سطوته لَا يصل إلى إضعاف قلب المؤمن، ولأن اتخاذ غير الله تعالى وليا ينافي تقوى الله، واستشعار عظمته وجبروته سبحانه.
وقد بين سبحانه أن ذلك وصف أهل الإيمان، ولذلك قال سبحانه: (إِن كُنتُم مؤْمِنِينَ). وقد أخذ سبحانه يبين بعض أوقات استهزائهم، قال سبحانه:
* * *(5/2261)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
(وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ... (58)
* * *
هذا تصوير لبعض مواضع استهزائهم، ولعبهم بالدين، وقد صور الله حالهم في أمر واقع، وهو عند النداء للصلاة، أي نداء المسلمين بالصلاة، وهو الأذان، وليس مجرد النداء، وكان موضع استهزائهم الصلاة، والدعوة إليها بالأذان، فالضمير في قوله تعالى: (اتَّخَذُوهَا هُزُوًا) يعود إلى الصلاة ومقدمة الصلاة وهو الدعوة إليها، وقد روي أنهم اتخذوها هزوا ولعبا، فمنهم من كان يتخذ النداء أداة استخفاف بمحاكاة صوت المؤذن، واللعب بتقليده تهكما وتعابثا، ومنهم من اتخذ شكل الصلاة الإسلامية موضع تعابث وسخرية واستهزاء.
فقد روى الإمام أحمد - رضي الله تعالى عنه - في مسنده أن عبد الله بن محيريز وكان يتيما في حجر أبي محذورة، وقد كان أبو محذورة من مؤذني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد سأله ابن محيريز عن تأذينه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: سمعنا صوت المؤذن، ونحن متنكبون، فصرخنا نحكيه، ونستهزئ به فسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع، فأشار القوم كلهم إليَّ، وصدقوا، فأرسلهم، وحبسني إليه، وقال: " قم فأذِّن " ثم علَّمه الرسول عليه السلام الأذان وقال له: " بارك الله فيك، وبارك عليه " فهداه الله تعالى، وصار مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بمكة، وهكذا ابتدأ كافرا مستهزئا بالأذان ساخرا منه، وانتهى مؤمنا صادقا مؤذنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
________
(1) رواه النسائي: الأذان - كيف الأذان (632)، وابن ماجه: الأذان والسنة فيه - الترجيع في الأذان (708)، وأحمد: مسند المكيين - أحاديث أبي محذورة المؤذن رضي الله عنه (14955).(5/2261)
وروي أن اليهود كانوا إذا قامت الصلاة صلوا مع المسلمين استهزاء ونفاقا، ومنهم من كان يقول للرسول عندما يرى الركوع والسجود: يا محمد لقد ابتدعت شيئا لم يسمع فيما مضى، فإن كنت نبيا فلم خالفت فيما أحدثت جميع الأنبياء، وكانوا مع ذلك يتضاحكون ويتخذون من شكل الصلاة الإسلامية موضوعا لسخرياتهم وعبثهم، ولقد علل الله تعالى ذلك بقوله سبحانه:
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) الإشارة هنا إلى ما كان منهم من استهزاء وسخرية واتخاذ الأعمال الإسلامية لعبة يتلاعبون بها، والمعنى: أن هذا الذي كان منهم سببه أن أحلامهم قد سفهت، وصاروا لَا يدركون الأمور على وجهها فلا يفكرون في الأمور تفكير العقلاء الذين يتدبرون بعقولهم، وقد قام لديهم البرهان العقلي القاطع، والدليل الساطع على أن ما جاء به محمد لَا يقبل الإنكار لمن يفكر بعقله، ويتدبر في مبادئ الأمور وعواقبها.
ولماذا كان اليهود وبعض النصارى على هذه الشاكلة يتصرفون تصرف من لا عقل عنده، إذ يطمسون الحقائق، ويسخرون مما لَا سخرية فيه؟ الجواب عن ذلك أنه قد طمس على قلوبهم، والحقد قد ران على مداركهم، فأصبحوا لَا يدركون ما يوجبه العقل السليم، والفكر المستقيم، ولا شيء يذهب بلب اللبيب وإدراك العقل السليم أكثر من الحقد، ذلك بأن تمني الشر، وحسد غيره على ما في يده من نعمة، وما آتاه الله تعالى من خير يلقي حجابا على عقله فلا يدرك، وعلى قلبه فلا يؤمن ولذا قال سبحانه من بعده:
* * *(5/2262)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ ... (59)
* * *
نقم منه معناه عاب عليه أمرا، وأنكره، ومنه الانتقام بمعنى العقاب، وذلك لأن العقاب لَا يقع إلا من أمر ينكره المعاقب ويعيبه، فيتبعه العقاب، فهو نتيجة الاستنكار لمن يقدر على العقاب، ويرى فيه حكمة توجبه.
والاستفهام هنا استفهام إنكاري لنفي الواقع، فهو توبيخ مؤكد بالاستفهام، والمعنى أن الله تعالى يأمر نبيه الأمين أن يسألهم موبخا منكرا عليهم أنهم لا(5/2262)
يعيبون عليه إلا أنه والمؤمنين معه آمنوا بالله ورسوله حق الإيمان، وأن أكثرهم فاسقون، وهنا بعض مباحث لفظية نذكرها لتقريب معنى النص السامي الكريم.
المبحث الأول - كيف يعيبون الإيمان مع أنهم كافرون، وإنما يحسد على الإيمان من يدركه، ويعرف مزاياه ويحقد على المؤمن؛ لأنه حرم منه، والجواب عن ذلك أن أهل الكتاب يعرفون الرسالة والرسل، ومنهم موحدون يدركون معاني التوحيد، وهم يحسدون المؤمنين على ذلك، وخصوصا اليهود والمنافقين، وقد قال تعالى فيهم: (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذوا منْهُمْ أَوْليَاءَ. . .). وقال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109).
فهؤلاء الكافرون من أهل الكتاب يستنكرون على المؤمنين إيمانهم، والباعث على ذلك أمران: أحدهما - حسد مستكن في قلوبهم، وهم يرون أن النبوة نعمة كانوا يرجونها فيهم، فكانت في غيرهم، وأن الإيمان نعمة وخير، وهم يحسدون الناس دائما على ما آتاهم من فضله، وقد قتلهم الحسد، وأفسد مداركهم.
الأمر الثاني الذي بعثهم على النقمة على أهل الإيمان أنهم يرونهم في قوة نامية، وهم في خسة هاوية، وهم كفار منزعجون، وأولئك مؤمنون مطمئنون.
المبحث الثاني - إن في النص الكريم حصرا لسبب النقمة على المسلمين، ولذلك كان الاستنثاء في قوله تعالت كلماته: (هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ).
المبحث الثالث - أن إيمان المؤمنين شامل للرسالات الإلهية كلها، فهم يؤمنون بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل من قبله، واليهود كانوا يأخذون على المؤمنين أنهم يؤمنون بكل الأنبياء، ومنهم من قتلوهم، ومنهم من حاولوا قتله، ولم يستطيعوا أن ينالوا منه، وقد روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن(5/2263)
بعض زعماء اليهود ذهبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألونه عما يؤمن به فقال - عليه الصلاة والسلام - أومن بالله وما أنزل إلينا، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم لَا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " فلما ذكر عيسى - عليه السلام - جحدوا نبوته، وقالوا: لَا نؤمن بمن آمن به ".
المبحث الرابع - أن الله تعالى قال: (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ). ولم يقل سبحانه وأنتم فاسقون، إنصافا للذين يقتصدون منهم، وقد قال تعالى:
(. . . مّنْهُمْ أُمَّةٌ مقْتَصدَةٌ وَكَثِيرٌ منْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ). وقال تعالى:
(لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115).
وإن الأكثرين منهم فاسقون، بل إنه يكون منهم ما هو شر من الفسق في ذاته، فيقعون مع الفسق في أشد مظاهر الخسة، ولذا قال سبحانه فيهم:
* * *(5/2264)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ... (60)
* * *
أمر الله تعالى نبيه أن ينبههم إلى عظيم شرهم، والاستفهام هنا للتنبيه، الخطير في ذاته، والتنبيء به ذكره مؤكدا.
والإشارة عند الأكثرين إلى ما نقمه اليهود على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه من أنهم يؤمنون بالرسالات الإلهية كلها لَا فرق بين رسول ورسول، ولو كانوا هم قد قتلوه أو حاولوا قتله، والمثوبة في أصل معناها الجزاء الثابت على العمل، سواء أكان شرا أم كان خيرا، ولكن شاع استعمالها في الخير، وهي في لغة القرآن لا تكون إلا في الخير كالثواب فإنه مقابل العقاب.
وهنا يرد سؤالان: أولهما - كيف يكون الإيمان شرا، ويوجد ما هو أعظم شرا منه؟. وكيف يعبر عن جزاء الشر بالثوبة؟. والجواب عن السؤالين: إن في التعبير عن ثمرات شرهم بالمثوبة من التهكم بهم، والازدراء بتفكيرهم، وإن التعبير(5/2264)
عن الإيمان، وهو خير، بالشر من قبيل المشاكلة لتفكيرهم، كأنه قيل إذا كنتم تنقمون على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيمانه وتحسبونه شرا لَا خير فيه فشر منه عاقبة ومآلا ما أنتم عليه من لعن وطرد من رحمة الله، ومن وقوع في غضبه ومن مسخكم قردة وخنازير.
وقيل: إن الإشارة إلى فسقهم، ومؤدى الكلام على هذا أن هناك ما هو شر من فسقهم وجحودهم، وهو ثمرة فعلهم، وتلك الثمرة هي اللعن والطرد من رحمته، ومسخهم قردة وخنازير، وكأن قوله: (أَكْثَرَكمْ فَاسِقُونَ) فيها حكم بالفسق الدائم المستمر في اليهود الذي يتوارثونه جيلا بعد جيل، حتى صار ذلك كالجبلة فيهم والغرائز الموروثة، وقوله تعالى:
(أُوْلَئِكَ شَر مَّكَانًا) بيان لثمرة فسقهم. ولكن الظاهر هو الأول؛ لأن المقابلة واضحة في هذا النص الأخير، إذ فيه مقابلة ما عليه أهل الإيمان بما آل إليه أمرهم.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى حالهم في الدنيا والآخرة، فقال تعالت كلماته:
(مَن لَّعَنَه اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْه وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغوتَ) المقابلة هنا بين من آمنوا بالله ورسَله، وبين من أنزل بهم سبحانه ما أنزل، وقد ذكرهم مقرونين بما أنزله سبحانه، ومعنى من لعنه الله، أنه طردهم من رحمته، رحمة الإيمان وإدراك الحق والقرار والاطمئنان في الدنيا، وضرب الذلة عليهم إلا بحبل من الناس، وإن استقروا زمانا فإلى طرد مستمر، هكذا كان ماضيهم، وهكذا يكون حاضرهم إن شاء الله تعالى، وإنهم في الآخرة في السعير يدوم عليهم عذابها.
والأمر الثاني - الذي ينزله تعالى بهم هو غضبه عليهم، وسيعاملون في الدنيا والآخرة على مقتضى حكمته في غضبه وعدم رضاه.
والأمر الثالث - أن الله سبحانه وتعالى جعل منهم القردة والخنازير، وقد سار الفسرون على الأخذ بظاهر اللفظ، وقالوا: إن الله تعالى مسخهم قردة(5/2265)
وخنازير حقيقة، بل أفرط بعضهم فزعم أن القردة والخنازير خلفوا نسلا لهم، ولكن الحقيقة أن القردة والخنازير كانت قبلهم، وقوله تعالى: (وَجَعَلَ مِنْهمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ) مبالغة في المشابهة بينهم، حتى كأنهم الأصل في هذين النوعين من الأحياء.
ومع أن المفسرين قد أخذوا بظاهر الألفاظ من غير تأويل، قد روي عن مجاهد الذي تلقَّى التفسير عن ترجمان القرآن ابن عباس أن المراد بمسخهم قردة وخنازير مسخ قلوبهم، فصاروا في نزواتهم، واستيلاء الشهوات على نفوسهم وعبثهم بكل مقدرات القيم الخلقية كالقردة، كما صاروا في قذارات نفوسهم، وتطلبهم للقذر من المكاسب كالخنازير إذا يطلبون القذارات يأكلونها، وتنمو أجسامهم عليها.
وقد قال ابن كثير في تفسيره ما نصه عن مجاهد: " فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين، فقال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هم مثل ضربه الله تعالى: (. . . كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا. . .). وهذا سند جيد عن مجاهد وهو قول غريب (الجزء الأول من تفسير ابن كثير ص 105 طبع التجارية).
وعندي أنه لَا غرابة، وإن كان الأكثرون يستغربونه، وإنه قد وردت أحاديث قد تفيد هذا، فقد روي عن ابن مسعود أنه قال: " سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن القردة والخنازير أهي من نسل اليهود؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله لم يلعن قوما قط فمسخهم فكان لهم نسل، ولكن هذا خلق كان فلما غضب الله تعالى على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم " (1).
________
(1) رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن مسعود (3739).(5/2266)
وإنه قد يستفاد من الحديث أن المثلية في النفوس لَا في الأجساد، وهذا هو الذي نميل إليه، واللفظ يحتمله ولذا نختاره.
والأمر الثالث الذي منى الله تعالى به اليهود أنهم عبدوا الطاغوت، والطاغوت فعلوت من الطغيان وهم يعبدون الطغيان دائما، فهم يعبدون الحاكم الطاغي، ويكونون أدواته، وهم يعبدون المال الطاغي المأخوذ من غير حله، وهم يعبدون الهوى ويتخذون هواهم إلها يعبدونه.
وقد سجل الله سبحانه وتعالى الحكم مؤكدا فقال سبحانه:
(أُوْلئِكَ شَرٌّ مكَانًا وأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) أي أولئك المتصفون بالفسق الذي أنزل الله تعالى عليهم سخطه، وقرر طردهم من رحمته، ومسخ قلوبهم حتى صارت قلوبهم كقلوب القردة والخنازير، وعبدوا الطغيان، ولم يؤمنوا بالحق، هؤلاء شر مكانا، أي مكانهم في الدنيا شر مكان إذ يأكلون من المحرمات، كما تأكل الخنازير من القاذورات، وهم في ذلة، ولو أوتوا قوة وسلطانا بسبب اتصالهم بأشرار الأرض، فهم في ذلك بالتبعية، وهم أبعد عن الطريق السوي المستقيم، فهم في ضلال مستمر، وإن سكنوا واطمأنوا أياما فسيذيقهم الله تعالى وبال أمرهم، ويحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
* * *
(وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
* * *(5/2267)
ذكر سبحانه وتعالى في الآية السابقة بعض صفات اليهود، وضعف من يواليهم، ويركن إليهم، إذ يركن إلى الذين ظلموا فتمسهم النار، وذكر طبائعهم الحيوانية التي تشبه الخنازير في شراهتها، والقرود في نزواتها، بين بعض ما يترتب على هذه الدخيلة من مظاهر في أعمالهم، وأولها النفاق في أقوالهم، وأكلهم سحت المال في معاملاتهم، ومسارعتهم إلى كل معصية وعدوان، ولذا قال سبحانه:(5/2268)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
(وَإذَا جَاءُوكمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ) الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، وقد كان ذلك يتكرر منهم استهزاء وسخرية أو نفاقا، ومخادعة أو الأمران معا، كان ذلك يتكرر منهم، ولم يكن مرة أو اثنتين، بل كان يتكرر من غير عدد، ولذلك قال سبحانه في أحوالهم: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77).
وقال سبحانه وتعالى فيهم: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15).
وكان الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ليذكرهم بصفات المنافقين واليهود، وليؤكد لهم أنهم لَا يصلحون أن يكونوا أولياء لكم؛ لأن الولي النصير أو المحب يجب أن يفتح قلبه لك، ويخلص لك الود، ويمحض لك المحبة، واليهودي ومحبته للناس نقيضان لَا يجتمعان، فلا تتخذوا منهم معشر المؤمنين أولياء، لأنه لَا ولاء لمنافق، ولا محبة من حقود حاسد، وقد كان ذلك تصويرا لحالهم، في نفاقهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، وقد صور ذلك سبحانه بقوله تعالت كلماته: (وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ). أي أنهم كانوا على ما هم عليه عندما دخلوا وعندما خرجوا دخلوا كافرين، وقد قال النحويون: تكون للتكثير أو للتقليل عندما تدخل على المضارع، وتكون للتقريب أو التحقيق عندما تدخل على الماضي،(5/2268)
ورأى أن أكثر استعمال القرآن الكريم لها للتحقيق، لَا للتقليل ولا للتكثيرِ، ولذلك يقول سبحانه: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ولا يَأتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا). ويقول تعالت كلماته: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّه لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. . .). وواضح أن (قَدْ) في الماضي للتحقيق في قوله تعالى حكاية عن قول سيدنا المسيح يوم القيامة: (. . . قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ. . .). ألا ترى أن قد دخلت على علم الله تعالى وهو مؤكدا إذا حصل موضوعه.
و (قَدْ) هنا قال المفسرون للتقريب، أي أنها قربت الماضي من الحال القائمة، والجملة الماضوية لَا تكون حالا إلا إذا جاء معها قد، ليكون معنى التقريب قائما، وهو تقريب الحال القائمة من الماضي المستقر، والمعنى أنهم دخلوا كافرين، وخرجوا كافرين.
وأرى أن (قَدْ) هنا للتحقيق، وتأكيد المعنى، والباء للمصاحبة، والمعنى دخلوا مصاحبين لكفرهم المؤكد وخرجوا مصاحبين للكفر المؤكد، وقد تأكدت حالهم الأولى بالتعبير بقد، وتأكدت حالهم وهي الخروج بالكفر بقد وبهم، فكان تأكيد مصاحبتهم للكفر وهم خارجون أقوى من تأكيدها وهم داخلون، وهذا للإشارة إلى أنهم ما دخلوا بقلب سليم، بل دخلوا مخادعين منافقين، ودخولهم على هذه النية المحتسبة عليهم تزيدهم كفرا ونفاقا، لأنهم كلما لاح دليل زادهم عنتا، وزادهم كفرا على كفرهم، والتعبير بـ (هم) الدالة على القصر فيه إشارة إلى أنهم مقصورون في خروجهم على الكفر ليس لهم حال سواه، وذلك فضل تأكيد.
(وَاللَّه أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ) صدر الله سبحانه وتعالى النص الكريم بلفظ الجلالة لتربية المهابة، ولبيان أنه الناصر والولي الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء، وأن تدبيره فوق كل تدبير، وعلمه فوق كل علم،(5/2269)
وأفعل التفضيل ليس على بابه، لأنه لَا يوجد من يكون علمه من جنس علمه، حتى يكون علم أكبر وأعظم، بل المراد - والله سبحانه وتعالى العليم - أن الله تعالى يعلم ما يخفون علما لَا يدانيه علم، وليس فوقه علم، وهو أعلى ما يتصور من علم، فعبر بافعل التفضيل تقربيا لَا تحقيقا.
والتعبير بقوله تعالت كلماته: (بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ). بالجمع بين الماضي والمستقبل يفيد أنه يعلم بما كتموه في الماضي، وما يكتمونه في الحاضر والقابل، فهو سبحانه يعلم ماضي أمرهم، وحاضره، ومغيبه، ولفظة كانوا على هذا المعنى تفيد العلم المستمر.
بعد ذلك بين الله سبحانه أخلاقهم بعد أن بين معاملتهم لأهل الإيمان فقال تعالت كلماته:
* * *(5/2270)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62)
(وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ... (62)
* * *
في هذا النص توجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ما عليه كثير من اليهود من مفاسق ومفاجر وعدوان، وقد كانت عبارات التنبيه موجهة واضحة وموضوعها بيِّن يُرى بالعين أو بما يشبه العين لوضوحه، فأنت ترى الكثرِين منهم يخوضون في الشر خوضا، لَا يرعوون، ولا يجتنبون سوءا بل يقدمون على كل حرب وشر.
وحكم الله تعالى عدل دائم، وينبه سبحانه إلى العدل في الأحكام، فهو سبحانه لم ينبه النبي - عليه السلام - إلى أنهم جميعا فيهم الشر مستحكم، بل في الكثير، لَا في الكل ولا في القليل، ومعنى المسارعة في الإثم والعدوان المعاجلة وعدم التردد، فهم لَا يترددون في ارتكاب الإثم والعدوان، وربما يترددون كل التردد في الخير ونفع الناس لذات النفع، والتعدية بـ في تشير إلى أنهم مغمورون في الآثام ينتقلون فيها مسارعين من حال إلى شر منه، فهم يرتعون فيها دائما.
وقد تكلم العلماء في معنى الإثم والعدوان، فقال بعضهم: الإثم هو الكذب، والعدوان هو تعدي حدود الله تعالى، والاعتداء على محارمه.(5/2270)
ولكن ابن جرير الطبري فسر الإثم بالمعاصي، والعدوان بالتعدي، أو ما يتجه نحو ذلك.
والذي نراه أن الإثم كما هو الأصل اللغوي له في الجملة هو ما يبطئ عن الخير، والكذب إثم لأنه يبطئ عن فعل الخير، فالإثم هو ما عند اليهود من تباطؤ عن الخير، وعصيان للأوامر التي يكون في أدائها نفع الناس، والنص يبين أن هؤلاء يعملون أعمالا من شأنها أن تبطئ عن فعل الخير، ويعوقونه، وهم مع ذلك يعتدون على غيرهم، فهم محرومون من الخير سلبا وإيجابا لَا يفعلونه ويفعلون نقيضه، والله تعالى من ورائهم محيط.
وإنهم لفساد نفوسهم، واستيلاء الشر على قلوبهم فسدت مداركهم، حتى أنهم يحسبون أن ما يفعلونه من آثام وعدوان هو خيرا، وهو فساد في الأرض عظيم، ولذلك عبر سبحانه عن عملهم السوء في عجلة وتسرع من غير مواناة بالمسارعة مع أن أكثر استعمال المسارعة في الخير، كما قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفرَةٍ مِّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةِ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ للْمُتَّقينَ).
وكما قال تعالى: (. . . وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ. . .).
وقوله: (نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ. . .). وذلك لأنهم يحسبونه خيرا فعبر عنه باللفظ الذي يدل على الخير، إذ إنهم لفساد قلوبهم يأثمون ويؤذون ويحسبون أنهم يحسنون صنعا، وأوضح اعتداءاتهم على الناس أكلهم أموالهم بالباطل، ولذلك قال سبحانه عاطفا على سوء عملهم: (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ).
السحت: ما يستأصل من قشور الأشياء، وسحته معناه استأصله، والسحت والإسحات الاستئصال، كما قال تعالى: (. . . فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ. . .).
وقد أطلق السحت على كل محظور؛ لأنه يستأصل أخذه كل علاقة اجتماعية تربط الناس بعضهم ببعض وتفسد أمورهم، كالربا، والرشوة، وأخذ الأموال بالغش والتزوير والنصب، والاحتكار الآثم الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -: " المحتكر خاطئ " أي آثم.(5/2271)
وإن اليهود لانقطاعهم عن الاتصال الأدبي بالناس، والتألم لآلامهم، كانوا يعتبرون الناس وأموالهم نهبا مقسوما لهم دون غيرهم، فكانوا يأكلون أموال الناس؛ لأن من عداهم أميون، وهم المختارون، فكانوا يقولون: ما علينا في الأميين.
وإن اليهود بسبب بغضهم الشديد الذي توارثوه جيلا بعد جيل، قد انفصلوا عن الناس بقلوبهم، وقد عاشوا مضطهدين في وسط النصارى أذاقوهم الويل والذل أكؤسا، فكوَّنوا الجماعات السرية ليفتكوا بالوحدات الاجتماعية، وليفسدوا العلائق بينها، وما من دعوة مخربة إلا كان اليهود دعامتها، وأخذوا يكتنزون الأموال بالطرق المحرمة، فهم الذين نشروا الربا في الأرض، وهو من أخبث أنواع السحت واتخذوا الرشوة سبيلا لبسط سلطانهم في الأرض، واتخذوا الاحتكار ذريعة لتجويع الناس، والناس جميعا في نظرهم أعداؤهم، واتخذوا النصب والاحتيال والغش والخديعة ذريعة لأكل أموال الناس بالباطل، وإن تظاهروا بفضيلة مالية، لكي يكتسبوا من هذا المظهر، وبذلك أفسدوا الضمائر وهتكوا حمى الفضائل، وأزالوا أو حاولوا أن يزيلوا كل المقومات الخلقية، ليفسدوا المجتمعات، ويزيلوا كل القيم، وإن الذلة تلاحقهم إن شاء الله تعالى، وقد حكم سبحانه على أعمالهم بقوله تعالت كلماته: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
ذلك حكم صارم قاطع يذم أعمالهم، والله سبحانه وتعالى حكم ذلك الحكم القاطع على أعمالهم باستحقاقها للمذمة؛ لأنها مخالفة لأوامر الله تعالى ونواهيه، وهي شر في ذاتها، وهي مقوضة لكل مقوم للأخلاق والفضائل والعلاقات الإنسانية.
