار، بل يكون بتدبير الانسحاب ويكون بالتراجع، من غير أن يولوا ظهورهم للأعداء، يضربون في أدبارهم، كما فعل القائد العظيم خالد بن الوليد هذا عندما آل إليه أمر القيادة بعد قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله ابن رواحة، فقد رأى أن أمامه جيشا يعد بمئات الألوف، ومعه ثلاثة ألوف، فقد أخذ يتراجع، ويوهم الأعداء أنه قد جاءه مدد حتى عاد إلى المدينة وسماهم بعض المجاهدين فرَّارين، وسماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - " العكارين " (1) أي الكرارين.
وإن الفرار في الزحف من أكبر الكبائر، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " اجتنبوا السبع الموبقات، قيل يا رسول الله وما هن؛ قال: الشرك بالله والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " (2).
________
(1) رواه الترمذي: الجهاد - ما جاء في الفرار من الزحف (1716). كما رواه أبو داود في سننه: الجهاد - التولي يوم الزحف (2647). وبنحوه رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن عمر ابن الخطاب رضي الله عنهما (5361).
(2) متفق عليه؛ رواه البخاري: الوصايا - قول الله تعالى: (اٍنً الَّذِينَ يَأكلونَ أَمْوَالَ الْيَتَامى) النساء، (2767)، ومسلم: الإيمان - بيان الكبائر وأكبرها (89). عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/3085)
وقد تكلم العلماء في الفرار، فأجازه بعضهم إذا كان العدو كثيفا، والمؤمنون قلة، وهم مأكولون لَا محالة، ونحن لَا نجيز تولية الأدبار مطلقا، لأنه تمكين من رقاب المؤمنين، وإذهاب للبأس، ولكن نجيز التراجع المنظم كما فعل القائد العظيم خالد، إن تولية الأدبار إذلال للمؤمنين وتمكين من القتل الرخيص وليس هو التراجع الحكيم؛ لأن المتراجع يحمي صدره، والمولي الأدبار يمكنهم من ظهره.
وقد بين الله سبحانه في النهي عن الفرار جزاء من يولهم يومئذ دبره، فقال تعالى: (وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ) أي يوم الزحف ولي مدبرا مضطربا (فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) أي رجع مغضوبا عليه من الله تعالى، فغضب عليه، والواجب أن يطلب رضوانه، (وَمَأوَاهُ جَهَنَّمُ)، أي الذي يأوي إليه جهنم (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ). وبعد ذلك بين الله سبحانه وتعالى أن النصر بيد الله، وأنه سبحانه هو الذي يهزم المشركين، وهو الذي يرميهم فقال تعالى:(6/3086)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
وفق الله المؤمنين في هذه الغزوة، كانوا قلة فأراهم المشركين كثيرين، ورأوا المشركين قليلا وهم كثيرون، وسهل الله السبل للمؤمنين فألقى في قلوبهم الرعب وأمدكم بالملائكة، فملأكم روحانية وجعلهم الله بشرى لكم، واطمأنت قلوبكم، وغشاكم النعاس، وأنزل عليهم الماء فثبَّت به الأقدام وطهر رجز الشيطان.
أمدهم الله تعالى بهذا فكان النصر، وقد قال تعالى: (كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فئَةً كَثِيرَةً بِإذنِ اللَّه)، فكان النصر من عند الله، وكما قال تعالى: (وَلَقَدْ نَصرَكُمُ اللًّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ)، ولما أصابهم الغرور، وحرمهم الله من نصره ابتداء ولوا الأدبار، وقال الله تعالى في ذلك: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25). لهذا التوفيق(6/3086)
وذلك التأييد الذي تكاثر في غزوة بدر نسب الله تعالى النصر إليه سبحانه، والقتل إليه والرمي إليه، فقال تعالى: (فَلَمْ تَقْتلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) نفَى سبحانه أنهم قتلوهم، لأنهم لم يكونوا المسلطين عليهم من أنفسهم إنما سلطهم الله تعالى عليهم، وهو الذي أرداهم، و " الفاء " مترتبة على ما قبلها ما دام الله تعالى هو الذي هداهم وحرضهم، وأيدهم بنصره، وبملائكته ثم قال: (وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) إما أن نقول إن القتل حق لله تعالي؛ لأنه هو الفاعل المختار، وإن نظرنا إلى الأسباب العادية نقول: إنه من قبيل إطلاق المسبب وإرادة السبب، فلأن الله تعالى هو السبب في القتل أسند القتل إليه.
وكذلك قوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى).
قال بعض المفسرين على أن المراد من الرمي هو الرمي بالنبال المريشة التي تصيب المقاتل، ويكون من قبيل إطلاق المسبب وإرادة السبب؛ لأن الله تعالى هو السبب إذ هو الموفق، وهو المؤيد، وهو الممد بالملائكة وهو سبحانه وتعالى ملقى الرعب في قلوب المشركين.
وقال بعض المفسرين: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما التقى الجمعان قبض قبضة من التراب، ورمى بها المشركين، وقال: " شاهت الوجوه " (1)، فاضطربت الأبصار، وزاغت القلوب.
فقوله تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) أي فلَسْت أنت الذي رميت إنما الله تعالى هو الذي رمى؛ ولذلك أفرد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب لأنه هو الذي رمى.
وإني أميل إلى التفسير الأول لأنه هو الأوضح، ونحن نميل إلى الواضح من الآراء.
________
(1) انظر صحيح مسلم: الجهاد والسير - غزوة حنين (1777).(6/3087)
وإن الله سبحانه وتعالى فعل ذلك، ليؤيد المؤمنين بنصره، (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا) أي ليعامل المؤمنين معاملة المختبر الذي يبليهم بلاء حسنا، أي بلاء نتيجته حسنة دائما، وذلك بأن يكلفهم، وأن يتخذوا هم الأسباب للنصر المؤزر، والعزة والرفعة، وأن تكون كلمة الله على أيديهم هي العليا، وهو العزيز الحكيم، ولقد قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي إن الله عالم علم من يسمع، ومحيط بكل شيء علما.
وإن الله تعالى إذ ينصر المؤمنين ذلك النصر بإرادته وتقديره هو الذي يوهن شأن الكافرين فالله ناصر المؤمنين، وهازم الكافرين؛ ولذا قال تعالى:(6/3088)
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
(ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
الإشارة إلى نصر الله تعالى وما كان من تأييده حتى شرف الله تعالى ذلك القتل والقتال بأن نسبه إليه سبحانه، وأتى بضمير الخطاب للجمع، لإعلام الجميع بذلك النصر، وخبر اسم الإشارة محذوف معلوم من الكلام، أي ذلك النصر المؤزر ثابت لكم وحسبه نعمة أنعم بها عليكم، فالنصر وحده له فرحة شديدة، فتقبلوا نعمة الله فيه، وعطف على هذا النصر أمر آخر جليل في ذاته وهو ثمرة النصر، وهو قوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) فموهن معطوف على ما يفهم من الكلام السابق وهو فوق بشرى النصر بشرى إضعاف وتوهين شأن المشركين وكيدهم، لقد كانوا أصحاب القوة والسطوة، والسلطان والشرف في البلاد العربية وكانوا يستطيلون بكل ذلك على المؤمنين، فلما جاء النصر المبين لتلك الفئة الصغيرة واستطالت عليهم ونالت النصر دونهم وهنوا في أنفسهم، وإذا وهنوا في ذات أنفسهم وهن كيدهم للمسلمين، وهو تدبيرهم، وتأليبهم العرب عليهم، وحربهم، وصاروا يرهبونهم بعد أن كانوا يستضعفونهم، ويرون فيهم العزة.
فهذه الحرب المقدسة كان لها ثمرتان دانيتان:
إحداهما - النصر في ذاته، وأن صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الشرك هي السفلى، وتلك نعمة أنعم الله تعالى بها عليهم.(6/3088)
الثانية - أنه انتهى عهد الاستهانة بالمسلمين واستعلاء المشركين عليهم ووهن أمر الكافرين لديهم فكانت تلك هي الضربة القاصمة التي كسرت أنفتهم وكبرياءهم.
وعبر الله تعالى بالكافرين لبيان أن الكفر هو السبب في وهنهم، والله من ورائهم، قال الله تعالى:(6/3089)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
بعد أن ذكر الله تعالى غزوة بدر الكبرى، أو (يوم الفرقان) كما سماها القرآن الكريم، - أخذ يشير سبحانه وتعالى إلى المغزى الأمثل فيها، وهو الطاعة لله ورسوله، فهو كان أساس النصر، وتخاذل النصر في أحد، لنقصان في الطاعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي هذه الآيات يبين الله تعالى مقصد الحرب عند الفريقين، ومقام طاعة الله تعالى فيها. قال تعالى: (إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكمُ الْفَتْحُ).
الاستفتاح السين والتاء لطلب الفتِح، وهو النصر أو الفصل بين الحق والباطل، كقوله تعالى: (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْن قَوْمِنَا بِالْحَقِّ).
وهل استفتح المشركون، أي أيُعد الخطاب للمشركين، أم يعد الخطاب للمؤمنين؟، إن الخطاب في الآيات السابقة لهِذه الآية للمؤمنين مثل (فَلَمْ تَقْتلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهُ رَمى)، وقوله تعالى: (ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) وهكذا تجد الآيات السابقة المخاطب فيها المؤمنون، والمتحدث عنهم بالغيبة الكافرون، وكان مقتضى السياق ذلك، كما هو فيما بعد هذه.
لكن طائفة من المفسرين قالوا: إن الخطاب للمشركين، لأنهم استفتحوا فعلا بالله الذي كانوا يعلمونه، وإن لم يوحدوه في العبودية، ولقد ذكر الزمخشري وابن كثير وابن جرير عدة صور من عبارات استفتاحهم فيروى أنهم عندما أرادوا أن ينفروا لحماية العير، ومحاربة النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم(6/3089)
انصر قِرانا للضيف، وَوَصلنا للرحم، وفكَّنا للعاني إن كان محمد على حق فانصره، وإن كنا على حق فانصرنا.
ويروى أنهم قالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين، ويروى أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أفجر وأقطع للرحم فأحْنه، أي فأهلكه.
هذه صور للاستفتاح المروي، وإن صح أن الاستفتاح كان منهم فلعلها جميعها قد وقعت منهم والاختلاف اختلاف عبارات لآحادهم لَا لجمعهم.
وقوله تعالى: (فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ)، قال الزمخشري: إنه تهكم عليهم، من حيث إن الفتح كان على غير ما يرغبون، وقد يقال: إنه أريد الحد، لأنكم إذا كنتم تستفتحون طالبين الفصل بينكم وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - فها هو ذا الفصل، فاخضعوا له ولكنهم لَا يطلبون حقا، ولا يخضعون للحق، وإن تنتهوا بالإيمان بالحق بموجب استفتاحكم ووعدكم فهو الإيمان وهو خير لكم، وإن تعودوا إلى الباطل ومحاربة محمد ومن معه نَعُدْ إليهم بالنصر، ولن تغني عنكم جماعتكم وكثرتكم شيئا، ولو كثرت، وإن الله تعالى مع المؤمنين دائما بنصره وتأييده، وقد رأيتم مرات هذا " النصر وذلك التأييد، فصارت كلمتهم هي العليا والله عزيز حكيم.
هذا هو توجيه القول الكريم على أساس أن الخطاب للمشركين، وهو ظاهر لا يقاومه إلا سيأتي الآيات السابقة قبلها وبعدها.
وأما تخريج القول الكريم على أن الخطاب للمؤمنين فإنه يؤيد سياق الخطاب، ويكون المعنى إن تستفتحوا أيها المؤمنون، بأن تتضرعوا إلى الله تعالى طالبين الفتح والنصر، وتستغيثون به، فقد جاءكم النصر فعلا، ومعه الغنائم التي طلبتموها وأردتموها، وقد علمتم أن ذلك بفضل الطاعة، والامتناع عن العصيان (وَإِن ثَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ) أي إن تنتهوا إلى الطاعة، وإصلاح ذات بينكم وتقوية جمعكم، فهو خير لكم، (وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ) أي إن تعودوا إلى المشاحنة والخلاف(6/3090)
على الغنائم والمنازعة نعد لكم بالخذلان والفشل، كما قال تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)، ولا تغني الكثرة شيئا مع الاختلاف لأن الاختلاف لَا يكون فيه القوة على العدو، ولكن يكون بأسهم بينهم شديدا، فحربهم على أنفسهم لَا على أعدائهم، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ذلك فقال: (وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ).
أكد سبحانه وتعالى النفي بـ " لن "، وأنه لَا يغني أي شيء ولو قليلا، وثالثا أنه لَا يغني مع الكثرة. وإن الله سبحانه وتعالى علام الغيوب، يخبر بما سيكون يوم أحد، فقد كانت معهم قوة، وسابقة نصر، ولكن لم يطيعوا واختلفوا على الغنائم فلم ينتصروا، ولا نقول انهزموا، بل كان الأمر بينهما.
ذلكم تخريجان، ونحن نرى أن الأقرب إلى سياق الآيات، وإلى سياق الأمر بالطاعة، وإلى الانسجام البياني المعجز، أن نقول: إن الخطاب للمؤمنين تحذيرا وإنذارا.
وِختم الله تعالى الآية بقوله تعالت حكمته وكلماته: (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنين) " أنَّ " مفتوحة الهمزة للدلالة على أنها متعلقة بقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنَُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) ويكون هذا قرينة على أن الخطاب للمؤمنين وليس للكافرين، وهناك قراءة تقول: إن " إنَّ " مكسورة.
والتعبير بقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) سواء أكانت أن مكسورة أو مفتوحة يدل على أمرين:
أحدهما - أن الله تعالى مع المؤمنين، ينصرهم، ويكون الفتح في جانبهم ومعهم دائما، والثاني - أن ذلك يكون إذا تخلقوا باخلاق المؤمنين، ولم يتفرقوا، حتى لَا يفشلوا فتذهب ريحهم.
وبعد أن أشار سبحانه إلى أن قوة المؤمنين في طاعتهم لله ورسوله واستمساكهم وتعاونهم وتضافرهم أقر بالأمر الجامع بينهم، وهو الطاعة فقال:
* * *(6/3091)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
* * *
النداء في قوله تعالى:(6/3092)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) بالبعيد لعموم النداء ولأهمية ما يدعوهم إليه سبحانه، وهو الدفاع عن المؤمنين والضعفاء، والشيوخ والنساء والذرية، نادهم بطاعة الله ورسوله، والنداء من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي يجاب فمقام الله تعالى لَا يتطاولون إليه، وإنما يخاطب رسوله.
وذكر الله تعالى (رسوله) هنا للدلالة أولا - على أن من يطع الرسول يطع الله تعالى، وثانيا - لأنه هو الذي ينصر، وهو الذي يعز ويذل، فإجابته اعتزاز بمنشئ الوجود كله، وثالثا - لأنه المسيطر علينا وعليهم كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه عند الدخول في حرب: " اللهم إنهم عبادك ونحن عبادك " لهذا ذُكِر الله تعالى قبل ذكر الرسول، والنبي - صلى الله عليه وسلم -مّ هو الذي يتولى دعوتهم.
ويقول سبحانه وتعالى: (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتمْ تَسْمَعونَ)
(وَلا تَوَلَّوْا) بتخفيف إحدى التاءين، وهناك قراءة بثبوت التاءين معا (ولا تتولوا). والتوالي الإعراض، أو الانصراف، والمعنى لَا تنصرفوا، وأنتم تسمعون القول، والانصراف وهم يسمعون القول، يتضمن معنيين: أولهما - أن يكون التولي نفسيا، فهم يكونون سامعين ولكن غير واعين، ومخير منفذين، ولا نقول غير مطبقين، ولكن نقول غير مقدرين القول قدره.
وثانيهما - أن يعرضوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيعرضوا حسيا، وهو يتكلم، وهم يسمعون، وخلاصة المؤدى أن النص يطالب بثلاثة أمور:
أولها - سماعهم سماع وعي وعناية بالقول بفهمه، وتعرف مراده.(6/3092)
ثانيها - ألا يعرضوا عن القول فكرا أو نفسا، وأن يكونوا معه بقلوبهم، وكل جوارحهم.
وثالثها - الطاعة المطلقة فيما لَا رأي فيه، ومراجعة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رأى في حرب، أو مكيدة، كما شاور النبي - صلى الله عليه وسلم - في منزل الحرب في غزوة بدر الصحابي حبُاب بن المنذر رضي الله عنه. وهنا إشارة بيانية لابد من ذكرها، هي أن الله تعالى طالب بطاعة الله ورسوله، وعندما نهى عن الإعراض أعاد الضمير مفردا فقال: (وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ).
والجواب عن ذلك أن طلب الطاعة لهما لما ذكرنا، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي خاطبهم وهو المتحدث باسم ربه عنهم، ولا يتصور أن يكون التولي عن الله تعالى، بل التولي عنه - صلى الله عليه وسلم -، وإن نسبة التولي منهم لله تعالى لَا تليق، وإن كانت غير ممكنة.
والنهي عن التولي، وهم في حال يسمعون فيها؛ ولذا قال: (وَأَنتمْ تَسْمَعُونَ) فهو دعوة إلى حسن الاستماع؛ ولذا قال تعالى مؤكدا هذا المعنى:(6/3093)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
أي لَا يكن حالكم كحال الذين يقولون بأفواههم سمعنا، (وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) أي سمعنا، ولم نع ما نقول ولم نتدبره، ونتفكر فيه ونعمل على تنفيذ
ما طلبه القائل، فهم سمعوا بآذانهم، ولم يسمعوا بقلوبهم.
وإن هذا النص يؤخذ منه بالتضمن أن السماع أقسام ثلاثة:
أولها - سماع تفهم وتدبر وإدراك وتنفيذ على بصر وعلم، وهذا الذي يطلبه الله تعالى والنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي ذكرناه آنفا.
والثاني - سماع من غير تدبر وإدراك وتبصر، وهذا ما ينهاهم الله تعالى عنه، وهو إن لم يكن نفاقا فهو غفلة عن الحق، وليس سماع وعي وإنصات.(6/3093)
والثالث - سماع أهل النفاق الذين يقولون: سمعنا وعصينا، أو الذين يحرفون القول عن موضعه.
ومهما يكن فهذان القسمان الآخران سماع كَلا سماع. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
* * *
سماع الحق
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
* * *
إن الله تعالى أعطى الإنسان أدوات الفهم التي تميزه عن الحيوان، وتجعله كونا مستقلا قائما بذاته، وما ذلك إلا ليحتل المكانة التي هيأها الله تعالى له في هذا العالم بين العالمين فقال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78). فالسمع لمعرفة ما أمر الله، والبصر لمعرفة آيات الله في كونه، والأفئدة ليدرك وليفهم ويعلم، وهذا شكرها.(6/3094)
وإنه إذا فقد ما خصه الله تعالى به من هذه النعم فقد نزل من درجات الإنسانية إلى حضيض الحيوانية، وكان شر الدواب في هذا الكون؛ ولذا قال تعالى:(6/3095)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ).
الدواب جمع دابة وهي ما يدب على وجه الأرض من النملة إلى الحشرة إلى ما فوق ذلك، وإنه إذا عبر عن الإنسان بأصغر ما ينطبق عليه اسم الدواب والحيوان كان ذلك تحقيرا له واستهانة بأمره من زعيم يرفع ويخفض إلى حيوان لَا يملك من أمره شيئا، تدعكه الأرض بالأقدام، وهو حيوان كله آفات، ليس بكامل بل هو أصم لَا يسمع، أبكم لَا ينطق، وهو لَا يعقل فليس فيه قلب يفقه، ولا عقل يعقل، إنه شائه (1) في ذاته، ناقص في كونه، وإن كان ذا رواء؛ لأن تقدير الإنسان ليس بشكله وصورته، ولكن بقلبه وعمله.
وفى الكلام استعارة تمثيلية شبه فيها من لَا يسمع الحق ولا يدركه، ولا يبصر الآيات ولا يتأملها، ومن لَا يفقه الحق ولا يدرك بالدابة التي لَا تسمع مواطئ الأقدام، فتطؤها، ومن لَا ينطق مستغيثا، فتدقه الأمور دقا، ومن لَا يعقل ما يضره، فيكون فريسة الكل، وجامع التشبيه هو عدم الفائدة من هذه الحواس فهي إذا كانت ذات فائدة في ذاتها فإنه لَا يستفيد منها، ومن لَا يستفيد من شيء فوجوده وعدمه سواء.
وإن تشبيه الكافر بالدابة هو أصغر تشبيه له، وقد قال تعالى في تشبيهه:
(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171).
وكقوله تعالى: (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ).
وإنهم لو سمعوا لَا يجيبون، ولذا قال تعالى:
________
(1) شائه: قبيح. كما في القاموس.(6/3095)
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
هذا ترشيح للاستعارة التي قوامها تشبيه حالهم في أنهم لَا يسمعون سماع تدبر، ولا يبصرون بصر تأمل، بمن لَا يسمعون ولا يبصرون فهذا النص تقوية للتشبيه؛ لأنه قرينة تساعد المشبه به.(6/3095)
وإن الله تعالى بكل شيء عليم، فهو سبحانه يعلم ما كان وما سيكون، وهو قد قدر كل شيء بعلمه، وقد قدر سبحانه في علمه أنهم لَا يهتدون؛ لأنهم لم يسلكوا طريق الهداية، ولن يسلكوه، وذلك لَا ينافي اختيارهم، كما قال الإمام على - كرم الله وجهه - وفسر قَدَر الله بعلمه الواسع المحكم.
(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ) " لو " هي حرف امتناع لامتناع، أي امتنع إسماع تعالى لهم الكلام إسماع تدبر وإدراك لما فيه من تهديد وإنذار وتبشير، وامتنع ذلك لأنه لم يعلم خيرا في السماع، والمعنى لو علم الله أنه سيترتب على سماعهم تدبرهم وتفكرهم، وأنه سيترتب خير كالعظة والاعتبار - لأسمعهم ولبيان أن من كتب الله تعالى شقوتهم لَا جدوى معهم فقال: (وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وهُم مُّعْرِضونَ) ولو سمعوا سماع تدبر، وإمعان وإدراك ما صبروا على الحق، بل إن قلوبهم في ريب دائم مستمر، واضطراب لَا استقرار معه، فالحق يحتاج البقاءُ عليه إلى صبر، ودوام تأمل وتفكر؛ فليس الإيمان واقعة تمر، بل هو حال مستمرة دائمة، يغذيها التدبر، ويقويها طول التأمل، وهؤلاء، إن سمعوا وتفكروا حينا، لَا تستمر بشاشة الإيمان في قلوبهم.
ولذا قال تعالى في جواب الشرط: (لَتَوَلَّوْا وهُم مُّعْرِضُونَ) وهذه صورة حال المعرضين بعد أن كاد يدخل نور الإيمان قلوبهم، التولي أن يولي جنبه بدل وجهه ولإظهار أنه معرض شبهت حالهم وقد أعرضوا عن الحق وتركوه بحال الذين يديرون وجوههم وهم معرضون، غير مقبلين.
والله يدعوهم إلى الحق، ويناديهم ليجيبوه؛ ولذا قال تعالى:(6/3096)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
النداء للذين آمنوا، والنداء للبعيد؛ لعموم النداء، ولأن أداة البعيد أنسب في هذا المقام والنداء هو قوله تعالى: (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسولِ) والاستجابة معناها(6/3096)
الإجابة، والسين والتاء للطلب، ومعنى ذلك أن المنادين يطلبون إجابة أنفسهم، أي يسعون لأن يجيبوا؛ لأن الإجابة لمنفعة أنفسهم، لَا لمنفعة من يجيبونه فالخير عائد إليهم، وذكر الرسول بجوار إجابة الله تعالى للدلالة على أن إجابة الرسول إجابة لله تعالى، ولبيان أن الرسول هو الذي يوجه الخطاب عن ربه لذا عاد الضمير بلفظ المفرد.
والاستجابة لأمر عظيم، وصفه الله تعالى بأنه (يُحْيِيكُمْ) فقال: (إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) والأمر الذي يحيي الناس جميعا؛ لأنه يعم كل المؤمنين - هو العقيدة، وما اشتمل عليه القرآن من أوامر ونواه، وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، فإن العقيدة وما اشتملت عليه من توحيد بها إحياء للعقول والنفوس بإدراك الحق، وإنقاذها من الأوهام، والبعد عن مزالق الشيطان، والشريعة بما فيها من أحكام زاجرة، وأحكام مصلحة ورابطة للعلاقات الإنسانية على أكمل وجوه التعاون، فيِ كل هذا حياة للجماعات؛ ولذا قال تعالى: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)، فجعل الهداية حياة، وجعل الشرك موتا، أو عيشا في الظلمات.
وبعض المفسرين قال: إن المراد بما يحيي هنا الجهاد؛ لأن الجهاد في طلب الحق به حياة الأمم، فما تركت أمة الجهاد إلا أماتها الذل، وما اعتزت أمة بالجهاد إلا وُهبت الحياة، كما قال خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (اطلب الموت توهب لك الحياة)، وكما قال الأستاذ الشيخ محمد عبده: (إن موتا في سبيل الحق هو عين البقاء، وحياة في ذلة هي عين الفناء).
وإن الحق أن يكون ما يدعو إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الشريعة كلها من عدل وتعاون وأمر بمعروف، ونهى عن منكر، وجهاد في سبيل الله، وهو أعلاها، وهو سنام الحق وعزته.
ويقول سبحانه وتعالى حاثًّا على القيام بالحق ومحاربة الهوى:
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)(6/3097)
ذكر الزمخشري في تفسيره أن هذا التعبير السامي يحتمل ثلاثة تفسيرات: أولهما - أن الله تعالى مالك للإنسان في أفكاره ومشاعره، فهو موجه قلبه إلى ما يريده الله تعالى، فالله مالك كل شيء، وهو الموجه إليه في مصيره، أي أنه هو الذي يحول المرء وقلبه واتجاهه، فهو لَا يملك من أمره شيئا، وقالوا: إن هذا يفسر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - مخاطبا ربه: " أنت مقلب القلوب " (1)، ويظهر أن الزمخشري المعتزلي لَا يرتضي هذا؛ ولذلك يقول إنه قول بعض الجَبْرِية، وذلك غير مذهبه، ويقول تعليقا على ذلك: إن الله لَا يوجه جبرا ولكن يوجه من سار في الخير إلى ما سار فيه، ومن سار في غيره إلى نهايته.
والاحتمال الثاني - وهو الذي أختاره، أن المعنى أن الله بأوامره ونواهيه يحول بين المرء وقلبه، أي بين المرء وما تهواه نفسه، ويشتهيه قلبه من لذائذ هذه الدنيا، وشهواتها، فالشريعة قامعة للنفوس كابحة للأهواء.
وإننا نرى ذلك حقا من غير أن نقرر بطلان السابق، كما أشار الزمخشري.
والاحتمال الثالث - أن يراد قرب العبد من الله، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد وأنه بينه وبين قلبه، كما قال الله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ).
وانه لَا مانع من الجمع بين هذه الاحتمالات فليست متعارضة، ولا شبه متعارضة، فيصح أن يراد أن الله مالك كل شيء، وأن شريعته فاصلة بين المرء وأهوائه، وأن الله تعالى قريب منه مجيب دعاءه إذا دعاه، وأنه رقيب عليه يراه.
________
(1) روى الترمذي: القدر - ما جاء في أن القلوب بين إصبعي الرحمن - 2140 - عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ القُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ» قَالَ أبُو عيسَى: وَفِي الْبَابِ عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَعَائِشَةَ، وَأَبِي ذَرٍّ وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. كَما رواه أحَمد: مسند المكثرين - مسند أنس بن مالك رضي آلله عنه (11697).(6/3098)
ثم بين الله سبحانه أنه راجع إليه سبحانه، فقال منذرا، مبشرا: (وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرون).
الضمير ضمير الشأن، والمعنى، وأنه الحال والشأن تُحشرون، أي تجمعون مهما يكن جمعكم، ومهما تداخلت أجزاؤكم في الأجسام، ولو كنتم في حجارة أو حديد، أو خلق مما يكبر في صدوركم، فأنتم مجتمعون، والتعبير بـ (تحشرون) يفيد الجمع مهما يكن العدد، ومهما تتناثر الأجزاء أو يتباين كونها.
وقدم الجار والمجرور للدلالة على أن الناس جميعا يحشرون إليه وحده، وهو الذي أنذر وبشر، وأنه منفذ ما وعد، وما أوعد.
فهذه الجملة السامية تربي مهابة اللقاء، وتؤكده، وإنه لقاء بالغفور الرحيم العزيز الحكيم المنعم الجبار.(6/3099)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
إن ظلم الجماعات لَا تقف مغباته عند من يرتكبون الظلم، بل يتجاوز إلى الإفساد في الجماعة نفسها، فمن أشاع الفاحشة في الذين آمنوا بأن جاهر بها مرتكبا لها، أو أشاع قول السوء في الجماعة - إنما يدعو إليها، محرضا عليها ولو كان ما يرتكبه ليس كثيرًا، ولكن المجاهرة بها دعوة إليها، وتحريض عليها، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الاستتار، فيقول فيما روى الشافعي: " يا معشر الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات، فليستتر، فهو في ستر الله، ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد " (1).
ومن أجل هذا حث الله تعالى على اتقاء الفتن، وهي الذنوب، أو الذنوب التي تختبر بها الجماعات ومن شأنها أن تشيع أو تفسد رأيها العام، كما نرى في عصور الانحلال وشيوع الفساد، وشيوع الدعوات المنحرفة، ويكون فيها الهوى
________
(1) سبق تخريجه.(6/3099)
متبعا، والرأي منحرفا، أو الفتن تموج كموج البحر، كما رأينا في بغي معاوية ومن معه على إمام الهدى عالم المسلمين، وحامل سيف الحق علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
يقول تعالى: (وَاتَّقوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً) ومعنى اتقوا: اجعلوا بينكم وبين الفتن التي تعم آثارها وقاية، وذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنوير العقول وتثقيف القلوب. وتطهير الرأي العام من شيوع الأقوال الباطلة، فإنها تفسد الأفكار ولا تجعلها متجهة صوب الحق، بل تتميع العقول، ويكون شح مطاع وهوى متبع، ولا يكون التفكير الدقيق لما يقال، بل يتبع كل فاسق.
وإن الوقاية تكون بأمرين: أولهما - العدل، وثانيهما - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لتأمرنَّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطُرنه على الحق أطرا، أو ليضرِبَنَّ الله بقلوب بعْضكم، ثم تدعون فلا يستجاب لكم " (1).
وقوله تعالى: (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمًوا منكُمْ خَاصَّةً) هي جواب لشرط محذوف أو في معنى جواب الأمر، وهو (اتَّقُوا)، والمعنى: إن تتقوها، لَا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة. ودخلت نون التوكيد الثقيلة؛ لأن جواب الأمر في معنى الأمر، ونون التوكيد تدخل الأمر فتؤكد جوابه، وذكرت الصلة في الموصول للإشارة إلى السبب وهو الظلم الذي يعم، ولا يخص، وأظهر الظلم ليتبين أنه السبب، وأن السبب في عموم الفتن أو الذنوب، أو الفساد في الأمة بعمل الطاغين، وعدم الخصوصية أن ظلم الخاصة تكون نتيجته على الجميع؛ لأنه لا يوجد من ينهاهم، وقد أمروا بأن ينهوهم بل أن يحاجزوا بينهم وبين الظلم كما أشرنا، وكما روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تؤخذ العامة بظلم الخاصة
________
(1) سبق تخريجه.(6/3100)
إلا إذا رأوه ولم ينكروه "، فلا يعترض على عموم الفتنة بقوله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرَى)، فالعامة لَا يؤخذون بوزر غيرهم إنما يؤخذون بتقصيرهم، وإنه إذا كان الفساد من بعضهم، فأثر الفساد يعم، فإذا شاع العبث، ونتأ برأسه غير مبال بشيء فإن الجماعة كلها مسئولة؛ لأنها لم تأخذ على يد من يدعو إلى الشر، ويعلنه جهارا، ورضيت من المتسلطين ما يفعلون أو لم يستنكروا، ولم يقاطعوا أعمال المنكَرين، ومن يدفعونهم أو يشجعونهم، فكانوا وهم على سواء. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإنه لَا يكفي أن يكون الأخيار غير مرتكبين ما يرتكبه الأشرار، بل إنه يجب أن يقوموا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن الفتنة الكبرى التي وقعت بعد مقتل الإمام عثمان - رضي الله عنه - وظهور البغي السافر في عهد إمام الهدى عليٍّ وقعت آثاره على المؤمنين، ولنترك الكلمة للإمام الزمخشري في تفسيره فقد قال ناقلا: " روي أن الزبير قال: نزلت فينا وقرأناها زمانا، وما نرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها ". وعن السدي: نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الحلبة، وروى أن الزبير كان يساير النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما إذ أقبل عليٌّ - رضي الله عنه - فضحك إليه الزبير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كيف حبك لعلي "؟ فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني أحبه كحبي لولدي أو أشد حبا. فقال: " فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله " (1).
ولقد كان ما انتهى بأن ذهبت الشورى في الإسلام، وصارت مُلكا عضوضا، صالحا أو طالحا، ولكن فقد الحكم قوة الأمة، وأهمل قوله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ. . .).
ولم يبق إلا أن نعلم أن الله أنذرنا بعقابه فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وإنا قد علمناه، ولم نرتدع عن غينا، ونسلك طريق ربنا، علمناه وآمنا به، ورأينا بعضه، وهو عقاب الدنيا، فتفرق جمعنا، وتقطع الأمر بيننا، وتحكِّم الأعداء فينا وصرنا نهبا مقسوما، وصار أكثر حكامنا يرتمون في أحضان من
________
(1) ذكره بهذا اللفظ الرازي في التفسيرج 15، ص 473، والزمخشري في الكشاف: ج 2، ص 152.(6/3101)
لا يرجون للإسلام وقارا، ويفسدون تفكير المسلمين، وما يلقانا يوم القيامة أشد هولا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* * *
الإسلام قوة للمؤمنين إن آمنوا به
(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
* * *
إنه لكي تشعر الجماعات والأفراد بنعمة الحاضر يجب أن تعرف الماضي، وأن تكون صورته حاضرة دائما في حاضرها، وكذلك إذا عرفت ما كان في ماضيها من خير أدركت ما عساه يكون حاضرها، ومن حكمة الله وسنته دائما أن يجعل الماضي نوراً للحاضر، أو يكون فيه عبرة للمعتبر (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11).(6/3102)
يذكر الله سبحانه وتعالى ما كان بالمؤمنين من ضعف ليذكروا ما هم فيه من قوة ونعمة، وليشكروه على ما أعطاهم وعلى ما آتاهم، فيقول:(6/3103)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
(وَاذْكرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ).
" الواو " عاطفة على قوله تعالى: (اسْتَجِيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) الوقت هنا " إذ " مفعول به، وليست مفعولا فيه، فالذكر ليس ظرفه الوقت، وإنما ذات الوقت هو المذكر، والوقت إذا كان في الوقت يكون مظروفا فيه لَا يعدوه، وأما إذا كان هو المقصود فيكون الذكر لذات الوقت، وما كان فيه من أحداث وأحوال.
والمعنى: اذكروا في زمن العزة زمن الذلة، وصور الله سبحانه وتعالى الحال فقال: (إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ) أي: عدد قليل فإن الإسلام إذ نشأ كان عدد المسلمين قليلا، وكان المشركون يستذلونهم، ويستضعفونهم ويؤذونهم، مرة بالسخرية والاستهزاء، ومرة بالضرب والأذى، ومرة بوضع الحجر المحمى على ظهورهم، حتى كانوا يضطروهم إلى أن ينطقوا بكلمة الكفر، وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولم يسلم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأذى، حتى إنه ليرمى عليه فرث الجزور وهو يصلي، ومع هذا الاستضعاف في الأرض غير مستقرين في أنفسهم وأموالهم فهم في خوف وفزع واضطراب؛ ولذا وصفهم الله تعالى بقوله: (تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) والتخطف معناه: سلبهم أو سلت أموالهم سريعا من غير تلبث، والتخطف هو موضع الخوف، ولا يكون معه استقرار أبدا، فلا يأمن التاجر، ولا العامل، ولا الزارع، لَا على ماله، ولا على نفسه، ولذلك كانت منهم الهجرة إلى الحبشة، وقد بين الله نعمته بالإيواء والتأييد بالنصر، والرزق من الطيبات.
فقال سبحانه: (فَآوَاكُمْ) بالهجرة إلى المدينة حيث الإخوة بالمدينة الذين آووا ونصروا وعوضوكم عن نصرة القوابة والنسب التي عقَّها الشرك أُخُوَّة الإيمان، وآثروكم على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة وقال: (وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ) فجعل لكم الغلب والقوة، وكان يوم الفرقان، إذ جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، وأعزكم بعد ذلك، وصاروا هم - أي الكفار - يخافون الاختطاف(6/3103)
العادل، وسلبهم الله تعالى الأمن والاطمئنان. وقال: (وَرَزَقَكم مِّنَ الطَيِّبَاتِ) أي الطعام الطيب في ذاته، والطيب في طريق الحصول عليه، فوجدتم في المدينة الزرع والثمار بدل الجدب، وأعطاكم من غنائم المشركين حلالا طيبا، ثم قال سبحان: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي رجاء أن تشكروه على ما أنعم.
ونجد أن الخطاب للمؤمنين ليشكروه على ما أنعم من نعم نالوها بإيمانهم، واتجه بعض المفسرين إلى أن الآية تبين نعمة الإسلام على العرب، بعد أن دخل الناس في الإسلام أفواجا، أفواجا، ولا يقتصر الإيواء والنصر على ما كان بعد الهجرة مباشرة، بل يعم ما شمل العرب من خير عميم، وجاء ذلك في أقوال بعض التابعين، فقد روي عن قتادة السدوسى في هذه الآية أنه قال: (كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلا، وأشقاها عيشا، وأجوعها بطونا، وأعراها جلودا، وأبينها ضلالا، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم زوى في النار.
يؤكلون، ولا يأكلون، والله ما نعلم من حاضر أهلٍ يومئذ من كانوا شرا منزلا منهم حتى جاء الإسلام، فمكَّن به في البلاد، ووسَّع به في الرزق، وجعلهم ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله).
وإن هذا ليس رأيا مغايرا للتفسير السابق، ولكنه حكم بعموم النعمة على العرب أجمعين، لَا للذين هاجروا وجاهدوا، وأيدهم الله تعالى بنصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل بكل العرب؛ إذ رفعهم من جهل إلى علم بالإيمان، ومن شظف العيش إلى عيش رفيع، حتى لقد قال خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (والله ليتألمن من النوم على الصوف الأذربى كما يتألم - أحدكم من النوم على حسك السعدان)، ولقد حذر الله تعالى من أسباب الفساد عندما يفيض الخير فقال عز من قائل:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)(6/3104)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
أمر الله تعالى المؤمنين بأن يذكروا في الرخاء الشدة، وفي الكُثر يذكرون القل، وفي العز يذكرون الذل، وفي حال الاعتزاز يذكرون الاستضعاف ليعرفوا النعمة، وحقها، وقد ذكر بعد ذلك ما يصون رفعة الأمم والآحاد، فذكر أنه الأمانة؛ ولذا حث عليها بالنهي عن الخيانة.
والتفسير اللغوي لكلمة " خان " هو أن معناها نقص؛ ولذا يقال لنقيضها، " وفّى " فيقال خان الأمانة، بمعنى نقضها، ويقال وفَّاها أي أداها على وجهها، والنهي عن خيانة الله وخيانة رسوله فهي واحدة، لأن ما يطلبه الله يطلبه رسوله، ولكن ألحق جلاله مع النبي أو النبي مع الله؛ لتأكيد المعنى في أن من أطاع الرسول فقد أطاع الله، ولبيان أن الرسول لَا يطلب إلا ما يطلبه الله تعالى؛ ولأن يبين أن نصرة لرسول نصرة لله، ومحبة الرسول محبة لله (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. . .)، وأن خيانة الرسول خيانة لله تعالى.
وخيانة الله ورسوله، تشمل عدم إطاعة الشرع، ومخالفة نواهيه، وترك الجهاد، وإفشاء أسرار المؤمنين، وإعلان ما أمر الله بكتمانه، والغلول في الغنيمة قبل قسمتها، والكيد لجماعات المسلمين، واتخاذ بطانة من غيرهم، وموالاة أعداء الحق، وفي الجملة مناوأة أهل الحق سرا وباطنا، فهذه كلها خيانة لله ورسوله، وعدم رعاية الأمانات، ومناصرة الظالم، ومعاونته على الظلم وعدم مراعاة الأمانات، وفي الجملة تشمل خيانة الله ورسوله كل خيانة للشريعة، سواء أكانت تتعلق بالآحاد والجماعات، وقوله: (وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) عطف على خيانة الله ورسوله، والمراد (أَمَانَاتِكُمْ) الأمانات التي عهد إليكم بالقيام عليها، وأدائها في وقتها ويكون النهي عن خيانتها وارد من ناحيتين:
الناحية الأولى: من جهة أن خيانتها خيانة لله ولرسوله؛ لأن الله تعالى أمر بأداء الأمانات إلى أهلها، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَن تؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا(6/3105)
وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، ومن أن شريعة الله التي بلغها محمد - صلى الله عليه وسلم - تأمر بأداء أمانات العباد إلى أصحابها.
والناحية الثانية من أمانات العباد: حق العباد، وديوان ظلم العباد لَا يُغفر إلا برد مظلمة ظلم الطاغين، وقد أكد الله تعالى النهي وغلَّظه بقوله تعالى: (وأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) أي تجحدون الأمانة وأنتم تعلمون وجوبها، أو تنكرونها، وأن تعلمون أمرها، وأن أداءها واجب عليكم.
ونرى من هذا أن خيانة الله ورسوله والناس أجمعين منهي عنها، وأن عمومها لَا يمنع أنها قد تكون اقترنت في نزولها بحوادث وقعت من بعض الصحابة.
فقد روى أن أبا لُبابة كان بينه وبين بني قريظة صلات، فلما حكَم النبي - صلى الله عليه وسلم - سعد بن معاذ فيهم أشار إليهم أبو لبابة بألا يحكِّموه، وأشار إليهم بأن حكمه الذبح، فأحس بأنه خان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فربط نفسه في سارية المسجد، ونذر ألا يأكل حتى يحله رسول الله، فمكث تسعة أيام خر على أثرها مغشيا عليه فتاب الله تعالى عليه، وحل وثاقه فقال: إنه نذر أن ينخلع من كل ماله، إن تاب الله عليه، فاكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلث ماله (1).
وروى أنها نزلت عندما أرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين يخبرهم بسير النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكتمان، فخان المسلمين بهذا الإخبار (2).
وفى الحق إن الآية عامة لهذه الأحوال وغيرها.
وإن خيانة الأمانة سببيا الهوى، ومسير الهوى ودافعه فتنة المال والولد؛ ولذا قال تعالى ذاكرا سبب الخيانة ليكون الحذر:
* * *
________
(1) رواه أحمد: مسند المكيين - حديث أبي لبابة (15323) وانظر مسند الإمام أحمد: مسند الأنصار - باقي مسند عائشة رضي الله عنها (24573).
(2) انظر البخاري: الجهاد والسير الجاسوس (3007)، ورواه مسلم: فضائل الصحابة - من فضائل أهل بدر (2494).(6/3106)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
* * *
سبحان منزل القرآن، أنزله نظاما وشرعا محكما، وحكمة منزلة، هو أمرنا ألا نخون، وعلمنا كيف نحارب نوازع الخيانة في نفوسنا، ونعالج منابع الفساد فينا، وهدانا السبيل لأن نربي أنفسنا؛ طلب إلينا ألا نخون، ثم بيَّن موضع الداء وهو فتنة المال والولد.
والأمر في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكمْ وَأَوْلادُكمْ فِتْنَةٌ) أمر تعليم وعلم، وهذا العلم هو أن المال والولد فتنة، والفتنة هنا المراد بها الاختبار والامتحان من فتن الفلز إذا صهره بالنار لإخراج الفلز مما يعلق من مفاسد.
وإنه بمقدار توقِّينا لفتنة المال يكون بعدنا عن الخيانة، ولقد قالوا: إنه كان لأبي لبابة الذي ذكرنا أنه شعر بأنه خان الله ورسوله إذ أشار لليهود بأن الحكم الذي سيصدره معاذ هو الذبح، كانت له أموال عند اليهود يخاف ضياعها ففتنة المال أغرته بأن يقدم على الخيانة، وأن يطهر نفسه ذلك التطهير الشديد، بأن يحاول الانخلاع من كل ماله، فيخفف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يجعله في الثلث.
وفتنة المال أشد فتنة، ويقول الله تعالى: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. . .)، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكمْ وَأَوْلادِكمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ. . .).
وقدم المال على الولد؛ لأن المال في أظهر أحواله متعة خالصة، والولد متعة، وتكليف، وما لَا تكليف فيه يكون أوضح وأظهر استمتاعا؛ ولذلك طلب المال الجميع. والأبوة متعة، ولكن معها تكليف ورعاية، والذين تفتنهم الدنيا تغرهم الأمور الظاهرة، وتعوق متعتهم الأمور القابلة، وإنه حيث فقد الشخص إحدى المتعتين المال، أو الولد، اشتدت الأخرى؛ ولذا كانت متعة الولد تشتد عند الفقراء، ولا تكون عند الأغنياء، كقوتها عند الفقراء، وتلك الفطرة.(6/3107)
وقوله تعالى: (أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) فيها قصر الأموال والأولاد على الفتنة، ومن ناحيتها تجد الخيانة مسرب الشيطان إلى النفوس، فالآية تحذرنا من هذه الفتنة، والحذر لَا يكون بترك المال والأولاد، إنما الحذر ألا نطلب المال إلا من الحلال، وألا تدفعنا عاطفة الأبوة إلى الشطط ومجاوزة الحد.
وإنه يجب محاربة المتعة حتى لَا تشتط بالإنسان بطلب متعة أبقى وأدوم وأهدى سبيلا، ولذا علمنا الله تعالى الإيمان بأن عند الله أجرًا عظيما، إذا قاومنا فتنة المال والولد، والمقاومة ليست بالحرمان كما أشرنا، ولكن بالحذر، وألا نتعدى حدود الله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا. . .)، ولذا قال تعالى: (وَأَن اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) وذلك أجر مقاومة الفتنة، والوقوف بالمحبة للمال والولد، عند الحد الذي لَا تكون معه خيانة، ولا تجانف لإثم.
وقد أكد الله تعالى أجر الله الذي يتكافأ مع مقاومة الخيانة بسبب متعة المال والولد أولا: بالتعبير بالجملة الاسمية. وثانيًا: بـ (أنَّ)، وثالثًا: بتنكير أجر، فإن معنى هذا التنكير الكبر إلى درجة، ورابعًا: بوصفه بأنه عظيم وذلك لتحصين نفسه بهذا الأجر الذي لَا يقارن قدره.
وإن تقوى الله تعالى هي السبيل لمقاومة الشر، وجعل فارق بيِّن يجعل النفس تبتزم الجادة ولا تحيد عنها؛ ولذا قال تعالى:(6/3108)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
يحصن الله تعالى نفس المؤمن ليكون دائما بعيداً عن الخيانة، وقد حصنها بما أعد من أجر عظيم للمؤمنين الأمناء الذين شروا أنفسهم لله تعالى، وأعدها بتربية التفوى في النفس، حتى تكون في حال خوف من عذابه، كما ترجو ثوابه؛ لذلك ناداهم سبحانه وتعالى مبينا خواص التقوى، فذكر أنها تنير الطريق، فلا(6/3108)
تضل العقول، فيقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِن تَتَّقوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكمْ فُرْقَانًا وَيكَفِّرْ عَنكمْ سَيئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ).
ثلاثة أمور تترتب على التقوى مجاوبة لنفس المتقي، وهي الفرقان، وتكفير السيئات، والغفران.
أما الأول وهو الفرقان، فهي كلمة جامعة لمعاني الفصل بين النور والهدى، والحق والباطل، والواضح النيِّر وما فيه إشباه وإبهام، والطاعة والعصيان.
وتطلق كلمة الفرقان على كل ما يؤدي إلى هذه المعاني، فتطلق على النصر؛ لأنه يعلي الحق، ويخفض الباطل، ويفرق بين العزة والذلة، وتطلق على البيان؛ لأنه يفرق بين الحق والشبهات، ويشهر الحق ويعلنه، وينشر الاسم والصيت في الأرض.
وكيف تكون التقوى تعمر النفوس، وتطهر القلوب، وتنير الأبصار، وفي الحكمة الشرقية أن القلب إذا عمره الإخلاص وقذف الله فيه بالحكمة، فاستقام اللسان واستقام العمل، واستقام السلوك ولم ينحرف عن الجادة، وحينئذٍ لَا يشتبه أمر من الأمور، وتكون الشتبهات ضاحيات نيرات إما إلى الهدى، وإما إلى الضلال.
هذا هو الفرقان، وهو أولى ثمرات التقوى، وهو جامع للخير، إذ هو جامع للعلم النافع الهادي.
والثاني: هو إن الله تعالى يكفر عنه السيئات، وتكفير السيئات معناه إزالة آثارها في النفس، فإن النفس إذا أذنبت نكتت فيها نكت سوداء تتوالى حتى يرباد القلب، وتكفير السيئات إزالة هذه النكت السوداء، أو ما علق منها، حتى يصير القلب أملس كالمرآة، وإن التقوى تفعل ذلك؛ لأنها تجلو صدأ القلوب ويمتلئ القلب بذكر الله تعالى، فيعبده كأنه يراه، ويحس بعظمته تملأ نفسه، وتنير سبيله.(6/3109)
والثالث: فمن بعد تطهير النفس من السيئات بتكفيرها، يكون الغفران وستر الذنوب، وتكون الرحمة الشاملة، ولقد ختم الله تعالى ذلك بقوله تعالى: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) لأن ذلك كله من فضل الله تعالى (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
ذكرنا الله تعالى بما كان عليه المؤمنون في مكة، إذ كانوا عددا قليلًا مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، وقد بين أشد ما دبروه، وهو ما أعقبه الهجرة، ليتذكروا شدتهم في رخائهم ولذا قالوا: إن تسع آيات مكية جاءت لهذا التذكير ومنها قوله تعالى.
* * *
المكر لأبلغ الإيذاء
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
* * *
في هذه الآية يذكر الله سبحانه وتعالى ما كانوا يبيتونه للنبي - صلى الله عليه وسلم - قبيل أن يهاجر، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدبر للهجرة من قبل ذلك، فقد أخذ يعرض نفسه على(6/3110)
القبائل، حتى وجد قبل الهجرة بما يقارب سنتين الأوس والخزرج، فأخذ يدبر أمر الهجرة إليهم في يثرب، ويعد العدة لذلك ويهيئ المُتَبوَّأ، ويتم الرسالة، بلاغا وتبيينًا، وقد هاجر من هاجر قبل ذلك إلى الحبشة، وهاجر إلى المدينة من يحفظ القرآن ويعلم الإسلام فهل كانت الهجرة فرارًا من الإيذاء وطلبا للأمن؟.
لا شك أن فرار الذين هاجروا إلى الحبشة كان من الأذى والفتنة في الدين، وينطبق عليهم قوله تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ. . .).
أما هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - فما كانت فرارًا من الأذى بل كانت نظاما لتأسيس دولة، ولأنه نظام يجب أن يتحقق، ولأن الإسلام جاء لإقامة دولة تحكم بأمر الله ونهيه، وتقيم العدل، وترفع الجور، وما كانت تتمكن من ذلك، وهي خاضعة لعبدة الأوثان، بل كان لابد من الهجرة حيث تكون القوة، وحيث يتمكن من إقامة الدولة، وقد اختار الله تعالى من الأرض أرضا ينتشر منها خبر الدعوة المحمدية في كل ربوع البلاد العربية، فكانت أرض البيت الحرام، وقد مكث محمد ابن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث عشرة سنة يدعو، دخل خلالها في دينه بعض قريش، وبعض القبائل، وعرف العرب دعوته، حتى إذا تكونت الجماعة التي كانت النواة الأولى، مهَّد لإنشاء الدولة، فسافر إلى المدينة مهاجرًا.
وبينما هو يعد العدة، أو أعدها ومهَّد الأرض وعبَّد المقام - كانوا يفكرون في الإيذاء، ولذا لَا نقول هاجر فراراً، بل كان الاتفاق الزمني، وهم يفرغون جعبتهم، وقد أفرغوها، وراشوها (1)، ولم يجدوا موضوعا لفعلهم.
________
(1) راش السهم، راش سهمَه يَرِيثه رَيْثا إِذا ركَّب عليه الرّيشَ، إشارة إلى كماله واستقامته. لسان العرب - ريش. والمعنى أنهم استعدوا لما هموا به من قتل النبي - صلى الله عليه وسلم.
َ(6/3111)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الُّذِينَ كَفَرُوا)
(إذ) ظرف وقائعه في الماضي، وهو متعلق بمحذوف تقديره اذكر، أي اذكر يا محمد ومن معك الوقت الذي بلغ الأذى أقصاه، وهم يمكرون، ويدبرون ويحكمون، ويتجادلون في أنجع طريق لسد الطريق على دعوتك، أيحبسونك، أو يقتلونك أو يخرجونك، وقد اجتمعوا، ويقول الله تعالى مشيرا إلى آرائهم (لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) و (يثبتونك) معناها يحبسونك فيمنعونك الحركة أو يقتلوك أو يخرجوك.
ولنضرب بكلمة موجزة، لقد ئبت بإسناد صحيح أن الملأ من قريش اجتمعوا في دار ندوتهم ليتشاوروا في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد صار على أمر عظيم عليهم، خالفهم وسفه أحلامهم وعاب آلهتهم فتقاولوا في أمره ماذا يصنعون أيثبتونه أي يمنعونه من الحركة بالحبس، أم يقتلونه، أم يخرجونه.
قال قائل منهم: احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون، حتى يهلك كما هلك من قبله، فلم يرتضوا هذا رأيا، وقال قائلهم: والله ليخرجنه أصحابه فليوشكن أن يثبتوا يأخذونه من أيديكم فيمنعونه منكم. قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم، فتستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع، وكان أمره في غيركم.
فقال قائل: ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذه القلوب بما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم ليجتمعن عليه، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم.
وقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، لَا أرى غيره؛ قالوا: وما هو؟ قال تأخذون من كل قبيلة غلاما شابا وسطا نهداً، ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ثم يضربونه ضربة رجل واحد فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إن رأوا ذلك قبلوا العقل واسترحنا.(6/3112)
قبلوا ذلك الرأي واستطابوه وهموا لتنفيذه، واجتمعوا حول داره لينفذوا الخطة، وأتوا بالشباب الأنهاد، ولكن الله تعالى كان يدبر لرسوله ورسالته، ولقد جاء سيف الحق علي كرم الله وجهه ونام مكان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم مصطفون حول الدار وقبض قبضة من الرماد وقال: " شاهت الوجوه " (1)، ويروى أنه تلا قوله تعالى: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) (2).
هذا تدبيرهم ومكرهم، وإنه في هذا الوقت الذي كانوا يمكرون فيه، كان الله يدبر فيه لرسوله ولرسالته، فكان يدبر أمر هجرته، وابتدأت بهجرة كبراء الصحابة كعمر رضي الله عنه، وأبي عبيدة، وغيرهما من كبار الصحابة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحتجز أبا بكر لصحبته، فكان له فضل الصحبة في الغار.
وسمي تدبير الله تعالى مكرا من قبيل المشاكلة اللفظية، كقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ. .. )، فدفع الاعتداء ليس اعتداء.
والله تعالى (خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أي خير من يدبر، وينظم ويحمي نبيه ورسالته لأن تدبيره سبحانه وتعالى خير، ولا يمكن إلا أن يكون خيرًا وهو نافذ ومنتج ومؤد إلى غاية هي خير غاية.
وقد ترتب على تدبير الله أن قامت دولة الإسلام وظهر في الوجود أفضل مدنية كانت للفضيلة ونشأت بالفضيلة، وقد ذكر الله استهزاء الكافرين بآيات الله تعالى، وكيف يتلقون آيات الله بأهمال وسخرية فقال:
(وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
________
(1) رواه أحمد: مسند بني هاشم - بداية مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (2725).
(2) رواه أحمد: مسند بني هاشم (3241).(6/3113)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
نزلت هذه الآية في مكة، وهي تتلى في سورة أكثرها نزل بالمدينة لتذكرهم بما نزل بهم من المشركين بمكة إذ كانوا يستهينون بأمرهم، ويستضعفونهم، وقد امتد أمر استهانتهم إلى الحجج القارعة، مع عجزهم عن أن يأتوا بمثله القرآن، يقول تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا) هذا تصوير لبعض أحوالهم عند سماع تلاوة القرآن، فأحيانا كانوا يتناهون عن الاستماع وقالوا: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ)، وأحيانا يطلبون آيات، وأحيانا لَا يعيرون القرآن التفاتا ويعلنون الاستهانة به.
(وِإذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ) عبَّر بالمضارع لتصوير حالهم وتجددها آنًا بعد آنٍ والتلاوة: الترتيل بالقراءة آية تلو آية في نغم هو ترتيل الله تعالى، ولا يجيبون بالتأمل والتفكير والتدبر فيما يتلى، بل يعاجلون القارئ كأنهم يطلبون أن يسكت ولا يقرأ قائلين: سمعنا، كما تقول لمتكلم لَا تريد منه الاستمرار: سمعنا، سمعنا، أي أقصر، وكأنهم يتأففون، ثم يردون قائلين، (لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا).
أي لو شئنا أن نقول مثل هذا الكلام لقلناه، ولكنا لم نُرِدْه، وهذا كلام يحمل في نفسه دلالة على عجزهم أن يأتوا بمثله، ولقد تحداهم القرآن أن يأتوا بعشر سور، فما أتوا، تحداهم أن يأتوا بسورة فعجزوا واعتذروا بأنهم لم يأتهم تأويله، فتحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله مفتريات فعجزوا، أفبعد هذا التحدي الشامخ والسكوت الخانع والعجز الخاضع يقول قائلهم: لو شئنا لقلنا مثل هذا؟!! تلك غطرسة كاذبة، ونفخة جوفاء.
ويردفون كذبهم بكذبة أخرى فيقولون: (إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ) (إنْ) هنا نافية، أي ما هذا الكلام إلا أحاديث الأولين التي يسمر بها ويقصدونها قطعا للفراغ، والأساطير جمع أسطورة وهي الأخبار التي يخترعها القصاصون وغيرهم في سموهم ولهوهم.(6/3114)
وقد روى أن قائل هذا هو النضر بن الحارث، وكان يتخذ مجلسا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يقص فيه أخبار ملوك الفرس، وأمرائهم، ونسب القول إلى كلهم؛ لأنهم ارتضوه وقبلوه وصدقوه. وكل ذلك كان بهتانا وكذبا.
ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنهم قالوا ذلك ورد قولهم، فقال تعالى:
(وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6).
وإن هؤلاء المشركين لَا يريدون الحق ليتبعوه، بل هم في ضلال، وإنهم يضلون ضلالا بعيداً، وقد حكى الله تعالى حالهم، ودعاءهم الساخر الماجن:(6/3115)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
(وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
إن هذه الجملة السامية الحالية تنبئ عن أن هؤلاء قد أركست نفوسهم في الشرك إلى درجة أنهم يتمنون أن يعيشعوا فيه، وألا يفكروا في تغيير ما بأنفسهم.
يقول الله تعالى عنهم يقولون: (اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأمْطِرْ. . .) هذا أقصى أحوال الجحود والإنكار، حتى إنه ليتوقع شر ما يتمناه المرء إذا كان ذلك صدقا، فيقول: إن كان هذا هو الحق وحده ولا حق سواه، فخير لنا أن تنزل علينا حجارة من السماء أو تأتنا بعذاب أليم من جنس هذا العذاب، فهو ينكر أولا، ويعده شر الأحوال ثانيا، ويصر عن إنكاره، ولو بدت دلائل الحق ثالثا.
وفى ذلك فوق هذا الجحود الذي لَا حد له سخرية وتهكم، وأنه يستحيل في نظره أن يكون حقا. وهنا إشارتان بيانيتان رائعتان:
الأولى - قولهم: (إن كَانَ هذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ)، فيها قصر الحق على هذا، وهو التوحيد، والإيمان بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، فالإنكار واقع على قصر الحق، وكأنهم يريدون أن يكون ما هم عليه حقا وهو الباطل الذي لَا ريب فيه.(6/3115)
الإشارة الثانية - أنهم يقولون في الجواب المترتب على هذا الشرط، (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ) فذكر السماء؛ لأنه المناسب للإمطار، وليكون أشد؛ لأنه يكون حجارة تنصب على الرءوس انصبابا كانصباب الماء، ولأنه كما قال الزمخشري، يكون سجِّيلا، كالحجارة التي نزلت بأصحاب الفيل، التي حمى الله تعالى بها بيته الحرام من أبرهة الذي أراد هدم البيت.
وإن ذلك النص السامي، كما هو أقصى الجحود والتهكم هو أقصى ما يدل على الحمق والجهل، يروى في هذا أن معاوية بن أبي سفيان دخل عليه رجل من سبأ، وقال له: إنكم قوم تجهلون وليتم عليكم امرأة، فقال الرجل: أنتم أجهل؛ لأنكم قلتم: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، ولم تقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا.
والجواب لمثل معاوية حق؛ لأنه هو وأبوه كانا ممن يظن أنهم قالوا ذلك، وإن أسلموا من بعد وكانوا من المؤلفة قلوبهم وأخذوا مئات من النوق.
إنهم يستعجلون العذاب قبل أن ينزل، وقد بين الله تعالى استحالة ذلك على مقتضى السنة التي سنها الله تعالى مع الرسل وأقوالهم، وهي أن الله تعالى لا يعذبهم والرسل بينهم يدعون، ولذا قال عز من قائل:(6/3116)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
هذا النص السامي فيه بيان أن الله لَا يعذب الأقوام، والرسول يدعوهم حتى يكون اليأس من إيمانهم كما فعل الله تعالى مع قوم نوح، لقد قال تعالى عند إنزال العزم فيهم (لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ. . .).
و (اللام) في قوله تعالى: (لِيعَذِّبَهُمْ) هي التي يسميها علماء النحو لام الجحود أي تكون لتأكيد النفي، والمعنى: ما كان من شأن الله العلي الأعلى أن(6/3116)
يعذب المشركين، وأنت فيهم تدعو، ويفشو الإيمان فيهم وقتا بعد آخر، وهؤلاء بهذا الدعاء الذي يجحدون به يستعجلون العذاب، والله فوق أهوائهم وله في خلقه سنة ولن تجد لسنة الله تعالى تبديلا، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله تعالى " (1).
ثم يقول سبحانه: (وَمَا كَانَ اللَّه مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرونَ)، قال بعض العلماء إن العذاب الذي يعم يكون الجميع مستحقونه، فإذا كان فيهم من يستغفر لَا يعمهم العذاب، فمعنى (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي بعضهم يستغفر وعبر بما يدل على الجميع للإشارة إلى أنه ينبغي أن يكون ذلك، وقيل إن المراد قولهم في الطواف: غفرانك.
وقيل المراد توبتهم إن تابوا.
وينقدح في نفسي أن الأقرب للمعنى أن نقول، (وَمَا كَانَ اللَّهُ معَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) بمعنى يدخلون في دين الله تعالى فوجا بعد فوج، إذن لانقطع السبيل على المستغفرين الذين يجيئون تباعا بإنزال العذاب، بطلب المستعجلين خضوعا لأهوائهم وضلالهم.
وقد نفَى الله عن ذاته العلية الشأن، فقال تعالت كلماته: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ) فنفى اسم الفاعل وهو نفي الوصف القائم بالذات العلية، (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
* * *
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: بدء الخلق - ذكر الملائكة (3231)، ومسلم: الجهاد والسير - ما للقي النبي صلى الله عليه وسلم (1795).(6/3117)
(وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
* * *
إن الله سبحانه وتعالى رد استعجالهم للعذاب، كما استعجل المشركون إسلافهم العذاب، فأنزله تعالى، أما المشركون الذين بعث فيهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، فما بعث لهم وحدهم، بل بعث للأحمر والأسود، والأبيض والأصفر، فما كان لينهي رسالته بكفر أهل مكة وإصرارهم على الشرك ومعاندة الحق، بل لَا بد من تبليغ رسالة ربه، وأن يعرفها الكافة فقد أرسل إليهم، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلنَاكَ إِلَّا كَافَةً لِّلنَّاسِ. . .)، ولذلك قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) على ما ذكرنا ولكنْ هناك عذاب لهم ينزل بهم في الدنيا، أساسه منازعة الحق للباطل، وإزالة مثارات الشيطان أمام شرع الرحمن، ولابد أن يخلو وجه الناس للحق، فكان لابد من مغالبتهم بالقتال، وهو بعون الله تعالى عذاب لهم، وهذا هو العذاب الذي قرره الله تعالى لهم في قوله تعالى:(6/3118)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
(وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).(6/3118)
هذا تعجب من عدم تعذيب الله لهم بالمغالبة، ومنازعتهم ما وضعوا أيديهم عليه بالباطل، وأقاموا أصنامهم فيه، وليسوا أهلا لولايته.
والاستفهام للتعجب من مناقضة حالهم لما يجب لحرم الله الآمن، والمعنى أي أمر ثبت لهم حتى يقيموا في الحرم ولا يعذبهم يمنعهم منه، وهم يحاربون شعائره، وذلك بصدهم عن سبيل الله، وعن المسجد نفسه فهم يمنعون النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يؤدي المناسك، ويمنعون ضعاف المؤمنين بإيذائهم، ويصدون الناس معنويا بوضع الأصنام على الكعبة بناء إبراهيم، وينتهكون المحارم، بحمل الناس على الطواف عرايا رجالا ونساء، حتى إنهن ليسترن سوءاتهن بأكفهن، هذا كله صد عن البيت.
فكيف لَا يعذبهم الله بمغالبتهم على الاستيلاء على البيت، والحال أنهم لا يقومون على حرمات البيت، وهو المسجد الحرام الذي جعله الله حرما آمنا، والناس يتخطفون من حوله.
والتعذيب، كما أشرنا هو مغالبتهم لنزع البيت من تحت أيديهم، ووضعه في يد أولياء الله ولكنهم يدعون أنهم سدنته، أو أنه بأيديهم مفاتيحه، من عهد إبراهيم، وقد أجاب الله تعالى عن ذلك بأنهم ليسوا أولياءه، أي ليسوا حُماته، أو القائمين عليه؛ وذلك لأن ولايتهم إنما هي بالخلافة عن إبراهيم بانيه ورافع قواعده، وما كان مشركا.
وإنهم إذ أشركوا، وصدوا الناس عن المسجد الحرام، ومنعوا غير العرايا، قد فقدوا صفة الخلافة عن إبراهيم الذي جاء بالحنيفية السمحة، قد فقدوا الحق في هذه الولاية. ولذا قال تعالى: (وَمَا كَانوا أَوْلِيَاءَهُ) أي ما استمرت لهم هذه الولاية، لأن " كان " تدل على الاستمرار وفيها نفي لهذا الاستمرار.
والولاية الحق تكون لن كانوا على ملة إبراهيم السمحة، ولذا قال: (إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) هذا قصر للولاية على الموحدين المؤمنين الذين بلغوا ذروة(6/3119)
الإيمان، وهي التقوى، (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) أنفسهم وضلالهم فلا يستحق الولاية المؤمن فقط، بل المؤمن الذي يتقي الله ويحفظ حرمات بيته، قال عز من قائل: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18).
وإن هؤلاء المشركين لَا يعرفون شيئا مما يليق بهذا البيت العتيق الذي هو أقدس بيت في هذه الأرض؛ لذا ذكر سبحانه، كيف يتعبدون في هذا البيت عابثين، غير مؤمنين.(6/3120)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
(وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
كانوا يصفرون ويصفقون، ويضعون خدودهم على الأرض، وهم على هذه الحال، ويسمون هذه الحال صلاة، فهي في حقيقتها ليست صلاة إبراهيم، ولا صلاة مطلقا، ولكنهم سموها صلاة، وعدوا أنفسهم بها مصلين، وتجاوزوا كل معقول، وعدوا أنفسهم أولياء البيت الحرام، وهم يصدون الناس عنه، ويتحكمون فيه، وفيمن يغدون إليه إجابة لدعوة إبراهيم من كل فج عميق.
يقول تعالى: (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) أي ما كان دعاؤهم عند البيت أو ما كان ما يسمونه صلاة، سولتها لهم نفوسهم عند البيت، أي عند ذلك المكان القدس الذي كان أول بيت وضعه الله للناس الذي قال الله تعالى فيه (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا. . .)، إما كانت إلا مكاء وتصدية وذكر كلمة البيت، وأن هذه التي سموها صلاة كانت عنده، ليتبين عبثهم بهذا البيت المقدس، وليتبين عبثهم في هذا المكان الذي ادعوا أنهم أولياؤه، والمكاء كرُغاء وخُوار وغُثاء ويعني الصفير، فوزنه فُعَال، وفعله مكَا يَمْكُو إذا صَفَّر، والتصدية مأخوذة من الصدى، والمراد التصفيق؛ لأن التصفيق ترديد للصدى. وقد(6/3120)
روي ذلك عن أبي حاتم، وابن عمر، وقال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة، وتصفق، والمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق.
ويروى أنهم كانوا يفعلون ذلك، ليخلطوا بذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاته.
وإن الزمخشري يقول: إن الله تعالى سمى فعلهم ذلك صلاة تهكما عليه، وقد جاء في الكشاف ما نصه: " فإن قلت ما وجه هذا الكلام قلت هو نحو قوله: وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه ... أدَاهِمَ سودًا أو محدرجةً سُمْرا والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء، ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة، وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء وهم يشبكون أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون، وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وخلاصة القول أن نقول: إن تسمية عملهم صلاة على زعمهم، أو نقول مقالة الزمخشري: إنه تهكم على فعلهم، فسمى صلاة تهكما، كما يسمى وضع الأيدي في القيود، وهي الأداهم، والسياط وهي المحدرجة السمر - عطاء، وذلك إهانة للبيت، وتحقيرًا له، لَا يعقل أن يصدر من أوليائه فليسوا له.
هذه تصرفاتهم في البيت، وهي صغار شديد لأمره، لَا يليق ببيت إبراهيم، بيت الله العتيق، ولذا قال تعالى:
(فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفرُونَ).
وفى هذا الكلام التفات إليهم وتوجيه الخطاب لهم، لأن مخاطبتهم بالعقاب يجعله أوقع في النفوس وأدعى للرهبة، والفاء فاء الإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، إذ يكون الكلام تقديره: إذا كانت هذه صلاتهم وإذا كان هذا فسادهم، فذوقوا العذاب بسبب كفركم.(6/3121)
وهنا إشارات بيانية يجب التنبيه إليها.
الأولى - التعبير بـ (ذوقوا العذاب) فإنه مجاز عن نزوله بهم بحيث يمس إحساسهم، وكأنه يذاق مذاقا مؤلما ولا يخلو ذلك من تهكم بهم، كما يقول الله تعالى: (فَبَشِّرْهم بِعَذَاب أَلِيم).
الثانية - قوله تعالى: (بِمَا كنتمْ تَكْفرُونَ)، فإنها تدل على استمرار الكفر، وأن هذا الاستمرار هو السبب في ضلالهم، فإن كنتم وكان فيها دالة على الاستمرار.
الثالثة - أن التعبير بالمضارع يفيد تصوير حال كفرهم المتجدد المستمر، فكل ساعة تمر وهم كافرون تجديد للكفر، وحيث يتجدد الكفر يتجدد سبب العذاب، وقانا الله تعالى منه.
وإن المشركين بذلوا، وسيبذلون كل مال للصد عن سبيل الله؛ ولذا قال سبحانه:(6/3122)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
هذه الآية أقرب إلى الظن أنها مدنية، ولكن نقبل ما يقرره القراء، وهي أنها مكية عند بعضهم، وهي لَا تتغير بوصف المكية أو المدنية، فكله كلام الله تعالى لا يتغير بميقات نزوله، ونحسب أن ما في سورة الأنفال مما نزل بمكة، قد انتهى إلى ما قبل هذه الآية.
كتب الصحاح التي تكلمت في أسباب النزول تجمع على أن سبب نزول هذه الآية أن قريشا بعد أن عضتهم الحرب في بدر، وأرادوا أن يثأروا لأنفسهم جمعوا مالا لينفقوه في حرب أخرى يعدون لها، ولكن قال الضحاك: إنه عنى بالآية المطعمون الذين كانوا يطعمون يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا.(6/3122)
والمذكور في سيرة محمد بن إسحاق أنه لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان لعيره، مشى رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك العيرة تجارة فقالوا: " يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا " ففعلوا، وقد ذكر ذلك عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما.
وأيا كانت الأخبار في ذلك وإنها لصادقة، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإن الله تعالى الرحيم الرءوف بعباده، لَا يجعل المؤمنين فريسة لأموال المنافقين ينفقونها للصد عن سبيله، فينصروا بأموالهم وينخذل أهل الحق، فصد هؤلاء عن سبيل الله.
إن الله تعالى يؤكد أن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فلا يتحقق لهم قصدهم فيقول: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً).
أكد الله سبحانه الإنفاق لهذه الغاية وهي الصد عن سبيل الله، وذلك يجعل كلمة الشرك عالية، ويخضد شوكة المسلمين دعاة الحق، ويمنع الرسول ومن اتبعه من الدعوة، وفي سبيل حرب أهل الإيمان، وقد أكد الله تعالى أنهم سينفقونها بهذه النية الفاسدة، فالسين هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل، وقد كرر النص الكريم الإخبار بالإنفاق، والأول للغرض من الإنفاق، وهو أنه للصد عن سبيل الله فهو بيان للنية الخبيثة، والقصد الفاسد.
والثاني لبيان أنه لَا نتيجة لهذا الإنفاق، بل يكون عليهم حسرة، وسيغلبون.
والفاء في قوله تعالى: (فَسَيُنفِقُونَهَا) لبيان وقوع ما يريدون من غير أن يترتب عليه ما يحبون.(6/3123)
و (ثم) هي للعطف والترتيب، وكان التعبير بـ (ثم) لبيان بعد ما يقع عما يريدون، فهم أرادوه سرورا لأنفسهم بتحقيق الصد عن سبيل الله، وهزم الحق، وكانت النتيجة ليست سرورا بل حسرة؛ لأنهم لم يحققوا ما أرادوا وكانت الهزيمة، وهي حسرة ثانية، وكان نصر المؤمنين، وأن يكونوا هم المغلوبين.
ولا شك أن هذه الأمور التي ترتبت بعيدة عن الغاية التي أرادوها، فكان التعبير بـ (ثم) لهذه المفارقة بين النتائج التي حققت، والمبعث للإنفاق.
والتعبير بالموصول في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) إيذان بأنهم يغالبون الله - وهم الكافرون - بأموالهم، والله هو القاهر فوق عباده.
هذه عقوبتهم في الدنيا، وهي إنفاقهم وإحباط عملهم، وذهاب ذلك حسرات عليهم، وأن يكونوا مغلوبين ما داموا ينازعون أهل الحق ويصدون عن سبيل إلله.
أما في الآخرة فجهنم وبئس المصير؛ ولذا ختم الله تعالى الآية بقوله تعالت كلماته: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرونَ) أي والذين كفروا بسبب كفرهم يذهبون إلى جهنم يحشرون فيها، وقدم الجار والمجرور للدلالة على الاختصاص، أي أنهم يحشرون إلى جهنم وحدها، والتعبير بيحشرون يومئ إلى كثرة أهل جهنم، وإلى أنهم يكونون في ضيق محشورون. اللهم قنا عذاب النار.
وإن المؤمنين في جنة ونعيم مقيم.
وكان الكافرون في جهنم ليتميزوا بعقابهم، ولذا قال تعالى:(6/3124)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
(لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
الآية متصلة بالآية التي قبلها، فاللام متعلقة بقوله تعالى: (يُحْشَرُونَ) في آخر الآية السابقة، أي أن الله تعالى يحشر أولئك الكافرين في جهنم دون غيرها(6/3124)
يمسهم فيها النصب واللغون كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها، كان ذلك الحشر (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) والخبيث هو الكافر، والطيب هو المؤمن، وأظهر في موضع الإضمار، فلم يقل ليميزهم عن المؤمنين؛ وذلك لبيان أن الكافر خبيث في عقله وفكره وعمله واعتقاده، ولبيان أن المؤمن طيب في نفسه واعتقاده وعمله وخير كله، ولبيان أن الخبث لَا ينتج إلا الحشر في جهنم، وأن الطيب لا ينتج إلا خيرا، وهذا النص يفيد بإشارة القول ولمح البيان أن جزاء الطيبين نعيم مقيم.
وإن الخبيث يجتمع بعضهم إلى بعضه، يضم الخبيث إلى الخبيث ويتراكم عليه، حتى يكادوا يكونون عليه لبدا، وقد عبر الله تعالى عن ذلك بقوله تعالت كلماته: (وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا) تعبير يتناسب مع تكاثف شيء كله خبيث، أي يجعل الله تعالى الخبيث الحاضر فوق الخبيث الغابر، فوق ما سبقه، فنظمه جميعا بعضه لبعضه، وفي هذا إشارة إلى أن في جهنم مكانا للجميع، وإن كان مزدحما متراكما، وإشارة إلى تلاحق الحاضرين مع من يقلدونهم، وإشارة إلى تميزهم على الطيبين، أو تميز الطيبين عنهم، وإن هذا كله ينبئ عن الخسارة المطلقة التي لَا كسب فيها؛ ولذلك قال تعالى:
(أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).
الإشارة إلى الذين أنفقوا ليصدوا عن سبيل الله، ومن كان إنفاقهم حسرة عليهم، والذين حشروا إلى جهنم، وكانوا قد حملوا الخبث، أي أولئك الذين كان منهم هذا وجوزوا ذلك الجزاء - هم الخاسرون، وفي الكلام قصر بتعريف الطرفين، أي أولئك هم الخاسرون وحدهم خسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين.
وإن الله دائما يفتح باب الرحمة، ويذكر العذاب.
* * *(6/3125)
(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
* * *
إن الذنوب مهما تكبر، فباب التوبة مفتوح فما أنزل الله الرسل ليحصوا عدد الذين أساءوا، بل للدعوة إلى الحق، وقد يكفرون فالدعوة تستمر لهدايتهم، ومن يستجب منهم تَجُبُّ استجابته ما كان منه من قبل؛ ولذلك كان الباب مفتوحا، ولذا أمر الله نبيه - مع كفرهم - أن يقول لهم:(6/3126)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
(قل للَّذينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ).
يأمر الله نبيه بأن يقول لهم في شأن الذين كفروا متحدثا عن مآلهم إن ينتهوا عما هم فيه من كفر ومشاقَّة للمؤمنين ومحاربة للحق - يغفر لهم ما سلف من أعمالهم، ويدخلون في الإسلام طاهرين مبتدئين حياة جديدة هي طهر وتقى ونقاء. وهناك قراءة بالخطاب، ورويت عن ابن مسعود: " إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف " ولكن القراءة المشهورة الأولى، ويكون المعنى قل مخاطبا لهم إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف.
والتعبير بالذين كفروا في موضعه؛ لأنهم متلبسون بالكفر، ومع تلبسهم بالكفر، إن ينزعوه من إهابهم ويلبسوا لباس الإيمان وينتهوا من أرجاسه يغفر لهم ما قد سلف؛ لأن الإسلام يجُبَّ ما قبله، وعبر عن الإيمان بعد الكفر بـ " الانتهاء " للإشارة إلى أن الفطرة هي الإيمان، وأن الكفر عارض على النفس وهو حال قابلة للانتهاء، وإذا انتهت عاد الطهر والنقاء.(6/3126)
وقال تعالى: (يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ) من حرب وإيذاء، ولبس الحق بالباطل، وكل ما كان منهم من جرائم في جنب الله، فالله غفور رحيم، وما ارتكبوا من زور وربا موضوع، وكل دماء الجاهلية موضوع، فكل هذا داخل في قوله تعالى (يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ).
وقرر الفقهاء أن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة من حقوق الله تعالى، لأنه إذا غفر الشرك فما دونه أولى بالغفران، إلا ما كان من حقوق العباد كديون عليه، أو أكل مال بالباطل أو نحو ذلك، والذمي إذا أسلم فإن الحدود تقام عليه وحقوق العباد تجب على العباد؛ لأن ذلك يلزمه بمقتضى عقدا الذمة، والإيمان يؤكد الالتزامات ولا يسقطها.
وقوله تعالى: (وَإن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سنَّتُ الأَوَّلِينَ) ظاهر النص إن يعودوا إلى الكفر بعد الإيمان فإن معاملة الكافرين تعود إليهم، فمعنى (فَقَدْ مَضَتْ)، أي فقد تقررت سنة الأولين، وهي معاداتهم لله تعالى، منزل بهم ما نزل بالأولين من إخضاعهم للحق بالمحاربة وتنكيس رءوسهم، وإقامة الحق، أو تدمير ديارهم بزلزال مدمر أو حاصب من السماء، وإن سنة الأولين إما سلم مخزية، أو حرب مجلية، كما في بدر، أو ريح عاصف أو سيل عالٍ.(6/3127)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
الفتنة في الدين: إيذاء المؤمن لمنعه من اعتقاد ما يراه الحق، أو من الاستمرار عليه، وحمله على تركه بعد اعتقاده، كما يفعل المشركون في مكة مع المؤمنين، وكما فعل أصحاب الأخدود الذين قال الله تعالى فيهم: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8).
ومن الفتنة في الدين أن يمنع الداعي إلى الحق من الدعوة إليه، وأن يمنع تعريف الناس بهذا الحق. وكان الناس يفتنون في دينهم بعد دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الحق، فكانوا في مكة يفتنون، وقتل في الشام من أسلم من العرب، وحيل بين(6/3127)
الدعوة الإسلامية، وأن تصل إلى الناس، والقتال يستمر إلى أن يزول سببه، وأن يكون الدين كله لله تعالى بأن يطلب الرجل الدين خالصا لَا إرهاق ولا ضلال، بل يعتقد ما يعتقدا مخلصا لله طالبا وجه الله والحق لَا يبغى سواه، وهذا معنى قوله تعالى: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)، وإنه إذا طلب الدين كله لله سبحانه وتعالى، لَا يفكر فيه كله إلا من هو لله مخلص مستقيم فإنه لَا يمكن أن يكون مشركا، بل لابد أن يكون مؤمنا بالله الواحد الأحد الذي ليس بوالد ولا ولد، فإنه حينئذ يسلم كل أمر في وجهه لله تعالى بعيدا عن تأثير الملوك والرؤساء، وتضليل المضلين، هذا هو ما يشير إليه قوله تعالى: (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)، أي يكون التدين كله لله تعالى.
إن نهاية القتال تكون بانتهاء الفتن في العقيدة، وأن يكون طلب الدين، وقد قال تعالى: (فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) والمعنى إن انتهوا عن الشر والاعتداء والفتنة في الدين، والإيذاء في الاعتقاد، فإن الله تعالى: (بمَا يَعْمَلُونَ بَصِير) أي أنه مراقب نفوسهم وعليم بما تخفي صدورهم، وما يجيش بنفوسهم، وفى هذا بيان علم الله الكامل، وتهديد لهم إن عادوا، كما فيه تبشير لهم إن استقاموا على الطريقة، وفي آية يقول الله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193).(6/3128)
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
في الآية السابقة فتح الله تعالى باب التوبة للكافرين ليخلصهم الله تعالى من الشرك الذي أركسوا فيه، وأشار سبحانه إلى أنه أمر عارض على نفوسهم، يستطيعون أن يرحضوه عنها، كما يرحض الوسخ على الثوب الأملس، وبين أن القتال لإزالة الفتنة في الدين، حتى يكون الدين لله.
وبعد هذا ذكر ولاء الله تعالى للمؤمنين، وأنه وليهم وناصرهم إن أعرض المشركون، فقال تعالى: (وَإِن تَوَلَّوْا) أي أعرضوا ونأوا بجانبهم بعد أن فتح لهم باب الغفران، أو أن يقول: إن استمروا على إعراضهم وتنائيهم عن الحق فإنه هو مولاكم، فلا تخافوهم، وإن الله غالبكم عليهم لأنه مولاكم وناصركم، فقال(6/3128)
تعالى: (أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ) ليس هو الجواب، إنما هو علة الجواب بل الجواب فأنتم الغالبون، وقوله تعالى: (أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ) أي أنه مولاكم أنتم دون غيركم، والولاية للحق، ومعنى مولاكم أي وليكم وناصركم، وأنتم وحدكم حزب الله.
ومن كان الله وليه فلن يهزم، من كان الله ناصره، فلن يغلب (فَإِنَّ حِزْبَ
اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ)، ولذا قال تعالى (نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) ونعم من الألفاظ التي تقال في مقام المدح، والمدح بالنسبة لله تعالى الشكر، والثناء على الله بما هو أهله، فنعم هو وليا مواليا، ونعم الله نصيرا غالبا.
* * *
قسمة الله في الغنائم
(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
* * *
هذا تعليم الله تعالى بشأن توزيع الغنائم، فالله سبحانه وتعالى تعهد الحرب من وقت الإعداد لها إلى الإقدام عليها إلى اللقاء فيها حتى الانتهاء، ثم علمنا(6/3129)
توزيع غنائمها ليكون التوزيع حكما شرعيا نخضع له، فلا نختلف ولا نتأثر، وقسمة الله تعالى هي العادلة وغيرها قسمة باطلة، وقسمة ضيزى لَا صلاح فيها، ولا خير.
قال تعالى:(6/3130)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ. . .) " ما " في قوله تعالى هي اسم موصول بمعنى (الذي) والمصدر المنسبك من أن وما بعدها، مفعول لـ (اعلموا)، أي اعلموا كون الذي غنمتموه: خمسه لله ولرسوله إلى آخر النص الكريم.
والغنيمة ما يؤخذ بغير مقابل، ولكن بجهد، وخصت في عرف القرآن بما يؤخذ في الحرب من العدو؛ لأنه يؤخذ بغير مقابل، لأنه أبيح دم العدو وماله، إذ الحرب تبيح دماء العدو وأمواله، ولكنها لَا تؤخذ إلا بجهد، وصار ذلك حقيقة عرفية قرآنية.
ولكن أنطلق الغنائم على كل ما يستولى عليه في الحرب، سواء أكانت أرضا يستولى عليها، أم كانت أموالا منقولة، كالذهب والفضة والثياب والمطبوعات، أم كانت جواري وأناسي؟.
تجري الأقلام على ذلك، ولذلك لاقى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب مخالفة بادي ذي بدء عندما منع قسمة الأرضين عن الفاتحين، وخالفه الأكثرون حتى إذا
قرأ عليهم قوله تعالى: (مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10).(6/3130)
وعندما تلا عليهم أمير المؤمنين عمر هذه الآيات خروا صاغرين ووافقوا على ما قال، وقد دل هذا على أمرين:
أولهما - أنهم عدُّوا الفيء من الغنائم، إذ أجروا على الغنائم حكمه، وكذلك قال بعض فقهاء الصحابة والتابعين فعدوا الأنفال والفيء والغنائم مؤداها واحد، وإن اختلفت أسماؤها.
ثانيهما - أن الغنائم لَا تكون إلا في المنقول الذي ينقل من حيز إلى حيز كالعروض والذهب والفضة والأواني والثياب ونحوها، وقد قال ذلك الرأي بعض الصحابة، جاء في تفسيرِ القرطبي: " لم يختلف العلماء "، في أن قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنمَّا غَنِمْتُم مِّن شيْء) ليس على عمومه، وأنه يدخله الخصوص فمما خصصوه بإجماع أن قالوا: سلَب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمام، وكذلك الرقاب أعنى الأسارى الخيرة فيها إلى الإمام بلا خلاف. . . . ومما خص به أيضا الأرض، والمعنى ما غنمتم من ذهب وفضة وسائر الأمتعة. وأما الأرض فغير داخلة في عموم هذه الآية. . . . ولو كانت الأرض ما بقي لمن جاء بعد الغانمين شيء، والله تعالى يقول: (وَالَّذينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ)، بالعطف على قوله:
(لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ. . .)، قال: أو إنما يقسم ما ينقل من موضع إلى موضع.
نقلنا هذا الكلام، لبيان أن من علماء الصحابة من قال: إن الغنائم ما يؤخذ وينقل، والأراضي لَا تنقل ويستولى عليها، فلا تعد عليها، ولنضع الحجارة في أفواه الذين يقولون: إن الإمام عمر رضي الله عنه عارض النص بالمصلحة عندما عارض نصا، ولما اعتمد على المصلحة وحدها لم يجد من يوافقه من الصحابة إلا من كان له مثل علمه، وبصره بالنصوص كعلي بن أبي طالب عالم الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.
قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) - من - في قوله تعالى: من شيء، بيانية(6/3131)
لبيان عموم ما يغنم قليلا كان أو كثيرا، أي قدر من الغنيمة يغتنم يُخَمَّس قليلا كان أو كثيرا، وهذا دليل على أن هذا التقسيم من الله تعالى لَا يجوز لأحد أن يقسم غنائم الحروب العادلة كما يهوى، بل إنها أموال الله تعالى يتولى تقسيمها ولي الأمر بتقسيم الله تعالى، لَا بمجرد الهوى يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، كما كان يفعل ملوك الأمويين والعباسيين، حتى جاء الأتراك فطم سيل الفوضى، وضاع حكم الله تعالى، وصار أمر المؤمنين فرطا.
وقوله: (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) أن ومصدرها مفعول لفعل محذوف، تقديره: ثبت والمعنى (وَاعْلَمُوا أنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْء)، فقد ثبت وتقرر وحكم الله أن لله خمسه. . . وللرسول.
هذا تقسيم جعل الخمس أولا لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فهو خُمْس مُخَمَّس إلى خمسة أخماس، وأربعة الأخماس الأخرى تقسم على الغانمين، ولم يصرح بتوزيعها؛ لأنها معلومة بحكم الغنم الذي قام به الفاتحون، فهي تقسيم بين محصورين، وهم: الله ورسوله، وفقراء الأمة وضعفاؤها، والفاتحون، فإذا ذكرت حصة أحد الفريقين فقد علمت حصة الفريق الآخر، كما قال الله تعالى: (فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُلُثُ. . .). ويعلم بذلك أن الأب حصته الباقي وهو الثلثان.
فإذا علم أن فريق الله ورسوله والضعفاء نصيبه الخمس، فأربعة الأخماس تكون للفاتحين. . ولنتكلم في حصة الله ورسوله والضعفاء.
قالوا: إنها مقسمة إلى خمسة أقسام، فالأول للرسول، وهو لله تعالى، والله ورسوله خمسهما واحد، والثاني لذوي القربى، والثالث من خمس الله ورسوله - للضعفاء ولليتامى، والرابع للمساكين، وهم الفقراء الذين سكَّنتهم الحاجة، ولا قوت عندهم، والخامس لابن السبيل، وهو الذي انقطع عن ماله في سفره، فإنه يعطي من ذلك الخمس، ما يكفيه حتى يعود إلى أهله.(6/3132)
وهنا ملاحظة بيانية - ترتب عليها حكم فقهي، هي أن نصيب الرسول والضعفاء، ذكر فيه أنه لله، فلماذا ذكر الرسول بجواره؟ والجواب عن ذلك الإشارة إلى أن ما كان للرسول، إنما هو للقربات، ولأن الرسول هو لسان الحق، وهو ينطق باسم الله، ولأن ما خص به الرسول ليس لذاته، ولكن جعل تحت يده ينفق منه على الكعبة، وعلى المؤلفة قلوبهم ويرضخ منه لمن لَا سهم له من الفاتحين كالعبيد والنساء فهو ليس له خاصة، بل يسد به ما عساه يكون مكملا للقسمة ومهما يكن فمانه ينفق في الحاجات العامة للمسلمين.
هذا تخريج بعض العلماء، فخمس الله ورسوله والضعفاء يقسم إلى خمسة.
وبعض العلماء يقول: إن لله في هذا الخمس، كإصلاح الكعبة والقيام على سدانتها، ويظهر أن مثل ذلك المرافق العامة.
وأما ما يخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - فينفق منه على أزواجه، وعلى من يرضخ لهم ونحوهم مما يتعلق بالجهاد بالنسبة.
وقوله تعالى: (وَلِذِي الْقرْبَى)، قال العلماء: إن المراد بهم ذوو القرابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم وبني المطلب، وقال رواة السيرة: إنه لم يعط كل بني عبد مناف، فلم يعط بني نوفل، ولا بني عبد شمس من الأمويين؛ وذلك لأن بني المطلب كانوا يناصرون النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية، وكانوا مع بني هاشم، ولما قاطعت قريش بني هاشم انضم إليهم في شعب أبي طالب بنو عبد المطلب فرضوا مختارين أن ينزل بهم ما نزل ببني هاشم، في الوقت الذي لم يشرك أبو لهب إخوته في بلائهم وروي أن عثمان بن عفان، وجبير بن مطعم لما أعطى بني المطلب ذهبا إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقالا له: هؤلاء إخوتك من بني هاشم لَا ينكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا، وإنما نحن وهم(6/3133)
بمنزلة واحدة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، وإنما هاشم وبنو المطلب شيء واحد " وشبك بين أصابعه (1).
وإنهم يأخذون بالنصرة والقرابة فهم واسوه في الشدة، فكان أن يواسوا في الغنيمة؛ لأنهم نصراؤه، ولم يسلموه إلى المشركين وقت أن رامه أولئك المشركون بالسوء. .
ولقد كانوا يأخذون ورسول الله حي، ومن بعده يستحقونه لهذا السبب لأنهم نصراء رسول الله، ولأنهم لَا يأخذون الصدقة لأنها أوساخ الناس، ويأخذون سهمهم بالسوية بينهم غنيهم وفقيرهم على سواء، ولا يسقط سهمهم بوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم لَا يستحقون شيئا بالفقر، فبقي ذلك السهم لهم بالنصرة، والقرابة.
أما سهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يسقط ويكون في يد ولي الأمر ينفقه حيث كان ينفقه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والشافعي يبُقي سهم ذوي القربى غنيهم وفقيرهم على سواء غير إنهم لاستحقاقهم بمقتضى القربى كان التوزيع على نحو قريب من الميراث، بأن يكون للذكر مثل حظ الأنثيين.
وإن الأسهم الثلاثة الأخيرة تكون لليتامى والمساكين وابن السبيل لكل سهم، ولا يعدو أصحاب سهم على آخر. وقال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه: بعد سهم الله ورسوله وذوي القربى يكون الأمر في الأسهم الثلاثة الأخرى مفوضا لرأي الإمام إن شاء أعطى كل ذي سهم سهما، وإن شاء لم يعط واحدا، ولكنه لا يخليها منها.
وعلى الأسهم ستة يقدر لله سهم يكون للكعبة، وقد روى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ الخمس، فيقبض منه قبضة، فيجعلها للكعبة، وهو سهم الله تعالى، ثم
________
(1) رواه النسائي: قسم الفيء - باب (4137)، وأحمد: أول مسند المدنيين رضي الله عنهم أجمعين - حديث جبير بن مطعم (16299). وهو عند البخاري: المناقب - مناقب قريش (3503).(6/3134)
يقسم ما بقي على خمسة (1)، وقد جاء في الكشاف لجار الله الزمخشري: وقيل إن سهم الله تعالى لبيت المال، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان على ستة أسهم، لله وللرسول سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبض، فأجرى أبو بكر - رضي الله عنه - الخمس على ثلاثة، أي اليتامى والمساكين وابن السبيل. وروي عن عمر ومن بعده من الخلفاء. وروي أن أبا بكر منع بني هاشم، وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم، ويزوج أيمكم، ويخدم من لَا خادم له منكم، أما الغني منكم بمنزله ابن السبيل لَا يعطى غني من الصدقة، ولا يتيم موسر.
وخلاصة هذا القول أن رأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ألا يعطى من بني هاشم، ويظهر أن مثلهم بنو المطلب ألا يعطى إلا ذوو الحاجة، يزوج الأيم، ويخدم من لَا خادم له، ويكون ذلك من سهم ذوي القربى، وأن سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - يسقط بقبض الله تعالى له، ويكون تحت يد ولي الأمر.
وعند من يقول: إن لله سهما، يكون تحت يد ولي الأمر من المؤمنين.
وإنه بالاتفاق لَا يأخذ اليتامى والمساكين وأبناء السبيل من أسهمهم إلا بسبب الفقر لأن الصيغة نفسها تومئ إلى أن شرط الأخذ هو الحاجة.
بقيت أربعة الأخماس، فنقول: إنها تصرف للغزاة، وقد روى في طريق توزيعها إنها تقسم أسهما، فيكون للراجل سهم، وللفارس الذي له فرس ثلاثة أسهم؛ سهم للمقاتل، وسهم للفرس، وسهم للقائم على علف الفرس وتدريبه وملاحظته، وهذا روى في الصحيح، وهو مذهب الحنفية.
وروى أن للفارس سهمين اثنين فقط؛ سهمًا للفرس، وسهمًا لصاحبه، ولكن الأصح سندا الذي يتفق أكثر الرواة عليه هو الأول، تشجيعا للعناية بعدة القتال وتوفيرها إذ يقول الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا استَطَعْتم مِّن قوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُكمْ وَآخَرِين مِن دُونِهِمْ. . .).
________
(1) ذكره الزمخشري في كشافه: ج 2، 158، والألوسي: ج 10، ص 2، وأبو السعود: ج 4، ص 22 عن أبي العالية رضي الله عنه.(6/3135)
وإن البرذون (1) من الخيل عند الحنفية، وعند الأوزاعي لَا يعد البرذون خيلا، والحق ما قاله الحنفية فإنه لَا فرق في المعنى بين الخيل والبرذون (راجع الرد على سير الأوزاعي لأبي يوسف). وإنه يجب التنبيه إلى أمرين: أولهما - أن ذلك التقسيم للغنائم هو عمل الله تعالى، يروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: " لا يحل من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود عليكم "، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبوالدرداء وقد تناول وبرة بين أنملتيه: " إن هذه من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخْيط، وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلوا فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر، وجاهدوا في سبيل الله فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله تبارك به من الغم والهم " (2).
ثانيهما - أن هذه الغنائم ليست سلبا ولا نهبا، كما ادعى بعض الكذابين من كتَّاب الفرنجة، إنما هي مغازم النصر، ومغارم الاعتداء، وإنما حرب المسلمين للمعتدين رد لاعتدائهم، وسلوا جيوش أوربا فإنها لَا تكتفي بما يؤخذ من أموال المغلوب نتيجة للغلب، بل إنها بعد الصلح تأخذ كل ما تغنم، وتفرض عليه ما أنفقته في الحرب، وأنى هذا من عدل الإسلام الذي لَا يفرض أن ثمة مجرمي حرب، فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين.
ويقول سبحانه: (إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ) الشرط هنا متعلق بقوله: (فَأنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ)، أي الخمس يكون لله وللرسول (. . . إن كان الإيمان شعاركم، وكنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، فإن ذلك الإيمان يجعلكم تعطون حق الله وحق الرسول)، وحق ذوي القربى واليتامى والمساكين طيبة بذلك نفوسكم مطمئنين
________
(1) البِرْذون: وجمعه براذين، دابة الحمل الثقيل.
(2) رواه أحمد: باقي مسند الأنصار - حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه (22191).(6/3136)
بذلك، فلا تأخذوا حق الله ولاحق الضعفاء، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ابغوني في ضعفائكم، إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم " (1).
وإن الإيمان بالخمس الذي لله ورسوله وللضعفاء هو من الإيمان بالله، ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لَا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس، من الغنائم " (2)، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أداء خمس الله ورسوله والضعفاء من الإيمان.
وإن هذا يدل على أكمل التعاون؛ لأن خمس الله ورسوله لسد حاجة بيت المال، ولإعانة الضعفاء.
وقوله تعالى: (وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) في هذا النص تذكير بيوم بدر وأن النصر كان من عند الله وبفضل معونته وتأييده، ففي هذا اليوم كان تأييد الله، إذ بشرتهم الملائكة، وألقت في أرواحهم بالاطمئنان والبشرى وأن وهبهم الأمن ومعه النعاس، وأن ثبت لهم الأرض بالأمطار، وأن طهرهم من الرجس، وأن ثبت أقدامهم، وما كان النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم.
ويوم الفرقان هو اليوم الذي فرَّق الله به بين الحق والباطل، فـ " ال " للعهد، وفسره الله تعالى بأنه يوم التقى الجمعان، جمع الحق بقيادة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتأييد الله سبحانه وتعالى، وإمداده بالملائكة، (وجمع الباطل)، فقول تعالى:
(يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ) بدل من يوم الفرقان.
ثم ذيل الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلَى كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وفى هذا إشارة إلى الله تعالى القادر على كل شيء هو الذي نصركم، وهو الذي
________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه البخاري: العلم - تحريض النبي وفد عبد القيس (87)، ومسلم: الإيمان - الأمر بالإيمان بالله ورسوله (17) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(6/3137)
قهر عدوكم مع كثرة العدد والعُدَد، وهو الذي بدَّل من ذُلِّكم عزا، ومن عزهم خذلانا، وهو الذي دمغ الباطل فأزهقه، وهو الذي حق الحق بكلماته وأبطل المجرمون.
فإذا كان نصركم بتأييد الله، وتؤمنون به حق إيمانكم فلا تستكثروا حق الله والضعفاء في الغنائم إن كنتم مؤمنين.(6/3138)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ... (42)
ذكرت في الآية السابقة الغنائم التي أخذت في بدر، وكيف توزع، واختص الله تعالى بالذكر الخمس على الضعفاء، والذي ذكر باسم الله ورسوله.
ولكي تقى النفوس شحها، أشار سبحانه إلى أن النصر كان من عند الله، وفى هذه الآية: (إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا. . .) يبين سبحانه وتعالى أن الموقعة كلها كانت بتدبير الله تعالى، ولم تكن بتدبيرهم، ولا بتدبير المؤمنين، ولو تواعد الفريقان لاختلفا في الميعاد.
وإذ في قوله تعالى: (إِذْ أَنْتُمْ) متعلقة بمحذوف معناه: اذكر يا محمد أنت ومن معك إذ أنتم بالعدوة الدنيا، وقد جئتم لمصادرة العير، لم تريدوا نفيرا، ولكن تريدون عيرًا، وقد أفلتت منكم، وهي أسفل منكم، أي أسفل من المدينة عند سيف البحر، فجاءكم جيش هو بالعدوة الدنيا، وقد قال بعض المفسرين: إن (إذ) بدل من يوم الفرقان، وذلك جائز، ولكن نختار ما ذكرنا؛ لبعد ما بين البدل والمبدل منه، ولأن تعلقها بمحذوف تكون ابتداء لكلام مستقبل فيه عبرة واضحة، وبيان لأن النصر من عند الله العزيز الحكيم استقلالا، ولأن ذكر يوم الفرقان لبيان التذكير به والإيمان بما فيه.
و (العُدْوَةِ) أعلى الجانب، و (الدُّنْيَا) مؤنث أدنى، والبعد والقرب بالنسبة للمدينة، و (الْقصْوَى) مؤنث أقصى، وهو القاصي عن المدينة، (وَالركْبُ أَسْفَلَ مِنكمْ)، الركب هو العير الذي كانت فيه متاجر قريش، وخرج المسلمون لأخذها(6/3138)
بدلا من الأموال التي اغتصبها المشركون منهم وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم بغير حق، ومن المقرر في قانون العدل والإنصاف أن من ظفر بعين ماله أو بمثله ممن اعتدى عليه واغتصبه كان له أن يأخذه، فلا يذهب حق صاحب الحق هدرا، ولأن المشركين إذ أهدروا حقوق المسلمين وأموالهم واستباحوا دماءهم، فقد أباحوا دماء أنفسهم، وأموالهم وما على المؤمنين من سبيل إن استباحوها، فذلك قانون الحرب بسبب العداوة والبغضاء التي آثارها المشركون.
كان المؤمنون بالناحية القريبة من المدينة، وكانت العير أسفل عند سيف البحر، وقد كان ذلك لقاء بغير تدبير كامل مقدر مقصود، بل هو لقاء توفيقي من الله تعالى.
وقد جاء في سيرة محمد بن إسحاق " بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دنا من بدر علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام في نفر من أصحابه يَتَحَسَّسُون له الخبر، فأصابوا سقاة لقريش غلاما لبني سعيد بن العاص، وغلاما لبني الحجاج، فأتوا بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجدوه يصلي، فجعلوا يسألونهما: من أنتما، فيقولون: نحن سقاة لقريش، بعثونا نسقيهم من الماء، فكرهوا خبرهما، فضربوهما حتى أزلقوهما، قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش: أخبراني عن قريش، قالا: هم وراء الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كم القوم؟ قالا: كثيراً، قال: ما عدتهم لهم؟ قالا: لَا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم؛ قالا: يوما تسعا ويوما عشرا، فقال رسول الله) - صلى الله عليه وسلم -: عدتهم ما بين التسعمائة إلى الألف.
هذا خبر يؤكد نزول جيش المشركين بالعدوة القصوى على كثيب من الأرض، والمؤمنون بالعدوة الدنيا، وهنا نجد سؤال الزبير وسعد وعليّ كان على العير، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان - وهم - خارجا للعير، ولذلك كذبا الغلامين إذ لم يخبراهما عن العير الذي كان بحراسة أبي سفيان، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن قريش.(6/3139)
والعير كما ذكرنا كان من أسفل المدينة عند سيف البحر، كما أشار القرآن الكريم.
وإن قصة خروج جيش المؤمنين، وجيش المشركين، والعير، هي كما أشار القرآن الكريم، خرج جيش الإيمان وكان قليلا لمصادرة عير لقريش وقد أفلتت منه، وهي ذاهبة إلى الشام، فترصدها المؤمنون، وهي عائدة، وأحس بذلك أبو سفيان قائدها، فمال بها نحو سيف البحر، وأخبر قريشا بنجاتها ولكنها كونت جيشا لحمايتها، وأصروا على الذهاب إلى بدر، حيث كان الترصد للعير، ليفرضوا هيبتهم في البلاد العربية، وإنهم لم يتخاذلوا، ولم يضعفوا، فكان اللقاء بتوفيق الله تعالى أو توقيفه، وإرادته، ليعز الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون. (وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ) أي أن ذلك اللقاء الذي انتهى بذلك اللقاء الذي كان فرقانا بين الحق والباطل لم يكن بميعاد على حرب، ولا اتفاق ابتداء على معركة، (وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ)، أي لتخلف بعضكم، فيختلف الميعاد، فالمؤمنون ابتداءً ما أرادوه: لقلة عددهم، ولقلة ما عندهم من عدة ولسطوة قريش في أرض العرب، فقد يودون غير ذات الشوكة تكون لهم، والمشركون ظهر التردد فيهم، فبنو زهرة تركوا جيش الشرك، وبعض بني هاشم تركه، ومن جاء منهم إلى الحرب كالعباس ما كان مريدا، بل كان متورطا، وما في قلوبهم من هيبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وما اعتراهم من العلم بأن الله معه، ولو لم يؤمنوا به، وخصوصا ما أفزعهم من خروجه من بين ظهرانيهم، وهم يترصدونه يوم الهجرة، فهم كانوا يتهيّبون لقاءه، وإن كانوا يعاندونه، ويقاومونه.
ولكن الله أوجد هذا اللقاء، وإن ابتدأ غير مقصود من الفريقين المتقاتلين؛ ولذا قال تعالى:
(وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) أي ليقضي الله تعالى أمرا وحققه، وهو إعزاز الإسلام، وإحقاق الحق وإبطال الباطل، و " كان "، أي قرره الله تعالى وثبته على أن يكون واقعا ثابتا مفعولا، ويصح أن تفسر (كان) بمعنى صار أي(6/3140)
صار مفعولا، ولقد قال كعب بن مالك: إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد.
أغراهم الله تعالى بالعير ليخرجوا، وأراد المشركون أن يحموا عيرهم فالتقوا وتحقق ما أراد الله. ثم قال تعالى:
(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ) (اللام) هنا لام العاقبة، والمعنى لتكون نتيجة ذلك اللقاء أن يهلك الذين هلكوا عن بينة وحجة قائمة، وهو أن الله تعالى ناصر المؤمنين وغالب الكافرين، وأن الله تعالى مؤيد جنده، ويستشرف المستشرفون إلى نصر الله، (وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) أي حجة ونور وهداية أن يكون الحق غالبا، وأن يظهر الله دينه، ولو كره المشركون.
ويصح أن يكون الهلاك والحياة مجازييَّن، ويراد من الهلاك الكفر، ومن الحياة الإيمان، ويكون المعنى وليكفر من يكفر عن بينة ظاهرة، وهي بيان أن الله ناصر المؤمنين ويحيا المؤمنون بالإيمان عن بينة برجاء النصر.
وللزمخشري في هذا كلام قيم ننقله، قال رضي الله تعالى عنه: (فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين وإن العير كان أسفل منهم؟ قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته، وتكامل عدته تمهد أسباب الغلبة له وضعف شأن المسلمين، والثبات في أمرهم، وأن غلبتهم في مثل هذه ليست إلا صنعا من الله سبحانه، ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي كان المشركون فيها كان فيها الماء، وكانت أرضا لَا بأس بها، ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خَبَارٌ (أي لينة مسترخية) تسوخ فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة، وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم(6/3141)
وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم ليبعثهم الذود عن الحريم، والغيرة على الحرب على بذل جهيداهم في القتال وألا يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم، ويضبط هممهم، ويوطن نفوسهم على ألا يبرحوا موطنهم، ولا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم، وقصارى شدتهم، وفيه تصوير ما دبّر سبحانه من أمر وقعة بدر ليقضي الله أمرا كان مفعولا من إعزاز دينه، وإعلاء كلمَته، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين مبهمة غير مبينة، حتى خرجوا ليأخذوا العير راغبين في الخروج، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأموالهم حتى نفروا ليمنعوا عيرهم، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا، وهؤلاء بالعدوة القصوى ووراء العير يحامون عليها حتى قامت الحرب على ساق وكان ما كان) وهذا القول من عيون ما اشتمل عليه الكشاف من دقة معنى، وبلاغة لفظ، وتسامٍ لإدراك سر القرآن، وسر الأحداث.
ولقد ختم الله تعالى الآية بقوله: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي أن ذلك كله تدبير من الله، وهو من مقتضى علمه الشامل الذي هو علم من يسمع من غير أذن، ومن يبصر من غير عين جارحة؛ لأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وقد أكد سبحانه علمه بالجملة الاسمية، وبـ " إنَّ " المؤكدة، وباللام في قوله: " لسميع "، وبصيغة فعيل، فسبحان من وسع كل شيء علما.
وإن الله تعالى يبين أنه سبحانه هو الذي جمع بين المؤمنين والمشركين في هذه المعركة فأغرى المؤمنين بالعير، وحرك قريشا لحماية عيرها، وهو الذي سهل اللقاء على الفريقين فأطمع المشركين في المؤمنين، وسهل للمؤمنين اللقاء بهم ليحقق ما أراد سبحانه وهو إعزاز الحق، وإذلال الباطل، فقال تعالى:
* * *(6/3142)
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
* * *
إن اللقاء كما قررنا، وكما أرشدنا الله تعالى كان بجمع الله بين الفريقين، وتلاقيهما، والنصر أيضا والإقدام كان بإرادة الله تعالى وهدايته.
وإن أول النصر ألا يهاب المؤمن عدو الله وعدوه بل يقدم وهو مدرع بأمرين أولهما - إرادة النصر، والثاني - الصبر، وقد هيأ الله تعالى الأمرين، فقال تعالى:
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ)(6/3143)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
أما الصبر فقد أمر به في آيات كثيرة، وقد أمر بالثبات، كما سيأتي في الآية الأخرى، وأما إرادة النصر فتكون بالإقدام، وذلك برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام الأعداء قليلين، ورؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من الوحي " (1).
ومعنى رؤيتهم عددا قليلا، أنه - صلى الله عليه وسلم - رآهم في حال يستهين بها، فلم يتكاثروا عليهم، ولم يتضافروا على المؤمنين، ورأى المؤمنين ظاهرين بارزين كأنهم كثيرون، وكأن أولئك قليلون من قوة الغلب، ومظاهرتهم عليهم، أو أنه يستتر عنه في منامه أكثرهم، فيستبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنصر، ويفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من تأويل رؤياه أنه سينصر أهل الإيمان، فما يفهم أن العدد قليل، ولكن يفهم أن الرؤيا الصادقة النصر المبين لَا محالة، وذلك لَا ينافي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدَّر عددهم بما بين تسعمائة وألف، وقد كانوا كذلك.
وقوله تعالى: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) إذ مفعول لفعل محذوف أي اذكر يا محمد لأصحابك (إِذْ يرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) و " قليلا " مفعول مطلق لموصوف محذوف أي عددا قليلا، ويقوم هنا الوصف مقام الموصوف.
وإن الله تعالى أرى النبي - صلى الله عليه وسلم - العدد قليلا، ليقدم المؤمنون واثقين، فالثقة بالنصر تزيدهم قوة، وتدفعهم إلى الإقدام، ولا يصيبهم رهق ولا خوف، فيتقدمون واثقين بالنجاة.
ويقول تعالى: (وَلَوْ أَرَاكهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتمْ فِي الأَمْرِ)، أي لو أراكهم الله عددًا كثيرا قويا لأصاببهم الفزع ووراء الفزع العجز، وهذا معنى الفشل، فالفشل هو العجز، (وَلَتَنَازَعْتمْ) لاختلفتم في الخروج، ولكان فيكم من يخشى عاقبة الحرب مع قلة العدد، ومع قلة العدة، ومع قلة ما يحملكم، فلقد كنتم في قلة من الأمرين، ومع الاختلاف التنازع في الفكرة ثم التنازع من بعد ذلك فيما بينكم وبين أنفسكم.
________
(1) انظر مسلم: الرؤيا: باب - (2264).(6/3144)
وقوله تعالى (وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ) مؤداه الاختلاف في أمر القتال؛ أتقدمون عليه مع إحساسكم بالقلة وضعف العدة أم تمتنعون عنه لهذا الإحساس. وعبر عنه بالتنازع لقوة أسباب الخلاف، فإنها في باب القتال أمر خطير.
وقد درأ الله تلك الأسباب عن أعينكم بما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - من رؤيا صادقة كان تأويلها نصركم، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، يطمئن المؤمنين بعد أن تقرر القتال، فبعد أن أخذ رأى الأنصار في القتال وقال قائلهم: " امض لما أمرك الله فإنا صدق في الحرب صبر عند اللقاء، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إني لأرى مصارع القوم " (1).
ويقول سبحانه: (وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ)، الاستدراك من الكلام السابق، وسلم الله تعالى من الفشل والجزع والتنازع، وكان اللقاء يوم الجمعين مع النصر المؤزر، الذي جعل المؤمنين أعزة، بعد أن كانوا مستضعفين يتخطفهم الناس، ثم ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته: (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) ذات الصدور هي ما يكون في الصدور مما يدفعها إلى الإقدام، أو يثبط فيها العزائم، أو يلقي فيها بالخور والخوف، فالله تعالى عليم بها، وبما يدفع الهمم، ويقوي القلوب، ويمنع الفشل والنزاع، فيطب لأدوائها بما يقيها الهلع والفزع ويطمئن القلوب، ويبعد عنها مخاوفها، إنه عليم حكيم.
هذا ما أودعه قلب القائد الحكيم، وأودعه قلوب المؤمنين بتلك الرؤيا الصادقة التي أراه إياها.
وقد كان الجيشان تحت عنايته سبحانه، ليقدم كل منهم على القتال غير خانع ولا خائف؛ ليبدي كل واحد منهما ما عنده من قوة، وليعلم كل منهما كيف كان نصر الله للمؤمن، وخذلانه للكافر مع أنه أبدى كل ما أوتي من قوة.
فقال سبحانه:
(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
________
(1) انظر البداية والنهاية: ج 4، ص 60، وسنن النسائي الكبرى، ج 5، ص 186، وفي مجمع الزوائد (8799) وراجع رواية مسلم: الجهاد والسير - غزوة بدر (1779).(6/3145)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
قد كان من أمر الله تعالى وتوفيقه أن يُرى المؤمنين المشركين عددهم قليلا، وأن يقلل عدد المؤمنين في نظر الكافرين، كما قال الله تعالى: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13).
وإن الحكمة في أنهم في نظر المؤمنين عدد قليل واضحة، لأن الله تعالى ألقى في قلوب المؤمنين بأسا وقوة جعلتهم يستصغرون عددهم، ويستهينون بقوتهم لكي يقدموا من غير وجل مع الإيمان بالله وبالنصر، وقد رأوهم كذلك قلة، إذ صغر أمرهم في نظرهم، ولم يجدوا كثرتهم، والعين قد تخطئ في العدد بالكثرة أو القلة فقد كان المشركون عددًا كبيرا، قد قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - عددهم، ولكن المؤمنين عندما التقوا بهم لما ألقاه الله تعالى في روع المؤمنين من قوة بأس وإقدام رأوهم قليلا، لَا للهمة التي بدت من المؤمنين كحمزة، وعلي، والزبير، وابن رواحة، وسعد بن معاذ، فقد كانوا يفرون من سيوف هؤلاء حتى لم يروا في الميدان إلا عدداً قليلا.
وأرى الله تعالى جيش المؤمنين قليلا في نظر المشركين عند اللقاء ليستهينوا بهم، ويغتروا بقوتهم فيسترخوا في القتال، حتى إذا غطتهم قوة المؤمنين، ورأوا فيهم شدة البأس أرادوا المقاومة بعد الاستهانة والاسترخاء فلم يجدوا، وأخذت صفوف المسلمين المتراصة تحصدهم حصدا، وقد كانت رؤية عدد المسلمين قلة من الكافرين حقيقة، ولكنها سيطرت عليهم الاستهانة، فقتلت منهم.
وقوله تعالى: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) فيه متعلق بفعل محذوف تقديره اذكروا إذ. . . وفي ذلك تذكير بفضل الله في هذه المعركة، إذ قواكم وسلطهم عليكم، وأذهب عنكم الفزع منهم، وثبت أقدامكم، وهنا إشارتان بيانيتان:
إحداهما - أنهم لم يكونوا قليلا، بل كانوا عددا كثيرًا، ولكن الله تعالى جعل أبصارهم ترى ذلك الكثير قليلا، فالله تعالى هو الذي يخلق الأبصار، فهو(6/3146)
يجعله قليلا، ويجعله كثيرا، ولا تغير في الحقائق إنما التغير في الإدراك لحكمة علمها اللَّه وقدرها، وكان النصر بسببها وهو ينصر من يشاء بإذنه.
الثانية - قوله تعالى: (وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) - فقوله " في أعينهم " فيه إشارة إلى أن هذا التقليل في أعينهم هو من إرادة الله تعالى، لأنه استهأنة منهم أدت إلى استرخاء في القتال، فالله سبحانه وتعالى ما جعل المؤمنين قلة، لأنهم فعلا كانوا قلة، ولكن عمل الله جعلهم يجعلون من أمر قتالهم أثهم قلة فقاتلوهم على أنهم عدد قليل فاستهانوا ونهاونوا، وكان النصر المؤزر.
وقال تعالى: (لِيَقْضِيَ اللَّهَ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) أي ليحقق الله بقضائه المحتوم أمرا كان مفعولا أي صار واقعا ثابتا، وهو النصر بفضل الله، وتأييده، فقد حقق الله تعالى كل أسباب النصر فهيا الأسباب المادية من النعاس الآمن، وأنزل المطر الذي لبد الأرض، وهيا الأسباب النفسية من بشارة الملائكة، ومن تقليلهم في أعينهم.
وختم الله تعالى بقوله: (وَإِلَى اللَّهِ ترْجَعُ الأُمُور)، أي إلى الله وحده ترجع الأمور يوم القيامة، فهذا هو نصر الله عليهم في الدنيا بتوفيقه سبحانه، وتهيئة كل الأسباب المؤدية إلى النصر، وفي الآخرة الأمور كلها إليه سبحانه. وتقديم الجار والمجرور دليل على أن الأمور لَا ترجع إلا إليه سبحانه وهو يجازي المحسن إحسانا، وللمسيء العاقبة السوءى.
وقد بين سبحانه من بعد ذلك أن الثبات هو القوة، وقد ذكرنا أنه عبرة النفوس في القتال فقال تعالي:(6/3147)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
الفئة الجماعة من الناس، والتعبير بفئة يفيد بأنهم قد فاء بعضهم إلى بعض، وتجمعوا لغرض أن ينالوا منكم، وكأن هذه الآية وما بعدها. تعد المؤمنين للقاء أشد عن لقاء بدر، لأن لقاء بدر كان لأجل حماية المال، واللقاء من بعد لأجل(6/3147)
الثأر، ولأجل إلقاء السطوة والسلطان، وهو أعنف من المال، وإذا كان الله تعالى قد استقبل القتال في بدر بعدم الفرار فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16).
فإنه سبحانه يستقبل القتال الجديد، بطلب الثبات، والذكر لله، والطاعة لله ولرسوله، ومنعِ التنازع، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا).
أمران جليلان عند اللقاء، وهما الثبات، وذكر الله. واللقاء لم يبين فيه من الذي ابتدأ باللقاء، وظاهر القول أن المشركين هم الذين جاءوا إلى ديارهم والتقوا بهم، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف "، ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: " اللهم منزل الكتاب ومجرى السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم " (1).
أمر الله تعالى بالثبات بأن يلاقوهم ثابتين في أماكنهم، فإنهم إن لم يثبتوا ضُربوا في أقفيتهم، فيتمكن منهم العدو، فيقتلون، ولا ينالون من عدوهم منالا، وإن ثبتوا لَا يقتل واحد من المؤمنين إلا إذا قتل عددا من المشركين، وحيث كان الفرار كانت الهزيمة لَا محالة، وقد أمر بذكر الله كثيرا فإن النصر ليس بالسلاح ولا التخطيط فقط، بل مع ذلك بأمرين في القلوب:
أولهما - الثبات، فلا تضطرب الصفوف ولا يصيبها الخلل فترجف الأفئدة ولا تضيع الثقة بين الجند.
وثانيهما - ذكر الله تعالى، فإن ذكر الله يجعل القلوب تطمئن، وإن ذكر الله يملأها إيمانا ويقينا، ورجاء في النصر. وإن ذكر الله يذهب فزع القلوب، ويساعد على الثبات، وإن ذكر الله يذكر بوعده بالنصر فهو يزيده أملا بالنصر،
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: الجهاد والسير (2966)، ومسلم: الجهاد والسير - كراهة تمني الموت (1742). عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه.(6/3148)
وإن ذكر الله إذا جهر به في الميدان ازداد المؤمنون حماسة، وألقى بالرعب في قلوب المشركين، وإن ذكر الله يجعلهم لَا يشغلهم عن الله شاغل، وتكون أجسامهم وقلوبهم لنصره، و (كَثِيرًا) مفعول مطلق أي اذكروا الله ذكرا كثيرًا بحيث لَا تتوقفوا عن ذكره مهما تشتد الحرب، وتلتحم السيوف وتتلاقى بالحتوف وقال تعالى: (لَعَلَّكمْ تفْلِحُونَ) أي راجين بثباتكم وذكر ربكم أن تفوزوا بالنصر، فالرجاء من الناس لَا من الله؛ لأن الله تعالى يعلم الغيب في السماء والأرض، ويعلم ما كان وما يكون.
وإن طاعة القائد والاتحاد أولى دعائم النصر، ولذا قال عز من قائل:(6/3149)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
إن الله سبحانه وتعالى يأمر بطاعته ورسوله في هذه الحرب التي أمر الله تعالى فيها بالثبات وذكر الله كثيرا، والأمر بطاعة الرسول في الحرب أمر بطاعة القائد؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحروب التي قامت في عهده كان هو القائد، وطاعة القائد واجبة لأنه المُنَظِّم، وإذا كان ذلك وواقعة أحد التي خولف فيها القائد فكانت القتلة في المسلمين، وإن لم يكن الانهزام كما تصور بعض الأقلام، فيكون ذلك من الله تنبيها لما يقع، وهو علام الغيوب، وإن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الحروب هو بكونه قائدا فيكون أمراً بطاعة القائد، فإن طاعته إذا كان دربة مخلصا من أسباب الانتصار.
وطاعة الله هي لب الاستقامة، وطهارة القلوب، وهي التي تكون بها قوة الإيمان، وقوة الإيمان دعامة الانتصار، وهي قوة الجهاد، ودعامة الصبر، وتلك عناصر الجهاد الحق في سبيل الله تعالى.
وذكر تعالى بعد الأمر بطاعته ورسوله - النهي عن التنازع، والنهي عن التنازع يكون أولا بالنهي عن الخلاف، فإن الخلاف يؤدي إلى النزاع، والنزاع يؤدي إلى التنابذ والتدابر، وأن يكون كل فريق جمعا منفصلًا عن الآخر، ويكون بأْسُهم(6/3149)
بينهم شديدًا، وإن الأثر الواضح للتنازع هو الفشل؛ ولذا قال تعالى: (فَتَفْشَلُوا) الفاء للسببية تدل على أن ما بعدها سبب لما قبلها، أي أنه بسبب ذلك التنازع يكون الفشل، والفشل هو العجز، بحيث كان النزاع كان العجز عن عمل جماعي؛ لأن العمل الجماعي يجب أن تتضافر فيه القوى، ويكون كل جزء من الجماعة متعاونا مع الجزء الآخر، فتتحد القوى، وتتلاقى نحو هدف معين يجمعها.
وإنه وراء الفشل ذهاب القوة، ويطمع فيهم الطامعون، ولذا قال تعالى: (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي قوتكم، ويفسر الزمخشري الريح بالدولة، ويقول رضي الله تعالى عنه: (والريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها وتمَشِّيه بالريح وهبوبها)، فيقال: هبت رياح بني فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره، ومنه قوله:
يا صاحبي ألا لَا حيَّ بالوادي ... إلا عبيد قعود بين أزراد (1)
أتنظران قليلًا ريث عقلهم ... أم تعدوان فإن الريح للعادي
ولقد قال قتادة لم يكن نصرًا إلا بريح يبعثها، وكان ذلك مناسبا فيكون الفشل فيه ذهاب للريح التي تكون القوة، ولقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدَّبور " (2).
حذرهم الله تعالى من ثلاثة أمور أولها: مخالفة الله ورسوله بالعمل بغير أمر الله ونهيه، والثاني: من مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - القائد، ومخالفة كل قائد رشيد، والأمر الثالث: من التنازع، فإن الاختلاف مضيعة الجيوش، ومهلكة الأمم.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، وفي هذا النص الكريم يدعو الله تعالى إلى الصبر؛ لأنه قوة الجهاد، وقوة الطاعة، ويربي العزيمة، ويمنع الاختلاف، إذ إن الاختلاف ينشأ عن الجزع
________
(1) الزرد: والزَّرْد مثل السَّرْد وهو تداخل حلق الدرع بعضها في بعض لسان العرب - زرد.
(2) سبق تخريجه.(6/3150)
أو عن الطمع، والصبر علاج الجزع والطمع معًا؛ إذ الجزع ضعف في الإرادات وخور في العزيمة، والطمع يتنافى مع ضبط النفس، وضبط النفس لَا يكون إلا مع الصابرين، والله تعالى مع الصابرين.
وقد رفع الله تعالى الصابرين إلى أعلى المراتب عند الله، فذكر أنه سبحانه في آية أخرى أنه يحب الصابرين، والحب أعلى من الرضوان؛ لأنه يتضمن رضا الله وأكثر منه، وهو أن يكون محبوبا عند الله؛ لأن الصبر تحمل المشقة في طاعة الله، وقد أكد الله محبته للصابرين بالجملة الاسمية وبـ (إن) المؤكدة، وبفعل المضارع الدال على تجدد المحبة كلما صبروا، وإن محبة الله - تعالى - غاية المؤمنين الصادقين.
وإن ذلك الصبر يكون بإخلاص النية لله تعالى، وألا تكون الحرب بطرًا ورئاء الناس، بل تكون لله سبحانه وتعالى؛ ولذلك حظر الله تعالى من الحرب بطرا ورئاء الناس فقال تعالت كلماته:(6/3151)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
(وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
إن الإيمان قوة الجهاد، وإخلاص النية لله تعالى هي خشيته، والمؤمنون كانوا يجاهدون طالبين مرضاة الله ومحبته، وكانوا يصبرون ويصابرون، وقد حثهم الله على طاعته ورسوله، وأن يمتنعوا عن النزاع، وقد جنبهم أن يكونوا كالمشركين الذين يحاربون مفاخرين، قد بطروا معيشتهم، ولا يهمهم إلا المراءاة بالقتال، والصد عن سبيل الله؛ ولذا قال تعالى: (وَلا تَكونُوا كَالَّذين خرجُوا مِن ديَارِهم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ) البطر كفر النعمة والتقوية بها على معاصي الله، والاستعلاء بها على الناس، والرئاء مصدر راءى يرائي، يقصد به الظهور أمام الناس مفاخرا مباهيا، لا يقصد به رفع حق ولا خفض باطل، ولا إغاثة ملهوف، ولا نصرة مظلوم، بل يقصد الغلب لمجرد الغلب، وقد خرجوا من ديارهم لهذا الغرض وهو البطر ورئاء الناس، ولذا قالوا: إن بطرا ورئاء الناس مفعولان لأجله، أي العلة الباعثة للخروج من ديارهم هي البطر والمفاخرة والاستعلاء على الناس، وإذا كان لهم غرض آخر يظهر من أعمالهم، فهو الصد عن سبيل الله تعالى باستعلائهم، وإرهاب الناس(6/3151)
وبيان أن لهم القوة في بلاد العرب، فيرهبهم المؤمن ويخافهم من يريد الإيمان، وبذلك يصدون الناس ويدفعوتهم عن سبيل الله تعالى، وهو الصراط المستقيم، وسبيل الحق.
ومعنى النهي عن مشابهتهم بهؤلاء في قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) أن يخرجوا من المدينة لأجل الحق ونصرته، لَا للبطر والاستعلاء والمفاخرة.
ولقد كان المشركون قد خرجوا لذلك، أو انتهى الأمر في خروجهم في بدر إلى تمحض لذلك، لقد خرجوا ليحموا عيرهم، ولكن أبا سفيان انفلت بالعير عن طريق بدر، وعبر بها سيف البحر، وقد أرسل إليهم بنجاة العير، وكان حقا عليهم أن يعودوا أدراجهم إذ قد نجت عيرهم، وسلمت أموالهم، فذهب الباعث على خروجهم، وعاد بنو زهرة منهم، وتلكأ الباقون من عقلائهم، وترددوا وأرادوا حقن الدماء، وقالوا: نقاتل أبناء عمومتنا من غير حاجة إلى قتال؟! وغلب رأى السفهاء منهم، ووقف " أبو الحكم " الذي سمي في التاريخ الإسلامي " أبا جهل " وقال: " والله لَا نرجع عن قتال محمد، حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور، وتعزف علينا القيان، فإن بدرا موسم من مواسم العرب، وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب بمخرجنا، فتهابنا آخر الأبد "، وقد انساقت قريش وراء هذا الناعب، فكانت المعركة ولم يشربوا الخمر، بل ذاقوا كأس المنون، وكان الحِمَام بدل المُدَام، وناحت عليهم النواحي بدل غناء القيان.
ونرى أنهم ما اضطروا إلى الحرب، بل بطر النقمة، والاستعلاء بالقوة والصد عن سبيل الله، وأن يكون الشرك هو الغالب، مع أن الله تعالى هو القاهر.
وقد بين الله قدرته وأنه القاهر فوقهم، فقال تعالى في ختام الآية الكريمة:
(وَاللَّهُ بمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) وصدَّر الجملة السامية بلفظ الجلالة لبيان قدرة الله العالية وتربية الْمَهابة في نفوسهم، وقدَّم (بِمَا يَعْمَلُونَ) لبيان اختصاصه سبحانه بالعلم بما يعمله وإحاطته، والجملة السامية تهديد لهم، لأن هذا العلم الجزاء الوفاق لعملهم.
* * *(6/3152)
أولياء الشيطان
(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
* * *
إن الشيطان ولي الكافرين يخرجهم من النور إلى الظلمات، ومن الحق إلى الباطل، ولذا قال تعالى:(6/3153)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
(وِإذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ).
(الواو) عاطفة هذا الكلام على ما قبله، والضمير في لهم يعود إلى الذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس، وفي هذا النص بيان أنهم ما دفعوا إلى ما فعلوا يوم بدر حتى كان نصيبهم الردى والهزيمة النكراء - إلا لوسوسة الشيطان، فالذي حرضهم على ذلك الخروج هو ما زين في نفوسهم من أن لهم الغلب،(6/3153)
و (إذ) ظرف للماضي متعلق بمحذوف، أي: اذكر يا محمد إذ زين لهم الشيطان أعمالهم، وقال لهم لَا غالب لكم اليوم من الناس، وقوله تعالى: (زَيَّنَ) أي حَسَّنَ لهم ذلك، بأن وسوس في نفوسهم حُسْنَهُ وأوهمهم الشيطان بوسوسته في النفس أنهم أوتوا القوة كلها، وأنه لَا غالب لهم اليوم من الناس، وأن لهم بحيرا من أوهامهم فليس هناك شيطان ظهر لهم، وقال ما قال، إنما هي وسوسة الشيطان، وهو يجري في الإنسان مجرى الدم، فهو زين لهم بوسوسته، كما زين بها عبادة الأصنام، وكما زين لهم تحريم ما أحل من بحيرة وسائبة ووصيلة وحام، زين لهم بوسوسته أنهم لَا غالب لهم من الناس، وزين لهم بأوهامه التي بثها فيهم أنه مجير وجار لهم يجيرهم من أي ضيم ينزل بهم، كما تلاقى الخربان تبدد ذلك كله، ورأو! الأمر عيانا، وأنه لَا منجاة لهم، ورأوا أنه أوهمهم ما لم ير، وإن الحقاتق بدت لهم واضحة.
الكلام تصويريّ يحكي قصة إغرائه، وتزيينه لهم أنهم الأقوياء وكأنه يحدثهم، فيدليهم بغرورهم، وبث فيهم القوة الزائفة، ويوهمهم أنه جار ولا جوار، وأنه لما اشتدت الشديدة قال: إني بريء منكم، وإني أرى ما لَا ترون، وكل هذا تصور لما جاش في نفوسهم، وإنا نميل إلى هذا.
وقد جاء في السير وفي بعض الأخبار في مقابل ما ذكرنا أن إبليس تمثل في صورة رجل من العرب، روى محمد بن إسحاق عن عروة بن الزبير: لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب، فكاد ذلك أن يثنيهم، فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وكان من أشراف بني كنانة فقال: أنا جار لكم أن تأتيكم لنا بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا، قال محمد ابن إسحاق: فذكروا لي أنهم كانوا يرونه في صورة سراقة بن مالك فلا ينكرونه، حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان كان الذي رآه حين نكص - الحارث بن هشام أو عمير بن وهب، فقال: أين سراقة؟! ونظر عدو الله إلى جنود الله من الملائكة(6/3154)
قد أيد الله بهم رسوله والمؤمنين فنكص على عقبيه، قال: إني بريء منكم إني أرى ما لَا ترون، وصدق الله، والله شديد العقاب.
وقد روى مثل هذا عن السدي والضحاك والحسن البصري ومحمد بن كعب، وقدر رأى ذلك النظر الحافظ ابن كثير بما ورد من آيات في شأن تغرير إبليس لأهل الضلال، فتلا قوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16). (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22).
ذانكم الرأيان اللذان أخذ فيهما بظاهر الألفاظ، واعتمدا على روايات في رواتها نظر، والذي أخذ فيه بمعنى الألفاظ وإنا نؤمن بصدق قصص القرآن، ولكنا في هذه الآية نميل إلى النظر إلى أنها خير تصوير لاستمكان الشيطان من قلوب الكفار، وتحكمه فيها، وسد ينابيع الإدراك في نفوسهم، ونميل إلى ذلك؛ لأن خبر إبليس وتمثله بصورة سراقة لم يثبت بسند صحيح يفسر به القرآن، ولأننا نفسر القرآن بما يبعده عن الغرائب، وبما هو مأنوس للناس من غير تكذيب لأخباره، والله أعلم، وقوله تعالى: (فَلَمَّا ترَاءَتِ الْفِئَتانِ) أي الجماعتان المتقاتلتان (نَكَصَ عَلَى عَقبَيْه)، نكص معناها رجع على عقبيه، تصوير لارتداده متقهقرا سائرا على العقبينَ، وهو خائف مضطرب، ويتبرأ من لحق أغراهم، وقد رأى الشدة آخذة بهم، وذلك تصوير لما يكون في نفوسهم، وسيكون يوم القيامة محسوسا، وقوله تعالى: (وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ) أي إني أعلم ما لَا تعلمون وقد أضلهم، وقد غرهم الغرور، (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) يعلن أنه يخاف الله والله شديد العقاب.
وبذلك يصور لهم كيف ضلوا بوسوسته، وكيف تعرضوا للعقاب بتزيين ومثله في هذا التصوير كمثل من يدلي لإنسان في هاوية حتى إذا تردى فيها أخذ يعيره في هذا التردي، وما فعله إلا بتزيين وتحسينه فهو المجرم الأصيل.(6/3155)
هذا حال الكفار، وقد كان من الذين يجاورون النبي - صلى الله عليه وسلم - من كانوا إخوان الشياطين كالكافرين، وكانوا أخبث نفسا وأفسد قلوبا، وهم المنافقون ومن في قلوبهم مرض، وقد قال فيهم:(6/3156)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
(إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ ... (49)
عندما انتصر المسلمون في غزوة بدر وصارت لهم قوة ترهب أعداء الله وجد من ينافق بأن يظهر الإيمان ويبطن الكفر، لقد كان سكان المدينة منهم الذين آمنوا بالله ورسوله وأيدوه، ومنهم اليهود، ومنهم الوثنيون فلما صارت للإسلام شوكة وعزة وقوة - ظهر النفاق، وأولئك كانوا مع المؤمنين في المظهر، ومع أعداء الله - تعالى - في حقيقة نفوسهم، وكانوا يبثون الخبال في المومنين، فقال تعالى في أولئك المنافقين: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِين فِي قُلُوبِهِم مَّرَض) هما وصفان لطائفة واحدة، وهم الذين وصفوا بالنفاق، فلهم وصفان أحدهما النفاق، والثاني أن في قلوبهم مرضا، وقد وصفهم الله تعالى بذلك، فقال: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مرضًا. . .)، والعطف عطف أوصاف، لَا عطف موصوفين لقولهم:
إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم أو نقول: إن هناك موصودين، وهم المنافقون الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر، والطائفة الثانية هم الذين في إيمانهم ضعف، فهم آمنوا على حرف ولما يدخل الإيمان في قلوبهم.
وقد بدا لي نظر لم أطلع عليه، ولكن له شواهد، وذلك أن الذين في قلوبهم مرض اليهود، ذلك أن في قلوبهم مرض الحسد، وهو أشد أدواء القلوب، وهو في اليهود دائما، فالمراد بالمنافقين الذين يقولون؛ إنهم مؤمنون ويبطنون الكفر، والذين في قلوبهم مرض اليهود.
والوقائع التاريخية تؤيد ذلك أن المنافقين كانوا يقولون غرَّ هؤلاء دينهم، أي أوقعهم في غرور، فظنوا أنفسهم الأقوياء، وليسوا من القوة في شيء وقال اليهود(6/3156)
من بني قينقاع: (لقد غر هؤلاء دينهم، وغرهم انتصارهم، لئن لاقونا فسيجدننا الناس) وكان منهم اعتداء على المسلمين حتى أجلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، هذا ما سبق إلى خاطرنا، وهو ينطبق على المنافقين واليهود، والشواهد التاريخية تؤيده، والله أعلم.
ولقد قال تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) التوكل هو التفويض إلى الله تعالى بعد أخذ الأسباب وتهيئة ما يكون سببا للنصر، ثم يتجه إلى الله تعالى معتمداً عليه مفوضا الأمور إليه، فإن الآسباب لَا تعمل وحدها بل تعمل بإرادة الله، وهذا فرق ما بين التوكل والتواكل، إذ أن المتواكل لَا يتخذ الأسباب.
وقوِله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ليست جواب الشرط وهو قوله تعالى: (وَمَن يَتَوكَّلْ عَلَى اللَّهِ) بل هي سب جواب الشرط قام السبب مقام المسبب، والمعنى ومن يتوكل على الله حق توكله، فإن الله ناصره، وهو الغالب، لأن الله معه، وهو عزيز وحكيم ينصر من ينصره وهو على كل شيء قدير.
هذه نتائج النفاق وضعف الإيمان ومرض الحسد في الدنيا، أما في الآخرة فعذاب أليم، يبتدئ من وقت قبض أرواحهم؛ ولذا قال تعالى:(6/3157)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
(وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
تصور هذه الآية الكريمة هول عذاب الجحيم، وتبين أنه من وقت أن تتوفاهم الملائكة الذين أمرهم الله بذلك، والتوفي مصدر توفاه، معناه أوفاهم الله أجلهم في الدنيا، وانتهوا به، وإذا جاء أجلهم لَا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
و (لو) في قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى. .) حرف امتناع لامتناع، وهي هنا لتصوير حالهم والعذاب يستقبلهم إذ تتوفاهم الملائكة إذ تتوفاهم الملائكة المأمورة(6/3157)
بذلك آجالهم، وهنا فعل شرط حذف جوابه، لبيان هوله، وأن تذهب فيه النفس كل مذهب من حيث إنه لَا يدرك كنهه، ولا تتصور حقيقته في الدنيا، والمعنى لو عاينت الذين كفروا، وأرواحهم تقبض ثم ما يجيء بعد ذلك رأيت هولا عظيما، لا تدركه عقول أهل الدنيا ولا تحيط به أفهامهم، كقوله تعالى: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ).
ويقول الزمخشري: إن (لو) إذا دخلت على المضارع جعلت معناه ماضيا، فمعنى لو ترى: لو عاينت ورأيت الذين ظلموا إلى آخره، وكان التعبير بالمضارع لتصوير الماضي حاضرا مرئيا مهيئا ليتصور ما يكون ويراه كأنه حاضر، والتعبير بالذين كفروا لبيان أن السبب في هذه الشدة التي يكونون عليها هو كفرهم، وهو مقابل لطغيانهم وتمردهم وعنادهم للحق في الدنيا، فإنه بسبب ذلك الطغيان، يكون الإذلال والخسران والهوان.
وقد صور حالهم فقال: (الْمَلائِكَة يَضربُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) وهذا تصوير لحال ذلهم الذي يقابل اغترارهم واستكبارهم عن الحق، فتضرب الوجوه التي تكون بها المواجهة، وضرب الوجوه لَا يكون لمن يعاملون بالصغار والهوان، وهذا عقاب معنوي شديد، وأدبارهم، أي يركلون بالأرجل في أدبارهم كما تضرب بالأيدي وجوههم، فهم في مهانة تحيط بهم، أو أن المهانة والذلة تحوط بهم من الأمام والخلف، وذلك تصوير لذلهم بعد الغطرسة، والاستهانة بهم بعد الغرور.
وذلك بلا ريب عقاب معنوي، بالتحقير، في مقابل تكريم المؤمنين الذين كانوا يقولون: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ).
وقد بين بعد ذلك العذاب المعنوي فقال: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) وهي معطوفة على قوله تعالى: (يَضربُونَ وجُوهَهُمْ) وذلك بتقدير فعل محذوف تقديره، ويقولون لهم ذوقوا عذاب. .، أو تقول: إن هذا فعل أمر في معنى(6/3158)
الخبر، ويكون ويذوقون عذاب الحريق، وعبر سبحانه وتعالى عن إصابة العذاب لهم بقوله: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) للإشارة إلى أن العذاب لَا يكون إلا بالإحساس به، فهم في إحساس دائم به، يذوقونه ويحسون به، وكلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.
والحريق هو النار المحترقة التي لَا يطيقها إحساس محس إلا أن يكون عذابا.
وإن التعبير بقوله: (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) لَا يخلو من تهكم بهم؛ لأنهم فسقوا وذاقوا من الهوى ما ذاقوا، فكأنه يقال لهم: كما ذقتم المتع والشهوات، فذوقوا الحريق، وكأنَّه يبشرهم.
وقد قال بعض المفسرين: إن ذكر ضرب الوجوه، وضم الأدبار إليهم تذكير لهم بشهوتهم التي كانوا منغمسين فيها وأنهم يضربون فيها، كما وقعوا في المفاسد بها والله تعالى أعلم.
وقد بين سبحانه وتعالى عذابه مربوطا بسببه فقال:(6/3159)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
(ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
الإشارة إلى ما سينزله الله بالذين كفروا، من العذاب الشديد والعذاب الأليم، والباء للسببية والمعنى العذاب الشديد بسبب ما قدموا من إيذاء للمؤمنين، ومعانة لرب العالمين، وجحود بالآيات وتكذيب لكتاب الله ورسله، وعبر سبحانه وتعالى عن ذنوبهم التي تضافرت وتكاثرت بقوله: (بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) مع أن الذنوب تكون بالألسنة وقول الباطل كما تكون بالأيدي؛ لأن الأيدي بها البطش الظاهر، وبها أوذي المؤمنون، وبها نكل بالضعفاء، وحملها للأسلحة في الحروب، وإن التعبير عن الكل باسم الجزء مجاز مرسل مشهور، إذا كان للجزء مكانة خاصة في الحكم، كقولهم عن الجاسوس: العين؛ لأن العين لها مظهر خاص في التجسس.(6/3159)
والمراد بما قدموا من أعمال وما قالوا به من أقوال، وإن هذا الجزاء عدل لا ظلم فيه، ولذا قال تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)، وقال سبحانه في هذه الآية (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) والواو هنا للعطف، أي أن ذلك العذاب كان بسبب ما قدموه، وبسبب أن الله تعالى ليس بظلام للعبيد، أي أنهم ينالون جزاء ما اقترفوا والعادل يعطي كل إنسان ما يستحق، (وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ. . .)، فذلك يتحقق عدل الله الكامل، وينتفي عنه الظلم سبحانه إنه عَليٌّ قدير.
ولو كان الله تعالى سوى بين المجرمين والمحسنين، لكان ثمة شائبة ظلم، والله منزه عن ذلك، ومعاذ الله أن ينسب إليه، وقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ)، فيه تقرير العذاب، وتثبيته، وفيه تبريره.
وقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) نفي للظلم الكثير المتكرر، فهل معنى ذلك بمفهوم المخالفة أن الظلم القليل، ليس بمنفي عنه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا؟.
والجواب عن ذلك أن النص الكريم ينفي أصل الظلم عن رب العالمين، وإنما النفي بصيغة المبالغة للإشارة إلى أن المساواة بين المحسن والمسيء ظلم كبير ولا يفعله إلا ظلام للعبيد، وقيل: إن الظلم بصيغة المبالغة لكثرة المستحقين للعقاب، فلو لم يعاقبهم لكان ظلاما، والله تعالى ليس بظلام.
ومن هذا النص الكريم يفهم أن العدل يوجب أمرين أولهما ألا يعاقب
المحسن، فإن عقابه ظلم، وثانيهما أن يعاقب المسيء ولا تأخذ الناس به رأفة، لأنه لم يرحم الناس، ويقول - صلى الله عليه وسلم - " من لَا يرحم لَا يُرحم " (1).
وقد أخذ سبحانه يقص بعض القصص عن الظالمين وعقابهم.
* * *
________
(1) سبق تخريجه.(6/3160)
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
* * *
بين الله تعالى في الآيات السابقة أن الله تعالى يعاقب المشركين عقابين؛ عقابا في الدنيا وهو أن ينتصف للمؤمنين، وأن ينصرهم، وأن يجعل الكافرين الأذلين، وكلمة الله هي العليا، وكلمة الكفر هي السفلى، ويبدل المؤمنين من خوفهم أمنا.
العقاب الثاني هو عقاب الآخرة، وإن عقاب الدنيا قد يكون بأسباب يوفق إليها، وقد يكون من الله تعالى يكون بمعجزة أو بأمر خارق للعادة كإغراق فرعون، والنصرة بالريح، وكلاهما من أمر الله تعالى، ومن توفيقه، وقد ذكر الله طواغيت مكة بطاغوت فرعون، وقد أدال الله تعالى منه، فقال تعالى:(6/3161)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
الكاف للتشبيه والمشبه ما فعله بالمشركين، وما ارتكبوه بالنسبة للمؤمنين، والمعنى أن الله تعالى لتشابه أفعال مع أعمال فرعون والله أنزل بهم ما أنزله بفرعون، لقد طغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، فأخذهم بذنوبهم أي أنزل بهم عاقبة ما فعلوا، فأصابهم بالرجس وأرسل عليهم الضفادع والدم آيات مفصلات.(6/3161)
وقوله (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) الدأب مصدر دأب دُءوبا، أي فعلوا مثل ما فعل آل فرعون دائبين مستمرين عليه من تذبيح أبنائهم، واستحياء نسائهم، وإيذاء موسى وقومه، ومن قطع أيدي السحرة وأرجلهم من خلاف، إذ آمنوا بربهم، ومن طغيانه وملئه في البلاد، وادعائه الألوهية وطغيانه على أهل مصر، وقوله لهم ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.
تشابهت أفعال المشركين مع أفعال فرعون وملئه الذين دأبوا عليها، واستمروا قائمين بها، فكان حقا عليهم أن ينتظروا لهم مثل ما آل إليه أمر فرعون، وقد بين سبحانه وتعالى أنه أخذهم بذنوبهم فقال: (فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) الباء للسببية وأخذهم معناها أخذهم أخذ معذب مكافئ بما فعلوا، فالأخذ يتضمن عقابهم على ما فعلوا، وهو القوي القادر، كما قال تعالى في آية أخرى: (فَأخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ)، وقوله تعالى بذنوبهم، أي أخذهم بالعقاب بسبب ذنوبهم التي ارتكبوها في حق الناس من تاله، ومن تعذيب، وإفساد للعقول بالضلال، والنفوس بالإرهاق والأذى، وبصح أن تكون الباء للإلصاق، ويكون المعنى أخذهم مصاحبين لذنوبهم فيذكرون جرائمهم، إذ ينزل بهم العذاب. وقد ذيل الله تعالى النص الكريم بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ قَويٌّ شَديدُ الْعِقَابِ).
وهذا في مقام التعليل لقدرته تعالى على الأخذ الشديد لفرعون وأشباه فرعون، وإن طغوا وبغوا، وقد وصف الله جل جلاله بوصفين يدلان على شدة الأخذ والعذاب؛ الأول وصف ذاتي معنوي، وهو القوة، فهو ذو القوة المتين، والوصف الثاني، وهو أن عقابه شديد متناسب مع الذنوب، ومثل فرعون وملئه ذنوبهم كبيرة شديدة قوية، فلابد أن العقاب من جنسها، وهو جزاء وفاق لها.