والحكم على ما كان منهم وما هم مستمرون فيه من عمل، ولذلك عبر بالماضي والحاضر، فذكر كان بلفظ الماضي، و (يعملون) بلفظ المضارع الدال على الحال والمستقبل، ومؤدى ذلك الجمع، أي أن ذلك كان منهم في الماضي وهو مذموم، واستمروا عليه في الحاضر والمستقبل، وذلك أشد شرا، وأوغل فسادا.(5/2272)
وقد أكد سبحانه ذلك الحكم بالقسم، وباللام الموطئة للقسم، وبكلمة بئس الدالة على شدة الذم.
والله سبحانه وتعالى يتولى الناس، ويدفع عنهم شرهم، ويرد عنهم كيدهم، وإنهم منذ أخرجوا من مصر مستنقذين على يد كليم الله تعالى موسى - عليه السلام - ونفوسهم في الشر، يبدو منهم وتتوالى مقاومة الناس لهم، ولذلك قد تولد معه إحساس بالكمال دون الناس، حتى توهموا أنهم الشعب المختار في هذه الأرض، ولكي يفرضوا سلطانهم لم يجدوا سبيلا إلا المال، فأكلوه سحتا، وأنفقوه سحتا وتوارثوا ذلك خلفا عن سلف، حتى إن المستقرئ لتاريخ الأمم لا يجد جماعة من الناس تشابه حاضرها بماضيها، تشابه حاضر اليهود بماضيهم، حتى إن القرآن الكريم كان يخاطب الحاضرين منهم بأعمال الماضين؛ لأنهم مثلهم تماما وعلى شاكلتهم، وهم غير قابلين للتغير.
وما عندهم من بقية من التوراة كتابهم، لَا يغير طباعهم، فلا يتكون عندهم رأى عام إلا من تعاليم السابقين، وعلماؤهم يجارونهم، ولا يبينون لهم، فكان رأيهم العام فاسدا لشيوع الفساد فيه، وعدم وجود من يرشدهم إلى الصواب، ولذا قال تعالى:
* * *(5/2273)
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
(لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ... (63)
* * *
الربانيون هنا هم العلماء الذين يحاولون أن يكون علمهم لله، ويتصلون بربهم حتى ينسبوا إليه ولا يكون لهم وصف إلا نسبتهم إليه سبحانه، يزعمون ذلك في أقوالهم ويظهرونه في أْعمالهم، والأحبار هم الفقهاء أو العلماء الذين يفسرون أحكام الكتاب، ويعرفون الناس بشئون دينهم، وقد يكون من يجمع بين الوصفين، ولكن لكل وصف جانب من العمل.
و (لَوْلا) هنا للحض على الفعل في المستقبل، والتوبيخ في الماضي على عدم فعله، وهو هنا للتوبيخ على تقصيرهم في الماضي وتخاذلهم عن أدائه، وإلا ما كان ذم حالهم، واستنكار أمرهم، والمعنى: هلا كان من هؤلاء الذين كان(5/2273)
يتبعهم اليهود ويستمعون إليهم، ويستجيبون لهم من يرشدهم إلى الحق ليتبعوه وينهاهم عن الظلم ليجتنبوه، وقد اتخذوا أولئك الأحبار والربانيين وسطاء بينهم وبين الله ليتعرفوا حكمه عن طريقهم، ولكنهم لم يفعلوا.
ولقد كان الموضع الذي كان ينبغي أن ينهوا عنه هو قولهم الإثم وأكلهم السحت، فالنهي الواجب منصب على أمرين: أحدهما - قول الإثم، أي القول المبطئ المانع من الخير، والثاني - أكل السحت، والأمران جماع الرذائل - فإن الذي يدفع إلى الشر قول ذميم يحرض على الفساد ويدفع إليه، ويجري الناس عليه، ويتضمن ذلك ارتكاب الشهوات، بكل أجزائها، لأن أول الشر استحسانه، واستحسانه يكون غالبا بالقول المشجع عليه والدافع له، ثم استمرءوا من بعد ذلك بقوله يزينه ويزكيه، ويكون من بعد ذلك ممن زين له سوء عمله فرآه حسنا.
والأمر الثاني - طمع لما في أيدي الناس وحسد على ما آتاهم الله من فضله، ووراء ذلك أكل لمال الناس بالباطل، وشره لما في أيديهم، واتخاذ المال ذريعة لإفساد ذات البين بينهم، والتحريض على الشر، والتحكم المرذول.
ولعل ذكر نهي الأحبار للعامة عن السحت تعريض بهم، لأنهم كانوا لا يتعففون عن الرشا بكل أنواعها، كما أن ذكر النهي عن قول الإثم تعريض آخر بأحوالهم، فإن من قول الزور تحريف الكلم عن مواضعه، والنطق بالزور في الشرع، وكان يقع منهم، ولذلك ذم سبحانه صنيعهم، وهو لَا يخلو من فساد حكمهم وتغيير حكم الشرع لهوى الأقوياء منهم، فقال تعالت كلماته: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). ذم الله تعالى صنيعهم، وهو عملهم الشر بدقة وإحكام، لا بمقتضى الغرائز الحيوانية من غير تفكير، وفي الماضي، وما هم عليه في الحاضر، وما يكون منهم في المستقبل.
وهنا يتكلم المفسرون في التفرقة بين ذم أْعمال اليهود عامة من دهماء وغيرهم بقوله تعالى: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). وذم أعمال الربانيين والأحبار بقوله تعالى: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).(5/2274)
وخلاصة هذه التفرقة: أن العمل يكون عادة بانبعاث شهوة من طمع في مال، أو لذة جسد، أما الصنيع، فإنه يكون بمهارة وتدبير وتعرف للغايات والنتائج ولو كانت آثمة، وأن الصنيع يكون بالعمل وغيره، ومن أحسن من قال في التفرقة فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير، فقد قال موضحا ما ذكره الزمخشري وغيره، والمعنى أن الله تعالى استبعد من علماء أهل الكتاب أنهم ما نهوا سفلتهم وعامتهم عن المعاصي، وذلك يدل أن تارك النهي عن المنكر بمنزلة مرتكبه؛ لأنه تعالى ذم الفريقين في هذه الآية على لفظ واحد، بل نقول: إن ذم تارك النهي عن المنكر أقوى؛ لأنه تعالى قال في المقدمين على الإثم والعدوان وأكل السحت: لبئس ما كانوا يعملون، وقال في العلماء التاركين للنهي عن المنكر: لبئس ما كانوا يصنعون، والصنع أقوى من العمل؛ لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار مستقرا راسخا متمكنا فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ، وذنب التاركين للنهي ذنبا راسخا، والأمر في الحقيقة كذلك، لأن العصية مرض الروح، وعلاجه العلم بالله وبصفاته، وبأحكامه، فإذا حصل هذا العلم وما زالت المعصية كان مثل المرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال ".
وإن هؤلاء الربانيين والأحبار لم يكن ما أخذ عليهم هو السكوت عن النهي فقط، بل إنهم رتعوا فيما رتع فيه غيرهم، وبذلك ضلوا، وكانوا سببا في فساد الجمع كله، ولعنهم وطردهم كما قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79).
ولقد قال ابن عباس في هذه الآية: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ) إنها أصعب آية في كتاب؛ لأنها تبين إثم الذين يقصرون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما عصام الأمر، ومانعا الإثم، وبهما صلاح الجماعة الإنسانية، روى الإمام أحمد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي وهم أعز منه وأمنع، ولم يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من عنده ".(5/2275)
وروى يحيى بن معمر أن الإمام علي بن أبي طالب خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات، فأمروا بالمعروف انهوا عن المنكر قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لَا يقطع رزقا ولا يقرب أجلا ".
وإن ما توقعه إمام الهدى على - كرم الله وجهه - قد وقع، فإن الذين يتخذون من المؤمنين مكان الأحبار باسم الإسلام، قد سكتوا عن النهي عن قول الإثم، بل منهم من أيد المنكر، بعد أن ارتضاه ومنهم من مالأ فى دينه، يحسب أن قول الحق قد يقطع رزقا، أو يضيع أملا، وبذلك وقعت معاص من غير استنكار، وترك الواجب في استهتار، ولا منادى بالحق، اللهم وفقنا لقول الحق واعف عنا واغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الراحمين.
* * *
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
* * *(5/2276)
بين الله سبحانه وتعالى أحوال اليهود ومعاملتهم للمؤمنين، وهي تدل على مقدار حقدهم على أهل الإيمان وتعصبهم ضدهم، ونفاقهم في ذات أنفسهم ومعاملتهم للمؤمنين بالخداع، واستهزائهم بالحقائق الإسلامية، واتخاذهم الدين هزوا ولعبا.
وفى هذه الآية يبين سبحانه حالهم في جنب الله تعالى، وأنهم إن أعطوا أشروا وبطروا النعمة، وإن منعوا كفروا، وقالوا قالة لَا تليق بذات الله تعالى، وإن هذا ليس هو الطريق الأمثل لمن أوتوا الكتاب وبلغوا رسالات النبيين، ولذا قال سبحانه:(5/2277)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) أصل الغل: توسط الشيء وتدرعه، والغل ما يفيد به الشخص ويجعل الأطراف وسطه، وقيل للبخيل هو مغلول اليدين، ومن ذلك ما حكاه الله سبحانه وتعالى عن اليهود أنهم قالوا يد الله مغلولة، وهي تحتمل عدة معان متلاقية في مؤادها، وإن اختلفت فيما يقرر سبب قولهم لعنهم الله، فقد قيل: إنهم لما علموا أن كل شيء مفدر بقدر، وأنه سبحانه وتعالى قضى كل شيء فقدره تقديرا تهجموا بهذا القول غير الكريم، فقالوا: إن يد الله مغلولة، أي في حكم المقيدة، وقيل: إنهم كانوا يرون المؤمنين الصادق إيمانهم في غير ثروة، وهم يعتمدون على الله، فقالوا مقالتهم، وقيل: إنهم بسبب كفرهم وإيذائهم للمؤمنين وتغير الأحوال قتر عليهم في الرزق، فلم ينسبوا ذلك إلى أسباب واقعة، بل قالوا مقالتهم في شأن ربهم.
والذي نراه أن اليهود في هلع دائم وطمع، وحسبوا أن الفقر لَا ينالهم أبدا، فإن أعطوا خيرا نسبوه لأنفسهم وحيلتهم وعلمهم، وإن لم يعطوا اتهموا ربهم، وذلك غير شأن المذعنين لله المؤمنين به الذين يعلمون أنه يعطي ويمنع، ويعز ويذل بحكمة وتقدير.
ولفظ: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) مجاز عن البخل، وهو من قبيل الاستعارة التمثيلية إذ شبهت حال من قبضت يده عن العطاء، فلا يعطي بحال من غلت يده،(5/2277)
وربطت على وسطه، فلا يستطيع تحريكها، وعبر باليد؛ لأنها هي التي يكون بها العطاء، ولقد قال تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29).
وليس المراد باليد الجارحة، بل الكناية عن المنع والإعطاء، وقد قال في ذلك الزمخشري: (غل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود) ومنه قوله تعالى: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كلَّ الْبَسْطِ). ولا يقصد من يتكلم به إثبات يد ولا غل ولا بسط حتى يستعمله في قليل لَا يعطي بيده عطاء قط، ولا يمنعه إلا بإشارته من غير استعمال يده وبسطها وقبضها، ولو أعطى الأقطع إلى المنكب عطاء جزيلا لقالوا: ما أبسط يده بالنوال؛ لأن بسط اليد وقبضها عبارتان وقعتا متعاقبتين، وقد استعملوه حيث لَا تصح اليد كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل ... شكرت نداه تلاعه ووهاده
وقد فُسرت اليد المنسوبة لله تعالى بالمعنى المجازي المناسب في كل آية في القرآن الكريم على ما اختاره الغزالي وغيره، حتى أنه قال في قوله تعالى: (. . . يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ. . .). بالسلطان والقوة، كما يقال وضع الأمير يده على المدينة، ولو كان مقطوع اليدين، والكلام في هذه المسألة مشهور في كتب علم الكلام.
(غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا) هذه الجملة معناها الدعاء عليهم، وهذا تعليم من الله لنا بأن ندعو على من فسدت قلوبهم، وذهب بهم الطمع والجشع إلى نسيان ما يجب لذات الله العلية، وما ينبغي، فقالوا كلمتهم التي قالوها، وهي تدل على استهانة بالحقائق وذات الله سبحانه، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، فعلمنا الله أن ندعو عليهم بغل اليد، وبالطرد وهو دعاء مستجاب ما داموا على هذا الحال من الأثرة المردية التي تنسيهم حقائق التدين والإيمان.
والدعاء عليهم بغل الأيدي معناه الدعاء عليهم بالشح المرير الذي يجعلهم مبغضين للناس، منحرفين عن طريقهم مطرودين من المجتمع، ويصح أن يفسر(5/2278)
قوله تعالى: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ). بالدعاء عليهم بالغل الفعلي بأيديهم بأن يمنعوا عن العمل الحر، ويعيشوا أسارى أو كالأسارى في ذل، ويكون التعبير من قبيل الجناس بالمشاكلة اللفظية، وإنا نميل إلى هذا، ويرشح له التعبير بأيديهم ب؛ لأن العرف اللغوي جرى على أن التعبير بالأيدي يفيد البطش، والتعبير بالأيادي يفيد النعمة، فيقال لفلان الأيادي على فلان، ولا يقال له الأيدي عليه، والمعنى على هذا الدعاء عليهم أن تغل أيديهم الباطشة فلا يقووا على غيرهم بل يكونون أسارى أو كالأسارى، وما ينالون من قوة ظاهرة أحيانا، فليست منهم، وهي إلى حين، وما كان ذلك إلا من فساد غيرهم.
(بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ينفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) هذا رد عليهم، وبسط اليد هنا مجاز عن الجود والفيض والإنعام من الله تعالى على خلقه، وعبر هنا بالمثنى، فقال سبحانه (يَدَاهُ)، للإشارة إلى كثرة الفيض والإنعام، والعطاء العميم كأنه يعطي بيدين لَا بيد واحدة، ولكن إذا كانوا لم يدركوا فيض نعمته، فإنهم لم يدركوا معنى حكمته فإن الله تعالى يبسط يديه بالعطاء على الطريقة التي يراها، وبالحكمة التي يريدها، ولذا قال تعالى: (ينفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ).
وهذه الجملة السامية تدل على أمرين: أحدهما - عموم عطائه. وثانيهما - أن شكل العطاء يختلف، فأحيانا يكون لبعض الناس عميما ليختبرهم بكثرة العطاء، وليحاسبوا عليه وتكون النعمة الكثيرة ابتلاء، وأحيانا يعطي حينا ويمنع حينا ليذوقوا النعمة بعد فقدها، ويختبر صبرهم بإيمانهم، كما قال تعالى: (. . . وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. . .).
والمؤمن الصادق الإيمان يصبر في الإعطاء والحرمان، والكافر يطغى بالعطاء
بالعطاء ويكفر في الحرمان، ولقد قال تعالى في وصف النفس البشرية: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11).(5/2279)
ولقد بين سبحانه وتعالى بعد أخلاق اليهود، ومن يشاكلهم من أهل الكتاب، فقال:
(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) في هذا النص الكريم يبين سبحانه وتعالى عدم رجاء الإيمان من أكثر اليهود، ذلك أن اليهود ليسوا طلاب حق، فيهتدوا إن بدت معالمه، وظهر نوره، بل هم قوم أكل الحقد قلوبهم، واستولى الحسد على نفوسهم، فهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، فإذا جاءهم النور ممن يحسدونهم لَا يزيدهم ذلك إلا بغيا وظلما وكفرا.
وقد أكد سبحانه وتعالى فساد قلوبهم بالقسم المطوي باللام الموطئة له، وبنون التوكيد الثقيلة لكي ينتفي الرجاء في إيمانهم، وليعاملهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده من المؤمنين على أساس مكنون نفوسهم، وخبايا أحاسيسهم، والطغيان: الظلم الذي يتجاوز كل حد معقول، والذي يبعث عليه الشره وفساد النفس، وزيادة الطغيان، وسببه أن ما أنزل إلى النبي جاء على غير ما يريدون، وأنهم حاسدون، وزيادة بالكفر بالإصرار عليه، وبزيادة مقدار ما يكفرون به من آيات، وبالعناد واللجاجة التي استولت عليهم.
(وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). (بَيْنَهم) يعني في جمعهم؛ لأن البين هو الفاصل الذي يكون بين شيئين، ويطلق البين ويراد به ما يلقى أمام الشخص، ومن ذلك قوله تعالى: (. . . مِّنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ. . .). وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّموا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرسوِله. . .). وقوله تعالى (. . فَقَدِّموا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً. . .).
والعداوة هي البغضاء المعلنة التي يناوئ فيها المبغض من يبغضه جهارا، والبغضاء هي الكراهية المستكنة والمعلنة، وعندي أنهما معنيان مختلفان، فالعداوة المناوأة الظاهرة، والمقاومة المعلنة، والبغضاء هي الكراهية التي تكون في القلب،(5/2280)
فهما معنيان متغايران، وإن كانا متلازمين أحيانا، فلا عداوة من غير بغضاء، ولكن قد يفترقان فتوجد البغضاء من غير إعلانها، أي من المناوأة والمقاومة.
والضمير في قوله تعالى: (بَيْنَهمُ) يعود على اليهود، لأن الحديث عنهم، ولا يدخل فيه النصارى، وقد فهم بعض المفسرين أنه يعود على اليهود والنصارى، والعداوة بين الفريقين مستحكمة إلا عند الذين غللوا من نصرانيتهم وكادوا يكونون يهودا في أعمالهم.
والواضح أن الضمير يعود على اليهود وحدهم، وقد ألقى الله تعالى بينهم العداوة والبغضاء فقد افترقوا على أكثر من سبعين فرقة، كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فمنهم الجبرية والقدرية، والشبهة ومنهم من ينكر البعث، ومنهم الربانيون والقراءون، وبينهم العداوة مستحكمة، وهم ينكرون أن يكون اليهود من غير بني إسرائيل، حتى إنهم لَا يعترفون بيهودية من يدخل في دين موسى من غيرهم، فيعادون السامرة الذين لم يكونوا من أصل إسرائيلي.
ويصح أن نفسر قوله تعالى: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُم الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ). بأن تستقبلهم بين أيديهم العداوة والبغضاء كالبين في قوله: (. . . مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ. . .). وفي قوله تعالى: (. . . لَا تقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسولِهِ. . .).
والمعنى على هذا ألقينا بين أيديهم عداوة وبغضاء تكون منهم للناس، ومن الناس لهم ذلك بأن ما في نفوسهم من حسد لجوج، ومادية شرسة، وأثره حاقدة.
جعلتهم في عداوة مستمرة مع الناس، وجعلتهم مبغضين إليهم دائما، فهم مكروهون من الناس كارهون لهم يعادونهم ويبغضونهم ولا تجد في قلب أحد محبة لهم، ولو كانوا يناصرونهم أحيانا، لأن نصرنتهم لأنفسهم ليكونوا آلة ينفذون بها مآربهم، والله سبحانه وتعالى من ورائهم محيط.
(كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ) إن هؤلاء اليهود لحسدهم المستمر للناس، ولكراهيتهم لهم يثيرون الحروب بين الناس، فهم يثيرونها على غيرهم إذا(5/2281)
كانت فيهم قوة، أو أحسوا أن فيهم قوة، أو اتخذوا ذريعة للإيذاء، وإذا لم يكن فيهم قوة ولم يحسوها، كان عملهم إيقاظ الأحقاد بين الشعوب، وإثارة العداوات التي تعقبها الحروب، هذا شأنهم الدائم المستمر يدفعهم إلى إثارة أسباب الحروب.
والتعبير بقوله تعالى: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ).
يجري على ما كان عليه العرب من أنهم كانوا إذا أرادوا حربا بالإغارة على غيرهم إما انتقاما أو اعتداء أوقدوا نارا يسمونها نار الحرب، ومهما يكن ما عند العرب من عبارات في هذا، فإن التعبير مجاز، إذ عبر عن إثارة الحروب لإيقاد نارها، باعتبار أن الحروب في ذاتها وبما تشتمل عليه من مذابح بشرية تشبه النار المسشعرة. وإن اليهود يوقظون الأحقاد ويثيرون الفتن، ويوقدون نيران الحروب، والله من ورائهم محيط وإنما يطفئ ما يوقدون ويحبط ما يدبرون.
(وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) وإنهم إذ يثيرون الفتن، ويشعلون الحروب، لَا يقصدون إلا السعي في الأرض فسادا فكلما مكن لهم في الأرض أفسدوا ولم يصلحوا، وإذا علوا أفسدوا ولم يصلحوا، حتى إذا طغوا وبغوا أرسل الله عليهم شدائد جزاء لفسادهم، ولقد قال تعالى في بيان ما قرره كتابهم وهوِ التوراة والقرآن بشأنهم: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8).
وهذا النص الكريم يفيد أولا - أنهم دأبوا على الفساد من بعد موسى ومن جاء من النبين كداود وسليمان، وأن نتيجة هذا الفساد كانت وبالا عليهم، فجاء(5/2282)
بختنصر، وأزال سلطانهم ثم جاء من بعده الرومان فأزالوا سلطانهم، وجعلوهم أذلاء في الأرض.
وتدل ثانيا - على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - اجتثهم من بلاد العرب (1)، وتدل ثالثا - على أنهم سيدخلون المسجد الحرام كما دخلوه أول مرة، وتدل رابعا - على أنهم سيفسدون فيه كشأنهم، إذ يتبرون ما علوا تتبيرا، وتدل خامسا - على رجاء رحمة الله تعالى بعباده المسلمين إذا عادوا إلى التقوى فيعود سبحانه وتعالى عليهم بالنصر، لأن اليهود دائما مفسدون. وقد ختم الله سبحانه وتعالى النص الكريم بقوله تعالت كلماته: (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِين).
فالله تعالى لَا يحبهم كما يزعمون ويتوهمون إذ يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه؛ لأنه سبحانه وتعالى يحب من يعمر الأرض، ولا يفسدها، وأولئك تجار الحروب يفسدون ولا يصلحون، ألم تر أنهم يمنعون كل صلح بين الناس ليتمكنوا من الكسب في صناعة أدوات الحرب، وليستعيدوا مهمتهم في إفساد ما بين الناس.
* * *
________
(1) قال عُمَرُ بْنُ الْخَطابِ أنهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لأُخْرِجَنَ الْيَهُودَ وَالنًصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ حَتَى لَا أدع إِلا مُسْلِمًا " رواه مسلم: الجهاد والسير - إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب (1767).(5/2283)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ... (65)
* * *
كان الحديث من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْليَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم منكُمْ فإنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
في شأن أهل الكتاب ومن يتخذهم أولياء دون اليهود، ثم ذكر سبحانه وتعالى أحوال اليهود الذين كان بعض أهل الكتاب والمسلمين يواليهم فعلا ويستنصر بهم، وبينت أحوالهم لكي يبتعد المؤمنون عنهم، وفي هذا النص الكريم يبين سبحانه أن باب الإيمان مفتوح غير مغلق، فمن دخله كفَّر عن نفسه سيئاته، فكفرها الله عنه، ومعناه: لو أن أهل الكتاب آمنوا بالله وحده، وصدقوا رسوله الذي بعث رحمة(5/2283)
للعالمين، وجعلوا بينهم وبين الباطل وقاية وخافوا عقاب الله تعالى ورجوا ثوابه، وتوقعوا حسابه، وامتلأت قلوبهم بخشية الله تعالى، لو فعلوا ذلك لكفَّر تعالى عنهم سيئاتهم أي لسترها، ولرفعها عنهم؛ لأن الحسنات يذهبهن السيئات، ولأن الله غفور رحيم يقبل التوبة من عباده، وأنه لَا تذهب السيئات عنهم فقط، بل إنه سبحانه يثيبهم في الآخرة، فيدخلهم جنات النعيم، فيدخلهم يوم القيامة الجنات التي تكون محل النعيم، وهذا جزاؤهم في الآخرة. أما الدنيا فقد قال فيه سبحانه:
* * *(5/2284)
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
(وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ ... (66)
* * *
الضمير يعود إلى أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، وقد عبر عنهم في الاسم الظاهر بأهل الكتاب للإشارة إلى أن لهم فضل علم يهديهم إلى الحق إن أخلصوا، وطلبوه صفوا غير مكدر بشيء من الأهواء والأحقاد وحسد الناس على ما آتاهم الله تعالى من فضله لو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل بإدراك ما فيهما من غير عوج في التفكير وئنفيذ ما اشتملا عليه من أوامر ونواه، ولم يحرفوا فيهما الكلم عن مواضعه، وأقاموا ما أنزل إليهم من ربهم، وهو القرآن الكريم لو فعلوا ذلك وقاموا بما خوطبوا به حق القيام لأتاهم الرزق من كل ناحية من السماء ومن الأرض، وقيل المراد برزق السماء ما يفيض من غيث وما في الأرض هو الزروع والثمار مما تخرجه الأرض، وما يستنبط من معادن وفلزات.