وأكد الله تعالى هذين الوصفين بعدة مؤكدات فأكده بتصويره الجملة بوصف الجلالة، وهو يلقي بالرهبة والهيبة، وبكون الجملة اسمية، وبـ " إنَّ " التي تؤكد القول. . وقانا الله تعالى شر عذابه ومنحنا رحمته، إنه هو الغفور الرحيم.(6/3162)
وإن ما ينزل بالطغاة من أخذ لهم إنما هو منِ نفوسهم التي غيروها، وشوهوا فطرتها بمظالمهم، لذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)، وقال الله تعالى في معنى هذه الآية:(6/3163)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
الإشارة إلى ما فعله الله سبحانه وتعالى بالمشركين من أهل مكة، إذ عجَّل لهم عذاب بتنكيل المسلمين بهم، وغيَّرهم من سطوة في أرض العرب وجاه وسلطان إلى أن يغلبوا على أمرهم، ويذلوا بعد عزة، وإلى ما فعله سبحانه بآل فرعون ومن قبلهم من قوم نوح وعاد وثمود، وآل مدين، فإن هؤلاء غيروا نفوسهم، وطمسوا فطرهم، فغير الله تعالى نعمته، فانتزع منهم ما كانوا في زرع فاكهين فيه.
والمعنى كان هذا الذي أنزله بالكافرين بآيات الله تعالى قد وضع نظما حكيمة في هذا الوجود الإنساني، (بأنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأنفُسِهِمْ)، أي أن نظام اللَه تعالى في الإنسان أنه أنعم عليه نعما لها واجب وكما أنها له حق وعليها واجب، وأن الفطرة الإنسانية تدرك حق كل نعمة، وتفسد هذه الفطرة بالاتجاه إلى الشر، وذلك تغيير وطمس لنور الفطرة، والمعنى أن الله تعالى لَا يغير نعمة أنعمها على قوم، إلا إذا غيروا ما بأنفسهم، و " ما " هنا موصولة بمعنى الذي، والذي بأنفسهم هو نور الفطرة، وإخلاصها، وما أخذه الله تعالى على ظهور بني آدم ذربتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا: بلى، فهذا العهد المودع في الفطرة وهو التوحيد هو الذي يغيرونه بأنفسهم، فكفار قريش كانت لهم القوة لأنهم كانوا يدينون بديانة إبراهيم، ولكنهم غيروا ما بأنفسهم فشوهوا الفطرة، وأشركوا بالله أحجارا لَا تضر ولا تنفع، وزاد تغييرهم لما في أنفسهم بأن جاءهم رسول من ربهم يدعوهم إلى التوحيد فعاندوا، وكفروا بآيات الله تعالى، فأزالهم من سطوتهم، إلى حيث يغلبون على أمرهم.(6/3163)
وكذلك آل فرعون ومن قبلهم آتاهم نعمة المال والسلطان فغيروا ما بأنفسهم من موجبات الفطرة وكفروا بالله وعبدوا غير الله، فغير الله النعمة، وأزال أموالهم، وأغرقهم في اليم، وكانوا عبرة المعتبرين، وهذه سنة الله في الأكوان وفى الناس.
وقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) جملة معطوفة على قوله تعالى:
(بِأنَّ اللَّهُ لَمْ يَكُ مغَيِّرًا نِّعْمَةً. . . .) ولذلك كانت " أن " هي المفتوحة وليست المكسورة، والمعنى ذلك التغيير بسبب " أن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم، وأن الله سميع عليم " أي بسبب ما سنه الله، وبسبب بأن الله تعالى سميع يسمع همسات القلوب، وخواطر النفوس وما يختلج في الأفئدة، فهو يعلم النفوس إذا تغيرت، عليم بكل ما يجري في الوجود، وما تتحرك به الجوارح، وما يعلمون من أمور مغيبة على الناس فإنها لَا تغيب عن الله.
وإن هذا النص يدل على أمرين جليلين:
أولهما - أن النفوس الإنسانية هي التي تتعلق بها الأحكام، ويجري الله تعالى أمره على ما في هذه النفوس من خير أو شر.
ثانيهما - أن النصر والتأييد من الله تعالى بالقوة إنما هو باستقامة النفوس، فإن استقام ما فيها استقام الأمر وكان النصر والتأييد، وبعد أن بين سبحانه وتعالى أن الله لَا يغير ما بقوم حتى يغيروا الذي بأنفسهم، ذكر الطغاة، وما يقضي به عليهم فقال تعالت كلماته:(6/3164)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
التشبيه منعقد بين المشركين وآل فرعون والذين من قبلهم، كما هو في الآية السابقة، بيد أنه في التشبيه صرح سبحانه بما لم يصرح به في الآية السابقة، ففي هذا التشبيه صرح سبحانه بأن أخذهم كان بالإهلاك الذي لَا بقاء معه، وفي هذا التشبيه صرح بإغراق آل فرعون، ولم يصرح بذلك في التشبيه السابق، وفي هذا(6/3164)
التشبيه بأنه كان مع الكفر والتكذيب لآيات الله كان الظلم للناس فلم يكتفوا بكفرهم، وتكذيبهم لآيات الله، بل ظلموا أحكامهم، ولم يتخذوا العدل صراطا مستقيما وظلموا مخالفيهم، وظلموا رسلهم مع رعيتهم، والقول الجملي أن التشبيه الأول كان تقريبا ما بين الظالمين من مناهج ومسالك، والثاني فيه معنى تعيين وجه الشبه.
قال تعالى في أوصاف المشركين وآل فرعون ومن قبلهم (كذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ) أي أنهم جاءتهم المعجزات الباهرة القاطعة، فجاء فرعون تسع آيات مفصلات، فكذبها أي كذب ما تدل عليه من وحدانية الله تعالى في الخلق والتكوين والذات والألوهية، والمشركون كذبوا ما تدل عليه المعجزة الكبرى وهي القرآن فوق ما تدل عليه الخوارق الأخرى من وجوب الإيمان بالرسألة.
وهذا التكذيب سبب الكفر، فإذا كان قد ذكر في التشبيه الأول - بأن السبب في العذاب هو الكفر، فقد صرح في هذا بأن سبب الكفر هو إصرارهم على التكذيب كأنه لَا رقيب عليهم ولا حسيب.
وعبر سبحانه في التكذيب بأنهم كذبوا بآيات ربهم، ونسبة الآيات المكذبة إلى ربهم تفيد فائدتين:
إحداهما - بيان فظاعة التكذيب؛ لأنهم كذبوا بآيات ربهم الذي خلقهم وكونهم وربهم وهو العليم بما يناسبهم من أدلة.
والثانية - أن هذه الآيات من المتفضل عليهم بنعمة الوجود والتنمية، وإعطائهم القوة التي طغوا بها.
ويقول سبحانه: (فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) (الفاء) عاطفة لربط ما بعدها على ما قبلها، أي أنه بسبب تكذيبهم أهلكهم الله تعالى بسبب هذه عقابا من الله تعالى، ولأن الذنوب المتضافرة يترتب عليها الهلاك لَا محالة.
وفى الكلام التفات من الغيب إلى الحاضر، والإسناد إلى الله تعالى، بإسناد الإهلاك إليه سبحانه وتعالى؛ لبيان تأكد الوقوع لأنه من الله تعالى القاهر فوق عباده العزيز الحكيم، ولتربية المهابة في النفس، وللتذكير بالرهبة من الله تعالى.(6/3165)
وقد خص آل فرعون بذكر هلاكهم فقال: (وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ) اختص آل فرعون بذكر هلاكهم؛ لأن فرعون كان أشهر ملوك عصرهم، وأشدهم طغيانا عن رعيته، وأرهبهم، وأظلمهم، فذكره للعرب وقد أهلكه الله تعالى بالغرق أرهب لنفوسهم، وأشد على غرورهم، وأردع لطغيانهم، وفوق ذلك أغرقه الله تعالى بأمر خارق للعادة لم يكن في حسبانهم، إذ انفلق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم ثم انطبق عليهم بما لم يعهدوا، ولم يحسبوا، فهو يذكر المشركين بأن الله تعالى يأتيهم من حيث لم يحتسبوا، وأنه سيهزمهم من حيث لَا يشعرون، بل يحسبون في أنفسهم أنهم الغالبون، ويوسوس لهم الشيطان بأنهم لَا غالب لهم وقد وصف الله تعالى العصاة جميعا بأنهم ظالمون، فقال تعالى: (وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ) أي كل الذين كفروا برسل الله، وآيات ربهم كانوا ظالمين.
فـ (كلٌّ) مضاف إلى محذوف يعم حكم الله تعالى عليه بأنه ظالم، وأكد ذلك الحكم بـ (كان) الدالة على استمرار الظلم، وبالجملة الاسمية، وقد ظلموا أنبياءهم بتكذيبهم مع أن الحق واضح أبلج، وظلموا أنفسهم لأنهم ارتضوا الضلالة بدل الهداية، وظلموا المؤمنين لأنهم آذوهم، وسخروا منهم، وظلموهم لأنهم حاربوهم، وهم فاجرون في حربهم، وظلموهم لأنهم أشاعوا عنهم السوء، وهكذا أحاط الظلم بهم، والظلم ظلمات يوم القيامة والله منتقم جبار.
* * *
لا عهد للمشركين
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
* * *(6/3166)
في هذه الآيات البينات يبين ما عليه الذين كفروا من إصرارهم على الكفر، ونقضهم للعهد، وما ينبغي لهم من معاملة، وأنه إذا وجدهم في الحرب للمسلمين فيه غلب أن يضربهم ضربة قاسمة ليشرد الذين من ورائهم من قومهم أو يصيبهم الرعب، فلا يجتمعون عليه رهبا وخوفا، وإنه يجب توقع الخيانة منهم ومن كان يخاف خيانته، ينبذ عهده، ويتقى أذاه، وقد ابتدأ سبحانه بوصف الكفر، كيف يتدلى الكافر من مرتبة الإنسانية إلى مرنبة الدواب الحقيرة التي هي أدنى الحيوان إلى أن قال تعالى:(6/3167)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)
(إِنَّ شَرَّ الدَوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كفَرُوا)
" الدواب " جمع دابة، وهي كل ما يدب على وجه الأرض من حشرات إلى قردة وخنازير، إلى كلاب وحمير وخيل، إلى الإنسان، والتعبير عن الذين كفروا بالدواب حط من إنسانيتهم؛ لأنهم أغفلوا مداركهم وصاروا كأقل الحيوان ذكرا، ومكانا.
وليسوا فقط أحط الأحياء، بل هم أحط من أحطها، فهم شر الدواب، وهم في الدرك الأسفل من الحيوانية، وأحط ما في هذا الدرك.
يقول تعالى مؤكدا القول: (إِنَّ شَرَّ الذَوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) فحكم الله تعالى بأنهم أشد الحيوانات شرا، من الحشرات التي تدب إلى الإنسان الذي خلقه الله تعالى فسواه في أحسن تقويم، وشرهم الشديد؛ لأنهم أوتوا عقولا فشوهوا إدراكها، وأوتوا فطرة سليمة، فرضوا أن يعبدوا حجارة هي أحط من أحط الحشرات وجودا؛ لأن الحشرة فيها حياة وأوثانهم لَا حياة فيها، وهم شر الأحياء لأن كل شيء حي فيه نفع، وإن كنا لَا نحصيه، وهم شر لأنهم ظالمون ولا نفع فيهم، وهم شر لأنهم يعاندون الخير ويعاندون الحق ويؤيدون الشر، وإذا كان مقياس الخير والشر هو النفع في الخير، والفساد في الشر - فالذين كفروا بمقتضى هذا القياس سلب منهم كل ضر، واتسموا بكل شر، فكانوا شر الأحياء.(6/3167)
ثم قال تعالى: (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) " الفاء " تفيد السببية والمعنى هم سبب كفرهم لَا يؤمنون والنفي نفي متجدد للإيمان، أي أنه قد تلبس بهم الكفر فلا يؤمنون قط، وعبر بالمضارع لتجدد كفرهم آنًا بعد آنٍ، وتلك حالهم، ونفَى الله عنهم الإيمان بإطلاق، فلم ينف الإيمان بالله والرسول فقط، بل نفى الإيمان بإطلاق فهم لَا يؤمنون بحق إلا في ظل أهوائهم وشهواتهم، ولا يؤمنون بفضيلة، ولا يؤمنون بحق الإنسان على أخيه بل يؤمنون بالجبت والطاغوت، لَا يؤمنون إلا بالشيطان، فعقولهم كلها للشر، ونفوسهم سكنها الشيطان يعاضدون الظلم، ويؤيدون الباطل، فكانوا بهذا شر الدواب عند الله، أي في حكم الله تعالى خالق الحياة والأحياء.
وأوضح سبحانه إيذاءهم للناس بأنهم لَا يرتبطون بعهد مع الناس قط، فهم لا يشعرون بحق لغيرهم ولو بعقد التزموه أو عهد أبرموه فهم جائرون بائرون في تفكيرهم وإنسانيتهم، ولذا قال تعالى:(6/3168)
الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
(الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
(الَّذِينَ) في هذه الآية بدلا من (الَّذِينَ كَفَرُوا) في الآية السابقة، فهذا وصف من أوصافهم، وحال من أحوالهم، وأوضح ما كان ذلك في. اليهود الذين جاءوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة فهم الذين عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ونقضوا عهده؛ ولذلك يقول تعالى: (الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ) وإذا كانت واضحة في اليهود، ولم يكن للمشركين إلا عهد الحديبية، وقد نقضوه، فيصح أن يكونوا عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ونقضوه، ولكن لم يتكرر نقضهم؛ ولذا نقول: إن البدل في الذين عاهدتهم ليس بدل كل من كل، بل بدل بعض من كل.
واليهود عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكرر النقض فقد عاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أول إقامته عهد تعاون على البر والتقوى، ونقضه بنو قينقاع عقب وقعة بدر الكبرى، ثم أبرموه مرة ثانية بنو النضير حتى اضطر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إجلائهم، حتى يقيم في المدينة (والجنة تجاوره)، ثم كانت الممالأة للمشركين، ومكانتهم للمشركين، والنبي - صلى الله عليه وسلم -(6/3168)
فى الشديدة في غزوة الأحزاب، وقد تألبت عليه الجزيرة العربية كلها وتحزبت عليه، وقد جاءوا ليقتلعوا الإسلام من المدينة فرد الله الذين كفروا بغيظهم ولم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال.
ثم قال تعالى: (وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ) أي هؤلاء الذين ينقضون العهد، في كل مرة يعاهدون الرسول - صلى الله عليه وسلم - (لا يتقون) وقد أطلق عدم الاتقاء فلم يذكر أنهم يتقون الله، أو يتقون أذى الناس، أو يتقون نقض فهو سبحانه أطلق عدم الاتقاء، أي من صفاتهم التقوى وتقدير الأمور، وتقدير معنى الوفاء بالعهد، فإنه لَا يصح نقض العهد لأي سبب؛ لأنه يفقد الثقة، وفقد الثقة يؤدي إلى ضعفهم، ولقد قال تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91).
ولا شيء يضعف الجماعات أكثر من النكث في العهود؛ لأن الناس لا يثقون، ويكونون جميعا إلبا لبعض، وتعد فاسدة الأخلاق، ولا تكون لها قوة أبدا.
وقد رأينا ذلك في الدول في الماضي، ونراه الآن؛ ولذا يقول تعالى:
(وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَكَانَ مَسْئولًا).
وإذا كان الكافرون لَا يثقون في عهد عهدوه، ولا ينفعون بل يضرون، فلابد لحملهم على الحق من القوة الغالبة، والقهر الذي يرهبهم؛ ولذا قال تعالى:(6/3169)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
" الفاء " عاطفة، وهي فاء السببية، أي أن ما قبلها سبب لما بعدها، أي أن هؤلاء الكفار لَا يفعلون خيرا، وليس منهم إلا الأذى المنكر، ولا يُمنع شرهم بعهد يقدمونه، فإنه يجب قمعهم بالشر إذا وجدوا في حرب حتى لَا يجتمعوا على شر؛ لأن اجتماعهم إيذاء فلابد من إرهابهم.(6/3169)
(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهمْ) (إن) مدغمة في (ما)، و (ما) زائدة لتوكيد القول، ولذا جاء في الفعل نون التوكيد وجوبا. أو قريبا من الوجوب، والتأكيد للفعل، أي إن تأكدت من وجودهم، فلا تجعلهم يفلتون من يدك، واضربهم الضربة القاسمة التي تفزع من خلفهم فيشردون، بدل أن يكونوا مجتمعين للشر، فضرب من يقع في اليد من الأشرار ضربات قاسمة يجعل من خلفهم ممن هم على شاكلتهم مشردين غير مجتمعين، ومعنى (تَثْقَفَنَّهُمْ) تجدهم في ثِقاف، أي حال ضعف تقدر فيها عليهم، وذلك من قوله ثقفته أي وجدته.
وقوله تعالى: (فِي الْحَرْبِ)، أي انساقوا إليك محاربين، وقدرت عليهم فاغلظ عليهم واضربهم الضربات القاسمة التي تجعلهم نكالا لغيرهم، فلا يستمرئون الشر بعد ذلك، وقال تعالى: (فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ) أي شرد بضربهم والتنكيل بهم مَن خلفهم، فإذا رأوا الهوان ينزل بمن هم على شاكلتهم جزاء غيهم، فإنهم لَا يجتمعون لحرب أهل الحق بعد ذلك؛ إذ إن ضرب الذين جاءوا للحرب وأخذهم بالسوق والأقدام يجعلهم لَا يجتمعون على قتال لأهل الحق، فلا يهاجمون المؤمنين من بعد ذلك؛ ولذا قال تعالى: (لَعَلَّهمْ يَذكًّرُونَ) أي رجاء أن يعتبروا بغيرهم، ويذكروا مآلهم الذي يستقبلهم بما يرون فيمن تقدَّموهم، إن في ذلك لذكرى لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.(6/3170)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
(وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
" إما " هنا كما في قوله تعالى: (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) هي " إنْ " الشرطية مؤكدة بلفظ " ما "؛ ولذا أكدت بالنون الثقيلة، ويكون تأكيدا للشرط، فهو تأكيد للخوف، والمعنى إن خفتم خوفا مؤكدا توافرت أسبابه، حتى يكون توقع الخيانة أمرا ثابتا قامت أماراته وبدرت بوادره، (فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء) أي اطرح عهدهم وانبذه نبذا ظاهرا معلوما تكون وهم على سواء، لَا يربطكم، ولتأكد الخوف قال بعض المفسرين: إن معنى الخوف هنا العلم.(6/3170)
وقد فسرنا كما ترى معنى (عَلَى سَوَاء)، أي لتكونوا معهم على سواء أي متساوين تحُللون من العهد ويتحللون ويكون الاستعداد من الجانبين، وقيل: إن معنى (عَلَى سَوَاء) أي يكون النبذ معلوما مشهورا.
وإن النبذ يقتضي أن يكون ثمة عهد قد خانوه، أو همُّوا بأن يخونوه، وتأكد لديكم هذا، وتلك هي الأمانة التي أودعها الله تعالى أوامره للمؤمنين، بأن يكون أشرافا في الوفاء بعهودهم، فإذا توقعوا الخيانة متأكدين لها، فإنهم لَا يَسْبقون بالخيانة، بل يَنّبُذون ويُعلمونهم بأن لَا عهد.
وإن الخيانة لها صورتان:
الصورة الأولى - صورة الذين يتوقعون الخيانة ومتأكدين من وقوعها قبل أن تقع، وفي هذه الحال يعلنون ترك العهد واعتباره كان لم يكن ليستعدوا.
الصورة الثانية - أن يغدر المتعاهدون بالفعل، كما غدر المشركون في صلح الحديبية، فقد كان العهد يجيز لمن يدخل في جانب محمد أن يدخل فلا يعتدى عليه، فدخلت خزاعة في عهده، فاعتدت عليها قريش، وقد رأينا ذلك في الدول في الماضي، ونراه الآن، ولذا يقول تعالى: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَان مَسْئُولًا)، فكان الاعتداء بل الخيانة بالفعل.
وقد زال العهد بذلك، فكان متحللا، ولذا غزا الغزوة الكبرى بفتح مكة من غير نبذ، إذ هم قد نبذوه من قبل لَا بالقول بل بالفعل.
وقد كان الصحابة قبل أن ينقضوا هذا العهد بالفعل، يحذرون النبي - صلى الله عليه وسلم - من نقضهم ويخافونه، فكان النبي الوفي الأمين يقول: " وفوا لهم واستعينوا الله عليهم ".
وإن ذكر الخوف من الخيانة يقتضي أن هناك عهدا عاهده - صلى الله عليه وسلم - أو من جاء بعده، ويخاف من نقضه فإنه لَا خيانة إلا في عهد مبرم.
ونقول: إن الخيانة قد تكون بحرب يعدُّونها، وينقضون بها السلم الذي كان بحكم العلاقات الأدبية أو السلمية، ويريدون أن يخونوا المسلمين ويأخذوهم، فإنه(6/3171)
إذا تأكد المسلمون نبذوا هذا السلم الذي كان أصل هذه العلاقة وكانوا معهم على سواء.
ولا يقال: إن النبذ بُني على الخوف من الخيانة، والخوف ظن، ولا يبنى أمر قطعي على أمر ظني - لأننا قلنا: إنه خوف مؤكد بدت بوادر الخيانة، وظهرت أماراتها، والقائد المدرك لَا ينتظر حتى تقع الخيانة، بل يسارع بنبذ العهد، ويستعد لهم، ويحلهم من العهد، كما أحل نفسه، حتى لَا يؤتى من غرة.
فعن عمرو بن عبسة أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من كان بينه وبين قوله عهد فلا يشد عقدة، ولا يحلها حتى يمضى أمدها أو ينبذ إليهم على سواء (1).
وقد قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحبُّ الْخَائنينَ). هذا النص السامي فيه تعليل للنبذ على سواء، أي أن النبذ على سواء إعلام بإنهاء العقد، ليكون معلوما مشهورا، ولا يقع المؤمنون في خيانة؛ لأن الله تعالى لَا يحب الخائنين، فالنص يمنع عن الخيانة، بالنبذ على سواء، وإلا لو هجموا سواء على دمائهم قبل النبذ فقد خانوا، والله تعالى لَا يحب الخيانة وقد أكد نفي محبة الله تعالى للخيانة بالجملة الاسمية، وبـ " إن "، ونفي المحبة أبلغ في النهي؛ لأن محبة الله مطلوبة فإذا كانت الخيانة لا تؤدي إليها فهي منهي عنها نهيا شديدا مؤكدا.
* * *
(وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
* * *
________
(1) رواه الترمذي وصححه: السير - ما جاء في الغدر (1580)، وأحمد: مسند الشاميين (16567) وأول مسند الكوفيين (18943)، وأبو داود في الجهاد - الإمام يكون بينه وبين العدو عهد (2759).(6/3172)
هاتان آيتان في بيان قوة الإيمان وأهله، وأنه لَا يعجزه شيء ما دام مؤمنا بالله ومستعينا به سبحانه، وما دام يستعد ويأخذ في أسباب القوة، ولقد كان المشركون يتوهمون الغلب لمجرد أن يسبقوا في أمر أو يفوزوا فيه أو يفلتوا من مصادرة عيرهم، فبين الله تعالى أنهم إن نجوا مرة لَا يعجزوا الله تعالى ورسوله والمؤمنين، ولذا قال تعالى:(6/3173)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
(وَلا يَحْسَبَنَ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزونَ).
" الواو " للاستئناف، و " لا " ناهية، والنهي عن الحسبان والظن هو نهي عما ينبغي، لأن الحسبان لَا يقع عليه النهي إنما المراد - فيما يظهر والله أعلم - لَا ينبغي لهم أن يحسبوا أنهم سبقوا أي فازوا، إذا سبقوا إلى عيرهم وأخذوها وأفلتوا بها فإنهم لَا يعجزون، ولم يذكر في الآية ما سبقوا فيه أو ما فازوا به، بل أطلق نفي ظنهم أنهم سبقوا أي نوع من السبق، أو فازوا بأي نوع من الفوز، فالمعنى أنهم لا يظنون أنهم يسبقون بأي سبق، فحياتهم فارغة أبدا، لأنهم ليست لها غاية، لأن أي سبق لهم فهو لغو، وأن نهايتهم واحدة إن استمروا على كفرهم، وإن الله تعالى غالب، والنصر للمؤمنين وقوله تعالى: (إِنَّهمْ لَا يُعْجِزُونَ) قرنت بكسر (إن)، وتكون الجملة مستأنفة في معنى تعليل نهيهم عن حسبان أنهم سبقوا على المعنى الذي ذكرناه، لأنه ما دامت النهاية للمؤمنين وأنهم لَا يعجزون، فالهزيمة لاحقة بهم مهما سبقوا، ومهما يفوزوا في حركات ليست هي النهاية، والله من ورائهم محيط حتى يوم القيامة.
وهناك قراءة بفتح أن (1)، أي أنهم لَا يعجزون، وتكون هنا لام التعليل محذوفة، ومفهومة من مطوى الاسم: ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا أنهم لا يعجزون، وكثيرا ما تحذف لام التعليل، لأنها مفهومة من سرد القول، والمعنى الجملي للنص السامي أنهم مهما يسبقوا ويفوزوا فإن الغلب عليهم، ولا تحسبنهم معجزين من المؤمنين، كما في قوله تعالى: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَروا معْجِزِينَ فِي الأَرْضِ. . .)، وقوله تعالى: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ... ).
________
(1) قراءة (أنهم لَا يعجزون) بها قرأ ابن عامر، وقرأ الباقون بكسر الهمزة. غاية الاختصار (938).(6/3173)
إنهم لن يعجزوا الله، ومهما ينالوا من سبق فلن يعجزوا الله عن أخذهم من نواصيهم بالهزيمة في الدنيا، والعذاب في الآخرة.
ولكن هزيمة الدنيا لَا بد لها من أسباب يقوم بها العباد بتوفيق الله تعالى، والتوكل عليه سبحانه بعد الاستعداد بالعدة، وأخذ الأهبة والعزيمة والصبر؛ ولذا قال تعالى:(6/3174)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ... (60)
(وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قوَّة وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) هذا أمر تكليفي وهو فرض كفاية على الأمة الإسلامية يجب على الأمة كلها أن تتعاون في إعداد هذه القوة، بالدربة، والتعليم والرمي، وكل ما يربي الجند القوي.
فلا بد من التربية على الجندية، وإعداد عدة القتال، وذلك بالمستطاع بل بأقصى ما يستطاع، ومن هنا بيانية في قوله (مِّن قُوَّةٍ) وهي تدل على عموم القوى، فأعدوا كل ما يمكن أن يكون قوة في الحرب من دربة على الرمي بالسهام، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ألا إن القوة الرمي " (1)، كما روى عقبة بن عامر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان الراوي نفسه وهو عقبة راميا حتى لقد مات وعنده سبعون قوس رمي، ومن القوة الحصون، ومن القوة المنجنيق، وهكذا كل ما يكون سببا للقوة، ومنها من الماضي النار الإغريقية، ولم تكن معروفة عند العرب، وإن وجدت في الحروب الإسلامية.
فكل قوة مستطاعة يجب على الأمة أن تتضافر على إيجادها، وإلا أثمت كلها، ولم ينج من الإثم فقيرها وغنيها ولا قويها أو ضعيفها، فالقادر بقدرته، والضعيف بلسانه.
وقوله تعالى: (وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ) معطوفة على (مِّن قُوَّة)، ورباط الخيل جماعة الخيل خمسة فأكثر، وقيل رباط جمع ربيط، وقيل رباطا مصدر - رابط،
________
(1) رواه مسلم: الإمارة - فضل الرمي (1917). كما رواه الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، والدارمي.(6/3174)
وأطلق على الخيل؛ لأن المرابطة تكون بها، ومهما يكن فالمراد من رباط: الخيل المجتمعة، وخصت الخيل بالذكر؛ لأنها كانت قوة الحرب، في العرب، وربط الخير بنواصيها، فكانت رمز القوة، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها، ولا في ظهورها فهي له ستر، ورجل ربطها فخرا ورياء فهي له وزر " (1).
وقوله تعالى: (تُرْهِبونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَكُمْ) ترهبون أي تخيفون، وتفزعون، وتربون في نفوس أعدائكم المهابة، وتلقون في قلوبهم الرهبة وسمى الكفار عدو الله؛ لأنهم كفروا به وكذبوا آياته، وسماهم " عدوكم؛ لأنهم يريدون بكم الأذى، ويناصبونكم العداوة لإيمانكم وكفرهم.
وقال تعالى: (وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) وقوله: (مِن دُونِهِمْ) أي من غيرهم، أي من غير الذين يجاهرون الآن بعداوتكم من المشركين واليهود وغيرهم ممن يلاقونكم من الرومان الذين يعاصرونكم، ويشير بهذا إلى الذين يجيئون بعد ذلك الذين لَا يعلمهم المسلمون في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن والاه والله تعالى يعلمهم؛ لأنه علام الغيوب، وإن الله تعالى يشير بذلك إلى الأخلاف الذين يجيئون بعد ذلك، فإنه بمجرد أن انتشر الإسلام في الأرض ودخل الناس في الدين أفواجا، صار المسلمون في مذأبة من الأرض، فأوربا أرادت أن تنقض على الإسلام من الشرق والغرب. . . . والتتار أخذوا ينقصون على المسلمين الأرض من أطرافها.
وكان لابد من قوة تقهر وترهب هؤلاء، وتلقي مهابة المسلمين في قلوبهم، ولكن مع ذلك لم يستجيبوا لنداء الله، ولم يعدوا ما استطاعوا من قوة، وإن ذلك الاستعداد كان يوجب أولا - أن يكون لهم مصانع تصنع لهم الأسلحة لَا أن
________
(1) سبق تخريجه.(6/3175)
يستعينوا بأسلحة من غيرهم، إن شاء أعطى وإن شاء منع، وفي عطائه ومنعه يعمل لمصلحة نفسه، ولا يريد بالإسلام خيرا.
ويوجب ثانيا: أن ينافسوا الناس في اختراع الأسلحة ليدفعوا أذاهم، وإلا كانوا - وهم هم المرهوبون - يُرهَبُون ولا يُرهِبون، يَخافون، ولا يُخيفون، وتتبدد قواهم ضياعا.
ويوجب ثالثا: تعاونهم جميعا في ذلك، حتى لَا يؤكلوا في الأرض.
وقد كان عكس ذلك، فتقطعت وحدتهم، وضرب الناس بهم في افتراقهم فتوزعتهم الأرض، وأكلتهم ذئابها، وصيروا الخير لغيرهم دونهم، وصاروا لأعداء الله وأعدائهم ما يصنعون به السلاح ليستعمل لإرهابهم، وإرهاب كل من يعاونهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله. .
هذا وإن إعداد عدة الحرب، والحرب ذاتها تحتاج إلى المال، ولذا قال تعالى: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ).
إن الحرب تحتاج إلى نفقات، وإعداد العدة يحتاج إلى نفقات، وفي أيامنا تحتاج العدة إلى الإنفاق من الدولة والجماعات، ولقد كان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يخرج من ماله كله للجهاد في سبيل الله، كأبي بكر، ومنهم من كان يخرج من نصف ماله كعمر، ومنهم من كان يجهز جيشا بأسره كذي النورين عثمان بن عفان، وأنى لنا بأمثال هؤلاء من أمراء المسلمين وملوكهم، وعندهم المال الوفير من أكناز الأرض.
ومن لَا ينفق ألقى بنفسه وبقومه في التهلكة، ولقد قال تعالى في الإنفاق في الحرب: (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقوا بِأيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلكَةِ. . .).
(وَمَا تُنفِفوا) و " ما " هنا شرطية، أي أن تنفقوا في سبيل الله تعالى، وسبيل الله تعالى هو الجهاد (يوَفَّ إِلَيْكمْ) أي بالبركة في رزقكم وبتيسير الرزق لكم وتسهيل سبل الحياة، والنماء في أموالكم، وبعد ذلك الجزاء في الآخرة، وهي خير(6/3176)
وأبقى، وأوفى وأتم بهذا التفسير الدنيوي والنماء في هذه الحياة، والجزاء في الآخرة لَا يظلمون لَا تُنقصون شيئا مما قدمتم.
* * *
السلم
(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
* * *
إن الإسلام ما جاء للحرب، بل جاء للسلام، وهو يقول: (وَلا تَقولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. . .)، فهو دين السلام، وما كانت الحرب إلا لتأييد السلام، وليكون على العدل، وقال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251).
وما حارب النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين إلا بعد أن فتنوا الناس عن دينهم، وأخرجوهم من ديارهم وأموالهم، وشردوا المؤمنين، فكان لابد من القتال ليقدعوهم، ويمنعوهم من هذا الظلم، فإذا جنحوا للسلم، وامتنعوا عن الفتنة، فقد زال سبب القتال، وعاد الأمر إلى أصل السلام الذي هو أساس العلاقة الإنسانية بين المسلمين وغيرهم؛ ولذا(6/3177)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
(وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكلْ عَلَى اللَّهِ).(6/3177)
(جَنَحُوا) أي مالوا، والضمير يعود إلى المشركين الذين وقعت الحرب بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - والذين كانوا يريدون الغارة على النبي ومن معه من المؤمنين الوقت بعد الآخر، والذين يخاف النبي - صلى الله عليه وسلم - خيانتهم من وقت لآخر، وإنهم إن كانوا كذلك ينبذ إليهم على سواء، والسَّلم تكون بفتح السين كما في هذه الآية، وتكون بكسرها، كما في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208).
والسَّلْمُ هو السلام، وهي مؤنثة كنقيضها، وهي الحرب، ولذا عاد الضمير عليها مؤنثا في قوله تعالى: (فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكلْ عَلَى اللَّهِ) ومؤدى هذا النص السامي أنهم إذا مالوا إلى السَّلْم، ولم يقولوه بظاهر من القول، بل قالوه مطمئنين إلى أنه أصلح لهم، فإنه لَا مضارة منه عليهم، ولا على المسلمين.
ومؤدى ذلك أن الإسلام يكون في قوة وعزة وغلبة أو أقرب إلى الغلب، فإنه يجب على المؤمنين، ولو كانوا هم الأقوياء الغالبين أن يميلوا إلى الصلح كما مالوا، فالإسلام لَا يريد الغلب لذات الغلب، فليست فروسية، إنما يريد دفع الأسرى وتسهيل الدعوة، وإزالة كل العقبات المانعة للدعوة، فإن كان ذلك بسلم فهو أولى بالأخذ والاتباع.
وقد لوحظ في الدعوة المحمدية أنها تقوى في السلم العزيمة، ولا تضعف، فقد حصل في فترة الحديبية أنه دخل الناس في الإسلام بعدد يعد أضعاف ما دخل فيه المسلمون من وقت البعثة المحمدية إلى وقت عهد الحديبية.
وإنه واضح من النص الكريم أن الذين جنحوا إلى السلم هم المشركون، وأن المسلمين كان فيهم الغلب والقوة، وقد نهى الإسلام بنص القرآن عن أن يعرض المسلمون الصلح على المشركين، وهم في صلفهم لَا يبدون ميلا للسلام، ولذا قال تعالى: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْم وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهً مَعَكُمْ. . .).
وإن التقدم بطلب الصلح في هذه الحال خنوع في وقت القوة، والصلح في هذه الحال يمكنهم من معاودة الحرب، والاستعداد لها.(6/3178)
فالصلح، أو السلام لَا يكون إلا حيث تكون شوكة العدو قد خضدت، وفلَّت حدتها، فهو صلح حيث تُؤْمَن الحرب من بعد؛ ولذا قال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) أي اجعل اعتمادك على الله تعالى وتوقع الأمن الدائم، وأن يتجهوا إلى الحق في هدأة السلم وأن يؤمنوا، ولقد رأوا قوة الإيمان، وخذلان الشرك.
وإن الله تعالى حامي دينه، وعاصم نبيه، وناصر أوليائه، وهو سميع لكل ما يقولون، عليم بكل ما يفعلون؛ ولذا قال تعالى:(6/3179)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
إن الإسلام يتشوق للسلم إن كانت الحرب، كما يتشوق الجراح المخلص لإنهاء جراحة بالشِّفار اضطرته حال الجسم لإقامتها. فمثل الحرب في نظر الإسلام كمثل الجراحة التي يقطع بها جسم فاسد، يخشى أن يسري فساده؛ ولذلك إذا جنح العدو للسلم كان على المؤمن أن يبادر إلى المجاوبة على السلم بسلم غير متردد، ولا متوانٍ؛ لذلك قال تعالى: (وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) فهذا النص فيه أمر بمنع التردد، لشك يقوم في نية الصلح أو السلم، إذ السلم خير كله، ولا يمنع الخير، لظن الخديعة، ولذا قال تعالى: (وَإن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ) جعل سبحانه فعل الشرط إرادة الخديعة لَا الخديعة نفسها، وعبَّر في حرف الشرط بـ " إن " الدالة على الشك، لبيان أنه يجب إبعاد إرادة الخديعة والخديعة نفسها ليقدم على السلم بقلب سليم، وإرادة معتزمة مع اليقظة والحذر، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكمْ) فالإقدام على السلم يكون من غير دخل، ولا تردد في العزيمة مع الحذر.
وجواب الشرط هو قوله تعالى: (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) أي أن الله تعالى كافيك وعاصمك من الناس بقوته وقدرته القاهرة الظاهرة، وقد أكد الله تعالى عصمته لنبيه وأنه عاصمه من الناس بـ " إنَّ "، وبتعريف الطرفين، وهو يفيد قصر العصمة على الله تعالى وحده، أي أنه وحده هو العاصم لك من الناس، ومن يحاول أن يخدعك، فإنما يخدع الله، والله بكل شيء عليم.(6/3179)
وقد أيد الله تعالى عصمته بحاضر نصرته، والماضي نور للحاضر، فقال: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)
إن الله تعالى وحده هو الذي أيدك بالنصر المؤزر كما كان في بدر، فأيدك بالملائكة، وأيدك بالاطمئنان في المعركة، وأيدك بما كان من إلقاء الرعب في قلوبهم، وإذ يريكموهم في أعينكم قليلا، وأيدكم بالكلمة، وقد أثنى الله تعالى على المؤمنين فقال تعالى: (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) فالمؤمنون اجتمعوا ولم يختلفوا، واعتزموا ولم يترددوا، وانتظموا في صفوف كالبنيان، وأمدهم بالصبر ولم يهنوا ولم يحزنوا.
وما ذلك كله إلا بفضل من الله العزيز الحكيم، وإن أعظم أسباب النصر بعد تأييد الله تأليف القلوب، ولذا قال سبحانه في فضل نعمة التأليف:(6/3180)
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
" التأليف " إيجاد ألفة بين الجماعات، بحيث تألف كل واحد من الجماعة صاحبه، كالألفة التي أنشأتها المؤاخاة بين المؤمنين، وهو غير الاتحاد؛ لأن الاتحاد الاجتماع على أمر بالرأي والنظر، وقد لَا يأتلف واحد صاحبه، وذلك قد يكون يجمع على فكرة أو حزب، ولا يشترط فيه تلاقي قلوب الاجتماع، وائتلاف النفوس، وإن ذلك لَا يستطيعه إلا الله، لقد ألف الله تعالى بين المؤمنين والمهاجرين حتى كان الأنصار يؤثرون على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة، وألف بين الأنصار بعضهم مع بعض، حتى زال ما بين الأوس والخزرج ما كان بينهما من حروب، وامتزجت نفوس القبائل المهاجرة، حتى زالت من بينهم العصبية الجاهلية.
وإن تأليف القلوب لَا يمكن أن يجيء إلا من عمل مقلب القلوب، ومؤلف الأرواح، وقد بين الله استحالة ذلك إلا من الله فقال: (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) كما أن خلق شيء من العدم لَا يكون إلا من خالق(6/3180)
الوجود، وكما أن الزرع لَا يخرج من كمئه إلا من الله، وكما أن الله يذرأ الإنسان كهذه كلها يكون التأليف بعد النفور، والمودة بعد العداوة كذلك خلق الله تعالى هذا التأليف في النفوس؛ لتكون الجماعة القوية المتألفة المتآزرة التي يكون فيها البنيان يشد بعضه بعضا، وإن ذلك مستحيل من العبيد، وقد بين الله استحالة ذلك، فقال تعالى: (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قلُوبِهِمْ) أي لو ملكت كل ما في الأرض جميعا، وأنفقته طالبا بهذا الإنفاق أن تؤلف القلوب، ما استطعت لأنك لَا تستطيع أنت ومن أن تخلقوا ذبابا، والتأليف لَا يملكه إلا الخالق، فهو ليس في مقدور أحد من العباد، ثم قال: (وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) الاستدراك، ارتقاء في القول من قدرة الإنسان العاجز، إلى ما يملكه الخالق القادر.
وإن هذا التأليف كما قلنا هو الذي أوجد الجماعة الإسلامية الأولى التي كانت الخلية التي بذرت فيها بذرة الإسلام، فنمت وترعرعت، وكانت قوة الإسلام وقد قال الزمخشري في معنى ذلك التأليف: (التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الباهرة؛ لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية، والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإبقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا لَا يكاد يأتلف منهم قلبان، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتحدوا، وأنشأوا يرمون عن قوس واحد، وذلك لما نظم الله من ألفتهم، وجمع من كلمتهم، وأحدث بينهم من التحاب والتواد وأماطه عنهم من التباغض والتماقت، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب فهو يقلبها كما يشاء، ويصنع فيها ما أراد، وإنه إذا كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خوارق عادات غير معجزة القرآن فهذا أشد خوارق العادات وضوحا وبيانا.
وإن الآية تدل على تأليف قلوب العرب الذين كانوا أول من خوطب بالرسالة، يستوي في ذلك المهاجري والأنصاري والأوسي والخزرجي، بهذا نما الإسلام قويا عزيزا غالبا بقوة الله وقدرته).(6/3181)
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله: (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) فهو عزيز يخلق العزة وأسبابها، عالم يجمع القلوب بحكمته وتدبيره، وهو الذي أحاط بكل شيء علما.
وفيه إشارة إلى أمرين:
أولهما - أن ائتلاف القلوب والتحاب والتواد، والبعد عن التباغض والتنابز هما عماد العزة، والتدبير الحكيم.
وثانيهما - إنه لَا غلب ولا سلطان إلا بالتآلف، وإن يصير المجتمع كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
اللهم أعد للمسلمين ائتلافهم، واجمعهم على محبتك ومحبة رسولك، وأزل ما بينهم من بغضاء وعداوة وأبدل بهما محبة وولاء، إنه لَا يقدر على ذلك إلا أنت، كما ألفت القلوب ابتداء، فأعدها بعزتك وحكمتك إنك سميع مجيب الدعاء.(6/3182)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
النداء للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان النداء بـ " يا " التي تكون للبعيد، لبعد الشرف في موضوع النداء وهو الاعتماد على الله والالتقاء بحمايته، وبكلاءته سبحانه.
والكلام السابق في هذه الآية وما قبلها للتحريض على الجنوح للسلام إن جنحوا معتمدا على الله، آمنا من أن يخدعوه؛ لأن الله تعالى منه وكالته، والمؤمنون معه يؤيدونه وينصرونه، وإنه بنعمته سبحانه ألف بين قلوبهم، وما كان يمكن لأحد أن يؤلف قلوبهم، وتلك إحدى خوارق العادات، وهنا تصرح الآية الكريمة بأن الله وحده عاصم نبيه ومن معه.
(حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) معنى حسبك عاصمك وكافيك وحاميك، ولقد قال شاعر:
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا ... فحسبك والضحاك سيف مهند(6/3182)
أي إذا كانت الهيجاء تكاد تحبك مع الضحاك سيف مهند.
و" الواو " في قوله (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) هي واو المعية، والمعنى عاصمك وكافيك مع المؤمنين ذلك، أن النبي خاف من الحروب على من معه من المؤمنين أن يُخانوا أو يخدعوا، فبين الله أنه حاميه وعاصمه هو ومن معه من المؤمنين، فلن يأخدهم من مأمنهم، لأن الله معهم.
ويصح أن تكون الواو عاطفة " من اتبعك من المؤمنين " على " الكاف " في " حسبك "، ويجوز العطف على الضمير المجرور من غير إبرازه بضمير منفصل، ويكون المعنى حسبك أنت ومن معك من المؤمنين.
والمعنيان واضحان من حيث المؤدى، ولكن الأخد بأن الواو للمعية أولى؛ لأنها تدل على الصحبة، والتصريح به هنا يقوى الكلام ويؤيده.
وقوله: (وَمَنِ اتَبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يشير إلى حكمة العصمة والكفاية، وهو كونهم الذين اتبعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعوته، ونصرته، وإنهم بذلك قوة الرسالة، فهم قوة الدين الحق، وكان الله تعالى عاصمهم كما وعد نبيه بأنه عاصمه من الناس كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. . .).
وإن الله تعالى إذ يأمرنا بالسلام، إن جنحوا، ويزيل كل شك في أن يأخدوا المؤمنين على غِرَّة يأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يجعل المؤمنين على حذر ويستعدوا للحرب إن جالوا جولة ثانية، وذلك بأن يحرضهم على الاستعداد للقتال، وأن يقووا وحدتهم، وجماعتهم وأن يعلموا أنهم لن يُغلبوا من قلة.
إن الفئة المؤمنة لها قوتان: قوة الإيمان، والعدد المناسب، وقوة الألفة فوقهما، فيكونون بهذه القوة محاربين أشداء؛ ولذا قال تعالى:
* * *(6/3183)
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
* * *
هذا بيان تحذير الله تعالى لنبيه إذا جنحوا للسلم، فلا تُغمد السيوف في أجفانها، ولا يسترخون، ويسكنون فإن المشركين إن جنحوا للسلم مدة، وجنح المسلمون استجابة للسلام يكونون على حذر دائم، فعساهم يأخذون المسلمين على غرة فيجب أن يكون المسلمون على استعداد دائم يستجيبون لكل هيعة (1)، ويكونون مستعدين للنفير دائما، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِروا ثبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا). ولذا أمر الله نبيه بأن يبث فيهم روح القتال دفاعا عن الحق، كما يبث فيهم الإيمان، فإنه لَا بد لهم من شوكة
________
(1) الهيعة: الصوت عند حضور العدو.(6/3184)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)
(يا أَيّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُومِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ) أي حثهم وبث فيهم روح الحمية، وإعداد العدة والاستعداد للحرب وإن يأخذوا الأهبة للقتال، ويدربوا أولادهم، فإن الكفار لا أمان لهم، ولو جنحوا للسلم، لأن الاستعداد وقاية من أن ينقضُّوا على المؤمنين انقضاضا.
ولقد كان من الحض على القتال أن يبين لهم أنهم لإيمانهم أشد بأسا، وأكثر عزما، فإن كانوا في العدد كثير، فهم بالإيمان أكثر وأغلب، وأقوى وأثبت، وبالصبر والعزيمة أعظم وأشد.(6/3184)
وقوله تعالى: (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) إلى آخر ما ذكر من أعداد؛ أهو إخبار من الحكيم الخبير، ويتضمن الحض على الإيمان والصبر، أم هو أمر بالثبات مع هذا العدد، وعلى أنه أمر يكون ما في النص تكليف بألا يفر مائة من ألف، ولا عشرون من مائة، فإذا التقى عشرون في سرية بمائة لَا يفرون منهم، ويعودون أدراجهم لمكاثرتهم بالعدد، بل عليهم أن يقاتلوهم صابرين في قتالهم، وإذا التقى مائة بألف، لَا يفرون منهم لكثرتهم، بل يقاتلون مريدين النصر والعزة، وعندما تكاثر المجوس على المسلمين، وخاف عمر رضي الله عنه على المسلمين لم يأمرهم بأن يعودوا، بل اعتزم أن يخرج إليهم، ويتقدم صفوفهم، ويذهب للقتال، واستشار الصحابة في ذلك فمنهم من وافقه، ولكن عليا اعترض ومنع، وهو أخبرُهم بالجهاد في سبيل الله، فقال رضي الله عنه: " كن قطبا، واستدر رحى الحرب بالعرب، فإنك إن خرجت فما تَدع وراءك من العورات أشد، وأما كثرة العدد، فإنا ما كنا ننتصر بالعدد، بل بالنصر والمعاونة ".
هذا على قول من قال: إذ ذكر الأعداد للأمر بألا يكون الفرار من أقل من هذا العدد.
وابتدأ بذكر العشرين؛ لأن السرية عادة لَا تكون في أقل من العشرين.
وقال بعض المفسرين، والنص يحتملها: إن ذلك للإخبار عن قوة النفوس بالصبر والإيمان، وأن الواحد بها بعد كعشرة ممن لم يؤتوا الإيمان والصبر وعزة الحق، ونفوسهم بوار من هذه القوى كلها، وهذا النحو من القول فيه تثبيت للقلوب، فإن جنحت فعندها من مدخر من هذه القوى، ما تقابل بها الخيانة إن كانت، وإن حاربوا ولم يسالموا ولم يجنحوا إلى سلم - كانت القوى واقفة تدفع الباطل بالحق فإذا هو زاهق وللكافرين الويل مما يصفون، وإنه إذا كان القول للإخبار، فإن الأمر يجيء نتيجة للخير، إذ إن مقتضى إخبار الله المحيط بكل شيء علما بذلك الخبر الذي لَا يتطرق إليه الشك - أن يكون الوجوب عليهم بمقدار ما منحهم الله تعالى من هذه القوة التي منحهم الله إياها، فالوجوب على مقدار(6/3185)
الاستطاعة، والاستطاعة كانت عظيمة، فالواجب عظيم. ينتهي الأمر بأن المؤمنين عليهم أن يعدوا العدة من قوة المادة والدربة وأن يعدوا أقوى عدة، وهي الصبر والعزيمة والاعتزاز بعزة الله تعالى وعزة الحق.
وهنا أمور تجب ملاحظتها هنا في هذه الآية التي تثبت القلوب:
أولها - أنها تثبت أن المؤمنين إن كانوا أقوياء بالوحدة المؤلفة الجامعة للقلوب والمشاعر، يكون العشرون غالبين لمائتين، فإذا كان الرجل بالرجل، فلِقُوَّة النفس والائتلاف تسعة رجال وحدها، فيكون الواحد بعشرة، وبذلك يتبين فضل الصبر والوحدة المؤتلفة التي لَا تفرق فيها.
ثانيها - أن الله تعالى وصف العشرين بالصبر، وترك ذكره في المائة، وهو ملاحظ فيها، ولم يذكر اعتمادا على ذكره في الأول، وذلك شأن الكلام البليغ فكيف يكون الشأن في أبلغ كلام في الوجود.
ثالثها - قوله تعالى في آخر الآية: (يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهو وصف أيضا للمائتين، أي أنهم من الذين كفروا، وذكر الوصف بالموصول للدلالة على الكفر هو سبب الضعف كما كان الإيمان والصبر هما بسبب القوة فينا، فعلينا أن ندرع بالصبر والإيمان دائما، لأنهما قوتنا، وعزتنا.
وقد علل الله سبحانه هزيمة الكفار بقوله تعالت كلماته: (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ) أي سببًا لذلك التفاوت في القوة الذي كان مظهره التفاوت العددي، بأن
كانت العشرون الصابرة تعادل منهم، السبب في ذلك " أنهم قوم لَا يفقهون " أي لايدركون إدراكا ينفد إلى الحقائق، وإلى لب الأمور، فإنهم بذلك ضلوا، فلم ينفذوا إلى الحق فيؤمنوا به، ولم ينفذوا إلى إدراك قوة الحق فظنوا أنهم يغلبونه بالكثرة الكاثرة، ولا تغنيهم في الشديدة فتيلا، ولم ينفذوا إلى سبب الغلب، فغرهم الغرور.(6/3186)
والله سبحانه وتعالى يعبِّر عن الجماعة التي يجمعها هوى " بالقوم " لأنه لا قوة لهم إلا كونهم قوما، جمعهم جامع من هوى أو غرور، وضلال.
ذكر الله تعالى مدى جهاد المؤمنين إن كانوا جمعا قد تحلى بالقوة التي ْقوامها الصبر والألفة، والعزة من الله، وقد ذكر قوتها إذا عراها ضعف، والضعف يكون بأن يعروها ما يناقض أسباب القوة.
فقال تعالى:(6/3187)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
(الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ... (66)
كان هذا التناسب في العدد الذي ذكره القرآن من أن العشرين الصابرين فيهم كفاية لمائتين، كان ذلك في حال القوة المؤمنة، وتلك القوة تقوم على الاتحاد والائتلاف، وعلى قوة الإيمان بالنصر والتأييد من الله تعالى وعلى قوة العزم والتوكل عليه سبحانه، وعلى الرغبة في إحدى الحسنيين النصر أو الاستشهاد، وفيه حياة، فمن كانوا على هذه الحال كانوا الأقوياء حقا وصدقا.
أما إذا كان الضعف فقد خفف الله النسبة؛ ولذا قال تعالى: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَن فِيكُمْ ضَعْفًا).
وقوله تعالى: (خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ) فيه إشارة إلى أن التناسب العددي فيه تكليف بالثبات لما يناسبه من عدد، فالعشرون مكلفون أن يثبتوا أمام مائتين وقد ذكرنا أن ذلك مطلوب، إما بالقصد الصريح، أو بالتضمن وقد بين معنى القوة، فلنشر إلى معنى الضعف، وهو ألا يكون الائتلاف قويا، وألا يكون العزم صادقا وأن يكون فيهم ضعفاء الإيمان ومنافقون، وقد بدا ذلك واضحا في غزوة أحد، فقد كان في جيش تردد في الخروج من المدينة ابتداء، وكان في بعضهم ميل إلى المادة، وكان في بعضهم ضعفاء الإيمان، وكان فيهم منافقون، ولم يكن في بعضهم صدق، وكان الصادقون قوته؛ ولذا في أول الأمر همت طائفتان أن تفشلا، والله وليهما.(6/3187)
ولذلك لم يكن النصر المؤزر كما كان في بدر؛ إذ لم يكن الأقوياء الذين غير بهم وجه القوة في البلاد العربية هذا هو الضعف، وذاك هو العزة، وخفف الله التكليف في تناسب العدد في حال الضعف، فجعل المائة تغلب مائتين. وقال تعالى في ذلك: (فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ مَابِرَة يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ) أي أن التكليف يكون بأنه إذا كان مائة لَا يجوز أن يفروا من مائتين، بل عليهم أن يثبتوا، وإن كان ألف يجب أن يثبتوا أمام الألفين.
والتخفيف هو تخفيف التكليف، وتخفيف التكليف لَا يمكن أن يعد نسخا، وقد يعد ترخيصا من عزيمة وهي الأصل، ولم يقل: ألف صابرة، أي لم يذكر وصف الصبر، اكتفاء بذكره أولا، وذلك شأن الكلام البليغ موجز حيث يوجد ما يدل على المضمون.
وذكر المائة في مقابل المائتين، كما ابتدأ في الآية الماضية ذكر العشرين ابتداء، وذلك من التخفيف؛ لأن العشرين مع القدرة عدد مناسب للسرايا ونحو ذلك، فلا يرسل فيها إلا الأقوياء، ولا يرسل فيها من يكون فيه ضعف، إلا بعدد كثير، فكان ذكر المائة كحد أدنى، لجماعة فيهم ضعف.
ومع قلة التناسب في العدد في حال وجود الضعف، لَا يكون النصر بقوتهم الذاتية، إنما يكون النصر بإذنه أي بتوفيقه وتوجيهه، وهو لازم في كل الأحوال في حال القوة، وإن كان هناك ضعف، وصرح به هنا لأنه واضح بأنه من أسباب النصر، أو سببه في حال ما إذا كان ضعف.
ومن الناس من شغف بإثبات النسخ في القرآن فيفرضون النسخ لأوهى معارضة لفظية، كما فرضوا النسخ في آيات الصيام، ولا معارضة بين آياته، وكما فرضوا النسخ بين الآيتين، وكان المعنى بين الآيات واحدا يكمل بعضه بعضا، كذلك ادعوا النسخ هنا، فافترضوه لمجرد التخالف التقديري بين الآيتين، وادعوا أن الثانية ناسخة للأولى مع أنه لَا تعارض بين الآيتين، إن الأولى ذكرت ذلك(6/3188)
العدد في حال القوة، والتآلف بين المؤمنين، والثانية خفف فيها العدد الأول لحال الضعف، والجهة منفكَّة بينهما.
وهكذا بيَّن أو مسلم الأصفهاني ونفي أن يكون النسخ بينها سيرا على مبدئه الذي انتهى إليه أنه لَا نسخ في القرآن قط، وأن القرآن ينسخ غيره، ولا ينسخ حكمه أبدا.
ولقد ادُّعي الإجماع بأن الثانية نسخت الأولى، ولكنه ليس إجماعا، ولكنه قول قيل، وقبله كثيرون من علماء الأصول وساروا في دراسة الموضوع في الآيتين على أن ثمة نسخا.
والحق أن الآيتين حكمهما خالد دائم إلى يوم القيامة، وهو أنه في حال القوة يكون العشرون كفء المائتين وفي حكم الضعف بالأسباب التي ذكرناها، أو بعضها - يكون المائة في مقابل مائتين.
ولقد قال تعالى في نصر المائة أمام مائتين، والألف أمام الألفين: (بِإِذْنِ اللَّهِ) وفى الواقع كان نصر إنما هو بإذن الله، ولكن ذكر هنا، ولم يذكر في الآية الأولى للإشارة إلى أن الضعف والتخاذل لَا يكون معه نصر إلا إذا كان ثمة إذن الله، للحث على منع التخاذل والتنازع والتردد، واتقاء كل أسباب الضعف والله يؤيد من يشاء بغير حساب.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) والمعنى في ذلك: والله تعالى بجلاله وقوته وتأييده مع الصابرين، وهذه المعية السامية تجعل الصابر مطمئنا إلى النصر لَا محالة لسببين:
أولهما - أن الله معه، ومن يكون اللَّه معه تكون معه القوة كلها، فلا تقف أمامها قوة في الأرض فكيف يغلب، إنها تدرأ العجز، وتغلب القوة، بل يجعل من الضعف قوة فيكون النصر.(6/3189)
ثانيهما - أن الصبر يقرب من الله؛ لأن فيه ضبط النفس عن الهوى، وعن الجزع يوم الفزع، والقرب من الله لشد العزائم، وتثبيت القلوب.
وإن الله تعالى يحب الصابرين، والمحبة أعلى من الراضي الذي هو أكبر الجزاء، فالمحبة أكبر من الرضوان.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66).
كانت غزوة بدر غزوة مباركة إذ انتصر فيها المسلمون قتلوا سبعين، وساقوا من المشركين سبعين أسيرا من كبار قريش، وكان المقتولون مثلهم من كبار قريش، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يميل إلى الإبقاء على الأسرى، سيرًا على سنته في الدعوة من أنه يريد الإيمان للمشركين مع حياتهم، ولا يريد قتلهم كافرين فما كان يحارب لأجل كفرهم، ولكن كان يحارب لتنفذ الدعوة وتستمر رجاء إيمان الإجماع، وذلك سبب الميل في إبقاء الأسرى.
والله تعالى عاتب نبيه لَا على إبقاء الأسرى، بل عاتبه لأنه أسر، وليست له قوة قاهرة مستمرة، عاتبه لأنه في أول واقعة التقى بهم، وأسر منهم، بل كان قتلهم في الميدان، وإثقالهم بالجراح وهو الإثخان، حتى تكون له قوة قاهرة قاصمة، ويأسر فَيَمُنَّ أو يفدى.
* * *(6/3190)
الأسرى
(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
* * *
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يستبقي المقاتلين من أعدائه رجاء أن يكونوا للحق أو أن يكون من ذريتهم من يعبد الله تعالى، كان يقول - صلى الله عليه وسلم - في حروبه لقواده: " لأن تأتوني بهم مؤمنين، خير من أن تأتوني بنسائهم وذرياتهم سبايا مأسورين " (1).
فكان يحب الإبقاء على مقاتليه بدل إبادتهم، ولذا كان لَا يبيد الخسيس، فلما انهزم المشركون أسر منهم بدل أن يقتلهم، وقد كره سعد بن معاذ الأمر عندما وقع، وقد كان يحرس عريش النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذكر ذلك وقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه أول واقعة بيننا وبين المشركين فما أحب أن أأسر قبل أن نثقلهم بالجراح، وجاء القرآن الكريم بذلك النظر فقال تعالى:
________
(1) سبق تخريجه.(6/3191)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ).(6/3191)
أي ما ساغ لنبي، أمره الله تعالى بالجهاد لجعل كلمة الله أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض حتى يثقلهم بالجراح بحيث لَا يستطيعون أن يقفوا للحرب مرة ثانية، فالإثخان المبالغة في الجراح، حتى يثقلوا عن استئناف القتال، وتكون المعركة شافية لَا تبقى من باقية، وذلك حتى لَا يتجمعوا لكم من بعد في وقت قريب، كما فعلوا في أُحُد، وحتى لَا تُثقلوا أنتم بإطعام الأسرى، وقد يكون ذلك عليكم عسيرا، وإطعامهم لَا بد منه، ولذا يقول تعالى في أوصاف المؤمنين:
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)، ولكي يبد باب الخديعة والنفاق، كما حدث من بعض الأسرى.
لهذا كان النفي الذي يتضمن نهيا مؤكدا، عن أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - أسرى، والآية كما تضمنت النهي عن أخذ أسرى قبل أن يثخن في الأرض، ويُثقل العدو حتى لَا يتحرك إليه عن قريب، لما نهى عن ذلك نهى عن أخذ الفدية، في حال عدم الإثقال؛ ولذلك قال تعالى: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يرُيدُ الآخِرَةَ) أي تريدون عرض الدنيا بالمال تأخذونه، وقد برروا أخذ الفداء بأن يكون قوة للمؤمنين، والله سبحانه وتعالى يريد الآخرة، أي يريد ما يكون نصرا غالبا مؤزرا يؤدي إلى إرضائه سبحانه.
وقصة إشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفداء كانت بشورى أشار بها بعض كبار المؤمنين الصديقين، وإليك الخبر كما جاءت به كتب السنة والسيرة في أصح أخبارها.
لما كان يوم بدر جيء بالأسرى، وفيهم العباس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما ترون في هؤلاء الأسرى "، فقال أبو بكر: قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر: كذبوك وأخرجوك وقاتلوك؛ قدِّمهم فاضرب أعناقهم.
وقال عبد الله بن رواحة: انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم.
فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يرد عليهم مسغيا، ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: " إن الله ليلين قلوب رجال منه حتى يكون ألين من اللبن ويشدد قلوب(6/3192)
رجال حتى تكون أشد من الحجارة، ومثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رحِيم)، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى إذ قال: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَهُمْ عِبَادُكَ وَإن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإَِّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: (رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)، ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ قال: (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الفداء، لأنه أرفق، ولأنه رأى فيه تقوية للمؤمنين، بالمال يأخذه منهم، وتقوية للمؤمنين بتعليم الأميين من الصحابة إذ كان من يقرأ ويكتب من الأسرى وليس معه مال، تكون فديته بتعليم بعض المؤمنين، ولقد مَنَّ على العاجزين عن الأمرين ممن رجا فيه خيرا.
نزلت هذه المعاتبة بعد ذلك، فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبكى معه صاحبه في الغار، وصدِّيق هذه الأمة، وقالوا: " إن القرآن نزل برأي عمر " (1).
ونحن نرى أن القرآن نزل برأي سعد بن معاذ، وروي أنه وافق سعدا الفاروق عمر، وعبد الله بن رواحة؛ لأن العتاب ابتداء ما كان متجها إلى أخذ الفداء، إنما كان متجها ابتداء إلى أخذ الأسرى قبل أن يثخن في الأرض، أما الفداء فلا لوم فيه، وقد جاء به القرآن في نظام الأسرى، فقال تعالى: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا).
وهنا يسأل سائل لماذا لم يعلم الله رسوله الحق قبل أن يقع في الخطأ بدل أن يتركه يخطئ، ثم يعتب عليه والجواب عن ذلك أن حكمة الله تعالى في أقواله وأفعاله بالغة، فإن في ذلك تعليم لنا ومنع لغرورنا، إن هذا يبين أن هذا النبي
________
(1) البداية والنهاية: ج 4، ص 104، وأصح ما روي في ذلك ما رواه مسلم: الجهاد والسير - الإمداد بالملائكة في غزوة بدر (1763).(6/3193)
المختار المصطفى إذا تُرك في أمر قد يقع في الخطأ والوحي ينزل، أو تعرض للخطأ، وإن كل إنسان عُرضة للخطأ، وإن العقل يعجز عن إدراك الحقائق كاملة، وبيان فساد حكم الطغاة الذين ينفردون بالحكم، ويحسبون أنهم لَا يخطئون، وبجوارهم فئة المنافقين الضالين المضلين الذين يأكلون السحت مما يتساقط من أموالهم التي هي سحت كلها، إن هذا رسول الله وسيد الخلق المصطفى إذا ترك من غير وحي في أمر تشريعي، كان عرضة للخطأ وقد أخطأ فكيف بكم أيها الطغاة الذين قمتم للشر وقام بنيانكم على الشر.
ثم ختم الله تعالى الآية بقوله: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي أنه هو العزيز الذي أعطاكم العزة والرفعة في هذه، وجعل لكم قدرة على الأسر بعد أن كنتم قليلين مغلوبين يتخطفكم الناس في الأرض، وقد فعل ذلك بمقتضى حكمته.
ثم بين سبحانه أنهم معفوون من خطئهم، فقال تعالت كلماته:(6/3194)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
(لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
الآية كسابقتها في موضوع الأسرى وأخذ الفداء عنهم، وعتب الله على النبي - صلى الله عليه وسلم - في شأنه وأخذ الفداء عنهم.
و" لولا " في قوله تعالى: (لَوْلا كِتَابٌ) حرف شرط امتناع لوجود، أي امتناع الجواب لوجود الشرط، أي امتنع أن يمسكم عذاب عظيم بوجود كتاب سبق، والكتاب الذي سبق هو الذي عهد إلى بني آدم ألا يعذبهم حتى يبين، (فلا عذاب إلا إذا سبقه بيان)، وهو أيضا ألا عقاب على الخطأ في اللفظ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (1)، والعهد أيضا لا عقاب على الخطأ في الرأي، وأن المخطئ في الاجتهاد له أجر، ومن له أجر في أمر ليس عليه عقاب فيه، فلا يجتمع الأجر والعقاب، فلوجود الكتاب كان العفو، وهذا الشرط وجوابه يومئ إلى أن أخذ أسرى هو في ذاته موضع مؤاخذة، ولكن
________
(1) سبق تخريجه.(6/3194)
لم يكن العقاب لهذا الكتاب الذي أشرنا إليه، فالنص يومئ إلى أن أخذ الأسرى لولا ما حف به - لكان محل العقاب.
وعبر سبحانه وتعالى عن العذاب بقوله تعالى: (لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) فعبر عن العذاب بـ (مسَّكم)؛ لأن عذاب النار يمس الجلد، ونكر العذاب ببيان أنه عذاب شديد، ووصفه بأنه عظيم، لأنه على قدر الذنب الموقع يكون العذاب، والذنب لو وقع كان في الحرب، والحرب إما هزيمة وانتصار، ويجب ألا يكون فيها تراخ، ولا أخذ بالهوادة، بل إنها أخذ بالصرامة والصرامة في الحرب تمنعها، ويرهبها الناس، فلا يقعون في أسبابها.
وقوله تعالى: (فِيمَا أَخَذْتُمْ) من المال يوهم أن أخذ المال وحده هو السبب في هذا العقاب، والحقيقة أن ذلك جزء من السبب وإن لم يكن جوهر السبب؛ لأن السبب الأصلي هو أخذ الأسرى، وتبع هذا الأخذ إن اختار النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ الفداء تيسيرا عليهم، واستبقاء لهم عسى أن يتوبوا، وقد دخل في الإسلام أكثرهم واستمر على الكفر أقلهم، والتيسير في الدعوة مطلوب لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - للمجاهدين: " يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا " (1).
وقلنا: إن أخذ المال جزء من سبب المؤاخذة؛ لأن المؤاخذة هي على الأسر وما تبعه من أخذ الفداء أو إن شئت فقل إذا إن السبب أخذ المال في هذا الأسر الذي لم يسغ.
وقد قال الرازي: إن بعض المفسرين قال إن قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ)، نسخت: (لَوْلا كِتَابٌ منَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ) إلى آخرها، والحق أنه لَا نسخ، بل الآيتان متلاقيتان متضافران في الدلالة على معنى واحد وهو أنه لَا أسر إلا عند الإثخان، وإذا كان الأسر في موضعه ووقته، فالإمام يخير بين المَنِّ من غير فداء، والفداء بالمال، أو مبادلة
________
(1) سبق تخريجه.(6/3195)
الأسرى كما بادل النبي - صلى الله عليه وسلم - أسرانا بأسراهم، فتلك شريعة محكمة باقية خالدة لَا تغيير فيها ولا تبديل.
ولقد بين الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا في غناء بالغنائم عن أن يأخذوا فداء، ولذا قال:(6/3196)
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
(الفاء) فاء الإفصاح، فهي تفصح عن شرط مقدر، أي تقديره مأخوذ من حالهم عند أخذ الغنائم، والتقدير هكذا إذا كنتم تريدون تقويتكم بالمال، وما تأخذونه منكم، فعندكم الغنائم، ولذا قال: (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).
ومعنى الأكل هنا الأخذ، كما في قوله تعالى: (وَلا تَأكلًوا أَمْوَالَكم بَيْنَكم بِالْبَاطِلِ)، أي لَا تأخذوه، وعبر عن أخذ المال بالأكل، لأن الأكل هو الأمر الضروري الذي يؤخذ لأجله المال ابتداء، فعبر عن الشيء بأهم مسبباته، وذلك من المجاز المرسل السائغ، كقوله تعالى: (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِر خَمْرًا)، أي أعصر عنبا يكون سبب الخمر.
وقوله تعالى: (مِمَّا غَنِمْتُم) المراد بها الغنائم التي وزعت بحكم الله تعالِى في قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأنَّ للَّه خُمُسَة وَلِلرَّسُولِ وَلذي الْقًرْبى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكينِ. . .) إلى آخر النص الكريم العادل، وعلى ذلك يكون المراد هذه الغنائم، وذكره (من) للدلالة على نصيب المجاهد منها، والمعنى على هذا ما كان لكم أن يكون لكم أسرى ولم تثخنوا في الأعداء، لتكون الغاية أن تأخذوا منهم ما تتقون به، فإنه يكفيكم ما تأخذون من الغنائم حلالا، لَا لوم فيه ولا عتاب، وإنه لكثير يغنيكم عما يكون فيه لوم أو عتاب تأخذونه من فداء الأسرى في أمر جاء في غير وقته ومن غير مبرراته.
وقال بعض المفسرين: إن النص لإباحة تناول الفداء باعتباره من الغنائم، واللوم في أصل الأمر، وإنا نرى أن الأظهر للأوضح الذي يتفق مع العتاب على أخذ الفداء مع الأسر، ويكون النص تأكيدا للعتب وتدليلا على وجوبه.(6/3196)
ويقول الله تعالى بعد ذلك: (وَاتَّقُوا اللَّهَ. . . .) أي اجعلوا بينكم وبين الوقوع في الحظور وقاية، فلا تفعلوا ما يغضبه. وارجوا رحمته ومغفرته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ) أي كثير المغفرة يرحم الناس بمغفرته، وقد أكد سبحانه وتعالى مغفرته ورحمته، بصيغة المبالغة أو الصفة المشبهة في (غَفُورٌ رحِيمٌ)، وبالجملة الاسمية، وبـ (إنَّ) المؤكدة " اللهم اغفر لنا وارحمنا.
وقد أمر الله تعالى نبيه بأن يتجه إلى الأسرى يرشدهم ويهديهم ويطيب نفوسهم، فيقول تعالى.(6/3197)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
يظهر أن ذلك العتب كان والأسرى لَا يزالون بالمدينة أو أكثرهم، وكانوا قد دفعوا الفداء؛ وذلك لأنه سبحانه أمر نبيه بأن يخاطبهم هذا الخطاب وعبر بأنهم لا يزالون في أيدي المسلمين أو بعضهم.
خاطب الله نبيه بأن يقول لهم كلمة رحيمة هادية تقرب القلوب، ولا تجفيها، قال سبحانه لنبيه: (قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى)، أي لَا يزالون تحت سلطانكم، وقريبين منكم (إِن يَعْلَم اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يؤْتكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكمْ) أي إن يعلم الله في قلوبكم خيرا، وهو رجاء الإيمان منكم، أو قرب احتماله، يؤتكم خيرا مما أخذ منكم أي يؤتكم إيمانا وأن تكونوا في صفوف جيش الله ومع المؤمنين، فيكون الإيمان، وهو خير مطلق، وفضل عميم ويؤتكم من خير الغنائم أكثر مما أخذ منكم.
وهذا تحريض على الإيمان، وقوله تعالى: (يُؤْتكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ) من غنائم غنمها المسلمون، ومن فدية افتديتم بها أنفسكم، وقد روت صحاح السنة أن ممن شملهم خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - العباس بن عبد المطلب عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ويقول بعض المفسرين: إن الآية نزلت فيه، ونحن نقول: إنها تشمله فيمن كان معه من الأسرى الذي أخذت منهم غنائم في القتال، وأخذت فدية في الأسر، وقد عوض من الأمرين خيرا مما أخذ منه.(6/3197)
روي عن العباس رضي الله عنه من طريق الزهري: بعثت قريش في فداء أسرهم، ففدى كل قوم أسيرهم، وقال العباس رضي الله عنه - وكان في الأسرى:
قد كنت مسلما، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الله أعلم بإسلامك فإن يكن كلما تقول فإن الله يجزيك، وأنا ظاهرك " (فقد كان علنيا وقد كان ممن ضمن طعام جيش مكة في بدر) فافْدِ نفسك وابني أخيك نوفل بن الحارث، وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو، وعبد الله " قال: ما ذاك عندي يا رسول الله قال - صلى الله عليه وسلم -: " فأين المال الذي دفعته أنت لأم الفضل؟ ".
قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فهذا المال الذي فيه لبَنيِ الفضل، وعبد الله، وقثم.
قال العباس: والله يا رسول الله إني لأعلم أنك لرسول الله، إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل.
فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لَا، ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك، ففدى نفسه وولدَي أخويه، وحليفه " (1).
وقد قال: عوضني الله عن أربعين أوقية أربعين عبدا في الغزوات، وأعطاني زمزم، وما أحسب أن لي بها جميع مالي، وهكذا عوض الله تعالى كل من آمن من بعد ذلك وغزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الغزوات فأصاب من خير وآتاه الله تعالى مع ذلك الإيمان والإخلاص، ومن قبل منهم في الجهاد، أعطى خيرا من كل هذا فضل الشهادة وإن فضلها لعظيم.
ثم ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، أي أنه سبحانه وتعالى مع هذا العطاء المضاعف لما أخذ منكم يعطيكم شيئا غير قابل للتعويض وهو من فضل الله ورحمته وهو غفران ما أسلفتم من كفر وجحود ومعاندة لله تعالى، فهو الغفور الذي يغفر ما سبق بأبلغ درجات الغفران ويرحمكم أبلغ الرحمة.
________
(1) رواه أحمد: مسند بني هاشم - باقي المسند السابق (3300).(6/3198)
هذا حال الأسرى إن آمنوا واستبدلوا بالكفر إيمانا، والأكثرون منهم كانوا كذلك، ومنهم من خانوا ما عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن عاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على ألا يدعو الجموع ضد، فمنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير فداء، فعاد ورفع عقيرته بالدعوة ضد النبي - صلى الله عليه وسلم - وألب الناس عليه داعيا لأخذ الثأر؛ ولذا قال:(6/3199)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
الزمخشري لَا يعد الضمير يعود على الكفار الذين يخونون العهود في المستقبل، والذي خانوا عهد الله بارتدادهم، ويذكر أنه ربما يعود على الأسرى الذين عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن يكفوا ألسنتهم عنه فلم يكفوها وألبوا الناس، وهؤلاء خانوا.
ويلاحظ أن الله تعالى يقول: (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ) أي وسوست لهم شياطينهم بالخيانة وأرادوها، فإن أرادوها فخذ حذرك وَلا تأس عليهم، فقد خانوا الله تعالى وكفروا به وأشركوا به الأوثان وهموا أن يقتلوك، فأمكن الله تعالى أهل الإيمان منهم، وأعلنوا بذلك كلمة الحق والإيمان.
وإن مضمون النص يجعلني أميل إلى أن الضمير لَا يعود على الأسرى، ولا يعود على من ذكر الإيمان وردده من المشركين وأظهروا أنهم يريدونه تقربا للمسلمين.
وإنما أميل إلى الذين جنحوا للسلم، وأمر الله نبيه أن يجنح ولا يمنعه أن يحاولوا خديعته؛ لأن الله حسبه، وفي هذه الآية بين الله تعالى لنبيه أنه يجب أن يستمر غير ملتفت لهم إن أرادوا خيانة بعد أن جنحوا للسلم، ولكن أرادوا خيانتك، وألا يهتم لخيانتهم في ذاتها، وألا يأسى على خيانتهم بعد أن جنحوا للسلم والله تعالى ينبه نبيه بأنهم إن أرادوا خيانتك بأن هموا بالانقضاض على المؤمنين، فإنهم قوم من طبعهم الخيانة فقد خانوا الله تعالى من قبل بأن عبدوا الأحجار والأوثان وهموا بأن يقتلوا الرسول، أو يحبسوه أو يخرجوه، وخانوا الله(6/3199)
تعالى بخيانة أهله فلا تأس عليهم، والله من ورائهم محيط؛ ولذا ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي عليم بخبايا نفوسهم، وما تحدثهم به خواطرهم، وبنزعات نفوسهم، وقد رتب لهم سبحانه ما يصلح لهم بمقتضى علمه وحكمته، فهو حكم من يضع الأمور في مواضعها، ويدبر لك بحكمته، فلا تخش وبالهم، والعاقبة للمتقين.
* * *
ولاية المؤمن للمؤمن وولاية الكافر للكافر.
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
* * *(6/3200)
المؤمنون أمة واحدة، وولايتهم واحدة، فلا ولاية للمؤمنين إلا من المؤمنين، ولن يجعل الله للمؤمنين على الكافرين سبيلا، وأكد الله تعالى هذه الوِلاية ومنع غيرها، فقال تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)، وقد نهى الله تعالى عن كل مدارة للكافر يكون فيها نصرة له، وانتصار به، أو اتخاذه بطانة يعرف منها أسراره وخفايا أموره، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ). وعندما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - كان المؤمنون فريقين مؤتلفين متوادين متحابين قد عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤاخاة التي قد صارت سنة يجب اتباعها إلى اليوم.
ولقد أكد سبحانه وتعالى الولاية بينهم مع افتراق كقبائلهم وفخوذهم وبطونهم فقال تعالى:(6/3201)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) وصف الله المهاجرين بأنهم آمنوا إيمانا لقوا فيه الأسى والعذاب فما وهنوا وما ضعفوا وما استكانوا، وصبروا وصابروا، وبأنهم هاجروا، أي تركوا ديارهم وأسرهم وأموالهم وخرجوا من ديارهم وهي الحبيبة إليهم، فنالوا فضل الهجرة بترك الأحبة في سبيل الله، وما هاجروا للسياحة والراحة بل خرجوا ليحملوا مشقة أعظم مما يحملوا، ولذا قال تعالى فيهم: (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) جاهدوا الهوى في النفس والركون للراحة، وحملوا السيوف مقاتلين في سبيل الله، وبذلوا أموالهم التي كسبوها بكدهم من كسبهم بعد الهجرة بعد أن فقدوا أموالهم التي كسبوها قبل الهجرة، وكان من هؤلاء من يخرج من كل ماله لله ورسوله، ومنهم من يحمل من ماله نفقات جيش، كما حمل عثمان نفقات جيش العسرة.
وكل ذلك في سبيل الله تعالى لَا يرجون إلا ما عند الله، وهؤلاء أولياء لمن يماثلون خيرا، وهم الذين آووا ونصروا وتحلوا بما تحلى به إخوانهم المهاجرون،(6/3201)
فآمنوا الإيمان الكامل، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وإذا كانوا قد نقصوا عن إخوانهم فضل الهجرة، فقد عُوِّضوا عن ذلك بفضل الإيواء والنصرة، يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
هؤلاء الأطهار قرر الله تعالى أن بعضهم أولياء فقال سبحانه وتعالى في خبر (إنَّ) (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) الولاية محبة ومودة ومناصرة، وقد اجتمعت كل هذه الأحوال في ولاية المؤمنين المهاجرين، والأنصار فقد اجتمعت فيها المودة، فتوادوا وتحابوا، وتناصروا وجاهدوا جميعا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله.
ولقد جمعت المؤاخاة معنى المودة والمحبة والإيثار وجمع الجهاد معنى النصر، والتعاون بالجهاد في سبيل الله، وإن هذه الولاية كانت تتضمن مع ما ذكرنا معنيين آخرين:
أولهما - أنهم يقتسمون الغنيمة بالسوية على النظام الذي قرره الله تعالى في الغنائم، لَا فضل لأنصاري على مهاجري، ولا فضل للمهاجر على الأنصاري، ولما أعطى رسول الله المؤلفة قلوبهم، وجد بعض الأنصار، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنها لعاعة (1) مال تألفت بها قلوب قوم، وتركتكم لدينكم "، ودعا للأنصار دعوة ختمها بأنه من الأنصار لولا الهجرة، " ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار ".
ثانيهما - أن هذه الولاية التي كلَّلها رسول الله بالمؤاخاة كانت تثبت الميراث بين المهاجرين والأنصار إذا مات أحدهما من غير قريب مسلم، فالمؤاخاة تثبت الميراث، كأنها تحل محل بيت المال.
________
(1) اللُّعاعة: البقية اليسيرة من الشيء، ونص الرواية عند أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند أبي سعيد الخدري (11322).(6/3202)
هذه الولاية بين المهاجرين والأنصار، والإيمان وحده من غير هجرة يوجد ولاية الإيمان لَا موجد ولاية قسم الغنيمة والميراث بالمؤاخاة؛ ولذلك نفي هذا النوع من الموالاة عن الذين يؤمنون ولم يهاجروا نعمة الجهاد المشترك بين المهاجرين والأنصار ونعمة المؤاخاة؛ ولذا قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِن شَيْء حَتَّى يُهَاجِرُوا).
عندما شاع أمر الإسلام، وذاع في البلاد الربية مع استمرار الدعوة والجهاد قد آمن ناس ولم يهاجروا وقد رغب الإسلام في هجرتهم، ليكثر بهم جمع أهل الإيمان، وليكون الجهاد متكاملًا أمام أهل الشرك، ولكي لَا يستضعف المشركون يستخذي المؤمنون لقلتهم وضعفهم؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97).
وقد ذكر الله تعالى في هذه مقدار ولايتهم، وهي ثابتة لأنها ولاية الإيمان، ولكن لَا تكون لهم ولاية قسمة الغنيمة، ولا الولاية التي تثبت بالإخاء، ولذا قال تعالى: (مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِن شَيْء) أي ليس لكم من ولايتهم في الغنائم أي شيء وهذا النص يومئ إلى أنه يحسن بهم أن ينضموا لجماعة المؤمنين ويتناصروا.
ولقد جاء في تفسير الحافظ ابن كثير ما نصه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا، وقال: " اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا ديارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى(6/3203)
الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا - أي الإسلام - فادعهم إلى إعطاء الجزية. فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا - أي الإسلام والجزية - فاستعن بالله وقاتلهم " (1).
هذه رواية مسلم، وظاهر أن الولاية المنفية هي ولاية الاشتراك في قسمة الغنائم وما يترتب على الإخاء، أما الإيمان فولايته قائمة ثابتة وهي ولاية النصرة، ولذا قال تعالى:
(وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ).
إن هذه ولاية الإيمان وهي توجب النصرة على أساس أن المؤمنين جميعا إخوة، كما قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10).
فحيثما كان المؤمن فهو في ولالة المؤمنين مهما تختلف الديار، وتتباعد الأقطار، ولذلك إذا استنصر المؤمن؛ أي طلب النصر - وجبت نصرته، فالسين والتاء للطلب أي طلب النصرة، في دفع عدوٍّ دَاهِم، أو في حرب عادلة؛ ولذا قال تعالى: (فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) والاستجابة لطلبه، وقد استثنى الله حالا واحدة، وهي أن يكون ثمة ميثاق، أي عقد موثق بمواثيق الله تعالى، وميثاق وزن مفعال من (وثق)، فأصله (مِوْثاق) قلبت الواو ياء لوقوعها ساكنة بعد كسرة، والمعنى عليكم النصر، أي فإن دعوكم فعليكم الإجابة إلا أن يكون النصر الذي تنصرونهم فيه يكون على قوم بينكم وبينهم ميثاق، أي لَا تنصروهم على قوم لهم ميثاق، ولكن يجب أن تدفعوا عنهم كل من يعتدى عليهم، ولو كان بينكم وبينهم ميثاق، لأنهم ينقضون الميثاق بمجرد أن يعتدوا على مؤمنين، فلا عهد مع الاعتداء على أهل الإيمان.
________
(1) مختصرا من حديث طويل رواه مسلم: الجهاد والسير تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته (1731)(6/3204)
وإذا كان في المؤمنين غير المهاجرين ضعف، واستضعفهم أعداء الإسلام أيان كانوا، وجبت نصرتهم، ويقول في ذلك ابن العربي في تفسيره في أهل الميثاق إلا أن يستنصروكم على قوم بينكم وبينهم عهد فلا تنصروهم عليهم ولا تنقضوا العهد، حتى تتم مدته إلا أن يكونوا - أي المسلمون - أسراء مستضعفين فإن الولاية معهم قائمة والنصرة لهم واجبة حتى لَا تبقى منا عين تطرف، حتى تذهب إلى استنقاذهم إن كان عددنا يحتمل ذلك، أو ينزل جميع أموالنا في استخراجهم حتى لا يبقى لأحد منا درهم.
وقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي أن الله العلي الكريم الغالب على كل شيء مطلع كما يطلع ذو البصر على ما تعملون، ومكافئكم عليه، وقدَّم " بما تعملون " على " بصير " لمزيد الاهتمام، والحساب على مقتضى علمه سبحانه وتعالى بما يعملون.
هذه حدود ولاية المؤمنين، ولقد ذكر سبحانه وتعالى ولاية الكفار بعضهم مع بعض، وعدم ولايتنا معهم، فقال تعالى:(6/3205)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
إذا كان المؤمن لَا يوالي إلا مؤمنا، ولا تكون له المحبة والولاية إلا لمؤمن مثله، فلا تكون ولايته لغيره، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أنهم لا يكونون إلا أولياء لأنفسهم، فالمسلمون ولايتهم للإسلام، والكفار لَا يتولون ولا يصح لمسلم أن يتولاهم كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، والولاية هنا النصر، أي أن الكافر نصير الكافر، ولا يصح أن ينصر المسلم الكافر، والنص يتضمن ذلك المعنى، أي أنه لَا تناصر بين المسلم والكافر، ولا تناصر إلا بين الكافر والكافر.
وقوله تعالى: (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) الضمير هنا يعود على التناصر بين المسلم والكافر بأن يستنصر المسلم بالكافر أو ينصر المسلم، ونفيه مفهوم ضمنا من(6/3205)
اختصاص الولاية للمؤمن بأن تكون مع مؤمن، واختصاص الولاية للكافر بألا تكون إلا لكافر، و (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) هي " إنْ " المدغمة في " لا " النافية، ففعل الشرط (لا تفعلوه)، ومعنى إلا تفعلوه أي إن لَا تتقوا تناصركم معه، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، والمعنى إن كنتم تتناصرون بهم فتستنصرون بهم وتنصرونهم تكن فتنة في الأرض وفساد، لأن نفي النفي إثبات، ومؤدى ذلك: إن كنتم لا تتباعدون عن المناصرة فيهم تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
وذلك حق؛ لأن أقبح الفتنة أو أشدها أن يكون ولاء المؤمن للكافر، بأن يكون للولي ناصرا، ومستنصرا فإن ذلك يفتن المسلمين عن دينهم، ويجعلهم في ولاء للكافرين، والله تعالى يقول: (لا تَتَوَلَوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّه عَلَيْهِمْ)، فتوفيهم فتنة تفتن المؤمن عن دينه وفي خلقه، وتجعل تعاونه مع الكفار، وفيه فساد كبير ففيه قوة للكفر، وضعف للإيمان وأي فساد أكبر.
وإن الفساد الذي أصاب المسلم الآن، والفتنة التي يموج فيها المؤمنون، إنما هي من ولاء المؤمنين للكافرين كما ترى ذلك في ساسة المسلمين منذ ضعفوا، فقد ازدادوا ضعفا بهذا الولاء، وكان أمر المسلمين إلى بوار، (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56).(6/3206)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
جمع الله تعالى في هذه الآية الذين كانوا دعامة الإسلام، وعليهم هَدْي الرسول - صلى الله عليه وسلم - قام بنيانه، وشيدت أركانه، وهم المهاجرون والأنصار، فالمهاجرون ابتدأ بهم تكوين الجماعات الأولى التي صبرت وصابرت وتلقت الصدمة الأولى من المشركين، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الصبر عند الصدمة الأولى " (1)، فهم الذين
________
(1) سبق تخريجه.(6/3206)
تلقوها من عتاة المشركين الذين قابلوا أهل الحق بالأذى من أمثال أبي لهب، وأبي جهل، والوليد بن المغيرة، وغيرهم، وهم الذين هاجروا إلى الحبشة فرارًا بإيمانهم، ومنهم من هاجر إليها مرتين، وهم الذين لاقوا العنت، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، ومنهم من اضطروه تحت العذاب أن ينطق بكلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ومنهم من مات بعض أسرته تحت حر العذاب.
ثم في آخر الأمر هاجروا إلى المدينة، فاستقبلهم إخوانهم بالترحاب وآووا ونصروا.
والأنصار هم الذين آووا ونصروا، وأعزوا كلمة التوحيد وأغلوها وأعلوها، فإذا كان المهاجرون هم الذين أظلوا شجرة الإسلام ابتداء، فالأنصار هم الذين حموا ثمرتها وقامت دولة الإسلام في أرضهم وحراستهم، وإذا كان المهاجرون قد لاقوا العنت في مكة فقد لقوا الإيواء في المدينة، وإذا كانوا هم دعامة الإسلام فالأنصار دولته، وفي رحابهم قامت المدينة الفاضلة التي أقامها محمد - صلى الله عليه وسلم - في ديارهم وإذا كان المهاجرون قد جاهدوا ابتداء بالصبر والمصابرة، فقد كان جهادهم في المدينة مع إخوانهم الأنصار بذلك وبالقتال في المدينة، والفريقان اختارهم الله للتأليف حتى تكونت منهم أطهر جماعة رأتها الإنسانية وأقواها، ولذا قال تعالى:
(أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا).
الإشارة إلى السابقين، والإشارة إلى الموصوف إشارة إلى أوصافه، وجعلها مناط الحكم، أي أولئك الذين هاجروا بعد الإيمان، وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا هم المؤمنون حقا، أي إيمانا ثابتا صادقا حقا تلاقت أقوالهم وقلوبهم وأعمالهم.(6/3207)
وفى الكلام قصر، أي من كانوا على هذه الصفات هم وحدهم المؤمنون حقا، أي لَا يؤمنون حقا غيرُهم، ومن هم على صفاتهم، وفيهم قوة الإيمان مثلهم، أي ذلك هو الإيمان حقا وصدقا (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).
ولقد كرر الله تعالى الثناء على المهاجرين والأنصار في كثير من محكم آياته، من ذلك قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ. .).
ويقول تعالى: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ. . .).
وقال تعالى في توزيع ما أفاء الله على رسوله: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ).
وهكذا ترى قوة الإيمان، والجهاد ونصرة الرسول، والإيثار فكانوا بذلك المؤمنين حقا وصدقا، وقد ذكر الله تعالى ما كتب من خير في الدنيا والآخرة، بعد أن ذكر أنهم المؤمنون حقا، قال: (لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) وهذا يتضمن جزاءين:
أولهما - المغفرة السابقة ووراءها الرحمة والنعيم المقيم.(6/3208)
ثانيهما - رزق كريم واسع في الدنيا بعد المشقة التي تحملوها والله واسع هذا شأن المهاجرين الذين آمنوا والذين آووا ونصروا، وقد ذكر بعد ذلك شأن الذين يهاجرون ويؤمنون من بعد، فقال تعالى:(6/3209)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
باب الإيمان مفتوح، وباب الهجرة مفتوح، وميدان الجهاد متسع للجميع، فلم يغلق على المجاهدين الأولين، ويحكم الرِّتاج على من بعدهم، لَا بل هو مفتوح، وهذه الآية الكريمة تلحق الذين يؤمنون من بعد ويهاجرون بالأولين الذين هم المؤمنون حقا، ولهم مغفرة ورزق كريم (1).
يقول تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ) أي من بعد نزول هذه الآيات الكريمات، ويفعلون فعل من سبقوهم فيهاجرون ويجاهدون معكم لَا فرق بينكم وبينهم في الميدان فأُولئك منكم، ومثل هؤلاء أبو موسى الأشعري، ومن معه من الأشعريين، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنكُمْ) أي أولئك يصيرون جزءا منكم لهم حكمكم، ولهم ثناؤكم، لا تعلون عليهم لأنهم منكم، فالمهاجر الأول والذين آووا ونصروا لهم فضلهم، ويلحق بهم في الفضل والثناء والجزاء من آمنوا من بعد وأبلوا مثل بلائهم، ولم
________
(1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا تَلْفِظُهُمْ أَرْضُوهُمْ، تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ، وَتَحْشُرُهُمُ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ. . رواه أبو داود: الجهاد - في سكنى الشام (2482)، وأحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن عمرو بن العاص (6832).(6/3209)
يتخلفوا عنهم في الفضل وإن تخلفوا في الزمن، وهو لَا حساب فيه عند الله ما دام الإيمان والجهاد والهجرة قد تحقق فيهم.
هذا ولاء المؤمنين بعضهم مع بعض، وكهدي القرآن لَا يمحو ولاء الفطرة ولا يمحو الولاء العام، ولاء الأسرة لأنه يدعمه ويقويه، ولذلك جاء ولاء الأسرة بعد الولاء العام، فقد قال تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ).
أي في حكم كتاب الله تعالى، ومقررات الإسلام الثابتة، فالأسرة لَا تفنى بجوار الإيمان ولكن تقوى دعائم المجتمع الإسلامي.(6/3210)
(سُورَةُ التَّوْبَةِ)
تمهيد:
وهي مدنية وعدد آياتها 129 ويقولون إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان.
وفى المصحف أنها نزلت بعد المائدة، ولكن الثابت أن آية (. . . الْيَوْمَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا. . .)، نزلت في عرفة في حجة الوداع، وأن براءة نزلت في حجة الصديق رضي الله عنه، وصلى بها علي بن أبي طالب، فهي قبل المائدة، وقالوا: إنها نزلت في تبوك، وفيها أخبار المسلمين والمنافقين في هذه الغزوة مما يدل على أنها مقارنة لها في الزمان، وتسمى " الفاضحة "؛ لأنها فضحت المنافقين، وتسمى " البَحُوث؛ لأنها بحثت أسرار المنافقين وكشفتها، ولم تبدأ بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كغيرها من السور.
وقالوا في ذلك: إن الصحابة لم يفصلوا بينها وبين سورة الأنفال بالبسملة، وذلك لأن القرآن الكريم كتب ما كتب فيه بالتوقيف لَا بالرأي، ووضعت آياته وسوره بالتوقيف، وقد اتبع زيد بن ثابت والجماعة الذين كانوا معه ما رسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سوره ونزل عليه من آياته ووضع كل آية في موضعها من سورتها، ولم يضع " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ " بين الأنفال وبين براءة، والكتابة سنة متبعة ثابتة بالتوقيف، هذا لَا مجال للريب فيه فقد ثبت بالتواتر.
وقالوا في الحكمة في عدم كتابة البسملة: فمنهم من قال إن البراءة امتداد للأنفال فموضوعهما في الحرب والعهود، وتلك حكمة واضحة بينة، وقال بعضهم إن الرحمة والسلام اللذين تدل عليهما البسملة، لَا يتناسبان مع ما اشتملت سورة براءة من نقض للعهود، وتهديد بالحروب، وكشف للنفاق.(6/3211)
ونحن نرتضي التعليل الأول؛ لأن الحرب بكلِ صوِرها ما دامت إسلامية عادلة، فهي رحمة بالناس، (. . . وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ. . .).
والسورة الكريمة قد اشتملت على العهود الموثقة، ونقض المشركين لها والبراءة ممن ينقضونها، وبيان أن الجهاد سياحة المؤمن، كما صرح الرسول - صلى الله عليه وسلم - (1) ولذا قال في الفراغ من الجهاد (فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُر. . .)، وإعلان البراءة من الشرك وأهله، وأوجب سبحانه مع هذه البراءة الوفاء للمشركين الذين لم ينقصوكم شيئا من عهودكم.
وإن القتال محرم في الأشهر الحرم، فإذا انسلخت كان القتال لغير أهل العهد، وتتبع المشركين في كل مكان، وكل ذلك مع ملاحظة النجدة، وإجارِة من يريد الجوار، وقال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6).
ثم بين سبحانه أنه لَا يصح الاعتماد على عهود المشركين، لأنهم لَا يبرون بعهودهم، واستثنى سبحانه الذين تفرض فيهم الاستقامة على أحد الاحتمالين، ولذا قال تعالى: (. . . فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ. . .).
وإن استقامتهم المفروضة تكون والمسلمون أقوياء (. . . وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً. . .)، وإن ماضيهم ينبئ عن حاضرهم إذ كانوا يصدونكم عن المسجد الحرام.
وأنهم إذا تابوا فإخوانكم في الدين، وإن أستمروا على الكفر ونكثوا الأيمان فقاتلوا أئمة الكفر، إنهم لَا أيمان لهم، وأمر سبحانه وتعالى وقد استمروا على عداوتهم والنكث على عهودهم أن على المؤمنين أن يقاتلوهم، وقال تعالى:
________
(1) عَنْ أبِى أمَامَةَ أن رَجُلا قَالَ: يَا رَسولَ اللَّه ائْذَنْ لِى فِى السًيَاحَة، قَالَ النَبِى - صلى الله عليه وسلم -:. إِنَّ سِيَاحَةَ أمَّتِي الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ". رواه أبو داود: الجهادَ - النهي عن السياحة (2486).(6/3212)
(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14).
وإن هذا الخزي يذهب غيظ قلوبهم، والهزيمة تجعله يتبدد. وإن الجهاد فريضة محكمة يعلم الله تعالى به المجاهدين علم واقع يرونه.
بعد ذلك اتجه سبحانه وتعالى إلى عمَّار البيت المشركين وبيان أنهم ليس لهم
أجر؛ لأن عمارة المساجد شرطها الإيمان (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18).
وذلك إشارة إلى عمارتهم المساجد، فإنه لايفيدهم ما داموا مشركين، ولذا قال تعالى: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاج وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
بعد أن بين الله أنه لَا يستوي المؤمن والكافر. بيَّن جزاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وأولئك هم الفائزون، يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم، خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم.
ثم بيَّن سبحانه أن هؤلاء يجب أن يكونوا لله سبحانه وتعالى، فبين أنه يجب عليهم ألا يتخذوا آباءهم وإخوانهم أولياء من دون الله إن استحبوا الكفر على الإيمان، (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24).
وذكَّرهم سبحانه وتعالى بنصرهم في مواطن كثيرة، وذكَّرهم سبحانه بيوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم فلم تغنِ عنهم شيئا، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت،(6/3213)
ثم ولوا مدبرين (ثمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنودًا لَّمْ تَروْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ).
قد كسرت الأصنام، ولكن كان المشركون يدخلون المسجد، فأمر الله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28).
وقد أمر سبحانه من بعد ذلك بقتال الكافرين سواء أكانوا يهودا أم نصارى أم - مشركين حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وبيَّن أن اليهود قالوا عزير ابن الله فكانوا كالمشركين، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله فكانوا مثل المشركين في أن أشركوا في عبادة الله المخلوقات.
وزادوا بأن اتخذوا أحبارهم ورهبانهم وسائط في العلمِ عن الله فاتخذوهم أربابا، (. . . وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدَا لَا إِلَهَ إِلَّا هُو سُبْحَانهُ عَمَّا يُشْرِكونَ) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ). وبين سبحانه مساوى الأحبار والرهبان في أكلهم أموال الناس بالباطل.
ثم ذكر سبحانه مآل هؤلاء يوم القيامة: (يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35).
بعد ذلك ذكر سبحانه عدة الشهور وهي اثنا عشر منها أربعة حرم، لَا يحل فيها القتال لأنها أشهر الحج أو الانتقال إلى بيت الله الحرام، وكذلك العُمرة، وهي ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب (مُضَر) الذي بين جمادى وشعبان فهو شهر عمرة مُضَر. فأُلحق بأشهر الحج.
وحرم الله تعالى النسيء (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ. . .) وإن ابتداء الحرب في الأشهر الحرم لَا يجوز، ولكن إذا كان القتال (. . . فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36).(6/3214)
بعد ذلك أمر الله تعالى بالقتال، ولامهم على التثاقل عنه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38).
وبين سبحانه وتعالى عذاب من لَا ينفرون في سبيل الله فإنه يستبدل قومًا غيرهم، وبيَّن أنهم إن لم ينصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن الله ناصره: (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا) وصرح الله تعالى بوجوب النفور إلى القتال خفافا وثقالا.
بعد ذلك أشار الله سبحانه وتعالى إلى تخذيل المنافقين للمؤمنين كما فعلوا في غزوة تبوك، فقد عوَّقوا وخذلوا، ولم ينفروا مع المؤمنين وقال تعالى في ذلك:
(لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42).
ولقد عفا الله جل جلاله عن نبيه أن أذن لهم بالتخلف، ولو لم يأذن لتبين نفاقهم (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45).
وأخذ سبحانه وتعالى يبين أحوال المنافقين فهم لنفاقهم وريبهم لم يستعدوا للقتال، وأن الله كره انبعاثهم، وقيل اقعدوا مع القاعدين، وإن قعودهم فيه خير لأهل الإيمان: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ(6/3215)
الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49).
إنهم يخذلون النبي فيأمر الله نبيه بأن يقول لهم: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51).
وبين الله تعالى لنبيه أنهم يتربصون للمؤمنين الموت والخذلان (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52).
وقد منع الله نبيه أن يقبل منهم نفقة في حرب؛ لأن مالهم سحت، ولا يجدي في الحرب إلا المال الطيب الذي ليس فيه خبيث، (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)، َ وبين سبحانه وتعالى حالهم في أيمانهم الكاذبة، ويبين أنهم يخافون ويفرقون، (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57).
وإن منهم لمن يعرض بالنبي في الصدقات ليعطي منها (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)،
ولقد بين الله سبحانه وتعالى مصارف الصدقات فقال تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60).
ولقد كان المنافقون يؤذون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بكل أنواع الأذى، فكانوا من إيذائهم قولهم: (. . . أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61).(6/3216)
ومن اختلاق المنافقين الكذب أنهم يحلفون ليرضوا المؤمنين، والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين، يحادون الله ورسوله ومن يحاد الله فله نار جهنم، هم يرون أدلة قائمة ويعلمونها، ولكن لَا يذعنون للحق إذا تبين لهم، ويحذرون أن تنزل سورة تخبرهم بما في قلوبهِم، (. . . قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65).
وقد ذكر سبحانه وتعالى ضلال المنافقين وأنهم يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
ثم بين الله تعالى العذاب الشديد الذي يلقاهم، وأنهم كالذين من قبلهم استمتعوا بخلاقهم كما استمتع الذين من قبلهم بخلاقهم وخاضوا في الفتن كما خاضوا، ثم بين لهم العبرة في قوم عاد وثمود، وقوم إبراهيم وأصحاب الأيكة والمؤتفكة أتتهم رسلهم بالبينات، ونزل بهم ما نزل، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ثم بين سبحانه وتعالى علاقات المؤمنين في مقابل علاقات الكافرين وِالمنافقين فقال: (وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71).
وبين من بعد ذلك ما وعد الله به المؤمنين من جنات ونعيم خالدين فيها ورضوان من الله أكبر وذلك هو الفوز العظيم.
وأمره الله بأن يجاهد هؤلاء المنافقين والكافرين (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73).
ولقد كان المنافقون يفترون على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويثيرون الفتنة بالقول على المؤمنين، (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74).(6/3217)
وبيَّن سبحانه وتعالى أخلاق النفاق، إذ يعاهدون الله لئن آتاهم من فضله ليصدقن وليكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به، وتولوا وهم معرضون، وبذلك زادوا نفاقا لأن نفوسهم تمرست به.
وإن أولئك المنافقين حياتهم سخرية بالمؤمنين، فالذين يطوعون أنفسهم في الجهاد والذين لَا يجدون إلا جهدهم يلومونهم، ويسخرون منهم، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ككل رسول يطلب لهم الهداية، وككل قائد يستغفر لهم لكي يقربوا بدل أن تبعد نفوسهم. ولكن الله تعالى بين أنه لن يغفر الله لهم (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80).
وإذا خرج النبي لجهاد عام، كما في غزوة تبوك تخلفوا وفرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، (. . . وقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشدّ حَرًّا لَّوْ كَانوا يَفْقَهُونَ).
بعد ذلك كشف الله أمر النفاق وأمر الله تعالى نبيه أن يقول: (. . . لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84).
وإنهم كلما نزلت سورة تدعو إلى الجهاد (اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87).
وقد بين الله سبحانه وتعالى حال الرسول والذين معه يجاهدون بأموالهم وأنفسهم، وبيَّن حكم ذوي الأعذار فقال تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى(6/3218)
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92).
وقد بيَّن بعد ذلك أن الذي يؤاخذ الذين يستأذنونك وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وطبع الله على قلوبهم فهم لَا يعلمون (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94).
ومن مظاهر النفاق كثرة الحلف ولذا قال الله تعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96).
بعد ذلك بيَّن الله تعالى أحوال الأعراب، وهم الذين وجد المنافقون فيهم مرتعا خصبا، فذكر أنهم (. . . أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98).
وقد أنصف الله تعالى بعض الأعراب وهم الذين آمنوا، (وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99).
وقد ذكر سبحانه وتعالى السابقين من المهاجرين والأنصار الذين كانوا دعامة الإسلامِ وقوته (. . . رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100).
عاد سبحانه وتعالى إلى حديث المنافقين فذكر أن أكثرهم حول المدينة وفي المدينة الذين مردوا على النفاق وتربوا عليه، وعلىٍ رأسهم عبد الله بن أُبي (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ(6/3219)
نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102).
وقد أمر الله تعالى بعد ذكر المنافقين أن تؤخذ الزكاة، فهي كاشفة النفاق، ونماء المؤمنين وطهارتهم. ثِم فتحِ باب التوبة للآثمين وحث على العمل: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105).
وبيَّن سبحانه وتعالى أن من الذين خوطبوا بالدعوة مرجون لأمر الله إما أن يعذبهم دماما أن يتوب عليهم والله عليم حكيم، وأن المنافقين الذين حول المدينة قد اتخذوا مسجدا يتلقون المعلومات من أعداء الله والرسولِ، والذي سمي مسجد الضرار، وقال الله تعالى فيه: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110).
وبعد هذه الآيات التي ذكرت المنافقين، ومن يدورون حول فلكهم، ومن يتقربون منهم - ذكر الله تعالى المؤمنين الصادقين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة (. . . يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111).
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك أوصافهم البرة، فقال سبحانه:
(التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112).(6/3220)
وقد ذكر الله تعالى أنه ما كان لنبي أن يستغفر للمشركين، ولو كانوا أُولي قربى، وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، وإن الذين اهتدوا ما كان الله ليضلهم بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم.
وقد بيَّن سبحانه سلطانه في ملك السماوات والأرض، ثم بين سبحانه توبته على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، والمهاجرين الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم.
وكان من المؤمنين الصادقين من تخلفوا في غزوة تبوك من غير عذر من الأعذار التي ذكرها القرآن فرباهم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم - وهو خير المربين - بالإعراض عنهم حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لَا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم.
وقد أمر الله المؤمنين الصادقين بأن يلتزِموا. وقد وضع سبحانه وتعالى مبدأ ثانيا مقررا فقال: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121).
وإن الله خفف على المؤمنين بألا ينفروا جميعا، بل ينفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
ثم أمر بجهاد الذين يلونهم من الكفار؛ لأنهم يحادونهم فقال: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).(6/3221)
وقد ميز الله تعالى بين المؤمنين والمنافقين عند نزول آيات الله تعالى فقال سبحانه: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126).
يقول سبحانه في المنافقين (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127).
وختم الله تعالى السورة بأنها رحمة في جهادها، وكشف المنافقين بهاتين الآيتين اللتين قيل عنهما أنهما نزلتا بمكة، وهما قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129).
* * *
معاني السورة الكريمة
قال تعالى:
(بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)(6/3222)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
* * *(6/3223)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)
(براءة)، مِن برئ منه إذا خلص في تبعته وعهدته، وبرئ براءة من عهده إذا تخلص من تبعاته و (بَرَاءَةٌ منَ اللَّهِ وَرَسولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكينَ)، أي لَا تبعة بالنسبة للذين عاهدتم، فعهودكم رد لَا يؤخذ بها.
وقالوا: نسبت العهود للذين آمنوا على أنهم هم الذين عاهدوا لأن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هو الذي عاهد باسمهم، كما يتعهد رئيس الدولة باسم رعاياها والمنتمين إليها، إذ هم بمقتضى عهدة الحكم هم الذين فوضوا إليه، وأسند العهد إليهم، والبراءة من العهد إلى الله تعالى، لأن هذه البراءة حكم شرعي بنقض العهد مع المشركين الذين نقضوا عهودهم، واستمروا على شركهم، - وكانوا إلبًا على المسلمين، حتى غلبوا على أمرهم، وكان ذلك في حرب المؤمنين مع أهل الطائف، وكان قد قرب زمان الأشهر الحرم، فأنهاها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ومع أن العهود المطلقة غير المحدودة بمدة قد انتهت، وبرئ الله ورسوله منها، فإن لهم أربعة أشهر، الحرب فيها حرام لَا تُبتدأ فيها، وأن الأربعة الأشهر هي الحرم، بدليل أن الله جعل نهايتها انسلاخ الأشهر، فقال: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ. . .).
وقوله تعالى:(6/3223)
فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
(فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. . . (2)
والفاء هنا لتفصيل ما يكون بعد البراءة من العهد، فذكر سبحانه أنهم في أمان من القتال لمدة أربعة أشهر هي الأشهر الحرم، وكلمة (فَسِيحُوا فِي الأَرضِ) أي سيروا فيها آمنين من القتل والقتال، ولمدة أربعة أشهر، ولكن اعلموا أنكم لَا تعجزون الله تعالى، فلا تحسبوا أنكم أمنتم إلى النهاية ولذا قال تعالى: (. . . وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ)(6/3223)
عن أن ينالكم عذابه في الدنيا والآخرة، فاطمئنوا فقط في أربعة الأشهر الحرم، وقد بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر أنها ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، وتلك الثلاثة الأولى أشهر الحج والذهاب إليه والأوبة منه ورجب الذي بين جمادى الآخر وشعبان (1) شهر عمرة فإذا كان الله ترككم تسيحون في الأرض فلستم بمعجزى الله و (. . . وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) أي منزل بهم الخزي بإنزال الهزيمة بهم، وإضعاف شوكتهم، وذهاب تطاولهم، وسيطرتهم على البلاد العربية.
وإنه لكي تتجلى هذه الآيات نقتبس كلمة من الصحاح، والسورة تبين نزول هذه الآيات ومواقيت نزولها - فتح النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة سنة ثمان، وأناب عنه في الحج هذا العام عتاب بن أسيد، وفي سنة تسع امتنع عن أن يحج بنفسه، لأن المشركين كانوا يحجون، وكانت قريش يحجون عرايا، فلم يرد أن يراهم كذلك في الحج، وأناب أبا بكر عنه في الحج هذا العام، وقد نزلت سورة براءة في شهر شوال من هذه السنة، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليا أن يبلغهم أربعين آية من أولها، وقيل أقل من ذلك، فأتبع أبا بكر عليا بها، فلما دنا عليّ من أبي بكر وهو راكب العضباء ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رغاءها فوقف وقال: هذه ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما لحق به عليّ قال أبو بكر: أمير أم مأمور، قال عليّ: بل مأمور، فلما كان يوم التروية اليوم الثامن من ذي الحجة خطب أبو بكر، وحدثهم عن مناسكهم، وقام علي رضي الله عنه وقال: إني رسول رسول الله إليكم، فقالوا: بماذا، فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية. وعن مجاهد ثلاث عشرة آية، ثم قال أمرت بأربع: ألا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتمم إلى كل ذي عهد عهده.
________
(1) عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ ".(6/3224)
عندئذ قال من حضر من المشركين: يا عليّ، أبلغ ابن عمك أنَّا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف.
وإن هذا يدل على أنهم ابتدأوا بنبذ العهد، وأن الله ورسوله عندما برأنا من العهد كانوا هم المبتدئين بالنبذ، فكانت البراءة من عهودهم مجاوبة لهم في نبذها، وأباح الله تعالى أن سيحوا في الأرض أربعة أشهر.(6/3225)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
(وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
قوله تعالى: (وَأَذَان مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) الواو عاطفة (أذان) على (براءة)، وبراءة هي براءة الله من الذين عاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنون من المشركين لنكثهم عهدهم، كما أعلنوا ذلك لعليّ رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأنهم لَا أيمان لهم، ولا عهد لهم.
أما الأذان فهو الإعلام، وهو بمعنى الإيذان، كالعطاء بمعنى الإعطاء وهو إعلام الناس جميعا مع من كان معاهدا ونكث، ومن لم يكن عاهد من المسلمين، وهو إعلام بالبراءة من المشركين، ولذا كان موضوع الإعلام أن الله بريء من المشركين وَرَسُولُهُ، فلا عهود لهم إن نكثوها ولا عهود لمن لَا عهد له من قبل، إلا إن استقاموا عليه ولم يظاهروا على المؤمنين.
(أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ منَ الْمُشْرِكينَ وَرَسُولُهُ) بالفتح على تقدير الباء، والمعنى إيذان بأن الله بريء من المشركين، وحذف الباء قبل أن. وهذا كثيرا في كلام العرب، وقرى بكسر (إن) (1) لأن الإيذان يتضمن معنى القول و (إن) تكسر بعد القول.
(وَرَسُولُهُ) بالرفع معطوفة على اسم، وهو لفظ الجلالة، وإن ذلك جائز إذ يعطف على اسم بالرفع إذا كان الخبر قد تم، ويقول الزمخشري: إنه يعطف على الضمير المقدر في (بريء)، وهو اختلاف لفظي لَا جدوى فيه من حيث المعنى.
________
(1) ليست في العشر المتواترة.(6/3225)
وإن الإعلام الذي أعلمه اللَّه ورسوله للمشركين هو ما روي عن علي رضي الله عنه: " فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: كنت مع علي بن أبي طالب حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل مكة ببراءة - فقال: ما كنتم تنادون به؛ قال: كنا ننادي أنه لَا يدخل الجنة إلا مؤمن ولا يطوف بالبيت عريان، وما كان بينه وبين رسول الله عهد فإن أجله أو أمده إلى أربعة أشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين، ورسوله، ولا يحج إلى هذا البيت بعد العام مشرك " (1) والرواية الراجحة التي تتفق مع المعنى القرآني هي أن يتم لكل ذي عهد عهده، لا أن يكون أربعة أشهر لَا يزيد عليها، كما ستبين ذلك الآية الآتية.
ويوم الحج الأكبر قيل هو يوم عرفة، ورجح الأكثرون أنه يوم النحر (2)؛ لأنه وإن كان الحج عرفة لَا يتم به الحج، دمانما يتم الحج بالطواف الركن، وهو طواف الإفاضة، ويوم النحر يتوسط بين عرفة وهذا الطواف، ولأن الروايات تضافرت على أن عليا آذن يوم النحر، وقال ذلك عند العقبة.
وسمى الحج الأكبر في مقام العمرة؛ لأنهم يسمونها الحج الأصغر، ولأنه في يوم النحر تكون أكثر أعمال الحج قد أديت، وقال الحسن البصري: إنه اجتمع في الحج في السنة التاسعة المشركون والمؤمنون، وقال: وقد وافق عبادة أهل الكتاب ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده.
ونسبة هذا القول إلى التابعي المؤمن الحسن البصري وجدته في الكشاف للزمخشري وأنا أشك في نسبته إليه أو نسبة ما قاله عن اتفاق الحج مع عبادة أهل الكتاب، وتسميته بالحج الأكبر لذلك؛ لأن عبادة أهل الكتاب لَا عبرة بها عند أهل الإيمان ولا عند الله، فإنه بعد بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وجب عليهم اتباعه فيما أتى به من عبادة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " لو كان موسى بن عمران حيًّا ما وسعه إلا اتباعي " (3).
________
(1) سبق تخريجه. وسيأتي بعد.
(2) ومما يؤيد ذلك ما رواه البخاري: الصلاة - ما يستر من العورة (369)، ومسلم: الحج (1347) عن أبي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ يَوْمَ النَّحْرِ، نُؤَذِّنُ بِمِنًى: أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ".
(3) سبق تخريجه.(6/3226)
وبراءة الله ورسوله من المشركين تتناول عهودهم التي نكثوا فيها، وتتناول شركهم، وتتناول طريقة حجهم وفيها إيماء بمنعهِم، ولقد صرحت به - الآية الكريمة من بعد، إذ قال تعالى: (. . . إِنَّمَا الْمُشْرِكونَ نجسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا. . .) وقد فتح الله تعالى باب التوبة والرجوع إلى الله تعالى.
ولذا قال تعالى: (فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْر لكُمْ) فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب، وكان الالتفات لأنه فيه انتقل من البراءة منهم إلى تقربهم إليه بفتح باب التوبة لهم بخطاب الله تعالى لهم مبشرا إن تابوا منذرا إن استمروا في غيهم، فإن تبتم عن الشرك وعن الطواف عرايا وعن عداوة الرسول فهو خير لكم، أي فالرجوع إلى الله تعالى هو خير لكم إذ تطهرون عقولكم ونفوسكم، ومجتمعكم، وما ورثتم عن جدكم إبراهيم.
(وِإن تَوَليْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ) أي إن أعرضتم عن سماع الحق والاستجابة له، والإذعان، وإسلام الوجه فيجب أن تضعوا في علمكم أنكم تحادون الله تعالى، وأن الله تعالى غالب ولا يمكن أن تعجزوه فهو مالك السماوات والأرض، وهو القاهر فوق عباده، فلن تعجزوه في الدنيا والآخرة، وقد كان الالتفات بالخطاب فيه تربية المهابة، وهي تزيد الإنذار قوة.
ثم قال في بيان عذابهم في الدنيا والآخرة: (. . . وَبَشرِ الَّذِينَ كفَرُوا بِعَذَاب أَلِيم) أي مؤلم في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا بالهزائم المتوالية وفي الآخرة بالجحيم.
وفى الكلام إشارتان بيانيتان:
أولاهما: أن التبشير يكون بالخبر السار، فإذا ذكرت في الأخبار المفزعة المؤسفة، فذلك لَا يخلو من تهكم واستهزاء، ومن هذا قوله تعالى:
(وَبَشِرِ. . . بِعَذَابٍ أَلِيم).(6/3227)
الثانية: في التعبير بالموصول في قوله تعالى: (الَّذِينَ كفَروا) فإنه يشير إلى أن العلة في عذابهم الأليم هي كفرهم، فإن تابوا فنعيم مقيم.
وإن الله العادل الحكيم قد استثنى من المشركين من لهم عهوِد راعوها حق رعايتها فقال:(6/3228)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
(إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
الاستثناء في قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عًاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكينَ)، قال الزمخشري: الاستثناء من (فَسيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهر). وأرى أن الاستثناء منِ الذين تبرأ الله تعالى من عهدهم ونبذه إليهم في قوله تعالى: (بَرَاءَةٌ منَ اللَّهِ وَرسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتم مِنَ الْمًشْرِكينَ)، فكان الاستثناء من هؤلاء أي أن الله بريء من عهد هؤلاء؛ لأنهم خاضوا في عهدهم ونقضوه، وقد رأيت أنهم بادروا بالنقض عندما أخبرهم عليّ كرم الله وجهه أنه لَا يدخل البيت الحرام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. . . فبادروا بنقض عهودهم، وقالوا ليس بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن بالرماح، والضرب بالسيوف.
أما الذين وفوا بعهودهم ولم ينقضوا شيئا منها، ولم يظاهروا عليكم أحدا فعهدهم باق مستمر، وليس الكفر وحده؛ فقد كان التعاقد وهم كفار وهذا قوله تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا) والتعبير بـ (ثُمَّ) للدلالة على دوام وفائهم، وأنهم مع كونهم عرضة للنكث والنقض كإخوانهم المشركين ضبطوا أنفسهم ولم ينكثوا في عهدهم، ولم ينقصوا المسلمين - مع بغضهم لأهل الإيمان - شيئا من شروط العهد، بل وفوا به حق الوفاء، والوفاء جدير بالوفاء من أهل الإيمان كما قال تعالى: (. . . وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا)، وكما وصفهم الله تعالى بأنهم لم ينقصوكم شينا مما عاهدوا عليه - ذكر وصفا دالا على الوفاء والمبالغة فيه، فقال تعالى: (وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا) أي لم يعاونوا أحدا من أعدائكم بأن يكونوا في ظهره يدفعونه إلى اللجاجة في عهدكم كما فعل بنو النضير وقريظة، وغيرهم من أعداء(6/3228)
الله الذين عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم ظاهروا المشركين، وعاونوهم، وأظهروا عورات المؤمنين.
وهناك في قوله تعالى: (لَمْ يَنقُصُوكُمْ) بالصاد المهملة قراءة أخرى بالضاد المعجمة (1)، أي لم ينقضوكم شيئا من النقض، ولو في جزئية من جزئيات العهد أي وفوا وفاء كاملا لَا نقض فيه.
وقال تعالى: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ) (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي أنهم إن وفوا ولم ينقصوا ولم يظاهروا عليكم فأوفوا لهم، وأتموا عهدهم إلى مدتهم. وأضاف العهد إليهم باعتبار أن متعة الانتفاع بالعهد لهم، وأضاف المدة إليهم لأنهم الذين ينتفعون بهذه المدة كما انتفعوا بالعهد ذاته، ثم ختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (. . . إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أي الذين يتقون الله تعالى بأن يجعلوا بينهم وبين عذاب النار وقاية، ومن التقوى الوفاء بالعهد، فهي تعليل للاستثناء، وتمام العهد أن الوفاء في العهد من تمام التقوى، ومن فضل الأقوياء.
هذا شأن الذين وفوا بعهودهم، أما الذين لم يوفوا بعهودهم فإنهم يسيحون أربعة أشهر يحرم فيها القتال، وبعد ذلك يكون القتال.
* * *
قال تعالى:
(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
________
(1) ليست في العشر المتواتر ".(6/3229)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
* * *
قوله:(6/3230)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) يقال: سلخت الشهر إذا صرت في آخر أيامه، أي إذا مضت الأشهر الحرم وانتهت، والأشهر الحرم يقول الزمخشري: إنها التي حرم فيها القتال من وقت الحج الأكبر وهي من عشرة ذي الحجة، وهي أربعة تنتهي بعشرة من ربيع الأول، ولم يذكر أنها الأشهر الحرم الأربعة المذكورة في قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ. . .) وقد بينها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها ثلاثة سرد، وواحد فرد، الثلاثة ذو القعدة، وذو الحجة والمحرم، والواحد الفرد رجب الذي بين جمادى وشعبان.
والأكثرون على أن الأشهر الحرم في هذه الآية هي هذه الأربعة التي بينها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وانسلاخها أي يكون القتال فيما عداها، سواء أكانت بعد انتهاء الثلاثة السرد أم بعد انتهاء رجب، أي لَا قتال في الثلاثة، ويجوز القتال بعدها إلى رجب، ثم يستأنف بعد رجب؛ وذلك ليكون الطريق إلى الحج مأمونا، ولتكون بين المتقاتلين هدنة ترجع فيها القضب إلى أجفانها، وتستيقظ العقول، ولقد قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ. . .).(6/3230)
ويقول تعالى: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيثُ وَجَدتُّمُوهُمْ) لأنه قد أصبح دمهم مباحا، فقد نقضوا العهد، ولم يدخلوا في الإسلام، وقد تحدوا الله ورسوله، وأشركوا، والعلاقة في أصلها كانت حربا انتهت بالعهد فنقضوه، وقد أعطاهم مهلة ساحوا فيها في الأرض آمنين، ولم يحدثوا توبة ورجوعا إلى الحق، فلم يبق إلا القتال. وقوله تعالى: (حيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ) يشمل الحل والحرم؛ لأنهم ممنوعون من المسجد الحرام، وهم مقاتلون، والله تعالى يقول: (. . . وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ. . .).
(وَخُذُوهُمْ) أي شدوا الوثاق، فقد أثخنتموهم، وغلبتم عليهم فلكم أن تأسروا منهم من تشاءون، (وَاحْصُرُوهُمْ) أي امنعوهم من التقلب في البلاد، وعن ابن عباس: أي امنعوهم من المسجد الحرام لَا يدخلوه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه قرر ألا يدخلوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا.
ثم قال تعالى: (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي في كل ممر، يعني اتخذوا القتل والتتبع المستمر لهم في كل ممر، وكل مرصد " ظرف " أي اقعدوا لهم في كل مكان مترصدين لهم، لَا ينجون منكم ما داموا على كفرهم، والله تعالى يفتح باب التوبة دائما، ولذا قال تعالى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) التوبة هنا ترك الشرك، وذكر الله التوبة، وذكر بعدها إقامة الصلاة؛ وإيتاء الزكاة؛ لأن هذا - يجعل الإيمان صادقا من غير نفاق وفيه خضوع لأوامر الله تعالى واتباع لأوامره، ونواهيه، ولأنه لابد للإيمان من شواهد. وقال في جواب الشرط (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي افتحوا الطريق أمامهم، ولا ترهقوهم بقتل ولا أسر، ولا منع من البيت، وعن ابن عباس: دعوهم وإتيان المسجد الحرام.
وختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رحِيمٌ) أي إن الله تعالى كثير المغفرة وكثير الرحمة، وقد أكد الله سبحانه وتعالى غفرانه ورحمته بـ " إنَّ " الدالة على التأكيد، وبالجملة الاسمية، وبصيغ الصفة المشبهة الدالة على الدوام والاستمرار لغفرانه ورحمته.(6/3231)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
لقد أرسل محمد - صلى الله تعالى عليه وسلم - داعيا إلى الحق وصراط مستقيم، ولم يرسل للقتال والغلب، وما كان القتال إلا لمنع الفتنة في الدين، وتأمين الدعوة، ولذلك فتح الباب للدعوة في كل الميادين، في الحرب وفي السلم، في العهد وفي نكث العهد على سواء، فأولئك الذين نكثوا عهودهم وأبيحت دماؤهم - يقتلون حيثما كانوا، وإذا جاء أحدهم يطلب جوار التجارة أو رسالة، أو لمجرد الأمان فإنه يجاب، ويكون في أمن المؤمنين، حتى يسمع كلام الله ويفهمه ويتدبره، ثم يبلغ مأمنه، ولذا قال سبحانه: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ) ولقد قال النحويون إن كلمة (أحد) فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعد (أحد)، ولأن (إنْ) لَا تدخل على الاسم، فيقدر لها فعل، ويكون نسق القول، وإن استجارك أحد من المشركين، وهنا يسأل السائل لِمَ قُدِم أحد، واحتجنا لسياق النحو إلى هذا التأويل؟ والجواب عن ذلك، أن الاهتمام لهذا الترك أولا لا للاستجارة في ذاتها؛ لأنه المقصود إذ هدايته مطلوبة أولا وبالذات، وليست الاستجارة هي المطلوبة، والاستجارة طلب الجوار بأن يعيش في أمن دولة، والجوار هذا أمان مؤقت حتى يسمع كلام الله ويتفهمه ويتعرف معنى الوحدانية، وبطلان الشرك، ويسمعه النبي - صلى الله عليه وسلم - تعاليم الإسلام من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأعمال الخير والوفاء بالعهد والتراحم وغير ذلك من مبادئ الإسلام، وكلام الله تعالى إما أن نفسره بالمعنى الخاص، وهو القرآن الكريم، وسماع تلاوته وتفهم معانيه ومراميه، وذلك خير في ذاته، وهو سجل الإسلام في كلياته، وإما أن نفسره بمعناه العام وهو الإسلام؛ لأن أوامر الإسلام ونواهيه كلها ترجع إلى كلام الله تعالى لأنها منه، وما كان محمد ينطق عن الهوى. . (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5).(6/3232)
وبعد أن يسمع كلام الله تعالى، إما أن يؤمن وذلك خير، ويكون من المؤمنين، وإما أن يستمر على ما هو عليه، وهنا سيتبين الخلق المحمدي الإسلامي بأمر الله، ولذا قال تعالى آمرا نبيه (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) والعطف بـ (ثم) هنا في موضعه إذ إن معناه أن يسمع ويتفهم ويتدبر ويعلم، ويعطي فرصة من الوقت يراجع نفسه فيها بين خير يرتجى، والبقاء على ما هو عليه، فإن اختار الخير، فقد اختار لنفسه، وإن اختار الأخرى فلا إكراه في الدين، والمأمن هو مكان الأمن له حيث داره وأهله، وقوله تعالى: (أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) معناه توصيله إلى حيث أمنه؛ بأن يصحبه أحد من المؤمنين حتى لَا يدركه أحد فيقتله بمقتضى قوله تعالى (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ).
وإن ذلك لتقريب المشركين وتأليف قلوبهم، فلا يقرب إلى الإيمان شيء إلا تأليف القلوب بالمودة والحسنى، وليتمكن كل مشرك من أن يتعلم الإسلام ومبادئه، فالنبي هاد، ولم يجئ بالحرب إلا لمنع الشر من أن يستشري ويفسد، ولذا قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ) الإشارة إلى الأمان وسماع القرآن سماع وعي وتدبر واتباع للأحسن، وكله حسن، بسبب أنهم جماعة جاهلة، والجاهل يُعَلَّم فلا يسأل عن جهله حتى يعُلَّم، والتعبير بـ (قوم) إشارة إلى أنهم جماعة جمعهم الجهل فكانوا كالقوم.
ولا شك أن هذا الجوار أمان مؤقت أعطاه الله تعالى نبيه عليه السلام باعتباره إمام المسلمين، فيُعطاه كل إمام من بعده، وقد أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - لكل واحد من المؤمنين، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعي بذمتهم أدناهم " (1)
أي إن أقل المؤمنين شأنا يستطيع أن يؤمَن من يشاء من المشركين، فكل بالغ عاقل ذكرا كان أو أنثى له أن يعقد عقد الأمان، والعبد له ذلك، وكان أبو حنيفة لا يجيز أمان العبد؛ لأنه يجوز عنده أن يؤسر شخص ويسلم فيؤمن من كان معه،
________
(1) سبق تخريجه.(6/3233)
ولكنه بلغه من بعد عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن عبدا أمَّن أهل حصن فأجاز أمانه، فكان من بعد ذلك يجيز أمان العبد إذا خرج للقتال مع مالكه، والله نعم المعين، ولقد روي عن سعيد بن جبير أنه جاء رجل من المشركين إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - فقال: " وإن أراد الرجل بعد انقضاء الأجل أن يأتي محمدا ليسمع كلامه أو يأتيه لحاجة قتل؛ قال: لَا؛ لأن الله تعالى يقول: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ).
قال تعالى في عهود المشركين:(6/3234)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
بين الله سبحاثه وتعالى في هذه الآية استبعاد أن يوفي المشركون بعهودهم، أو على الأقل بيّن أنه لَا يصح للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه أن ينتظروا الوفاء من المشركين؛ لأنهم خانوا الله ورسوله، ومن يخُن الله ورسوله فهو قد استمرأ النفاق، والنفاق والوفاء بالعهد نقيضان لَا يجتمعان، ومن أمارة المنافق أنه إذا وعد أخلف.
(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) الاستفهام للتعجب والاستنكار بمعنى النفي، فهذا إنكار للوقوع، أي كيف يتوقع عند الله ورسوله أن يفوا بعهدهم لهما، واذا كانوا كذلك فليس من المعقول أن يوفي الله تعالى لهم بعهد؛ لأن العهود توجب حقوقا وواجبات متبادلة، فمن توقع عدم الوفاء وتأكد له النكث في العهد، فليس عليه وفاء.
وقد نفَى الله بهذا أن يكون عند المشركين وفاء بعهد لله ولرسوله، وبالمثل لا يتوقعون الوفاء بعهد نكثوا فيه من جانبهم، ولكن كان من المعاهدين من المشركين من يتوقع الوفاء، فهؤلاء لَا يرد إليهم عهدهم، ولذلك استثناهم الله سبحانه وتعالى، وهو العادل في قوله وحكمه فقال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وهم عند ابن كثير أهل الحديبية، وقد وفَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى(6/3234)
نقضوا العهد فأعانوا بني بكر، وكانوا في حلفهم على خزاعة، وكانوا في حلف النبي - صلى الله عليه وسلم -، واستغاثوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فأغاثهم وفتح، ولكن يلاحظ أن وقائع العهود كانت بعد فتح مكة، ولذا يجب أن يكون هؤلاء غير أهل الحديبية، ويجب أن تكون عهودهم بعد الفتح، وقد ذكر الزمخشري أن منهم بني كنانة وبني ضمرة.
الاستثناء هنا في معنى المنقطع، لأنهم مغايرون للأولين الذين كان منهم النكث، ولذلك ذكر الزمخشري أن الاستثناء هنا بمعنى (لكن)، فهو استدراك وليس استثناء متصلا، وقد بين الله تعالى طريق معاملتهم فقال سبحانه وتعالى: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) و " ما " هنا شرطية دالة على دوام الاستقامة في الوفاء بالعهد إذا أقاموه على وجهه من غير خيسٍ (1) فيه، ولا نقض لأي جزء من أجزائه، (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فاقيموا العهد، والعهود كما قلنا حقوق وواجبات متبادلة.
وإن الوفاء بالعهد من التقوى، إذ هو يُرضي الله، ويقوي الأمة، وهو من أفضل الأخلاق، ولذا ختم الله تعالى الآية بقوله خالى: (إِنَّ اللَّهَ يحِبُّ الْمتَّقِينَ).
وهنا إشارة بيانية، وهي قوله تعالى: (كَيْفَ يَكُون لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ) فلماذا تكررت العندية مع أن ما يكون عهدا عند الله يكون عهدا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -. ونقول: إن تكرار العندية للإشارة إلى مقدار نكثهم للعهد، فهم نكثوا عهد الرسول، وتلك جريمة، ونكثوا عهد الله وهو العليم بذات الصدور، العليم بكل شيء.
________
(1) الخَيس: نقض العهد، وعَنْ أبي رَافِعٍ، قَالَ: بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي وَاللَّهِ لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ (جمع بريد، وهم الرسل)، وَلَكِنِ ارْجِعْ فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ». قَالَ: فَذَهَبْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْتُ قَالَ: بُكَيْرٌ وَأَخْبَرَنِي: «أَنَّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ قِبْطِيًّا ". رواه أبو داود: (2758)، َ وأحمد: باقي مسند الأنصار - حديث أبي رافع رضي الله عنه (5 2334).(6/3235)
ويقول تعالى في إثبات أنهم لَا يصدقون في عهد ما داموا ينكثون:(6/3236)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
(كيف) هنا للاستفهام الإنكاري مع التعجب، وهي داخلة على ما دخلت عليه (كيف) السابقة. أي كيف يكون للمشركين عهد عند الله ورسوله والحال أنهم (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً). . .
يقال ظهر عليه إذا غلبه وانتصر عليه، وظَهَر الحائط أعلاه، وكقوله تعالى في السَّد في سورة الكهف: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97).
و (الإل) يطلق بمعنى الحلف والعهد، ويطلق بمعنى الرحم والقرابة، ومعنى قوله تعالى: (وَإن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) بأن ينتصروا عليكم لَا يراعوا رحما ولا قرابة، ولا جامعة بينكم وبينهم، (وَلا ذِمَّةً)، أي عقدا تربطون به دينكم، فهم يرضونكم بأفواههم لَا بقلوبهم.
والمعنى الجملي، كيف يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله وحالهم أن ذلك عهد لكم وأنتم أقوياء غالبون ظاهرون عليهم، فإن يظهروا عليكم لَا يرقبوا فيكم رحما واصلة، ولا عهدا عاهدوه، فإن ذلك العهد كان لإرضائكم لَا للوفاء، وهم ينقضون ذلك العهد عند أول فرصة يفترصونها، ويحسون فيها القوة، ولا عهد لذليل، وهذا عهد الأذلاء يعقدونه للإرضاء لَا للوفاء، ولذا ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى، وتعالت كلماته (وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ) فما أعدل الله تعالى في كلماته، نسب الفسق وعدم انضباط النفس وانحلالها بحيث لَا تصبر على العهد - إلى أكثرهم لَا إلى كلهم، ولكن هذا أثر هو الغالب فيهم الذي أفسدهم وجعل فيهم رأيا عاما فاسدا، لَا وفاء فيه ولا إيمان بحق ولا بعهد.
ولقد وصف الله تعالى عهدهم بوصف يدل على أنه عهد لَا يبعث عليه إلا النفاق، فيقول عز من قائل: (يُرْضُونَكُم بِأفْوَاهِهِمْ وَتَأبَى قُلُوبُهُمْ) وهذا معنى(6/3236)
مصور لما انبعث به عهدهم، فهو عهد للإرضاء بالقول الذي ينقصه القلب ولا يؤيده، فهم يحاولون فيه الإرضاء بالأفواه فقط، وتأبى قلوبهم أي تمتنع عن الموافقة على ما تنطق ألسنتهم، وكيف يكون هذا عهدا عند الله علام الغيوب، وعند رسوله الذي يعرف قلوبهم من لحن القول، ولقد وصفهم تميم بن مقبل في شعره، فقال:
أفسد الناس خلوف خلفوا ... قطعوا الإل وأعراق الرحم
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وجدناهمو كاذبا إلُّهُم ... وذو الإل والعهد لَا يكذب
* * *
أوصاف المشركين في عهودهم
قال تعالى:
(اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
* * *
إن الصفة العامة في المشركين أنهم غرتهم الحياة الدنيا والأماني فيها، والأهواء ومتاع الحياة الدنيا، فكان الوصف العام أنهم اشتروا بآيات الله ثمنا(6/3237)
قليلًا، وآيات الله تعالى الدلائل الدالة على وحدانيته، إذ هو الذي خلق كل شيء بديع السماوات والأرض، وأنه الواحد الأحد الفرد الصمد، وأنه وحده الجدير بأن يعبد ولا معبود بحق سواه، وقد بعث الله تعالى محمدا رسولا، مبشرا ونذيرا، ومعه القرآن الحجة الكبرى القائمة إلى يوم القيامة، كانت هذه الآيات كونية ومتلوة تدعوهم للإيمان، وعدم الشرك، ولكنهم تركوها، ولم يلتفتوا إليها، واستبدلوا بها هواءهم، ومتعهم من سلطان غرَّهم، وذلك ثمن بخس قليل لَا يساوي شيئا بجوار ما تركوه من حق خالد.
وهذا معنى قوله تعالى:(6/3238)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
(اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا)، أي باعوها بثمن هو عرض من أعراض الدنيا وهو قليل بجوار الحقائق الخالدة التي فيها الصلاح في الدنيا والآخرة.
وقوله تعالى: (فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ)، أي إنهم بسبب اختيارهم ذلك الثمن القليل، وتركهم ذلك الحظ الوفير من الحق وسلامة الفكر، والهداية والرشاد، قد عدلوا عن الطريق، وصدوا أنفسهم عنه، وصرفوا غيرهم منه، فصدوا عن السبيل القويم والهدى المستقيم.
ولقد بين سبحانه وتعالى الحكم الصادق عليهم، فقال تعالت كلماته:
(إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) أي إنهم بهذا العمل الذي تركوا فيه الآيات التي تلوح بالحق وتبينه قد ساء فعلهم الذي استمروا عليه، وهو يتجدد آنًا بعد آنٍ فهو فعل مستمر. ونلاحظ هنا ثلاثة أمور.
أولها: أن قوله تعالى: (اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) فيه استعارة تمثيلية إذ شبه حالهم في تركهم الحق الواضح البين الذي يأتي بأطيب النتائج والثمرات، بمن يترك بضائع قيمة في مقابل ثمن بخس لَا يجدي ولا يغني.
ثانيها: بيان أن ترك الوفاء بالعهد لاتباع الهوى والخيانة وهو خسارة لا كسب فيها.(6/3238)
ثالثها: أن قوله تعالى: (سَاءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ) فيه معنى التعجب، أي ما أسوأ ما كانوا يعملون، وأن الفعل المضارع يدل على تجدد حالهم الفاسدة، و (كَانُوا) دالة على دوام هذه الحال فيهم.
ثمِ بين سبحانه حالا عامة مستمرة فيهم فقال تعالى:(6/3239)
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
(لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
وهنا نجد النص السامي التفت من الخطاب إلى الغيبة؛ إذ كان في الآيات (لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً)، وهذا النص السامي (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً) وذلك الوصف يؤذن بالعلة، أي أن السبب في أنهم لَا يرعون رحما، ولا عهدا، هو الإيمان، فالإيمان الحق والإذعان لله تعالى وتوحيده هو السبب في أنهم لَا يراعون فيكم رحما واصلة، ولا مودة راحمة، ولا عهدا يعاهدونكم فيه، إنه إيمانكم هو الذي صرفهم إلى النكث في العهود.
وإنه إذا كان الحق هو الذي جعلهم ينكثون في عهودهم (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ).
الإشارة في (أولئك) إلى أوصافهم في أنهم لَا يراعون قرابة ولا عهدا، يقطعون القرابة وينقضون الميثاق، والإشارة إلى هذه الأوصاف تومئ إلى أنها علة الحكم، وهو الحكم عليهم بالاعتداء، فقد اعتدوا على الحق في ذاته، واعتدوا على القرابة التي لم يراعوها حق رعايتها، ونكثوا في أيمانهم، وذلك أعظم اعتداء.
وقوله تعالى: (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) فيه تأكيد الاعتداء من وجوه:
أولها - في التعبير بالإشارة المتضمن لصفاتهم التي هي سبب الحكم.
ثانيها - ضمير الفصل الذي يؤكد الحكم.
ثالثها - القصر بالحكم بأنهم المعتدون وحدهم؛ لأن تعريف الطرفين يدل على الاختصاص، أي أنهم اختصوا بالاعتداء، وليس بمعتد عليهم من لَا يأخذ بعهدهم.(6/3239)
ومع هذا الاعتداء فإن باب التوبة مفتوح لم يغلق، ولذا قال تعالى:(6/3240)
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
(فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
(الفاء) هنا لترتيب نسق القرآن. وقوله تعالى: (فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) وقد قرن إقامة الصلاة وأداء الزكاة؛ لأنها أمارات الإيمان العملية، ولكي يخرج الكافر مما كان عليه لَا بد من مظهر عملي دال على الخروج مما كان عليه، فإنه كان يسجد للأوثان، ويتصدق على سدنتها، فكان حقا أن يكون منه نقيض ذلك بأن يسجد لله، قام الصلاة، وأن يتصدق على الفقراء، ولذلك اشترط أبو حنيفة للإيمان ألا يكون منه ما يدل على بقائه على دينه الجديد.
فكانت إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة دليلا على انخلاعه من دينه القديم، وأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تثبت الإيمان، وبيان الإذعان الكامل لما أمر الله تعالى به، ونهى عنه.
وعندما كانت الردة عقب انتقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى كان أبو بكر لا يقبل من المرتدين مجرد التوبة والإنابة إلى الله تعالى، لَا يقبل التوبة إلا إذا كان معها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وكان منهم من أقام الصلاة، ولم يعط الزكاة، فلم يقبل منهم أبو بكر واعتبرهم لَا يزالون على ردتهم، وذلك أولا: لأنه قرن كل توبة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وثانيا لأن إعطاء الزكاة أمارة الخضوع للدولة الإسلامية، وعدم التمرد عليها، ولذا قال رضي الله عنه ردا على من لم يعط الزكاة " سلم مخزية أو حرب مجلية ". وذلك حق لكي تقوم الدولة الإسلامية موطدة الأركان ثابتة الدعائم غير مضطربة ولا مزلزلة، وجواب الشرط (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ) هو قوله تعالى: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) أي فقد دخلوا في الإسلام، وصاروا إخوانكم، وعبَر بقوله تعالى: (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) للإشارة إلى أنهم دخلوا في الأخوة الإسلامية، وهي عهد الله الجامع الذي لَا تفرق فيه، ولا تتجافى القلوب بل تتواد وتتراحم بعرى الإيمان الوثيقة.(6/3240)
ولقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من فرق بين ثلاث فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة: من قال: أطيع الله ولا أطيع الرسول، والله تعالى يقول:
(. . . أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. . .)، ومن أقام الصلاة ولم يؤد الزكاة والله تعالى يقول: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ. . .) ومن فرق بين شكر الله وشكر والديه والله تعالى يقول: (. . . أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ. . .) ألقمان، (1).
وعن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته لَا يشرك به شيئا، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة فارقها والله عنه راضٍ، وهو دين الله الذي جاءت به الرسل، وبلغوه عن ربهم " (2).
وقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ)، أي نبين آيات الله لقوم يعلمون، أي من شأنهم أن يعلموا الحقائق، ويدركوا مراميها وغاياتها.
وبعد أن بين الله سبحانه حال الذين ينخلعون من عبادة الأوثان، ويتوبون لله ويرجعون إليه ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، بين ما يعامل به الذين يستمرون في غيهم، وينقضون عهودهم ويطعنون في الدين وما يعاملون به، فقال تعالى:
________
(1) ورد في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ العَرَبِ، قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ، إِلَّا بِحَقِّهِ [ص:94] وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ "، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ المَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عِقَالًا كَانُوا يُؤَدُّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: «فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الحَقُّ ". رواه البخاري: الزكاة - وجوب الزكاة (1400)، ومسلم: الأيمان - الأمر بقتال الناس حتى يقولوا (20).
وروى الترمذي: البيوع - ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين، أو بين الوالدة وولدها (1283)، كما رواه أحمد والدارمي.
(2) رواه ابن ماجه في سننه: المقدمة - في الأيمان (70).(6/3241)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
(وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
النكث: النقض للشيء المفتول بفكه بعد أن أحكم فتله، وقوله:
(أَيْمَانَهُمْ) أي عهودهم، وذكرت الأيمان وهي جمع يمين بدل العهود؛ لأنها تقوى وتوثق بالأيمان، ولأن نقض يمين أشد شناعة وأدل على انحلال النفس والذمة، وبُعد الثقة فيهم، وقال تعالى: (مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) الذي عاهدوه ووثقوه بأيمان الله. ولم يكتفوا بنكث الأيمان ونقض العهود، بل طعنوا في دينكم وبسب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالطعن في عقيدة التوحيد التي هي من الدين.
وإن موضوع الآية فيه تخريجان أحدهما: أن موضوعها الذين دخلوا في الإسلام، وارتدوا ونقضوا أيمانهم. ويقول الزمخشري في ذلك: صاروا إخوانا في الدين ثم رجعوا فارتدوا عنه ونكثوا ما بايعوا عليه من الأيمان، والوفاء بالعهود وقعدوا يطعنون في دين الله ويقولون ليس دين محمد بشيء فهم أئمة الكفر وذوو الرياسة والتقدير فيه.
وعلى ذلك يكون الذين نكثوا هم الذين كانوا قد أعلنوا التوبة ثم ارتدوا بعد إسلام.
وإنا نرى أن هؤلاء غير الذين تابوا وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وكانوا إخوانا للمؤمنين، وإنما موضوع الآية قوم آخرون نكثوا عهودهم التي وثقوها بالأيمان، ولم يكتفوا بذلك، بل أخذوا يطعنون في الدين، ويفترون عليه الافتراءات المختلفة.
وإن هؤلاء يقاتلون، ولذا قال تعالى: (فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) وأظهر في موضع الإضمار، ولم يقل فقاتلوهم، وكان ذلك الإظهار لبيان أن هؤلاء أئمة الكفر وقادته ودعاته، والمحاربون للدعوة الإسلامية، وإن ذلك يسوغ قتالهم لمنعهم من أن يفتنوا المؤمنين في دينهم.(6/3242)
وبين سبحانه وتعالى السبب في قتالهم فقال: (إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ)، أي إنهم لَا عهود لهم، ولو وثقوا بالأيمان فلا أيمان لهم، وقرئ بكسر الهمزة (لا إيمان لهم) (1)، أي أن نفوسهم منحلة لَا يجزمون بشيء ولا يذعنون لشيء، لا بعهد قطعوه على أنفسهم، ولا غيره، بل هم جائرون بائرون ليس عندهم شرف الوفاء العربي، والاحتفاظ بالكلمة.
ثم قال تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ) أي رجاء أن ينتهوا عن غيهم، ويقمعهم إرهاب السيف، ومن لم تقنعه الحجة والبرهان والآيات تتلوها الآيات، فالحديد فيه باس شديد ومنافع للناس.
هذا وقد استنبط الفقهاء من هذه الآية بأن الذمي أو الحربي إذا طعن في الإسلام يقتل، فليعتبِر الذين حماهم الإسلام من ذل الرومان، وقد دأبوا على الطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقرآن والإسلام حتى صار الإسلام غريبا في بلاده، اللهم هب للمسلمين حاكما ينفذ القرآن، وقد كان الصحابة يقتلون من يسب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو بالتعريض.
يروى في ذلك أن رجلا في مجلس على كرم الله وجهه قال: ما قتل كعب ابن الأشرف إلا غدرا، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بقتله فأمر عليا بضرب عنق قائل ذلك القول.
وقاله آخر في مجلس معاوية فما فعل شيئا، فقام محمد بن مسلمة فقال:
أيقال هذا في مجلسك وتسكت!!، والله لَا أساكنك تحت سقف أبدا.
ولا عجب، فعلي فارس الإسلام، وقامع الكفر، ومعاوية الطليق ابن الطليق، وقد ابتدأت غربة الإسلام في عهده، اللهم أعز الإسلام وآوه بعد غربته.