وإن خير الأقوال أن يقال: إن المراد أن بسطه بالرزق يأتيهم من كل ما يحيط بهم، ويعمهم الخير، كما يعبر عن شدة العذاب بأنه يأتيهم من فوقهم ومن أسفل منهم، كما قال تعالى: (قُل هُوَ الْقَادرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فوْقكُمْ أَوْ مِن ئَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا ويُذِيقَ بَعْفَكُم بَأْسَ بَعْضٍ. . .)، وفى النص الكريم بضع إشارات:
أولها - التعبير عن القرآن بـ " ما أنزل إليكم من ربكم " ففيه إشارة إلى أنهم مخاطبون به، وأنه منزل إليهم مع غيرهم، وليسوا خارجين عن التكليف الذي دعا إليه.
الإشارة الثانية - أن ما جاء في التوراة والإنجيل حقا هو من عند الله تعالى، وأن القرآن مصدق لما جاء قبله.(5/2284)
الإشارة الثالثة - أن إقامة الشرع تأتي بالرزق الرغيد لمن أخذ بالأسباب واعتمد على الله تعالى حق الاعتماد، ويجب أن يعلم أن الرزق الحسن لَا يتنافى مع مجهود الابتلاء. (مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ منْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) وإن هذا النص الكريم يشير إلى أنه لَا يخلو جنس من خير فهؤلاء الكتابيون الذي كان فيهم اليهود لَا يخلون من خير قد يدفعهم إلى الهداية وسلوك الحق المستقيم، فهؤلاء الكتابيون منهم أمة مقتصدة، والأمة: الجماعة من الناس الذين يجمعهم دين أو فكر أو مكان أو جنس أو نحو ذلك، ويقول الخليل بن أحمد: وكل شيء ضم إليه سائر ما يليه يسمى أمة، والاقتصاد من القصد، وهو استقامة الطريق، فالاقتصاد طلب الطريق المستقيم الذي يوصل إلى الهدالة والحق، والمعنى على هذا: منهم جماعة مستقيمة الإدراك تدرك الحق وتذعن إليه، وهي قليلة فيهم، وليست كثيرة، وإن هؤلاء لاستقامة طريقهم وحسن إدراكهم يصلون إلى الحق، ويؤمنون ويتقون، وبجوار هؤلاء كثير منهم تسوء أعمالهم، ويكون من حالهم ما يثير العجب من عظم ما فيها من سوء، فإن كلمة ساء تدل على التعجب من كثرة سوئهم، اللهم اهدنا إلى الحق واجعلنا من أهل القصد والإيمان.
* * *
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
* * *(5/2285)
فى الآيات السابقة ذكر سبحانه تعالى مواقف اليهود من رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وامتناع أهل الكتاب عن الإيمان بما جاء به تعصب من عندهم، وإن اختلفوا في معاملتهم، فمنهم من نافق وكذب وغدر، وألب عليه الجموع، وحرض المشركين وحالفهم، ومنهم من اقتصد في المخالفة، وبعض هؤلاء أحسن المعاملة مع الاختلاف ولم يمالئ عليه الأعداء والمشركون من وراء هؤلاء وأولئك يحاربون، ويحاولون أن ينتهزوا الفرص للانقضاض على المسلمين، فكان البلاء شديدا، حروب وفق يريدون إثارتها، وخبال يقصدون إليه، ولذلك أمر الله نبيه بأن يمضي في تبليغ الرسالة غير ملتفت لما يدبرون إلا بمقدار إحباطه، مطرحا عداوتهم وبغضاءهم، فالله تعالى عاصمه منهم، ولذا قال تعالت كلماته:(5/2286)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ). النداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - بوصف الرسالة لتشريفه بهذا الوصف الكريم، ولأنه مصطفى لها: (. . . اللَّه أَعْلَمُ حَيْث يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. . .). وللتمهيد لما يأمره به من التبليغ، وأن يصدع بأمر الله لَا يراقب أحدا، ولا يخاف من عدو؛ لأنه يبلغ ما أنزل الله تعالى إليه، وقد زكى سبحانه وتعالى الأمر بالتبليغ ووثقه بقوله: (مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ).
بما أنه منزل إليك من الله تعالى، فأنت الأولى بالتبليغ دون غيرك، والمسئول عن إعلام الناس بما أنزل الله تعالى، وإنك إذ تبلغ الرسالة في حماية الله تعالى وكلاءته، ولذلك قال تعالت كلماته: (مِن رَّبِّكَ).
أي الذي خلقك ونماك وقام على رعايتك وهو الذي يحميك، ويدفع عنك السوء والشر، ويبلغك مبلغ الحق من نشر الرسالة ليؤمن من يؤمن عن بينة، ويكفر من يكفر عن بينة: (. . . وَمَا كُنَّا مُعَذّبينَ حَتَّى نَبْعثَ رَسُولًا).(5/2286)
وقوله: (مَا أنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ).
(ما) فيه دالة على العموم، وهي بهذا العموم تدل على معنى (جميع)، أي بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك، أي لَا تخف شيئا ولا تكتم شيئا.
ولقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله تعالى بعثني برسالته فضقت بها ذرعا، وعرفت أن الناس يكذبونني، واليهود والنصارى وقريش يخوفونني، فلما أنزل الله هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ). زال الخوف " (1).
فالرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ الشريعة كلها غير منقوصة، وما كتم شيئا، ولقد قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله تعالى عنها - وعن أبيها: من قال: إن محمدا كتم شيئا من رسالة الله تعالى فقد أعظم الفرية (2)، ولقد قال عليه السلام: " تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله تعالى، وسنتي " (3).
ولو كان قد ترك شيئا لمن بعده، لكان قد ترك تبليغ الرسالة، ولكن ذلك محال لقوله تعالى (وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ).
أي إن لم تبلغ كل ما أنزل عليك فما بلغت الرسالة؛ ذلك لأن ترك بعض الرسالة ترك لها، فمن كلف تبليغ كتاب لواحد، فأسقط منه أسطرا لَا يعد قد بلغ الكتاب، ومن يؤمر بتبليغ كلام فيحذف بعضه لَا يعد قد بلغ الرسالة؛ لأن الرسالة فيما هو عند الناس كلٌّ لَا يقبل التجزئة، فكيف تقبل رسالة الله تعالى إلى خلقه، تجزئة فينقل بعضها، ويكتم بعضها، وقد عبر عن هذا المعنى الزمخشري في
________
(1) روى الحميدي (888) ج 2، ص 390 عن عمه أبي الأحوص عوف ابن مالك الجشمي عن أبيه.
وفي مسند إسحاق بن راهوية (439) عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله أرسلني برسالة فضقت بها ذرعا، وعلمت أن الناس مكذبي فأوعدني أن أبلغها أو يعذبني ".
(2) متفق عليه؛ رواه مسلم: الإيمان - معنى قول الله عز وجل: (ولقد رآه. .) (177)، والبخاري بنحوه: تفسير القرآن - (يا أيها الرسول. .) (4612).
(3) رواه الحاكم في المستدرك (324) والبيهقي (20780)، والدارقطني (4511) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/2287)
الكشاف، فقال " ذلك " أن بعضها ليس بأولى بالأداء من بعض، وإذا لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا، كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كأن لم يؤمن بكلها؛ لإدلاء كل منها بما يدليه غيرها، وكونها كذلك في حكم شيء واحد، والشيء الواحد لَا يكون مبلغا، وغير مبلغ، مؤمنا به، وغير مؤمن به " أي أن تبليغ بعض الرسالة وترك بعضها معناه ترك وجوب الإيمان به فترة بعد وفاة الرسول، وذلك غير معقول في ذاته، وغير مقبول في هذا الشرع الشريف؛ لأن الله تعالى عندما تأذن بموت رسوله قال تعالت كلماته: (. . . الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا. . .).
وإنه يجب التنبيه إلى أمور ثلاثة:
أولها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما انتقل إلى الرفيق الأعلى حتى أتم الرسالة بيانا، وقد يقول قائل إن الشريعة منها ما هو ثابت بالنص، وهذا بلا ريب قد تم بيانه قبل وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقسم قد ثبت بغير النصوص، فكيف يكون قد تم بيانه،؟! والجواب عن ذلك أن تبليغ الشريعة كان ببيانها، وليس معنى البيان أن يبين حكم كل جزئي من الجزئيات، بل معنى البيان أن تبين الأحكام الكلية والجزئية التي يحتاج بيانها إلى نص، والجزئيات التي لَا تبين يكون من الكليات ما يدل عليها بوجود العلة أو الغاية التي يثبت أن الشارع الحكيم أرادها، ولذلك يقول الإمام الشافعي في الرسالة الأصولية: البيان إما نص قائم، وإما حمل على نص قائم، ولا شك أن كل حكم لَا نص عليه يثبت الحكم فيه بالحمل على نص قائم، سواء أكان الحمل بطريق القياس، أي بإثبات الحكم غير المنصوص عليه في موضعه بالقياس على الحكم المنصوص عليه، في موضع يشبهه، ووجه الشبه العلة المؤثرة في الحكم، أم كان الحمل بطريق وجود المصالح ودفع المضار المتفق مع مقاصد الشرع، وغايات أحكامه، وذلك موضع اجتهاد الفقهاء.
الأمر الثاني - أنه يجب التنبيه إلى أن الذين يأخذون ببعض أحكام الشريعة مؤمنين بها، ويطرحون الآخر وراءهم ظهريا يحسبون أن ما اطرحوه ليس من(5/2288)
الشرع ينكرون تبليغ النبي - عليه الصلاة والسلام - للرسالة كاملة، وذلك انحراف يؤدي إلى الكفر والعياذ بالله.
الأمر الثالث - في قوله تعالى: (وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) فكيف يكون الشرط والجزاء في معنى واحد، لأن الشرط ظاهر معناه أنك إن لم تقم بالتبليغ كاملا صادعا بالحق، فما بلغت الرسالة أي أنك إن لم تبلغ فما بلغت، وجزاء الشرط يجب أن يكون معنى مترتبا على الشرط، وذلك يقتضي المغايرة بينهما، فلا يمكن أن يكونا شيئا، وظاهر النص أنهما شيء واحد.
وقد أجيب عن ذلك بجوابين:
الجواب الأول - أن المعنى أنك إن لم تقم باداء الرسالة كلها بأن تركت بعضها، فإنك تكون كمن ترك الرسالة كلها، وقد اعترض على ذلك الفخر الرازي بأن ترك بعض الرسالة لَا يمكن أن يكون كترك كلها، والجرم في ترك بعضها ليس كالجرم في تركها كلها، وإني أرى أن اعتراض الإمام فخر الدين الرازي غير وارد، لأن ترك جزء من الرسالة من غير تبليغ يكون تركا للرسالة ذاتها، ولذا عبر في الجزاء بقوله تعالت كلماته: (فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) أي إن لم تفعل بتبليغها كاملة فما أديت واجب التبليغ، وجرم الجزء كجرم الكل إذا كان يتعلق بالاعتقاد فمن أنكر بعض ما يجب الإيمان به يكون كمن ينكر كله إذ يكون ممن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض.
الجواب الثاني - أن يكون الكلام من قبيل بيان أن الشرط ذاته يكفي أن يكون فيه كمال التخلي عن التبليغ، والمعنى على هذا أنك لم تقم بالتبليغ فحسبك أنك تخليت عما يجب عليك أن تفعله، وهو عملك كرسول - وإن التبليغ يقتضي جهودا وبلاء، وتعرضا للأذى، وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى ذلك، وبين أنه في حماية الله تعالى، وكفالته، ولذا قال سبحانه:
(وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) العصم: الإمساك، ويتضمن الإمساك الحماية، ومنع الأذى، وجاء في مفردات الأصفهاني: عصمة(5/2289)
الأنبياء حفظه إياهم أولا بما خصهم به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الفضائل الجسمية والنفسية ثم بالنصرة، وبتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق قال تعالى: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).
ومعنى العصمة من الناس على هذا ألا يُمكَّنوا منه - عليه السلام - ومن دعوته، ومن نفسه، فأوهامهم لَا تعلق بنفسه ونفاقهم لَا يؤثر في دعوته، وخلافهم وعنادهم لَا يمنعان الحق من أن يصل إلى قلوب أهل الهداية والإيمان، ولجاجتهم في الكفر لَا تثنيه عما يدعو إليه، ويستمسك به، وما يثار عليه من حروب لَا تهزمه ما دام هو ومن معه آخذين في الأسباب ناصرين لله وللحق. وليس عصمة الله تعالى أن يكون الوصول إلى الحق هينا لينا سهلا، بل إنه لَا بد من الجهاد، ولا بد من نزول البلاء بل بتوالي الابتلاء، كما قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214).
فالعصمة هي عصمة النفس والجسم من القتل، والدعوة من أن يعوق طريقها ويقضى عليها، وإن كان الأذى البدني يقع كشج رأسه وكسر ثنياته، وغير ذلك مما كان يفعله المشركون واليهود معه عليه السلام.
والناس لَا يختصون بالمشركين واليهود، بل المراد السلامة مع الجهاد، من كل ما يكون من الناس عامة إذ لَا دليل على التخصيص، وكان ممن آذوا النبي عليه السلام كسرى فارس، وما كان من هؤلاء ولا هؤلاء وقد عصمه تعالى منه.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) والهداية التي ينفيها هذا النص الكريم هي الوصول إلى الحق، لأن الجحود قد ران على قلوبهم بما كسبوا من شر، وما اجترحوا من سيئات، وما لجت به نفوسهم من عناد، وهم لَا يصلون إلى النيل من الحق وتعويق الدعوة،(5/2290)
وعبر عن الكافرين بالقوم للإشارة إلى أنهم مهما تعددت أجناسهم وتباينت عناصرهم يلتقون عند غاية واحدة، وهي معاندتك والكفر بما جئت به، فهم بذلك التآلف في الإنكار صاروا كأنهم قوم متحدون.
وإذا كان الكفر قد جمعهم فإنه لَا يفرق بينهم كون بعضهم كتابيا، وبعضهم أميين، فلا فضل للكتابيين على الوثنيين في الكفر، ولا شرف بكونهم أهل كتاب ما داموا لم يؤمنوا به ولم يقيموه، ولذا قال تعالى:
* * *(5/2291)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ... (68)
* * *
كان أهل الكتاب في البلاد العربية يستعلون على من فيها من أهل الوثنية، لأن عندهم علما من السماء، بأنه سيكون منهم نبي ينصرهم ويؤيدهم، ولأنهم يتبعون نبيا من الأنبياء، وأنه كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم، إذ قال تعالت كلماته: (. . . وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
وكانوا يسمون العرب أميين توهينا لشأنهم، ولبيان شرفهم بالعلم عليهم، فأمر الله تعالى نبيه أن يبين لهم أنهم لَا يمكن أن يكونوا أعلى شأنا من الوثنيين إلا إذا اتبعوا الكتب التي جاءت لأنبيائهم، والكتاب الذي يخاطبون به وهو القرآن؛ لأن شرفهم وفخارهم بهذا العلم، فلا بد أن يقيموه، ويعطوه حقه، وإلا فهو حجة عليهم، وليس حجة لهم، وهو موضع مؤاخذة، وليس سببا للمفاخرة.
وأمر الله تعالى نبيه بأن يتولى هو خطابهم؛ لأن الجدل والمعاندة كانت منهم له، ومعنى قوله تعالى: (لَسْتُمْ عَلَى شيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا) إنكم معشر أهل الكتاب لستم على شيء مما يعلو به الإنسان من علم أو دين أو خلق أو فضل، حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وما أنزل عليكم من ربكم، وهو القرآن، لأنكم تعتزون بعلم الكتاب فلا شيء لكم من الاعتزاز والفضل إلا إذا أقمتم ما تعتزون به، فلتنفذوا ما جاء في التوراة والإنجيل والقرآن، وبذلك تحققون السبب، فيتحقق المسبب، وهنا إشارتان بيانيتان.(5/2291)
إحداهما - التعبير بقوله تعالى (لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ) بالتعبير بـ " على " بدل " الباء "، وذلك أن حالتهم كانت حال استعلاء على غيرهم فكان المناسب أن يعبر بحرف ألاستعلاء وهو " على "؛ لنفي ذلك الاستعلاء، والتعدية بالباء تفيد أن النفي منصبّ على ذواتهم، وإنما النفي منصب على استعلائهم.
الثانية - التعبير عن القرآن بما أنزل إليكم من ربكم، فلم يقل حتى تقيموا التوراة والإنجيل والقرآن - كان فيه تصريح بأنهم مخاطبون به، وأنهم ممن أنزل لأجلهم، وإلى ذلك يشير قوله - عليه الصلاة والسلام - " لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا أن يؤمن بما جئت به " (1).
(وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) قد تكلمنا في معنى هذا النص الكريم، وما فيه من توكيد، وذكرنا أن القرآن المنصف لَا يحكم على الجميع بالشر، وفيهم أخيار، ولذلك كان حكمه على الكثرة لَا على القلة، وإن طغيانهم هو ظلمهم للحقائق، وإفراطهم فيما يطغون به على أهل الإيمان، وأشرنا إلى علة ذلك وهي حقدهم، وحسدهم، وأن النعمة تجيء إلى المحسود، فتزيد الحاسد حقدا وضغنا.
ولكن لِمَ كرر القول هنا وقد ذكر آنفا؟ والجواب عن ذلك أن كلام اليهود الذي حكاه الله تعالى عنهم كان في جنب الله مما يدل على إيغالهم في الكفر والإنكار، وأنهم حاقدون على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يزيدهم ما أنزل عليه إلا طغيانا وكفرا، أما هنا فقد جاءت عقب الأمر الجازم بوجوب التبليغ وتعميمه - بالنسبة للموضوع، وبالنسبة للأشخاص فيبين سبحانه لنبيه - عليه السلام - أنه مع التبليغ لا يرجو الإيمان: (. . . إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. . .). ولذلك قال سبحانه بعد ذلك:
(فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) الأسى: الحزن، وحقيقته اتباع الفائت بالغم والألم، والمعنى لَا تأس على إصرار الكافرين على كفرهم، ونزول اللعنة والعذاب
________
(1) سبق تخريجه.(5/2292)
بهم، لَا تتأسف لذلك، لأنك قد بلغت، ولأنه يجب أن تتوقع منهم الكفر والجحود، لأن كثيرا منهم لَا يزيدهم ما أنزل إليك إلا طغيانا وكفرا، ولأن تبعة الخطيئة عليهم دون غيرهم، ولأن الإيمان والهداية كما يريد الله، لَا كما تريد أنت (إِنَّكَ لَا تهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). اللهم اهدنا للإيمان، واهد المسلمين للإيمان، فلا عزة لهم إلا به، وإنك أنت العزيز الحكيم.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
* * *
في الآيات السابقة أشار سبحانه إلى استعلاء اليهود والنصارى لأنهم أهل كتاب جاءت إليهم الرسل بالتعليم والتوجيه فبين سبحانه وتعالى أن الاستعلاء بالإذعان، واتباع ما جاء إليهم والإيمان به، وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى أن الناس جميعا في النجاة سواء، لَا فرق بين يهودي ونصراني، وعبدة للكواكب، فالإيمان يجبّ ما قبله، ويسوي بين المؤمنين:(5/2293)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى) في هذا يبين سبحانه أن أساس النجاة وذريعة الثواب، ومنع العقاب الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح واستشعار خشية الله واتقاء عذابه، وإطاعة ما أمر، والانتهاء عما نهى عنه وزجر. ولا ينظر في ذلك إلى سابق ما كانوا يتدينون، ولا إلى ما كانوا ينتحلون من نحل، فكما أنه لَا تفرقة أمام الله تعالى بالجنسية لَا تفرقة أيضا بالنحلة والملة إذا كانوا ينتهون إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، ولذلك أكد سبحانه وتعالى أن الذين آمنوا بما جاء به محمد، والذين هادوا أي اليهود، والصابئين والنصارى، من كان منهم يؤمن بالله واليوم الآخر ويعملون صالحا، لَا خوف عليهم من عقاب ولا مؤاخذة عليهم فيما فرط من ذنوب إذ الإيمان يجبّ ما قبله، ويمحو ما سبقه مما ارتكبوا، فهذا النص الكريم كما يفيد التسوية بين النحل السابقة إن استقاموا على الجادة، والتقوا عند منجاة الإيمان يفتح أيضا باب الرجاء، ويقرب التوبة.
وهنا أصناف أربعة هم الذين آمنوا، واليهود، والصابئون، والنصارى.
فالذين آمنوا هم الذين أذعنوا للحق، وآمنوا بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - وصدقوه، وأطاعوه، واليهود هم بنو إسرائيل الذين هم شر البرية بأعمالهم إن أقلعوا عنها، فباب الرحمة مفتوح يدخله كل عباد الله تعالى. والصابئون أو الصابئة طائفة ظهرت في بلاد المشرق، وقد قيل فيها: إنهم يعبدون الكواكب، وبعضهم قال: إنهم يقدسونها من غير عبادة، ولا يخرجهم ذلك عن الشرك؛ لأن تقديس ما لَا سبب لتقديسه نوع من العباده، وإن لم تكن بالصلاة.
وقد حدث أن ادعوا الدخول في النصرانية في عهد المأمون، فإنه التقى بهم في إحدى الغزوات، فسألهم من أي أهل الذمة أنتم؟ فقالوا: صابئة، فقال: لَا بد أن تدخلوا في دين من الأديان السماوية أو أخرجكم من ديار الإسلام، لأنه لا عقد ذمة إلا مع أهل دين سماوي، (وذلك أحد الآراء الفقهية وأشهرها) فاختار الأكثرون منهم أن ينتحلوا اسم النصرانية، ومنهم من بقي على عبادة الكواكب،(5/2294)
وإن أظهروا غير ما يعتقدون، ومنهم من خلط بين النصرانية، وما بقي لهم من بقايا تقديس الكواكب، وهم أكتم الناس لعقائدهم، ولا تزال بقية باقية منهم في تخوم العراق، ولا يستطيع أحد أن يجزم بحقيقة اعتقادهم.
والنصارى، وهم طوائف مختلفة، تجمعهم ألوهية المسيح، والتثليث، ومتفرقون فيما وراء ذلك ما بين كاثوليك أو ملكانية، وأرثوذكس أقباط، وطوائف غربية، ونساطرة ومارون، وغيرهم.
والنص الكريم كما تلونا هو هكذا: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى) ونرى أن " الصابئون " مرفوعة، وظاهر السياق أن تكون بالنصب، فتكون والصابئين وهذه قراءة ابن كثير، وقراءة الآخرين بالرفع، ولذلك تكلم المفسرون في هذه القراءة التي يقرأ بها الأكثرون. وقد خاضوا في ذلك لأجل التخريج النحوي، وليس لأحد أن يخطِّئ القراءة من الناحية اللغوية، إلا أن يكون كجهلة بعض المستشرقين الذين يحسبون أن قواعد النحو حاكمة على القرآن، وذلك من فساد النظر؛ لأن القرآن فوق النحو، إذ النحو يستقى منه، وهو لا يخضع لما يقرره النحويون، بل هم الذين يخضعون له، وأن القرآن قد ورد بذلك فهو قد دل على أن العطف على اسم إن بالرفع جائز، ولو كان الخبر متأخرا، ولا يحتاج إلى شاهد سواه، وأنه هو الشاهد الأول على سلامة التعبير من الوجهة العربية، ومع ذلك قد جاءت شواهد من كلام العرب بوجوب رفع المعطوف على اسم (إن) قبل وجود الخبر، فقد قال ضابي بن الحارث:
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيارٌ بها لغريب
وترى أن العطف بالرفع على اسم إن جاء قبل الخبر، وهو مذهب بعض النحويين، ويرجحه القرآن الكريم إذ جاء فيه ذلك، وهو خير شاهد.