* * *
________
(1) قراءة (لا إيمان) بكر الهمزة، أول موضع للقراءات المتواترة في سورة التوبة، وبها قرأ ابن عامر، وقرأ الباقون: (لا أيمان) بفتح الهمزة. غاية الاختصار في قراه ات العشرة أئمة الأنصار - الهمذانى العطار - تحقيق الدكتور أشرف محمد فؤاد طلعت - مكتبة التوعية الاسلامية [ج 2، ص 507، برقم (974)].(6/3243)
قتال المشرك عبادة
قال تعالى:
(أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
* * *
هذه الآيات الكريمة تحريض على قتال المشركين الذين لم يوفوا بعهودهم، وآذوا النبي وأصحابه بمكة وأرادوا إخراج الرسول، وبدءوهم بالقتال.
فقال تعالى:(6/3244)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
(أَلا تُقَاتِلُونَ) و (ألا) أداة تحريض، وأصلها همزة الاستفهام دخلت على (لا) النافية، والاستفهام إنكاري بمعنى نفي الواقع، فالمعنى قاتلوا قوما كانت منهم هذه الأفعال، قال الزمخشري في معنى (ألا) دخلت الهمزة على (لا تقاتلون) تقريرا بانتفاء المقاتلة، ومعناه: الحض عليها على سبيل المبالغة.
وقد بين الله تعالى أسباب الحض على القتال من أعمال المشركين الذين قاموا بها، فذكر هذه الأعمال على أنها مبررة لوجوب القتال، ووبخهم على السكوت مع هذه الأعمال، وهي النكث في العهد فقال: (أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ) نقضوا عهودهم، ويشير سبحانه إلى نقضهم معاهدة الحديبية، فقد نقضوها بمعاونة بني بكر الذين كانوا في عهدهم مع خزاعة الذين كانوا في حلف(6/3244)
النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكان ذلك نقضا للعهد، ونقض العهود مفسد للعلاقات، وقاطع للمودة التي أنشاها العهد، ومن ينقض العهد لَا حرمة له بهذا العهد، ومن يرضى بأن ينقض عهده في حليفه، فهو يرضى بالذلة ولا يرضى بالمذلة عزيز كريم.
وهموا بإِخراج الرسول فهم في مكة آذوا المسلمين وعذبوا الضعفاء، وسخروا من الشرفاء، حتى خرجوا مهاجرين إلى الحبشة مرتين، وقد كان هذا الإيذاء المتوالي إخراجا للمؤمنين، ولقد قال تعالى: (. . . يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإيَّاكمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبكمْ. . .)، وإن هذا الاستفزاز الشديد الذي لقيه النبي وأصحابه كان لإخراجهم من مكة، كما قال تعالى: (وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا. . .). ثم كانت إرادة الخروج واضحة على أنها إحدى الخصال التي عرضوها في ندوتهم إذ يقول الله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30).
والحال الثالثة التي كانوا عليها وكانت، أنهم الذين بدأوا أول مرة، أي بدءوا بالمنابذة والمحاربة أول مرة من الاعتداء، ولم يذكر أنهم بدءوا بالقتال؛ لأنهم بدءوا العداوة التي كان القتال من صورها. لقد ابتدءوا بالعداوة عندما جاءهم الرسول بالقرآن نور الله تعالى وبرهانه، فبدل أن يجادلوه بالتي هي أحسن صدوه، وآذوه، وفتنوا المؤمنين في دينهم، والفتنة أشد من القتل، ثم أغروا به سفهاءهم، وحالوا بينه وبين الدعوة، وبين إقامة دولة إسلامية، وبدأوا بالقتال في غزوة بدر الكبرى، فبعد أن نجا عيرهم صمموا على القتال، وأن يجيئوا إلى بدر بالخمور والقيان، والقتال.
ثم هم الذين بدأوا بالقتال ونقضوا صلح الحديبية بإِعانتهم لبني بكر على خزاعة وقتلهم في البيت الحرام، كان منهم كل هذا: نكث للعهد، وإيذاء شديد في الماضي وفتنة، وقتال ابتدأوه في عدة مرات، فهل يسكتون عليهم ألا يقاتلونهم، ثم حرضهم الله تعالى أبلغ تحريض، فقال (أَتَخْشَوْنَهُمْ) أي أيمنعكم(6/3245)
من قتالهم أنكم تخشونهم، أي تخافونهم فزعين من قتالهم. (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) والله أحق أن تخافوه وتفزعوا من غضبه، (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) أي إن كان الإيمان شانا من شئونكم، وصفة من صفاتكم، فإن المؤمن لا يخشى إلا الله، ولا يقدر في أموره كلها إلا رضا الله والخوف من غضبه وعذابه.
وقد صرح سبحانه وتعالى من بعد ذلك التحريض الذي يثير الهمم، ويثبت أن قتالهم حق على كل مؤمن - بالأمر بالقتال وذلك بعد أن بين أنه حق كامل.
(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
بعد أن بين الله تعالى بواعث القتال من نكث العهد، وإخراج النبي والمؤمنين، وبدئهم بالفتنة، والفتنة أشد من القتل، وبدئهم بالقتال، إذ هاجموا في بدر من غير ضرورة تلجئهم، ولا حاجة تدفعهم إلا أن تكون كراهة لدينكم، وبدئهم بمعاونة بني بكر على خزاعة.
بعد هذا بين ثمرات القتال: فقال تعالت كلماته:(6/3246)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)
(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُم اللَّهُ بِأيْدِيكُمْ) وذلك بالإثخان فيهم، وصرح بقوله بايديكم، أي أنها عذاب لهم تتولونه أنتم، فقوله (بأيديكم) يراد بأنفسكم، وهذا مجاز مرسل علاقته الجزئية، وعبر بالأيدي لأنها هي التي بها البطش، وهي التي تحمل السيوف والرماح والنبال.
وكان العذاب في الدنيا بايدى أهل الحق لردع أهل الباطل، وكسر شوكته، ولكيلا يستشري الشر، وتستعلى الرذائل وتنخفض الفضائل (. . . وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا. . .)، لهذا كان لَا بد من عذاب الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
(وَيُخْزِهِمْ) بالأسر، والتتبع في الأرض، وذهاب سطوتهم وقوتهم، وانخلاع العرب من ربقتهم، وذهاب سلطانهم المادي والأدبي.(6/3246)
(وَيَنصُرْكمْ عَلَيْهِمْ)، فإن النصر بيد الله، (. . . وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)، ونصرة العبد لله بإطاعة أوامره، ومنها الأمر بالقتال، وجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة الكفر هي السفلى، ولا يكون النصر من الله إلا إذا اتخذت أسبابه من العبد واحتسب النية.
(وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ). ذلك أن قلوب المؤمنين إذا رأت الكفر ناتئ الرأس، ولم يكن من يقمعه، ويرد كيده في نحره عراها الشك أو التردد، أو محاولة تَعَرُّف الحكمة في إهمال الكفر، وتركه في عنفوانه وإيذائه، فإذا نصر الله المؤمنين شفيت صدور قوم مؤمنين، وخرج ذلك التردد، وذهبت عنها تلك الحيرة، فالله - بقتال المؤمنين لأهل الكفر - يشف تلك الصدور المؤمنة من تلك الحيرة الممضة التي قد تثير الريب، ومن ذلك الحزن والموجدة، وفيه إشارة إلى الوعد بالفتح.(6/3247)
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
(وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ... (15)
الضمير في قوله غيظ قلوبهم يعود إلى الذين تحتاج صدورهم إلى شفاء بنصر مؤزر يدفع الباطل ويزهقه، ويرفع الحق ويعليه، والغيظ انفعال النفس بالألم من رؤية الباطل عاليا والحق مستكينا أو مستخذيا، فماذا انتصر الحق وعلا، ذهب ذلك الغيظ، واستقامت النفس على سواء الصراط، وارتاحت الضمائر المؤمنة.
وعبر الله في الغيظ بقوله تعالى: (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) لأن الغيظ ليس داءً، ولكنه حال عارضة - من أمر قابل للزوال، والنصر يزيله وفيه إشارة إلى حصول الوعد.
أما التردد والحيرة، وبوادر الشك، فأمراض تلازم النفوس المريضة فعبر عن زوالها بالشفاء؛ لأنها أمراض الإيمان، والله هو الذي يشفيها، ويودعها الاطمئنان.
وإن الحرب التي تختبر فيها النفوس، ويذهب فيها غرور الذين يغترون بأصنامهم، ويحسبون أنها تنصرهم في الشديدة وتغيثهم في الكريهة من شأنها أن تجعل النفوس تفكر فيما هي عليه، وفيما عليه الذين يحاربونها، فيعرفون الغث(6/3247)
من السمين، والحق من الباطل، ويتعرفون ما عليه آلهتهم التي يزعمونها، وما نصر به الإله الحق أولياءه المؤمنين فيهتدون بعد ضلالة، ولذا قال الله إن من آثار الحرب التي يدك فيها الشر أن يتوب الله على من يشاء من عباده، فقال تعالى: (وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ) أي أنهم يحسون بقوة الحق، وضعف ما هم عليه من كفر، وضلال في الأوثان فيتوبون أي يرجعون إلى الله بعد أن بعدوا عن الإيمان، والآية تشير إلى أن هذه التوبة فيض من الله عليهم وصلوا إليها بعد أن ذهب غرورهم بما هم عليه من عبادة الأصنام.
وختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يعلم النفوس وما يهديها، وما يوجهها، إلى الحق، حكيم يضع الأمور في مواضعها، وبدبرها بحكمته، وهو العزيز الحكيم.
* * *
قال الله تعالى:
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
* * *
قوله تعالى:(6/3248)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُو).
(أم) هنا للإضراب الانتقالي من باب في الجهاد وتحريض عليه إلى باب الاختبار بالجهاد وتمحيص المخلصين من غير المخلصين، والهمزة في " أم "(6/3248)
للاستفهام التوبيخي على حسبانهم وظنهم أنهم يتركون من غير تمحيص، واختبار وكشف المجاهدين من غيرهم، ومثل ذلك قوله تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)، وقوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)، وكقوله تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ. . .).
وقوله تعالى: (وَلَمَّا يَعْلَم اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ) (لما) للنفي في الحاضر مع توقع الوقوع في القابل، ونفي العلم هو نفي المعلوم؛ لأن اللَّه عليم بكل شيء بما كان، وما يكون، والمراد نفي العلم بالجهاد واقعا، وإن كان متوقعا، كما قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَم اللَّهُ الَذين جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ).
وإن الجهاد جهادان: جهاد بلقاء الأعداء، واشتجار السيوف، وجهاد آخر بتنقية الصفوف من الأعداء والدُّخول ومنع الولاية لغير المؤمنين، ولذلك عطف (الَّذِينَ جَاهَدُوا)، وهو وصف آخر بقوله: (لَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) الولج الحاشية البطانة، أي جاهدوا ولم يتخذوا من الله والرسول والمؤمنين وليجة أي بطانة يسرون إليهم بالمودة، وتكرار لَا لتأكيد البعد عن أن يتخذوا من غير هؤلاء بطانة لهم.
و (وليجة) من ولج بمعنى دخل، ومعنى وليجة: دخيلة مودة وبطانة من دون الله، وهم يحادون الله ورسوله والله تعالى يقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ. . .). ولقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا(6/3249)
بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ. . .).
وقد ضعف شأن المسلمين من وقت أن اتخذ ملوك بني أمية ومن جاء بعدهم من اليهود والنصارى بطانة كانت تدس بين المؤمنين، وتثير الفتن، بينهم حتى أدخلوا في الدين ما ليس منه.
ولقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ) أي إن الله عليم علما دقيقا بما تعملون من ظواهر أيمانكم وبواطنها.
ولقد حرم الله تعالى على المشركين أن يدخلوا المسجد الحرام من بعد العام التاسع، وربما كان منهم من يدعي أنه يعمر المسجد الحرام فنهى عن ذلك أيضا، وقال تعالى:(6/3250)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
(مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
(مَا كَانً لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) أي ما ساغ وما استقام للمشركين أن يعمروا مساجد الله، وعمارة المساجد بإقامة الشعائر فيها، وتشييد بنيانها، وهنا قراءتان قراءة " مسجد " الله تعالى وهو البيت الحرام؛ لأنه أول بيت بني للعبادة وهو أعظم المساجد، وإذا ذكر المطلق انصرف إلى الفرد الأعظم، وبيت الله الحرام هو الفرد الأعظم في المساجد، وهناك قراءة أخرى بالجمع " مساجد الله " وهي قراءة حفص، وبها قرئت (مساجد)، وتخرج على أن المراد المسجد الحرام، والجمع؛ لأن كل بقعة منه مسجد ولأنه إمام المساجد، فهو قبلة المسلمين، وكل مسجد له تابع. أو يراد جنس المساجد كما تقول: فلان لَا يقرأ الكتب تريد جنس الكتب لَا تريد واحدا بعينه، وإنه ليس للمشركين عمارة المساجد؛ لأن عمارة المساجد إقامة الشعائر فيها كما ذكرنا وعمارتها بعبادة الله وحده، وليس من عبادتها إحاطتها بالأصنام، والطواف عراة، وغير ذلك من المحدثات التي ليست من العبادة في شيء.(6/3250)
وقوى الله سبحانه وتعالى نفي أن يعمروا المساجد بقوله تعالت كلماته (شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ) أي حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر أي بعبادة الأصنام وهو كفر لَا ريب، فإن هذه الحال مناقضة تمام المناقضة للعمارة الحقة للمساجد بأن يعبدوا الله حق عبادته، ولا يشركوا به شيئا، وقد بين الزمخشري هذه الناقضة فضل بيان فقال: غفر الله تعالى له: " ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متناقضين عمارة متعبدات الله تعالى مع الكفر بالله تعالى وبعبادته، ومعنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر ظهور كفرهم، وأنهم نصبوا أصنامهم حول البيت، وكانوا يطوفون عراة ويقولون: لَا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا بها شوطا سجدوا للأصنام ".
وإنه لما التقى الأسرى من قريش بالمهاجرين أخذ هؤلاء يعيرونهم بأنهم قطعوا الرحم، فقال علي كرم الله وجهه لعمه العباس يعاتبه لقتال ابن أخيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقطيعة الرحم، وأغلظ في القول فقال العباس: " تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا، فقال علي: ألكم محاسن؟ قال نعم: إنا لنعمر المسجد، ونحجب الكعبة، ونسقي الحجاج ونفك المعاني.
وقيل إن هذا سبب نزول هذه الآية، وفي الحق إنه كان في الجاهلية بعض أعمال ولكن يذهب بها كلها الشرك، فمن يعمل ابتغاء مرضاة الله الواحد غير مفاخر، ولا معتز بعصبية يكون عمله لله ولا يكون مشركا أحدا بالله في عبادة قط، ومن يعمل مفاخرا معتزا بعصبيته، غير معتز بالله، فعمله في هباء، ولذلك قال تعالى: (أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ)، الإشارة إليهم متصفين بالكفر البادي من كل أعمالهم من عبادة الأصنام، والطواف عراة، وما يكون من أعمالهم فيه بعض النفع خلطوا به نية المفاخرة، والعصبية الجاهلية، والإشارة إلى الصفات تفيد سبب الحكم، وهو حبوط أعمالهم ودخولهم النار، وحبوط الأعمال بطلانها وعدم إنتاج ثمرتها، والحبوط يفيد البطلان الذي يكون ناشئا من ذات العمل، فبطلان أعمالهم ناشئ من ذاتها؛ لأنها لَا تصحبها النية الطيبة المؤمنة بالله تعالى (وَفِي النَّارِ هُمْ(6/3251)
خَالدُونَ) قدم الجار والمجرور (في النار) لاختصاصهم بالنار لَا يدخلون غيرها وتأكد ذلك الحكم بضمير الفصل (هم).
هذا وإن المساجد كما أشار الله سبحانه وتعالى بيوت الله، ولا تعمر إلا بالعبادة الخالصة لله. وهي مأوى المؤمن في الدنيا، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه معاذ ابن جبل رضي الله عنه " إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة والعامة والمسجد(6/3252)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
(إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمٍ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِين) (1).
(إنما) للحصر، فهي أداة من أدوات القصر، والمعنى: " لا يعمر مساجد الله إلا من آمن بالله. . . " والعمارة كما ذكرنا بالعبادة فيها حق العبادة، بأن يعبد الله وحده لَا شريك، وأن يقوم بترميم وإصلاح ما وهي منه، وإذا كان المشركون يفعلون ذلك فإنهم بإشراكهم يبطلون ما صنعوا، وإن العمارة للمساجد نوعان أحدهما: معنوي، وهي عمارتها بالعبادة وإقامة شعائر الدين، والثاني: مادي، وهي ترميم ما يحتاج الترميم وتنظيفها وإضاءتها بالمصابيح، وغيرها مما يتصل ببنائها، وإنه لَا يفعل الأمرين إلا الموحدون الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويغشونها لإقامة الدين وجمع المسلمين وسماع القرآن الكريم، ومواعظ رب العالمين، وهدْي الرسول الأمين.
ويلاحظ أنه ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، فالإيمان بالله الواحد الأحد هو الدين أو لبه، والإيمان باليوم الآخر هو فيصل الإذعان والتمرد، وفيصل الإيمان بالغيب والجحود به؛ إذ لَا يكفر به إلا من لَا يؤمن إلا بالمحسوس.
________
(1) رواه أحمد: مسند الأنصار - حديث معاذ بن جبل. رضي الله عنهم (21524).(6/3252)
وقد يسأل سائل: لماذا لم يذكر الرسول والإيمان به؟ والجواب عن ذلك أن الإيمان بالله يوجب أن يؤمن بالرسالة الإلهية، فالإيمان بالله يستلزم لَا محالة الإيمان بالرسول الذي بعث رحمة للعالمين، ولأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هي التي جاء بها الرسول الكريم، وهو الذي علمه الرسول، فالعمل بها يتضمن لا محالة الإيمان بالرسول، فهذا عمل يتضمن علما؛ ولأن الإيمان بالله يقترن به دائما الإيمان بالرسول فكان الإيمان بالرسول معلوما من غير إعلام، وبينا من غير بيان.
وقوله تعالى: (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) ومعنى الخشية الخوت المقترن بالخضوع والخشوع، فمعنى قوله تعالى: (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) أي لم يخش خوت خضوع وتذلل ومحبة إلا الله، فلا يخاف غيره من رئيس يرهب، أو صنم يعبد ولا يذل لكبير، ولا لصنم، ولا يخضع لأحد غير الله.
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف قيل (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ) والمؤمن يخشى المحاذير لَا يتمالك ألا يخشاها. قلت: الخشية والتقوى في أبواب الدين، وألا يختار على رضا الله رضا غيره لتوقع مخوف، وإذا اعترضه أمران أحدهما حق الله، والآخر حق نفسه فيؤثر حق الله على حق نفسه، وقيل كانوا يخشون الأصنام ويرجونها وأريد نفي ذلك.
قوله تعالى: (فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، و (أولئك) إشارة إلى صفات هؤلاء من إيمان بالله واليوم الآخر، وإقامة الصلاة وإيتاء للزكاة، وألا يخشوا إلا الله، والإشارة إلى الصفات إيماء إلى أن هذه الصفات هي السبب في رجاء الهداية.
ومؤدى ذلك أولا: أن المشركين ليس لهم أن يكونوا من المهتدين؛ لأنهم لم يؤمنوا بالله ولا باليوم الآخر، ولا يخشون غير الله، ولا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة.(6/3253)
والرجاء من هؤلاء المؤمنين لأنهم قدموا ما يسوغ هذا الرجاء، وذكر الرجاء لمنع الاغترار، فإن الاغترار قد يدلي بالغرور، فيفسد التقرب، ولقد قال بعض الصوفية: إن معصية أورثت ذلا وانكسارا خير من طاعة أورثت دلا وافتخارا.
وإن الآية تشير إلى فضل عمارة المساجد بالعبادة، وتنظيفها من الأوساخ الحسية والمعنوية بالمنع من لغو الحديث فيها، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - " يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا، ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، لا تجالسوهم، فليس لله بهم حاجة " (1) وقال عليه الصلاة والسلام: " الحديث في المساجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش " (2)، وقال عليه السلام في حديث قدسي عن ربه: " إن بيوتي في أرضي المساجد، وإن زواري فيها عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي، فحق على المزور أن يكرم زائره " (3)، وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: " من ألف المسجد فقد ألف الله " (4)، وقال عليه الصلاة والسلام: " إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان " (5)، وعن أنس رضي عنه: من أسرج - في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه.
________
(1) رواه الطبراني في الكبير، وفيه: بزيغ أبو الخليل، ونسب إلى الوضع. كما في مجمع الزوائد (402).
(2) ذكره أهل التفسير، منهم الرازي، وأبو السعود، والآلوسي، والزمخشري، دون إسناد.
(3) رواه الطباني عن ابن مسعود ".
(4) رواه الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. كنزالعمال: ج 10 - ص 1488، وذكره المنذرى في الترغيب والترهيب: ج 1 - ص 137 برقم (498)، وضعَّفه بابن لهيعة.
(5) رواه ابن ماجه: المساجد والجماعات - لزوم المساجد وانتظار الصلاة (802)، والدارمي: الصلاة - المحافظة على الصلوات (1223)، كما رواه الترمذي: الأيمان (2617) بلفظ (يتعاهد)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (27308) بلفظ " المسجد ".(6/3254)
وقد نقلنا هذه الأخبار في آداب المسجد، وعمارته ونظافته وإضاءته من الكشاف للزمخشري، وهي تدل على أمرين: أولهما: أن عمارة المسجد تكون أولا بالعبادة فيه، وبعده عن لغو الحديث، وثانيهما: العناية به وبإسراجه.
* * *
فضل الإيمان والجهاد
قال تعالى:
(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
* * *
كان المشركون بمكة يفاخرون دائما بأنهم سدنة البيت الحرام يسقون حجيجه، ويعمرونه بالتنظيف والتشييد، والقيام على شئونه وما يحتاج إليه من عمارة، وهم أهل جواره الذين يستقبلون الناس ويتطاولون على الناس بهذه المكانة، حتى إنه ليروى أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه كان يقول قبل إسلامه أو قبل أن يظهر إسلامه لابن أخيه علي بن أبي طالب: تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا، كنا نسقى الحجيج ونعمر البيت، ونطعم الطعام، ونأوي المعاني. بل إنه(6/3255)
يروى أن بعضهم قال لليهود الذين كانوا يمالئونهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -: أينا خير أنحن الذين نقوم بالسقاية والسدانة، ونطعم الطعام، أم محمد؛ فيقول لهم اليهود الذين لم يجر على ألسنتهم قول الحق قط: أنتم.
يقول الله تعالى موبخًا مستنكرا(6/3256)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
(أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) والمعنى أصيرتم سقاية الحاج، أي جنس الحاج وهم الحجيج، وعمارة المسجد الحرام، أي تنظيفه والقيام على بنائه وتشييده، كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله.
وقال أكثر المفسرين: إن في الكلام تقديزا لمحذوف تقديره: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، وقالوا إنه يدل عليه قراءة (سُقَاة) (1) بضم السين وهي جمع ساق، ويكون المعنى على هذه القراءة: أصيرتم سقاة الحجيج، وأهل عمارة البيت الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر، وجاهد في سبيل الله تعالى، والاستفهام إنكاري توبيخي متضمن النفي وأن ما صنعوا لَا ينبغي لأهل العقول المدركة، والآيات تتلى عليهم بالحق المبين ليتدبروه فينكصون عنه، ويسمرون بهجر القول، ويتفاخرون بشعر العرب، كما قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)، أي يهجرون القرآن، وكانوا يسمرون بالأساطير والخرافات وَيهجرون القرآن هجرا.
وقد أجاب سبحانه وتعالى عن الاستفهام التوبيخي مبينا الحق (لا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ) فمقامهم عند الله مختلف مقام الجاهد المؤمن بالله واليوم الآخر، مقام عال، لَا يناصى، ومقام المشرك الذي يكتفي من الشرف بالسقاية والعمارة المادية، ويظن ذلك مقربا إليه زلفى، وهو يشرك بالله في عبادته الأنداد. إنهم تركوا الجوهر وناقضوه، وأخذوا بمظهر باطل لَا يغني عن الحق شيئا.
________
(1) ليست في العشر المتواترة.(6/3256)
وقد بين جزاء الأعلياء المفضلين من بعد، وبين هنا ضلال المشركين، فقال تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) والظالمون هم المشركون، وقد سمى الله الشرك ظلم، لأن المشرك ظلم الحق فعبد أوثانا لَا تضر، وظلم العقل المدرك فطمسه، وظلم نفسه فتردى بها في مهاوي الضلال، وطمس الحق، وإن اللَّه لا يهدي الذين أركسوا أنفسهم في هذا، لأنهم لم يسلكوا نجد الحق والعقل والإدراك السليم.
وهنا إشارة بيانية، وهي أن سياق الآية في ظاهره من غير تقدير جعل المناظرة بين سقاية الحاج وعمارة البيت الحرام ومن آمن. . . والمعنى إيمان من آمن، ولكنه ذكر من آمن. . . وذلك لبيان الإيمان قائما في أصحابه محسوسا مرئيا، لأنه تزكية ظاهرة، ودعوة عملية إليه كقوله تعالى: (. . . وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ. . .)، إلى أخر آية البر.
وبعد أن بين الله تعالى أن الظالمين بسبب ما سلكوا يستمرون في غيهم يعمهون، بين جزاء الهداة الذين جاهدوا بعد أن آمنوا وهاجروا.(6/3257)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
(الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
هذا النص الكريم، هو الحكم الذي أصدره الله تعالى في قضية الموازنة بين الإيمان والجهاد وبين سقاية الحاج، وعمارة البيت، فقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ).
ذكرهم سبحانه وتعالى بأنهم أعظم درجة، وأفعل التفضيل ليس على بابه؛ لأنه إذا كان على بابه يكون مؤداه أن الذين اكتفوا بالسقاية والعمارة لهم درجة عظيمة عند الله، وإن لم تكن الدرجة الأعظم، إذ الحقيقة أنهم ما داموا على الشرك ليست لهم عند الله أية درجة، بل إنهم في الحضيض الأوهد، ولا درجة لهم عند الله قط، وإذا كان أفعل التفضيل ليس على بابه، فمعناه أنهم عند الله في درجة عظيمة، لَا تطاولها درجة، وعبر بأفعل التفضيل لما كان من مقابلة لفظية.(6/3257)
وهذه الدرجة العظيمة التي لَا تفضل عنها درجة قط؛ لأنهم كانوا في أوصاف عالية تجعلهم رجال الله ورجال الحق - أولها - أنهم آمنوا، والإيمان في وسط الشرك الغامر والوثنية الغالبة فيه جهاد النفس، ومغالبة الباطل، ونور العقل، ومقاومة الجاهلية وعصبيتها، وطغيانها، وشرورها وآثامها، ومع هذا كله تكون رفعة الدرجة، إذ بمقدار تلك المغالبة النفسية يكون علو الدرجة.
والوصف الثاني - أنهم هاجروا، إذ إن ذلك الوصف يتضمن نداء الإيمان بالرضا بترك الأهل وصرم القرابة والدعة والراحة، وتحمل الأذى، والخروج بالإيمان نقيا طاهرًا من أرجاس الجاهلية وعصبيتها، والخروج من جو الجاهلية المعتكر بالعصبية والضلال إلى جو النور والإيمان.
والوصف الثالث - أنهم جاهدوا في سبيل الله، أي طريق الله الحق بأموالهم وأنفسهم، فلم يكن إيمانهم سلبيا بل كان إيمانا إيجابيا، آمنوا بالحق، وضحوا في سبيله بالأهل والولد، ثم دعوا إليه محاربين الباطل، جاهدوا أنفسهم أولا بتخليصها من أدران الشرك وأوهامه، وصابروا على الأذى بعد أن صبروا عليه وقدموا أموالهم مجاهدين، وأنفسهم في اشتجار السيوف والرماح، واستجابوا لقول الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: " جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم " (1).
وقد حكم الله تعالى لهم فقال: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) الإشارة إلى أوصافهم، وفيه دلالة على أن هذه الأوصاف هي سبب ذلك الفوز، وقد بين سبحانه أنهم المختصون بالفوز دون غيرهم؛ لأن تعريف الطرفين وضمير الفصل دلَّا على أنهم المختصون بالفوز، ولا فائز إلا من عمل عملهم، وحمل أوصافهم، فهم رجال الله تعالى حقا، وقد بين الله تعالى جزاءهم في الآخرة فقال تعالت كلماته:
________
(1) سبق تخريجه.(6/3258)
(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
البشرى: الخبر السار، ولا تطلق على غيره إلا تهكما، كقوله تعالى:
(. . . وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَروا بِعَذَاب أَلِيم). وقوله تعالى:(6/3259)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)
(يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَة مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ) بيان للفوز الذي حكم به سبحانه وهو أعدل الحاكمين، والبشرى تتضمن الرحمة، والرضوان من الله تعالى، وقد نكرا وهما مضافان إلى رب هذا الوجود للدلالة على الفخامة والعظمة، فهي لَا يدرك كنهها ولا تحد حدودها، وهي من الله تعالى واسع الرحمة الذي وسعت رحمته كل شيء، والرضوان من الله وهو أعظم من كل ثواب مادي، ولذلك قال سبحانه وتعالى: (. . . وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكبَرُ. . .) أي أنه أكبر من كل نعيم؛ لأنه الرضا من الله تعالى، وهو نعمة لَا يشعر بها إلا من يحس بعظمة الله وجلاله، ويفنى في ذاته العلية، حتى إن الصوفية ليقسمون العبادة إلى ثلاث مراتب، المرتبة الدنيا: مرتبة من يعبد الله اتقاء عذابه، والثانية: من يعبد الله رجاء ثوابه، والعليا: من يعبد الله رجاء رضاه.
(وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ)، وهي غير الرحمة؛ لأن الرحمة ضد الشقاء، وهي وحدها نعمة؛ لأن الخروج من الضلال إلى الهدى والشعور بالحق وأنه اهتدى إليه وخرج من الضلال إلى نور الهداية هو وحده رحمة ونعمة، فأول جزاء للمؤمن من يأخذه من الإيمان نفسه، فيشعر باستقرار لَا اضطراب فيه.
وبعد هذا الشعور والإحساس برضا الله تعالى تكون الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، ويكون للذين يدخلونها من أهل الحق والإيمان نعيم مقيم، أي ثابت دائم.
وقد أكد سبحانه ثوابه بقوله تعالى:(6/3259)
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
(خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
الخلود نعمة فوق نعمة الجنة ذاتها، فإن الإحساس بدوام النعمة نعمة، وليس في مقابل الدنيا الفانية، وأكد الله سبحانه وتعالى خلود الجنة ودوام نعيمهما(6/3259)
بقوله تعالى: (أَبَدًا) فهي دائمة لَا بقدر الدنيا، كما توهم بعض الذين لَا يدركودن حقائق نعم اللَّه، إنما هي باقية أبدا ما شاء الله تعالى أن تبقى.
وقد بين الله تعالى بعد ذلك أن عند الله تعالى ما هو أكبر من ذلك، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) والعبادة تحتمل أن عند الله جزاء آخر غير ما ذكر وتحتمل أن الله تعالى يبين أن ذلك أجر عظيم، وقد نكر أجر للدلالة على أنه أجر لا يحيط به عقل أهل الدنيا، ولذلك نرجح الاحتمال الأول وهو أن وراء الجنة وخلودها، ونعيمها أجرا أعظم من ذلك، مثل هذا تجليات الله على عباده يوم القيامة. إنه هو العزيز الرحيم.
* * *
الله أولى بالمؤمنين من أنفسهم وآبائهم وأبنائهم
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
* * *(6/3260)
كان المؤمنون في أول الإسلام قلة، ولا يكون للقلة قوة إلا إذا تضامت وتوالت، وجعلت الولاية لأنفسهم دون غيرهم، ولذلك كانت الهجرة واجبة حتى تتجمع قوة الحق وتتآزر وتكون لها ولاية مستقلة عن ولاية أهل الشرك ومناصرتهم، والولاية هي النصرة والسلطان وأن تكون الموالاة لدولة مسلمة.
روى الزمخشري، عن ابن عباس أنه كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر، ويصارم أقاربه الكفرة، ويقطع موالاتهم، فقالوا: يا رسول الله، إن نحن اعتزلنا من خالفنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا، وذهبت تجارتنا، وهلكت أموالنا، وخربت ديارنا، ولقينا ضائقة. فنزلت الآية. وإن صحت هذه الرواية فإن الآية يكون المخاطب بها الذين آمنوا أولا ثم هاجروا، ولكن مع ذلك فحكم الآية عام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لَا بخصوصِ السبب، ولقد قال الله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28).
ولقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ. . .)، اللهم إنا برآء ممن
جعل نصرته عندهم، فإنه منهم.
ولقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله، حتى يحب في الله أبعد الناس، ويبغض في الله أقرب الناس إليه " (1).
ولقد قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22).
________
(1) ذكره أبو السعود في تفسيره: ج 4، ص 54، والزمخشري في الكشاف: ج 2، ص 181، برقم (453).(6/3261)
وفى الآية الكريمة إشارات بيانية بليغة:
الأولى: قد اقتصر الله تعالى في الآية على الآباء والإخوان، ولم يذكر الأبناء، لأن الآباء والإخوة تكون منهم النصرة، والاعتزاز، أما الأبناء فإنهم تبع لآبائهم؛ ولأنه لَا تأثير للأبناء على آبائهم، ولأنه يندر من كان يسلم، وأبناؤه مستمرون على الكفر؛ لأن تأثير الآباء على الأبناء يمنع من أن يتغذوا بلبان الشرك، ومن النادر إيمان أبي بكر، وبعض ولده مشرك حتى اشترك في غزوة بدر مع المشركين.
الثانية - في قوله تعالى:(6/3262)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
(إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ) هذا شرط لمنع الولاية عنهم والانتصار بهم، ونصرتهم و (اسْتَحَبُّوا) معناها أحبوا بشدة وتعصب؛ لأن السين والتاء للطلب، أي طلبوا محبة الكفر حتى أحبوه، فكانوا مبالغين في الكفر متعنتين في عداوة المؤمنين، فمن والاهم فقد والى أعداءه الكافرين.
الثالثة - أن الله تعالى حكمِ بالظلم على من يتولاهم في قوله تعالى: (وَمَن يَتَوَلَهُم مِّنكمْ فَأوْلَئِكَ هُم الظَّالِمُون) (مَنْ) شرطية، وهي اسم، والتولي جعلهم أولياء له ونصراء، وقال تعالى: (مِنكمْ) للإشارة إلى أنه ترك ولاية الحق إلى الباطل، لأن منكم تدل على أن الأصل هو ولايتهم لكم، وقوله تعالى: (فَأُوْلَئِكَ)، الإشارة إلى انفصالهم عنكم، وحكم عليهم سبحانه بالظلم وقصره عليهم؛ وذلك لأنهم ظلموا أنفسهم بترك أوليائهم الحقيقيين كما قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّه وَرَسُولهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا. . .)، فإركوا ولاية الله وإخوانهم المؤمنين، فكانوا ظالمين إذ استنصروا بمن لَا ينصرونهم، وليس في قدرتهم أن ينصروهم من دون الله، ولأن موالاة الشرك شرك (. . . إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). إن الجهاد تجرد لله تعالى، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جعل المجاهد كالراهب متجردا من أهله وماله، وسكنه وتجارته، فقال عليه الصلاة والسلام: " لكل أمة(6/3262)
رهبانية، ورهبانية أمتي في الجهاد " (1) وإنه، كقوله تعالى:
________
(1) سبق تخريجه.(6/3263)
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
(قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - آمرا أمته بالجهاد محرضا على التجرد له، والانقطاع له، لا يشغله قلبه إلا أن ينتصر لله ورسوله ويعتز بأهل الإيمان (إِن كَانَ أَبْنَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ) والعشيرة هي الجماعة المتناصرة المتوالية، وهم الأقربون، ومن يدانونهم، (وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا) أي اكتسبتموها مقتطعين لها؛ لأن الاقتراف معناه الأطماع (وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا)، أي ثمينة لها أوقات تخشون ألا تروج في وقتها، (وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا)، أي ترضون مناخها، وحدائق ترعونها، (أَحَبَّ إِلَيْكم مِّنَ اللَّهِ وَرَسولِهِ)، أي تؤثرون المعيشة الرافهة الفاكهة عن طاعة الله ورسوله (وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِه) في سبيل الله تنالون به العزة، وتبعدون به الذلة (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) أي ترقبوا، حتى تنزل المذلة إن استرخيتم تحت ظل النعيم، وعند الاسترخاء والاستنامة للراحة يكون القعود عن الجهاد، ولقد توقع خليفة رسول الله ذلك، إذ قال رضي الله عنه: " لتألمن على الصوف الأزربي كما يتألم أحدكم من النوم على - حَسْك السَّعدان "، ولقد كان ذلك عندما وجدوا الدمقس والحرير، وجلسوا على عرش كسرى، وجاءتهم غنائم من الأندلس والصين، عندئذ كان الترفه والتنعم، والارتماء في أحضان القيان، وكثرت الأغاني، ورق الذوق، وحين كان ذلك لَا تكون عزيمة، ولقد قال الزمخشري في ذلك: هذه آية شديدة وهي قوله: (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة لهذا الدين، واضطراب حال اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا، ويتجرد منها لأجله أم يزوى الله(6/3263)
عنه أحقر شيء منها لمصلحة، فلا يدري أي طرفيه أطول، ويغريه الشيطان عن أجلِّ حظ من حظوظ الدين فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيَّره.
هذه حال الناس في عهد الزمخشري، يوم تقاتل المسلمون، واستبدل الملوك بالجهاد في سبيل الله القتال بينهم فصار بأسهم بينهم شديدا، ونسوا الجهاد حتى جاءهم من لَا يرحمهم. جاء الصليبيون من أوروبا وجاءهم التتار من الصين ففرقوهم شذر مذر.
ولقد توقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فقال: " يوشك أن تداعي عليكم الأمم كما تتداعي الأكلة إلى قصعتها!، قالوا أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؛ قال: " بل أنتم كثير، ولكن غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من قلوب عدوكم المهابة، وليرزقنكم الوهن " قالوا: وما الوهن؛ قال: (حب الدنيا وكراهية الموت " (1) اللهم حبب إلى قلوبنا الإيمان، وأن يكون الله ورسوله وجهاد في سبيله أحب إلينا من آبائنا، وأبنائنا، وإخواننا وأزواجنا وعشيرتنا، وأموالنا، وتجارتنا، ومساكننا، وكل حظوظنا، فإن ذلك إن كان، فقد وُهبت العزة وصارت تحت أقدامنا حظوظ الدنيا.
* * *
يوم حنين
قال تعالى:
(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا
________
(1) رواه أحمد: باقي مسند الأنصار - ومن حديث ثوبان رضي الله عنه (21891)، ورواه أبو داود في الملاحم - تداعي الأمم على الإسلام (4297) ولفظه: " وليقذفن في قلوبكم الوهن ".(6/3264)
رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
* * *
المواطن جمع موطن، وهو مكان الحرب، الذي توطن فيه النفوس على القتال، وهو كما قال الزمخشري: ومواطن الحرب، مقاماتها، ومواقفها، قال الشاعر:
وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوِي (1)
والمواطن الكثيرة: بدر، وجلاء بني قينقاع والنضير، وقريظة والأحزاب، والحديبية، وخيبر، وفتح مكة، وذكر أيضا أحد، فما انهزم المسلمون ولكن أصابهم قرح، ومؤتة، فالمسلمون فيها قتلوا من الرومان مقتلة عظيمة، وما فروا، ولكن عادوا ليستعدوا أمام مائتي ألف، ثم عاودوهم من بعد في تبوك فمنَّ الله تعالى على المسلمين، أو بالأحرى المؤمنين - بالنصر في هذه المواطن، وقد هداهم الله تعالى إليه وأمدهم بالملائكة، لأن قلوبهم كانت مستعدة لتجلي الملائكة، وإمدادهم بهم.
وذكر سبحانه يوم حنين، لأن قلوب الكثرة من المسلمين لم تكن مستعدة لهذا التجلي الملائكي، وعبر سبحانه بيوم حنين، ولم يعبر بغزوة حنين، لأن هذه الغزوة كان لها دوران: دور يوم حنين وهو الذي جرح فيه المسلمون، والدور الثاني الذي انفرد به المهاجرون والأنصار فكان النصر وكان تأييد الملائكة.
________
(1) قلة النيق: سفح الجبل.(6/3265)
والعبرة كانت في يوم حنين إذ أعجبتهم كثرتهم، أي أدخلت في نفوسهم العجب كثرتهم، وقالوا لن نغلب اليوم، وقد حسبوا أن النصر بالكثرة العددية؛ ولذا قال تعالى:(6/3266)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
(فَلَمْ تُغْن عَنكُمْ شَيْئًا) أي فلم تغن عنكم شيئا من النصر، بل.
كانت الكثرة سببًا في الهزيمة، وإن لم تكن هي النهاية، وصور الله سبحانه وتعالى هذه الهزيمة المؤقتة بقوله تعالى: (وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ) أي أنه سدت عليكم المسالك إذ نزلوا بوادي حنين، ولم يستطيعوا، وتسلط مع ضيق المسالك الخوف، إذ كان فيهم من لم يمرسوا بقتال الإيمان، وربما كان منهم من أسلم ولما يدخل الإيمان قلبه، قال تعالى: (ثُمَّ وَلَيْتُم مُّدْبِرِينَ) والخطاب للمجموع فإن الذين فعلوا ذلك ليسوا هم المؤمنين من المهاجرين والأنصار، إنما أكثر من فعل ذلك من الطلقاء وأبناء الطلقاء، الذين بلغ عددهم في ذلك الجيش نحو ألفين، وفيهم من أسلم بعد الحديبية ولم يكن فيهم إيمان الأنصار والمهاجرة. والتعبير بـ (ثُمَّ) للإشارة إلى البعد المعنوي بين إرادة النصر والفرار، وقوله تعالى: (وَلَّيْتُم) إشارة إلى أنهم عند الصدمة الأولى أعرضوا عن القتال، وفروا مدبرين تاركين أقفيتهم للعدو، تعمل فيها سيوفهم.
هذه إشارات إلى يوم حنين، ولنذكره ببعض التفصيل ليعلم مَن الذين ولوا، ويتبين مَن الذين أجرى الله تعالى النصر على أيديهم.
" حنين " واد بين مكة والطائف، وأساس القصة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد فتح الله عليه مكة، وأسلم الأكثرون وأطلق الطلقاء بلغه أن هوازن وثقيفا تعد العدة لقتاله؛ لأنهم توقعوا أنهم الأدنون الذين يجيء إليهم جيش الحق، وجمعوا جيشا كثيفا، عدته أربعة آلاف على أرجح الروايات، من هوازن وثقيف، وانضم إليهم بنو سعد ابن بكر، وأوزاع من بني (هلال)، وقد أقبلوا ومعهم النساء، والولدان، والأموال من النعم والشاة وجاءوا بقضهم وقضيضهم.
خرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجيش الذي كان معه لفتح مكة، وانضم إليهم من الطلقاء ألفان فكانت عدته اثنا عشر ألفا.(6/3266)
ولم يكونوا جميعا من المؤمنين أمثال الذين قاتلوا في بدر وأحد، والمغازي الإسلامية التي قاتل فيها المؤمنون، بل كان فيهم المؤلفة قلوبهم الذين دخلوا في الإسلام وهم حديثو عهد به.
جاءت هوازن مدفوعة بحمية الدفاع عن النفس، وجاء المسلمون ولم يكونوا على قلب رجل واحد، بل كان فيهم من توسوس له نفسه أن يغدر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد بادر أهل الطائف فرشقوا المسلمين ومن معهم بالنبال، وأصلتوا في الوادي الذي يسمى حنينا، وجاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانت هوازن ومن معها قد كمنت في جنبتي الوادي وهجمت على المسلمين الذين دخلوا في بطن الوادي هجمة رجل واحد، واضطرب المسلمون، ولم يعرف أحد أحدا، وبذلك ضاقت عليهم الأرض بما رحبت إذ قد تهيات هوازن ومن معها في مضايق الوادي وأحنائه.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناحية من الأرض قد ثبت، وثبت معه المؤمنون، من المهاجرين والأنصار، وأخذ ينادي المسلمين، ولكن انكفأ بعضهم على بعض، وكما قال الحافظ ابن كثير في تاريخه: " انحط بهم الوادي في عماية الصبح، وثأرت في وجوههم الخيل فشدت عليهم، وانكفأ الناس متهربين لَا يقبل أحد على أحد، وانحاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات اليمين يقول: " أيها الناس هلم إليَّ أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله "، فلا شيء، وركبت الإبل بعضها بعضا، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك قال: " يا عباس، اصرخ يا معشر الأنصار "، فأجابوه: لبيك لبيك ذَهب الأنصار في هذا المضطرب مجيبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
كان رسول الله ومعه بعض أهله الأدنين، معه عمه العباس، وهو آخذ بلجام دابته، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وابنه جعفر، وعلي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، وربيعة بن الحارث، والفضل بن عباس وقثم بن العباس، فهؤلاء عشرة من أقارب رسول الله الأدنين ومعهم وزيرا النبي - صلى الله عليه وسلم -.
كان هؤلاء الثابتون وعلى رأسهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي كان إذا حمى الوطيس أحاطوا به واتقوا حر القتال بالإيواء إليه، والنبي ينادي المؤمنين، والعباس(6/3267)
جهير الصوت يصرخ في المؤمنين داعيا أهل البيعة التي كان بعدها الهجرة، فلما أحاط بالنبي - صلى الله عليه وسلم - المهاجرون والأنصار من الأوس والخزرج تغير وجه القتال وتجرد أهل الإيمان للمشركين، بعد أن ماز الله الخبيث من الطيب، وانفصل الذين لا يزال في قلوبهم رجس، أو أسلموا، ولما يؤمنوا.
وهذا قوله تعالى:(6/3268)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
(ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
(ثُمَّ) هنا في معناها؛ لأنه كانت مدة بعد الاضطراب وعادت السكينة، ولبعد ما بين الاضطراب والفزع والسكينة، وقد أنزلها برحمة منه، بعد أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في جمع أسبابها، وتلافي أسباب الفشل، واتخاذ أسباب النصر بأن جمع المؤمنين الذين لهم سابقات في النصر وانحازوا إليه واتخذهم قوة الحق واتقاء الهزيمة. وأضاف سبحانه وتعالى السكينة والاطمئنان إليه سبحانه؛ لأن ما يكون من الله لَا يتغير ولا يحول، ولا يتبدل فهي سكينة ثابتة قائمة، تؤتي ثمارها وغايتها.
وقال سبحانه: (عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) بتكرار (عَلَى) للدلالة على أن السكينة عامة ولم تخص، وتأكيدها بالنسبة للمؤمنين، وعبر سبحانه بالمؤمنين، ولم يقل المسلمين للإشارة إلى أن هذه السكينة كانت خاصة بالذين آمنت قلوبهم، واطمأنت بالإيمان نفوسهم.
وقد أيد الله المؤمنين بالملائكة مبشرة بالنصر القريب، وأن لهم الفوز والغلب، والجنود الذين لم يروهم هم الملائكة الذين ملئوا قلوبهم بالطهر والعزم والصبر، وتلك أدوات الحرب، فالأداة الأولى للحرب الطهر والإيمان والعزم والصبر والتوكل على الله تعالى، وألا يغتر المجاهد بعدة، ولا عدد.
ولقد روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والشديدة شديدة، أخذ حصيات ورمى بها وجوه الكفار ثم قال: " انهزموا ورب محمد "، ويروى أنه قال: " شاهت الوجوه ".(6/3268)
ثم قال تعالى: (وَعَذبَ الَّذِينَ كفَروا) عذب الله الذين كفروا في هذه المعركة بأن هزمهم هزيمة، وقد لاح برق الانتصار في أولها، ولكن كان الزعم القاصم الذي صك الآذان صكا عنيفا، وأشد ما يكون على النفس وقعا، أمل النصر، ثم وقع الهزيمة من بعد، وفوق ذلك فقد كان النصر بقتل ذريع داهم مستمر.
ولقد ساقوا أموالهم كلها ليثور حماسهم برؤيتها، فغنمها المسلمون جميعها، فكأنهم ساقوها ليأخذها المسلمون غنيمة باردة، وساقوا نساءهم وأولادهم ليزدادوا حماسة برؤيتهم، فسباهم المسلمون وأذلوهم بسبيهم فكأنهم كانوا يعدون المائدة للمؤمنين.
هذا هو العذاب الدنيوي، هزيمة وقتل، وإذلال بالسبي، وأخذ الأموال غنائم غير مردودة، وإذا كان السبي قد رفق بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمره، فالمال قد وزع بين المجاهدين، وأخذ منه المؤلفة قلوبهم ما أخذوا.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ) (ذلك) الإشارة إلى ما ارتكبوا من تدبير، وأن ذلك رد كيدهم في نحورهم فقد دبروا وبيتوا، ووضعوا الكمائن، وساقوا أموالهم ونساءهم وذرياتهم فجازاهم الله تعالى ذلك بأن هزمهم، وغنمت أموالهم، وسبيت نساؤهم، وذلك بسبب كفرهم.
ولقد فتح الله سبحانه وتعالى باب التوبة لمن يشاء من عباده عساهم بعد أن رأوا أن أوثانهم لَا تضر ولا تنفع، وبعد أن عركتهم الحرب وهزموا فيها، وغنمت أموالهم وصاروا في رحمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهي من رحمة الله تعالى فعساهم يهتدون، ولذا قال تعالى:(6/3269)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
(ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
(ثُمَّ) هنا للبعد بين كفر عنيف، وتوبة ضارعة راجية، (يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) أي يرجع على عباده بالتوبة، والإقلاع عن الشرك والرجوع(6/3269)
إلى الله سبحانه وتعالى (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي من بعد بيان أنهم لم يغنهم غرورهم وانهزامهم هزيمة منكرة وسبي نسائهم وأموالهم، وكرم النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يروى أنهم جاءوا أو جاء كبراؤهم بعد ذلك مستسلمين يريدون سباياهم وأموالهم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فرق بعض السبايا أو كلها في المقاتلين من المسلمين.
جاء ناس منهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعوه على الإسلام، وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس، وقد سبي أهلونا وأولادنا، وأخذت أموالنا، وكان السبي يومئذ يعدون بالألوف فقام النبي الكريم الرءوف برحمة من رب العالمين، فقال: " إن عندي ما ترون، إن خير القول أصدقه: اختاروا إما ذراريكم ونساءكم، وإما أموالكم ". قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا.
فقام الرسول بين أصحابه وقال لهم: " إن هؤلاء جاءوا مسلمين، وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان عنده شيء وطابت نفسه أن يرده فشأنه، ومن لَا فليعطنا وليكن فرضا علينا، حتى نصيب شيئا، فنعطيه مكانه "، قالوا: رضينا وسلمنا.
فقال عليه الصلاة والسلام: " إني لَا أدري لعل فيكم من لَا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا "، فرفعت إليه العرفاء أن قد رضوا (1).
وهذا الخبر وقبله الآية الكريمة يدل على أمور:
أولها - أن المغرور إذا هزم، وتبين أن غروره لم يجده شيئا، وأنه ضعيف أمام الحق ارعوى، وتغير تفكيره إذ تغيرت حاله من غرور نفسي إلى اقتناع بأن أوهامه باطلة، فيتجه إلى الحق، لقد كان أهل الطائف من ثقيف وهوازن أشد الناس اغترارًا بقوتهم، ومالهم، وكانت فيهم غلظة وجفوة دون غيرهم من العرب فلما عضتهم الحرب فكروا في أمرهم مسترشدين.
________
(1) صحيح مسلم: الجهاد والسير - غزوة حنين (1775)، عن العباس - رفس الله عنه - عم النبي صلى الله عليه وسلم.(6/3270)
ثانيها - أن الذين اقتنعوا بالحق وأعلنوه منضمين إليه ناس منهم، والكثيرون استمروا في شماسهم حتى أقنعهم إخوانهم (1).
ثالثها - رفق النبي - صلى الله عليه وسلم - ورغبته في الحرية، لأنه نبي الحرية فأعطاهم سباياهم سمحا كريما.
رابعها - أن الرفق يغير القلوب، ولو كانت قلوب أشد الناس شماسا وغلطة وقسوة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - كان أرفق الناس، وبرفقه جذب إلى الإيمان قلوبا غليظة، (. . . وَلَوْ كنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْب لانفَضُّوا مِنْ حَوْلكَ. . .)، وختم الله تعالى الآية بقوله: (وَاللَّه غَفورٌ رحِيمٌ) أي أنه كثير المغفرة كثير الرحمة سبحانه وتعالى.
* * *
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ
________
(1) الشِّماس، ويقال: رجل شَمُوسٌ: عَسِرٌ، وهو في عَداوته كذلك خلافا وعسرا على من نازَعَهُ، وإنَّه لذو شِمَاسٍ شديد. وشَمَس لي فلانٌ، إذا أبْدَى لك عَداوتَهُ كأنّه قد همَّ أن يَفْعل. ل [العين - شمس].(6/3271)
يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
* * *
إن البيت الحرام أول بيت بني للعبادة، قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)، وقد وضعه الله تعالى على يد
إبراهيم أبي العرب، (مَا كانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، وقد مكث آمادا في أيدي المشركين الذين كانوا يعرفون الله، ولكن لَا يعبدونه، وجاء محمد - صلى الله عليه وسلم - ليعيدهم إلى التوحميد ملة إبراهيم، فحطم الأوثان. وكان حقا - وقد عاد البيت إلى ملة إبراهيم - أن يمنع منه المشركون، ونريد أن نفسر الشرك هنا بعبادة غير الله، ويدخل في هذا الشرك العام اليهود والنصارى ممن اتخذوا أشخاصا وعبدوهم وسموهم آلهة، ولذا جاء ذكر اليهود والنصارى وراء المشركين بنحلتهم في ادعاء النبوة لعزير، والمسيح، وأن قتالهم كقتال الشرك، واقتلاعه من الجزيرة العربية، حتى لَا يبقى فيها إلا عبادة الله سبحانه وتعالى، فتكون أرض التوحيد، كما كانت عندما بنى إبراهيم الكعبة، إذ كانت الوثنية تسيطر فيما حولها، وإبراهيم ينادي بالتوحيد في ربوعها.(6/3272)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) وقرئ بكسر النون وسكون الجيم، وقرئ بفتح النون، وكسر الجيم كـ (كَبِد)، وقرئ بفتحهما نَجَس (1).
والنجاسة هنا نجاسة معنوية لما امتلأت قلوبهم بالشرك، وجوارحهم بعبادة غير الله تعالى، من أحجار وأشخاص، ومن التابعين من قال: إنهم أنجاس العين
________
(1) قراءة (نَجِس) ليست في العشر المتواترة.(6/3272)
كالخنازير، ولكن نجس العين يكون بأصل التكوين والخلق، وهؤلاء لم يخلقوا أنجاسًا، ولكن خلقوا على الفطرة حنفاء، ولكن انحرفوا تقليدا لآبائهم، أو اتباعا لأهوائهم، فكانت النجاسة أمرا عارضا، وما يكون أمرا عارضا يكون قابلا للتغيير إذا رجعوا فلا يكون أمرا ذاتيا كنجاسة الخنازير، ولذا قال الأئمة أصحاب المذاهب: إن النجاسة نجاسة الشرك، فمصافحتهم تجوز، ومبايعتهم على الإيمان تجوز، وغير ذلك من الملامسات الجسدية.
وقوله تعالى: (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) (الفاء) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها؛ لأنهم إذا كانوا أنجاسا بشركهم لَا يصح أن يدخلوا المسجد الحرام، و (لا) هنا ناهية داخلة على فعل للغائب؛ فهي دالة على نهى المؤمنين عن أن يدخلوهم المسجد الحرام، وأن يمنعوهم منعا باتا قاطعا، وعبَّر بالغيبة مبالغة في النهي، كأنهم نفذوا، وأخبر عنهم بأنهم لم يدخلوهم، وعبر في النهي بقوله تعالى: (فَلا يَقْرَبُوا) بدل (لا يدخلوا) مبالغة في النهي عن الدخول، وللدلالة على أنه يجب تطهير ما حول المسجد من الشرك والمشركين، وإذا كانوا لَا يقربون المسجد الحرام، فإنهم بالأولى لَا يحجون ولا يعتمرون كما كانوا يفعلون في الجاهلية، وقد كانوا يتولون سقاية الحجيج، وسدانة البيت، فمنعوا من ذلك ومن كانوا يتولون السقاية والسدانة، وبيدهم مفاتيح البيت في الجاهلية بقيت في أيديهم بعد أن أسلموا، فتولوها بصفتهم مسلمين غير مشركين باللَّه تعالى.
وان النهي عن دخول المسجد الحرام يدل على حرمة دخوله بالنص، وعلى حرمة دخول غيره من المساجد بالقياس عليه، وبالنص المشير إلى ذلك بقوله:
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37).(6/3273)
وإن رفعة المساجد في الآية الكريمة تومئ إلى ألا يدخلها من يشرك بالله أحجارا أو أشخاصا، أوصافهم تتنافى مع أوصاف الذين يسبحون فيها بالغدو والآصال.
ولقد كان حجيج المشركين من شتى البلاد العربية يوجدون رواجا ماديا بين أهل مكة، كما قال تعالى عن إبراهيم: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ. . .).
فإذا منع المشركون حُرم سكان مكة، وهم المسلموِن بعد الفتح من ذلك الوفد الذي يجيء إليه، ولذا قال تعالى: (وَإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةَ فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ) العيلة: الفقر إذا حرموا من أرفاق المشركين ومتاجرهم، وقد قدر الله خوفهم من الفقراء، أو قلة المال إذا منع المشركون من الحج وقصد بيت الله الحرام فقال: (وَإِنْ خِفْتُمْ) وعبر للدلالة على أن تقدير الخوف مشكوك فيه منهم؛ لأن الإيمان يجعلهم يطمئنون ولا يخافون، ومع ذلك طمأنهم الله تعالى فأكد أنه سيغنيهم الله من فضله إن شاء، ونشير هنا إلى أمرين:
أولهما - أن قوله تعالى: (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) (الفاء) فيها في جواب الشرط، و (سوف) لتأكيد وقوع الإغناء إن شاء الله تعالى في المستقبل، فالسين وسوف لتأكيد الوقوع في المستقبل.
ثانيهما - التعبير بقوله تعالى: (مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ) فذكر الفضل منسوبا إلى الله تعالى فيه إشارة إلى أنهم لَا يرزقونكم بل الرزاق ذو القوة المتين هو الله الذي يرزقكم من فضله، وقوله: (إن شاء) بالتعليق على مشيئته سبحانه وتعالى فيه إشارة إلى: أولا بأن ذلك بمشيئته سبحانه إذا اتخذوا الأسباب، وإن ذلك حسب حكمته؛ يغنيهم إن لم يطغهم الغنى، ويحرمهم إن كان الحرمان يفطم نفوسهم، ويقوي إرادتهم ويعودهم الصبر، والصبر عزيمة الأمور.
ولذا ختم الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: (إِنُّ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) في الجملة تأكيد بالجملة الاسمية، وبـ (إنَّ) وبتصدير الكلام بلفظ الجلالة الذي تتصف(6/3274)
ذاته الكريمة بكل كمال وجلال، وفي هذا التصدير دلالة على صدق ما وعد، و (عَلِيمٌ) ي علم كل شيء وما تعلمون وما لَا تعلمون، و (حَكيم) ويدبر الوجود بمقتضى حكمته.
وقد أنجز الله تعالى ما وعد، فقد أغنى الله تعالى أهل مكة ومن حولهم بالجزية والخراج، وإسلام أهل اليمن، وكان ذلك عقب الفتح، فجاءهم الحجيج بأرفاقهم، مسلمين غير مشركين، وما حرموا من خير كان يجيء إليهم، بل استمر ومعه زيادة وهو يجيء طيبا من أطهار، وأرسل عليه السماء مدرارا، فأنبت الزرع وأثمر الشجر، وأتت الأنعام بالخير.
قلنا في أول تفسير هذه الآية، إن المشركين هنا تعم المشركين الذين يعبدون الأحجار، والذين يعبدون الأشخاص. ولذلك قال تعالى:(6/3275)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
ذكرنا أن النصارى واليهود، لأنهم عبدوا أشخاصًا وافتروا على الله تعالى - مشركون، وإن سُموا أهل كتاب؛ لأن الله تعالى بعث إليهم رسولين من أولي العزم من الرسل، وأنهم حرفوا تعاليمهم، وكتبهم التي نزلت من عند الله تعالى، وقد أمر الله تعالى بقتالهم كالمشركين على سواء؛ لأن الشرك يجمعهم وإن اختلفوا عنهم بأن كتابا جاء بالتوحيد خوطبوا به، فكانت الحجة قائمة عليهم أشد من قيامها على الأميين من المشركين.
ولذا ذكر الله تعالى وصفا موجبا للقتال يجمعهم مع المشركين، فقال تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) وكرر لا لتأكيد كفرهم باليوم الآخر؛ لأنهم صدقوا به على انحراف، فاليهود منهم الفريسيون، لَا يؤمنون بيوم الآخرة قط، وسائرهم لَا يؤمن بالجزاء الأخروي،(6/3275)
ويعتقدون أن ما ذكر من عذاب العصاة والمذنبين إنما هو في الدنيا، لَا في الآخرة بل إنهم ينكرون الروح ولا يؤمنون إلا بالمادة، فهم ماديون في اعتقادهم من كل الوجوه.
والنصارى لَا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الحقيقي، فهم يقولون إن الذي يدين الناس به هو المسيح لَا الله وحده.
ويعتقدون أنه شريك لله تعالى في الدنيا على أنه الابن، وهو بهذا الوصف هو الذي يُدين، فالطائفتان لَا تؤمنان بالآخرة ولا تؤمنان بالله حق إيمانه، فهم يشركون بالله في العبادة أشخاصا، ويستوي من يشرك مع اللَّه حجرا، ومن يشرك مع الله شخصا، فالاثنان مشركان، وكلاهما يشرك من ليس له مع الله تعالى أمر، ومن لَا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولو كان نبيا مرسلا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وحكى عنه ربه: (فل لَا أَمْلِك لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا. . .).
وقال الله تعالى في تكملة أوصافهم (وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) لقد حرم عليهم في التوراة، وهي شريعة لليهود والنصارى أكل الخنزير فأكلوه، وحرم عليهم الربا، فاستحلوه، وحرم عليهم أن يسفكوا دماءهم فسفكوها، وكانوا كالمشركين يحرمون الطيبات ويستحلون الخبائث.
ثم ذكر سبحانه وتعالى من أوصافهم التمرد على الحق، (وَلا يَدِينونَ دِينَ الْحَقِّ)، أي لَا يدينون دين الإسلام الذي - هو الحق في ذاته، لقيام الأدلة والبراهين والآيات القاطعة المثبتة صحة نبوة محمد، ونزول القرآن الكريم عليه، وعجز العرب عن أن يأتوا بمثله، بل عجز الناس أجمعين ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، وثبت أن هذا الدين هو الحق الخالد الذي نسخ ما قبله من الأديان؛ لأن فيه خلاصتها الباقية، ولو كان موسى بن عمران حيا لآمن به واتبعه، وعندهم العلم به، لأن التوراة والإنجيل قد بشَّرا به، ويعرفون رسالة محمد كما يعرفون آباءهم وأبناءهم، ومع ذلك تمردوا ولم يؤمنوا ولما جاءهم ما عرفوا كفروا به.(6/3276)
وقال تعالى: (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) (من) هنا بيانية للذين في قوله تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) وإذا كانت (من) بيانية يكون المؤدى: قاتلوا الذين أوتوا الكتاب، وإنما ذكر الكلام أولا معرفا بأوصاف من يقاتلون، ثم بين بعد ذلك بـ (مِن)، لبيان هذه الأوصاف الموجبة للكفر والعناد أولا، ولبيان تمردهم عن الحق ثانيا، ولأن الإجمال ثم البيان يثبت المعنى فضل تثبيت ثالثا.
فالمقصود قتال أهل الكتاب بعد قتال المشركين، وفَلّ شوكتهم، ولقد قال الحافظ ابن كثير في ذلك:
" هذه الآية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجا، واستقامت جزيرة العرب على أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى وذلك في سنة تسع، ولهذا تجهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقتال الروم، ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة، فأذعنوا له واجتمع من المقاتلة نحوا من ثلاثين ألفا ".
وذلك لأن والى الروم قتل من أسلم من أهل الشام، فكان لابد من تقليم أظفارهم، والكلام في القتال في غزوة تبوك سيأتي قريبا، إن شاء الله تعالى.
وإن هذا القتال له نهاية وهو العهد، ولذا قال تعالى: (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) وقوله تعالى: (عَن يَد) أي عن يد مواتية طائعة راضية، غير ممتنعة، والتعبير باليد إشارة إلى إنهاء القتال الذي يكون بيد باطشة، متجاوزين إلى يد معطية للجزية بالرضا، (وَهُمْ صَاغِرُونَ)، أي كما نقول غير متمردين، قد دخلوا في طاعة أهل الإيمان في صَغَار منقادين مؤتلفين، غير مجاهرين بالعداوة.
وما يعطيه الذمي من المال يسمى جزية، لأنها تجزى أي تقضى، ولأنها جزاء لأن يدفع الإسلام عنهم، ويكفيهم مئونة القتال، ولأنها جزاء لما ينفق على فقراء أهل الذمة كما كان يفعل الإمام عمر، وكما هو واجب في ذاته على المؤمنين وإن(6/3277)
المسلمين في عصر الصحابة كانوا يوفون بعهودهم مع المؤمنين، روي أن أبا عبيدة عامر بن الجراح، كان أخذ مالا من أهل حمص على أن يدفع عنهم جيش الرومان إن أغاروا عليهم، فلما أصيب جيشه بالطاعون ضعف عن رد غاراتهم، ورد إليهم أموالهم.
والإسلام قام بحق التساوي بين جميع من يكونون في طاعته، فإن الجزية التي تكون على الذمي تقابل ما يكون على المسلم من تكليفات مالية، فعليه زكاة المال، وعليه صدقات ونذور، وعليه كفارات، وغير ذلك، ولو أحصى كل ما يؤخذ من المسلم لتبين أنه لَا يقل عما يؤخذ من جزية إن لم يزد.
وإن الدولة كما ذكرنا تنفق على فقراء أهل الذمة، ولقد روى أن عمر - رضي الله تعالى - عنه وجد شيخا يهوديا يتكفف، فسأله: من أنت يا شيخ؟ قال رجل من أهل الذمة، فقال له: ما أنصفناك أكلنا شبيبتك وضيعناك في شيخوختك، وأجرى عليه رزقا مستمرا من بيت المال، وقال لخادمه: ابحث عن هذا وضربائه، وأجْرِ عليهم رزقا من بيت المال.
والجزية بإجماع الفقهاء تفرض على اليهود والنصارى لنص هذه الآية، وتفرض على المجوس لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " (1) ولا تفرض بالإجماع على مشركي العرب، لأنهم يخيرون بين القتل والإسلام، حتى لا يكون في بلاد العرب دينان.
وقال أبو حنيفة: تفرض على كل مخالف عَقَد عقد الذمة، سواء أكان وثنيا أم كان مجوسيا أم كان كتابيا، لَا فرق، لأن الكفر كله ملة واحدة، وأكثر المالكية على هذا الرأي، وقال الشافعي: لَا تفرض الجزية إلا على اليهود والنصارى والمجوس لورود النصوص.
________
(1) مالك في الموطأ: الزكاة - جزية أهل الكتاب والمجوس (617). عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. ورواه البخاري: الجزية - الجزية والموادعة مع أهل الحرب (3157).(6/3278)
ومقدار الجزية على حسب الاتفاق في الأمان، والله تعالى أعلم.(6/3279)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) " عزير " هذا كاهن من كهنة اليهود ظهر بعد أن دك أرضهم وشتت شملهم " بختنصر " وهو رأس القوم الأشداء الذين جاسوا خلال الديار، والذين قال الله تعالى فيهم وفي بني إسرائيل: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5).
وقد قال القرطبي في تفسيره: إنهم لم يكونوا جميعا يذكرون أنه ابن الله، ولكن شاع القول بينهم بأنه ابن الله في عصره، ولم يستنكروه، فكان القول، كان قولهم أو على الأقل قول مجموعهم، وقال إنه لَا يوجد يهودي يقول ذلك في عصره، ولكن الزمخشري يقول في الكشاف: " الدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية تليت عليهم، فما أنكروا وما كذبوا، مع تهالكهم على التكذيب ".
ولقد روى السدي كلاما يقارب ما جاء في التوراة، لقد قال الحافظ ابن كثير: " ذكر السدي وغيره أن الشبهة التي حصلت لهم في ذلك " أن العمالقة لما غلبت على بني إسرائيل فقتلوا علماءهم وسبوا كبارهم بقي العزير يبكى على بني إسرائيل، وذهاب العلم منهم حتى سقطت جفون عينيه، فبينما هم ذات يوم، إذ مر على جبانة وإذا امرأه تبكى عند قبر، وهي تقول: وامطعماه، واكاسياه، فقال لها: ويحك من كان يطعمك قبل هذا؟ قالت: الله، قال: فإن الله حي لَا يموت، قالت: يا عزير، فمن كان يعلم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: الله؛ قالت: فلم تبكى عليهم؟، فعلم أنه شيء وعظ به، ثم قيل له: اذهب إلى نهر كذا فاغتسل فيه، وصلِّ هناك فإنك ستلقى هناك شيخا، فما أطعمك فكله، فذهب ففعل ما أمر به فإذا الشيخ قال: افتح فمك، ففتح فمه، فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة(6/3279)
العظيمة ثلاث مرات، فرجع عزير، وهو من أعلم الناس بالتوراة، فقال: يا بني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة، فقالوا: يا عزير ما كنت كذابا، فعمد وربط على إصبع من أصابعه وكتب التوراة بإصبعه كلها، فلما تراجع الناس من عدوهم ورجع العلماء وأخبروا بشأن عزير فاستخرجوا النسخ التي كانوا أودعوها في الجبال، وقابلوه بها فوجدوا ما جاء به صحيحا، فقال بعض جهلتهم: إنما صنع هذا لأنه ابن الله.
وقد جاء في شأن عزير كلاما يشبه هذا في الإصحاح الثامن والتاسع، والعاشر، وإن لم يصرح فيه بأنه الله، ولعل ذلك مما جرى فيه التغيير، على أن نقول إنه باطل محرف وغير محرف.
والنصارى قالوا المسيح ابن الله، قاله بولس، وهو أول من ادعى ألوهية المسيح، ولكنه لم يقله أحد من الحواريين أصحاب الرسول إلا ما قال يوحنا في إنجيل منسوب إليه، وقد كذبته دائرة المعارف الإنجليزية، وقالت إن الذي كتبه في القرن الثالث تلميذ من تلاميذ الأفلاطونية الحديثة.
واستمر سائدا بين المسيحيين أن المسيح ليس إلها ولا ابن إله، حتى جاء مجمع (نيقية) (سنة 325 فقرر 318 أسقفا من 2048 ألوهية المسيح، وفرض ذلك فرضا على المسيحيين، وبذلك كان التغيير الذي ذكره القرآن ثم كان من بعد ذلك مجمع كهذا المجمع قرر ألوهية روح القدس، فكانوا ثلاثة، ولا شك أن ذلك كفر بل إشراك.
(ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ) أي أن ذلك القول قول تردده أفواههم بألسنتهم، ولا يدركون له حقيقة يتصورونها، فهم يرددون: الواحد ثلاثة، والثلاثة واحد، وإذا سألتهم عن مميزات كل واحد، وكيف يجتمعون، لم يحيروا جوابا إلا أن يقولوا هذه غيبيات يصدقها العقل الديني، ولا يصدقها العقل والمنطق، ويقولون الآن كما قال بعضهم في القرن الرابع المسيحي: إنها صفات ثلاث للإله، ولو سألتهم هل المسيح الذي ولدته مريم من غير أب صفة، وليس ذاتًا كانت تمشي في(6/3280)
الأسواق، وتسعظ، وقتله - في زعمهم - الرومان وصلبوه، وجعلتم الصليب، قالوا: إن اللاهوت دخل الناسوت، أو ولد اللاهوت والناسوت، ولم يستطيعوا أن يصوروا ما يقولون تصويرا تدركه العقول.
ومما يجب ذكره أنهم في الزوبعة التي أثارها قسطنطين الروماني الوثني الذي حول النصرانية إلى وثنية عندما أراد دخولها، وذلك في مجمع نيقية آنف الذكر - وجد الأكثرون من بينهم يستنكرون الألوهية، ولكن ما زالوا يعذبونهم، ويطردونهم، حتى وسندوا فكرة الألوهية توسيدا.
وممن أعلن معارضتهم نسطورس الذي أقر بالبنوة التي ادعاها بولس، ولكنه قال إنها بنوة محبة ثم سادت بعد بين أتباع " نيتشة " عندما ساد التثليث فكرة الثلاثة سموها صفات، وجاء بعض المسيحيين في هذه الأيام لما أحسوا باستنكار العقول لعقيدتهم الباطلة، واستحسن كلمة الصفات وهي الأخرى غير معقولة، فذات المسيح المصلوب في زعمهم الذي ولد وعاش وقتل ودفن ثم قام من قبره لَا يمكن أن تكون صفة، إذ الصفة غير الذات.
وإن هذا التثليث هو بذاته اعتقاد الأفلاطونية الحديثة، اختاره قسطنطين، ومن تبعه دينا لهم (1).
وما أبلغ قوله تعالى في تصوير حالهم، إذ يقول: (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ)، فهو ليس إلا ألفاظا تردد من غير تصور لمعناها، ويلقنونها لمن يدعونهم إليها، ويستعينون بطرق الاستهواء المختلفة، والخمور، ليودعوها عقولا ضالة بهم.
وقال تعالى: (يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كفَرُوا) يضاهئون أي يشابهون قول الذين كفروا، وذكر الله تعالى الذين كفروا ولم يبين من هم فقيل المشركون، ولا شك أن وصف الذين كفروا ينطبق عليهم، وهم يشابهونهم في أنهم أشركوا في العبادة غير الله، كما أشرك أولئك الأوثان، وإني أقول إن المشابهة ليست بعيدة
________
(1) راجع " محاضرات في النصرانية، للإمام محمد أبو زهرة - دار الفكر العربي.(6/3281)
الأركان بل ثابتة القرب واضحة، ويدخل معهم أيضا عبدة الأوثان من غير العرب أيضا، وهم البرهمية والبوذية، فهم قالوا إن للإله ابنا، فالبراهمة قالوا إن كرشنة ابن لبراهما، وقال البوذيون: إن بوذا ابن للإله، كما قال النصارى، ويظهر أن موجة من ادعاء البنوة كانت سائدة في القرن الخامس قبل ميلاد المسيح أخذت منها وثنية النصارى في القرن الرابع مع الأفلاطونية الحديثة عقيدتها الباطلة، ولعل الأفلاطونية الحديثة ذاتها قد أخذت من الهنود، فقد ثبت أن كبيرها ذهب إلى الهند، وعاد بعقيدته (1).
(قَاتَلَهُمُ اللَّهُ)، قيل إنها كلمة تعجب كانت تجري على ألسنة العرب، وقيل إنها للعن مع التعجب، وقد خطر لي أن تكون من القتال، أي أنهم بهذا الإفك الذي لَا يعلمون، قد أعلنوا حربا على الله يقاتلهم وسيكون له النصر عليهم، ثم قال تعالت كلماته: (أَنَّى يؤْفَكُونَ) أي كيف يصدفون عن الحق إلى الضلال الذي لا يفهمونه ولم يفهموه ولم يعقلوه.