وقد أخذ النحويون يخرجونه على مقتضى قواعدهم، المانعة عند الذين يمنعون، فقال بعض المخرجين: إن الخبر ليس هو خبر الصابئين، إنما الصابئون مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك، وقال غيرهم: إن اسم (إن) أصلها مبتدأ(5/2295)
دخلت عليه إن، فروعي معنى الابتداء فيه فرفع على هذا المعنى، وكل هذه تخريجات، النص فوقها، ولا عبرة بها لأنها لَا تحكم على القرآن، بل إن العطف بالرفع جائز، وقوله تعالى: (مَنْ آمَنَ) بعد ذلك خبر للجميع.
ومهما يكن من تخريجات أكثر النحويين وتجويز غيرها فإن القرآن أبلغ كلام في الوجود لَا بد أن يكون في عدوله عن النصب الذي هو ظاهر السياق إلى الرفع معنى قائم بذاته. فما هو ذلك المعنى؟ قالوا: إن الصابئين أشد إيغالا في الكفر من اليهود والنصارى، فكان لَا بد من تنبيه خاص بهم؛ ليكون ذلك تأكيدا لمعنى قبول التوبة والغفران؛ لأنهم إذا كانوا يغفر لهم وهم على هذه الحال من عبادة الكواكب، وعدم وجود كتاب، وكتمانهم اعتقاداتهم، فأولى ثم أولى أن يغفر لمن دونهم من ذلك الجحود، وهم اليهود والنصارى، ولأن الصابئين يشير بيان الغفران لهم إلى قبول توبة المشركين إذا آمنوا بعد شرك، كما قال تعالى: (قُل لّلَّذِينَ كفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ).
وقد بين سبحانه خبر إن وهو جزاء الإيمان بعد كفر، فقال سبحانه: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
هذا هو الخبر، وفيه جزاء الإيمان وما تطلبه حقيقته، فذكر سبحانه أمورا ثلاثة هي الإيمان بالله تعالى وذلك يتضمن الإيمان بوحدانيته، وأسمائه الحسنى، وأنه الخالق وحده، والمهيمن على الوجود وحده، وأنه الأزلي الذي ليس له ابتداء، والباقي الذي لَا يعروه الفناء، وأنه لَا يشبه أحدا من خلقه، وليس كالأشياء، لا يُحس، ولا يحتويه مكان، وهو منزه عما تتصف به الحوادث إلى آخر كل ما يقتضيه التنزيه، وليس بوالد ولا ولد، وليس له كفوا أحد، والإيمان باليوم الآخر هو الإيمان بالبعث والنشور، والحساب والعقاب والثواب، وإنها جنة أبدا، أو نار أبدا، وأن الإنسان مجزيٌّ بعمله، وإن خيرا فخير أو شرا فشر: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8).(5/2296)
وذكر النص القرآني، أمرا ثالثا، وهو العمل الصالح الذي يلقى الله تعالى وهو قائم به، مستمرا عليه، وهذا وإن لم يكن ركنا من أركان الإيمان، ولكنه شرط لما جاء بعد ذلك من عدم الخوف والحزن، فإن المرتكب لَا يمكن أن يكون في أمن من غضب الله، بل يكون حزينا على ما ارتكب، وإن قوى الإيمان إن عمل يكون عنده برد اليقين، والمؤمن الصادق يغلب الخوف على الرجاء، ولو كان طاهرا مطهرا، فكيف لو كان مرتكبا.
وقد يقول قائل: لماذا لم يذكر الإيمان برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -مع أنه ركن من أركان الإيمان، فشهادة أن لَا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله تعالى هي لب الإيمان!.
والجواب عن ذلك: أن الإيمان بالرسالة المحمدية التي قامت عليها الأدلة من المعجزات الباهرة ثمرة الإيمان بالله ولازمة له، فلا يمكن أن يكون مؤمنا بالله من يكذب رسوله الذي قامت الشواهد والأمارات على صدق رسالته، والإيمان بالله يقتضي الإيمان بصدق كل ما جاء في كتابه المنزل الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهكذا فإن الإيمان بالله تعالى يقتضي الإيمان بالرسالة والرسل والإيمان بما جاءت به الكتب المنزلة.
وجزاء هذا الإيمان الصادق والعمل الصالح ألا يكون المؤمن في خوف من قابل حياته في الآخرة، فلا يخاف عذاب يوم القيامة؛ لأن الإيمان هو الحصن الذي يلوذ به الخائفون، ولا يحزن على ما كان منه في كفره، وإنه في الجنة لا همَّ، ولا حزن ولا عذاب.
وقد تكلم العلماء في أمرين لَا بد أن نتكلم فيهما:
أولهما - أن الله تعالى ابتدأ طوائف الذين يغفر لهم أن آمنوا بالمؤمنين فقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)، وجاء الخبر من بعد: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)، فكيف ينطبق هذا الخبر على الذين آمنوا، وهم قد سبق إيمانهم، فلا يحتاج إلى(5/2297)
تجديد، ولو كان الخبر مقصورا على الذين هادوا والصابئين والنصارى لكان له موضعه ظاهرا، لأنهم غير مؤمنين.
وقد أجاب العلماء عن ذلك بجوابين: أحدهما - أن الذين آمنوا قد يراد بهم الذين أعلنوا الدخول في الإسلام وإن لم تذعن قلوبهم، ولكن هذا الجواب لا نرتضيه لأن المنافقين ومن لم يذعنوا للحقائق الإسلامية لَا يسمون مؤمنين، اقرأ قوله تعالى: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا ولَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ. . .).
الجواب الثاني - أن معنى آمن بالنسبة لهم استمرار الإيمان، وبالنسبة لغيرهم إنشاؤه، ونرى في هذا الجواب نوعا من دلالة اللفظ على معنيين متقاربين في موضع واحد، إذ يراد الإذعان، والاستمرار عليه، وإني أرى أن الخبر ليس للحكم بقبول الإيمان فقط، بل إنه خبر في معنى الشرط والجزاء فيه إثبات أن الإيمان مناط النجاة والثواب، وذلك ينطبق على المؤمنين ومن يدخلون في الإيمان.
الأمر الثاني - هو دخول الفاء في قوله تعالى: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ). وقد قيل في ذلك: إن الموصول في (من آمن) في معنى الشرط، والفاء تدخل في خبر الموصول كما تدخل في جواب الشرط.(5/2298)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
(لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا) فتح الله تعالى باب القبول على اليهود والنصارى والصابئين، وقد أخذ سبحانه يبين كيف فتح الباب لهم من قبل ولكن غلقوه على أنفسهم، وقد ذكر سبحانه في هذا النص أمرين: أولهما - أنه تعالى أخذ عليهم الميثاق، والثاني - أنه أرسل رسلا ليسهل تنفيذ هذا الميثاق.
والميثاق عقد موثق مشدد فيه، كما يشد الوثاق، وهو مؤكد بيمين الله تعالى، والله تعالى قد أخذ هذا الميثاق على بني إسرائيل بأن يقوموا بالتكليفات التي يكلفهم إياها، ولم يذكر هنا موضوع الميثاق، وقد ذكره في مواضع كثيرة من كتاب الله تعالى، فترك هنا بيانه حملا عليها، ومن نصوص ميثاق الله تعالى على بني إسرائيل قوله تعالى:
* * *(5/2298)
(لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
* * *
وقد أكد الله سبحانه في الآية الكريمة التي نتكلم في معانيها (أخذ)، باللام وبـ " قد "، وبإضافة الأخذ إليه فقال سبحانه: (لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
ومع أخذ الميثاق المؤكد، لم يتركهم هملا، بل أرسل إليهم الرسل من عنده ليؤكدوا الميثاق، ويبينوه ويعاونوهم على تنفيذه، وقد جاءت كلمة (رسُلًا) بالتنكير، وهو هنا للتكثير، أي أرسلنا إليهم رسلا كثيرة، ولم تكن نتيجة الميثاق وإرسال الرسل محمودة لهم، بل كانت منهم نكرا، ولذا قال سبحانه:
(كلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) لقد كان الحكم الذي ارتضوا حكومته هواهم وشهواتهم، فما يوافق هواهم اتبعوه، وما لا يوافق هواهم ردوه، فاتخذوا بذلك إلههم هواهم وضلوا عن علم، ووقعوا في الشر، فلم يجعلوا العقل والميزان هو الحكم الذي يقبلون ما يقبله، ويردون ما يرده، وإنه ترتب على تحكيم الهوى وسيطرته عليهم أن كذبوا فريقا واكتفوا بالتكذيب، وأن قتلوا فريقا.
وهنا بعض مباحث لفظية تبين منها معنى النص الكريم:
أولها - عدم وجود جواب الشرط، وهو " كلما "، فقال الزمخشري: قام مقامه فريقا كذبوا وفريقا يقتلون، أو هو في الحقيقة جواب الشرط، لأن المعنى كلما جاءهم رسول بما لَا تهوى أنفسهم كذبوا فريقا وفريقا قتلوه، وبعضهم قال: إن الجواب محذوف تقديره، و " استكبرتم "، وأخذه من قوله تعالى في آية أخرى: (. . . أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87).
وإن الأوضح هو ما قرره الزمخشري؛ لأن قوله (فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ) تصلح جوابا، فلا حاجة إلى تقدير، وأما الآية الأخرى فقد جاءت الفاء في قوله:(5/2299)
(فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) فكانت الجملة غير " صالحة لأن تكون جواب الشرط، فكان لَا بد من التصريح بجواب الشرط.
المبحث الثاني - أن الله سبحانه وتعالى قسمهم فريقين فريقا كذبوه، وفريقا قتلوه، ولا شك أنه مع القتل التكذيب، ويكون المعنى على هذا أن هناك فريقا اكتفوا بتكذيب الرسول، وفريقا آخر ذهبت بهم اللجاجة في العناد وعداوة الهادين إلى أن يقتلوه.
والمبحث الثالث - التعبير عنِ التكذيب بالفعل الماضي فقال: (فَرِيقًا كَذَّبُوا). وعن القتل بالمضارع: (وَفَرِيقَا يَقْتلُونَ). وقد علل ذلك الزمخشري بأن المضارع يدل على استحضار الجريمة البشعة التي ارتكبوها، وهي أن يقتلوا هاديهم ومرشدهم، وهناك تعليل آخر، وهو أنهم على استعداد لأن يقتلوا خاتم الهداة محمدا - صلى الله عليه وسلم -، وقد هموا ولم ينالوا.
* * *(5/2300)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
(وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
* * *
الفتنة أصل معناها إدخال الذهب النار لتظهر جودته، وأطلقت الفتن في لغة القرآن على الشدائد التي تنزل ليختبر قلب المؤمن، فإن صبر ظهر إيمانه قويا شديدا، وإن خار ووهن كان من ضعفاء الإيمان ولقد قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنونَ).
واليهود لما أنعم الله تعالى به عليهم إذ أخرجهم من قسوة فرعون، ونجاهم بفلق البحر، حتى مروا، وغلقه على فرعون وقومه، حتى غرقوا، وهم ينظرون وأعطاهم من بعد ذلك المن والسلوى وغير ذلك ما أجزله تعالى عليهم من خير، حسبوا أن الإيمان جلب لَا سلب فيه، وهناءة لَا يرنقها تعب، ولذلك حسبوا ألا تكون فتنة تنزل بهم، ولكن الله أنزل عليهم هزائم تتلوها هزائم واختبرهم بقحط ينزل بهم، حتى يصقل إيمانهم، وكان ذلك الحسبان منهم لانغمار نفوسهم بالشهوات، لأنها تعمي وتصم، وترين على البصر بغشاوة فلا يرى، وتضع على الآذان وقرا فلا تسمع.(5/2300)
ولذلك رتب الله تعالى على حسبانهم ألا فتنة تنزل أن عموا عن إدراك الحق، فلم يصلوا إليه، وأن صموا عن سماع الهادي فلم ينصتوا إليه، وبذلك سدت عليهم منافذ الإدراك، فلا عقل يدركون به إذ غشيته الشهوات حتى أعمته وجعلت عليه غشاوة ولا وعي يستمعون به إلى صوت الهداية.
وقد نزلت بهم شدائد صقلت نفوسهم كالشدائد التي أنزلها التتار بهم، فاستيقظت مداركهم وسمعت الحق آذانهم، وجاء الأنبياء أمثال داود وسليمان فأنقذوهم، ولكن ما إن أحسوا ببحبوحة النعمة حتى استولت عليهم الشهوات فعموا وصموا ولكن كانت بقية صالحة، وهنا مباحث لفظية نذكرها، لأنها تقرب إلينا معنى النص الكريم.
الأول - أن قوله تعالى: (أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) بنصب النون في تكون، وقرئ بضمها (1)، والقراءة الأولى على أساس أن " حسب " بمعنى الظن الغالب، والثانية على أساس أن " حسب " بمعنى علم، والقراءتان متواترتان، وهما تنتهيان إلى أنهم ظنوا، ثم لغلبة الشهوات وسيطرتها تحول الظن إلى يقين أو كاليقين.
الثاني - أن معنى: (عَمُوا وَصَمُّوا) فيه تشبيه حالهم في غلف قلوبهم واستيلاء الشهوات عليهم وعدم إدراكهم الحق بأنفسهم وعدم استماعهم للداعية بحال الأعمى الذي لَا يبصر، ولا يستمع إلى من يدعوه ليسير في الطريق القويم.
الثالث - أن المفسرين أرادوا أن يفسروا متى كانت التوبة التي يسترشدون فيها ثم الصمم الذي يلي الرشاد وقالوا في ذلك أقوالا كثيرة، وعندي أن توبتهم بشديدة تنزل بهم، يخرجهم الله منها، ثم عودتهم إلى ما كانوا عليه متكررا.
________
(1) (ألا تكونُ) (بالرفع). قراءة أبو عمرو،، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف، والمفضل، ولكن قرأ عاصم والباقون بالنصب. غاية الاختصار - برقم (812).(5/2301)
الرابع - أن قوله تعالى: (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كنِيرٌ منهُمْ) فيه معنى التراخي المعنوي لبعد ما بين التوبة والعمى والصمم. وكثير منهم بدل من الضمير، وفي هذا إشارة إلى تأصل الصمم والعمى حتى صاروا أهلا لأن يحكم على الجميع بسببهم ولكن عدل الله أخرج المهديين منهم.
بهذا ختمت الآية، وهي تدل على أن الله جل جلاله عليم بما كان منهم علم من يبصر، وهو مجازيهم بأعمالهم، وهو فوقهم، وهو بكل شيء محيط.
* * *
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
* * *(5/2302)
بين سبحانه ضلال اليهود وما كان ضلال فكر، بل ضلال قلب، ذلك لأنهم عرفوا الحق، ولكن حقد قلوبهم وحسد نفوسهم منعهم من الإذعان للحق الذي تبين لهم، وأدركوه، وطمس الله عليهم فجعل قلوبهم غلفا لَا ينفذ الحق إليها، وبعد ذلك ذكر ضلال النصارى، وكان ضلالهم ضلال العقل الذي انحرفوا به تحت تأثير وثنية قديمة، أو فلسفة واهمة سيطرت في زمانهم. فكان الضلال ضلال فكر انحرف فاعتنقوا غير المعقول، وآمنوا بما هو مستحيل، ولا عجب في ذلك إذ استهوت العقول أفكار منحرفة شردتهم عن الجادة المستقيمة، وقد أخذ سبحانه يصور كفرهم فقال تعالت كلماته:(5/2303)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72)
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) أكد الله سبحانه وتعالى كفر الذين قالوا إن الله - تعالى الله عما يقولون - هو المسيح ابن مريم، ويظهر أنه كان من هؤلاء الذين انحرفت عقولهم من زعم أن الله تعالى حل في جسم فكان هو المسيح، مع أنهم يقرون أن مريم ولدته، وأن منهم وهم الأكثرون من يقولون: إنه ابن الله قد حلت فيه الألوهية، وهم بهذا الاعتبار قد قالوا: إن الله هو المسيح باعتبار أن الألوهية حلت فيه، وأنه الإله أو ابن الإله.
وحقيقة - هذه النصرانية التي انحرفت عن أصل الديانة - المسيحية التي جاء بها المسيح، أنه بعد أن ترك المسيح هذه الدنيا تعرض المسيحيون لاضطهادات شديدة استمرت نحو ثلاثة قرون كانوا فيها يفرون بدينهم ويختفون وتحرق كتبهم، حتى صار أصل العقيدة معرضا لمنازع مختلفة، ولكن التوحيد هو السائد الغالب، وما أن رفع الاضطهاد عنهم، حتى تعرضوا لفتنة أشد من الأذى البدني، فتعرضوا لأذى في العقيدة ذاتها، وهو أشد وأنكى، إذ أدخلت الوثنية في النصرانية بتأثير قسطنطين ملك الرومان، ولنترك الكلمة لابن البطريق النصراني يتكلم عن الأهواء التي دخلت في عقول المسيحية، فقد فال عن " مجمع نيقية " الذي أعلن ألوهية المسيح، والذي انعقد لمنع دعاية الوحدانية التي حملها أسقف اسمه أريوس، ويتبعه في فكرته أكثر المسيحيين قال ذلك النصراني:(5/2303)
(بعث الملك قسطنطين إلى جميع البلدان فجمع البطارقة والأساقفة، فاجتمع في مدينة نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة مختلفين في الآراء والأديان، فمنهم من كان يقول إن المسيح وأمه إلهان من دون الله وهم البربرانية، ومنهم من كان يقول إن المسيح من الآب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية عنها، وهي مقالة سابليوس وشيعته، ومنهم من كان يقول لم تحمل به مريم تسعة أشهر وإنما مر في بطنها، كما يمر الماء في الميزاب؛ لأن الكلمة دخلت في أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهي مقالة إليان وأشياعه. ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وإن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمجد والمشيئة، ولذلك سمي ابن الله، ويقولون إن الله جوهر قديم وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس، وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية وأشياعه، ومنهم من كان يقول إنهم ثلاثة آلهة لم تزل صالح وطالح وعدل بينهما، وهي مقالة مرقيون اللعين وأصحابه، وقد زعموا أن مرقيون هو رئيس الحواريين، وأنكروا بطرس. ومنهم من كان يقول بألوهية المسيح، وهي مقالة بولس الرسول، ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا).
هذه هي الأهواء والآراء التي كانت تذكر في الجماعات المسيحية وظهرت عندما زال الاضطهاد، وحل محله الأمن، ولم يذكر ما كان يقرره أريوس الذي انعقد المجمع لإنهاء دعوته، والحق أن دعوة أريوس كانت هي البقاء على الوحدانية، فقد قرر كتاب تاريخ الأمة القبطية أن دعوة أريوس كانت منتشرة وكانت عامة وكان السائد عند الكثيرين إنكار ألوهية المسيح، فقد كانت كنيسة أسيوط على هذا الرأي، وكان للرأي الأصيل رأى أريوس مشايعون في فلسطين ومقدونية والقسطنطينية.
ولكن أُريدَ تحويل المسيحية من التوحيد إلى الوثنية قبل أن يدخل فيها قسطنطين فانتقل للرأي الذي يتفق معها وهو ألوهية المسيح، فاعلن موافقته على(5/2304)
رأى 318 (ثمانية عشر وثلاثمائة) من جمع عددهم ثمانية وأربعون وألفان، واضطهد من عداهم، وقامت منازعات بين الوحدانية والوثنية، حتى اختفت أصوات الوحدانية في الأوساط النصرانية.
(وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) في هذا النص الكريم بيان لحقيقة الدعوة التي دعا إليها عيسى - عليه السلام - ونفي نفيا مطلقا ادعاءاتهم الألوهية له فقد كانت دعوته التي كان موطنها بني إسرائيل، وانبثق نورها، من أوساطهم إلى غيرهم من الناس، هي إلى التوحيد في العبادة إذ لَا ألوهية سواه، وزكى التوحيد بقوله: (رَبِّي وَرَبَّكمْ). فإن هذا النص يمنع الألوهية من نواح ثلاث: الناحية الأولى - إثبات أن الله هو ربه الذي خلقه ونماه، وأنشأه كما أنشأ غيره، والناحية الثانية - التسوية بينه وبين غيره من الخلق في التكوين والإنشاء والتربية، فهو في هذا لَا يفترق عن أحد من البشر، والناحية الثالثة أنه لَا يمكن أن يكون فيه عنصر الألوهية؛ لأن الله تعالى رباه ونماه، كما كان بالنسبة لغيره، وليس مما يسوغ للإله أن يأكل ويشرب وينمو كسائر البشر. فذاته العلية منزهة عن الأحداث، ولا يليق بها الاحتياج.
وفى النص الكريم إشارة إلى جريمة من جرائم بني إسرائيل، وهي أنهم كذبوا المسيح عليه السلام - وناوءوه كما ناوءوا محمدا، إذ كفروا بالمسيح مع أنه رسول إليهم، وهموا بقتله، وادعى النصارى أنهم قتلوه، وإن هذه الدعوه التي نادى بها المسيح بين ظهرانيهم وفي قوم لم تجد أرضا خصبه في أوساطهم، وحرضوا على المسيح عليه السلام واستمر الاضطهاد للنصارى، حتى غيرت وبدلت لهم في ذلك يد فعالة، وعليهم من وزرها قسط كبير.
وقد حذر المسيح من الشرك، فقال ناهيا محذرا: (إِنَّهُ مَن يشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ).
ظاهر السياق أنه من كلام السيد المسيح - عليه السلام - لبني إسرائيل الذين كانوا أول من وجه إليهم دعوته، ويصح أن يكون ذلك الكلام مستقلا عن كلام السيد(5/2305)
المسيح، وأنه تقرير لمقام الوحدانية في العبا دة، وأنه لَا عبادة من غير وحدانية، وأن الشرك ينفي العبادة، بل تكون ضلالا والإشراك بالله يتناول ثلاث شعب. إشراك في الذات، فيجعل ذات الله تعالى كذات الحوادث، وإشراك في الخلق، فيحسب المشرك أن لغير الله تعالى أثرا في الخلق والتكوين، وإشراك في العبادة.
والنصارى قد أشركوا في هذه النواحي كلها فحسبوا أن الله تعالى ليس منزها حتى يتصف بصفات الحوادث، زعموا أن الله تعالى يكون له ولد، كما يكون لغيره ولد، وأن هذا الولد شاركه في الخلق والتكوين وأنه يعبد معه، بل لا تكاد تجد ذكرا لعبادة الله تعالى من غير إشراك غيره. . (. . . إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).
وجزاء ذلك الشرك أن الله تعالى يحرم به الجنة، بمنعه منها فلا يدخلها، وهذه عقوبة سلبية، فالحرمان عقاب ومنع النعيم عقاب، وهناك عقوبة إيجابية، وهي دخول النار، وإذا كانت الجنة محرمة فمكان إيوائه النار يدخلها ويخلد فيها أبدا، وإنها للجنة أبدا، وللنار أبدا.
ولا يمكن أن ينجيهم من العذاب أحد، ولذلك قال تعالى: (وَمَا لِلظَّالمِينَ مِنْ أَنصَارٍ). أي أنه ليس لظالم من الظالمين نصير قط فالتعبير بقوله: (مِنْ أَنصَارٍ). أي أنه لَا نصير قط لَا من كبير يخاف، ولا من صغير يرجى.
* * *(5/2306)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ... (73)
* * *
في الآية السابقة ذكر الله كفر من قالوا إن الله هو المسيح أو ما يؤدي إليه من القول بأن المسيح ابن الله، وفي هذه الآية يذكر كلاما آخر للمسيحيين، وهو قولهم إن الله ثالث ثلاثة، ويبدو من ظاهر الكلام أن عند النصارى طائفتين إحداهما تقول إن المسيح هو الله، أو ابن الله، فيكون إلها بهذا الاعتبار، والواقع أن النصارى تقرر عندهم التثليث من قبل نزول القرآن، وبعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك التاريخ تتميز به عقيدة النصارى، وشعارهم الصليب رمزا إلى صلب المسيح في زعمهم الذي فنده القرآن الكريم على أن التثليث عندهم لم يجئ دفعة واحدة، فقد تقررت ألوهية المسيح على أنه(5/2306)
ابن الله في زعمهم في مؤتمر نيقية الذي ذكرناه والذي انعقد في سنة 325، وبعد ذلك بنحو ست وخمسين في مجمع القسطنطينية تقررت ألوهية روح القدس، وفرض ذلك الرأي بقوة السلطان كما فرض الرأي الأول الخاص بألوهية المسيح بقوة السلطان، وكان المسيحيون يجتمعون لرده.