وإن دخول هذه العقيدة التي لم يفهموها، وهي في ذاتها غير قابلة للفهم أنهم يأخذون دينهم من رجال ويتلقونه من غير إدراك، ولا تفهم، فأضلَّهم أولا بولس، وأضلهم ثانيا الأساقفة الـ 318 في مجمع نيقية وأضلهم من جاءوا بعد ذلك، ولذا قال تعالى:
________
(1) راجع " محاضرات في النصرانية "، ورسالة " مقارنة الأديان، للشيخ محمد أبي زهرة - دار الفكر العربي.(6/3282)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
الأحبار جمع حِبر بالكسر، ويقال بالفتح، وهو العالم الذي يحسن القول، ويخبره، ويتقنه، وله فصاحة وبيان حسن، والرهبان جمع راهب، وهو الذي ينصرف إلى العبادة في زعمهم، وهو من الرهبة بمعنى الخوف من المعبود، والله تعالى ذكر الرهبنة - لما فيها من الخوف، والرهبة من المعبود - بغير الذم، وإن كانت(6/3282)
مبتدعة، فقال تعالى: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27).
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا)، أي جعلوهم أربابا، وفسر النبي - صلى الله عليه وسلم - كونهم أربابا، لَا بأنهم عبدوهم، ولكن اتخذوا الدين منهم لَا من كتابهم، فما يحلونه حلال، وما يحرمونه حرام، ولو كانوا يحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله.
روى الترمذي عن عدي بن حاتم الطائي أنه أتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقه صليب من ذهب فقال له: " ما هذا يا عَدِيّ اطرح عنك هذا الوثن، ويقول حاتم: وسمعته يقرأ (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مرْيَمَ) ثم قال " أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه " (1) فهم يأخذون عن هؤلاء، وقد كان ذلك سببا لضلالهم، فأحلوا لهم الخنزير وشرب الخمر، وملأوا رءوسهم بالأوهام، وابتدعوا ابتداء ما سموه بالعشاء الرباني الذي يكون فيه خبز وخمر، فأوهموهم أن الخبز جَسَدُ المسيح، والخمر دمه، فأباحوه في هذا العشاء.
وإذا كان علم الدين لم يؤخذ إلا منهم فقد أضلوهم ضلالا بعيدا، إذ لم يأخذوا الدين إلا منهم، وتفسير الكتب إلا منهم، وبذلك تركوا دينهم، وتعاليم المسيح إلا منهم فزوروها، ووضعوا الزيف بدل الحياد منها (وَالْمَسِيحَ)، وهو معطوف على الأحبار، وقدم قوله تعالى: (مِن دُونِ اللَّهِ) على (الْمَسِيحَ)، للإشارة إلى أنهم اتخذوه بمرتبة من الربوبية التي نحلوها له غير ما اتخذوه من أربابهم.
________
(1) الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة التوبة (3095).(6/3283)
فما نحلوه له من ربوبية كان عبادة له فكانوا بذلك مشركين، وما اتخذوا من أحبارهم من ربوبية، فهي أنهم قد أخذوا التعاليم منهم، فحرموا من عند أنفسهم، واستباحوا من عند أنفسهم، فمثلا لم يكن في الإنجيل منع من تعدد الزوجات، ولكن الكنيسة بأحبارها ورهبانها منعوه، وكانوا يبيحونه على حسب أهوائهم، كما أباحوه لنابليون، والتوراة فيها الإباحة من غير عدد.
ولو كانت أخرت كلمة (أَرْبَابًا) عن (الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) لكان المعنى أن الربوبية التي اتخذوها واحدة، مع أن ربوبيتهم للمسيح عبادة، وربوبية الأحبار أخذ للتعاليم، وذكر الله تعالى أمه فقال: (الْمَسيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) للإشارة إلى كونه إنسانا، ولد كما ولد غيره، وإن كان من غير أب.
(وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا) الضمير في أمروا يحتمل أن يعود إلى النصارى، وهو الظاهر، والمعنى أنهم جعلوا المسيح إلها يعبد، ولما أقروا بحكم ما أنزل على موسى وعيسى وحكم إلههما تقدست ذاته وتنزهت عن أن يكون له شريك، ويحتمل أن يعود على الأرباب وهو غير الظاهر، ويكون المعنى أن الأحبار والرهبان قبل أن يكونوا أربابا، أو أن يُتخذوا أربابا، هم أنفسهم ما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا.
قال تعالى: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).
(هو) تعود على الله تعالى، فهو حاضر في كل نفس، وهو عائد على الله الذي أمروا بعبادته، فقوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) تأكيد لمعنى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا) فيها تصريح بالألوهية له وحده، سبحانه وتعالى عما يشركونه من عبادة المسيح ابن مريم.
وبهذا يتبين أن من يعبد المسيح مشرك مع المشركين، وكونهم أهل كتاب يضاعف الحجة عليهم.(6/3284)
ثم قال تعالى فيما وصل إليهم الأحبار والرهبان من مفاسد بعد أن أباحوا لأنفسهم أن يحلوا ما شاءوا وأن يحرموا ما شاء بلا رقيب ولا حسيب، فقال سبحانه وتعالى في أعمالهم التي يريدون بها إطفاء نور الحق:
* * *
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
* * *(6/3285)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
إن المشركين واليهود والنصارى بالتمويهات الباطلة التي لَا تدركها العقول المستقيمة، وهم ينطقونها بأفواههم ولا تتصورها عقولهم؛ لأنها غير قابلة للتصور، هؤلاء يريدون أن يطفئوا نور الله، وهو الحقائق الثابتة الدالة على أن الله خالق السماوات والأرض ومن فيهن، والحق الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - والمعجزة الكبرى وهي القرآن الكريم، والهدى العظيم، يريدون بهذه الأوهام أن يطفئوا ذلك النور.
وقد شبه الله تعالى محاولاتهم وتضليلهم بحال من يحاول إطفاء الشمس في علاها، والقمر في بزوغه، فمن يحاول طمس الحقائق الظاهرة ضال مبطل في محاولاته كمن يحاول إطفاء الشمس.
وأضاف النور إلى الله تعالى تشريفا لهذه الحقائق، وتنويها بشأنها؛ لأنها مضافة إلى العلي القدير، نور هذا الوجود، كما قال تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35).(6/3285)
أولئك من مشركين وكتابيين يريدون إطفاء نور الله، فهم يعاندون الله، والله تعالى غالب عليهم، ولذا قال تعالى: (وَيَأبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ) وقوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا)، في مقابلة (وَيَأبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يتِمَّ نُورَهُ)، هم يريدون والله تعالى يأبى عليهم، ويأبى عليهم كل أهوائهم، وعلى ذلك فمعنى (يأبى) لَا يريد الله، والاستثناء حينئذ مفرغ، والاستثناء المفرغ لَا يكون إلا في حال النفي، مثل لا يقوم إلا أحمد، ولا يهدي إلا محمد، ولا معجز إلا القرآن.
فكيف يكون قوله تعالى: (وَيَأبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ) استثناء مفرغا، ونقول إن (يأبى) متضمنة معنى (لا يريد)، في مقابل (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأفْوَاهِهِمْ)، فهم يريدون الإطفاء والله لَا يريد إلا أن يتم نوره، ويعم الوجود الإنساني، وإرادة الله هي النافذة، لأن إرادتهم ظلمة، والنور كاشف الظلمة، (وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) لأن ستر الحقائق والتمويه والتضليل لَا يدوم مهما بطل الزمان، وقد أيد الله دعوة الحق بإرسال محمد يكشف به الظلمات، فقال تعالى:(6/3286)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
الضمير يعود على لفظ الذي يأبى إلا أن يتم نوره، وكان من إتمام نوره إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أبطل الشرك وأبطل مقالة أهل الكتاب التي ليس لها من الحق سلطان تقوم عليه.
قال تعالى: (أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ) الهدى هو القرآن، وهو ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - من هداية. أخرجت العرب من الظلمات، والقرآن فيه الهدى الكامل كما قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَات مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ. . .).
و (الباء) في قوله تعالى: (بِالْهُدَى) للمصاحبة أي مصاب للهدى أي معه المعجزة الباهرة، والهداية الكاملة.(6/3286)
وأضاف الرسول إليه سبحانه في قوله: (رَسُولَهُ) تنويها بشأنه، وتشريفا وتكريما، وللإشارة إلى أنه ناصره ومؤيده وقاهر عدوه مهما يكونوا. وقوله تعالى: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) اللام للتعليل أو للعاقبة، وعلى أنها للتعليل يكون المعنى أنه أرسله ليظهره على الدين، فالإرسال وكونه رسوله علة للإظهار، أو للعاقبة، ويكون لتكون عاقبة الإرسال أن يظهره على الدين كله.
ودين الحق هو التوحيد، والإضافة للبيان، أي الدين الحق، والإضافة تدل على أنه الدين الحق الذي هو لباب الأديان الحق كلها، ولذا قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ. . .)، وهو التوحيد.
وقال تعالى: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) الدين كله قالوا إن المراد على الأديان كلها، ولكنا نرى أن المراد الدين الحق الذي ذكره أولا؛ لأن إعادة المعرفة معرفة تكون عينها، ومعنى ظهوره على الدين كله المراد بقاؤه ظاهرا معروفا، لأنه خاتم الرسل وآخرهم، ويتضمن كل ما جاءت به الرسل جميعا، وهذا هو معنى " كله " فهو الدين الجامع لكل الرسالات السابقة، فمن آمن بها فقد آمن بكل الشرائع السماوية السابقة سليمة غير محرفة.
هذا ما نختاره والله الموفق للصواب.
وقد جاءت أخبار كثيرة تدل على انتشار الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها وإنها لصادقة (راجع تفسير الحافظ ابن كثير)، وفي هذه الأخبار الصحاح إشارة إلى أن الأمراء هم الذين يفسدون أمر المسلمين، فقد جاء في مسند الإمام أحمد رضي الله عنه: " سمعت شقيق بن حبان يحدث عن مسعود بن قبيصة أو قبيصة بن مسعود يقول: صلى هذا الحي من محارب الصبح، فلما صلوا قال شاب منهم: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إنه ستفتح لكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمالها في النار إلا من اتقى الله وأدى الأمانة " (1) صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
________
(1) رواه أحمد: باقي مسند الأنصار - أحاديث رجال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (22599).(6/3287)
فحكام " المسلمين هم " الذين. أفسدوا الناس وكانوا حجة على هذا الدين، ومهما يكن فإن الله أظهر الدين على الدين كله، وقال: (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) الذين عادوا الله وعادوا الحق، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله.
وإن الله تعالى حافظ دينه، وإذا كان المسلمون قد غلبوا على أمرهم بعمل حكامهم، فإنه لَا تزال طائفة منهم قائمة على الحق تنادي به وتحفظه. بعد أن بين الله الضلال الذي أضل به الأحبارُ والرهبانُ اليهودَ والنصارى إذ اتخذوا أربابا من دون الله، وذكر أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - قد أرسل بالهدى والدين الحق ليزيل ضلالهم، وليظهر بالحق على الدين عاد إلى الكلام في الأحبار وكيف فسدوا وأفسدوا، فقال تعالى:
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
* * *
الخطاب للذين آمنوا والنداء لهم بالبعيد، والخبر عن أحبار اليهود ورهبان النصارى، فلماذا كان الإخبار للذين آمنوا؛، أَلِمُجَرَّدِ القصص الحكيم الذي تكون فيه العبرة أم له ولأمر آخر يطويه الإخبار بقول إن القصص لَا ريب فيه العبرة كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأوْلِي الأَلْبَابِ. . .)، ولكنه يطوي أمرين آخرين، وهما:(6/3288)
أولا: ألا يثق المؤمنون بهم بما يلبسونه من طقوس، ومسوح يلقون بها بين الناس المهابة منهم والثقة فيبين الله للمؤمنين أنهم يتجرون بعلمهم، ويأخذون الرشا وسحت المال، والاتجار بالعلم في ذاته غير جائز، فكيف إذا كان الثمن رشا وبراطيل وسحت المال.
وثانيا: ليكون ذلك تحذيرا لمن يتعلمون علم الإسلام بألا يتخذوه مُتَجرًا يتجرون به، فعلم الإسلام أعلى ما يدخره العلماء فلا يبيعونه ولا يحطون به على هوى الحكام، ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير: " والمقصود التحذير من علماء السوء وعباد الضلال كما قال سفيان الثوري: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى. . . والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم، ويقول في ذلك الفقيه عبد الله بن المبارك:
" وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها "(6/3289)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
(لَيَأكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ) معناها يأخذونها بغير مسوغ ديني، وعبر عن الأخذ بالأكل لأن الأكل في الأصل هو أوضح الغايات، ولأنه ينبئ عن الشره والطمع في الأموال وأخذها بغير حق، وذلك أانهم كانوا يأخذون سحت الأموال، ويبيعون ما يحلونه لأنفسهم من الدين، ويأخذون البراطيل، وكلما زادت ثقة الناس فيهم ازدادوا طمعًا في أموالهم، بل فيما هو أفحش من باطل الأموال، وبعد أن ضعف الدين في قلوب علمائنا كان منهم من يفعل مثل فعلهم، ويقول في ذلك ابن كثير: " وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين، ومناصبهم، ورياستهم في الناس يأكلون بها أموالهم، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف، ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم، فلما بعث الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرباسات فأطفاها الله بنور النبوة، وسلبهم إياها!.
وإن نور النبوة المحمدية بعد أن بزغ، وعم ضياؤه كان مزيلا لما يشيعه الأحبار والقسيسون من إفساد وضلال، ولذلك لما فتك النصارى بالمسلمين في(6/3289)
الحروب الصليبية كان بعده الإصلاح المسيحي، مع أن حال المسلمين لم تكن كما أراد لها الإسلام.
كلمة (والأحبار) فسرناها من قبل بالعلماء الذين يحبرون العلم، ويزينونه بحسن الأداء والبيان واللسان والقلم، ولكن بعض المفسرين يفسرون الأحبار بأنهم علماء اليهود، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ. . .)، وأما علماء النصارى فيقال عنهم قسيسون، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: (. . . ذَلِكَ بِأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)، والرهبان عباد النصارى ولعلهم يقابلون الربانيين في اليهودية ولا مانع من هذه التسمية، ولعل إطلاق الأحبار ربما يسع القسيسين ليكون سيرا على الأصل اللغوي من معنى كلمة الأحبار.
وعبر سبحانه وتعالى عن كل كسب خبيث بقوله تعالى: (بِالْبَاطِلِ)؛ لأن الباطل يشمل أخذ المال بغير حق، يبرر الأخذ بالخديعة أو بالغش والتدليس والاتجار بدين الله تعالى.
ومع أنهم كانوا يخدعون الناس بتدينهم الآنف، وخصوصا الرهبان كانوا يصدون عن سبيل الله تعالى، فقال تعالى: (وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلٍ اللَّهِ) كأنهم يتخذون مسوحهم ورياستهم الدينية، لابتزاز الأموال، وأخذها بغير حقها، والعبث بها، واكتنازها متخذين في ذلك مظاهرهم ذريعة لمآثمهم، يصدون ويمنعون أتباعهم الذين اتخذوهم فريسة لأهوائهم من أن يتبعوا الحق، والنور الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو سبيل الله الحق الذي لَا يمتري فيه عاقل، ولا ذو قلب، وبصر، كما قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عن سبِيلِهِ. . .).
وإن الأموال التي يأخذونها يجمعونها، ويكنزونها، ومأواهم جهنم، ولذا قال سبحانه بعد ذلك:(6/3290)
(وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
وهذا النص الكريم يبين أن جمع المال لَا يجدي، ويضر صاحبه، ومآله شر في الدنيا والآخرة، والكنز في اللغة: الضم والجمع لكل شيء ثمين سواء دفن في باطن الأرض، أو لم يدفن، ولكن شاع استعماله فيما يدفن في باطن الأرض، ولكن شيوعه لَا يمنع أصل إطلاقه، ولا يمنع الشيوع من أن يطلق على الأصل اللغوي القوي، ولقد قال شيخ المفسرين الطبري: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها.
وظاهر الآية يدل على أنها عامة تعم الأحبار والرهبان وغيرهم من المسلمين وغيرهم، ولكنها سيقت في مقام الكلام على أكل الرهبان والأحبار لأموال الناس بالباطل، ولا يمنع ذلك من عموم؛ لأن لفظها عام، والعبرة بعموم اللفظ، وقد جرت مناقشة في ذلك بين أبي ذر الصحابي الجليل، ومعاوية بن أبي سفيان، ولنذكر بعضها:
قال الحافظ ابن كثير: " كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك، ويحث الناس عليه ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه ".
كان الصحابي الطاهر المؤمن يعيش في الشام، والأمير معاوية، وأبو ذر يجهر برأيه ويحث الناس عليه ويستنكر النعيم الذي يرفل فيه معاوية، ومن يواليه، فأبلغ أمره إلى أمير المؤمنين عثمان ذي النورين، فأحضر أبا ذر، فاختار أبو ذر أن يقيم بالربذة، ولكن الراجح من الروايات أن عثمان هو الذي أنزله بها، وبها مات رضي الله عنه.
وقد روى البخاري عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: مَرَرْتُ بِالرَّبَذَةِ فَإِذَا أَنَا بِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْزَلَكَ مَنْزِلكَ هَذَا؟ قَالَ: " كُنْتُ بِالشَّأْمِ، فَاخْتَلَفْتُ أَنَا وَمُعَاوِيَةُ فِي: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} " قَالَ مُعَاوِيَةُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الكِتَابِ، فَقُلْتُ: " نَزَلَتْ فِينَا(6/3291)
وَفِيهِمْ، فَكَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فِي ذَاكَ، وَكَتَبَ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْكُونِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ عُثْمَانُ: أَنِ اقْدَمِ المَدِينَةَ فَقَدِمْتُهَا، فَكَثُرَ عَلَيَّ النَّاسُ حَتَّى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْنِي قَبْلَ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُ ذَاكَ لِعُثْمَانَ " فَقَالَ لِي: إِنْ شِئْتَ تَنَحَّيْتَ، فَكُنْتَ قَرِيبًا، «فَذَاكَ الَّذِي أَنْزَلَنِي هَذَا المَنْزِلَ، وَلَوْ أَمَّرُوا عَلَيَّ حَبَشِيًّا لَسَمِعْتُ وَأَطَعْتُ ".
وإن هذا الحديث يدل عنى أنه اختار هذا البعد، وربما يكون قد اختار الربذة بالذات.
وفى المناقشة بينه وبين معاوية أغلظ، وقد أراد معاوية أن يغويه بالمال أو يختبره وهو عنده، أيوافق قوله عمله أم لَا، فبعث إليه بألف دينار، ففرقها على الفقراء من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها، فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت، فهات الذهب، فقال: ويحك إنها خرجت، ولكن إذا جاء مالي حاسبتك. وفي الحق أن أبا ذر قد أصاب كل الإصابة في قوله: إن الآية تعم الأحبار والرهبان وأتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - وأخطأ معاوية، وما لمعاوية وفقه القرآن!.
ويحق إذن أن نقول إن الآية عامة لَا تخص الأحبار والرهبان، ولا نسير إلى المدى الذي يسير إليه سيدنا أبو ذر الصحابي المخلص بحيث لَا يبيح لذي المال إلا ما يكفيه وعياله كما كان يفعل في - ذات نفسه، ويدعو إليه. روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه كان مع أبي ذر، فخرج عطاؤه، ومعه جارية، فجعلت تقضي حوائجه، فقضت منها سبعة، فقلت: لو ادخرت لحاجة بيوتك، وللضيف ينزل بك، فقال: إن خليلي أوصاني أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله إفراغا.
ولقد قال ابن عبد البر: " وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة!.(6/3292)
ونحن نتبع جمهور الصحابة؛ وذلك لأنه إذا لم يبق شيء من المال بعد نفقاته ونفقات عياله لم يكن ثمة زكاة، لعدم وجود وعاء لها، فشرعية الزكاة توجب مالا مدخرا حولا، وذلك ينافي ما ذهب إليه أبو ذر رضي الله عنه. وأيضا فإن الأخذ برأي الصحابي الجليل ينافي الميراث؛ لأن الميراث يكون في المال الذي يبقى، وقد منع الصحابي الجليل بقاء أي مال يورث أو تجب فيه الزكاة.
وأيضا فإن معنى رأيه إلغاء الوصية مع الميراث، وقد شرعت الوصية بالقرآن، وبالحديث النبوي، فقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: " إن اللَّه تصدق عليكم في آخر أعماركم بثلث مالكم فضعوه حيث شئتم) (1) ولقد كان من الصحابة من لهم ثروات في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - فما استنكرها عليهم، فعثمان كان ثريا وتاجرا، وعبد الرحمن بن عوف كان ثريا وتاجرا، وأبو بكر وعمر كانا من ذوي الأموال.
وإنه لو أخذ برأي أبي ذر ما كانت التجارات، فأسواقها تقوم على رءوس الأموال، وما كانت الصناعات، فهي أيضا تقوم على رءوس الأموال.
من أجل هذا كان لابد من تخصيص كنز الذهب والفضة الذي أوعد الله تعالى، وقد خصصوه من ذات النص القرآني فقد قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَكنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا ينفِقونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إن الوعيد على الأمرين مجتمعين لا على أمر واحد منهما. فليس الوعيد على الكنز لذات الكنز، وإنما الوعيد على الأمرين معا، على الكنز وعدم الإنفاق في سبيل الله تعالى، فإذا وجدا معا كان التبشير بالعذاب الأليم، وكان الوعيد الشديد لمن يمنع الإنفاق مع أنه يكنز المال، ولذا تضاربت الروايات على أن من يعطي الزكاة لَا يكون عليه إثم الكانزين، بل إنه لَا يعد كانزا من يخرج حقه في سبيل الله، وإنما الكانز هو الجامع للمال الذي يمنع حقه.
________
(1) سبق تخريجه.(6/3293)
وقد ورد ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بأن الإنفاق يمنع إثم الكانز الذي يجمع المال، وإنما ورد في الأثر الصحيح: " نعم المال الصالح في يد العبد الصالح " (1).
ويجب أن نشير هنا إلى أن الآية تشير إلى أن المال لَا يكنز من الذهب والفضة، بل يجب أن يخرج للاستغلال الحلال بالاتجار، والصناعة، والزراعة، ولا يبقى في الخزائن، كالماء العطن الذي لَا ينتفع به، وفي الآية إشارات بيانية: منها - قوله تعالى: (فَبَشِّرْهُم بِعَذَاب) فإن في الآية تهكما عليهم؛ لأن العذاب الأليم لَا يبشر به، بل يهدد به، وفي التعبير بقوله تعالى: (فَبَشِّرْهُم) تهكم بهم، إذ إنهم كانوا يرتقبون خيرا في الآخرة من تكاثرهم في المال واكتنازه فجاءت العقبى غير ما يرتقبون.
ومنها - أن الضمير أعيد على الذهب والفضة بضمير المؤنث في قوله: (وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) لملاحظة المعنى وهو الدنانير من الذهب، والدراهم من الفضة، وهي جمع، فأعيد عليها بضمير المؤنث، وهو لما لَا يعقل يكون بالضمير المؤنث.
والثالثة - أنه ذكر الكنز في الذهب والفضة دون غيرهما مع أن الأموال كثيرة، وكان المال يطلق على النعم دون غيرها، وأجيب عنها بأن الذهب والفضة تطلق على كل المال، وهما مقياس التقدير لكل الأموال، وقد قال في ذلك الزمخشري: إنهما قانون التمول وأثمان الأشياء، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما، لم يعدم سائر أجناس المال، فكان ذكر كنزهما دليلا على ما سواهما.
________
(1) عن عَمْرو بْنِ الْعَاصِ، يَقُولُ: بَعَثَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلَاحَكَ، ثُمَّ ائْتِنِي» فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ النَّظَرَ ثُمَّ طَأْطَأَهُ، فَقَالَ: " إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ فَيُسَلِّمَكَ اللَّهُ وَيُغْنِمَكَ، وَأَزْعبُ لَكَ مِنَ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً». قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ زَعْبَةً فِي الْإِسْلَامِ، وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ: " يَا عَمْرُو، نِعْمًا بِالْمَالِ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ. رواه أحمد: مسند الشاميين - حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه (17309).(6/3294)
هذا معنى الآية الكريمة فيما يظهر لنا، ويجب أن ثنبه إلى أنه لَا يصح النهم في المال إلا للقيام بمصلحة عامة، ولا يصح أن يكون المال مطلبا ذاتيا، وغرضا مقصودا لذاته لَا للتمكن من النعم، فإنه حينئذ يلهى عن المقاصد السامية، كما قال تعالى: (أَلْهَاكمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)، (1)، ولأنه يصير عبدا للمال، لَا سيدا متصرفا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " تعس عبد الدرهم " - وقد روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " تبا للذهب تبا للفضة، قالها ثلاثا فقالوا له: أي مال نتخذ: قال: " لسانا ذاكرا وقلبا خاشعًا، وزوجة تعين أحدكم على دينه) (2) وقال - صلى الله عليه وسلم -: " من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها " (3).
ذكر الله عذاب يوم القيامة لمن كنز الذهب والفضة من غير إنفاق:
________
(1) جزء من حديث رواه البخاري: الجهاد والسير - الحراسة والغزو في سبيل الله عن أبي هريرة رضي الله عنه (2887).
(2) رواه أحمد في مسنده: باقي مسند الأنصار - حديث رجال من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (22591).
(3) رواه أحمد: مسند الأنصار - حديث أبي ذر رضي الله عنهم (20969). قلت: وقد نوَّه الثيخ أبو زهرة رحمه الله تعالى إلى مراجعة الكشاف عند هذا الموضع.(6/3295)
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
(يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
(يَوْمَ) تتعلق بقوله: (بِعَذَاب أَلِيم)، أي ذلك الإيلام الشديد، يوم يحمى عليها أي يوقد عليها، والضمير يعود إلى الذهب والفضة كما يعود ضمير ينفقونها إليها على التخريج الذي ذكرنا آنفا، ولهذا النص تصوير لحال الأشحة الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبل الخير، ولا يؤدون ما تعلق بها من نفقات على العيال، والفقراء، فلا يعطون المال على حبه مسكينا يتيما وأسيرا، ويعيشون لأنفسهم، لَا يتجاوزونها إلى غيرهم من الفقراء والمحاويج والمجاهدين والمؤلفة قلوبهم والغارمين وفي سبيل الله.
و (يُحْمَى عَلَيْهَا) أي يوقد عليها فتكون كمقامع تكوى بها وجوههم، وجنوبهم وظهورهم، وذكرت هذه الأعضاء لأنها تعم الجسم كله، وابتدأ بالوجوه(6/3295)
لأنها بها المواجهة، وبها تتميز الأشخاص؛ ولأنهم يطلبون بكنز المال الوجاهة في الدنيا، والشأن فيها، ولأنهم بالكنز يصونون ماء - وجوههم، كما قال الزمخشري " أن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم يتلقون بالجميل، ويحيون بالإكرام، ويبجلون ويحتشمون، ومن أكل الطيبات يتضلعون منها، وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب، يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم لَا يخْطِرون ببالهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ذهب أهل الدثور بالأجور ".
وقيل لأنهم كانوا إذا بصروا الفقير عبسوا وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه، وتولوا بأركانهم، وولوه ظهورهم، وقيل: معناه يكون على الجهات الأربع مقاديمهم، ومآخيرهم وجنوبهم، اهـ.
هذه مقالة الزمخشري، ونرى الأقوال التي ذكرها كلها صادقة، فهم ينتفعون بالأموال مفاخرين بها مباهين مستعلين يملئون بطونهم منها، ويلبسون الدمقس والحرير، ويعبسون للفقراء، ويهشون للأغنياء، ويوم القيامة تحيط بهم النار من الجهات الأربع، بحيث لَا ينفلتون عنها، ويكوون بها في كل أجزاء جسمهم، ولا يجدون للفرار منها سبيلا.
(هَذَا مَا كنَزْتمْ لأَنفُسِكُمْ) هذه النار الموقدة من تنوركم هي ما كنزتموه أي عاقبته ومآله، أو ذاته، فذوقوا ما كنتم تكنزون، أي وبال ما كنتم تكنزونه، أو ذوقوه موقدا للنار.
هذا خبر الله تعالى عن الكنوز وأصحابها يوم القيامة، وما يتعلق باليوم الآخر نقبله كما هو، ويصح أن نقول إنه تصوير لحالهم تسببه عاقبة أمرهم بمن يكوون بذهبهم وفضتهم، والله عليم خبير.
قد ابتدأ في سورة براءة بذكر الأشهر الحرم ومنع القتال فيها ثم تكلمت على عهود المشركين وعمارة المسجد الحرام، وعلى منع المشركين من المسجد الحرام وبيان شرك أهل الكتاب، وعبث الأحبار والرهبان بمداركهم.(6/3296)
ومن بعد كان الجهاد، وقدم اللَّه تعالى بيان الأشهر الحرم حرامها وحلالها، فقال تعالى:
* * *
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
* * *
إن الله تعالى وقت العبادات غير الصلاة بشهور من السنة، فرمضان شهر القرآن، وشهر الصيام، وذوالحجة شهر الحج لأن فيها يوم عرفات، والحج له أشهر معلومات كما قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ معْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ. . .)، وهذه الأشهر هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وجعلت الأشهر بالأهلة، تبتدئ برؤية الهلال وتنتهي برؤيته، كما قال تعالى: (يَسْألُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ فلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ. . .) أالبقرة، وقال تعالى: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيم) أيس،، وقال تعالى: (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)، وجعلت الأهلة علامة الشهور ابتداء وانتهاء، أو هي الشهور لأمرين:(6/3297)
أولهما - أن يعلم ابتداء الشهر بالحس لَا بالتقدير والحساب المجرد؛ فإن الأشهر الشمسية لَا تعرف إلا بالحساب.
ثانيهما - ألا تتغير السنة بالزيادة والنقصان فتكون (كبيسة) فتزاد، أو (بسيطة) فلا تزاد، وإنها تتفق مع طبائع الناس.
وبذلك لَا تتغير أوقات العبادات، ولا تختلف، وجعلها الله تعالى اثني عشر شهرا، وقد ثبت كل شهر في موضعه ذاته لَا يفترق عنه، وقلنا: إن طبائع الناس تسير مع الأشهر العربية فثبت أن الحيض والحمل يتبعان الأشهر القمرية. وقد قال تعالى:(6/3298)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
(إِن عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كتَابِ اللَّهِ) و (عِندَ اللَّهِ) معناها في حكمه وتقديره سبحانه وتعالى، وعلينا أن نهتدي بما هدانا إليه، وقوله تعالى: (فِي كِتَابِ اللَّهِ)، أي فيما كتبه علينا من أحكام متعلقة بهذه الأشهر، وقال بعض العلماء: المراد ما كتب في اللوح المحفوظ الذي فيه ما قدره الله تعالى بعباده، فهو لوحه المكنون.
ويقول سبحانه: (مِنْهَا أَرْبَعَة حُرُمٌ) الضمير يعود إلى (عِدَّةَ الشُّهُورِ)، وحُرُمٌ جمع حرام، وقد فسرت بأنها التي حرم فيها القتال، وكان ذلك قبل الإسلام على شريعة إبراهيم عليه السلام الذي تعود إليه مناسك الحج، وإذا كان المشركون قد حرفوا فيها وغيروا وبدلوا فإن الإسلام قد أعادها كما بدأت؛ لأنه ملة إبراهيم عليه السلام كما قال تعالى: (. . . وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ. . .).
وهذه الأشهر الحرم هي ثلاثة سرد، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع مبينا شريعته، ومنها الأشهر الحرام، وكانت الخطبة في العام العاشر " إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ(6/3298)
حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحَجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ، أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ "، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ ذَا الحَجَّةِ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ البَلْدَةَ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: «فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟»، قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟»، قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: " فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ - قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ - عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَّالًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلاَ لِيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ (1).
وإن معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " أن المشركين كما سيتبين يغيرون في الأشهر الحرم اتباعا لشهواتهم في القتال والغارات، فكانوا إذا جاء الشهر الحرام، وهم يتقاتلون، أو يريدون الغارة أجَّلوه إلى ما يليه، ويسمون ذلك النسيء كما سيأتي في الآية الآتية، إن شاء الله تعالى، فمعنى قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، أن هذا الوقت هو وقت صادق أنه في الأشهر الحُرُم.
وتحريم القتال في هذه الأشهر فرض هدنة شرعية تحمل الناس على ألا يرفعوا السلاح ولا يقاتلوا، فتعود القضب إلى أجفانها فتكون الترويه، وإذا كان بين المتقاتلين هدنة يتروون فيها تكون كالنسيم العليل فتهدأ النفوس، وربما أنهت القتال، ألم تر أن هدنة الحديبية أنهت القتال بين النبي والمشركين.
وفوق ذلك فهذه الأشهر هي أشهر الحج، فيجب أن يكون فيها أمن السارى في ذهابه إلى الحج وأوبته، حتى تؤدى فرائض الله، والأشهر المتواليات أشهر
________
(1) متفق عليه، رواه البخاري: المغازى - حجة الوداع (4406)، ومسلم بنحوه: القامة والمحاربين - تغليظ تحريم الدماء (1679).(6/3299)
الذهاب والأوبة، ورجب مضر كان شهر عمرة، فأُمِّن ليتمكن من يريد العمرة من أن يعتمر فيه.
ولقد قال تعالى: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) الإشارة إلى ما تقدم من عدة الشهور، وتحريم القتال في أربع منها هو الدين، وعبر عنها بأنها الدين لمكان تحريمها من الشرع، وإن كانت بعض (الدِّينُ)، فذلك التعبير السامي تأكيد لمنع القتال في الأشهر الأربعة، و (الْقَيِّمُ) معناه المستقيم القويم وكان كذلك؛ لأنه ما سلكه إبراهيم باني البيت ورافع قواعده، ولأنه يكفكف حدة القتال، ولأنه يمكَن قاصدى البيت من أن يصلوا إليه، ويعودوا منه.
وقال تعالى: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ) الظلم: النهي عنه في هذه الأشهر الحرم، هو ظلم أنفسهم باستمرار القتال فيها، فظلم للنفس أن يقاتل، وقد منع من القتال، ولأنه عصيان لله، وكل عصيان لله تعالى فهو ظلم للنفس، وقال بعض العلماء: إن الظلم للنفس في الشهر الحرام هو أن يُعتدى عليهم فلا يدافعوا عن أنفسهم ويردوا اعتداء غيرهم، ونقول: إن القتال في هذه الحال لَا يكون محرما في الشهر الحرام، بل المعتدى على الشهر غيرهم، والله تعالى يقول: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاص. . .).
وبعد ذلك أمر الله تعالى بقتال المشركين كافة ردا لاعتدائهم فقال: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَةً كمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَةً. . .).
وهذه لَا تتنافى مع تحريم القتال في الأشهر الحرم، بل إنها تؤيده في معناه، إن المشركين في غزوة الأحزاب وغيرها - وخصوصا إذا أدخلنا في عداد المشركين من كانوا يعبدون الأشخاص - كانوا يجتمعون كافة، فكان حقا على المؤمنين أن يجتمعوا كافة لهم، ولا يتخاذلوا أمامهم، وإن قاتلوا المؤمنين بكافتهم في الأشهر الحرم، وجب أن يجتمعوا كافة لمقاتلتهم ولا يتوانوا ويثاقلوا.
وكان غريبا أن يتخذ بعض الفقهاء من قوله تعالى: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكينَ) دلالة على نسخ الأشهر الحرم، كان بعض الآية يهدم(6/3300)
بعضها الآخر، فأول الآية يبين شريعة الأشهر الحرم، وآخرها - في زعمهم الغريب عن كل معقول في القول - يهدمه، وهذا إذا كان في كلام الناس يكون غريبا، فكيف يكون مقبولا في كلام الله سبحانه وتعالى، بل من الغريب أنهم تنسَّخوها قبل تتميم حكمها بالكلام في النسيء، ويزكون وهمهم الكاذب بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حاصر الطائف في الشهر الحرام، وإن الثابت تاريخيا أن النبي أنهى الحصار قبل انتهاء شوال (1).
وإن الحق أنه لَا نسخ، ومن ادعى النسخ فقد ادعى أمرا غير معقول في ذاته، وذلك لما يأتي:
أولا - أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أكد تحريم القتال في الأشهر الحرم في حجة الوداع، وبين أحكاما أخرى.
ثانيا - أن الله تعالى ذكر الشهر الحرام في آيات كثيرة منها قوله تعالى: (يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ. . .).
وهذا في سورة المائدة التي هي من أواخر القرآن نزولا، وقال تعالى: (فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيْث وَجَدتُّمُوهُمْ. . .) وقال تعالى: (يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَال فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كبِيرٌ. . .).
وهكذا تعددت الآيات المحرمة، ومع ذلك يدعي بعض الفقهاء النسخ بغير حجة إلا أن تكون موافقة الملوك الشرهين إلى الدماء، وتكون مع المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه.
وقد أتم الله تعالى ما ذكره في تحريم القتال في الأشهر الحرم، وتلاعب المشركين به فقال:
* * *
(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
* * *
________
(1) راجع كتاب " خاتم النبيين " للإمام محمد أبو زهرة. دار الفكر العربي.(6/3301)
ختم الله تعالى الآية السابقة بقوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتّقِينَ) لإشعار المؤمنين بأنه من التقوى إطاعة الله في تحريم القتال في الأشهر الحرم حقنا للدماء، وأن الله تعالى لَا يصاحب ولا ينصر إلا المتقين، وأكد ذلك بالأمر بالعلم، كما أكده بالصحبة السامية لله تعالى، وبالجملة الاسمية.
ولذلك ذكر من بعد ذلك الاعتداء على الأشهر الحرم بالنسيء، والنسيء معناه التأخير والتأجيل، يقال: (نسأ) بمعنى أخَّر وأجل، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم " من أراد منكم أن يبارك له في رزقه، وينسأ له في أجله فليصل رحمه " (1).
وكانت طريقة النسيء أن يجيء إلى المحرم وهو من الشهر الحرام فيستبيح القتال فيه، ويؤجل التحريم إلى صفر، فيستبدل بالشهر الحرام شهرا حلالا، ولأنه يريد الغارة، وقالوا: إنما كانوا يفعلون ذلك رغبة في الغارات، وطمعا في الأموال من النعم، ويذكر ابن إسحاق في سيرته أن أول من فعل ذلك رجل من كنانة اسمه " القَلَمَّس ".
ولقد ذم الله النسيء أشد الذم فقال تعالى:
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: الأدب - من بسط له في الرزق بصلة الرحم (5986)، ومسلم: البر والصلة (2557).(6/3302)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكفْرِ) أي ليس النسيء إلا زيادة في الكفر، فـ (إنما) أداة قصر، فهو ليس إلا زيادة فيه؛ كفروا بملة إبراهيم عليه السلام فعبدوا الأوثان وطافوا بالبيت عراة، وكان شرع إبراهيم تحريم القتال في أربعة أشهر معينة بالتعيين، فغيروا فيها بالنسيء، فزادوا بذلك كفرا إلى كفرهم.
وقال تعالى: (يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي أن شهواتهم في الغارات والقتل والقتال وتحكم الشيطان في نفوسهم يضلهم، ويلاحظ أنه بني للمجهول للدلالة على أن عوامل الضلال كثيرة رأسها شهواتهم في الحرب، وسيطرة الشيطان على نفوسهم، والعداوة والبغضاء بينهم، وكان هذا لأنهم أصحاب غارات وحروب(6/3302)
مستمرة، فإذا جاء الشهر الحرام، لم يحرموا ما هم عليه من قتال، بل يستمرون سادرين في غيهم، ويؤخرون التحريم إلى الشهر الذي يليه، ثم يسيرون في غيهم، ويقول الزمخشري: ربما جعلوا السنة ثلاثة عشر شهرا أو أربعة عشر.
ويقول سبحانه وتعالى: (يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرمُونَهُ عَامًا) يحلون النسيء عاما، ويمنعونه عاما حسب سيطرة هوى الحرب على أنفسهم، وتحكم شهوتها في نفوسهم، وقد يقصرون السنة عن اثنى عشر شهرا، ليعوضوا الزيادة التي زادوها، وذلك ليواطئوا عدة ما حرم الله، " العدد الذي حرمه الله تعالى وهو أربعة أشهر ".
وإنهم بذلك يخالفون ما شرعه الله تعالى، وهو أنه حرم أشهرا معدودة بأربعة، ومعينة بالتعيين، حسب ميقات كل شهر وموضعه من السنة، وبالنسبة لما قبله، وما بعده، فبالنسيء خالفوا التعيين، ووضعوا شهرا في موضع شهر من عند أنفسهم من غير علم أوتوه، ولا حجة اعتمدوا عليها، بل هو الهوى، فهم نظروا إلى العدد، ولذلك قال تعالى: (لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ)، أي ليوافقوا العدد، لا الأوقات ذاتها، وبذلك أحلوا ما حرم الله، فكان المحرم هو شهر المحرم، فأحلوه، وكان الحلال صفر فحرموه، ولما اضطربت الأشهر وتغيرت مواضعها، أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله، ولذلك عندما أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريم الأشهر الحرم قال: " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض " أي صار كل شهر في موضعه لَا يبتعد عنه، فرمضان هو رمضان كيوم خلق الله السماوات والأرض، وذو القعدة كذلك، وذو الحجة والمحرم، وبذلك يكون الحلال من الأشهر حلالا والحرام حراما.
ثم يقول سبحانه: (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ) أي زين لهم الشيطان والهوى سوء عملهم القبيح، وبني للمجهول للإشارة إلى أن عوامل كثيرة سولها لهم كفرهم، جعلتهم يغيرون خلق الله في الأشهر، ثم قال تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)؛ لأنهم سلكوا سبيل الغواية، واختاروا الضلال، فساروا فيه، فكان في ذلك ضلالهم، والله سبحانه مع من سلك طريق الحق مختارا هداه إلى نهايته، ومن سلك طريق الباطل مختارا أنهاه تعالى إليه.
* * *(6/3303)
القتال في غير الأشهر الحرم
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
* * *
بعد أن بين الله تعالى الأشهر الحرم وعبث المشركين، بين الجهاد سيرا على نسق الأشهر الحرم، في قوله تعالى: (فَإِذَا انسَلَخ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ. . .).(6/3304)
والقتال هنا قد تجاوز الجزيرة العربية إلى ما حولها من الشام، وتجاوز الوثنية إلى أهل الكتاب الذين يعبدون غير الله تعالى وذلك في غزوة تبوك، فقد كانت في شدة القيظ، وكانت بعد أن ملأت الغنائم الجيوب، وبعد أن أخذ الترفه يغزو النفس المؤمنة، وهو آفة القوة.
أخذ يدعوهم إلى الجهاد، شكان منهم من أقعدته الدعة، والاستنامة إلى الراحة، فلم يكونوا كما كانوا من قبل إذا دعوا إلى الجهاد سارعوا إليه، ولذا عاتبهم الله تعالى فقال:(6/3305)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ) صدَّر النداء بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) للإشارة إلى أن موجب الإيمان كان يدعو إلى المبادرة، لَا إلى التثاقل، وقوله: (مَا لَكُمْ) استفهام إنكاري بمعنى التوبيخ، معناه أي شيء ثبت لكم فمنعكم من المبادرة إذا دعيتم، ثم صرح سبحانه بما تضمنه الاستفهام، وهو (اثَّاقَلْتُمْ) أصلها تثاقلتم، وفي قراءة الأعمش (تثاقلتم) على أصل الاشتقاق (1)، وموضع الاستنكار هو التثاقل عندما (قِيلَ لَكُم انفِرُوا)، و (إِذَا) متعلقة في الفعل المقدَّر في قوله تعالى: (مَا لَكُمْ) والمعنى أي شيء أثبت لكم حال ما قيل انفروا اثاقلتم و (انفِروا) معناه انتقلوا إلى الحرب، والجهاد في سبيل الله، فالنفير معناه الخروج إلى القتال.
وقوله تعالى: (اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ) معناه تثاقلتم، وثقلت عليكم المبادرة إلى القتال مخلدين بأنفسكم إلى الأرض حيث الدعة والراحة، والاستظلال بظلها، والسكون، ويتضمن هذا المعنى أنهم رضوا بالتقاعد في الأرض وترك الرفعة والمقام المحمود في الجهاد، كقوله تعالى: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ. . .).
والمعنى أنهم إذ تثاقلوا عن الجهاد رضوا البقاء في الأرض، فحقت عليهم الذلة.
________
(1) (تثاقلتم)، ليست في العشر المتواترة.(6/3305)
وقال تعالى فيما يترتب على تثاقلهم، وهو أن يكونوا قد تركوا الجهاد ورضوا بمتاع قليل، وتركوا متاع الآخرة الكثير، فقال تعالى: (أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ) الاستفهام للاستنكار التوبيخي، ومعناه أنكم إذا اثاقلتم عندما دعيتم إلى النفور في سبيل الله فقد رضيتم بأن تكون لكم الحياة الدنيا التي هي الدنية (مِنَ الآخِرَةِ) من هنا بمعنى بدل، أي رضيتم بالدنيا ونعيمها الزائل بدل الآخرة، ونعيمها المقيم الدائم.
ولذا قال مقررا الفرق بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة، فقال تعالت كلماته:
(فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيل).
(الفاء) هنا للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر تقديره، إذا كنتم رضيتم ذلك فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قدر قليل ضئيل، وهنا إشارات بيانية نذكرها.
أولها - في التعبير بـ (اثَّاقَلْتُمْ) فإن الصيغة بحالها من الإبدال في لفظها دلالة على استثقال النفور في سبيل الله، وما ذلك شأن المؤمنين المجاهدين الذين سبق لهم البلاء في الإسلام، ولهم في الجهاد سابقات كرام.
الثانية - في النفي والإثبات في قوله تعالى: (فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) فإنه يفيد قصر متاع الدنيا، مهما يكن من إحساس وراحة بالنسبة
للآخرة فما هو إلا قليل.
ولم يذكر متاع الآخرة لكثرته، ولأن الإيمان بها في ذاته سعادة غير محصورة، فهي علو في إدراك النعيم المقيم الثابت الدئم.
وإن عاقبة القصور عن الجهاد هي الذل، والهوان، ولذا قال تعالى:
(إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)(6/3306)
هذا إنذار من الله لكل الذين يتركون الجهاد، ولا ينفرون في سبيل الله، فقد أنذر في هذه الآية بالعذاب والسخط والهلاك، وأنه لَا ضرر على الله ورسوله.(6/3307)
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
(إِلَّا تَنفِرُوا) أي في سبيل الله والجهاد، هي (إنْ) الشرطية المدغمة في (لا)، وجواب الشرط (يُعَذِّبْكُم عَذَابًا أَلِيمًا) ذكر العذاب منكَّرًا، مطلقا، والتنكير لتعظيم هذا العذاب، وأنه شديد يتطابق في شدته مع التثاقل عن الجهاد عند وجوب موجبه ودعوة الإمام الحق إليه، وإطلاقه يفيد تعدده وكثرته، فهو يشمل الغزو من الأعداء، والذلة، والمهانة والصغار، هذا في الدنيا، أما يوم القيامة فنار الجحيم وغضب الله، وسخطه، وبعده عنه.
وذكر مع العذاب الأليم الهلاك، فقال تعالى: (وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ) أنه يكون عند هلاككم، وحيث تهلكون مصحوبين بالخزي والهزيمة والعار يجيء قوم غيركم يكونون أشد بأسا وأعرف بحق الله تعالى منكم، وأرضى له، ثم يقول سبحانه: (وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا)، أي شيء من الضرر قليلا كان أو كثيرا، والضمير يعود - في ظاهر السياق (على الله سبحانه وتعالى) والمعنى على ذلك - أن الله تعالى غني عن العباد، وهم الفقراء إليه، والآية تشير إلى أنهم لَا يضرون إلا أنفسهم، فالعاقبة تعود إليهم، فهم الذين تنزل بهم الذلة، وتركبهم المهانة، وتلحقهم الهزيمة.
ويجوز أن يعود الضمير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو حاضر في الأذهان دائما، وهو الذي دعاهم إلى أن ينصروه بأمر ربهم، ويكون المعنى لَا تضروا الرسول بتخاذلكم، وتثاقلكم شيئا، فإن الله تعالى ناصره، فإن لم يكن بكم فبغيركم (وَاللَّهُ عَلَى كلِّ شَيْء قَدِيرٌ) فهو قادر على أنْ ينصره بغيركم، ولكن بعد فنائكم وضرب الذلة عليكم.
وإن الإنذار الذي اشتملت عليه هذه الآية عام خالد، يشمل العصور كلها، فمن يوم أن اثاقلت الأمة الإسلامية عن الجهاد، وتركته، ضربت عليها الذلة،(6/3307)
وتفرق المسلمون، وصار بأسهم بينهم شديدا، وتوزعتهم الأمم، ونزل بهم العذاب الأليم في الدنيا، ولا حول ولا قوه إلا بالله.(6/3308)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ... (40)
يبين الله تعالى معنى أنهم لم يضروا الرسول شيئا، فإن الله معه وهو في مكة ثم وهو خارج منها وإنه لن يتركه أبدا، وقد كان معه، وقد نصره يوم الفرقان وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وكلمة الله هي العليا (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) (إلا) (إنْ) الشرطية المدغمة في (لا) أي: إن كنتم لَا تنصرونه وتخاذلتم عن نصرته فهو في غنى عنكم ولن يُخذل إذ قد نصره الله تعالى وهو في قلة من العدد، ولم يكن معه أحد، فالماضي دليل على ما يكون في الحاضر، ويكون الماضي جوابا للشرط الذي هو في الحاضر، إذا كان الماضي فاصلا وفصله مستمد من الحاضر كقوله تعالى: (. . . إِن كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ).
ولذا دخلت (الفاء) في الجواب لتبين أنه جواب الشرط.
وخلاصة المعنى السامي: إن كنتم لَا تنصرونه في الحاضر، فلن يُغلب لأن الله ناصره، وقد نصره في الماضي، وصور الله تعالِى الماضي، أو أعاد صورته في الأذهان فقال تعالت كلماته: (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِين كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ) وإذ ظرف للماضي متعلق بقوله تعالى فقد نصره الله، والمشركون لم يقصدوا إلى إخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - بل فكروا في أمور ثلاثة إما أن يثبتوه أي يحبسوه أو يقتلوه أو يخرجوه، وأرادوا تنفيذ القتل، فاجتمعوا حول داره ليقتلوه، وأتوا من كل بطن من بطونهم بفتى نهد، ليضربوه ضربة رجل واحد، فيضيع دمه في القبائل، ويرضى بنو هاشم بديته، ولكن الله حارسه.
وقد كان ما ذكرناه من قبل، وقد جاء في بعض كلام المفسرين أنه خرج فارا من القتل، وإن كان ذكر الفرار غير سليم؛ فإن الهجرة كانت مقررة في علم الله تعالى، وفي نظام الدعوة من قبل ما دبروه أو مكروه في يوم الندوة بدليل ما كان(6/3308)
من هجرة عدد من المؤمنين من قبل، ولم يبق بمكة إلا النبي وأبو بكر، وعلى، ولعل بعض بني هاشم.
فالهجرة كانت مقررة، ويصح أن ينسب إلى المشركين أنهم أخرجوه على أساس أنهم كانوا السبب في خروجه؛ وذلك لأنهم عادوا الدعوة المحمدية، ونابذوها، وآذوا أهلها، ولم يعاضدوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - في دينه الذي بعث به، فلم يعودوا صالحين لأن تقام دعوة الحق في أرض مكة؛ لأنه لَا يمكن أن تقوم دولة في ظل دولة الأوثان، وقد كانت تناوئها، وتعذب أهلها، فكانت الهجرة أمرًا لابد منه لأقامة دولة الحق والوحدانية في المدينة التي وجد الإسلام فيها بيئة صالحة، فغرس فيها غرسه.
وقد صور الله تعالى في كلامه الحكيم كيف كان نصره سبحانه في الهجرة، فقال تعالى: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
قال سبحانه وتعالى: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ) حال كونه واحدا من اثنين، أي أنه في قلة ليس معه إلا واحد، وهم يقتفون آثارهما ويتتبعونهما، ويلجآن إلى غار، يتتبعهما فيه عدد من رجالهم، وأرسلوا واحدا، يسير وراءهم إلى المدينة، وإنهما عندما نزلا في الغار عشش على ظاهره الحمام والعنكبوت، وما ذلك إلا من عمل الله تعالى الذي لَا تخفى عليه خافية، ولفد كان من يقتفي الآثار قد انتهى اقتفاؤه إلى هذا الغار، وقال: ها هنا انتهى الأثر، ولكن ظاهر الحال يكذب القافي، لأن العنكبوت قد نسج خيوطه، والحمام قد عشش عليه، فكيف، وذلك من فعل خالق الغار، وخالق الحمام والعنكبوت الذي أحكم خلقه وقدره تقديرا، ولقد روى الإمام أحمد عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: " نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار، وهم على رءوسنا، فقلت: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لو أن أحدهم نظر إلى قدميه، أبصرنا تحت قدميه! فقال: " يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما " (1).
________
(1) رواه أحمد: مسند العشرة - مسند أبي بكر الصديق. رضي الله عنهم (12)، وباللفظ نفسه رواه مسلم: فضائل الصحابة - فضائل أبي بكر الصديق (2381)، وبنحوه البخاري: المناقب - مناقب المهاجرين وفضلهم (3653).(6/3309)
وكما قال الله تعالى: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).
أي إن الله تعالى يصحبهما بحراسته وحمايته فلا يُتمكن منهما.
والغار كان في جبل ثور على سير ساعة من مكة وهو في الجهة اليمنى منها، وقد مكثا فيه ثلاثة أيام، كانت تأتي لهما فيها بالطعام - أسماء بنت أبي بكر، أم الشهيد عبد الله بن الزبير الذي قتله الأمويون قتلة فاجرة، وهتكوا حرمة البيت الحرام.
(فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ).
الضمير في (عَلَيْهِ) يعود على النبي - صلى الله عليه وسلم -، بدليل قوله تعالى من بعد وأيده بجنود لم تروها، فالضمير بلا ريب يعود إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
والجنود الذين أيد الله تعالى بهم نبيه - ما وقت التأييد؟، قالوا: يحتمل أن يكون ذلك التأييد هو حراسة الملائكة لرسول الله وهو في الغار، فهو كان في حراسة الله تعالى، وأمر ملائكته الأطهار بحراسته، وحمايته من أعدائه، ويحتمل أن التأييد كان فيما جاء من بعد من حروب، قام بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وخصوصا غزوة بدر الكبرى، فقد صرح فيها بتأييد الملائكة.
ونختار الاحتمال الثاني لسببين - أولهما - أن التأييد يكون في معركة حربية، وكانت بعد الهجرة أول معركة " بدر الكبرى "، - وثانيهما - أن الله تعالى جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا.
وقد وصف الله تعالى بأن هذه الجنود لم يروها، وإن التعبير عن الملائكة الذين أيدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنود يدل على أن التأييد كان في معركة، وأقربها بعد الهجرة، وهي التي انقلب بها ميزان القوى في البلاد العربية، ذلك أن قريشا كانت لهم القوة في البلاد العربية، والسلطان الأدبي فيها، فلما قهروا في بدر، هبط سلطانهم، وضعف نفوذهم، ولذا كانوا بجدع الأنف يحاولون في الغزوات المتتالية إعادته فما استطاعوا إلى ذلك.(6/3310)
و (الكلمة) في قوله تعالى: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السفْلَى) يراد بها الدولة والقوة؛ لأن قوة الدولة تجعل كلمتها نافذة أو مردودة عليها، فإذا كانت قوية كانت لها الكلمة النافذة، وإذا كانت ضعيفة كانت كلمتها غير نافذة، وعبر الله تعالى عنها بـ السفلى للدلالة على أنها مغلوبة وفوقها غيرها، وقد جعلت واقعة بدر كلمة الإسلام هي العليا، ودولته هي العليا، وعبر سبحانه وتعالى عن الإسلام بكلمة الله؛ لأنه دين التوحيد ونبيه مبعوث من الله، وذلك بيان للحقيقة، وتشريف للدين الحنيف.
خلاصة القول أن الله تعالى يبين للذين يقعدون عن الجهاد ولا ينصرون النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يجاهدون بأنهم إن لم ينصروه، فالله ناصره، وقد نصره في هجرته، ولم يمكن المشركين منه، ثم نصره في حربه مع المشركين، وأيده بجنود لم يروها حتى صارت كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
وختم سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَاللَّه عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي قادر غالب يدبر الأمور بحكمته وعلمه، بعد أن لام الله الذين يقعدون عن الجهاد، بين الله تعالى مع نبيه أمر بالجهاد فقال تعالى:(6/3311)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
(انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
أكثر الرواة على أن هذه الآية وما سبقها في غزوة تبوك التي خرج بها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الروم، وقد أراد أن يخرج من الغزوة بعدد كبير؛ لأنهم كانوا في مؤتة التي كان فيها حملة الراية زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة وقتلوا جميعا، وجاء خالد بن الوليد فأخذ يتراجع بجيش المسلمين، وكان عدد جيشه نحوا من ثلاثة آلاف، وأنى يكون ثلاثة آلاف بجوار مائتي ألف من الروم، ومن استخدموهم من العرب فكانت المهارة في التراجع غير منهزم.(6/3311)
فلما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد الكرة على الروم لكيلا يطمعوا في المسلمين، ويستصغروا أمرهم كما هو الشأن في استصغارهم أمر العرب، ولأنهم قتلوا من أسلم من أهل الشام ليفتنوهم عن دينهم، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ليسكت عن فتنة المؤمنين، وهو قادر على منعها.
كانت غزوة تبوك هي الردع للروم، لكيلا يضطهدوا المؤمنين في أرضهم، ولكيلا يتخذوا أهل الحق خولا لهم، وأراد النبي أن يكون العدد كثيرا، أو أراد الله تعالى له ذلك.
ولذا دعا الجميع أن ينفروا؛ لأن قضية العرب أمام الرومان، فقال تعالى: (انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا) أي انفروا جميعا، ولا فرق بين غني حِمله خفيف، أو فقير مثقل بالعيلة والأولاد، ولا فرق بين شاب وشيخ، ولا فرق بين حال منشط أو مكره، وحال إقبال وحال إثقال واستكراه، وحال خفة إلى العمل، وإثقال في التحرك إليه.
انفروا جميعا غير متعللين بأية علة، فإنها قضية الإسلام والعرب، فإما أن يذلوا للرومان أو يعتزوا بالإسلام.
ثم قال تعالى: (وَجَاهِدُوا بِأمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ) والجهاد بالمال يكون بالإنفاق على الحرب، وعلى أدواته، وعلى إعانة من لَا مال لهم، والجهاد بالنفس بحمل السيف، والقتال، وإعانة المقاتلين، ويروى أن شيخا أثقلته السنون ذهب إلى الحرب، فثبطه ضعف الشيخوخة، فقال: إن لم أقاتل عاونت المقاتلين، وأغنيهم عن بعض ما يحتاجون إليه.
والجهاد بالنفس يتناول تعويدها الصبر وتحمل المكاره.
وقال تعالى: (ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ) أي الخروج بنفير عام، وغير معوقين بأثقال أو بأي سبب من الأسباب (خيْرٌ لكُمْ) لأنه العزة، والعزة خير من الذلة، وفيه إرضاء الله وإرضاء الله خير كله؛ ولأنه الرفعة، ولأنه الكرامة، والكرامة خير من(6/3312)
المهانة، وذكر الخطاب في الإشارة إلى الجمع للنص على عموم الخطاب بالنفير حتى يعم الجميع بالخطاب نصا (إِن كنتمْ تَعْلَمونَ) الخير من الشر، فالموت في عزة خير من الحياة في ذلة، والموت مع كرامة الجهاد خير من الحياة مع ذلة الكفر والاستسلام والمهانة.
* * *
تخاذل ضعاف الإيمان والمنافقين
قال تعالى:
(لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
* * *
مع الدعوة القاطعة إلى النفير العام كان ثمة متخاذلون متخلفون عن الجهاد، وذلك لأنه شاق عليهم، يرونها عيشة راضية على أي حال كانت هذه الحياة أوفى عزة تنال بالجهاد أم في ذلة ترضى بالهون وأدنى معيشة في الحياة.
وقل بين سبحانه أنهم يريدونها رخاء سهلا، فقال سبحانه.(6/3313)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
(لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ)
(العَرَض) هو المتاع، أو ما يعرض من منافع الدنيا، و (القريب) السهل الذي يجيء من غير مشقة وإجهاد، و (السفر القاصد) السهل القريب الذي لَا مشقة في السير فيه ولا تعب، و (الشُّقَّةُ) المسيرة الشاقة المجهدة، أو الأمر الشاق في نفسه.
والمعنى " والله " إنك لو دعوتهم في هذا النفير العام الذي يجب ألا يتخلف عنه أحد من أهل الإيمان والإخلاص - إلى عرض من أعراض الدنيا قريب أو مال قريب، أو كان السفر قاصدا سهلا وقريبا لاتبعوك؛ لأنهم يريدون الدعة والاستنامة إلى الراحة وأن يرضوا بأدنى الحياة ذليلة أو عزيزة في كرامة أو مهانة.
في قوله تعالى: (لَوْ كانَ عَرَضًا) فاعلها ضمير يعود إلى النفير المفهوم من قوله تعالى: (خِفَافًا وَثِقَالًا)، والكلام يفيد أنهم لم يجيبوا دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى النفير العام، وتخلفوا مع أن النفير العام لَا يفرق بين ذي عذر، وغيره ما دام قادرا.
ويبين الله سبحانه وتعالى سبب تخلفهم، وهو أن الشقة الشديدة بعدت عليهم، والنفير فيه بُعد في الطريق ومشقة شديدة.
وإن الاعتذار هو حجة الضعيف الذليل، ووثقوا الاعتذار بالأيمان الكاذبة، ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ).
(السين) لتأكيد حلفهم بالله، والحلف في هذه الحال يتضمن الاستعانة بالله تعالى مع كذبهم، وذلك كفر وبهتان على الله، وقوله: (لَوِ اسْتَطَعْنَا) مقولة لقول محذوف تقديره قائلين: (لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ)، وهي مضمون الحلف أو المقسم عليه، وقد أكدوا كذبهم بهذه اليمين الفاجرة، ليخفوا السبب الحقيقي، وهو الجبن، وضعف الإيمان، أو النفاق الذي أفسد قلوبهم وأضل عقولهم، وقد بين سبحانه فجورهم في هذه اليمين، فقال تعالى: والله يعلم أن مغبته تخلفهم فقال: (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) أي يهلكون أنفسهم بهذه اليمين الكاذبة؛ لأنها تفسد نفوسهم وأي هلاك أشد من فساد النفس، وضعف إيمانها،(6/3314)
وإنهم بتخلفهم يكشفون عن ضعف مُزْر، وإنهم فوق ذلك لفساد تفكيرهم ألقوا بأيديهم إلى الذلة، إذ استبدلوا بعزة الجهاد ذل الاستخذاء.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى كذبهم في قوله تعالت كلماته بقوله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهمْ لَكَاذِبُونَ) أولا بذكر (يَعْلَمُ) فما يعلمه الله صادق لَا محالة، وثانيا: بالجملة الاسمية، وثالثا: بـ (إن)، ورابعا: باللام في لكاذبون. قبح الله الجبن، وضعف الإيمان والنفاق، فإنها أدواء الأمم بها تذهب عزتها، وتضرب عليها الذلة.
لقد اعتذروا بانتحال أعذار واهية، فأذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما كان له أن يحكم بظواهر ما يقولون، ولأنه لَا فائدة في أن يكون في الجيش متخاذلين، يكون ذريعة للفشل في صفوفه، ولكن الله يعلم إنهم لن يخرجوا إذا لم يأذن لهم النبي بالتخلف، فيظهر كذب أعذارهم، وينكشف أمرهم، ولذا عتب على رسوله إذ قبل عذرهم، فقال تعالى كلامه:(6/3315)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
(عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
هؤلاء المنافقون الذين يذكرهم الله في هذه الآيات قد اعتزموا القعود وعدم الخروج، ضعفا وجبنا، وليفتوا في عضد أهل الإيمان. وعن مجاهد: " نزلت هذه الآيات في أناس استأذنوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا فيما بينهم. فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا، فهم قاعدون في الحالين، فكان الإذن ساترا لحالهم من قصد التخلف في الحالين، ولذا عاتب الله نبيه على الإذن الذي ستر حالهم، ومقصدهم الخبيث، وقعودهم الذليل، قال الله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ) وقالوا إن هذا خطأ وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - عاتبه الله تعالى عليه في ألطف عبارة عتاب، فقد ابتدأ قبل بيان وجه العتاب (بذكر العفو)، ثم ذكر موضع العتاب؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اجتهد في أمر قد أعطى حق الاجتهاد فيه، وهو تدبير الحروب، وتعرف أنجح الخطط فيها، وخيرها وصولا إلى الغاية، وقد رأى أن قعودهم خير من أن يكونوا معهم، ويهموا بالفشل، والمعركة قائمة، ولكن الله(6/3315)
تعالى ينبه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أمر لَا يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أنهم لن يخرجوا والله يعلم ذلك.
والنص الكريم هنا فيه عتاب على الإذن، وقد أجيز الإذن عند الاستئذان في آية أخرى فقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62).
وموضوع الآيتين مختلف، فالآية الكريمة التي نتكلم في معناها موضوعها المنافقون وضعفاء الإيمان، أما موضوع آية سورة النور فمؤمنون بالله ورسوله، وأجابوا الأمر الجامع للمؤمنين وهو الجهاد، واستئذانهم كان لبعض شأنهم كاستئذان ذي النورين عثمان بن عفان في التخلف عن غزوة بدر الكبرى لبعض شأنه، وقبول النبي - صلى الله عليه وسلم - عذره، وإذنه له في التخلف.
وموضوع العتاب بينه الله تعالى بقوله: (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) وهو استفهام للاستنكار بمعنى النفي، أي لَا سبب للإذن؛ لأنهم كانوا قاعدين لَا محالة، فالنص ليس فيه استفهام عن سبب الخروج، ولكن نفي مع العتاب لأن يكون ثمة مسوغ للإذن، ولذا لم يقل سبحانه، وله المثل الأعلى في الكلام المعجز، " لماذا "؟ لأن ذلك يكون نصا في السؤال عن المسوغ؟.
وإن ذلك الإنكار كان لعدمِ الانتظارِ حتى تتبين حالهم الحقيقية، وهو أنهم قاعدون، ولذا قال تعالى: (حتَّى يَتَبَيَّن لَكَ الَّذِينَ صَدَقوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) أي أنه كان يجب الانتظار، وألا تسارع بالإذن حتى تتبين حالهم، وينكشف أمرهم.
والنص الكريم، يومئ إلى أن الذين أذن لهم في التخلف كان منهم صادقون في أعذارهم، كبعض الفقراء الذين لَا يجدون ما يحملهم في ذلك السفر البعيد الشقة الشديد المشقة، وهؤلاء تبين صدقهم، والمنافقون تعلم كذبهم علما يقينيا،(6/3316)
ووصفهم سبحانه بقوله تعالى: (وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) الذين صار الكذب وصفا لهم وشأنا من شئونهم، كالمنافقين، فإن الاتصاف بالكذب يلازم النفاق ولا يفترقان.
وقد بين الله تعالى أن المؤمنين المجاهدين لَا يستأذنون إلا لعذر قاهر، أو لأمر ظاهر، كما أمر عليا فارس الإسلام بأن يبقى في المدينة ليكون قريبا من أهل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد تألم علي لذلك ولكنه أطاع، ويظهر أن الله تعالى وفق النبي - صلى الله عليه وسلم - في إذنه لعليّ بالتخلف، فإنه لم يكن قتال.
قال تعالى:(6/3317)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
(لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
إن الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر لَا يستاذنونك في القعود عن الجهاد؛ لأنهم يعلمون أن الجهاد فريضة، ولأنهم أعزاء في ذات أنفسهم، ولأنهم يعلمون أن الله تعالى مبتليهم بالخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس، ولأنهم يصبرون في الشدائد، ولأنهم يعلمون أنهم في الجهاد يفوزون بإحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، وفيهما الخير كله، فالفوز بإحداهما، ولأنهم لعلمون أن الدنيا متاعها إلى أجل محدود وأن الآخرة خير وأبقى، ولذا ذكر الإيمان باليوم الآخر بجوار الإيمان بالله، فالإيمان بالله اعتماد على القوي المتين، والإيمان بالآخرة إيمان بالجزاء والعوض عن الحرمان والشهادة.
وقوله تعالى: (أَن يُجَاهِدُوا) أي في أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وحذف حرف " في " في المصدر المنسبك من (أن وما بعدها) كثير في كلام العرب، ويصح أن يقدر كراهية أن يجاهدوا، وهذا نفي لأن يقع ذلك منهم، فهم لا يستأذونون في التخلف لكراهية الجهاد، لأنهم لَا يكرهون أمرًا فرضه الله تعالى، إذ إن إيمانهم يوجب عليهم أن يحبوا ما أحب الله لهم وفرضه عليهم، ولأنهم يريدون العزة، والعزة تحت ظلال السيوف.(6/3317)
(بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أي بإعداد العدة والقوة، وإمداد الجيش بالمؤن والذخيرة، وحمل الفقراء الأقوياء إذا لم يجدوا ما يحملهم، وبأن يتقدموا بأنفسهم في غير اضطراب ولا وجل، ويُفزعون أعداء الله وأعداءهم بإقدامهم؛ ثم ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (وَاللَّه عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) وهذا إخبار عن علم الله تعالى بالمتقين الذين يتقون عذاب يوم القيامة، ويتقون أن تكتب عليهم الذلة، ويتقون أن يستخذوا، ويستكينوا لأعداء الحق وأعداء الله تعالى، ويتقون أن يكون للكفار عليهم سلطان، وأن تكون ولايتهم لغير المؤمنين. الله تعالى عليم بهؤلاء المتقين، وسيجزيهم بأحسن الجزاء في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا العزة والكرامة، والعلو في الأرض من غير فساد، وفي الآخرة بالنعيم المقيم.
ثم بين الله تعالى الذين يستأذنون في القعود، فقال تعالى كلامه:(6/3318)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
(إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
قصر الله سبحانه وتعالى من يستأذنون في القعود على الذين لَا يؤمنون بالله واليوم الآخر، فلا يستأذنك في القعود مؤمن بالله واليوم الآخر، وأفاد القصر بـ (إنما) لأنها من أدواته.
ذلك لأن المنافق لَا يؤمن باللَّه تعالى، فلا يطيع أوامره ونواهيه، ولا يذعن لما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - عن ربه، وإن نطق لسانه بكلمات الإسلام والطاعة والخضوع ظاهرا لَا يطيع قلبه، وقد ذكر الله تعالى فيهم أقوالا ثلاثة كلها تقعد بهم عن الجهاد، بل واحدة منها:
أولها: أنهم لَا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، فعدم إيمانهم بالله يجعلهم لا يذعنون، ولا يجيبون ما فرض عليهم من جهاد، ولا يؤمنون بما فيه من عزة وكرامة، وفوق ذلك لَا يريدون العزة للمؤمنين ولا يبتغونها لهم، ويريدون الذلة لهم، وعدم إيمانهم باليوم الآخر، يجعلهم يعتقدون أنه لَا تعويض لهم، وأن الدنيا وحدها هي الحياة، ويقولون إن هي إلاحياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين.(6/3318)
ثانيها: حال الريب، فهم في ريب دائم، والريب لَا يوجد معه إيمان بشيء، فأول ما يصاب المنافق يصاب في نفسه، إذ يكون في بلبال مستمر، واضطراب فكري دائم لَا يستقر معه على حال، ولا يستطيعون عملا.
ثالثها: أنهم في تردد دائم نتيجة لريبهم.
ومن نعم الله ألا يخرجوا مع المجاهدين.
قال تعالى في بيان أن من الخير ألا يخرجوا وأنهم ما أرادوا الخروج:
* * *
(وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
* * *
هذه الآيات وما يليها في شأن المنافقين الذين قعدوا متلمسين الأعذار وهي كاذبة - والنفاق سوسة المجتمعات، ينخر في عظامها - ولقد حاولوا إفساد الجماعة الإسلامية، ولكن النور المحمدي كشف ظلماتهم.
وفى هذه الآيات يبين سبحانه مضارهم في الحرب إن خرجوا، ولكن النفاق لا يلتقي مع مخاطر الجهاد، فلم يخرجوا وكان خيرا كما أشرنا فقال تعاِلى وقد ثبطهم الله عن الخروج لأنه كره انبعاثهم، فقال تعالى:(6/3319)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
(وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوج لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّة).(6/3319)
إن الله تعالى عتب على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن أذن لهم عندما استأذنوا، ولو لم يأذن لكشف أمرهم، وتبين أنهم كاذبون في ادعاء العذر ولا عذر لهم، لأنهم لم يريدوا الخروج ابتداءً، وأكد الله تعالى عدم قصدهم الخروج، فقال: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوج) لبدت أماراته، فأعدوا العدة من إعداد الكراع (1) والسلاح، وما تحتاج إليه حرب شديدة فيها ملاقاة الرومان الذين كانوا أقوى دولة في ذلك الإبان، ولكن لم يعدوا عدة، فلم يكونوا على نية الخروج، وأظهروا ما في مقصدهم باعتذارهم، وكان ذلك خيرا للمسلمين، وكره الله تعالى أن يخرجوا، فقال تعالى: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ) ومعنى الاستدراك أنه منع لوهْم إرادة الله - تعالى - خروجهم؛ لأن مؤدى إعلانه على عدم خروجهم قد يوهم إرادة الله خروجهم، فنفاها سبحانه بهذا الاستدراك، فقال: (وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ) والانبعاث النهوض للخروج مع المجاهدين، وكراهية اللَّه تعالى لخروجهم لما علم سبحانه أنهم يريدون الخبال والاضطراب للمؤمنين، كما تدل على ذلك الآيات التالية، وكما دلت على ذلك الأمور الكثيرة التي كانت تقع بإثارة الفتنة منهم، ولكن كانوا كلما أوقدوا نارا لفتنة أطفاها الله سبحانه وتعالى.
(فَثَبَّطَهُمْ) أي خذلهم وأوقع في نفوسهم نزوع الكسل والضعف، وأزال رغبتهم في النهوض إلى النفير مع جيش الإيمان، وما ذلك إلا للمصلحة المترتبة على منعهم من الخروج، فما أريد التثبيط لذاته، ولكن أريد ما يترتب عليه من حماية جيش الإيمان من الفتن يبثونها فيه، وإثارة الخلاف، إن سنحت لهم أسبابه ولا يضعف الجيش إلا النزاع، كما قال تعالى: (. . . وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا. . .).
فكانت المصلحة في ألا يخرجوا، (فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) (قيل) بالبناء لمفعول، وأسند إلى المفعول لتعدد عوامل التخذيل التي كانت في مضمون القول، فجبنهم، وإرادة الشر بالمؤمنين وبعد الشقة، وكون الغاية فيه بعيدة، وفساد
________
(1) الكُراع: اسم لجميع الخيل والدواب التي تصلح في الحرب.(6/3320)
نفوسهم، وتخاذلهم عن نصرة الحق، وكراهية الإيمان وأهله، كل هذه عوامل يمكن أن تكون الفاعل الذي استعيض عنه بالمفعول، والمفعول المقول، وهو اقعدوا مع القاعدين. هذه العوامل التي أشرنا إليها انتهت بهم إلى أن كان لسان حالهم يقول: (اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِين).
قولهم لأنفسهم (اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ)، قال فيه الزمخشري: هو ذم لهم وتعجيز، وإلحاقهم بالنساء والصبيان والزمني الذين شأنهم القعود والجثوم في البيوت وهم القاعدون، وهم القاعدون والمخالفون والخوالف، وبينه الله تعالى فقال: (رَضُوا بِأن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ. . .).
وقد علق الناصر في حاشيته على الكشاف فقال: وهذا من تنبيهاته الحسنة، ونزيدها بسطا فنقول: لو قيل (اقعدوا) مقتصرا عليه لم يعد سوى أمرهم بالقعود، وكذا لو قال: كونوا مع القاعدين، ولا تحصل هذه الفائدة من إلحاقهم بهؤلاء الموصوفين عند الناس بالتخلف والتقاعد الموسومين بهذه السمة إلا من عبارة الآية، ولقد جاء على لسان فرعون في إيعاد نبي الله موسى عليه السلام (. . . لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِين)، ولم يقل لأجعلنك مسجونا، لمثل هذه النكتة من البلاغة.
هذا، وإن الله تعالى عاتب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإذنه لهم بالقعود مع أن الله تعالى كره انبعاثهم، لأنه سبحانه كان يريد أن يتبين النبي - صلى الله عليه وسلم - حالهم، حتى يتبين له الصادق من الكاذب، وأنهم لَا يخرجون.
وقد بين الله تعالى الحكمة في أنه ثبطهم، فلم يخرجوا فقال سبحانه:(6/3321)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
أي لو خرجوا في جمعكم المؤمن الجاهد، وساروا، لَا يجاهدون، ولكن يسيرون على ما كانوا عليه بينكم من التشكيك في خروجكم وفي قوتكم، وفي(6/3321)
ذلك إشاعة العناء والخور والضعف، ولذا قال الله تعالى: (مَّا زَادُوكمْ إِلَّا خَبَالًا) الخبال: الفساد والشر بالتشكيك وإثارة الفزع، والاستثناء هنا يمكن أن يخرج على استثناء منقطع؛ لأنَّ المستثنى ليس من ضمن المستثنى منه، إذ الخبال لَا زيادة فيه كما يقال ما غنم إلا الهزيمة، وما زاد إلا النقص.
ويرى الزمخشري وهو عالم اللغة وفقيهها أن الاستثناء هنا ليس منقطعا، إنما هو استثناء من أعم الأحوال، أو من أعم العام كما عبر الزمخشري، والخبال نقص أعم العام كما يقال: " ما زادوكم شيئا إلا خبالا وإفسادا "، (وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) الخلال: جمع (خلَل) وهو ما بين الشيئين أو الأمرين، و (الإيضاع): الإسراع، يقال وضع يعني أسرع، ووضع البعير إذا عدا، وقال الراجز العربي:
ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
وأوضعته: حملته على العدو، والمعنى في النص الكريم: لأوضعوا ملحقين الجيش خلاله بأسباب الفتن من نميمة ومن توهين، ومن تشكيك، وشبه السعي بالفساد بإيضاع الإبل في عدوها، لأن كلا إجهاد، بيد أن سير الإبل قد يكون إلى الخير، أما الإيضاع هنا فهو فساد وتوهين وتخذيل، وسعى بنميمة.
(يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ) أي يطلبونكم بشدة وقوة، لَا يبغون أشخاصكم؛ لأنهم لا يودونكم، ويتربصون بكم الدوائر ولكن يبغون الفتنة بينكم، فالفتنة بدل اشتمال من الضمير، أي يبغون فتنتكم في عامة أموركم، وذلك بأن يمشوا بالنميمة في جموعكم، ويرهبونكم من أعدائكم، والقول بالريب فيما اعتزمتم من عمل.
ثم يقول تعالت كلماته: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) سماعون صيغة مبالغة من سامع، أي أنهم حريصون على السمع لهم، وقد كان اللفظ يحتمل أن فيكم سماعين حريصين على أن يستمعوا ويبلغوهم، فاللام في هذه الحال معناها لأجلهم، أو يكون المعنى أن يستمعوا لهم، ويطيعوهم، وينحازوا إليهم، ونرى أن هذا هو الإنسب للسياق والذي يلائم إيضاعهم بالخبال، وذكر ابتغائهم الفتنة(6/3322)
وطلبهم، ويتفق مع رغبتهم في الخبال والفساد، وقد ختم اللَّه تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) أي أن الله تعالى عليم بهم وبنياتهم، وما يطوونه في جنوبهم من إرادة الشر بالمؤمنين، وأظهر في موضع الإضمار لتسجيل الظلم عليهم، وأن الظالمين لن يفلحوا أبدا.(6/3323)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
(لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
الضمير يعود إلى الذين استأذنوا من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وثبطوا المؤمنين، وهم المنافقون، و (ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ) أي طلبوها بشدة راغبين فيها، قاصدين الفتنة أي تضليل المؤمنين، والإفساد من قبل، أي من قبل ذلك التخذيل الذي بدا منهم الآن، فذلك ديدنهم، وما أرادوا بالإسلام إلا خبالا، حتى لقد روى أنهم - والأوس والخزرج كانوا يبايعون النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعقبة - كانوا يدبرون الأمور لاغتياله عند مقدمه المدينة كما روى ابن جريج، ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير: (لَقَدِ ابْتَغَوا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبًوا لَكَ الأمُورَ) أي لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك، وخذلان دينك، وإخماده مدة طويلة، وذلك أوان مقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، ورمته العرب عن قوس واحدة، وما رتبه يهود المدينة ومنافقوها، فلما نصره الله يوم بدر، وأعلى كلمته، قال عبد الله بن أبي: هذا أمر قد توجَّه، فدخلوا في الإسلام ظاهرا، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم ".
وقال سبحانه وتعالى: (وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمورَ) أي صرفوها، ودبروها، وكانوا أحيانا يمالئون أعداء الدين من أهل الكتاب والمشركين، ومرة يخذلون المؤمنين، ومرة يدخلون في الغزوات مجاهدين، ثم يعدلون ليلقوا التردد في نفوس المؤمنين كما فعلوا في غزوة أحد، ومرة يحرضون من يوالونهم من بعض الأوس والخزرج لحوادث صغيرة يثيرونها. حتى كادت تكون فتنة بين الحيين من الأنصار، فهم في فتنهم الدائمة المستمرة، يلبسون لكل حال لبوسها، يحركهم الكفر، ويدفعهم النفاق(6/3323)
إلى أن يرتكبوا حماقات، وإنهم ليتعدون حدودهم، فيثيرون حديث الإفك حتى تململ منهم ذووهم، وأصبح أهل كل بيت فيه منافق يحرضون النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه.
وهكذا مضى أمرهم، والإسلام ماض في طريق الحق، حتى وصل إلى غايته، وهذا قوله تعالى: (وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهمْ كَارِهونَ) أي ظهرت أحكام الإسلام، وهي أمر الله، وانتشر في الوجود أمره، وهم كارهون، أي ظهر مع تدبيرهم الفاسد، وبغضهم الشديد له.
وكانوا يتدرعون بكل الحيل ليأذن لهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله تعالى في علمه المكنون أنهم لَا يخرجون وكره انبعاثهم، وما كرهه الله تعالى لَا يمكن أن يتحقق، ولقد ذكر الله تعالى بعضا مما كانوا يعتذرون به فقال تعالت كلماته:(6/3324)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
كان المنافقون يتعللون بكل علة صادقه أو كاذبة، بل إنهم لم يتعللوا بصادق، بل كلها تعلات يقولونها بأفواههم وقلوبهم غير مطمئنة إلى الخروج؛ لأنهم يريدون التعويق، وهول القتال قد أفزعهم، وبعد الشُّقة قد أقعدهم، وكان من تعلتهم أن قالوا إننا نخشى فتنة النساء في الرومان لجمال نسائهم، روى أن الجد ابن قيس أخا بني سلمة قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل لك في جلاد بني الأصفر، فقال: يا رسول الله أوتأذن لي ولا تفتني فوالله لقد عرف قومي ما رجلا أشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن. فأعرض عنه رسول اللَّه وقال: " قد أذنت لك " (1).
ومعنى هذا أن الآية جاءت تمثل ضروب معاذيرهم الواهية التي لَا تقنع، إنما هو عدم الإيمان، وفزع النفاق، والزمخشري يفسر الآية على العموم، ويفسر " لا تفتني " أي لَا تأذن لي في الخروج فأقع في الفتنة التي لَا قبل لي بها وهي
________
(1) البداية والنهاية: سنة تسع - ذكر غزوة تبوك (ج 5 - ص 212)، وتاريخ الطبري: (ج 1 - ص 1231).(6/3324)
عصيانك، فيبين الله أن هذا الاعتذار التافه الذي لَا يدل إلا على عجز حقيقي هو الفتنة في ذاته، ولذا قال تعالى: (أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا) أي في الفتنة الكبيرة سقطوا، والفتنة أطلقت، والمطلق ينصرف إلى الفرد الأعظم أي الفتنة الكبرى سقطوا فيها، وقدم المفعول وهو الفتنة على الفعل للإشارة إلى أن عملهم مقصور على الفتنة. فهو الفتنة، ولا يكون غيرها؛ لأن عذرهم كاذب ساقط في ذات نفسه.
وعلى أن الآية نزلت فيمن اعتذروا بفتنة نساء بني الأصفر تكون فتنة التخلف مشاكلة لما ادعوه من فتنة النساء في اللفظ وإن كانت غيرها.
وإنهم بهذا الكذب والاعتذارات الواهية، وعدم إيمانهم يعدون كافرين، ولذا قال تعالى: (وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) أي أنهم مؤكدون داخلون فيها، وستحيط بهم يوم القيامة، وذكرت الآن لتكد وقوعها، كقولة تعالى: (أَتَى أَمْر اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ. . .)، فهو تأكيد لما سيقع بتصويره كأنه واقع وقوعا مؤكدا.
وقد أكد سبحانه وتعالى الوقوع في جهنم يوم القيامة بعدة مؤكدات:
أولها: الجملة الاسمية، ثانيها (إنَّ) الدالة على توكيد الخبر، وثالثها بيان أنها محيطة بهم إحاطة الدائرة بقطرها لَا يخرجون عما تحيط به، ورابعها باللام المؤكدة في قوله تعالى: (لَمُحِيطَةٌ).
وأظهر سبحانه في موضع الإضمار فلم يقل: " لمحيطة بهم " بل قال (لَمُحِيطَة بِالْكَافِرِينَ) لبيان سبب هذا العذاب الأليم وهو الكفر، وقانا الله تعالى شر النفاق وأهله.
ثم بين سبحانه شعور المنافقين نحو المؤمنين.
قال تعالى:
* * *
(إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا(6/3325)
وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
* * *
إن المنافقين لم يندمجوا في أهل الإيمان، ولم تتحد معهم مشاعرهم وأحاسيسهم، فلم يكونوا منهم، ولم يشعروا بما يشعر به أهل الإيمان، فلا يشاركونهم في سرائهم، إن أصابهم ما يسر، ولا ضرائهم إن أصابهم ما يضر، بل يناقضونهم مناقضة تامة، فما يسرهم يسوءهم وما يضرهم يسرهم، وكذلك شان المنافقين في كل جماعة لَا يشاركون في أحاسيسها، ولذا قال في وصف هذه الحال:(6/3326)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
(إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) أي إن ينزل بكم أمر هو حسن في ذاته، وعندكم، ويملأ نفوسكم بالسرور يكون هذا سببا لآلامهم، فسروركم مسيء لهم؛ لأنهم يريدون أن تدور عليكم الدوائر، فنصركم يوم بدر ساءهم، وكذلك يوم الأحزاب، ويوم مؤتة، إذ رضيتم من الغنيمة بالإياب أمام مائتي ألف، وأنتم ثلاثة آلاف، وقتلتم منهم مقتلة عظيمة مع قلة عددكم، وإن لم تغنموا شيئا منهم. (وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ).
المصيبة مؤنث مصيب أي نازلة وشدة كارثة، وأصلها كما ترى من أصاب، ولكنها بالتاء غلبت في الشدائد والكوارث والنكبات، فماذا أصاب المؤمنين نكبة أو قرح، كما أصابهم يوم أحد، قالوا: أخذنا أمرنا، أي أننا استولينا على أمرنا من قبل فلم نعرض أنفسنا لمخاطر الحروب ونوازلها فنجونا من أن نقع فيما وقعوا فيه،(6/3326)
وكأنَّهم يشمتون في المؤمنين، وقد وقع ما يتمنون، ويصفون أنفسهم بأنهم أهل الحذر، ليثيروا غضب من أطاعوا الرسول.
(وَيَتَوَلَّوْا) معطوف على يقولوا، أي وينصرفون إلى أهليهم وأصحابهم يتحدثون في أمر هذه النكبة وهم في فرح بها؛ لأنها أصابت هوى في نفوسهم، ولذا قال تعالى: " وهم فرحون " أي والحال أنهم فرحون فرحا غمرهم، ويصح أن يكون تولوا بمعنى أعرضوا عن الرسول غير مقبلين عليه مظهرين خبيئة نفوسهم، وفى هذا ما يفيد أنهم جرءوا عليه، وحسبوا أن الغد لهم، وما هي إلا جولة، حتى يكون الغلب لهم، ولكن هيهات أن يكون ذلك، فالهزيمة في معركة بعدها الظفر والنصر.
ولكن المؤمنين مطمئنون لما يقضي به الله تعالى لَا يستطيرهم نصر، ولا يخذلهم قرح، بل إنهم يقدمون متوكلين عليه سبحانه، إن أصابتهم حسنة لم يستطيروا بها، بل يستعدون لما بعدها، وإن أصابتهم نكبة رضوا، وعلموا أن الله تعالى قد قدر لهم ما فيه خير. ولذلك قال تعالى:(6/3327)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
أمر الله تعالى نبيه أن يقول ما هو تفويض إليه سبحانه، وما فيه توقع الخير، حتى فيما يكون في ذاته نكبة أو شدة، إذ قد يكون وراءه خير، أو خير قد اختفى في هذه الشدة، كما قال تعالى: (. . . وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216).
فعسى هذه الشدة يكون فيها خير كثير، ولو كانت مكروهة، كما قال تعالى: (. . . فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كثِيرًا)، ولذا قال: (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا) أي أنه ليس لنا أن نتبين إن أصابتنا كارثة أو نكبة، فقد تكون كارثة تنبهنا إلى خطأ وقعنا فيه فيكون هذا التنبيه خيرا لنا، وواقيا لنا من أن نقع في مثله، وفوق ذلك فإن المستقبل يكون خيرا لنا لننال الحسنى إن قتلنا، ففضل الشهادة خير مما تفرحون.(6/3327)
(هُوَ مَوْلانَا) أي هو في اعتقادنا وإيماننا مولانا وناصرنا، ومتولي أمورنا فيما وقع وما يقع، ومن كان الله ناصره لَا يخذل، ومن كان الله معه، فإن العاقبة له إن لم يكن في هذه الدنيا، ففي الآخرة، وفيها النعيم المقيم.
(وَعَلَى اللًهِ فَلْيَتَوَكلِ الْمُؤْمِنُونَ) أي عليه وحده يتوكل المؤمنون، وقد أمرنا بذلك، وتقديم الجار والمجرور للإشارة إلى أن الله تعالى هو الذي يتوكل عليه المؤمنون، فلا يتوكلون على أحد سواه، ولا يرجون غيره، ولا يعتمدون إلا عليه، و (الفاء) لفصل الفعل الأمر عن الإخبار.
والأمر هنا بالتوكل لَا ينافي العمل، فالعمل بالأسباب الدنيوية أولا، ولكن يجب عليه لكي ينجح العمل أن يقرن به التوكل، فالأسباب وحدها (لا تكفي) إلا بفضل من اللَّه وتوفيق، فالاتكال من غير عمل تواكل، والعمل من غير توكل على الله غرور، وتمرد على الله سبحانه وتعالى.
وإن المنافقين يتربصون الدوائر بالمؤمنين بأن تتوالى نكباتهم، ولا يتوالى ما يسرهم؛ لأنهم أعداء كارهون، والعدو الكاره لَا يتمنى لعدوه ما يسره، بل يتمنى له المكروه، ولذا قال تعالى:(6/3328)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
(قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
قلنا إن المنافقين لَا يندمجون في جماعة يعيشون فيها، بل يكونون في جانب، ومن معهم في جانب آخر، كما يفعل اليهود الذين مردوا على النفاق وأجادوه.
وكذلك كان اليهود بالمدينة الذين كانوا رأس النفاق فيها، فهم يعيشون مع المؤمنين وليست قلوبهم معهم، بل هواهم مع غيرهم أيا كان ذلك الذي يغاير جماعة المؤمنين كتابيا كان أو مشركا، فهم لَا يعيشون مع جماعتهم إلا وجانبهم(6/3328)
لغيرهم؛ لأنهم لم يذوقوا طعم الاندماج مع الناس والإخلاص لهم، ولذا يعيشون مع المؤمنين ويتربصون بهم الدوائر.
ويقول اللَّه تعالى آمرا نبيه (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) يأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم هذا القول ولم يسنده تعالى إلى نفسه؛ لأنه فوق الجميع، إنما جعل الرسول يسنده إلى نفسه؛ لأنه من أحد الفريقين المتربصين وإن كان الله تعالى مع المؤمنين، والتربص: الانتظار، والاستفهام للإنكار بمعنى إنكار الوقوع بدليل الاستثناء. والمعنى لَا تنتظرون لنا إلا إحدى الحسنيين، والحسنيان هما: الاستشهاد، وذلك حسن في ذاته وعند المؤمنين؛ لأنه ينتهي بهم إلى الجنة، ونعم الانتهاء. أو النصر، وهو غاية حسنة عظيمة.
وإن نتيجة التربص لَا يهواها المنافقون، فهم يتربصون الشر والفساد والخبال والاضطراب في جيش المؤمنين رغبة فيما يريدون، فيبين الله تعالى أن النتيجة تجيء عكس ما يبغون.
ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر من ربه، وباللفظ النازل على النبي من الله رب العالمين: (وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا).
أي نحن معشر المؤمنين ننتظر لكم أحد أمرين أيضا، وهما أن يصيبكم الله تعالى بعذاب ينزله سبحانه وتعالى بكم كصاعقة من السماء تحرقكم، أو ريح تقلبكم من الأرض، أو تموتوا في داركم جاثمين، وهذا عذاب من عند الله، وإضافته سبحانه وتعالى إليه، ينزله من عنده مظهرا لغضبه عليهم الذي يبوءون به، كما باء من قبل إخوان لهم في النفاق: اليهود ومن يواليهم، والأمر الثاني عذاب من المؤمنين ينزلونه بتمكين الله تعالى منكم.
وهنا بعض إشارات بيانية:
منها: قوله تعالى: (نَتَرَبَّصُ بِكُمْ) فعبر بـ (كم) للإشارة إلى أن ما ينزل بهم عقاب، في مقابل ما حكى عنهم في قوله تعالى: (تَرَبَّصُونَ).(6/3329)
ومنها: قوله تعالى: (أَوْ بِأيْدِينَا) للإشارة إلى القتال الذي يكون بالأيدي التي تبطش، وذلك إشارة إلى قوة المؤمنين المؤيدة بنصر الله تعالى العزيز الحكيم.
ويقول تعالى: (فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ) الفاء فاء الإفصاح المنبهة عن شرط مقدر، أي إذا كان هذا أمرنا وأمركم في التربص فتربصوا.
وهذه الجملة السامية فيها تهديد لهم بسوء العاقبة بالنسبة لهم، وبيان حسن العاقبة بالمؤمنين، والله تعالى بعزته ناصر جنده، وخاذل عدوه.
* * *
لا يقبل الإنفاق من منافق
قال تعالى:
(قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
* * *
إن هذه الآيات الكريمات تبين أمرين: أحدهما: أن المنافقين في كل العصور يطاولون الناس بأموالهم، ويجبنون دائما، ويستبدلون بالجهاد المال يدفعونه،(6/3330)
ويحسبون أنه يغني عن الجهاد والعمل للنصرة وصيانة الحق عن أن يعبث به العابثون.
ثانيهما - أنه لَا ثواب إلا مع النية المحتسبة، والنية لَا تكون إلا مع إيمان صادق بالله ورسوله والحق الثابت المبين.
وقد ذكرت الآية الأولى أن إنفاقهم طوعا أو كرها لن يقبل منهم بسبب فسقهم، وذكرت الآية التالية تفصيل المانع من قبولها، وذكرت الآية الثالثة أن أموالهم وأولادهم لَا تغني عنهم في الدنيا والآخرة شيئا. وذكرت الآية الرابعة أنهم يريدون أن يعتقد المؤمنون أنهم منهم ومنضوون في جماعتهم ليخدعوهم فلا يغروهم، متميزين عنهم تميز الخبيث من الطيب.
يقول تعالى:(6/3331)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
(قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ) المعنى الظاهر وكتاب الله تعالى بيِّن بذاته لَا يحتاج إلى بيان، إن الله تعالى لن يقبل منهم إنفاقهم في الآخرة سواء أنفقوه طائعين أم أُكرهوا على الإنفاق، وسواء أنفقوه كارهين أم أنفقوه راغبين، فمعنى طوعا، أي طائعين راغبين في الإنفاق طيبة به نفوسهم أو كارهين غير راغبين، أو بإكراه أحد، أو بتورط، ولا يرضون.
وهذا المعنى ظاهر، ولكن كيف يخرج الأمر في هذا. وبلا شك لَا يقصد الطلب ولا الإباحة ولا الندب، ولا أي باب من أبواب الطلب وإذن فما سبيله؟.
قال القرطبي: إن معناه الشرط، وجوابه لن يقبل، وتقدير القول هكذا، إن تنفقوا لَا يقبل منكم سواء كان الإنفاق طوعا أو كرها.
وقال الزمخشري: إن معنى الأمر هنا الإخبار بأنهم لَا يقبل منهم، ويظهر أنه يعود إلى معنى الشرط، والمؤدى ينتهي إلى أنه لن يقبل الإنفاق، ومثلوا له بقول كثير عزة، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى.
أسيئى بنا أو أحسنى لَا ملومة ... لدينا ولا مقلية إن تقلت وقد بين السبب في منع قبول أموالهم قربات عند الله، فقال سبحانه:(6/3331)
(إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ)
وجملة (إِنَّكُمْ) منفصلة عن سابقتها؛ لأنها تعليل لها، ولأن الجملة الأولى طلبية، والثانية خبرية. والفسق هو الخروج، وهم بالحكم عليهم بأنهم فاسقون يكون محكومًا عليهم بأنهم خارجون عن الجماعة بشعورهم، وإن كانوا فيها بأجسامهم، وذلك مع كفرهم، وقد أكد الله سبحانه وتعالى ذلك الحكم بعدة مؤكدات، أولها بالجملة الاسمية، وثانيها بـ (إنَّ) الحرف الدال على التوكيد، وثالثها بـ (كان) الدالة على استمرارهم في الفسق والخروج عن الجماعة وعدم الشعور بشعورها.
ونفى الله تعالى بقوله: (أَن تقْبَلَ مِنْهُمْ) ظاهره أن الله تعالى لن يجازي عليه جزاء القربات يوم القيامة؛ لأنهم لم ينووا بها التقرب، وإنما أرادوا ستر جبنهم ونفاقهم، ليستقيم ادعاؤهم أنهم من المسقمين، وهم غير مؤمنين، وشرط النية المأجورة الأيمان، ولقد قال تعالى عما ينفقه الكافرون: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117).
وهل يقبل النبي منهم ما يدفعونه مغرما، إن الأمر في ذلك متروك للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد بين سبحانه وتعالى المانع عن قبول صدقاتهم بالتصريح بما طوى في هذه الآية فقال تعالى:(6/3332)
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
(وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
وُصلت هذه الآية الكريمة بالآية السابقة؛ لأنها تتميم للسب الذي منع تقبل ما ينفقون، والنفقة هي الإنفاق، والتعبير بالنفقة فيما أحسب يدل على صغر ما ينفقون، ومع ذلك لَا يقبله الله سبحانه وتعالى؛ والتعبير بقوله: (وَمَا مَنَعَهُمْ) على أن اسم المفعول يعود إليهم، فيه إشارة إلى أنهم كانوا يرجون أن يقبل منهم(6/3332)
ما ينفقون في الدنيا رجاء أن تتم الخديعة التي أرادوها، وعبر سبحانه وتعالى هنا بقوله تعالى: (أَن تُقْبَلَ)، وفي الآية السابقة بقوله تعالى: (نفِقُوا طَوْعًا أَوْ كرْهًا لَن يتَقَبَّلَ) بصيغة يتقبل، وذلك لأنهم كانوا يظنون أن أي إنفاق يقدمونه يتقبل برغبة من النبي وأصحابه، فإن صيغة التقبل تدل على القبول برغبة كما قال تعالى في نذر مريم: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حسَنٍ. . .).
وفى هذه الآية: (تُقْبلَ) من أصل القبول، وسبب الرد أصل القبول، ولو كان النع من التقبل، لكان أصل القبول غير ممنوع.
و" أن تُقبل " الضمير المنسبك من (أن وما بعدها) في موضع المجرورب (مِن) لأن حروف الجر تحذف كثيرا قبل أن وفعلها، كما في قوله تعالى: (. . . مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ. . .).
وقد ذكر الشوكاني في تفسيره فتح القدير: أن الآية الكريمة تشير إلى أن الأسباب ثلاثة فقال: " جعل المانع من القبول ثلاثة أمور، الأول: الكفر، والثاني: أنهم لَا يُصَلُّون في حال من الأحوال إلا في حال الكسل والتثاقل، والثالث: أنهم لا ينفقون أموالهم إلا وهم كارهون؛ لأنهم يعدون إنفاقها وضعا لها في مضيعة لعدم إيمانهم بما وعد الله ورسوله.
وقد ذكر الأمر الأول فقال سبحانه وتعالى: (أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) الضمير المنسبك من أن وما بعدها في محل رفع فاعل للفعل (منع) في قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُم) فكفرهم بالله لأنهم تمردوا على أوامره ونواهيه، وجحدوا بآياته، وكفرهم برسوله لأنهم جحدوا رسالته، واليهود منهم كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وقد جاء بالكتاب من عند الله وعجز العرب عن أن يأتوا بمثله بعد أن تحداهم فما استطاعوا، وكرر الباء، فقال: (بِاللَّهِ وَبِرَسولِهِ)، للإشارة إلى أن الكفر باللَّه كفر، والكفر بالرسول كفر، أيضا.
وفى الأمر الثاني قال تعالى: (وَلا يَأتونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كسَالَى) أي لا يقومون عند النداء إلى الصلاة إلا وحالهم حال الكسالى متثاقلون كأنهم غير(6/3333)
راغبين في أدائها، أي أنهم في هذا المظهر الذي لَا يتوافق فيه العمل مع القلب يتثاقلون فيه؛ لأنهم ما داموا كفارا فمانهم ليس منهم صلاة مقبولة أو صلاة قط، لهذا ترد عليهم نفقاتهم، فكيف تكون صلاة، إنما مظهرها صلاة، فهم حتى في هذا يقومون كسالى، وهي جمع كسلان كسكارى جمع سكران، وغيارى جمع غيران، كما يقول الزمخشري في الكشاف.
ومهما يكن وصفهم بأنهم يقومون بالصلاة كسالى فإن صلاتهم من الصلاة التي يكون لهم الويل فيها، كما قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7).
والأمر الثالث هو في إنفاقهم بينه سبحانه وتعالى بقوله: (وَلا يُنفِفُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) أي لَا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة إلا وهم غير راغبين، بل ينفقون كارهين النفقة في ذاتها، أو لموضعها، ولا يفعلون ذلك إلا سترًا لنفاقهم، ويتخذونه وسيلة للتمكن من الخداع الذي يقصدونه.
ولا تعارض بين هذا النص الذي حصر إنفاقهم في حال نفسية واحدة، وهي كراهية الإنفاق، وعدم الرغبة فيه لشح في أنفسهم، ولكراهية المؤمنين.
فهذه الآية تدل على ذلك، وأما الآية السابقة فمؤداها نفي القبول، ولو أنفقوا طائعين أو ملامين بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو نقول طائعين رغبة لَا في الإنفاق لذات الإنفاق، بل رغبة في الخديعة وستر حالهم من جبن وإرادة الفساد، أو كارهين لهذا الإنفاق.
فالمنافقون كانوا إذا طلب منهم النفبر جبنوا وامتنعوا وتمردوا، ورضوا بالمال كما فعل الجد بن قيس فيما قصصنا من قبل، إذ امتنع وتعلل بأنه ضعيف أمام نساء الرومان بني الأصفر، ويخشى الفتنة، وقال: هذا مالي خذوا منه ما تشاءون، ووصف الكاره ينطبق عليه؛ لأنه يكره الإنفاق في سبيل الله، ووصف المختار ينطبق عليه أيضا لأنه اختاره.(6/3334)
وقد يعجب العاجب من أنهم مع نفاقهم وكفرهم لهم أموال كثيرة وبنون، إنما هذا استدراج كما قال: (. . . سنَسْتَدْرِجُهُم مِنْ حيْثُ لَا يَعْلَمُونَ)، ولذا قال تعالى:(6/3335)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
(فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
الفاء للإفصاح لأنها تفصح عن شرط مقدر يقتضيه سياق البيان، أي إن كانت هذه الأموال لَا ينفقونها في سبيل الله فلماذا يعطونها، فقال تعالى: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ) الآية، أي لَا يُثرْ عجبك كثرة أموالهم وأولادهم وأنصارهم، مما أعطوا مع كفرهم ونفاقهم واستهانتهم بالحق والتنفير منه، وتأليب المبطلين. لا يغرنك هذا، كما قال تعالى: (لا يَغُزَنَّكَ تَقَلبُ الَذينَ كفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ. . .)، وكما قال: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131).
إنما هي فتنة لهم واستدراج، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كذبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِن كَيْدِي مَتِين).
ولذا قال تعالى: (إِنَّمَا يرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم) أي يريد إعطاءهم وتمكينهم، وحذف المفعول ليشمل كل متع الدنيا من مال وسلطان، وقدرة على التحايل، وغير ذلك ليعذبهم، أي لينصرفوا مغرورين مخدوعين، فيكون من بعد ذلك العذاب الأليم في الآخرة، ولتكون لهم عذابا في الدنيا بالافتتان بها، ومن وراء فتنتهم يكون الحرمان بالمصائب والنكبات، وأن تكون مغانم للمؤمنين إذا اشتدت شديدة الحرب عليهم، والضياع والحرمان، فالمال ليس متعة خالصة، ولكنه تحمل لهمومه، فأكلة الربا الذين يستكثرون به من الأموال في هم دائم، حتى أنه لَا يُرى ربوي إلا ومعه سقام الجسم والنفس، كما قال تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ. . .)، وذلك هم واصب نشأ من ذات المال وأصاب النفس (وَتَزْهَقَ أَنفُسهُمْ) أي يموتون، وقد(6/3335)
ضاقت نفوسهم من هموم الأموال وما فيها، (وَهُمْ كافِرُونَ) جاحدون الحق، فتكون نفوسهم قد حرمت متعة الدنيا بمصائب الأموال والبنين ومفاتنهم، وحرموا راحة الإيمان، واطمئنان الحق، فخسروا الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. ولقد قال تعالى: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56).
وإنهم لنفاقهم يبتعدون بقلوبهم عنكم، شاعرين بأنكم نافرون منهم غير واثقين يا معشر المؤمنين، وكلما كان النفور بسبب ما تعرفونه من لحن أقوالهم، كلما شعروا بذلك أحسوا بأنهم لَا يستطيعون خديعتكم، ولذلك يحاولون أن يحملوكم على الثقة فيهم، وما هم بأهل للثقة، وقال تعالى عنهم ذلك:(6/3336)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)
(وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)
(الواو) تدل على صلة هذه الجملة بالتي قبلها؛ لأن الكلام كله في المنافقين، وشعورهم نحو المؤمنين، يحاول أولئك المنافقون أن يشعروا المؤمنين بأنهم منهم في شعورهم وإحساسهم، واتجاههم ليستطيعوا أن يثبتوا فيهم ما يريدون من خداع وأن يفتنوهم عن دينهم، ويدسوا فيهم الخوف وضعف العزيمة، وذريعتهم الحلف بالله العظيم، وذلك يدل على مهانتهم في ذات أنفسهم، كما قال تعالى: (وَلا تُطِعْ كلَّ حَلَّاف مَّهِينٍ).
وموضع القسم أنهم منكم، ولذا يقول تعالى: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ) ويؤكدون ادعاءهم لَا بالنطق فقط، بل بغير ذلك " بأنهم لمنكم " فيؤكدون بـ (إن) وباللام التي في خبرها، يؤكدون ذلك فضل تأكيد. والله يشهد أنهم ليسوا منكم بشعورهم وإحساسهم، بل تفرقت القلوب بينكم وبينهم بسبب نفاقهم، كما قال تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2).(6/3336)
وقد قال تعالى مردفا هذا الادعاء بما يدل على الدافع لهم على هذا الحلف (وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَفونَ) الفَرَق: الخوف. الاستدراك في قوله تعالى: (وَلَكنَّهمْ) هو استدراك من حلفهم، ويفيد عدم تصديقهم تأكيدا لقوله تعالى: (ومَا هم مِنكمْ) وخوفهم من ناحيتين، أولاهما خوفهم من المؤمنين من أن يعرفوا حالهم، وينكشف أمرهم، وهو مكشوف، وهم يظنونه مستورا، وكرارة المنافق دائما أنه يحسب دائما أن أمره مستور، وهو معلوم ولا يجهل كشفه إلا هو، والثانية أنهم يخافون أن يغامروا في جهاد مع المؤمنين، إذ يحسبون الجهاد مغامرة، لأنهم لا يؤمنون به، ولا يحسبون أن الجهاد حياة في عزة، ولا يؤمنون بالحياة الآخرة، فيحسبون أن النهاية تكون عند الموت وأنهم يجعلون أنفسهم من المؤمنين، ولا يقولون أنهم معهم، بل يقولون إنهم من المؤمنين، وادعاؤهم أنهم منهم يتضمن أنهم مؤمنون، وأنهم جزء من المجتمع الكريم أو بعضه، ذلك إيغال في دعوى أن شعورهم كشعورهم، ولو مع ادعائهم ذلك يضيقون بجوارهم للمؤمنين، ويريدون أن يفارقوهم، ولذا قال تعالى:(6/3337)
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
الملجأ - الحصن، والمعنى لو يجدون ملجأ يتحصنون به في قمة جبل وذلك حصن طبيعي، أو قلعة يبنونها، وذلك حص صناعي، أو جزيرة يأوون إليها. (أَوْ مَغَارَاتٍ)، بفتح الميم وهناك قراءة أخرى بضمها (1)، وعلى قراءة الفتح يكون الفعل غار وعلى قراءة الضم يكون الفعل أغار، والمعنى مكان يختفون فيه عن الأنظار، ولذا قيل على الثقب في الجبل غار؛ لأنه يختفى فيه من يذهب إليه، فلا يراه السيارة.
(أَوْ مُدَّخَلًا)، وهو الطريق الخفي الذي يختفى عن الأعين، كالشِّعْبب بين جبلين، أو نحو ذلك من المسارب التي لَا يقتحمها الناس، ولا يقصدون إليها.
________
(1) قراءة (مغارات) بالضم، ليست في العشر المتواترة.(6/3337)
و (لو) في قوله تعالى: (لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا) حرف شرط يقال له حرف امتناع لامتناع، وجواب الشرط (لَوَلَّوْا إِلَيْهِ)، أي لانصرفوا إليه (وَهُمْ يَجْمَحُونَ) أي لذهبوا إليه مسرعين، كالفرس الجموح، وكان التعبير بالجموح للإشارة إلى جموحه، وأنهم يشردون عن الطريق، فهم إن كانوا يجمحون هذا الجموح، موغلين في انحرافهم فكيف يؤمنون؟، ويخلعون رداء النفاق الدنس ويكونون مع المؤمنين يشعرون بشعورهم، ويحسون بإحساسهم؟.
ولماذا كانوا يتمنون أن يخرجوا؟، كانوا يتمنون ذلك لأنهم يضيقون ذرعا بالمؤمنين، يسوءهم عزهم وهو مستمر بعونه تعالى، وحياطته لهم، ولأن المؤمنين كشفوا أمرهم، ولأنهم يدعون للجهاد ولا يذهبون إليه؛ ولأن ذوي قرابتهم، وأولياءهم قد برموا بهم فضاق العيش، وما ضاق عليهم إلا لسبب ما أوتي المؤمنون من الخير. . . والله من ورائهم محيط.
* * *
قال تعالى:
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
* * *
النفاق أصناف وضروب، يعلو وينزل، وأعلاه من يظهر الإيمان بالله، ويبطن الكفر، وهؤلاء كانوا بالمدينة، وعلا شأن الإسلام، فكان من اليهود(6/3338)
والوثنيين هؤلاء الذين أعلنوا الإسلام خوفا، وأبطنوا الكفر، غيظا وعداوة وبغضا، ومن النفاق ألا يستقر الإيمان في قلبه كأُولئك الأعراب الذين قالوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم. ومن الأعراب منِ كانوِا يأخذون ظواهر القرآن ولا يطيعون، كما قال تعالى: (الأَعْرَابُ أَشَدُّ كفْرَا وَنِفَاقَا وَأَجْدرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ. . .)، وكل هؤلاء تشملهم كلمة المنافقين، ولذلك كان الحسن البصري يقول: إن مرتكب الكبيرة منافق؛ لأن عمله يناقض قوله، فكما أن من ينكر بقلبه ويؤمن بلسانه منافق، فكذلك من يعلن الإيمان، ويصدق بقلبه، ولكن يناقض عمله قوله، والإيمان كما يقول الجمهور من علماء العقائد، اعتقاد وعمل، وهو الإيمان الكامل عند جميع العلماء اتفقوا عليه.
يعد هذا نتكلم في معنى النص الكريم:(6/3339)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
(وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ) اللمز: العيب فالرجل الهُمَزَة أو المرأة الُلمَزَة العيَّاب والعيَّابة، واللمز يشمل العيب باللفظ الصرِيح، ويشمل العيب بالتعريض والتلميح، والوخز في الكلام: وقال تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)، وقالوا إن اللمزة من يعيب في وجه من يعيبه ولو بلَحْن القول، والهمزة من يعيب في غيبه وفي غير محضره ولا يواجه من يعيبه.
والضمير في (مِنْهُم) يعود إلى المنافقين، و (مِن) تدل على التبعيض، وإنه عمل بعضهم، ويظهر أنه ليس من الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، بل هو من الذين يعبدون الله على حرف، الذين ينطبق عليهم قول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11). وكذلك هؤلاء المنافقون الذين عابوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال الله تعالى فيهم: (فإِنْ أُعْطُوا منْهَا رَضُوا وَإِن لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ).
(الفاء) تدل على أن ما بعدها بيان أو إشارة إلى نوع عينهم، وهو بيان لنفوسهم إن أعطوا من المال بحق رضوا واطمانوا، وقالوا إنها قسمة عادلة، واستقاموا على الطريقة، وإن لم يعطوا لعدم استحقاقهم سخطوا فهم طامعون في(6/3339)
أن يأخذوا بغير حق. و (إِذَا) - تدل على أن سخطهم أمر لَا يرتبط بمنطق الأمور، فهم فاجئوا أهل الحق به، والدليل على المفاجأة (إِذَا) فهي تدل على المفاجأة.
والمفاجأة تدل على أنه غير منطقي؛ لأن من يرضى بالحق عند العطاء، لا يصح أن يغضب إن منع بحق، ولكن النفس المنافقة تريد دائما أن تحتجز الخير لنفسها، ولا تلتفت إلى حق غيرها، فآية المؤمن أن يعرف حق غيره كما يعرف حق نفسه، ومن علامة المنافق النفسية ألا يفكر في حق غيره، فكل من لَا يلتفت إلى حق غيره فيه شعبة من نفاق.
ومما روي في معنى هذه الآية، ممن كانوا يلمزون في الصدقات أن أبا الجواظ من المنافقين في أعلى درجات النفاق قال: ألا ترون إلى صاحبكم، إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم وهو يزعم أنه يعدل، وروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له وقد فهم أنه يعيب رعاة الغنم قال له: " لا أبا لك، أما كان موسى راعيا، أما كان داود ". فلما ذهب أبو الجواظ هذا قال - صلى الله عليه وسلم -: " احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون " (1).
وقد وصفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن رضاهم وسخطهم لأنفسهم لَا للدين وما فيه صلاح أهله.
وروى في الصحيحين عن أبي سلمة أن ذا الخويصرة واسمه حرقوص اعترض على النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قسم غنائم حنين، فقال: اعدل فإنك لم تعدل فقال صلوات الله وسلامه عليه: " قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ "، ثم قال: " إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء " (2).
_________
(1) أشار المصنف رحمه الله: هذا المبحث مأخوذ من الكشاف للزمخشري.
(2) رواه في البخاري: المناقب - علامات النبوة (3610) عن أبي سَعِيدِ الْخُدْرِيَّ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ، كما رواه مسلم بنحوه: الزكاة - ذكر الخوارج وصفاتهم (1046).
أبو مسلمة هو: عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، من الطبقة الوسطى من التابعين، وهو الراوي عن أبي سعيد رضي الله عنه.(6/3340)
ولقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: " والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكم، وانما أنا خازن " (1) هذا بعض ما روي عن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم في أولئك المنافقين الذين كانوا يلمزون أطهر من في الوجود - في الصدقات.
ويجب أن ننبه هنا إلى أن الصدقات غير الغنائم، فالغنائم تقسيم أموال لمستحقيها بمعنى الغنم والفتح يأخذها الفاتحون بملكية تثبت لهم بمقتضى الجهاد، أما الصدقات فإنها تكون معونات تعطى لمصارف معينة يحتاج إليها أهلها.
وقد بين الله تعالى صفات المؤمنين بجوار ما يفعله الذين في قلوبهم نفاق، فقال تعالى مبينا من في قلوبهم نفاق:
________
(1) (إنما أنا خازن) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه: الزكاة - النهي عن المسألة (1037)، وأحمد بلفظ مقارب مسند الشاميين - حديث معاوية بن أبي سفيان (16467)، وأبو داود: الخوارج والإمارة والفيء - فيما يلزم الإمام من أمر الرعية (2949).(6/3341)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
(لَوْ) في قوله
تعالى: (وَلَوْ أَنًّهمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) هي شو طية، وجوابها محذوف تقديره مثلا: (لكان خيرا لهم)، وإني أظن أن حذف الجواب لتضمن (لَوْ) معنى الحض والرجاء بأن يكونوا كذلك إن خلعوا رداء النفاق من أنفسهم.
وقوله تعالى: (رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) هي نواح نشير إلى بعضها أولاها: أن (رَضِيَ) تتعدى بالباء فيقال رضيت بالأمر، وتتعدى بنفسها، فيقال رضيت الأمْر، وهنا متعدية بنفسها، وأشعر بأنها إذ تتعدى بنفسها تتضمن معنى الرغبة والاقتناع، وهذا ما يليق بالمؤمن عند العطاء من الله ورسوله.
الثانية: أن الله تعالى قال: (آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) وذكر الله سبحانه وتعالى، مع أنهم لمزوا ما فعله الرسول، للإشارة إلى عظم الجرم الذي ارتكبوه، لأنهم إذ عابوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكأنهم يعيبون الله تعالى؛ لأن الرسول لَا يعمل بالهوى،(6/3341)
ولأن الرسول ينفذ، وإنهم إذا عصوه عليه السلام فقد تجرءوا؛ لأن الله تعالى يقول: (من يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ).
الثالثة: ما أشرنا إليه من قبل، إلى أن ذلك الرضاء أمر يحبه الله ورسوله، ويرجوه الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم لهم، ليكونوا من المؤمنين حقا.
وقد صور الله تعالى النفس المؤمنة بأنها قانعة غير طامعة، ونفس المنافق غير قانعة بل هي طامعة دائما وتريد من الدنيا المزيد؛ لأنها لَا تؤمن إلا بالدنيا ومتعها وموادها، فيبتغون المزيد منها، وبئس ما يبغون، فقال سبحانه في تصوير النفس المؤمنة بعد رضاها (وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ) أي كافينا الله، ولم يقل الله تعالى عنهم أنهم يقولون حسبنا ما أتانا الله، بل إنه سبحانه وتعالى يقول عنهم: (حَسْبُنَا اللَّه) أي إن الله كافينا، أعطانا هذا ما رضينا به، وسيعطينا إن احتجنا، وما أخذناه يكفينا.
وقوله تعالى عنهم: (حَسْبُنَا اللَّهُ) فيه من معاني التفويض والتوكل على الله ورجاء ما عنده ما لَا يدركه إلا القلوب المؤمنة المتبتلة الضارعة له سبحانه وتعالى وحده.
وإن قوله تعالى: (سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ) فيه تصوير معنى الاتكال على الله تعالى، ورجاء ما عنده. على أنه فضله فيستحق الشكر ولا يجوز أن ينتقص ما يأمر بإعطائه، وينتقص باللمز، والسير في طريق الكفر، وهو الضلال البعيد.
ولقد قال الله حاكيا عن أقوال المؤمنين (إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ) هذه غاية الضراعة، أن يرغبوا إلى الله تعالى وحده ولا يرغبون فيما لَا يقتنونه، ولا عرضا من أعراض الدنيا ولا غاية من غاياتها، وتقديم الجار والمجرور (إِلَى اللَّهِ) تعالى على (رَاغِبُونَ) يفيد الاختصاص، أي لَا يرغبون إلا إليه سبحانه وتعالى.
وإن الله تعالى بين بعد ذلك مصارف الصدقات، ولم يتركها لنبيه، بل تولاها سبحانه وحده، لكيلا يتطاول بعض من بقلبه مرض من ضعف إيمان أو(6/3342)
نفاق أو من تتعلق نفوسهم بظواهر الأمور دون لبابها وغاياتها، فقال تعالت كلماته:(6/3343)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
(إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
جاءت آية الصدقات بعد ما جاء عن المنافقين في أحوال كثيرة، وأن منهم من عاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في توزيع الصدقات، فجاءت الآية تبين أن التوزيع من الله سبحانه وتعالى، فلم يتركها لنبي ولا لغيره، تولاها هو سبحانه بالبيان فمن عاب التقسيم، فإنما يعيب تقسيم الله تعالى، فليعلم مكانه في الإيمان، روي عن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال له: " إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك " (1).
فكانت هذه الآية ردا على هذا الفريق من المنافقين بأنهم يلمزون النبي صلوات الله وسلامه عليه، إنما يتهجمون على مقام الألوهية، ولبيان أنهم إذ لم يأخذوا منها، فلأنهم لم يدخلوا في صنف من هذه الأصناف الثمانية، ومن دخل في صنف منها فما مُنِع، بل أخذ.
وقوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَات لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكينِ. . .) (إِنَّمَا) أداة قصر، أي أن الصدقات قد اختصت بها هذه الأصناف دون غيرهم، فليست لأحد غير هؤلاء من الأغنياء والأقوياء الذين يكسبون ما يكفيهم وأهلهم بالمعروف، ولذا قال عليه السلام " لا تحلّ الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّة سوي " (2).
فالذين يلمزون الرسول - صلى الله عليه وسلم - أغنياء أو أقوياء.
________
(1) رواه أبو داود: الزكاة - من يعطى الصدقة وحد الغنى (1630).
(2) رواه الترمذي: الزكاة (1634)، وأحمد: مسند المكثرين (6759)، والدارمي: الزكاة (1639)، وابن ماجه: الزكاة، من سأل عن ظهر غنى (1839) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(6/3343)
قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) لَا تفرق اللغة بين الفقراء والمساكين في الجملة، فكلاهما لَا مال له يكفيه وأهله بالمعروف ولكنهما اجتمعا في هذه الآية على أنهما صنفان مختلفان، يتميز كل واحد منهما عن الآخر، وعن الاجتماع بين لفظين معناهما متقارب يخص كل واحد منهما بمعنى ينفرد به عن الآخر، وقد اختلف الفقهاء في تعريف الفقير ليتميز عن المسكين، واختلافهم بلا ريب أدى إلى اختلافهم في معنى المسكين.
فقال الأكثرون الفقير ضد الغني، وهو من لَا يملك نصابا، وهو ما تكون قيمته عشرين مثقالا من ذهب، أو مائتي درهم من فضة، والمسكين من أسكنته الحاجة وأذلته، أي أنه دون الفقير حالا، وقيل العكس، ولكن الأكثرين على الأول، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه فسر المسكين بأنه المريض بمرض مزمن من أهل الذمة.
وروي أن المسكين هو المتجمل الذي لَا يسأل الناس، ولا يلتفت الناس إليه، وقد روي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى أبو هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان "، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: " الذي لَا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا " (1).
وقد اتقق الفقهاء على أنهما يعطيان من الصدقات، وإن كنت أرى أن المسكين أسوأ حالا من الفقير، فإن لم يكف ما يعطى لهما معا، فإن المسكين يكون أولى بالعطاء.
ثم قال تعالى في الصنف الثالث، وهم العاملون عليها، أي الذين يجمعونها من أرباب الأموال كما عين النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاة لجمع الصدقات، كما عين الأمراء من بعده، وقرر الفقهاء أن أولئك يأخذون ولو كانوا ذوي مال، وقرر الحنفية والمالكية أن ما يأخذونه أجرة، ويكون قدرها بمقدار ما يراه ولي الأمر عليهم، على أنه أجرة عمل تكون متناسبة مع الأجرة في مثل هذا العمل.
________
(1) سبق تخريجه.(6/3344)
وقال آخرون ليس لهم من العطاء إلا ما يكفيهم لأهلهم بالمعروف يأخذونه جزاء احتباسهم وتفرغهم لهذا، ولو كانت لهم أموال، كما تأخذ الزوجة نفقتها من زوجها جزاء احتباسها، ولوكانت ذات مال، وهكذا أجر العامل لمصلحة الكافة، وإن هؤلاء يأخذون من الزكاة، وإن هذا يدل على أمرين:
أولهما - أن الزكاة لَا تترك لأربابها يؤدونها، بل يجمعها ولي أمر المؤمنين أو من يوليه لذلك، وقد كان الأمر كذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر وعمر، وفى عهد ذي النورين كان يجمع زكاة الأموال الظاهرة، وهي زكاة النعم والإبل والبقر والغنم، وزكاة الزروع والثمار، وزكاة الأموال التي تنتقل من مصر إلى مصر التي يجمعها العاشر، وأناب ذوي الأموال في أن يؤدوا زكاة الأموال الباطنة، وهي زكاة النقدين " الذهب والفضة "، وعروض التجارة في أن يؤدوا هذه الزكاة، ولو بلغ الأمر أنهم لم يؤدوها، جمعها منهم كما يجمع غيرها.
ثانيهما - أن الزكاة يجب أن تكون لها حصيلة قائمة بذاتها، والقائمون عليها يكونون منفصلين عن بقية العاملين في الدولة، ولذا عندما دونت الدواوين كان هناك ديوان هو ديوان الصدقات، أو كما سمي في كتب الفقه بيت مال الصدقات.
والصنف الرابع: ذكره الله تعالى بقوله: (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) والمعنى اللفظي للنص القرآني السامي الذين تؤلف قلوبهم بأن يقرب الإسلام إلى نفوسهم، بعد أن كانوا ينفرون منه.
وهؤلاء الذين كان فيهم هذا الوصف، كانوا على طوائف مختلفة فمنهم الكبراء الذين يتزعمون قبائل فيعطى لهم من الصدقات، ما يؤلفون به الضعفاء ليقربوا، ويأتلفوا الإسلام ويهجروا الوثنية.
ومنهم من آمن وخلع الوثنية، ودخل في الإسلام ممن قال بلسانه ولم يؤمن قلبه، ومنهم من خضعوا للغلب، وطيبت قلوبهم لكي يؤمنوا، ويعتنقوا الإسلام.
وليس هذا رشوة لهم فقد أخضعوا واتبعوا، ويريد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل منهم مؤمنين بدل أن يكونوا خاضعين.(6/3345)
ومنهم ناس كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - معهم حروب، وكان فيهم مقاتل في الحرب المحمدية، وكان لابد من أن تطيب نفوسهم، وترضى قلوبهم وتحل المودة محل الخصام والنفرة فأعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم أبو سفيان وأولاده وعلى رأسهم معاوية ابنه، ولعل هذا العطاء لهؤلاء فيه معنى الديات.
وهل هذا الصنف بقي بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ نقول إنه باق ما بقي الإسلام إذا احتاج إليه المؤمنون، بل نقول إن الحاجة إلى تأليف القلوب باق ما بقي الإسلام، وإنه لباق إلى يوم الدين.
وإن عمر لم يلغه أو ينسخه كما ادعى الكتَّاب، وإنما فِعْلُ عمر أنه منع استمرار العطاء لبعض الناس؛ لأنه لم يكن ذلك حقا مكتسبا لهم.
وإنه ممن ينطبق عليهم لفظ المؤلفة قلوبهم أولئك الذين يسلمون، فيخرجون من أهليهم أو قومهم، ولا يجدون ما يستطيعون أن يقيموا لأنفسهم أسرة أو يحرمون من مناصبهم، فإنه يجب أن تؤلف قلوبهم بتعويضهم عما خسروا بإسلامهم، ولنا في رسول الله أسوة حسنة، وإنه يجب أن ينفق على الدعوة الإسلامية من سهم المؤلفة قلوبهم؛ لأن المقصد الأصلي من المؤلفة قلوبهم هو تثبيت الإسلام في قلوبِ لم يستقر فيها الإيمان، والله سبحانه وتعالى هو الموفق للحق.
الصنف الخامس: ذكره الله تعالى بقوله: (وَفِي الرِّقَابِ) أي الإنفاق لفك الرقاب؛ لأن دين الحرية لَا يرضى بالرق، وقد عمل على الحد من أسباب الرقيق فألغاها كلها إلا الرق في الحروب فقد تركه؛ لأن الأعداء يسترقون من أسرانا، وقد أمرنا الله تعالى أن نرد الاعتداء بمثله فقال تعالى: (. . . فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ. . .).
ومع أن الرق قد بقي في هذه الحدود الضيقة، فقد حث على العتق، وجعل له في الزكاة نصيبا مفروضًا، يعان به المكاتب لفك رقبته، والمكاتب هو الذي اتفق(6/3346)
مع مالكه على أن يعتقه إذا أدى له ثمنه أو قيمته أو ما يتفقان عليه، ويسعى عاملا مجدا، حتى يجمع ثمنه، وقال تعالى: (. . . فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ. . .)، فيعطى من سهمه في الصدقات ما يعينه على فك رقبته، وكذلك يُشترى من هذا السهم عبيد ويعتقون، وكذلك تدفع منه فدية الأسارى من المؤمنين، حتى لَا يسترقُّوا، وهكذا كل ما يعرض المؤمنين للرق يمنع بدفع مال من هذا السهم.
والصنف السادس: ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَالْغَارِمِينَ) والغارم هو المدين الذي عليه غرامة وهي الدَّين، والغرم هو الدين الذي يلزم الشخص من غير جباية ولا خيانة كانت منه، وغرم أي وجب عليه غرم، والغارم من وجب عليه هذا الغرم، والدائن يقال له غريم، لأنه يلازم المدين ولا يفارقه.
ويجب أداء دين الغارم أي المدين من الصدقات إذا كان قد استدان في غير سفه، وعجز عن السداد من غير سفه، والتجار الذين يستدينون لجلب البضائع من الأقطار في حكمة وعناية بمتجرهم، ولكن تجارتهم تبور أو تغرق مركبها، أو تذهب أموالهم بأي سبب من أسباب الضياع، وكذلك الذين تحملوا ديات للصلح بين الناس، فإنه يؤدي ما تحمَّلوه من مال الصدقات.
وإنما أديت ديون الغارمين من الصدقات للتعاون، ولإقالة العثرة، وازن بين هذا التعاون الباني والتكافل الذي بين المؤمنين، وازن بين هذا وبين القانون الروماني الذي كان قد عاصر نزول القرآن الكريم، وقد كان يجعل للدائن الحق في أن يملك رقبة المدين، وازن بين هذا القانون وقانون القرآن معجزة الله الكبرى، إذ يفرض من الصدقات سداد الدين عن المدينين.
وإن هذا القرآن يتحدى الأجيال كلها أن يأتوا بنظام بشري في أي بقعة من الأرض، أي بمثل ما أتى به من تكافل اجتماعي. ونذكر هنا قصة صادقة حدثت في عهد الحاكم العادل حاكم بني أمية عمر بن عبد العزيز، إنه ببركة العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه فاض الخير وعم، ومن مظاهر ذلك أن والي الصدقات(6/3347)
في أفريقية (تونس وليبيا والجزائر) شكا من تكدس أموال الصدقات في بيت المال فأرسل بذلك إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فأرسل إليه: سدد الدَّين عن المدينين، فسددها، ولكن مد الصدقات لم ينقطع، فأرسل يشكو امتلاء بيت المال، فأرسل إليه اشتر عبيدا وأعتقها، فأخذ يشتري من عبيد المؤمنين ويعتقهم.
والصنف السابع: ذكره الله تعالى بقوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) فسر هذا بعضهم بالإنفاق على المجاهدين إذا كانوا فقراء، وكانوا لَا يجدون ما يحملهم، فيعطون من الصدقات ما يحملهم، وفسر بعضهم بالإنفاق على الجهاد بإعداد العدة للجيش وإمداده بكل ما يحتاج إليه جيش الإسلام من أدوات الحرب، والإنفاق على المجاهدين.
وبعض العلماء أدخل في سبيل الله - الحج، وأجازوا أن ينفق الشخص من صدقاته ما ينفق في الحج، وأرى ألا ينفق عليه من مال الزكاة؛ لأنه لَا يجب الحج إلا على من يستطيع إليه سبيلا، فهو شرط لوجوب أدائه، والزكاة فرض قائم بذاته، والقفال الشاشي قرر أن (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) تشمل كل وجوه البر.
(وَابْنِ السَّبِيلِ) هو الذي انقطع عن ماله وكان في مكان لَا مال فيه، وهو في حاجة إلى القوت والمأوى، وسمي ابن السبيل لأنه صار لَا مأوى له، وكان السبيل أبوه الذي يؤويه ويحميه.
وإيتاؤه أن يعطى ما يحفظ أمره، ويؤويه من غائلة الطريق، ويوصله إلى بلده حيث ماله، ويصح أن يكون عطاؤه عارية مستردَّة إن كان قادرا على الأداء، ويصح أن يكون عطاء غير مسترد، على حسب ما يرى أمير الصدقات.
وختم الله تعالى الآية بقوله تالت كلماته: (فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قال الزمخشري: إن (فَرِيضَةً) بمعنى المصدر أي فرضا من الله.
ولماذا لَا تكون فريضة وصفا للصدقات وتوزيعها الحكم، أي أن هذا كله موصوف لفريضة، كفريضة الصلاة والصوم والحج، وأنها لازمة لزوم كل الفرائض(6/3348)
المشروعة، ونسبها سبحانه إلى الله منزلها، فقال: (فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ) وذلك لبيان لزومها ومنع تغييرها وإجمالها وضرورة إعطائها، وتعود على الذين لمزوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات ببيان أن التقسيم من الله تعالى، وأن من يعيبه إنما يعيب الله سبحانه وتعالى.
وختم الله تعالى الآية الكريمة بقوله تعالى: (وَاللًهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) وفيه إشارة إلى أن هذا التعاون بين الأغنياء والمحاويج يربي العزة، وهو تشريع من العزيز مانح العزة، الحكيم الذي يعلم الأشياء كلها، ويدبر الأمور بمقتضى حكمته وينظمها بمقتضى علمه.
وقبل أن ننهي الكلام في آية الصدقات نشير إلى أمرين أحدهما فقهي والآخر لغوي، ونبتدئ باللغوي وذلك أن الزمخشري رحمه الله تعالى بين السبب في التعدية باللام في الأربعة الأولى وهي الفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم، وذلك لأن العطاء لهؤلاء لَا يكون إلا بالتمليك والاختصاص فالفقراء والمساكين يأخذون بالتمليك ما يعطون، وكذلك العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم، والأربعة الأخرى كانت التعدية بـ (في) فقال تعالى: (وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ)، فإن هؤلاء لَا يأخذون، فالرقاب لا يأخذون، بل الذي يأخذ مالك الرقبة، وكذلك الغارمون لَا يأخذون، إنما الذي يأخذ هو الدائن الغريم، وابن السبيل لَا يملك، ولكن يطعم ويؤوى، والله أعلم.
أما الأمر الفقهي فهو أن الفقهاء قد اختلفوا أهذا الإحصاء للاستيعاب واختصاص العطاء في هؤلاء أم الصدقات تقسم ثمانية أقسام. فيكون لكل قسم ثُمن الصدقات، قال الشافعي بذلك، وقال جمهور الفقهاء: إنه يقسم على مجموع الأقسام الثمانية، لَا على كل قسم بحظه المعلوم، وولي الأمر ينفق لكل بما يراه أصلح وأعدل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *(6/3349)
من أعمال المنافقين
قال تعالى:
(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
* * *
ذكر سبحانه مقالة بعض المنافقين في لمز النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصدقات، وقد رد تعالى قولهم، وبين سبحانه أن أمر الزكاة وسائر الصدقات ليس فُرُطا، بل إن الله نظمه، وأن من يعيب توزيعها إنما يتهجم على الله سبحانه وتعالى، لأنه لم يتركها له ليوزعها كما يشاء، بل ذكر أصناف مستحقيها. ولكنهم يستمرون في إيذائه ولذا قال تعالى:(6/3350)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ).
ولكنهم استمروا على إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بأقوال كاذبة، ويفتُّون في عضد الجماعة الإسلامية ويشيعون فيها بما يفرقها ويرجعون بالقول، فإذا تسامع الناس بها، وعلموا أنها وصلت إلى مسامع النبي - صلى الله عليه وسلم - لَا يبالون، (وَيَقُولُونَ هُو أُذُنٌ)،(6/3350)
ولذا قال تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) وليس قولهم: هو أذن - هو الإيذاء، بل الإيذاء بالقول منهم متنوع مختلف لَا يتوانى عن الكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - والافتراء عليه كما كانوا يلجون في إشاعة الافتراء على أم المومنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، فإذا رأوا كبر ما يفعلون سهلوه، (وَيَقُولُونَ هُو أُذُنٌ)، ومعنى (أُذُنٌ) أنه يأخذ العلم من مسمعه من غير أن يفحصه، بل يقبله مصدقا له، فما عليهم إلا أن يحلفوا أنهم ما قالوه حتى يصدق أيمانهم من غير أن يفحص كذب ما قالوا، ونسوا أن اللَّه يعلمه بما تبلبل به ألسنتهم، ويجيش في صدورهم، وكلمة (هُوَ أُذُنٌ) كما قلنا أنه يعلم من أذنه، فإذا صدق ما قيل عنهم، فإنه مصدق أيمانهم النافية الكاذبة ولا عليهم شيء من بعد ذلك، وهكذا المنافق يظن أو يتوهم أنه يخدع الناس بقوله وهو المخدوع، وإنما يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون.
وعبر عن المستمع بأنه أذن لأنه في زعمهم علمه كله من أذنه، وذلك مجاز مرسل علاقته الجزئية، فعبر عن الكل باسم الجزء؛ لأن هذا الجزء له مزية خاصة في الموضوع، كما يعبر عن الجاسوس بالعين؛ لأن العين لها المزية الأولى في عمله، ورد الله تعالى عليهم بقوله: (قُلْ أُذنُ خَيْرٍ لَكُمْ) كقولنا أذن صدق، ورجل بِر، ورجل حق، فقد سلَّم بأنه أذن، يستمع إلى الأقوال التي تصل إليه، ولكن لَا يقبلها بإِطلاقها كما يتقولون، ولكن يفحصها، ويعالج نفوسكم على مقتضاها، ويتدبر الأمر لهدايتكم، ولا يبادركم بشر يناسبكم، ولا يفضحكم؛ لان الله تعالى أمره بذلك، ولأنه يقصد إلى خيركم، ولا عيب إذا سمع وصدق، ولقد قال بعض المفسرين كلمة طيبة: كلما كانت النفس ألين عريكة، وأسلم قلبا وأسهل قبولا كانت أقبل وأشد استعدادًا له، وليس هذا اللين من باب الضعف، والتأثر من كل ما يرد عليه، ويراه حتى الكذب والشرور.
فهم زعموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ لم يجابههم بشرهم يقبل كل كذبهم وافترائهم، ولو كانت موثقة بالأيمان المغلظة، ونسوا أنه يعرفهم، ولكن لَا يريد أن يُنْزِل بهم أي عقاب، حتى لَا يقال إن محمدا يعاقب أصحابه وينزل بهم سوء العذاب.(6/3351)
وبين الله سبحانه وتعالى ما يقوي أنه أذن خير، فقال: (يُؤْمِن بِاللَّهِ) وهذا تعريض بهم بأنهم لَا يؤمنون بالله، فهو يؤمن باللَّه حق الإيمان، ويذعن لله حق الإذعان، لَا أن يفتري ويوثق افتراءه بإيمان تدل على ما يدينهم ولا تبرئهم، ويقول تعالى: (وَيؤْمِن لِلْمُؤْمِنِينَ) أي يسلم للمؤمنين ويصدقهم، وهذا أيضا تعريض بهم، فهو يسلم للمؤمنين ويصدقهم لأنهم مؤمنون، ولا يؤمن لكم ولا يصدقكم لأنكم منافقون، فلا تحسبوا سماحته لكم تصديقا، وإنما سماحته لكم رفق في الدعوة، وتلطف بكم عسى الله أن يجعل منكم من يؤمن بالله واليوم الآخر، ويخلع نفسه من النفاق وأهله، وقد عدى البيان القرآني بالباء في قوله تعالى (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ)، لأن الإيمان بالله معناه التصديق والإذعان، والتصديق يتعدى بالباء.
وتعدى باللام في قوله تعالى: (وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ)؛ لأن الإيمان فيما يتعلق بالمؤمنين معناه التسليم لهم، وقبول قولهم، مثل قوله تعالى في الإخبار عن كلام إخوة يوسف: (. . . وَمَا أَنتَ بِمؤْمِن لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)، وقوله تعالى: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذرِّيَّةٌ من قَوْمِهِ. . .)، وقول الكفار لنوحٍ: (. . . أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَبَعَكَ الأَرْذَلُونَ).
وقوله: (وَيُؤْمِن لِلْمُؤْمِنِينَ) فيه تعريض لهم بأنه عليه السلام لَا يقبل قولهم، لأنهم ليسوا بمؤمنين، وإن رفق بهم وتلطف في القول، فالرفق شأنه، ولكن لَا يدل على ما ظنوه من أنه يقبل كل كلام ولو كان كلامهم.
ثم يقول تعالى: (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالعطف على (أُذن خَيْرٍ) وقرئ بالجر (1)، أي رحمة للذين آمنوا منكم.
والمعنى على قراءة الجر، هو أذن خير لكم، وأذن رحمة للذين آمنوا منكم.
________
(1) قراءة (ورحمة) بالجر قراءة حمزة، وقرأ الباقون بالضم. غاية الاختصار (959).(6/3352)
وعلى قراءة الرفع، وهي قراءة يكون العطف فيها على (أُذُنُ)، أي هو أذن خير لكم، وأذن رحمة للذين آمنوا منكم، والضمير في (لَكُمْ) و (مِنكُمْ) يخاطب به المنافقين.
ووجه الخيرية لهم أنه يتستر عليهم بقبول كلامهم، وذلك خير لهم من أن يتجهم لهم فيفضحهم، ويكشف سوءة نفاقهم، وقوله: (للذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ) أي من أهليكم وذوي قرابتكم، ومن كانوا في الأصل منكم وهداهم الله تعالى فلا يكشف عن نفاقكم بإِظهار القبول لكلامكم، وإن كان يعلم أنكم لكاذبون لكيلا يضار هؤلاء، وعندما ظهر أمر المنافقين ولم يعد خفيا ذهب ابن عبد الله بن أبي رأس المنافقين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: إن كنت قاتلا فدعني أقتله، حتى لا أحمل ضغنا لمؤمن، فكان كتمان أمرهم، وعدم مجابهتهم بالتكذيب رحمة بهؤلاء الذين آمنوا منهم.
ثم ختم الله سبحانه الآية بذكر العذاب الأليم لمن يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
أظهر في موضع الإضمار لأن صدر الآية يبين أن موضوع الآية المنافقون الذين يؤذون رسول الله، فكان يصح أن يعود الضمير إليهم، ولكنه أظهر في موضع الإضمار، ليبين سبحانه أن سبب العذاب المؤلم هو إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولذا قال جمهور الفقهاء: من سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كفر وعُدَّ مرتدا، وحلَّ قتله إلا أن يتوب، ولهم العذاب الأليم أي لكل من يؤذي رسول الله.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى محاولتهم تكذيب ما يقال عنهم بالحلف، والحلف الكاذب شارة المهانة، كما قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ)،
فقال سبحانه وتعالى عنهم:
(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)(6/3353)
إن هؤلاء المنافقين حاولوا الكذب على النبي، وأيدوا كذبهم بإيمان غموس غير صادقة، وحسبوا أن ذلك يخدع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وظنوا أنهم قادرون على ذلك بإيمانهم لأنه أُذُن، وقد بين سبحانه وتعالى فساد زعمهم في الآية السابقة، وفى هذه الآية حاولوا أن يخدعوا المؤمنين بإيمانهم الكاذبة؛ لأنهم يعيشون في أوساطهم ويساكنونهم ويجاورونهم فحاولوا أن ينفوا عنهم نفاقهم بالأداة التي يملكونها ويملكها كل فاجر كافر فأخذوا يحلفون، وقال الله تعالى في ذلك:(6/3354)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ) لقد تخلفوا عن الجهاد في وقت النفير إلى بني الأصفر المتكاثف عددهم، فكانوا بذلك جبناء، وكانوا كاذبين في ادعائهم الكاذب، وثبت بدليل قاطع نفاقهم، والمنافق في وسط عربي صريح يعلن القوة، ولا يتقبل المعاذر - مشنوء مهين، فكانوا يحاولون تبرئة أنفسهم بالأيمان، وقوله (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ) التعبير بالمضارع لأنهم يحلفون في الحال لَا في الماضي وفيه إشارة إلى أن الحلف شأنهم وهو متجدد، وكلما كذبوا حلفوا، وكلما تخلفوا بأعذار غير صادقة حلفوا، فالحلف ديدنهم.
وقوله تعالى: (لَكُمْ) إشارة إلى أن من معهم من العشراء والجيران من المؤمنين هم المقصودون، وقد صرح سبحانه وتعالى بذلك فقال: (لِيُرْضُوكُمْ) أي أن الباعث لهم على هذا الحلف الكذب إرضاؤكم، وإزالة الوحشة بينكم وبينهم، وزوال النفرة التي تحسونها منهم.
وإن هذا الإرضاء مع أنهم يطلبونه يريدونه لغاية في أنفسهم؛ لأن دوام النفرة منهم يمنعهم من الثقة فيهم، وذلك لَا يمكنهم من الدس الخسيس فيهم إذ لا يثقون فيهم، والدس يحتاج إلى الثقة ممن يدسون لهم، ويلقون بالفتنة فيهم، وقد بين الله سبحانه الغش في محاولة الإرضاء، فقال تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ) أي أن العيب فيكم ليس في اعتذار أو تخلف أو كذب، إنما العيب الأصيل هو النفاق، فالنفاق هو الذي جعلكم تتخلفون عن(6/3354)
الجهاد، وهو الذي جعلكم تعتذرون عنه بأعذار مكذوبة، وهو الذي جعلكم تحلفون ممتهنين الأيمان المغلظة.
فهم حاولوا إرضاء المؤمنين ولم يحاولوا إرضاء الله ورسوله لأنهم يعلمون أن ذلك غير ممكن، ولذا قال تعالى فيما تلونا (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ) أي لو كانوا مؤمنين ولا يريدون التخلف، وإن تخلفوا فبأعذار صادقة - لآمنوا أن الله ورسوله أحق بالإرضاء، وإرضاء الله ورسوله ليس يالأيمان الكاذبة، إنما هو بأن يخلعوا أنفسهم من النفاق، ويؤمنوا بالله ورسوله حق الإيمان.
وفى قوله تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) إشارة بيانية، وهي أن الله تعالى ورسوله ذكر أنهما أحق بالإرضاء، ولكنه عند عود الضمير أعاده مفردا (يُرْضُوهُ)، وذلك للإشارة إلى أن إرضاء أحدهما إرضاء لهما، فإرضاء الله تعالى إرضاء للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وإرضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إرضاء لله تعالى، كما قال: (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. .)، وفي ذلك إشارة إلى أن الذين يؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما يتهجمون على مقام الألوهية ويتحدون الله ورسوله، ولقد قال تعالى:(6/3355)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
لقد كان هؤلاء المنافقون مع ما يظهرون من محاولة إرضاء المؤمنين ليبثوا فيهم الخور، وضعف العزيمة، حتى إنه في غزوة " أُحُد " بتأثيرهم - همَّت طائفتان أن تفشلا بعمل كيدهم.
كانوا مع ذلك يستهزءون بالمؤمنين والنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وضعوا أنفسهم في حيز، محادين الله ورسوله، فقال تعالى فيهم:
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) الاستفهام هنا للنفي والتوبيخ، ولم نافية، ونفي النفي إثبات كما يقول أهل العلم بالعربية، فالمعنى لقد علموا أنه من(6/3355)
يحادد الله ورسوله، فأن لهم جهنم، وكان الإثبات بهذه الطريقة البيانية لتأكيد علمهم وتأكيد شرهم، كأنهم أقدموا على هذا الشر عالمين، ووجه التأكيد في التقرير بهذه الطريقة مؤداه أنه سئل عنهم: يعلمون أم لَا يعلمون، فأجيب عنهم بأنهم يعلمون، فكان في ذلك فضل تأكيد.
وحاده كـ (شاقَّه)، أي جعل بينه وبين الحق حدا، لَا يصل الحق إليه، ولا يحاول هو أن يصل إلى الحق، ومن يكون في جانب، والله تعالى في جانب آخر، كأنه يناوئه ويقاومه، ولقد قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْما يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. . .).
وقوله تعالى: (فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ) فيها قراءتان قراءة حفص بفتح (أن)، وتخريج القول على هذه القراءة أن النار واقعة في جواب الشرط، وأن والمصدر المنسبك منها وما بعدها، فاعل لفعل محذوف تقديره (فقد ثبت أن لهم جهنم خالدين فيها أبدا)، وهناك قراءة بكسر (إن) (1)، وتكون هي وما بعدها جملة مبتدأة، واقعة في جواب الشرط، أو دالة على جواب الشرط، وذلك على تقدير أن الشرط محذوف، ويكون المحذوف تقديره (هالك).