ويلاحظ في مجمع القسطنطينية أمران أحدهما - أن الذين حضروا ذلك المجمع 150 من رجال دينهم، وما كان هذا ليمثل النصارى أجمعين، ولكن فرض رأى أولئك الذين سموهم أساقفة على النصارى جميعا، وأسكت كل صوت يخالفه، ولقد كان ذلك المجمع كسابقه مفاجأة لعامة النصارى؛ لأنه ليس بإله عندهم وقد أعلن ذلك مقدونيوس وكانت مقالته ليست هي الشائعة بين النصارى، حتى جاء ذلك المجمع القسطنطيني فأتم التثليث.
ثانيهما - أن الذي دعا إلى عقده بطريق الإسكندرية، كما أنه هو الذي كان رئيس مجمع نيقية وإن لم تكن له الرياسة في المجمع الأخير، وأن الذي دعا إلى تقرير ألوهية روح القدس هو هذا البطريق، وقال كما نقل كتاب تاريخ البطارقة لابن البطريق:
(ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله، وليس روح الله شيئا غير حياته، فإذا قلنا إن روح الله مخلوق، فقد قلنا إن حياته مخلوقة، وإذا قلنا إن حياته مخلوقة، فقد زعمنا أنه غير حي، وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به).
وأن هذه السلسلة التي ساقها تنقض لبناتها إذا قلنا روح القدس ليست روح الله، ولكنها جبريل الأمين الذي خلقه، وبذلك تنقطع حلقات السلسلة، حلقة حلقة.
وروح القدس في زعمهم هي الروح العامة التي تنشر الحياة بين الأحياء، ومما يسترعي النظر، أن الذي قاد فكرة ألوهية المسيح وروح القدس هو بطريق الإسكندرية التي كانت تسودها في ذلك الإبان الأفلاطونية الحديثة التي كانت خلاصتها، أن الإله الأكبر هو العقل الأول، وقد نشأ عنه العقل الثاني، نشوء(5/2307)
المعلول عن علته، أي أن وجودها متصل، وعرفوا روح القدس بالتعريف النصراني الذي ذكرناه، وبذلك تلتقي نصرانية النصارى مع فلسفة الإسكندرانية الواهمة وقائد الدعوة لألوهية المسيح وألوهية روح القدس هو هو بطريق الإسكندرية، فليعرف النصارى زمان ابتعادهم عن اتباع المسيح - عليه السلام - وسببه والمصدر الذي انحرفوا إليه ومن أوردهم مورده غير العذب.
هناك إذن غند النصارى تثليث، وأن الله تعالى ثالث ثلاثة، وأن الله تعالى قد حكم بأنهم كافرون، فقد قال سبحانه مؤكدا القول: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثة). فمن الخطأ الفاحش ما يقال إن الله تعالى عبر عن النصارى واليهود بأنهم أهل كتاب، فليسوا كفارا. . فقد أكد سبحانه وتعالى كفرهم أولا بتكفيرهم لأنهم زعموا أن المسيح هو الله، ويقررون أن الله ثالث ثلاثة، وأكد كفرهم في الحالتين باللام وبقد، فكيف يسوغ المؤمن أن يقول إنهم غير كافرين.
والنصان الكريمان واردان على موضوع واحد، وهو النصارى، فالنص الأول وهو: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ) موضوعه هو ذات موضوع النص الآخر: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَة) وكل آية من الآيتين تبين ناحية من نواحي اعتقادهم، واكتفى في الآية الأولى بزعمهم في المسيح عليه السلام، لبيان مقدار افترائهم عليه ومناقضهم لمن ينتسبون إليه، وأنهم لَا يصح أن يسموا مسيحيين، لأنه بريء منهم، وذكرت الثانية لبيان حقيقة اعتقادهم.
(وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ).
بعد أن بين سبحانه وتعالى كفر من يقول بالتثليث بيّن سبحانه وتعالى العقيدة الصحيحة، فقال سبحانه ذلك النص الحكيم، ومؤاده نفي الألوهية نفيا مطلقا عن غير إله واحد، والصيغة تفيد استحالة أن يكون الإله، غير واحد، لأنه لا ينتظم الكون والسماء والأرض، ومن فيهما كما جاء في قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ).(5/2308)
وكما أن في النص تقريرا لعقيدة التوحيد المستقيمة، فيه أيضا توبيخ موجه إليهم على مخالفتهم المعقول، ومجانبتهم ما يقره أهل العقول، ولذلك حذرهم سبحانه عن أن يسيروا في طريق الغي وأن يعودوا إلى الحق، فقال سبحانه:
(وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) هذا تحذير من الله سبحانه لهم عن أن يستمروا في هذا القول الكاذب على الله تعالى، وعلى رسوله المسيح - عليه الصلاة والسلام - ومعنى الانتهاء يتضمن أمرين: أن يعدلوا عن ذلك القول وألا يعتقدوه ولا يؤمنوا به، ولم يكتف بالانتهاء عن العقيدة، ولكن الله سبحانه ذكر انتهاء عن القول للإشارة إلى أن هذا كلام يقولونه، ولا يمكن أن يكون عقيدة يعتنقونها، لأنه كلام لَا يتفق مع العقل، وقد كذبهم عيسى - عليه السلام - بما قرره في دعوته، وبين أن الشرك ظلم عظيم، وأن من يشرك بالله مأواه جهنم، وحرم الله تعالى عليه الجنة.
والخلاصة: أن هذا الادعاء قول يرددونه معا فيلحدون به وهو باطل، إذ كيف يولد ويكون إلها، وقد هددهم بالعذاب الشديد يمسهم، وهنا إشارات بيانية:
الأولى - التعبير " يمسهم " إذ المراد أنه يصيب جلدهم، وهو موضع الإحساس فيهم، أي أن العذاب المؤلم مستمر؛ إذ يمس جلدهم، ويصيب موضع الإحساس فيهم.
الثانية - أن من هنا بيانية أي يمسهم ذلك العذاب ما داموا مصوين على قولهم وكذبهم، وقال: (الَّذِينَ). وعبر بالظاهر دون الضمير للإشارة إلى سبب العذاب وهو كفرهم، لأن التعبير بالموصول يشير إلى أن الصلة هي سبب الحكم.
الثالثة - أن الله سبحانه وتعالى أكد العذاب الشديد ينزل بهم بالقسم المطوي الذي دلت عليه اللام، والنون المؤكدة، وتنكير عذاب، ووصفه بالألم الشديد؛ لأن التنكير هنا للتعظيم والتكثير.
* * *(5/2309)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
(أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
* * *
بعد أن حذرهم سبحانه من الاستمرار على قولهم الإفك، وادعائهم على المسيح - عليه السلام - رغبهم في الإيمان بعد الترهيب من العذاب الأليم، وأن كتاب الله سبحانه وتعالى يجمع بين الترغيب والترهيب، ليؤمنوا خوفا من عذاب الله تعالى أو طمعا في ثوابه، أو لهما معا، سيق الكلام لهذا، وليبين أن باب المغفرة مفتوح لمن استغفر، وطلب الغفران.
وقوله تعالى: (أَفَلا يَتُوبُونَ) الاستفهام للدلالة على أمور ثلاثة: أولها - توبيخهم على ما كان منهم وأنه يستحق التوبة والاستغفار، وثانيها - فيه تعجب من بقائهم على حالهم من الإفك والإصرار عليه من أنه لَا يقبله عقل، ولا يذعن له مصدق، بل لَا يتصوره متصور. ويدل ثالثا على تحريضهم على التوبة، أي الرجوع إلى الله تعالى، وما تقره العقول، ولا تنبو عنه الأفهام، وعلى طلب الغفران عما سلف منهم من قول، وإن باب الغفران مفتوح، ولذلك ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته: (وَاللَّهُ غَفُورٌ رحِيم). والله جل جلاله المعبود، ولا معبود بحق سواه يغفر الذنوب لمن تاب ورجع إليه وهو رحيم بعباده لا يرضيه أن يشقوا، وأن رحمته سبقت عذابه وأنه سبحانه ليفرح بتوبة عبده أكثر من فرح العبد بقبولها، لأن الله تعالى يريد بعبده الصلاح والإصلاح، ولا يريد له الفساد والإفساد، وإذا تاب العبد انقلب من الفساد إلى الصلاح.
* * *(5/2310)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
(مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ... (75)
* * *
في هذا النص الكريم (تسجيل) لحقيقة عيسى ابن مريم وأمه، وأن ما اختصا به لَا يمكن أن يجعلهما إلهين من دون الله كما قالت البربرانية وغيرها من فرق النصارى، وكما حكى الله تعالى عنهم وعن عيسى عليه السلام في قوله تعالى له: (. . . أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ. . .).
وأن النص الكريم الذي نحن بصدد ذكر معانيه، فيه بيان أن عيسى وأمه ليس فيهما ما يجعلهما مختصين بصفات ليست في غيرهما فعيسى عليه السلام(5/2310)
ليس إلا رسولا وقد خلت أي مضت من قبله الرسل فإبراهيم كان رسولا، ومن قبله كان نوح رسولا، وهؤلاء مضوا، ولم يدع الألوهية لهم أحد كما نحلتموها يا معشر النصارى للمسيح - عليه السلام - وإذا كان له معجزة خارقة للعادة بإحياء الموتى، فأولئك كانت لهم معجزات لَا تقل عنها تأثيرا، ولا تقل عنها في ذاتها.
وقد قال الزمخشري في ذلك وتبعه من بعده: (ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله جاء بآيات من الله تعالى كما جاءوا بأمثالها أن أبرأ الله الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى على يده، فقد أحيا سبحانه وتعالى العصا وجعلها حية تسعى وفلق بها البحر وشق على يد موسى، وإن خلقه من غير ذَكَر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى).
ونزيد على ما قاله الزمخشري أن معجزة كل نبي بما يناسب عصره، فعصر سيدنا عيسى كان عصرا يؤمن بالأسباب المادية، وكان في عهده الفلاسفة الطبيعيون، الذين لَا يؤمنون بغير الأسباب التي يرونها، فكانت معجزات عيسى عليه السلام خرقا حسيا صارخا لهذه الأسباب، فولادته كانت بغير السبب المعروف، إذ كان من غير أب، وما كانوا يحسبون أن الأكمه الذي ولد أعمى يبصر، وما كانوا يعلمون أن البرص يشفى منه، فشفاه الله تعالى على يديه، وما كانوا يرون الحياة ترد بعد الوفاة، فأحياها الله تعالى على يديه، كما أجاب لإبراهيم عندما دعا ربه قائلا: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260).
جاء عيسى - عليه السلام - فكانت حياته وآياته كلها داعية لبطلان ذلك الاعتقاد بأنه لَا شيء إلا الأسباب والمسببات. ولكنهم تمكنوا من اتباعه من بعده بثلاثة قرون، فأخرجوهم من اتباعه، وأعادوهم إلى الأسباب والمسببات، وأخرجوه من البشر، وزعموا أنه إله.(5/2311)
وأمه لَا تخرج عن أنها مخلصة صادقة تابعة للنبيين من قبله وله عليه السلام، والصدِّيق هو الذي لَا يقول إلا صدقا، ولا يكذب، ويصدق الحق ويدعو إليه، ويستمر عليه، فالصديق هو الصادق في قوله وعمله والمصدق للحق المذعن له إذا جاءه، وقال الأصفهاني في مفرداته: (الصديقون هم قوم دون الأنبياء في الفضيلة) فهم المرتبة الأولى بعد الأنبياء.
ويلاحظ أنه عند ذكر عيسى في القرآن يذكر أنه " المسيح ابن مريم " تأكيدا لبشريته، لأنه يرى بالحس مولودا بعد أن لم يكن، وأن ولادته من مريم البتول فكيف يتركون المحسوس إلى أوهام، وحياتهما تدل على البشرية، ولذا قال سبحانه:
(كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) ذكر الله تعالى هنا بيان خواصهما الآدمية الحيوانية بعد بيان منزلتهما عند الله تعالى، إذ إن الأول رسول، والثانية صديقة، ولا تتجاوز منزلتهما عند الله تعالى ذلك، وهما في الحياة المادية كسائر الأخياء من الأناسي يأكان الطعام ويعملان على ذلك، وهما لهذا محتاجان إلى غيرهما، والإله لَا يحتاج لغيره، ويقول الزمخشري في ذلك: (إن من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام، وما يتبعه من الهضم، والنقض - لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من البشر!!) ولكنهم مع كل هذا تركوا الأعراض التي تدل على الآدمية وأماراتها، ولذلك قال تعالى: (انظُرْ كيْفَ نُبَيِّن لَهُمُ الآيَاتِ). أي انظر يا محمد إلى الأدلة على آدميته التي هي قائمة، وكيف بيناها، وصرفنا لهم القول الذي يدل على الحقيقة، ولكنهم ماديون يؤمنون بالمادة وأسبابها، ولذلك انصرفوا عن الحق وعن الإيمان، وخضعوا لأوهام، ولذا قال تعالى: (ثمَّ انطرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ). وقد عبر بـ " ثم "، للدلالة على بعد بين ما تدل عليه الآيات وحالهم، ثم على بُعد ما يقولون عن الحق، إذ يرون بالحس إنسانا يولد، ثم يفرضونه إلها بزعمهم؛ والإفك الصرف عن الحق، يقال:(5/2312)
أفكه يأفكه إذا صرفه عن الأمر أو الحق، ولذلك يقال للكذب إفك؛ لأنه صرف عن الحقيقة، والمعنى الجملي انظر كيف ينصرفون عن الحق لأوهام لَا يعقلونها مع قيام الأدلة الحسية على بعضها، ولكن ذرهم في غيهم يعمهون. اللهم لَا تصرفنا عن الحق بأوهامنا، إنك سميع الدعاء.
* * *
(قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
* * *(5/2313)
الكلام موصول بما قبله؛ لأن أولئك النصارى يعبدون عيسى - عليه السلام - ومنهم من يعبد معه أمه، ويقولون هما إلهان من دون الله، ومنهم من يعبد ثلاثة ويجعل الله تبارك وتعالى ثالثهم، تعالى الله سبحانه وتعالى عن ذلك الوهم الباطل، والكذب الفاحش، وقد بين سبحانه وتعالى أن عيسى - عليه السلام - وأمه الصديقة بشر كسائر البشر، يحتاجون إلى غيرهم، وهما آدميان ياكان، ويفعلان كل ما هو من مقتضيات الإنسانية ومظاهرها.
وقد بين مع ذلك كيف يعبدون مع هذه الحالط، فقال لنبيه، قل لهم:(5/2314)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
(أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا). الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، والتعجب مما وقع منهم، وإنكار الواقع، توبيخ على سوء الفعل، وسوء التقدير، فهم يعبدون بشرا أو حجرا ويتركون عبادة الله تعالى، كما في قوله تعالى: (مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) للعموم، وهي بهذا العموم تشتمل على ما يعبد من حجر وغيره، ولعدم اقتصاره على عيسى وأمه ذكر بلفظ (ما) الدال على العموم، لَا بلفظ (من) الدال على العقلاء.
ومعنى لَا يملك ضرا ولا نفعا: أنه لَا يملك المرض والسقم، ولا البلاء ولا الشدائد، كما لَا يملك النفع بدفع الضر، ولا جلب الخير، ولا إنزال الغيث، ولا إرسال الرياح مبشرات بين يدي رحمته، ولا غير ذلك مما ينفع الوجود كله. وهنا لَا بد أن نتعرض لأمرين: أولهما - كيف يقال إنهم يعبدون من دون الله مع أن المشركين يقولون: (. . . مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى. . .).
والنصارى يعبدون ثلاثة أو اثنين على اختلاف طوائفهم ولم يتركوا عبادة الله ونقول: أن من يشرك العبادة مع الله تعالى لَا يقال إنه عبد الله؛ لأن عبادة الله تعالى تقتضي أن تخلص العبادة له سبحانه، وألا يعبد سواه بأن يفرده بالعبادة وحده إذ لَا يستحق العبادة معه أحد، ويقال حينئذٍ إنه عبد ما دون الله تعالى، إذ كانت عبادته ضد عبادة الله تعالى.(5/2314)
ثانيهما - أنه قد يقول بعض الجاهلين إن من الناس من يضر ومن ينفع، ونقول: إنه نفع جزئي، وضرر جزئي، ولا يكون إلا بإرادة الله سبحانه وتعالى، ولو اجتمع أهل الأرض على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله تعالى عليك، لم يضروك، ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله تعالى لك لم ينفعوك، وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته: (وَاللَّهُ هُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
أي أنهم يتركون عبادة الله تعالى وحده وهو العالم بكل شيء الذي لا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو العالم علم من يسمع ويرى، وهو بهذا العلم المحيط الدقيق الذي أحاط بكل الوجود يكون هو وحده الذي يضرهم وينفعهم، يتركونه ليعبدوا ما لَا ينفع ولا يضر، ولكنه ضلال العقول.
* * *(5/2315)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ... (77)
* * *
الغلو: تجاوز الحد، وهو في الدين التعصب له، والتشدد فيه، وتجاوز الحد في أداء ما يطلب كالانهماك في العبادة كما كان يفعل بعض المتشددين في دينهم الذين نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ورد في الأثر: " لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، ولكن سددوا وقاربوا " (1) وكما نهى النبي - عليه الصلاة والسلام - قوما عكفوا على العبادة، وتركوا نساءهم، فقال عليه الصلاة والسلام: " ما بال أقوام تركوا النساء وقاموا الليل وصاموا النهار وإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر ولم أنقطع عن النساء " (2).
وإن هذا النوع من الغلو، وإن كان غير محمود ولا مستحسن في الإسلام، لا يمكننا أن نعده غير حق في أصله، لأن أساسه حق، وإن غالوا فيه وربما يقول كثيرون إنه غير الحق.
________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه أحمد: باقي مسند المكثرين باقي المسند السابق (13122). ورواه البخاري بنحوه: النكاح - الترغيب في النكاح (5063)، ومسلم: النكاح - استحباب النكاح لمن تاقت إليه نفسه (1401).(5/2315)
ونعود إلى النص الكريم. أمر الله تعالى نبيه أن ينادي أهل الكتاب، ويخاطبهم بقوله: (لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ)، والمعنى لَا تتجاوزوا الحد، وتشددوا في دينكم غلوا غير الحق، فكلمة غير الحق وصف لمحذوف، والوصف كاشف لأن الغلو دائما غير الحق عندهم، لأنه مجاوزة للحد، وكل مجاوزة للحد لا يمكن أن تكون حقا، وقد قال الزمخشري أن من الغلو ما هو حق، كالغلو في التنزيه، ومنها ما هو غير حق كالغلو الذي وقع فيه النصارى من الإفراط في تقديس عيسى وأمه، يصح أن يكون (غير الحق) منصوبا على أنه حال من الدين نفسه أي لَا تغلوا وتشددوا في التمسك بدينكم، وتمنعوا أنفسكم عن أن يدخلها النور حال أن دينكم هو غير الحق.
وفى الجملة النص لمنع تشدد النصارى واليهود في التمسك بدينهم غير الحق، والامتناع عن قبول الهداية التي جاءت إليهم، وهم في هذا التشدد يتبعون الأهواء، ولا يتبعون الحق، وهم مقلدون لمن ضلوا وأضلوا.
(وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ) الهوى معناه الميل إلى ما فيه شهوة ولذة، وخير الناس من كان هواه ولذته في طاعة الله تعالى، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روي في الصحاح: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به " (1) ولكن كلمة الهوى لَا تكاد تستعمل في القرآن إلا في مقام الذم في الاتباع، جاء في تفسير فخر الدين الرازي ما نصه: قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه قال تعالى: (. . . وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سبِيلِ اللَّهِ. . . .) (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى).
(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى). (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ. . .). وقال أبو عبيدة: لم نجد الهوى إلا في موضع الشر، لا يقال: فلان يهوى الخير، إنما يقال يريد الخير ويحبه. . وقيل سمي الهوى هوى؛ لأنه يهوي بصاحبه في النار، وأنشد في ذم الهوى:
________
(1) سبق تخريجه.(5/2316)
إن الهوى لَهُوَ الهوان بعينه ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا
جملة القول في ذلك أن الهوى يطلق ويراد به تجنب حكم العقل، والاتجاه إلى حكم الشهوة والإحساس من غير نظر إلى منطق العقل وما يدعو إليه الدليل، وسواء السبيل: وسط الطريق، والمراد أنهم ضلوا عن الحق، وهو دائما بين الإفراط والتفريط، فهم ضلوا عن القصد والحق والاعتدال.
ولنتكلم في معنى النص الكريم، أن الله تعالى في علمه وحكمته ينهى أهل الكتاب عن الاستمرار في الاتباع لقوم قد ثبت ضلالهم قديما، وكانوا من قبل في ضلال بعيد، وهم عبدة الأوثان، ومن كان على شاكلتهم ممن اخترعوا آلهة على هواهم لَا على منطق استقاموا عليه، ولا على نور من السماء اهتدوا بهديه، وقد سلكوا مسلكهم، فأدخلوا الوثنية في دينهم واتبعوا فلسفة ضالة مضلة.
وهؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم، وضلوا بسبب ذلك أضلوا خلقا كثيرا، حتى شاع بينهم الانحراف عن الطريق، فكانت وثنية اليونان والرومان والفلاسفة هي التي أضلت خلقا كثيرا، فالضلال الأول هو ضلال الوثنية من قبل وهي التي أضلت النصارى، والإضلال هو سيطرة ذلك على من سيطروا عليهم، والضلال الأخير هو عدم خضوعهم لحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتركهم سبيل المؤمنين الذي كان فيه القصد والاعتدال فتأثرهم بأهواء من ضلوا من قبل وأضلوا جعلهم يأخذون طريق الضلال الأخير، وهو عدم الأخذ بهداية الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
* * *(5/2317)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78)
(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ... (78)
* * *
أي لعن الله تعالى الذين كفروا من بني إسرائيل بأن طردهم من رحمته، وجعلهم مظهرا للحسد والبغض في هذه الأرض، وكأن الحق على غيرهم من الناس في جبلتهم الأولين، وقد مسخوا أنفسهم، وشوهوا أخلاقهم فلعنهم الله تعالى، وهنا مسائل لَا بد من الإشارة إليها:
الأولى - لماذا بني (لُعِنَ) الفعل للمجهول ولم يذكر الفاعل؟ والجواب عن ذلك أن الفاعل معلوم، وهو الله تعالى؛ لأن داود وعيسى نبيان يتكلمان عن الله(5/2317)
تعالى، فما ينطقان عن الهوى، وهما لَا يملكات الطرد من رحمة الله تعالى، وأن في البناء للمجهول فوق ذلك إشعارا بأن اللعن يستحقونه من سوء أعمالهم، ثم إن البناء للمجهول فيه إشارة إلى عموم اللاعنين مع الله سبحانه وتعالى؛ إذ يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا.
الثانية - أن اللعنة منصبة على الذين كفروا، وليست على عمومهم، وذلك من إنصاف الله في أحكامه، وإن كان الذين آمنوا بنسبتهم للذين كفروا عددا قليلا، كما قال تعالى: (. . . مِّنْهمْ أُمَّةٌ مقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ منْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ). وأنه واضح أن من أسباب لعنتهم كفرهم مع عصيانهم؛ لأن التعبير بالموصول يفيد أن الصلة من أسباب الحكم.
والثالثة - أن الله تعالى ذكر أن اللعن جاءهم على لسان داود وعيسى ابن مريم، وهما نبيان جاءا بعد موسى - عليه السلام - وأحدهما كان نبيا مجاهدا محاربا، قادهم إلى مواطن الظفر، ومع ذلك لعنهم الله على لسانه، والثاني كان رسولا مسالما ومع ذلك لعنهم بأمر الله تعالى، فهم ملعونون في الحرب والسلم على سواء.
ولقد جاء في بعض كتب التفسير عن ابن عباس رضي الله عنهما - أن أهل إيليا عندما كان اليهود بها ودنسوها، لما اعتدوا يوم السبت، قال داود عليه السلام: اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء، ومثل المنطقة على الحقوين، ولما طلبوا المائدة، وقال الله تعالى: (. . . إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ. . .). قال عيسى عليه السلام: اللهم عذب من كذب بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين.
وإن الذي يبدو لنا أن هذا بيان لما نزل بهم من لعن مستمر جاء هذا اللعن على لسان داود ومن جاء بعد حتى كان عيسى، فكان لعن الكافرين عاما، يستوي في ذلك من كان يجاهد بالسيف، والحرب، ومن كان يجاهد بالسلم، فلعنهم الله إلا أن يتوبوا.(5/2318)
(ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ) هذا بيان لسبب اللعن والطرد من رحمة الله تعالى يوم القيامة، فلم يكن لعنهم لذواتهم، وإنما لأعمالهم وإيذائهم، فجملة أعمال أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب عصيان الله سبحانه وتعالى، أمرهم بعبادة الله وحده، فكان منهم إشراك، وأمرهم بالإيمان باليوم الآخر فكان منهم من أنكره، وأمرهم بإطاعة النبيين ففريقا كذبوا، وفريقا يقتلون، وأمرهم بألا يعتدوا يوم السبت فاعتدوا، وأمرهم بألا يأكلوا الربا فأكلوه، وهكذا كانت أعمالهم نكرا وعصيانا، وكان أشد عصيانهم أن اعتدوا على خلق الله تعالى، فكانوا حاقدين على كل مخلوق سواهم، وبالغوا في إعنات الناس أن اشتدوا بمعونة غيرهم، وبالغوا في الإفساد وإيقاد الفتن إن ضعفوا عن المقاومة الظاهرة.
والعصيان لله وأخصه الاعتداء هو سبب الطرد من رحمة الله، وعموم العصيان يدخل فيه كل سبب الطرد واللعن فلا يوجد سبب غيرهما.
وقد عبر عن العصيان بالماضي للإشارة إلى قرار العصيان في طبائعهم ونفوسهم، وثباته فيها، وعبر عن الاعتداء بالمضارع، لأنه مستمر قائم، وبذلك كان الجمع بين الماضي والمضارع للدلالة على الثبات والقرار والاستمرار، ونسب العصيان إليهم جميعا، والاعتداء إليهم جميعا، لأنه كان من بعضهم، وأقره سائرهم أو سكت عنه باقيهم، فكان منهم وقوعا ورضا، ولذا قال سبحانه:
* * *(5/2319)
كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
(كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
* * *
هذا النص فيه معنى التفسير للآية السابقة، لأنه يبين عموم العصيان والاعتداء فيهم، لأن الاعتداء في الكثير يقع من بعضهم، فكيف ينسب إلى كلهم، وفي هذا النص إشارة إلى أن سبب فساد الأمم في عمومها هو السكوت على المنكر فيها، والمنكر هو الأمر القبيح في ذاته وينهى الشارع عنه، والتناهي يطلق بإطلاقين، وهو الانتهاء عن الفعل الآثم، ومعنى النص على هذا: أنهم يعصون الله تعالى ما أمرهم ويصرون عليه، ويستمرون على فعلهم، فلا يتوبون ولا يرجعون، ولكن ليس هذا هو الظاهر المشهور.(5/2319)
والإطلاق الثاني لمعنى التناهي أن ينهى بعضهم بعضا إذا وقع المنكر فيهم وهو الظاهر، والتناهي عن المنكر يشتمل على ثلاثة معان كلها داخل فيه: أولها - أن يوجد فيهم ناه عن الشر يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، سواء أكان الناهي عددا كبيرا، أم كان عددا قليلا، فليست الكثرة مطلوبة، إنما المراد الوقوع منه.
ثانيها - أن يمنع الفعل قبل وقوعه أو يقلله بدفع الكثير منه.
ثالثها - أن يستنكره؛ لأن السكوت عنه رضا، وبذلك يدفع الاعتراض الذي أورده بعض المفسرين وهو كيف يتصور النهي عن الفعل بعده، فنقول: إن النهي عن المنكر بعد وقوعه إنما هو استنكاره، لأنه يمنع الفعل في المستقبل.
وقد نسب الفعل إليهم أجمعين إذ وقع من بعضهم، وسكت عنه سائرهم ولذا قال سبحانه: (لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ). وقد أكد سبحانه وتعالى نسبة الفعل إليهم باللام والقسم المطوي، وذمهم ذما مؤكدا، فالفعل بئس يدل على الذم، والذم كان منصبا على الفعل رجاء إيمانهم، وقد روى ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من رضي عمل قوم فهو منهم، ومن كثر سواد قوم فهو منهم " (1).
والآية تدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوام الأمم، ولا صلاح لهم إلا إذا قاموا بحقه، فالأمم تصلح بالأمر بالمعروف، وتفسد بتركه، ولذلك اعتبره القرآن خاصة الأمة الإسلامية، وبه خيرها، قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. . .).
________
(1) رواه الديلمي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. جامع الأحاديث (22969) ج 7، ص 349.(5/2320)
وقد قال عليه الصلاة والسلام: " والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم " (1). ويقول عليه الصلاة والسلام: " إن الله لَا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه " (2). ولقد تنبأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن ضياع المسلمين عندما يختفي فيهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد روى أنس بن مالك، أن بعض صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه قائلين يا رسول الله: متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: " إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم ". قالوا: يا رسول الله، وما ظهر في الأمم قبلنا؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: " إذا كان الملك في صغاركم، والفاحشة في كباركم، والعلم في رذالكم " (3).
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو عصام الأمة وهو مكون الرأي العام الفاضل، ويقال: إن الأمة كلها تعصي إذا ظهر العصيان، ولم تستنكره.
* * *
________
(1) رواه أحمد: باقي مسند الأنصار - حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه (22790).
(2) رواه أحمد: مسند الشاميين - حديث عدي بن عميرة الكندي (17267).
(3) تَفْسيرُ مَعنَى قَوْلِ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " وَالعِلْمُ فِي رُذَالَتِكُمْ " إِذَا كَانَ العِلْمُ فِي الْفُسَّاقِ.
والحَديث رواه ابن ماجه: الفتن - قوله تعالى: (عليكم أنفسكم) (4015)، وبنحوه رواه أحمد: باقي مسند المكثرين (12531) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.(5/2321)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80)
(تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... (80)
* * *
هذا عمل من أعمال اليهود تذهب بهم بغضاؤهم، وحقدهم على المؤمنين إلى أن ينضم كثيرون منهم للمشركين، فالمراد بالذين كفروا أولئك الذين كفروا بالوحدانية، وبلغوا غاية الكفر وأقصاه، وذلك يدل عليه التاريخ، فقد ذهب قوم من اليهود، وألبوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين، ووالوهم، والتولي الموادة والمناصرة والانضمام إليهم، وفي كل حرب دخلها النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اليهود مع عهودهم الموثقة مع المؤمنين يوالون المشركين زاعمين أنهم فاتحو المدينة، فبنو النضير خانوا العهد وبنو قريظة وبنو قينقاع كذلك.(5/2321)
وفسر بعض العلماء الذين كفروا بالجبابرة من الملوك الكافرين، فهم يتولون كل ذي قوة، ولو كان جبارا عاتيا، وينسب ذلك الرأي إلى محمد الباقر بن على زين العابدين، وفيه غرابة، وإن كان معناه سليما:
(لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) (بئس) كما ذكرنا تدل على الذم، و (ما قدمت) أيديهم هو ما قدموه من عصيان وعدم التناهي عن المنكر، والاعتداء وتولي المشركين والجبابرة، وقد أكد سبحانه وتعالى الذم بالقسم واللام، والتعبير بما قدمت أنفسهم يشمل الفعل والقول، والحقد والحسد والمظهر في هذا الذم ينالهم أمران خطيران، أحدهما - سخط الله تعالى وحسب ذلك شرا في مآلهم، وأنهم مخلدون في العذاب، وقد أكد سبحانه عذابهم بكلمة - هم - وتقديم (فى العذاب)، وتخليده، وقد بين سبحانه أن ولاية المشركين والجبابرة أمر مذموم لأنه ضد الخير، فقال:
* * *(5/2322)
وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
(وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ ... (81)
* * *
إن أولئك اليهود يحسبون أنهم يؤمنون بالله، وأن لهم أنبياء جاءوا إليهم، وكتبًا خوطبوا بها، فيبين الله سيحانه وتعالى أنهم لو كانوا يؤمنون بالله حق الإيمان وأنه واحد أحد فرد صمد، وأن له رسالة بعثها، وأن لهم نبيا خاطبهم عن الله تعالى ما تركوا ولاية الموحدين، واختاروا ولاية المشركين الذين لَا يوحدون الله ولا يؤمنون بنبوة نبي مرسل، ولا بكتاب منزل ولكنهم حاقدون حاسدون متمردون على الحق إشباعا لأهوائهم، ولذلك ختم الآية بقوله:
(وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) استدراك فيه بيان لحالهم، وسبب تركهم موالاة المؤمنين، فذكر أن كثيرا منهم خارجون متمردون على الحق بسبب ما في قلوبهم من حقد وحسد، ونرى إنصاف القرآن بينا واضحا إذ لم يرمهم جميعا بالفسوق عن أمره، وقد أكد فسوق الأكثرين بوصفهم بالفسق، وكأنه وصف مستمر لهم، وليس حالا عارضا، اللهم اهدنا فيمن هديت، واشف قلوبنا من الغل والحسد.
* * *(5/2322)
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
* * *
كان ما تقدم من آيات من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ. . .). في شأن المؤمنين في معاملتهم لأهل الكتاب، وقد ذكر أحوالهم مع المؤمنين، وخص اليهود بالذكر؛ لأن عداوتهم لأهل الإيمان كانت مستحكمة، وإيذاءهم للمؤمنين كان مستمرا، ولقد كان القرآن الكريم منصفا للحقيقة كشأنه دائما - عندما فرق بين النصارى من جانب واليهود والمشركين من جانب، ولذلك قال سبحانه: (لَتَجدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً).(5/2323)
فى هذا النص الكريم يؤكد سبحانه وتعالى بالقسم وبنون التوكيد - أن أشد الناس عداوة للمؤمنين اليهود والذين أشركوا، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا كان الخطاب له - عليه الصلاة والسلام: فإن كلمة:(5/2324)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)
(لَتَجِدَنَّ). فيها معنى توكيد العداوة، لأن النبي - عليه السلام - يجدها محسوسة واضح في المعاملات التي تقع بينه وبين اليهود، وبينه وبين المشركين، وما كان من النصارى معه، ويكون من شدة العداوة، وقرب المودة هو ما كان من معاصرى النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليهود والذين أشركوا، والذين قالوا إنا نصارى.
ويصح أن يكون الخطاب لكل أهل القرآن الذين يقرءونه ويخاطبون بأحكامه وآياته، من الذين آمنوا، ويلاحظ هنا عدة أمور:
أولها - أنه سبحانه ذكر اليهود قبل الذين أشركوا؛ لأن عداوة اليهود منشؤها الحقد والحسد اللذان قد يرسخان في النفس اليهودية، وهما دائما فيها ما دام اليهود على هذه الحال التي أركسوا أنفسهم فيها، وقد عبر عنهم بالوصف، ولم يقل الذين هادوا للإشارة إلى أن العداوة حال دائمة مستمرة مستحكمة، حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " ما خلا يهودي بمسلم إلا هَمَّ بقتله " (1) ومع أن اليهود أقرب في الاعتقاد من النصارى؛ تجد النصارى في الماضي كانوا أقرب، والقرب في الاعتقاد سببه الشائع بينهم هو الوحدانية، أما النصارى فإن الشائع بينهم هو التثليث ولكن العداوة لَا تتبع القرب أو البعد في الاعتقاد، بل تتبع مقدار الحسد والبغض، وفوق ذلك، فإنه من المقرارت في علم الآراء والمعتقدات أنه كلما تقاربت العقيدتان تنازعتا، وكان التناحر أشد، لطمع كل طائفة في أن تأخذ الأخرى إليها، وقد عبر
________
(1) رواه ابن النجار عن أبي هريرة رضي الله عنه. جامع الأحاديث (19164) ج 6، ص 337. وفي كنز العمال - متفرقات الأحاديث (11259) ج 1، ص 761: ما خلا يهودي بمسلم قط إلا حدث نفسه بقتله. وفي كشف الخفا (2210): - ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله.
رواه الثعلبي وابن مردويه وابن حبان في الضعفاء عن أبي هريرة مرفوعا. وفي رواية ابن حبان: " يهودي " و " هَمَّ "، بالإفراد.(5/2324)
سبحانه عن المشركين بـ " الذين أشركوا "؛ للإشارة إلى أن الشرك قريب الزوال منهم، وهو السبب، أما اليهود فالسبب هو الحقد وليس قريب الزوال، إذ استكنَّ في قلوبهم أن كل مخالف لهم في دينهم عدو لهم يحقدون عليه، ولأنهم كانوا يريدون أن تكون النبوة دائما فيهم لَا تخرج عنهم.
الأمر الثاني - أن العداوة مقابلة بالمودة، فالأمر ليس خلافا في الاعتقاد، بل هو المودة أو العداوة فليس لقرب الاعتقاد أو بعده أثر في العداوة، وعلى هذا كان اليهود أشد عداوة من النصارى، والنص يومئ إلى أنهم أكثر عداوة من الذين أشركوا بتقديم اليهود، لأن المودة لم تقطع من كل الوجوه بين النبي عليه السلام والمشركين من قريش، بل إن ما كان يفرقه الاعتقاد يقابله مودة الرحم، وإن كانت حروب.
الأمر الثالث - لماذا عبر عن النصارى بقوله تعالى: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى).
وقد أجاب عن ذلك بعض المفسرين بأنه تشريف للنصارى، لأن عيسى - عليه السلام - عندما قال: (. . . مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّه قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّه. . .). فقوله تعالى: (الَّذِين قَالُواً إِنَّا نَصَارَى). تذكير بهذا الموقف الكريم في مقابل قول اليهود عندما دعاهم موسى إلى دخول الأرض المقدسة فقد قالوا: (. . . فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ). هذا كلام بعض المفسرين ولكن يلاحظ أن الذين قالوا نحن أنصار الله هم الحواريون، والذين كانت بينهم مودة المسلمين ليسوا هم أن أولئك هم الحواريون الذين سلمت عقيدتهم، أما الذين يتحدث عنهم فهم كانوا من أهل التثليث ثم تاب الله تعالى عليهم، ولقد ذكرهم بهذا العنوان: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى). في مقام الذم، فقد قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ. . .).
ولأجل هذا لَا نقول إن التعبير بقالوا إنا النصارى فيه تشريف، إنما هو بيان أن هؤلاء يقولون أنهم نصارى، ولكنهم ليسوا نصارى عيسى - عليه السلام - وإن كانوا من بعد ذلك قد اهتدوا.(5/2325)
الأمر الرابع - من هم اليهود الذين هم أشد عداوة، ومن هم النصارى الذين كانوا أقرب مودة؛ قال بعض المفسرين: إن المراد منهم الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كانوا كذلك حقا، ولكن قال ابن جرير: إن الوصف عام، فاختار أن هذا الكلام ينطبق على كل أقوام كانوا بهذه المثابة.
وعندي أن النصارى ليسوا النصارى في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط، بل كل من ينطبق عليهم وصف المودة في كل عصر، ومن لَا ينطبق عليهم، فهم إلى اليهودية أقرب، وإليها أدنى، وقد قال سبحانه: (ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ). في هذا الكلام بيان السبب، في قرب المودة الذي كان بين المؤمنين والنصارى في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن توافرت الأسباب، ولم يكن القسس والرهبان دعاة عداء وبغضاء؛ والقسيس هو عالم النصارى بأحكام دينهم، والمتفحص أحوالهم، والمرشد لهم، وأصله من " قَسَّ " بمعنى تتبع، فالقسيس لَا يترك الإرشاد، والرهبان جمع راهب كركبان جمع راكب، وتطلق كلمة رهبان على المفرد، كما تطلق على الجمع، وهو الرجل الزاهد المتبتل المنصرف للعبادة في زعمهم، وهو يقوم بعمل القسيس في العبادة، بيد أنه ينفرد عنه بالانصراف الكلي عن الدنيا ويتخصص للعبادة والإرشاد والتوجيه.
ولا شك أن حال القسيسين والرهبان في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا كذلك، وكانوا القائدين للاهتداء بهدْيِ الإسلام، فقد أخذوا بالكثيرين من نصارى الجزيرة العربية، واتبعوا الإسلام، واستمعوا إلى دعوة النبي عليه السلام، وأن هذا النص ينطبق على كل قسيس يدعو بدعاية الحق، ويكون ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وفى ذلك الكلام تعريض باليهود الذين تركهم أحبارهم وعلماؤهم في غيهم يعمهون، فكانوا لَا ينتاهون عن منكر فعلوه، ولم ينههم الربانيون والأحبار عما ارتكبوا من جرائم، وما امتلأت به قلوبهم من غل وحقد.(5/2326)
وهناك مع ما كان القسيسون والرهبان عليه وصف آخر هو السبب في إيمان الكثيرين منهم في الجزيرة العربية، ثم الشام ومصر من بعد ذلك، وهو أنهم: (لا يَسْتَكْبِرُونَ). وقد جعل ذلك سببا قائما بذاته، وأكد سبحانه وتعالى سببيته بـ " أن " وبالجملة الاسمية، وعبر سبحانه في خبر الجملة الاسمية بالفعل المضارع لتصوير حالهم في عدم الاستكبار، وأن الاستكبار هو داء اليهود الدوى، وهو داء المشركين فاليهود يحسبون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم من صنف فوق الناس، وأن الجميع دونهم، فذهب بهم غلواؤهم إلى الكفر والضلال، وقتل الأنبياء وتكذيبهم، والمشركون ما كفروا بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، إلا أنهم رأوا العبيد والفقراء والضعفاء هم الذين يتبعونه، فذهب بهم اعتزازهم بالباطل ألا يتبعوه، وقالوا مقالة قوم نوح له: (. . . وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ. . .).
ونصارى الجزيرة العربية ومن شاكلهم جانبوا الكبر، فقربوا من الحق، وقد بين سبحانه حالهم في اتباع الحق.
* * *(5/2327)
وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
(وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ... (83)
* * *
الرسول هو محمد - صلى الله عليه وسلم -، ما أنزل إليه هو القرآن، وأنهم لإيمانهم بالحق، وإخلاص قلوبهم، واطمئنان نفوسهم إلى الحق وقد طلبوه بمجرد أن سمعوا القرآن فتحت نفوسهم له وكأنهم كانوا يطلبونه، وأولئك طائفة من نصارى الشرق منهم من كان يؤمن بأن عيسى رسول الله وأن الإنجيل بَشَّرَ بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فلما سمعوا القرآن وسمعوا محمدا، وعندهم صفاته فاضت الدموع من عيونهم فرحا به، إذ قد استشرفوا له فوجدوه فكان بردا وسلاما، وقد يكون مع المشارقة من النصارى طائفة من المثلثين وهو الظاهر، كانوا يحسون أنهم في ضلال، وظلام متكاثف من الأوهام، فلما رأوا النور تمشوا إليه.
ومعنى قوله: (تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) أن الدمع ينزل من عيونهم فائضا عما تمتلئ به بسبب الحق الذي عرفوه، ومقتضى الكلام أنهم كانوا في حيرة حتى وجدوه، وأثلجت نفوسهم به، وقد قال الزمخشري في(5/2327)
توجيه الكلام من الناحية البلاغية: " معناه تمتلئ عيونهم من الدمع حتى تفيض، لأن الفيض أن يمتلئ الإناء أو غيره، حتى يطلع ما فيه من جوانبه فوضع الفيض الذي هو من الامتلاء موضع الامتلاء، وهو من إقامة المسبب مقام السبب، أو قصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء، فجعلت أعينهم كأنها تفيض بأنفسها أي تسيل من الدمع من أجل البكاء ". هذا كلام الزمخشري في التحرير البلاغي لمعنى تفيض أعينهم، وعندي أن الكلام مبالجة في تأثرهم بدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - واستقامة قلوبهم وعقولهم نحو الحق، وسرورهم به، ومن السرور ما يكون مظهره انبثاق الدموع من العين.
وقد أكد الكلام بأنه لم يعبر عنه بالإخبار، بل عبر عنه بالرؤية المبصرة التي هي أقوى أسباب العلم الحسي، وصور حالهم في التعبير بالمضارع، وقوله تعالى: (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ).
معناه أن سبب البكاء هو ما عرفوه من الحق، وهذا يدل على أمرين: أولهما: أنه تحقق لديهم ما وجدوه من أوصاف النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثانيهما: أنهم كانوا لنفاذ بصائرهم، وعظم مداركهم يحسون بأنهم كانوا في ضلال، فعرفوا الطريق، وكانوا في ظلام فاستناروا وكانوا في حيرة فاطمأنوا.
وإن هذا ينطبق على كل نصراني طالب للحق، لم يطمس الله على بصيرته.
وبعد أن بين سبحانه حالهم المرئية ذكر قولهم بعد اهتدائهم فقال تعالت كلماته:
(يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) حكى الله سبحانه وتعالى قولهم وقد اتجهوا فيه إلى الله تعالى معترفين بربوبيته وحده، وأنه على كل شيء قدير، ومقرين بالإيمان الصادق المنبعث من قلوبهم، وطلبوا من الله تعالى أن يكتبهم من الذين شهدوا بالحق، وشهدوا برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ(5/2328)
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا. . .).
وكما قال تعالى. (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78).
وهؤلاء الذين آمنوا لَا يجدون غرابة في أن يؤمنوا إنما الغرابة في ألا يؤمنوا، ولذلك حكى الله عنهم قولهم:
* * *(5/2329)
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
(وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
* * *
الاستفهام هنا إنكاري فيه معنى التعجب، وهو إنكار للوقوع، فهو بمعنى نفي أن يحدث منهم عدم الإيمان لأن موجب الإيمان قد وجد، وهو الإيمان لله تعالى جل جلاله، والحق الذي جاء إليهم وخوطبوا به، ولا يوجد أي مانع يمنعهم من الإيمان، فالسبب قد تحقق ولا مانع، والاستفهام بمعنى النفي، وهو داخل على نفي، ونفي النفي إثبات، فمعناه إصرار على الإيمان، وقوله تعالى: لا نؤمن بالله، حال مما دخل عليه النفي، وصاحب الحال هو: " نا ".
والكلام يومئ إلى أنه كان هناك اعتراض، وكان كلامهم للرد على هذا الاعتراض، والتاريخ يثبت أنه كان اعتراض على من آمنوا من هؤلاء النصارى، والمنطق النفسي للجماعات في قديمها وحديثها أن تستنكر من يغير دينه إلى دين الحق الذي ارتآه، وهؤلاء من الذي قال تعالى فيهم: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ. . .). وقال فيهم سبحانه: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53).
(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).(5/2329)
وإن إيمانهم هذا وإذعانهم للحق في وسط إنكارهم لم يجعلهم يجزمون بالجزاء في الآخرة، بل كانوا حقا كصادقي الإيمان يطمعون لَا في الجزاء وحده بل يطمعون في أن يكونوا مع أهل الإيمان الذين يجمعهم الصلاح في الأعمال، ولذا قال سبحانه عنهم: (ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين). فهم لقوة إيمانهم يستصغرون ما عملوا، ويطمعون في أن يدخلهم ربهم الذي خلقهم وأنماهم، وكفلهم برحمته وعنايته أن يدخلوا في ضمن الذين اختارهم الله تعالى واصطفاهم، وهم قوم الله وحزبه، وهم الصالحون المصلحون، والمؤمن المخلص يستقل عمله بجوار أنعم الله تعالى عليه، فهو لَا يستكثر بتقواه، ولا يمن بعبادته، وليس حالهم كحال الذين يمنون على الله تعالى إذ قال تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَا تَمنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).
ولقد كان ما أعده الله تعالى أكثر مما طمعوا، وإذ أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ولذا قال تعالى:
* * *(5/2330)
فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
(فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)
* * *
في هذا النص الكريم إجابتهم إلى ما طلبوا، وهو إجابة الله العزيز الكريم، وهو أكبر مما طلبوا، لقد كانوا يطمعون أن يكونوا من القوم الصالحين وأن يكتبوا مع الشاهدين، فأجابهم بالجزاء الأوفى وهو ما أعد الله تعالى لعباده المتقين، كانوا يطمعون ويرجون، فسمى سبحانه ما أعطاهم جزاء وفاقا، وكانوا يطلبون أن يكونوا مع الصالحين، فسماهم الله تعالى محسنين، أي مجيدين متقين مخلصين.
فكان الجواب هو جواب الحكيم الكريم الذي يقول تعالت كلماته: (هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ). والثواب الرجوع بالشيء إلى حالته الأولى، وكان ثواب العمل من قبيل الرجوع إلى أصل العمل، أي أن ما ينالهم من جنات النعيم، أي من المقام الذي ينعمون، وإنما عاد إليهم من أعمالهم،(5/2330)
وذلك كرم من الله تعالى إذ جعل جزاءهم من العمل ذاته، وهو ذو الفضل العظيم، وذلك هو الجزاء لمن يحسن.