قوله تعالى: (ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ)، أي أنهم إذا كانوا في الدنيا يتسترون بنفاقهم، ويخفون حقيقة أمرهم، فإن ذلك مكشوف يوم القيامة، إذ ينكشف أمرهم ويتبين حالهم، ويكون خزيهم وهم خالدون فيها المنافق دائما حذِر من أن ينكشف أمره، وقد رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ينزل عليه الوحي ويخبره بكشف أمر المنافقين، فكانوا يخشون إذا نزلت سورة أن يكون فيها كشف لأمر من أمورهم، فقال تعالى:
(يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِم سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
________
(1) قراءة (فأن) بالفتح، ليست في العشر المتواترة.(6/3356)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
(يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ) إخبار عن المنافقين بأنهم يحذرون أن تنزل عليهم سورة، والحذر يكون دائما من شأن من يستر شيئا؛ لأنه يخشى أن يكشف، وإذا كشف ضاع الغرض الذي ستره من أجله، والسورة الجزء من القرآن المفصول عن غيره كأنه سوِّر بسور يحدُّه، والتنزيل من الله تعالى على نبيه الكريم، فلا تنزل على المنافقين، إنما تنزل على قلب محمد الأمين، فكيف تنزل عليهم، ولكن المراد أنها تنزل في شأنهم، وكانت التعدية بـ (على) للإشارة إلى أنها تنزل عليهم كالصاعقة يفاجئون بها، وعلى ذلك يكون الضمير في (عَلَيْهمْ) يعود إلى المنافقين، وكذلك الضمير في (تُنبِّئُهم)، وقوله تعالى: (بِمَا فِي قلُوبِهِمْ) ويصح أن يكون قوله تعالى: (يَحْذَر الْمُنَافِقون) في معنى الأمر، وكثيرا ما تجيء الصيغة الخبرية بمعنى الأمر، كما في قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ. . .)، وكما في قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قًرُوء. . .)، فإن الخبر في كل هذه الصيغ يدل على الطلب.
ولكن تخريجها بمعنى الخبر أولى؛ لأنه يناسبه قوله تعالى في الآية (إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ).
والزمخشري يرى أن الضمير في (عَلَيْهِمْ)، و (تنَبِّئُهُم) يعود على المؤمنين والنبي - صلى الله عليه وسلم -، لأن الشأن في النزول القرآني أن ينزل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن معه من المؤمنين، وأما الضمير في قوله تعالى: (بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) فإنه يعود على المنافقين؛ لأنهم الذين يخفون ما لَا يبدون، فالأنسب أن يعود إليهم، والقرائن تعين عودة الضمائر على هذا النحو.
كان المنافقون يستهزئون في مجالسهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وبالمسلمين وبالجهاد، حتى أنهم كانوا في غزوة تبوك التي كانت ذاهبة إلى الشام يتهكمون على المؤمنين، ويستهزئون بهم، ولا يكتفون بالقعود عنهم، ولقد روي أنهم كانوا يقولون مستهزئين: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات. وكانوا يريدون ألا يطلع على ذلك أحد من المؤمنين، ولذا قال تعالى:(6/3357)
(قُلِ اسْتَهْزِئُوا) هذا أمر للتهديد، كقولك للمجرم الذي بدا إجرامه افعل ما شئت، وكقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (1).
(إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ) أي إن الله تعالى كاشف ما تأتمرون به، وما تستهزئون به من قول يكشف عن نفاقكم، وفي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ) أي أن يخرج، تأكيد لإخراج هذا الأمر الذي يحذرون خروجه، أولا بالجملة الاسمية، و (إِنَّ)، الدالة على توكيد الخبر، وفي التعبير بلفظ الجلالة الذي يربي الرهبة والخوف في النفس، وقوله (مُخْرِجٌ) فيه إشارة إلى مبالغتهم في الحذر، كأنهم دفنوه فأخرج من دفين نفوسهم.
ولقد جاء في تفسير أبي مسلم أن قوله تعالى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ. . .) من قبيل على القرآن، فقال هذا حذر أظهره المنافقون على وجه الاستهزإء حين رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكر كلامهم ويدعي أنه من الوحي، وكان المنافقون يكذبون ذلك فيما بينهم، فأخبر الله وسوله بذلك، وأمره أن يعلمهم أنه يظهر سرهم الذي حذروا إظهاره، ولذلك قال تعالى: (قُلِ اسْتَهْزِئُوا)، أي بالله وآياته ورسوله، أو افعلوا الاستهزاء، وهو أمر تهديد (إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) أي مظهر بالوحي ما تحذرون خروجه.
ويقول إن هذا احتمال، ولكن السياق القرآني يدل على استهزاء أظهره الله تعالى، وإن هذه الآية تدل على أنهم يكثرون من الاستهزاء والله مخرج أمورهم، حتى لَا يخدع فيهم مؤمن قال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30).
* * *
________
(1) سبق تخريجه.(6/3358)
قال تعالى:
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
* * *
كان المنافقون في المدينة يثبطون المؤمنين عن الجهاد ببث التخاذل فيهم، ووضع ما يؤدي إلى الفشل والعجز فيما بينهم لَا يبالون، ما يمنعهم من غرضهم عشيرة أو جوار، أو أنه إذا نزلت بالمدينة كارثة لَا ينجون منها.
فكانوا يستهزئون بالمؤمنين في مجالسهم، ويتهكمون عليهم، إذا خرجوا إلى الجهاد حاولوا تثبيطهم عنه ببث روح الفشل، أو بالتهكم اللاذع، واستصغار شأن المؤمنين، ومما جاء في مقالتهم من نفاقهم " أنه بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في غزوة تبوك كان ركب من المنافقين وبعضهم يقول لبعض: أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم لبعض، والله لكأنَّا بهم مقرنين في الحبال. قالوا ذلك ترهيبًا للمؤمنين، وقال رجل من المنافقين طعنا في المؤمنين: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء.(6/3359)
علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الأقوال، وراجت وشاعت بين المؤمنين، وكانت تشتد شيوعًا كلما كان قتال؛ لأنه يلهج ألسنتهم بفساد القول كلما كانت حرب أو شدة لتكون السخرية، ويكون التثبيط.
وإذا سألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الأقوال أقروا بها، وبمقصدهم منها، وهو العبث، وهذا قوله تعالى:(6/3360)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ).
والخوض هو الدخول في الماء والانغمار فيه، ثم أطلق على الدخول في الكلام الذي يسمرون به، والقصص من الأساطير، واللعب من الفعل أو القول الذي لَا يكون لغاية، بل لمجرد العبث، أو الاستهزاء والسخرية.
وقد أكد الله سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ) بالقسم وفيه اللام الممهدة للقسم، وحذف المفعول؛ لأن أقوالهم كثيرة، وكان جوابهم مؤكدا تبعا لتأكد القسم، فهم أكدوا أنهم كانوا يخوضون ويلعبون، ومعنى ذلك أنهم كانوا يستهزئون، ولذلك أمر الله تعالى نبيه بأن يقول لهم: (قلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ).
بين الله سبحانه وتعالى خطر استهزائهم بالخوض في الكلام العابث، واللعب الجاحد، بين لهم أن ذلك يتضمن الاستهزاء بالله خالق كل شيء، والآيات التي ترشد العقلاء إلى الحق، والرسول الصادق الأمين الذي قامت الأدلة من القرآن ومن شخصه على الرسالة، فكفروا بالله وكذبوا الآيات.
وتقديم (أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسولِهِ) على الفعل يستهزئون فيه إشارة إلى تخصيص هؤلاء بالاستهزاء، فأي ضلال أشد من هذا، وأي كفر وجحود أشد.
والاستفهام هنا للاستنكار، إنكار الواقع أي التوبيخ على ما فعلوا.
ولهذا الفجور الذي يبدر من ألسنتهم ويدل على قلوبهم، قال الله تعالى:
(لَا تَعْتَذِرُوا)؛ لأن كل اعتذار يلقون فيه أنفسهم بهاوية من الكفر أشد مما هم فيه، فقال تعالى:(6/3360)
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
(لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً ... (66)
والنهي هنا على حقيقته، فالله تعالى ينهاهم عن الاعتذار؛ لأن الاعتذار يؤدي إلى أن يقعوا في ذنب أشد مما يعتذرون عنه لحميتهم، وجهالتهم بسبب النفاق الذي أركس نفوسهم في الشر، أو نقول النهي للتهكم باعتذارهم الذي يجعلهم يعترفون بأفحش ذنوبهم.
والاعتذار محو أثر الذنب، وأصله القطع، واعتذرت إليه قطعت ما في قلبه من الموجدة، فهم يحاولون إزالة ما أوجده كلامهم من بهفر، فيزيدون الذنوب.
والاستهزاء استخفاف، فإذا كان بالله وآياته ورسوله فهو كفر، ولذا قال تعالى في اعتذارهم وإقرارهم بالاستهزاء (قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) وقد أكد الله تعالى كفرهم بـ (قَدْ) الدالة على التحقيق فأكد الله تعالى كفرهم، وقوله تعالى:
(بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) والنفاق ليس فيه إيمان، والمنافق ليس بمؤمن، ولكنه يظهر الإيمان، ويكون بعد إيمانكم أي بعد إظهار إيمانكم، فكشفتم كفركم بعد ستره، فافتضح أمركم بعد أن سترتموه، أو نقول: إنه كان فيهبم ضعفاء الإيمان، فكان اشتراكهم معهم في الاستهزاء والسخرية بالله تعالى وآياته ورسوله كفرا لهم بعد إيمان كان فيهم، وإن كان ناقصا، وإني أختار هذا، والله تعالى أعلم.
ثم يقول سبحانه: (إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً)، إن عفو الله منوط بالتوبة، الطائفة التي يعفو الله عنها هي التائبة، فالتوبة تجبُّ ما قبلها، وقد كان في هؤلاء الذين خاضوا ولعبوا وتعابثوا، من تاب وأناب.
وقد قال الحافظ ابن كثير في تفسيره نقلًا عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس: وكان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول: اللهم إني أسمع آية أن أُعنى بها (أي لأنه كان ممن خاضوا بها) تقشعر منها الجلود، وتوجل منها القلوب، اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لَا يقول أحد أنا غَسَّلتُ، أنا كَفَّنت، أنا دفنت.
فأصيب يوم اليمامة، فما من أحد من المسلمين إلا وقد وجد غيره.(7/3361)
هؤلاء هم الذين عفا الله عنهم، وهذا أحدهم لقد تاب فعفا الله عنه وصار من الشهداء الصديقين، وأسند سبحانه العفو والعذاب إليه سبحانه تعظيما لمقام العفو، وتهديدًا بأهل العذاب، ولقد بين سبحانه العذاب، بقوله تعالى: (بِأَنَّهُم كانُوا مُجْرِمِينَ) الإجرام الذنب الكبير الذي يكون له جِرم، وتفعله الجوارح، وتكتسبه النفس، وقد أشار سبحانه إلى أنهم مستمرون على إجرامهم ولم يتوبوا، ولذلك يتأكد إجرامهم واستمرارهم عليه، وعدم انخلاعهم منه، فقد أكد الإجرام بالجملة الاسمية، و (أن) الدالة على تأكيد ما بعدها، و (كان) التي تؤكد القول، وتدل على استمراره.
أحوال المنافقين وصفاتهم
وقد بين سبحانه صفات المنافقين الذين لَا يرجى إيمانهم، فقال تعالت كلماته:(7/3362)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
إن المنافقين ينعزلون عن الجماعة المؤمنة، فهم في نفرة عنهم، ويكونون أنفسهم جماعة موحدة يجمعها فكر عام موحد يناقض الجماعة العامة التي يعيشون فيها، فلا يرضيهم ما يُرضي الجماعة بل يخالفونها، ويناقضونها فيما تفكر وفيما تعمل، فقد عزلوا أنفسهم عنها، فإذا كانت الجماعة العامة متضافرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهم عكسوا، معروفهم منكر عند جماعة المؤمنين، ومنكرهم هو المعروف، ولذا قال تعالى:
(الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَات بَعْضُهُمْ مِّنْ بَعْضٍ) أي أنهم كل متصل الأجزاء، ولايتهم واحدة وتناصرهم واحد، وفي هذا تكذيب ليمينهم الكاذب فيما نقله سبحانه عنهم (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ. . .)، وهو تأكيد لما قاله سبحانه في نفي أنهم منكم.(7/3362)
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أنهم متضافرون في أسرهم، فأسرهم في الجملة منافقة، ولذا ذكر سبحانه وتعالى المنافقات مع المنافقين، وقال تعالى: (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ)، أي أنهم لُحْمة متصلة يتغذى بعضهم بلبان النفاق من بعض، فهم بيئة واحدة يغذيها لبن النفاق، أو بالأحرى سُمُّه.
وقد ذكر سبحانه أحوالهم:
أولاها: أنهم ينشرون الفساد في الفكر والعمل، فلهم رأى عام يخصهم يسوده الفساد في النفوس والأخلاق، يشجع الرذيلة ويتهكم على الفضيلة، وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله: (يَأمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ) يشجعون كل ما هو شر، ويمنعون كل ما هو خير، معروفهم منكر، ومنكرهم هو المعروف، وهكذا يقضى الله على بعض الجماعات الإنسانية بالشر، كما نرى الآن من منافقي عصرنا، فعدلهم ظلم وحريتهم اعتداء، وشوراهم استبداد.
الثانية: أنهم غير متعاونين في ذات أنفسهم، وفي جماعتهم فلا ينفقون في خير قط، والشح يستولي على نفوسهم، ولا يجعلون أنفسهم في وقاية منه، بين تعالى في ذلك الوصف بقوله تعالى: (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) القبض ضد البسط، وقبض اليد غلها عن الإنفاق، فعبر عن عدم الإنفاق في موضعه بقبض اليد، كما عبر عن الإنفاق في موضعه ببسط اليد، كما قال تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ. . .).
الثالثة: أنهم ينسون الخير نسيانا، فإذا ذكر لهم الخير تهكموا بصاحبه، وقالوا مستهزئين متهكمين بمن يتكلم في الفضيلة، وهذا عبر الله عنه بقوله: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) أي نسوا الله تعالى فلا تذكره قلوبهم، ولا تطمئن به، إن القلوب إذا نسيت الله لَا تطيع أمره، ولا تجتنب نواهيه، ونسيان الله تعالى ألا يوفقهم لخير، وأن يجعلهم منغمسين في الشر الذي اختاروه والضلال الذي أحيط بهم.(7/3363)
وإن المنافقين قد ينفقون في حالين: إحداهما أن يستروا نفاقهم، كما كان المعتذرون المتخلفون عن الجهاد يعتذرون عن الخروج، ويقولون هذه أموالنا خذوا منها ما شئتم.
والحال الرابعة - أن ينفقوا في الشر لتأييد الفاسدين، وقد نسوا رقابة الله، فنسيهم أي فتركهم يرتعون ويعبثون حتى يوم الحساب. ولقد قال تعالى حاكما عليهم: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقونَ) الفسق هو الخروج والتمرد على الحقائق، وهو هنا أشد من الكفر، فهم كافرون بنفاقهم إذ يسترون الكفر، ويظهرون الإسلام، وبهذه المساوئ التي أشار إليها الكتاب العزيز، فيتمردون على الله، ويعاندونه، ويحادونه إذ يحادون الحق.
وقد قال الزمخشري: إن فسقهم هو الفسق الكامل، ونقول إن الله تعالى أكد فسفهم، بالجملة الاسمية، وبـ (إِنَّ)، وقصرهم على الفسق بتعريف الطرفين، وبضمير الفصل (هم)، أي أنهم مقصورون على الفسق لَا يخرجون من دائرته فهو محيط بهم، إحاطة الدائرة بقطرها.
وقد ذكر الله تعالى عذابهم، فقال تعالى في كتابه العزيز:(7/3364)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
(وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
هذا وعيد الله تعالى للمنافقين والمنافقات، ويلاحظ هنا أنه أظهر في موضع الإضمار، فذكرهم بأوصافهم للدلالة على أن النفاق هو السبب في هذا العقاب الشديد، ونص على النساء المنافقات؛ لأنهن يكوِّنَّ الأسرة التي يُعشش فيها، ويشتركن في إيجاد البيئة المنافقة التي يسودها الفساد ويحكمها الشر، وقد ذكر الكفار بعد المنافقين، وهم والمنافقون داخلون في الكفر؛ لأنهم كفار يزيدون النفاق، ولذا قدموا لأنهم أوغلوا في الكفر، والكافر الضال مظنة التوبة كما تاب الطلقاء وأبناء الطلقاء، وأما المنافق فإنه ملتوي النفس ملتوي الفكر، وقد يكون(7/3364)
الكفار سبب كفرهم عصبية جاهلية، أما المنافقون فسبب كفرهم مع هذا الانحياز الذي يشبه الانحياز العصبي فإنه يوجد في رءوسهم ضلال في الفكر والتواء في القصد.
وذكر سبحانه الموعود فقال: (نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا).
ذي ثلاثة أولها نار جهنم، يلقون فيها وهي تتسع لهم جهنم (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)، وهي مراتب ودركات، (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. . .)، فهم أشد الكفار عقابا، وأعظمهم عذابا.
ويقول سبحانه: (هِيَ حَسْبُهُمْ)، هي الكافية، وهذا يدل على هولها، وشدتها، كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها، وهي عقاب مادي.
والنوع الثاني: عقاب معنوي، وهو الطرد والإبعاد المعنوي، وعبر عنه سبحانه وتعالى بقوله: (وَلَعَنَهُمُ) أي طردهم من رحمته، وأبعدهم عنه سبحانه لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم.
الثالث: عبر عنه بقوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ مقِيمٌ) أي مستمر دائم، وعطفه على هذين السابقين دليل على أنه غيرهما؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، ولم يعين سبحانه نوعه، ولكنه أخبر به فيجب علينا أن نصدقه.
* * *
قال تعالى:
(كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ(7/3365)
نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
* * *
بين الله تعالى في الآية السابقة العقاب الشديد الذي يستقبل الكافرين، وخص المنافقين بالذكر، لأنهم كفار أخساء لؤماء، مفسدون، ثم بين سبحانه وتعالى أن ذلك العذاب قريب وليس ببعيد، وأنه أصاب الذين من قبلكم، فقال مقربا لعذابهم ممثلا له بعذاب من سبقوهم، فقال:(7/3366)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
(كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ) الذين سبقوكم بالكفر والطغيان، والخطاب للكفار والمنافقين، وإن ذكرهم وقد فَنوا يومئ إلى أنهم سيكونون مثلهم في فناء، وأن الحياة الدنيا التي آثروا متعها فانية، وقوى ذلك المعنى المشار إليه بقوله تعالت كلماته: (كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا) كانوا في قوة غزت الأقاليم وفتحت البلاد ودانت لهم رقاب العباد، وسيطروا على الأرض، كان عدد الملأ من قوم فرعون كثيرا، والأموال من الزرع والثمار والسائمة، تجري في أيديهم، فأنى يكون عددكم بجوار عددهم، وأموالكم وأنتم بواد غير ذي زرع بجوار أموالهم، ومع ذلك حسبوا الحياة كل شيء ففنوا مع فناء حياتهم الدنيوية.
قوله تعالى: (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) أي بنصيبهم الذي خلقه الله تعالى لهم، استمتعوا بهذا النصيب، وحسبوه الحياة، ولا حياة بعدها، وتحكموا واستكبروا، وقال الطاغوت الأكبر فرعون - ومن شابهه -: (. . . أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي. . .)، وسرتم سيرهم، فحسبتم أن الدنيا هي الحياة، ولا حياة بعدها. ولذا قال تعالى: (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ).
استمتع معناها طلب المتعة، ونالها، فالأقدمون استمتعوا بما أوتوا من حظوظ الدنيا، وجعلوها متعتهم، وقصروا متع حياتهم عليها لَا يطلبون غيرها من متع(7/3366)
الآخرة، ولا يريدونها، والفاء في قوله تعالى: (فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ) تدل على ترتب ما بعدها على ما قبلها، ترتب محاكاة واتباع، فطلبتم ما طلبوا، وحاكيتموهم فيما فعلوا، ولذا قال: (كَمَا اسْتَمعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُم بِخَلاقِهِمْ) ثم قال تعالى: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) قلنا: إن الخوض معناه دخول الماء، واختفاء الأرجل والسير فيه، وأطلق على الخوض في الباطل والإثم، وفيه مجاز، من حيث تشبيه الخوض في الباطل بالخوض في الماء من غير تعرف لما فيه، وقد يكون فيه صخور، أو أشياء تجرح وتضر.
(وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا) أي خضتم في الباطل كالذي خاضوا فيه.
والمعنى تشابهت أحوالكم مع أحوال من سبقوكم فاستمتعتم بحياة لاهية رخيصة، من غير نظر إلى عاقبة أموركم وأمورهم وحسبتم أن خلاقكم في الدنيا هو الحظ الأوفر، فلم تفكروا في الآخرة، ولم تعملوا على صلاح أموركم فيها، بل إنكم أنتم وهم حسبتم أن حياتكم هي الدنيا، وظننتم أنكم خلقتم عبثا من غير غاية، وأنه ليس هناك يوم تجازون فيه، وإن الصيغة الكريمة تومئ إلى أن قصر الحياة على حظوظ الدنيا استهانة بأنفسهم، وقد قال الزمخشري في بيان السبب في تكرار التشبيه لحالهم بحال من سبقوهم من الفجرة الآثمين العاتين، وفائدته أن يَذُم الأولين بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتها الفانية عن النظر في العاقبة، وطلب الصلاح في الآخرة، وأن يصغر أمر الاستمتاع بها، ويهين أمر الراضي بها، ثم يشبه حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله، فتقول: أنت مثل فرعون؛ كان يقتل بغير جرم ويعذب ويعسف، وأنت تفعل مثل فعله.
فهو سبحانه وتعالى يشير إلى سوء حال من سبقوهم، ويبين أنهم مثلهم.
ثم قال تعالى: (أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) الإشارة إلى أوصافهم من أنهم حسبوا الحياة لهوًا ولعبًا، فاستمتعوا بحظهم فيها، واستمتعتم أنتم مثلهم، هذا سبب أن حبطت أعمالكم، أي بطلت؛ لأنها تحمل في نفسها أسباب فسادها،(7/3367)
وأولئك هم الخاسرون، وقد تأكدت خسارتهم، وفي الكلام قصر، واختصاص أنهم مقصورون على الخسران، فلا فلاح لهم في الدنيا إذ تكون حياتهم يأكلون ويمرحون، ولا فلاح لهم في الآخرة إذ يستقبلهم العذاب المهين.
وقد أشار سبحانه إلى الهلاك الذي نال من سبقوهم فقال تعالى:(7/3368)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
(أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
بعد أن ذكر أمر من سبقوهم، وأنهم جعلوا حياتهم لاهية لَا يقدرون فيها تبعات، ويحسبون أن حياتهم أن يستمتعوا بخلاقهم ولا يقدرون لهذه الحياة ما بعدها، والآن يذكر لهم سبحانه بعض أعيان من كان مثلهم، ممن يسيرون في ديارهم ويرون آثارهم في أرضهم، وعلموا بالتواتر علم اليقين أخبارهم، فقال تعالى: (أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ).
الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الوقوع، وهو يدل على تأكيد الخبر، وهو بمعنى النفي الداخل على النفي، والمعنى مع التوبيخ والتأكيد: لقد أتاكم نبأ من قبلكم، النبأ: الخبر العظيم الشأن، وهذا خبر عظيم الشأن لمن تأمل مغزاه وما يهدي إليه، وهو نبأ قوم نوح، وكيف كفروا، فأغرقهم الله، ولم ينج إلا قليل هم الذين اتبعوه وآمنوا به، وما آمن إلا قليل، وعاد وقد أهلكتهم الظلة، وثمود، وقد أرسل الله تعالى عليهم ريحًا صرصرأ عاتية، والمؤتفكات، وهي القرى التي بعث فيها لوط عليه السلام، وسميت مؤتفكات، لأنها انقلبت على أهلها، من ائتفك أي انقلب، وقيل هي في سدوم، وقد قال في انقلابها بعد أن أمر لوط وأهله إلا امرأته أن يسري بقطع من الليل، ولا يلتفت منهم أحد: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83).(7/3368)
وقد أشار سبحانه إلى هلاك الكافرين الذين جحدوا بآيات الله تعالى قوما قوما ولم يعذبهم في الدنيا إلا بعد الإنذار الشديد إليهم، كما قال تعالت كلماته: (. . . وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وقد بعث الله تعالى الرسل إليهم قبل هلاكهم لكيلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، فقال تعالى: (أَتَتْهُمْ رسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، أي أتتهم رسل الله، بعثت إليهم بالبينات أي بالآيات الدالة على صدقهم، وأضيفت الرسل إليهم، وهي رسل الله للإشارة إلى مزيد العناية بهم من حيث إن الرسل جاءت إليهم خاصة، وخاطبتهم بما يهديهم إلى الحق، ومعهم الأدلة الدالة على الرسالة مستقيمة لَا عوج فيها، وبذلك قامت الحجة عليهم، فإن آمنوا فعن بينة، وإن كفروا فعن جحود بعد أن قامت عليهم الحجة.
ولذا قال تعالى: (فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ) اللام في (لِيَظْلِمَهُمْ) لام الجحود، أي تفيد تأكيد النفي في قوله: (فَمَا كَانَ) أي ليس من شأن الله تعالى أن يظلمهم، فقد أقام الحجة عليهم، وقد تأكد بنفي ظلم الله تعالى بما النافية، ولام الجحود، و (كَانَ) الدالة على استمرار النفي، أي أنه ليس من شأن الله ولا من كماله أن يظلمهم، (وَلَكِن كَانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) الاستدراك من عموم النفي، وإثبات ظلمهم لأنفسهم، وتقديم أنفسهم على يظلمون يفيد تأكيد ظلمهم لأنفسهم، وفيه ما يفيد أن ظلمهم يعود إلى أنفسهم، فلا يظلمون إلا أنفسهم، والله سبحانه وتعالى لَا يمكن أن يظلمهم.
وبعد أن بين الله تعالى مآل المنافقين والكافرين الذي أدت إليه أعمالهم، قال في أعمال المؤمنين وثوابهم:
* * *(7/3369)
أحوال المؤمنين وصفاتهم
قال تعالى:
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
* * *
ذكر الله تعالى أن المنافقين والمنافقات بعضهم من بعض أي من جنس بعض، ولم يقل أنهم أولياء؛ لأن الولاء يقتضي المحبة والنصرة، والمنافق لَا يحب أحدا، ولا ولاء له لأحد، بل هو خِبٌّ لئيم (1) يتربص للناس الدوائر، وإن وافق غيره يكون ممالأة، ولا يكون إخلاصا، ومن لَا يخلص للحق لَا يخلص لشيء، ومن لَا يخلص لله لَا يخلص لأحد.
ولكن بالنسبة للمؤمنين والمؤمنات، قال سبحانه وتعالى:
________
(1) من ذلك ما رواه الترمذي: البر والصلة (1964)، وأبو داود في الأدب (0 479) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " الْمُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيم، وَالْفَاجِر خِبٌّ لَئِيم "، والخِبُّ: من سعى بالخداع، - والإفساد بين الناس.(7/3370)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
(وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) الأولياء جمع ولي، والولي هو النصير، والمحب، والوالي هو الذي يجعل عزه عزة لمن يواليه، وعبر عنهم بأنهم أولياء؛ لأنهم جمعتهم الرحمة والمودة، والإخلاص لله تعالى وللحق، وجماعتهم وأسرهم تقوم على الفضيلة، والإخلاص والتراحم؛ لأنهم صَغَتْ قلوبهم لله تعالى، ولانت(7/3370)
أفئدتهم له سبحانه، فهم مرتبطون برباط معنوي لَا ينفصم، وما تربطه المادة يقبل التحطيم أو القطع، وما يربطه الولاء والمودة لَا تنفصم عراه؛ لأنه مربوط بالعروة الوثقى لَا انفصام لها، فهي رباط المؤمنين الذين يستمسكون به.
وقد وصف الله تعالى المؤمنين بصفات توثق الإيمان وتقويه.
وأول وصف هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وثاني وصف هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يؤدونها مقومة مستقيمة بخشوع وخضوع، وحضور لجلال الله تعالى في أداء أركانها من قيام وركوع وسجود، لَا أن ينقروا نقرا، وهي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، ويتحقق فيها قوله تعالى: (. . . إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكبَر وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ).
وثالث الأوصاف هو في قوله تعالى: (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) والزكاة هي المعاونة الاجتماعية التي يتعاون فيها الناس، فالغني يعين الفقير، كما يعين القوي الضعيف، وهي الماعون الذي ذكره سبحانه وتعالى في قوله: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)، فالزكاة هي المعاونة التي فرضها الله على الأغنياء للفقراء، يعتقدها المؤمن مغنما ولا يحسبها مغرما.
والوصف الرابع ذكره سبحانه بقوله تعالت كلماته: (وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي طاعة غير متململين فيها بتكليف، ولا مظهرين الطاعة ومضمرين العصيان، يطيعون بقلوبهم وجوارحهم، وينفذون أوامر الله تعالى في كل شئونهم، وشئون الجماعة المؤمنة، وعلى رأسها الجهاد.
إذا كان المؤمنون يقومون بهذه الواجبات، ويتصفون بهذه الصفات فقد حكم الله تعالى لهم بقوله تعالت كلماته:(7/3371)
(أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ) الإشارة إلى الصفات التي اتصفوا بها من أنهم أولياء يناصرون بعضهم بعضا، وأنهم يطهرون نفوسهم بالصلاة، وجماعتهم بالزكاة، ويتواصلون بالمودة، ويحمون أنفسهم بالجهاد في سبيل الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبسبب هذه الأوصاف يرحمهم الله تعالى، فيتآزرون ويجتمعون ويتحابون، وأي رحمة أعلى من ذلك، والسين - هنا وفي كل مكان تذكر فيه في القرآن - للدلالة على تأكيد الوقوع.
وقد قال في ذلك الزمخشري: السين مفيدة وجود الرحمة لَا محالة، فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد، كما في قولك: سأنتقم منك يوما - تعني أنك لا تفوتني، وإن تباطأ ذلك، ونحوه (. . . سَيَجْعَل لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا)، (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)، (. . . سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ. . .).
فالسين وسوف، يدلان على وقوع الفعل في المستقبل القريب والبعيد، ويؤكدان وقوعه، كما أشرنا إلى ذلك في مقام ذكرهما فيما مضى من كلامنا في معاني القرآن العظيم.
وقد بين سبحانه وتعالى قدرته على تنفيذ وعده ووعيده فقال: (إِن اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) العزيز هو القادر الغالب، مربي العزة في النفوس والجماعة، والحكيم هو الذي يضع كل أمر في موضعه.
وقد قدر الله أن عزة الجماعة تكون بترابطها وتوادها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد، والاستعداد له، والإقبال عليه بنفوس راضية، وقلوب مؤمنة، ومن تخلف عنه، فقد ذل بعد عزة، وتفرق بعد اجتماع، والله ولي المؤمنين.
وإذا كان سبحانه قد ذكر وعيد المنافقين فمانه سبحانه يذكر وعد المؤمنين فيقول سبحانه:(7/3372)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
(وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
وعد الله تعالى أن يعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وكان الوعد هو ذات الجنات، لَا إعدادها، وفي ذلك إشعار بأنها موجودة مهيأة قائمة ثابتة، ليس أمامهم إلا أن يدخلوها، ولذا لم يذكر دخولها، بل ذكر وجودها، وذكر سبحانه أن الأنهار تجري من تحتها، فقال سبحانه وتعالى: (وعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) وجريان الأنهار يفيد ثلاثة أمور:
أولها: أن ساكنها يتمتع بمنظر بهيج، وثانيها: أنها تجعل جوها لطيفا، لَا قَر ولا حرور، وثالثها: أنها تمد جذور أشجارها بالماء الطيب الذي يجعلها وارفة الظلال لَا يُبس فيها، بل لها غصون خضراء تجعل المتعة كاملة.
وقال تعالى: (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْن) والمساكن الطيبة هي المساكن التي يستطيب نازلها الإقامة فيها، وهي ممهدة تمهيدا طيبا للإقامة، وقد روي أنها قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر، والزبرجد، وروي أنها تكون لبِناتٍ من فضة وذهب، ولا تعارض في أن تكون كذلك، ولكن نقول إنها مساكن طيبة تطيب الإقامة فيها، وتستريح النفس والقلب بالإقامة، و (عَدْن) قال الزمخشري فيها: إن جنات عدن التي وعد بها الرحمن، ويدل عليه ما رواه أبو الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " وعدن دار الله تعالى التي لم ترها عين، ولم تخطر على قلب بشر، لَا يسكنها غير ثلاثة: النبيون والصديقون والشهداء، يقول الله تعالى: طوبى لمن دخلك " (1).
وإن هذه الآية، وهذه الآثار تدل على أن جنات عدن جزء من الجنة يكون فيها الأبرار، والأطهار، هذا كله جزاء مادي، وهنا جزاء معنوي وهو رضوان الله تعالى، فقد قال عز من قائل: (وَرِضْوَان مِنَ اللَّهِ أَكبَرُ) الرضوان هو الرضا
________
(1) جزء من حديث جاء في كنز العمال: تفسير سورة الإسراء - ج 1، ص 324، برقم (4485).(7/3373)
العظيم، فزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وإن الإحساس بالرضا من الله رب الخلق، وخالق الخلق سعادة لَا تعدلها سعادة، ولقد قال في ذلك الزمخشري كلمة قيمة ننقلها. " وشيء من رضوان الله تعالى أكبر من ذلك كله؛ لأن رضاه تعالى هو سبب كل فوز وسعادة، ولأنهم ينالون برضاه عنهم تعظيمه وكرامته، والكرامة أكبر أصناف الثواب، ولأن العبد إذا علم أن مولاه راض كان ذلك أكبر في نفسه مما وراءه من النعيم، وإنما تتهيأ له برضاه، كما إذا علم بسخطته، تنغصت عليه، ولم يجد لها لذة، وإن عظمت، وسمعت بعض أولى الهمة البعيدة والنفس الحرة من مشايخنا يقول: لَا تطمع عيني، ولا تنازع نفسي إلى شيء مما وعد الله في دار الكرامة كما تطمع وتنازع إلى رضاه عني، وأن أحشر في زمرة المهديين " اهـ.
ونرى أنه يفهم من قول الزمخشري أن قوله تعالى: (وَرِضْوَانٌ منَ اللَّهِ أَكْبَرُ) أن معناه شيء من رضوان الله أكبر، أي أن أول شيء من رضوان الله تعالى أعظم من كل هذا النعيم.
ويقول سبحانه: (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) والإشارة هنا إلى نعيم أهل الجنة، وتاجه رضوان الله تعالى، هو الفوز والفلاح، والحصول على أعظم جزاء، ويصح أن تكون الإشارة إلى رضوان أكبر؛ فإن ذلك الرضا العظيم جزاء لَا يُنَاهد، والعبارة تدل على القصر بتعريف الطرفين وضمير الفصل (هُوَ)، أي لَا فوز غير هذا، والله أعلم.
* * *
الجهاد ماض إلى يوم القيامة
قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ(7/3374)
وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
* * *
بين الله تعالى حال المشركين، وما هم عليه، وذكر العذاب الذي يستقبلهم في الدنيا والآخرة، ثم بين حال المؤمنين، ثم يدعو سبحانه إلى استمرار المؤمنين في الجهاد، غير وانين ولا مقصرين.
والخطاب في الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وللمؤمنين معه، وكان الخطاب للنبي ابتداء، لأنه القائد الأعلى، ولأنه الهادي والمرشد، والموجه،(7/3375)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
(جَاهِدِ) معناها ابذل الجهد في دفع الكفار والمنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام بألسنتهم، ويقولون آمنا بأفواههم، وما هم بمؤمنين، ولا شك أن بذل الجهد في دفع الكفار والمنافقين يختلف، فالكفار الذين أعلنوا الكفر وفتنوا المسلمين يكون جهادهم دفعا بالسيف والقتال، والكفار الذين لم يعلنوا الكفر وأبطنوه، ولم يفتنوا المسلمين بالإيذاء والتعذيب. . كان يفعل ذلك المشركون في مكة ولكنهم يثيرون الفساد، والدس والفت في عضد المؤمنين فدفعهم يكون بدفع أذاهم وشرهم، ومقاومة ما يبثونه في المؤمنين من تضليل، وأن يبعدهم عنهم، وبطلان ما يدعون إليه، وإقامة الأدلة عليهم ومنع تاثيرهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم "، ولا شك أن الجهاد باللسان له مقامه في جهاد المشركين، وأشد ما يكون تأثيرا في جهاد المنافقين.
ومن جهاد المنافقين ألا يبش لهم، حتى يطمعوا في خداعه، بل يشعرهم بأنه في حذر منهم، ويقول ابن مسعود: يستنكر أفعالهم بيده، فإن لم يستطع فباكفهرار وجهه. وفي الجملة يسد عليهم باب خديعتهم، وقال الحسن البصري: إن جهاد المنافقين بإقامة الحدود، وذلك على أساس مذهبه من أن مرتكب الكبيرة(7/3375)
منافق، ويرى ابن جرير أن يكون جهادهم بالسيف إذا كشف نفاقهم، وأظهروا كفرهم، ويقول في ذلك إنهم في هذه الحال يخرجون من إسرار النفاق إلى الجهر بالكفر، فيدخلون في عموم الكفار المظهرين الكفر.
ولقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربعة أسياف: سيف للمشركين بينه الله تعالى بقوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ. . .) وسيف لكفار أهل الكتاب، وبينه سبحانه وتعالى بقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)، وسيف للمنافقين بينه الله سبحانه بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ)، وسيف للبغاة، كما قال تعالى: (. . . فَقَاتِلُوا الَتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ. . .).
وإنه قد روى أن الذي تولى سيف المنافقين هو الصديق خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد تكشف نفاقهم في الردة التي وقعت عقب وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ ارتد الأعراب الذين قال الله تعالى عنهم: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ. . .).
وإنه لهذا قال ابن جرير بقتل المنافق وقد لاحظ وصف الظهور، كالذين ارتدوا في عهد الصديق وقاتلهم عندما أرادوا أن يؤدوا الصلاة، ولا يؤتوا الزكاة، فقال لهم رضي الله عنه: " سلم مخزية، أو حرب مجلية ".
وقوله تعالى: (وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) أي عاملهم بخشونة، ولا ترفق بهم فإن الرفق يكون بحملهم على الإيمان بالشدة عليهم حتى لَا يمعنوا في الكفر، وعسى أن تكون الشدة دافعة غرورهم مانعة طغواءهم، وهذا عذابهم في الدنيا، ويكون بالهزيمة، والخزي والخسران.(7/3376)
أما جزاؤهم في الآخرة، فقد ذكره سبحانه وتعالى: (وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) والمعنى يسيرون إلى الآخرة حتى يجدوا المأوى الذي يؤويهم، وهو جهنم وفى هذا نوع من التهكم؛ لأن المأوى يأوي إليه الإنسان ليجد فيه المستقر والراحة والاطمئنان، فذكر المأوى في هذا المقام تهكم عليهم كقوله تعالى: (. . . فَبَشِّرْهُم بِعَذَاب أَلِيم).
ثم ذم الله تعالى هذا المأوى فقال: (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) الذي آووا إليه. اللهم قنا عذاب النار.
لقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان " (1) فقول الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، كان أوضح أوصافهم الكذب والحلف، ولذا تال تعالى:
________
(1) سبق تخريجه.(7/3377)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
(يَحْلِفُونَ باللَّه مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كلِمَةَ الْكُفْرِ وكفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ).
كان المنافقون ينالون بألسنتهم من النبي كثيرا، ولا يكفون ألسنتهم، ويقولون إذا أظهروا الإيمان، إنما نحن نستهزئ بهم، وكان الله يُعْلِم نبيه بأحوالهم وأقوالهم، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعرفهم في لحن أقوالهم، كما قال تعالى: (. . . وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. . .).
وكانت كلماتهم الفاسقة، تتساقط على مسامع بعض المؤمنين من غير أن يتنبهوا، روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب فقال رجل من المنافقين، وزيد بن أرقم بجواره، قال ذلك المنافق: (لئن كان هذا الرجل " أى الرسول " صادقا فنحن شر من الحمير، فقال زيد رضي الله عنه: فهو والله صادق ولأنت شر من الحمار).
كان هذا القول وأشباهه يصل إلى مسامع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وربما يجابههم بهذا الذي ينقل، عندئذ يجدون المطية التي اختاروها، وهي مطية كل كذاب مهين، وهي الحلف بالله تعالى من غير أي حريجة.(7/3377)
ولذا يقول في بيان حالهم عندما يكشف أمرهم وتعلم أقوالهم:
(يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ... (74)
قلنا: إن أقوالهم المنافقة كثيرة لَا تخص واحدة دون الأخرى، بل كلما تكشتَف قول ينبئ عن نفاقهم - كذبوه وحلفوا اليمين الغموس الفاجرة، وقد أشرنا إلى أن اليمين الفاجرة، كانت المساغ لكذبهم، لعنهم الله هم وأخلافهم في هذا الزمان، وقد قالوا كلمة الكفر أي ما قالوه فيه كلمة واحدة هي كافية لطردهم من رحمة الله، واستحقاقهم نار جهنم، وهي إنكار الرسالة المحمدية؛ إذ هي الكلمة التي أوقعتهم في حضيض الكفر، أو نقول " كلمة " بمعنى كلمات، وكلمة بها كلام قد يُؤَم (1)، والمراد أن كلامهم كله في الاستهزاء والتهكم، وإيقاع الفرقة، والدس والفساد، هو كفر.
وقال (بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) أي بعد إعلانهم الإسلام، وإبطانهم الكفر والنفاق، فهذه الكلمة أو الكلام قد كشف نفاقهم الذي كان مستورًا بإعلان الإسلام، فما استفادوا إلا بيان حالهم، ومعرفة الوصف الحقيقي لهم.
(وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا) أرادوا أن يفسدوا أمر المؤمنين، وتوقعوا الفتنة والفشل فيهم، ولم ينالوه؛ لأن الله تعالى رقيب عليهم، وكاشف للمؤمنين أمرهم، وكلما أوقدوا نار فتنة أطفاها الله سبحانه وتعالى، وعادت الأمور بيضاء لا فتنة فيها، ولقد هموا بقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أرادوا الفتك به بإِلقاء حجر عليه فكشف الله تعالى بالوحي أمرهم ولم ينالوا مأربهم، وهموا بقتله في عودته من تبوك ولم ينالوا ما يبغون؛ لأن الله تعالى عاصمه من الناس، فإنهم جمعوا عددا ما بين اثني عشر، وخمسة عشر رجلا للفتك برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في أعلاها، على حسب اختلاف الرواة كي يفتكوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإليك القصة كما رواها الإمام أحمد
________
(1) (وكلمة بها كلام قد يُؤَمّ)، شطر بيت من ألفية ابن مالك، ومعناه: أن " كلمة. تطلق، ويقصد بها " كلام "، مثل كلمة التوحيد: لَا إله إلا الله.(7/3378)
قال: " لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ الْعَقَبَةَ، فَلَا يَأْخُذْهَا أَحَدٌ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُودُهُ حُذَيْفَةُ وَيَسُوقُ بِهِ عَمَّارٌ إِذْ أَقْبَلَ رَهْطٌ مُتَلَثِّمُونَ عَلَى الرَّوَاحِلِ، غَشَوْا عَمَّارًا وَهُوَ يَسُوقُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ عَمَّارٌ يَضْرِبُ وُجُوهَ الرَّوَاحِلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُذَيْفَةَ: «قَدْ، قَدْ» حَتَّى هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ وَرَجَعَ عَمَّارٌ، فَقَالَ: «يَا عَمَّارُ، هَلْ عَرَفْتَ الْقَوْمَ؟» فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ عَامَّةَ الرَّوَاحِلِ وَالْقَوْمُ مُتَلَثِّمُونَ قَالَ: «هَلْ تَدْرِي مَا أَرَادُوا؟» قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «أَرَادُوا أَنْ يَنْفِرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَطْرَحُوهُ " (1).
وهكذا هموا بقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينالوا منه، وصدق وعد الله لرسوله إذ يقول له: (. . . بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ. . .). وقد ذكر المفسرون أن النص الكريم (وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا) خاص في تلك الحادثة. ونحن نقول إن النص يشمل كل ما هموا به ولم ينالوه.
ثم يقول سبحانه: (وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ) لقد ازداد عمران المدينة بمقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فاتسعت تجارتها، وكثر سكانها، ثم ما كانت تأتي به الحروب الإسلامية من غنائم زادت الخيرات واتسعت الموارد، وعمت سكان المدينة وغيرهم، ولكن المشركين لم يلتفتوا إليه وأن ذلك يوجب الحمد، ولكنهم لؤماء أخساء، قابلوا النعمة بالكفر، وتأكد لؤمهم بقلبهم النعمة نقمة، فهم بدل أن يشكروا النعمة كفروها، وقالوا إن هذا يشبه تأكيد المدح بما يشبه الذم في صيغته، كما في قول النابغة الذبياني:
________
(1) راجع القصة كاملة في مسند أحمد: باقي مسند الأنصار - حديث أبي الطفل عامر بن واثلة رضي الله عنه (23280).(7/3379)
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
بيد أن كلام الله العلي الكبير فيه تأكيد ذمهم لَا تأكيد مدحهم، فكان حقه عليهم أن يعدوا محمدا ودينه بركة عليهم يقدرونها حق قدرها.
وقد ذكر سبحانه أن هذا الغنى من فضل الله تعالى مَنَّ به عليهم كان يوجب عليهم حسن الصحبة لمن جاوروهم الذين جاء الخير على أيديهم، لَا أن يتربصوا بهم الدوائر، وذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجوار رب العزة، وهو الغني والناس جميعا فقراء إليه سبحانه، ذكر الرسول مع الله تعالى؛ لأن الخير كله أجراه الله تعالى على يديه، ولكي يعلموا أن مقدمه عليهم بركة وخير، ولأن الله تعالى أكرمهم لمقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ظهرانيهم.
ومع هذه المكايد والفتن فتح اللَّه تعالى لهم باب التوبة، فهو ينهى عن أن يقنط عباده من رحمته، فباب الرحمة والتوبة مفتوح، ولذلك قال تعالى فاتحا باب الأمل لهم:
(فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ).
أي إن يتوبوا توبة نصوحا يخلعون فيها أنفسهم من الكفر، كما يخلع الثوب النجس ليلبس طاهرا، (يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ)؛ أي يكون ذلك خيرًا لهم؛ لأن نفوسهم قد طهرت، وطهارة النفس في ذاتها خير، واستقامة النفس اطمئنان وإيمان، وخير أيضا؛ لأن النفاق ضعف، والإيمان قوة، وقوة النفس خير، وخير أيضا لأنه نجا من خزي النفاق وذله وجبنه، وخير لأنه نجا من عذاب يوم القيامة، وإنه يكون عكس ذلك إن استمروا على في بهم، وبقوا في رجسهم، ولذا قال سبحانه:
(وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، أي إن أعرضوا وانصرفوا إلى الفساد وساروا في طريقه يعذبهم الله في الدنيا بضعف نفوسهم(7/3380)
وخزيهم، وفقد الثقة فيهم، والخزي العظيم، ونفور الناس منهم، وضرب الذلة عليهم، وانتقام الله منهم، وكشف ما يضمرون، وقتلهم، كما فعل أبو بكر الصديق عندما ارتدوا، فأنزل بهم الهزيمة والخزي والعار بتأييد الله، وعذابهم في الآخرة جهنم وبئس المصير.
ومن عذابهم في الدنيا أنهم لَا ولي لهم ولا نصير، ولذا قال تعالى: (وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) - في الأرض - أي في هذه الدنيا، أي أنهم في الدنيا يفقدون الأولياء الذين يحبونهم ويوادونهم، إذ الولاية والمحبة توجب الثقة والمودة والإخلاص، وأخص ما يختص به المنافق أنه يفقد الإخلاص فلا يخلص لأحد، قريئا كان أو بعيدًا، وإذا فقد الإخلاص فليس ولي ولا حميم ولا نصير، أي لَا أحد يكون نصيرا لأن ذلك يكون بالثقة، ولا ثقة في منافق. اللهم اكفنا شر النفاق والمنافقين.
* * *
عهود المنافقين
قال الله تعالى:
(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
* * *(7/3381)
في الآية السابقة بين الله تعالى كذب المنافقين، واستعانتهم في تأييد كذبهم بالأيمان الكاذبة التي لَا تصدر إلا عن مهين، كما قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10).
وذكرنا الحديث الصحيح الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - " آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد خلف، وإذا اؤتمن خان " (1).
وقد كانت علامة النفاق الكذب، وقد ذكر الله تعالى الكذب، ونتيجته ويذكر الله تعالى خلاف الوعد، فيقول تعالت كلماته:
________
(1) سبق تخريجه.(7/3382)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
(وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ).
الضمير في (مِنْهُم) يعود إلى المنافقين، وما أشد إنصاف الله تعالى في أحكامنا، وإنه سبحانه يعلمنا الصدق في أحكامنا فلا نسرف في القول فنعمِّم القول، والخبر عن خاص.
والعلماء يذكرون شخصا بعينه، أو أشخاصًا معينين، ونحن نميل دائما إلى أن تكون ألفاظ القرآن على عمومها من غير تخصيص أشخاص، وهنا نقول إن من خواص النفاق إخلاف الوعد، وإن الإخلاف يقع من بعضهم، وإن كان يحتمل أن يقع من كلهم، وعهد الله تعالى الذي يعاهد عليه بعضهم يشمل ما إذا عاهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو عاهد الله مناجيا ربه، أو أقسم بالله معقدا الأيمان أو نحو ذلك فهو في كل ذلك يعاهد الله تعالى، فمن أقسم أن يصدق إذا جاءه فقد عاهد الله تعالى، ومن نذر لله نذرا إذا أعطاه الله تعالى ليصدقن، فقد عاهد الله تعالى.
وقال تعالى: (لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ) اللام هي الموطئة للقسم، وقوله تعالى:
(آتَانَا مِن فَضْلِهِ)، لم يذكر فيه نوع ما يؤتيه، أهو علم، أم مال، أم جاه. . . إلى آخره، لم يذكر ما يعطيه الله تعالى صراحة، ولكن الظاهر أنه مال، بدليل(7/3382)
لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فهي نص في المال، ولعل مثل المال غيره، فمن آتاه الله تعالى علما، فصدقته أن يجعله لله خالصا، فلا يتجر به ولا يبيع كلام الخالق بالدرهم والدينار، ولا يفتي بغير الحق ولا يحل ما حرم الله، ولا يحرم ما أحل الله تعالى.
وقوله تعالى: (لَنَصَّدَّقَنَّ) جواب القسم، وليست جواب الشرط؛ لأنه يقدم جواب القسم على جواب الشرط، والدليل على ذلك نون التوكيد الثقيلة، ووجود اللام ونون التوكيد الخفيفة في المعطوف.
ونرى كما قلنا أن النص عام لَا يخص أحدًا منهم، وإن كان في مساق بيان أحوال المنافقين.
ولكن يذكر المفسرون خبرا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الأكثرون إنه ضعيف السند في النسبة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن نذكره؛ لأنه مع ضعفه يصور طمع النفس التي لا تشبع، بل يزيده العطاء من فضل الله طمعا، ويوجد فيها شحا.
وذلك أنه مع ضعفه يصور النفس الإنسانية إذا استغنت، ونرى كيف يتحقق قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)، وهذه الرواية كما جاءت في كتب التفسير بالرواية، ونقلها الزمحشرى، ولم يضعفها، وإن كان علماء الرواية قد ضعفوها: روي أن ثعلبة بن حاطب، قال يا رسول الله: ادع الله أن يرزقني مالا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " قليل تؤدي شكره، خير من كثير لَا تطيقه "، فراجعه، وقال: " والذي بعثك بالحق لئن رزقني الله لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له، فاتخذ غنما، فنمت كما تنمى الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا، وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقيل كثر ماله حتى لَا يسعه واد، قال: " ويح ثعلبه "، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مصدَّقَيْن لأخذ الصدقات فاستقبلهما الناس بصدقاتهم ومرا على ثعلبة وسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي فيه الفرائض. فقال: ما هذه إلا أخت الجزية، وقال: ارجعا(7/3383)
حتى أرى رأيي، فلما رجعا قال لهما رسول الله قبل أن يخبراه: " يا ويح ثعلبة " مرتين. فلما نزلت آية الصدقات جاءه ثعلبة بالصدقة، فردها النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وإن هذه القصة تصور كيف يكون الإنسان، وهو في حرمانه سليم القلب، فإذا جاءه المال أطغاه وأنساه ربه ودينه. وإن إخلاف الوعد، أو العهد الذي عاهدوا الله تعالى ينشئ النفاق، وينمي النفاق، ويجعله يتكاثف ويزداد، ولقد قال تعالى مبينا خلف وعدهم:(7/3384)
فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)
(فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76)
(الفاء) لترتيب الإخلاف بالعهد، لأن الحلف لَا يزيد المنافق إلا خداعا، ولا يجعله يؤدي الحق فهو يكون على عكس ما يوجبه الإيمان إذ الإيمان يوجب الوفاء، والنفاق على عكس ذلك يوجب الإخلاف، وقد صور الله تعالى إيتاءهم وإخلافهم للعهد بقوله تعالى:
(فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ) ويبدو ذلك في الرواية التي رويت عن ثعلبة ابن حاطب، كيف بخل عن الواجبات المفروضة لَا عن الصدقات غير المفروضة، وتعلل بأن الزكاة أخت الجزية، وإنه كان عليه أن يتفضل بالخير؛ لأن الله تعالى أعطاه من فضله من حيث لَا يحتسب، وكان رزق الله تعالى فائضا.
وفى الآية الكريمة تصوير لنفس البخيل يؤتيه الله تعالى من فضله بعد أن وعد بأنه سيعطي ويتصدق، ويكون من الصالحين، ويوثق عهده بالأيمان المغلظة، ثم ينقض بعد ذلك عهده شحا بالمال، وقد زاده العطاء شحا، ويصور كذلك نفس المنافق، ولا ترتبط بعهد، ولا تصرّ على وعد، بل نفسه منفلتة دائما، وعاثرة، لا تستقر ولا يوثق لها، وإن المنافق إذا فقد الضمير والنفس اللوامة انماعت نفسه، فأصبح لَا يؤمن بشيء ولا يربط بعهد أو وعد.
وقد استنبط بعض فقهاء الزيدية من هذه الآية وجوب الوفاء بالعهد ما دام في غير معصية، والفقهاء جميعا على ذلك، ومصداقه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " من نذر أن يطيع(7/3384)
الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " (1) والعهد لله نذر، وقد قال جمهور الفقهاء إن النذر واجب الوفاء إذا كان من جنس فرض من الفروض، وإن العهد لله الذي يعاهد أولئك المنافقون عليه عهد على طاعة، وهي الصدقة في قوله عنهم: (لَنَصَّدَّقَنَّ). وقوله تعالى: (وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) فيه إيماء إلى أنهم يحسون بأنهم ليسوا صالحين، وأنهم يريدون أن يعدلوا، ليخرجوا من الحال غير الصالحة إلى حال أخرى غير حالهم، وهو حال النفاق.
وقد زادهم العطاء نفاقا؛ لأنهم لم يفوا بالعهد، وكذا ما عاهدوا الله عليه.
وصور الله تعالى نكثهم بقوله: (فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي أعرضوا عن الله تعالى بعد أن أدنوا أنفسهم منه سبحانه، وأكد
سبحانه وتعالى إعراضهم بالحال، أي أنهم انصرفوا عن الله، وصار الإعراض حالهم، التي يعيشون في دائرتها، فينتقلون في محيطها من إعراض عن الله تعالى إلى إعراض أوحل في النفاق، ولذا قال تعالى:
________
(1) رواه الترمذي: النذور والأيمان - من نذر أن يطيع الله (1526)، والنسانى: الأيمان والنذور - النذر في الطاعة (6 0 38)، وأبو داود: الأيمان والنذور - ما جاء في نذر المعصية (3289)، وابن ماجه: الكفارات - النذر في المعصية (2126)، وأحمد: باقي مسند الأنصار - حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (23555).(7/3385)
فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
(فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
فأعقبهم أي جعل الله عقب فعلهم هذا نفاقا إلى نفاقهم. أي فازدادوا نفاقا وأوغلوا عما كانوا، وقال الحسن البصري إن الضمير الفاعل يعود إلى البخل، أي أن البخل بعد العهد الذي عاهدوا الله تعالى عليه، زادهم نفاقا؛ وذلك لأن الاستمرار على المخالفة يزيد النفاق نفاقا ويتراكم بعضه على بعض حتى يتكاثف، ويمتلئ القلب نفاقا، حتى لَا مزيد عليه، وكأنما الأعمال الفاسدة هي الخبث الذي يسقى به نبات النفاق فيزيده، وينميه، حتى يستغلظ سوقه.(7/3385)
والأكثرون على أن الضمير الفاعل في قوله تعالى: (فَأعْقَبَهُمْ) يعود على الله؛ لأنه في النفس دائما، ولأنه صاحب العهد الذي عاهدوه على الوفاء به، ومعنى إعقابه سبحانه وتعالى النفاق لهم أنه سبحانه وتعالى وقد ساروا في طريق الغي والضلال أمدهم بما يزيدهم عتوا ونفاقا، وطغيانا، فامدهم في طغيانهم، وهم الذين ابتدءوه.
(إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) سبحانه وتعالى، وعندئذ يكون العذاب الذي أنكروه بعد الحساب بعد أن ترى كل نفس ما فعلت، وبعد أن يأخذوا كتابهم بشمالهم.
وقد بين سبحانه ما غذى نفاقهم، وزاده فقال تعالى: (بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهُ مَا وَعَدوهُ) أي أخلفوا الوعد الذي وعدوه لله تعالى، وجعل الإخلاف لله ابتداء لبيان جرمهم فيما فعلوا، إذ إنهم أخلفوا الله تعالى خالقهم وبارئهم ومالك أمرهم، وأى نكر أشد من ذلك، وقوله تعالى: (مَا وَعَدُوهُ) كأنه في مقام البيان لما أخلفوا به رب البرية، فأي أمر تنكره العقول أبلغ من ذلك! وأي نفاق أجرأ وأمكن من ذلك!، أي أنهم زادوا نفاقا إلى نفاقهم بسبب إخلافهم الله ما وعدوه، وبسبب كذبهم على الله سبحانه وتعالى، ولذا قال تعالى: (وَبِمَا كانوا يَكْذِبونَ).
أي وبسبب استمرارهم على الكذب، لأن (كان) تدل على الاستمرار، والتعبير بالمضارع (يَكْذِبُونَ) يدل على تجدد كذبهم آنًا بعد آنٍ، فحديثهم كذب مستمر متجدد، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى الفسوق، ولا يزال الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذابا، وإذا وصل الإنسان إلى هذا الحد صار منافقا، وإن كان منافقا ازداد نفاقا على نفاقه.
وإنهم يعاهدون ويخلفون، ويكذبون حاسبين أن الله تعالى لَا يحصى ما يفعلون، ويدبرون ويعاهدون، والله عليم بهم، ويحسبون أنهم يخدعون الله، والله خادعهم، ولذا قال تعالى:(7/3386)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
الاستفهام إنكاري بمعنى النفي مع التوبيخ، و (لَمْ) نافية، ونفي النفي إثبات، والمعنى يعلمون علما لَا مرية فيه أن الله تبارك وتعالى يعلم سرهم ونجواهم، والسر ما يكون في النفس ويجري في العقل، وتحدثهم به نفوسهم، والنجوى ما يتناجون به ويتشاورون، ولا يعلنونه جهارا بين الناس، أي أن الله يعلم ما في نفوسهم وما ينوونه، فهو عالم أنهم عند وعدهم بما وعدوه النبي - صلى الله عليه وسلم - وعاهدوه عليه، ويعلم أنهم لن يوفوه العهد؛ لأن الله تعالى يعلم ما كان وما يكون وما ينوون وما يعلنون، وهو محيط بكل شيء، وعليم بكل شيء.
وهذا النص الكريم يفيد أن الله يعلم عندما عاهدوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عهدهم (لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكونَنَّ) أنهم لن يوفوا بعهدهم الذي عاهدوه مخترين (1)، وأخلفوا مختارين، ولكن الله تعالى تركهم في غيهم يعمهون.
وأكد سبحانه بأن الله أحاط بكل شيء، بقوله تعالى: (وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّام الْغُيوبِ) عطف هذا المصدر على ألم يعلموا، أي أنهم يعلمون أن الله تعالى يعلم سرهم ونجواهم، وأن الله تعالى علام الغيوب، يعلم ما استكن في نفوسهم من إرادة النفاق والكذب، وأنهم لن يوفوا.
وعلام الغيوب صيغة تؤكد علم الله تعالى الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا في كتاب، وهو يعلم خافية الصدور ومكنون النفوس، يعلم الغيوب كلها ما مضى وما يجيء، وهو السميع العليم البصير القاهر فعال لما يريد.
وهؤلاء الذين عاهدوا، وغدروا، ولم يوفوا بما وعدوا من صدقة إن أغناهم الله من فضله - عيابون شأن كل منافق كله عيوب، ويعيب على غيره، فهم يعيبون على الذين يتطوعون بقليل من المال وقد بذلوا أقصى طاقتهم ويقول الله تعالى في بيان هذا الحال فيهم:
________
(1) من الخَتر، وهو الخيانة للعهد.(7/3387)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
(الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
(الَّذِينَ) وصف للمنافقين، (يَلْمِزُونَ) أي يعيبون وقتا بعد آخر، وتكرر غمزهم، لأنهم من (الْمُطَّوِّعِينَ) أي المتطوعين، وقلبت التاء طاء وأدغمت الطاء في الطاء، والمتطوع هو المتصدق تطوعا، وقد أدى الفريضة، وإن هذا الإدغام قوى المعنى في اللفظ، أي الذين يؤدون فيه أقصى التطوع، فذو المال يتطوع بأقصى ما يمكن من التطوع لَا يدخر، والقِلُّ من المال يتبرع بمقدار جهده وطاقته، وهم يعيبون من يتطوع بالكثير فيقولون يرائي، ومن يتطوع بالقليل مما يقدر عليه يقولون ساخرين: الله غني عنه، فهم عيابون لَا يتبرعون، ويعيبون من يتبرع، ذا مال أو لم يكن ذا مال.
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: لما نزلت آية الصدقات كنا نحامل (أي نحمل الحمل على ظهورنا بالأجرة)، فجاء رجل، فتصدق بسخاء كثير فقالوا! يرائي، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا: إن الله غني عن صدقة هذا.
وروى الإمام أحمد رضي الله عنه عن أبي السليل عن أبيه أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبقيع وهو يقول: " من يتصدق بصدقة أشهد له بها، فجاء رجل لم أر أشد سوادا ولا أصغر منه - بناقة ساقها لم أر في البقيع ناقة أحسن منها، فقال يا رسول الله: أصدقة، قال عليه الصلاة والسلام: " نعم ": قال الرجل: دونك هذه الناقة، فلمزه رجل، وقال: هذا يتصدق بهذه، فوالله لهي خير منه، فسمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " كذبت هو خير منك ومنها " ثلاث مرات، ثم قال: " ويل لأصحاب المئين من الإبل " ثلاثا، قالوا: إلا مَنْ يا رسول الله؟، قال: " إلا من قال بالمال هكذا وهكذا " وجمع بين كفيه عن يمينه، وعن شماله، قال وقد أفلح: " المزهد المجهد "، وفسرها ابن كثير المزهد في العيش المجهد في العبادة.(7/3388)
وتبرع عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أجننت أنت! قال: ليس بي جنون، هو مالي ثمانية آلاف درهم، أقرضت الله منها أربعة آلاف، وجعلت لعيالي أربعة آلاف، فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن المنافقين قالوا: ما تصدق إلا رياء.
وجاء رجل بصاعين من بر تبرع بصاع وأبقى لنفسه صاعا، فسخروا منه وقالوا: الله غني عن صدقته، وهكذا كانوا يلمزون من يتصدق بالكثير، ومن يتصدق بالقليل، وذلك شأن المنافقين دائما يصغرون عمل غيرهم قليلا أو كثيرا ولا يعملون، قبحهم الله تعالى.
وقال تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) الجهد: الطاقة أي الذين لا يجدون ما يتصدقون إلا بقدر طاقتهم المحدودة، والجهد بفتح الجيم، وضمها: الطاقة، وفيها القراءتان (1).
وظاهر القول أن (الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ) معطوفة على (الْمطَّوِّعِينَ)، ويكون المعنى أنهم يلمزون الذين ينفقون عن يسار، وهذا هو المعطوف عليه، والمعطوف بعد ذلك (الذين لَا يجدون إلا طاقتهم)، فيسخرون من الفريقين، يتهكمون على أهل اليسار برميهم أنهم يراءون، وهكذا يرمون بدائهم، فالمراءون هم المنافقون في كل الأحوال، وخطر لي أن أقول: إن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ)، فكأنهم يعيبون المتطوعين عن سعة، ويسخرون من الذين لا يجدون إلا مقدار طاقتهم وهي محدودة، و (الفاء) هنا لأن الموصول في معنى الشرط، والمعنى إن كان الذين لَا يجدون يسخرون منهم.
ويقول سبحانه وتعالى: (سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ)، أي أنهم يعاملون معاملة من يسخر منهم، أو أن ذلك دعاء عليهم بأن يكونوا موضع السخرية والاستهزاء عندما يكشف أمرهم، وتعرف حالهم.
________
(1) (جهدهم) بفتح الجيم، ليست في العشر المتواتر).(7/3389)
وإن ذلك لهم خزي في الدنيا، كالمنافق موضع سخرية حقيقية في الدنيا بتقلب قلوبهم وتناقضهم في أحوالهم دائما.
(وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، أي مؤلم أشد ما يكون الألم وحسبهم جهنم وبئس
المهاد.
* * *
لا استغفار لمنافق
قال تعالى:
(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
* * *
كان الرسول الأمين حريصا على هداية الذين بعث إليهم، وكان يرجو أن يتوبوا ويغفر لهم، فكان - صلى الله عليه وسلم - يستغفر لهم، لأن الاستجابة تقتضي التوبة، كما يقول عن كفار مكة: " اللهم اغفر لقومي فإنهم لَا يعلمون " (1)، وكان يستغفر
________
(1) سبق تخريجه.(7/3390)
كذلك للمشركين برجاء توبتهم، وأن يعيشوا في صفوف المؤمنين، ويكونوا منهم بالفعل، لَا بادعائهم، فبين الله تعالى له أنه ميئوس من إيمانهم؛ لأنهم ازدادوا كفرا وطبع على قلوبهم إذ باءت بالسوء، وكلما جاءتهم آية ازدادوا نفاقا وكفرا، ولذا قال تعالى:(7/3391)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) فالأمر في معنى بيان الياس، كما قال الله تعالى لنوح عليه السلام: (. . . لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَّا مَن قَدْ آمَنَ. . .)، ومحط الخبر في قوله: (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) وعدد السبعين يراد به الكثرة، وكان العرب يستعملونه في الكثرة التي لَا يحصيها عد.
وهذا المعنى الذي اختاره ابن كثير، فقد قال (يخبر الله تعالى نبيه) بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلا للاستغفار، وأنه لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، وقد قيل إن السبعين مرة ذكرت حسما لمادة الاستغفار لهم؛ لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها، ولا تريد التحديد بها، ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها) فهذه الآية فيها بيان أنه لَا يرجى إيمانهم، فيرجى الغفران لهم؛ لأن الله تعالى قد غضب عليهم، فقال تعالى: (اسْتغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) وعلل سبحانه وتعالى ذلك بقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ولا رجاء في أن يؤمنوا كما يدل آخر الآية.
ولقد قال بعض المفسرين إن (أو) للتخيير، وإن الأمر للإباحة، فأباح الله تعالى للنبي أن يستغفر أو لَا يستغفر، ورد ذلك المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما - وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لأزيدن على السبعين " (1) ولكن يقول القشيري: لم يثبت ما روي أنه قال لأزيدن على السبعين. وقد ذكر سبحانه وتعالى في ختام الآية الكريمة ما يدل على أنهم مردوا على النفاق، وأوغلوا في الكفر فقال تبارك وتعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
________
(1) رواه البخاري: الجنائز - ما يكره من الصلاة على المنافقين (1336) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وتفسير القرآن (0 467)، وسلم: صفات المنافقين وأحكامهم (2774) عن ابن عمر رضي الله عنه.(7/3391)
الْفَاسِقِينَ) وهذا بيان لليأس من أن يهديهم، والقوم الفاسقون هم الجماعة التي تمردت على الحق وفسقوا عن أمر ربهم، وتحالفوا على الضلال، وكلما بزغ بينهم داعي هدى أسكتوه، وكلما ظهر لهم نور الحق أطفأوه، فهم تعاونوا على الإثم والعدوان.
ولا يهديهم الله سبحانه وتعالى، لأنهم مسلوبو الإدراك، وأصبحوا سادرين في طريق الغواية، وإن أولئك المنافقين كانوا يفرون من الجهاد، ويفرحون بتخلفهم عنه، ولقد قال تعالى في ذلك:(7/3392)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
(فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
(الْمُخَلَّفُونَ) هم الذين خطفوا عن الجهاد في غزوة تبوك وكانت في أشد الحر وفي وقت جني الثمار والاستنامة إلى الراحة في ظلال الأشجار.
وهم تخلفوا مختارين، ولم يتخلفوا مجبرين، ولكن عبر عنهم باسم المفعول للإشارة إلى أن الله تعالى لم يرد انبعاثهم كما قال تعالى: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46).
ولذا قال تعالى في النظم السامي (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ)، ولم يقل سبحانه (المتخلفون).
ولكن مع أنهم ثبطهم الله فخلفوا لم يكن ذلك بإرادة النبي - صلى الله عليه وسلم - الظاهرة، بل إنه عليه السلام دعاهم كما دعا غيرهم، ولذا قال تعالى: (بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسولِ اللَّهِ) المقعد مصدر ميمي معناه القعود، أي بقعودهم مخالفين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فخلاف " مصدر بمعنى مخالفين، وقيل إن (خلاف) معناها خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمعنى على الحالين، أنهم فرحوا بقعودهم وراء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤثرين أن(7/3392)
يكونوا من النظارة الذين لَا يخوضون الحروب، وأن يكونوا كالنساء قاعدات في أخدارهن، وقال تعالى في الباعث الذي بعثهم على هذه الحال المزرية بالرجال فقال تعالت كلماته: (وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) كرهوا أن يخرجوا مجاهدين بإنفاق أموالهم؛ لأنهم بخلاء في كل ما هو خير، وكرهوا أن يجاهدوا بأنفسهم؛ لأنهم جبناء أولا، ولأنهم لَا يؤمنون بالله، ولا يجاهدون في سبيله ثانيا، وقال سبحانه: (وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا) ولم يقل كرهوا أن يخرجوا، مع أن الكراهة ابتدأت بالتثاقل في الحزوج، بل قال: (وَكرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا) للإشارة إلى سبب عدم الخروج أولا، وللإشارة إلى حال المؤمنين المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، فهو تعريض بالمؤمنين فيه مقابلة بينهم، فالمؤمنون يتحملون المشاق، والمنافقون يتخاذلون.
وقد اتخذوا لعدم خروجهم تعلة أخرى، وهي الحر الشديد (وَقَالوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ) أي قالوا فيما بينهم مجمعين على هذه التعلة، فقالوا فيما بينهم، ووصلت إلى مسامع المؤمنين ليخذلوهم، راجين أن يبثوا الفزع بينهم، ويثبطوهم عن الجهاد، وقد أمر الله تعالى نبيه أن يرد هذا القول ببيان أنهم مخيرون: جهاد في الحر، أو لقاء جهنم، ولا مناص من أحدهما، فقال عز من قائل: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا) أي أنهم إن كانوا عقلاء يدركون أن هذا الحر الشديد موقوت، ومربوط به العزة والكرامة، وإرضاء الله، وإن تركوه استقبلهم عذاب الأبد، وهو نار أشد حرارة، بل لَا يوازيها حر الدنيا، وإن الحر الموقوت بأجل الذي يترتب عليه خير عظيم، أولى بالترك والإهمال من الحر الدائم بنار جهنم، وذلك يكون لأهل الإدراك والموازنة بين تعب عاجل قليل، ونار دائمة، ولذا قال تعالى: (لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) الفقه الإدراك النافذ إلى لباب الأمور، فلو كانوا يفقهون الأمور لوازنوا بين ما يستقبلهم في تخلفهم، واتقاء حر الدنيا، وبين ما يلقونه بعد البعث، وإنه لآت لَا ريب فيه، وجواب (لو) محذوف للإشارة إلى أنهم يرون هولا عظيما.(7/3393)
إنهم يختارون المتعة العاجلة القليلة، ويختارونها ويتركون المتعة الدائمة، ويقبلون العذاب الأليم، ولذا قال تعالى:(7/3394)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
(فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
ويقول الزمخشري في قوله تعالى: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) استمهال لهم؛ لأن من تصوَّن عن مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصون في مشقة الأبد كان أجهل من كل جاهل ولبعضهم:
مسرة أحقاب تلقيت بعدها ... مساءة يوم أرْيُها شبه الصاب
فكيف بأن أتلقى مسرة ساعة ... وراء تقضيها مساءة أحقاب
والمعنى أن مسرة أحقاب يعقبها مساءة يوم يكون عسلها مرا كالصاب، وهو شجر شديد المرارة، فكيف يرضى العاقل بأن يلقى مسرة ساعة، وراءها مساءة أحقاب، أي أزمان.
وإن الآيتين متصلتان، (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا) وكنى سبحانه وتعالى بالضحك عن السرور والفرح بالقعود عن الجهاد اتقاء للحرارة، فإن الضحك يلازم السرور عادة، وهو مظهر من مظاهره، كما أن البكاء كناية عن الألم الدائم؛ لأن البكاء ظاهرة من مظاهر الألم الشديد.
والفاء في قوله تعالى: (فَلْيَضْحَكُوا. . .) للإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر؛ لأن المعنى العام، إذا كانوا قد فروا من الغزوة اتقاءً للحر في الوقت القصير، وأهملوا ما يستقبلهم من حر جهنم الأشد الذي يكون جزاء التخلف، فقد استبدلوا البكاء الطويل بضحك قليل.
والأمر للتهكم على أولئك الذين لَا يفقهون، وتهديد لهم، وجاء التهكم بصيغة الأمر لما في معنى الأمو من الحتم واللزوم، وأنه واقع لَا محالة، فهم بلا ريب سيكونون في سرور وقت قصير في الدنيا، ثم يكون من بعده ألم طويل في(7/3394)
الآخرة، وإنه يدل على أن ذلك البكاء الطويل من نار جهنم حتم لازم، وقوله تعالى: (جَزَاءً بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أن الله تعالى يجازيهم ذلك الجزاء، ونصب جزاء على أنه مفعول لأجله.
أي أن ذلك البكاء الطويل يكون جزاءً مقابلا للضحك القليل، والرضا بالعذاب الطويل في مقابل الراحة القليلة، أو اللذة العاجلة في مقابل المنفعة الدائمة الخالدة، ويستحق ذلك الجزاء، وقال تعالى: (بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بسبب وفي مقابل ما كسبوه من راحة مؤقتة، وترك للواجب، والكسب ما يصير عادة للنفس، وتستمر عليه في حياتها.
فهذا العذاب للمنافقين ليس لأجل هذا القعود فقط، وإن كان إثما كبيرا فهو عقاب على ما كسبوه في أنفسهم، وصار حالا مستمرة لهم كانوا يفعلون بموجبه دائما مع المؤمنين.
والتعبير بـ (كان) مع الفعل المضارع في قوله تعالى: (بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ) يدل على استمرار هذا الذي كانوا يكسبونه، وتجدده آنًا بعد آنٍٍ كلما كان أمر جامع، وكلما بدا نفاقهم المستمر.
كانت تبوك غزوة اختبر الله بها المؤمنين فبانَ من استخذى وندم، ومن نافق وأصر، وما كان استئذان المنافقين لسبب يوجب قعودهم، بل كان خدعا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، فلكي يعرفوا أن أمرهم صار مكشوفا، ولكيلا يحاولوا خدعه - صلى الله عليه وسلم - نهى الله تعالى نبيه عن أن يأذن لهم، فقال تعالى:(7/3395)