وجعل سبحانه وتعالى الثواب على القول؛ لأنه يدل على الإخلاص، وعلى الإيمان الصادق، والعمل الطيب، فالجزاء على هذا كله الذي دل عليه القول الطيب.
هذا جزاء أولئك الذين آمنوا وصدقوا الله تعالى، أما جزاء الذين كفروا وجحدوا فهو ما ذكر سبحانه وتعالى بقوله:
* * *(5/2331)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
* * *
ذكر سبحانه وتعالى جزاء الذين استمروا على كفرهم في مقابل جزاء الذين آمنوا وطمعوا في رحمة الله تعالى، وأدركوا الحق فأذعنوا له، وكان جزاء الكافرين أنهم صاروا أصحاب الجحيم، أي الملازمين لها الذين لَا يفارقونها، والجحيم هي النار المتأججة التي لَا تنطفئ، وقد استحق ذلك العقاب بسببين:
أولهما - كفرهم وجحوددهم بالحقائق الثابتة التي جاءتهم والحي تدركها العقول السليمة، فهم قد استحقوه بكفرهم بها مع أن النفس السليمة تذعن لها من غير تردد، لأنها هي التي تتفق مع العقل والفطرة المستقيمة.
الثاني - أنهم كذبوا بآيات الله تعالى أي الأدلة والمعجزات التي ساقها رب العالمين لتأييد النبي المرسل الذي أرسل إليهم، فهم لم يؤمنوا بهذه المعجزات، ولم يصدقوها.
فكانوا حائرين بائرين، إذ لم يدركوا الحق في ذاته وهو متفق مع العقل المستقيم، ولم يتقبلوا الأدلة القاطعة التي سيقت إليهم للدلالة على الحق الذي لم يدركوه.
وهذان السببان هما اللذان من أجلهما كان العقاب، ولذلك عبر بالموصول الذي يدل على أن الصلة هي سبب الحكم، وعبر بالإشارة، وهي تدل على أن المشار إليه هو سبب الحكم.(5/2331)
وكلمة الذين كفروا تشمل من كانوا من أهل الكتاب ومن كانوا من غيرهم لأن السبب في ذلك الجزاء الأليم يتحقق في النوعين: إذ كلاهما كفر بالحق لما جاءه، وكلاهما كذب آيات الله تعالى التي ساقها للدلالة على رسالة الرسول، وحيث تحقق السبب تحقق المسبب لَا محالة، وهو العذاب الأليم الدائم.
هدانا الله إلى الحق، وإلى صراط الله العزيز الحميد.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
* * *
اعتبر القرآن الذين قالوا إنا نصارى أقرب مودة للذين آمنوا، وزاد أن السبب في ذلك أن فيهم قسيسين ورهبانا، وذكر في نص آخر أن فيهم رأفة ورهبانية ابتدعوها، والرهبانية تقتضي التقشف والحرمان من أكثر طيبات الحياة، والإسلام لم يأت بهذا، بل جاء شريعة وسطا بين المادية الشرسة العنيفة، والروحانية(5/2332)
المتخلصة من حاجات الجسم تخلصا، بل الإسلام أباح الطيبات وحرم الخبائث، ولم يقرر أن تعذيب الجسم من القربات، وقرر أن المشقات تحتمل إذا كان من الممكن الاستمرار عليها، ولذلك جاء النص الكريم بإباحة الطيبات بعد الإشارة إلى الرهبانية فقال:(5/2333)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَل اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) النداء موجه للذين آمنوا بوصف أنهم مؤمنون، أي أنه ليس من الإيمان أن تحرموا الطيبات التي أحلها الله تعالى من لحم طرى، وسمك شهي، وشراب سائغ، وزوجات هن زهرات هذا الوجود، فالطيبات هي المشتهيات الحلال، التي تستطيبها النفس ولا تمجها، فإنها بناء الجسم ومصدر قوته على الجهاد، وتطلق الطيبات على ما كان طريق كسبها حلالا لَا خبث فيه، وكلمة (ما أحل الله لكم) إشارة إلى أن الله تعالى أحلها، فتحريمها معاندة لله، ويدخل فاعل ذلك ضمن من يشملهم قوله تعالى: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. . .).
ومعنى تحريمها أن يأخذوا على أنفسهم ميثاقا بألا يتناولوها، فليس التحريم في معنى الترك الجرد، فقد يتركها؛ لأنه لَا يستسيغها، أو يتركها لمرض، أو يتركها عفوا من غير سبب، أما تركها بعهد يعهده وميثاق يأخذ نفسه به فهذا هو التحريم.
وروي في سبب نزول هذه الآية حديث نبوي شريف نذكره مع طوله نسبيا لأنه يبين معنى هذه الشريعة السمحة.
روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس يوما فذكر الناس ووصف القيامة، فرق - الناس، وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة - رضي الله تعالى عنهم أجمعين - في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، وهم علي - كرم الله وجهه -، وأبو بكر - رضي الله عنه - وعبد الله بن مسعود، وأبو ذر الغفاري وسالم مولى أبي حذيفة وعبد الله بن عمر والقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، ومعقل بن مقرن،(5/2333)
وصاحب البيت واتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم ولا الودك، ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح، ويرفضوا الدنيا، ويسيحوا في الأرض، وهَمَّ بعضهم أن يجبَّ مذاكيره، فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى دار عثمان بن مظعون فلم يصادفه، فقال لامرأته أم حكيم: أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه، فكرهت أن تنكر، إذ سألها، وكرهت أن تبدي على زوجها، فقالت: يا رسول الله إن كان قد بلغك عثمان فقد صدقك، وانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما دخل عثمان أخبرته بذلك، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه فقال عليه الصلاة والسلام أنبئت أنكم اتفقتم على كذا وكذا!!! قال: نعم يا رسول الله، وما أردنا إلا الخير، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن لأنفسكم عليكم حقا، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدسم، وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني " ثم جمع الناس وخطبهم فقال: " ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا، أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا، فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع، وأن سياحة أمتي الصوم، ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، واستقيموا، فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع " (1) وإن هذا الحديث يدل على أمرين:
أحدهما - أن التشدد في الدين يعجز صاحبه عن الاستمرار عليه، ولو كان الناس جميعا رهبانا، يزهدون فماذا يكون المآل أتبقى الدنيا أم تنتهي إلى الانقراض.
الثاني - أن هذا الدين هو دين الحياة لَا يقطع العابد عن الحياة، ولكن يجعله يعيش عاملا فيها غير منقطع عنها، وأن التفاضل بين المؤمنين باستقامة النفس،
________
(1) رواه أبو داود: الحسد (4904) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.(5/2334)
وسلامة العبادة، وكثرة النفع للناس، كما قال عليه السلام: " خير الناس أنفعهم للناس " (1) ولقد قال في هذا المعنى الحسن البصري واعظ العراق: إن الله تعالى أدب عباده فأحسن أدبهم قال الله تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَة مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ. . .).
ما عاب الله قوما وسع عليهم الدنيا، فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوما زواها عنهم فعصوه، وإن شرط إباحة الحلال، ومنع تحريمه ألا يكون ثمة اعتداء، ولذا قال تعالى:
(وَلا تَعْتَدُوا إِن اللَّهَ لَا يحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) والاعتداء له شعبتان إحداهما - تكون بالإسراف في البذخ، والتعالي والتفاخر فإن ذلك يؤدي إلى استيلاء الشهوات على نفسه، وذلك يؤدي إلى الضلال إذ يكون عبد شهوته، وتنماع إرداته، ولذلك قال تعالى في آية أخرى: (. . . وَكلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " كلوا واشربوا والبسوا في غير سرف ومخيلة " (2).
والشعبة الثانية - أن ينحرف فيعتدي على حقوق الناس ويتناول المحرم، ويتجاوز ما شرعه الله تعالى إلى ما لم يشرعه.
وإن هذا النص كان سلبيا بمنع أن يحرموا على أنفسهم، والنص الثاني إيجابي.
* * *
________
(1) عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن إلف مألوف، ولا خير في من لَا يألف، وخير الناس أنفعهم للناس " [رواه القضاعي في مسند الشهاب (129) ج 1، ص 108].
(2) سبق تخريجه.(5/2335)
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
(وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
* * *
الأمر هنا للإباحة، وقال بعضهم: إنه للندب، وبعضٌ يرى أنه واجب على المؤمن ألا يترك أمرا أباحه الله تعالى تركا مطلقا، ولا يكن قد حرم ذلك على نفسه، والتحريم(5/2335)
منهي عنه بقوله تعالى: (ولا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ). والرأي عندي أن يكون الأمر للإباحة المستحسنة؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - يقول: " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " (1) وقد زكى سبحانه وتعالى الطلب الإباحي أو الندبي بأمور أربعة:
أولها - أنه جعله مما رزقه الله سبحانه وتعالى؛ وأن الله لَا يرزق إلا ما يكون في تناوله خير، ولقد كان بعض التابعين يحرم على نفسه الفالوذج، فرد الحسن ذلك بأن الله تعالى رزقه إذ قال رضي الله تبارك وتعالى عنه: " لعاب النحل بلباب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم ".
الأمر الثاني - أن الله وصفه بأن يكون حلالا قد أحله الله تعالى ولم يحرمه، فإن إحلال الله تعالى نوع من ضيافته سبحانه وتعالى على رزقه، وأنى يسوغ لمؤمن أن يرفض ضيافة الله سبحانه وتعالى، فإذا رزقك الله ثوبا حسنا وأباحه لك؛ لأنه كسب طيب لَا خبث فيه، فاعلم أنه هدية الله تعالى أهداها إليك فإن اخترت خشن الثياب بدلا منه فقد رفضت هدية الله تعالى، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الكبر، وذكر أنه لَا يدخل الجنة متكبر، فقال بعض الصحابة: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنا، فهل هذا من التكبر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس " (2).
الأمر الثالث - أن الله تعالى وصف الرزق بأن يكون طيبا، والطيب يشمل وصفين أحدهما - أن يكون طريق كسبه طيبا، لَا خبث فيه، فقد يكون الشيء في
________
(1) رواه أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند أبي هريرة (8054)، كما رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: الأدب - ما جاء إن الله تعالى يحب أن يرى نعمته على عبده (2819).
(2) رواه مسلم: تحريم الكبر وبيانه (91) عن ابن مسعود رضي الله عنه. وبطر الحق: دفعه وإنكاره.
والغمط: الاحتقار والتعالي.(5/2336)
ذاته لم يحرمه الله تعالى، ولم يمنع استعماله، ولكن طريق الحصول عليه كان خبيثا، فالمال الذي اشتراه به كان كسبه خبيثا، كأن يكون من ربا أو سحت أو نحو ذلك من أسباب الكسب الخبيث، والوصف الثاني - الذي تشمله كلمة الطيب أن يكون مرغوبا فيه، فإن كان طعاما يكون بحيث لَا تعافه نفس المتناول، فإن كان كذلك لَا يطلب منه أكله؛ لأن ما تأكله وأنت تشتهيه فقد أكلته، وما تأكله وأنت لا تشتهيه فقد أكلك.
الأمر الرابع - هو أمره سبحانه وتعالى بتقوى الله تعالى، وقد زكى طلب التقوى بارتباطه بالإيمان بالله تعالى إذ قال تعالت كلماته: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنونَ). وجه التزكية ذكر لفظ الجلالة الذي يربى المهابة بالقلوب، وبيان أن الإيمان يقتضي التقوى، وأكد الإيمان بالله بالجملة الاسمية.
والتقوى أن يلاحظ الشخص حق الله تعالى وحق الناس فيما يتناوله من طيبات، وألا يدفعه ذلك إلى الغرور والتعالي، والتفاخر والاستطالة على الناس، وألا يدفعه طلب الحلال إلى نسيان الحمد والشكر، في كل ما يتناوله، ويناله، وأن يقوم بحق الله تعالى، وحق الناس، وأن ينعم بالنعمة، ويصبر إذا أزالها، ويكون من المتقين الصابرين المذكورين في قوله تعالى: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10).
فالنعم تحتاج إلى صبر، وإعطائها حقها من الشكر، والنقم تحتاج إلى صبر.
* * *(5/2337)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
(لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ... (89)
* * *
كان الذين يحرمون على أنفسهم ما أحله الله تعالى يتخذون الأيمان ذريعة لذلك، فيحلفون ألا يأكلوا أو ألا يأتوا النساء، أو أن يقوموا الليل ويحرموا أنفسهم من متعة النوم وهكذا، فبين الله تعالى في هذه الآية تحلة هذه الأيمان، وأنه يجب(5/2337)
عليهم، أو يسوغ لهم الحنث في هذه الأيمان، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: " من حلف على شيء فرأى خيرا منه فليحنث وليكفر " (1).
اللغو هو من لغا العصفور وهو صوته، أطلق على كلام من لَا يعتد به ولا يلتفت إليه، كما قال تعالى في أوصاف المؤمنين: (. . . وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (. . . (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا).
ولغو اليمين الذي لَا مؤاخذة عليه بنص القرآن قال بعض الفقهاء ومنهم الشافعي: أنه ما لَا يقصد به الحلف، بل يجيء في مجرى الكلام، مثل لَا والله بلى والله، وروى ذلك عن عائشة رضي الله عنها، ويزكي ذلك التفسير قوله تعالى في آية أخرى: (لا يُؤَاخِذكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ. . .).
والذي يقابل ما كسبت القلوب هو ما لَا تكسبه القلوب، وقال الحنفية: هو أن يحلف على شيء مضى على أنه كما قال ثم يتبين أنه غيره، فعلى حسب اعتقاده لَا يكون عليه شيء، وهذا التفسير مأثور عن مجاهد رضي الله عنه، وعلى ذلك تكون المعقدة مقابلة للغو.
وظاهر الآية الكريمة أن معقدة الإيمان هي الحلف على الامتناع عن فعل في المستقبل أو الإصرار على فعل، لأن ذلك هو الذي يسير مع السياق من التحريم على النفس، وأصلها من العقد، وهو في الحسيات جمع أطراف الشيء، وفي المعنويات جمع أطراف الكلام، وصيغة التفعيل تدل على توثيق الكلام وتأكيده وقرئ بالتخفيف (2)، وهي في معنى التضعيف.
والذي يظهر لنا وسط اختلاف الفقهاء في التفسير أن اللغو ما لَا يقصد به اليمين، وما لَا تكسبه القلوب، ولا يوثَق به الكلام بالامتناع، عن الفعل، أو
________
(1) سبق تخريجه.
(2) (عَقَدْتمُ) بالتخفيف، قرأ بها عاصم (غير حفص والمفضل)، وحمزة، والكسائي، وخلف.
وقرأ ابن ذكوان بالألف (عاقدتم). وقرأ الباقون بالتشديذ. غاية الاختصار - برقم (813).(5/2338)
توكيد إيقاع الفعل في المستقبل، لَا مؤاخذة عليه، إنما المؤاخذة على ما تكسبه القلوب إذا حنث في يمينه فعدل عما اعتزم، كمن يعدل عن تحريم ما أحل الله، ولذا قال سبحانه:
(فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) الكفارة من الكفَر وهو الستر، فالكفارة ستر الخطيئة وستر الَخطيئة عند الله تعالى إزالة أثر الاعتداء، والضمير يعود على الحنث المقدر في القول، فكفارته أي كفارة خبثه، ولا مانع من أن يعود على الحالف إذا حنث، ويظهر لنا ذلك؛ لأن التكفير يكون عن الشخص، ولا يكون على اليمين، ولا على الحنث فيه إلا على اعتبار أنه محو لسيئة الحالف في الحنث، وعدم البر بيمينه.
وقد خير الحالف إذا حنث بين أمور ثلاثة يختار إحداها، وهو سيختار الأيسر عليه اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قالت عائشة في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما " (1) فالواجب هو واجب مميز بين ثلاثة وليس واحدا منهم بأولى من الباقين إلا أن يكون أيسرهما عليه، فإن كان من تجار الأقمشة كانت الثياب أيسر عليه.
والأمر الأول المميز فيه الطعام، وقد عبر سبحانه بإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم، فما المراد بالأوسط، وما نوع الواجب أهو الإطعام بالفعل؛ أم يشمل التمليك الذي يكون به الإطعام، وهل العدد مقصود لذاته، أي لا بد أن يكون المطعومون عشرة لَا ينقصون؛.
أما كلمة أوسط، ففيها رأيان: أحدهما - رأى كثيرين من المتقدمين.
أن المراد أمثل ما يطعمون به أهليهم، لأن الأوسط في كثير من الاستعمالات هو الأمثل، قال تعالى: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ).
________
(1) متفق عليه؛ رواه مسلم: الفضائل - مباعدته - صلى الله عليه وسلم - للآثام واختياره (3327)، والبخاري بنحوه وفيه زيادة: الحدود - إقامة الحدود (6786).(5/2339)
أي قال أمثلهم فكرًا ونظرًا، ويزكي هذا أن إطعام عشرة مساكين يقابل بالكسوة وعتق الرقبة، ولا يتصور المقاربة إلا إذا كان أمثل الطعام لديهم، ومؤدى ذلك التصوير أن يكون أولئك الفقراء في ضيافة من حنث في يمينه، يستضيفهم؛ لأن رب البيت يقدم لضيفة أمثل ما يستطيعه من طعام.
وقال آخرون: إن الأوسط هو المتوسط الذي يعد المتوسط في طعامه، فليس هو أقل ما يأكله أهله ولا أكثر بل يكون بين ذلك قواما، وقد اختار هذا الرأي ابن جرير، والأكثرون من الفقهاء.
وإن الإطعام يكون بالتمكين من ذلك، وهو الأصل، وخصوصا عند من يفسر الأمثل بالأوسط، وفي هذه الحال يقدم لهم وجبتين من الطعام ليستطيعوا الاعتماد عليها طول اليوم، وإذا لم يكن الإطعام متيسرا، ملكهم من أنواع القوت ما يقابل ذلك، والأكثرون على أنه يقدم نصف صاع من بر، واختلافهم في مقدار الصاع، لَا في أصل التقدير.
والأكثرون من الفقهاء على أنه لَا بد من إطعام عشرة، وقال الحنفية: إذا أطعم واحدا عشر مرات يغني عن إطعام العشر؛ لأن القصد إمداد الفقراء بحاجات تغنيهم، وليست العبرة بمغايرة الاشخاص ولا بالعدد في ذاته، والكسوة يلاحظ فيها أن تكون سابغة في الجملة، ولقد قال مالك وأحمد: لَا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه رجلا كان أو امرأة كل بحسبه.
وعندي أنه يترك تقدير الكسوة إلى ما يليق بالمعطى مع ملاحظة أن يكون سابغا.
والرقبة أيشترط فيها أن تكون مؤمنة؛ لقد ورد عتق الرقبة موصوفا بأن تكون مؤمنة في كفارة القتل خطأ، فالأكثرون من الفقهاء جعلوه وصفا في كل تكليف بعتق الرقبة؛ لأنه قد اتحد الموضوع، واتحاد الموضوع يكفي في حمل المطلق على المقيد، ولأن المعنى فيه تحرير رقاب المؤمنين، ولأن الصدقات تكون للمؤمنين، وقال الحنفية: لَا يحمل المطلق على المقيد إلا إذا اتحد الموضوع والسبب، وعتق(5/2340)
الرقاب في ذاته قربة إلى الله تعالى، والرأي عندي أنه لَا يعتق غير مؤمنة إذا كان يملك مؤمنة.
(فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثةِ أَيَّام) الفاء هنا تفصح عن شرط مقدر، والمعنى إذا لم يكن عنده ويريد أن يحنث ولم يجد فصيامه ثلاثة أيام، وثلاثة الأيام يصومها تطهيرا لنفسه، ولتقوى إرادته، وتشتد عزيمته، فالصوم طهرة للنفس، ويزكي العزيمة الصادقة والتجرد الروحي، ولكن أيشترط أن تكون الأيام الثلاثة متتابعة؟ قال كثيرون: لَا يشترط أن تكون متتابعة؛ لأن النص لم يشترط ذلك، ولأن التيسير يتحقق بعدم شرط التتابع، والنبي عليه السلام، يقول " يسروا ولا تعسروا " (1)، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إن التتابع شرط؛ وذلك لأنه لا يمكن تحقق أنها ثلاثة أيام إلا متتابعة، ولا يتصور أن يكون قد كفر عن يمينه إذا كان يصوم في كل عام يوما، ولأن ذلك رأى كثير من الصحابة منهم عبد الله بن مسعود. ونحن نختار ذلك الرأي، وقبل أن ننتهي من الكفارة لَا بد من أن نتعرض الأمرين:
أولهما - أيسبق الحنث الكفارة ولا كفارة إلا بعد الحنث أم تجوز الكفارة قبل الحنث؟ قال الأكثرون بالأول لأن السبب هو الحنث، وما دام لم يتحقق فإنه لا كفارة، وقال آخرون: يجوز أن تتقدم الكفارة عند نية الحنث، وتقوم النية مقام الحنث بالفعل.
ثانيهما - إذا حلف على شيء فرأى خيرا منها يجب عليه أن يحنث قال الظاهرية ذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - " من حلف على يمين فرأى خيرا منه فليحنث وليكفر " (2) وقال غيرهم: لَا يجب، ونحن نرى أن يوازن بين مقدار الضرر الذي سيترتب على الاستمرار، والخير الذي يجلبه الحنث، فإن رجح الثاني وجب الحنث.
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: العلم - ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتخولهم (69)، ومسلم بلفظ: " وسكنوا ولا تنفروا ": الجهاد والسير - الأمر بالتيسير وترك التنفير (1734).
(2) سبق تخريجه.(5/2341)
(ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ذلك الذي تقدم هو سائر أيمانكم أي ماحي إثمها شرعه الله تعالى لكم رجاء أن تشكروه إذ خفف عليكم وسهل لكم فعل الخير إذا امتنعتم عنه ووثقتموه بيمين، فسهل لكم سبيل الخروج بكفارة سهلة ميسرة، فقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) متصل بقوله: (ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكمْ إِذَا حَلَفْتُمْ)، فسهل لكم الحنث بذلك التفكير السهل.
وحفظ الأيمان يتحقق بألا يكثر منها، ولا يكون مهينا ينطبق عليه قول الله تعالى: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ)، وألا يمتغ عن الخير بالحلف، فلا يجعل الله تعالى عرضة ليمينه، وأن يصون يمينه فلا يحلف إلا لإرادة الخير، والله هو المستعان.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
* * *(5/2342)
بين سبحانه أنه لَا يصح تحريم الحلال، وطالب بتناوله، وأنه ليس من الإسلام تعذيب الجسم في سبيل تطهير الروح، بل إن الروح القوي لَا يكون إلا في الجسم السليم الذي يستوفي حاجة الحياة الطيبة التي لَا إثم فيها، وإن المحللات لا تحصى عددا، والمحرمات من الأطعمة تحصى، وهي محصورة.
والمحرمات تكون لأحد أمرين إما لخبث في ذاتها، كالخمر والخنزير والميتة، وإما لاقترانها بما يمس العقيدة، مما يدعو إلى الإشراك، ومن الأشياء ما تكون محرمة لأن الفعل الذي قارنها كان محرما، كالذي يكسب بالميسر، فيحرم سدا للذريعة، وقد ذكر سبحانه بعض المحرمات من الصنفين، فقال تعالت كلماته:(5/2343)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) الخمر بمعنى المصدر هو الستر، ولذلك يقال لما يستر به الرأس عند النساء خمار، والخمر بمعنى الاسم ما يخمر العقل ويستره، ويمنعه من التقدير الصحيح، والفقهاء اختلفوا في تعريف الخمر الذي جاء في القرآن تحريمها بالنص، فقال بعضهم: إنها ما يتحقق فيها المعنى اللغوي الأصيل، فهي تكون لكل مسكر يخمر العقل ويستره، وبعض الفقهاء قال: إنها اسم المسكر المتخذ من ماء العنب والتمر لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة " (1) وقال بعض الفقهاء إنها لَا تكون للمطبوخ، بل تكون للنَيِّئِ.
وقال الحنفية: إن الخمر المذكور تحريمها بالنص في القرآن الكريم هي النيِّئ من ماء العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد، فهذه هي الخمر الذي جاء بتحريمها النص القرآني.
وما جاء من الأشربة المحرمة، فقد ثبت تحريمها بالقياس؛ لأنها تشترك مع الخمر المحرمة بالنص في علة التحريم، وهي الإسكار فحرمت لإسكارها لَا لورود النص بها.
________
(1) رواه مسلم: الأشربة، والترمذي: الأشربة - ما جاء في الحبوب التي يتخذ منها الخمر (1875).
كما رواه النسائي، وأبو داود، وابن ماجه وأحمد.(5/2343)
هذه هي الخمر الواردة في القرآن وكلام الناس فيها، والميسر هو القمار، وهو يشمل كل كسب بطريق الحظ المبني على المصادفة من كل الوجوه، وهو يكون للعب على المال: فالنرد على مال للكسب قمار، والشطرنج على المال قمار، وهكذا، وتحريم الميسر لذات الفعل، فالفعل في ذاته حرام، والكسب عن طريقه حرام؛ لأنه سحت، وأكل لمال الناس بالباطل.
والأنصاب تطلق عند عرب الجاهلية بإطلاقين: أحدهما - نصب من الحجارة كانت تعبد، أو تقدس.
والإطلاق الثاني: حجارة مقدسة كانت تخصص للذبح تقربا للأصنام.
والأزلام جمع زلم، وهي السهام التي كانوا يتقاسمون بها الجزور أو البقرة إذا ذبحت، فسهم عليه واحد، وسهم اثنان وهكذا إلى عشرة، وقد حرم القرآن القسمة بذلك لأنها من الميسر.
وقد جمعت هذه الأمور كلها مع تحريم الخمر؛ لأنها متجهة جميعها إلى الخبائث، فالخمر ومعها الميسر كانا مقترنين في التحريم؛ لأنهما عادة كانا مقترنين في الواقع، فيندر أن يلعب الميسر من لَا يشرب الخمر، وشارب الخمر المدمن عليها يمتد به الإثم، حتى يتناول الميسر أيضا.
والأزلام كانت تتخذ لقسمة الذبائح بالميسر، فيسحب الشخص الزلم، ويكون له من اللحم بمقدار ما يعلمه السهم، فإن كان واحدا أخذه، وإن أكثر أخذه بمقدار ما يعلمه.
والنصب جمعت مع هذه، لأنها أصنام وهي الأصل فساد في العقيدة، أو لأنها مقدسة لَا تؤكل الذبيحة إلا إذا ذبحت عليها، فكان جمعها مع الخمر والميسر لصلتها بالميسر، ولأنها نوع من تحريم ما أحل الله تعالى لغير سبب معقول لَا من الشرع ولا من العقل، فهي ذات صلة وثيقة بالآية التي قبلها.
وكان جمع هذه الأشياء مع ما سبق لأن لها مصدرا من الطبع واحدا، وحكما من الشرع واحدا، وهو أنها رجس، ومن عمل الشيطان، والرجس كل ما استقذر،(5/2344)
وهو يطلق أولا على الأشياء القذرة التي تعافها ولا تستطيبها النفس أو أن عواقبها وبيئة، وتطلق بالإطلاق الثاني على الأعمال السيئة التي لَا يقبلها العقلاء، ولا مبرر لها عند أهل البصر والإدراك، والخمر مستقذرة في ذاتها لأن النفس لَا تستطيبها شرابا، ولولا العادة ما تعودها الناس لعدم مساغها، ونتيجتها مستقذرة لأنها تفقد الشخص الإدراك، يكون قذر العمل، يأتي بما لَا يستحسنه العقلاء، وهي مستقذرة؛ لأنها ضارة بالجسم أبلغ الضرر وأشده، فهي تفسد الكبد، وتضل العقل، ولقد حرمها بعض الجاهلين على نفسه، ولما قدمت له قال: (لا أتناول ضلالي بنفسي) وهي تثير النزوات والشهوات، ويروى أن أعرابية جاءت إلى مكة، فأسقيت الخمر، فلما ثملت قالت: أنساؤكم يشربن الخمر، فلما قيل لها: نعم. قالت: إن نساءكم لزوانٍ.
والخمر أم الخبائث، لأنها تسهل كل الخبائث، فما من شر يريد أن يقدم عليه الشخص، ويتردد في ارتكابه إلا سهلته الخمر، فهي تميت النفس اللوامة، أو على الأقل تضعف صوتها، وتخدر الوجدان، وهو الإحساس بما في العمل الذي يعمله من خطر، ومن أجل ذلك كله حرمت.
ولا يقال إنها حرمت للإسكار فقط، حتى لَا يزعم ناس أنها حلال له؛ لأنه لم يسكر، فذلك قول باطل أولا - لأن النص قاطع في التحريم، وكل اجتهاد مع النص اجتهاد فاسد، وثانيا - لأن كون الشيء مسكرا لَا ينظر فيه إلى الجزئيات بل النظر فيه إلى شأنه، ولا تخرم القاعدة الكلية بشذوذ جزئي. وثالثا - لأنها تميت الضمير والوجدان أو تخفت الصوت اللائم، وتذهب بالحياء وهو عصام الأخلاق والمجتمع السليم.
والميسر مستقذر، لأنه يؤدي إلى الشحناء واكل أموال الناس بالباطل، واتخاذ الأنصاب مستقذر لأنه لَا يتفق مع العقل ولا يدعو إليه الفكر المستقيم، وهو من ضلال العقول وفساد النفوس، والأزلام لون من ألوان الميسر، وشكل من أشكاله، وهو قذر بكل صوره، وبكل أشكاله.(5/2345)
وإذا كان ذلك كله رجسا، فلماذا يتناوله العقلاء؟ فأجيب بأنه من عمل الشيطان الذي يحسن القبيح، ويقبح الحسن.
(فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تفْلِحُونَ) الضمير في: (فَاجْتَنِبُوهُ) يعود على كلمة رجس، والفاء للإفصاح عن شرط مقدر، وتقدير الكلام هكذا: إذا كان تناول هذه الأشياء، رجسا ومن عمل الشيطان، فاجتنبوه لتنالوا الفوز والفلاح أو لترجوا الفوز والفلاح، فمعنى قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تفْلِحُونَ) أي لترجو الفوز والفلاح، فلا فوز لقوم يضلون عقولهم بأنفسهم، ويفرون من واجباتهم بالخمر يشربونها، وبالموبقات يتسلون بها وبإضلال عقولهم وضياع تفكيرهم.
و" اجتنبوه " معناها اجعلوه في جانب وأنتم في جانب، وهو أقوى من " لا تشربوها " في الدلالة على التحريم؛ لأن " اجتنبوها " لَا تدل فقط على تحريم الشرب، بل تدل على تحريم الشرب مع جعلها في جانب، وابتعاد، وهي تتضمن النهي عن الشرب، ومجالسة الشاربين، لأن مجالسة الشاربين لَا يتحقق فيها الأمر بالاجتناب، بل إن الاجتناب يتضمن النهي من المرور على الحانات أو غشيانها.
وقد زكى التحريم للخمر والميسر بأمرين باقترانهما باتخاذ الأنصاب والأزلام، ووصف الجميع بالقذارة الحسية المعنوية، وثاني الأمرين ببيان بعض الآثار من إلقاء العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله فقال:
* * *(5/2346)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
(إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ ... (91)
* * *
البغضاء: البغض الشديد، وهو يقطع الصلات، ويثير الأحقاد، ويجعل الناس قلوبهم شتى، وإذا أعلنت البغضاء كانت العداوة المستحكمة، والمنابذة والشحناء، فالعداوة أخص من البغضاء، لأنها بغضاء معلنة متنابذة، أما البغضاء المجردة فتكون مستكنة لَا تظهر، وإن كانت آثارها عنيفة مثيرة للنفور مربية للأحقاد والأضغان.(5/2346)
وقوله تعالى: (إِنَّمَا يرِيدُ الشَّيْطَانُ) فيه قصر، أي قصر إرادة الشيطان في الخمر والميسر على إثارة العداوة والبغضاء وإلقائهما في الأنفس، والعلاقات الاجتماعية بين الناس بعضهم مع بعض، وهذا يفيد أمرين: أولهما - أن الخمر والميسر لَا يدفع إليهما عقل مدرك مدبر، ولكن يدفع إليهما شهوة نفسية جامحة هي من تحريكات النفس الأمارة بالسوء.
وثانيهما - أنه يترتب عليهما الفرقة المادية بين الناس بالعداوة التي تقام بينهم، وبالبغضاء التي تولد فيهم الإحن المستمرة.
وليست العداوة والبغضاء هما فقط عمل الشيطان، بل له عمل آخر أشد وهو أنه يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وفي الواقع أن كلا الأمرين متلازمان، فحيث كان الصد أي الإبعاد عن ذكر الله وعن الصلاة، كان إلقاء العداوة والبغضاء في القلوب، لأنه إذا وجد الإعراض عن ذكر الله وعن الصلاة كانت الأنانية، ولا شيء يقطع ما بين الناس، ويثير العداوة والبغضاء أكثر من الأثرة ومجانبة الإيثار.
فالخمر والميسر تناولهما يؤدي إلى أمرين أولهما - العداوة والبغضاء، وثانيهما - الصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، أما أداؤها إلى العداوة؛ فلأن الخمر إذا شربت غاب العقل الظاهر، وظهر العقل الباطن، وكشف السكران كل مستور، وبين كل ما في الأنفس، وانطلقت الألسنة، بما لَا يصح الكشف عنه، وقد يبادله الآخر مثل قوله فتكون الشحناء، وتكشف الأستار، وينبش المقبور من الأمور، ووراءه تولد الإحن ونزول المحن، وإن الرجل ليكون كاتما لنفسه لا يتكلم، فإذا سكر انطلق لسانه بكل شيء، وقد يفتري على الحرائر، ويكشف ما في السرائر، وتنزل بالجماعة المحن.
وأما الميسر فإنه يولد حقد القلوب، وإحساس كل بأن الآخر له متربص ومتحفز، ولأمواله طالب متوثب، وهذه الأمور بارزة للعيان غير محتاجة إلى بيان.(5/2347)
وأما صدهما عن ذكر الله تعالى فلأن الخمر تميت النفس اللوامة، وتخدر الوجدان، وتربط الإنسان بأعلاق الأرض وتكون النفس الأمارة بالسوء، وتوجد في النفس انشراحا وهميا، وسرورا كاذبا، تجعله في لهو، واللهو وذكر الله نقيضان لَا يجتمعان، وكل لهو باطل إلا ما يكون تمهيدا للاستجابة لأمر الله تعالى ونهيه؛ وما يصد عن ذكر الله تعالى يصد عن الصلاة؛ لأنها ذكر لله تعالى، واستحضار لعظمته تعالت قدرته.
والميسر لَا يشغل عن الله وعن الصلاة فقط، بل يشغله عن أهله وعن أولاده، وعن عمله الذي يكتسب منه، بل عن ثيابه التي يكسو نفسه بها فهو غمرة طاغية لَا ينقذه منها إلا إطاعته أمر الله تعالى ونهيه.
(فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، مؤاده إذا كنتم قد علمتم ما في الخمر والميسر من مضار وصوارف عن الله تعالى. وما يؤديان إليه من شحناء وبغضاء، وما يفسدان به الجماعات أفأنتم بعد ذلك منتهون عنهما تاركون لهما أم أنكم ما زلتم في غيكم تعمهون، سادرين عن أمر الله تعالى، فالاستفهام هنا للإنكار، ومؤاده: انتهوا عما أنتم فيه، ولقد أجاب الكثيرون من أصحاب رسول الله: انتهينا.
وفى التعبير بالانتهاء والأمر به إشارة إلى تمهيدات سابقة للتحريم، فقد استنكرها القرآن الكريم من أول نزوله، فلم يعتبرها رزقا حسنا، كما قال تعالى: (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ والأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا. . .).
فجعل السكر وهو الخمر مقابلا للرزق الحسن، ثم جاء التحريم غير الحاسم في قوله تعالى: (يَسْألُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسَِْ)، والنتيجة تنتهي إلى التحريم لأن ما كثر ضرره وقل نفعه يكون حراما، ثم حرمت في أثناء النهار وطرفا من الليل، وذلك في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ. . .).(5/2348)
وهكذا كان الإشعار بالتحريم، ولكن لم يكن انتهاء حتى جاء التحريم الحاسم الخالي من كل ظن، فكان لابد من الانتهاء.
وجاء في الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل " (1) وترى الرسول عدَّد خمسة ثم عمم: وهي ما خامر العقل. هكذا أمر الله وهكذا أمر رسوله، قد قال تعالى:
* * *
________
(1) رواه البخاري: تفسير القرآن - قوله تعالى: (إنما الخمر)، ومسلم: التفسير - في نزول تحريم الخمر (3032(5/2349)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ... (92)
* * *
الواو هنا قال بعض المفسرين: إنها عاطفة على قوله تعالى: (فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). ويكون قوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ) في مقام التعليل للنهي، وقوله (فهل أنتم منتهون) في مقام تأكيد النهي أو تأكيد معناه، ويكون الكلام كله في مساق واحد، ويكون قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ) في مقام تأكيد المنهيات السابقة وغيرها، وكان ذلك كله لمقام تأثر العرب بالخمر، وتعلقهم السابق بها، فاقترن بها الأمر بالإطاعة، وتحميلهم التبعة، والأكثرون لم يذكروا أن الواو عاطفة، ومفهوم كلامهم أنها استئنافية، والمؤدى واحد، لأن في ذكرها عقب تحريم الخمر بالأمر العام بالطاعة تأكيدا للنهي وتوثيقا له.
وأمر سبحانه بإطاعة الله، ثم أمر بإطاعة الرسول مع أن إطاعتهما واحدة.
لقوله تعالى: (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. . .). ولأن النبي يتكلم عن الله سبحانه وتعالى، فقد قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4).
وكرر سبحانه الأمر بالطاعة لتأكيد الدعوة إلى الطاعة، وتشريف الرسول، وتأكيد رسالته بذكر طاعته بجوار طاعة الله تعالى:(5/2349)
(فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) نبههم الله سبحانه وتعالى إلى وجوب طاعة الله وطاعة رسوله، وأن يحذروا غضب الله تعالى وعذابه، واقتران الحذر بوجوب الطاعة فيه تنبيه إلى ضرورة اجتناب الخمر التي تصد عن ذكر الله تعالى، وتميت الضمير، وتخفت صوت الوجدان، وتسهل الاندفاع وتمنع الحذر.
وفى هذا النص الكريم تأكيد لمعنى التحذير السابق، وتنبيه إلى سوء العاقبة، والمعنى: إن أعرضتم عن الطاعة، وتجنبتم الحذر، ووقعتم في المحظور، وغفلهم عن المأمور به فقد وقعتم في الخطيئة، وستحاسبون عليها حسابا عسيرا، واعلموا أنه على رسولنا البلاغ الواضح المبين للحقائق والواجبات، فقوله تعالى: (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِين) مبني عن جواب شرط مقدر ينبئ عن تحملهم وحدهم لتبعة إجرامهم ومعاندتهم لربهم مثل قوله تعالى: (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ. . .). أي فإنه عدو لله؛ لأنه نزله على قلبك بإذن الله، فالرسول مبين للحق، وليس مسئولا عن إيمان من يبين لهم، كقوله تعالى: (. . . إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ).
وكقوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22).
وفي إضافة الرسول إليه في قوله: (عَلَى رَسُولِنَا). تشريف للرسول وتوكيد لإقراره سبحانه، وبيان أن الرسول ما ينطق إلا عنه، وأن عصيانه عصيان لله تعالى، وفي التعبير بقوله تعالى: (فَاعْلَمُوا). تنبيه بصيغة الأمر، ليتعظوا ويتحملوا تبعة أعمالهم، ويكونوا في حذر مستمر، والله الهادي.
* * *(5/2350)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا ... (93)
* * *
كان بعض المؤمنين يحرمون على أنفسهم بعض المباحات، ويحسبون أن ذلك من الورع والتقوى، وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - خطأهم، ونزل القرآن الكريم بتحريم ذلك عليهم، وجاء في مطوي الكلام تحريم الخبائث لَا تحريم الطيبات، ِ وفي هذا النص الكريم بيان أنه لَا إثم في تناول المباحات؛ لأن العبرة بالإيمان وتقوى القلوب،(5/2350)
فالخبر في الإيمان وفي القلب لَا في ترك المباحات، وهذا يشير إلى أن الآيات حكمها عام، وهو كذلك، وإن كان لها سبب فالعبرة بعموم اللفظ.
والأكثرون من المفسرين على أن سبب نزولها أنه لَا نزل تحريم الخمر المشدد فيه، والتحذير منها، وقد كانت من قبل في مرتبة العفو، وقد كان هناك من المؤمنين من يشربها، حتى كان منهم من استشهد في الجهاد، وفي بطنه خمر فتساءل بعض المؤمنين عمن شربها ومات، وعمن كان يشربها من الأحياء، كما تساءل بعض الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس عن صلاتهم قبل تغيير القبلة إلى الكعبة، فنزلت هذه الآية: (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). كما نزل هنالك قوله تعالى: (. . . وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رحِيمٌ).
وقد وصف الله سبحانه وتعالى الذين لَا جناح عليهم في شربهم في الماضي بأنهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكلمة: " طعموا " معناها ذاقوا، وهي تطلق على المشروب، والمأكول، كما قال تعالى في شأن النهر الذي حرم القائد شربه: (. . . وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي. . .)، وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد نفي الإثم قوله تعالى: (إِذَا مَا اتَّقَوْا وآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). ففهم بعض الناس أن ذلك شرط لنفي الإثم، أي لَا إثم بالشرب مع التقوى وعمل الصالحات، ونقول في الجواب عن ذلك:
أولا - إن المراد بتقوى الله تعالى امتلاء القلب بخشيته، وقد ذكر سبحانه وتعالى في أوصاف الخمر والميسر أنهما يلقيان بالعداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله تعالى فإذا كان الإثم قد رفع عن التناول لأنه كان قبل التحريم، فهل يرفع الإثم عن العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة؛ إنه لَا تقوى مع التناول.
وثانيا - إن في هذا الشرط تحريضا على الإيمان وتقوى الله تعالى، والامتلاء بهيبته.(5/2351)
وكرر الله تعالى التقوى، فقال تعالت كلماته: (ثُمَّ اتَّقَوْا وآَمَنُوا). لبيان أنه يجب استمرارهم على التقوى، وحث غيرهم عليها، وكان التعبير بـ " ثم " لتأكيد معنى الاستمرار على التراخي، وهناك معنى يفيده التكرار، وهو تأكيد أن الماضي مهما يكن لَا يؤثر في الحاضر، إذا كان الحاضر نقيا، وقد تأكد هذا بقوله سبحانه:
(ثُمَّ اتَّقَوْا وَّأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) العطف بـ " ثم " هنا هو أيضا لتأكيد معنى الاستمرار مع الزمن، والتقوى كما قلنا هي امتلاء القلب بالخشية، وهذا للحث عليها، ولتشريف الذين يستمرون عليها، والإحسان إن اعتبرناه متعديا يكون مؤاده الإحسان إلى غيرهم بالمعاونة، وفعل الخير وإسدائه، والجود بالمال وغيره، ويصح أن يكون لازما والمراد الإحسان في ذات أنفسهم، كما قال النبي عليه السلام: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (1) وهذا أعلى مراتب التقوى وهو ما نراه، والله جل جلاله يحب المحسنين لأنهم قريبون منه.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
________
(1) سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم، وهو المعروف باسم حديث جبريل الشهير.(5/2352)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
* * *
ذكر سبحانه وتعالى أشياء محرمة لذاتها لأنها مستقذرة، خبيثة في ذاتها، وفى نتائجها، وهناك محرمات لمكانها وحال التناول لها، وليست في ذاتها حراما، ومن ذلك المحرمات في الحج أو في الإحرام بشكل عام، سواء أكان للحج أم كان للعمرة أم كان لهما - وبعد أن أشار إلى بعض المحرمات لخبثها، ولذاتها وهي الخمر، ذكر سبحانه وتعالى المحرمات لمكانها وحال التناول لها، فقال سبحانه وتعالى:(5/2353)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ) البيت الحرام في واد غير ذي زرع كما قال إبراهيم - عليه السلام - فيما حكاه الله تعالى عنه إذ قال: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37).
وكان على المسلمين أن يعملوا على توفير الطعام لهم، حتى تتحقق إجابة ذلك الدعاء، إذ فرض الله سبحانه وتعالى الحج إلى ذلك البيت المطهر، ففرض الحج إليه كما قال تعالى: (. . . وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. . .).
فكان الناس يذهبون إليه من كل فج عميق، وإذا كان من مقاصد الحج التوسعة على المقيمين في هذا البيت، لَا يصح أن يكون وجودهم سببا للتضييق عليهم ولو كان الصيد مباحا، وهم يسكنون البادية، ومن موردهم الصيد، ولو فتح باب الإباحة للمحرمين لكان من المتصور أن يستنفذوا كل عام أكثر الصيد(5/2353)
الذي يكون حول مكة، فيجيئوا بالحرمان بدل التوسعة، وبالضيق عليهم بدل الترفيه، فكان لَا بد من منع المحرمين من قتل الصيد، حتى لَا يكون أهل مكة في ضيق، فوق ضيق المكان، وبعده عن الزرع والثمار.
النداء في النص القرآني الكريم للذين آمنوا، لأنه من مقتضيات الإيمان ذلك الخطاب، ولم يكن تحريم الصيد للمحرمين لهذا فقط، بل لاختبار النفس المؤمنة، ولتعويدها الصبر، ولتربية العزيمة، إن العزيمة تتربى في صغار الأمور، كما تتربى في كبارها، وإن كبارها تحتاج إلى قوة جسمية، وإرادة نفسية، أما الأمور الهينة اللينة، فإنها تحتاج إلى عزيمة روحية، ولذا قال تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ). وإنه يكفي المنع من شيء ليطلبه الممنوع منه، وفي الأمثال: كل ممنوع متبوع، وجاء في ذريعة الأصفهاني أنه ورد في بعض الآثار أن الناس لو مُنعوا من البعر لفتوه، وقالوا ما حُرِّمَ علينا إلا لشيء فيه.
والكلام في قوله تعالى: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ). اللام هي التي تدل على القسم، والنون هي المؤكدة، والمعنى لنعاملنكم معاملة المختبر، الكاشف لحقيقة نفوسكم، وعزائمها، وإراداتكم وتصميمكم، وصبركم النفسي، وكان ذلك الاختبار النفسي الكاشف لعزائمكم في أمر صغير في واقعه، كبير في معناه، فموضوع الاختبار عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته:
(بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) وهذا الموضوع للاختبار يتسم بأمور ثلاثة: أولها - أنه شيء قليل لأن التنكير هنا للتقليل، كما يدل عليه ما بعده، والثاني - أنه بعض الصيد، والثالث - أنه قريب منكم يغري النفس، ويحرضها على فعل المنهي عنه، إذ إن أيديكم تستطيع تناوله إذ كان قريبا صغيرا، وتستطيع رماحكم أن تناله إذا كان كبيرا أو بعيدا بعدا نسبيا. وإن الاختبار الذي يجعل النفس في مشقة هو في هذا القرب، فالاختبار ليس في أمر يشق على الأجسام كالجهاد إذ يحتاج إلى قوة جسم، ومهارة، وفن عقلي، ولكن الاختبار في أمر(5/2354)
هين لين، ولكن فيه مشقة على النفس، وجهاد النفس عن شوقها وعن شهوتها لا يقل عن جهاد الجسم المرن، والعقل المدرب الماهر، ولعل ذلك جهاد أكبر.
وإن الذي ينجح في ذلك البلاء يكون ممن يخاف الله تعالى في غيبه عنه، وفى مشهده له، بل إنه يحس دائما بمقام المشاهدة (1)، فلا يحس بأنه غيب عن الله تعالى قط، ولذلك قال تعالت كلماته: (لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ). أي ليظهر الله تعالى فيمن يخافه بالغيب، ولكن ما الغيب وما حال من يخافه، قال بعض المفسرين: إن المراد غيب يوم القيامة، أي أن من يحرم الصيد وأشباهه على نفسه، ويعقد عزيمته على ذلك يظهر إيمانه بالآخرة وهي مغيبة عنه، ويخافها لأن نفسه تكون من النفوس الصابرة المبتعدة عن أهواء الدنيا، فلا تغمرها شهواتها، فتنفذ طيبة إلى الآخرة، وقال بعض المفسرين: إن المراد غيب الله تعالى أي أن من تكون له تلك العزيمة القوية فيكون ممن يراقب الله تعالى دائما، فيعبد الله كأنه يراه، فالله في قلبه دائما يخافه ويتقيه، ولا مانع من الجمع بين المعنيين.
(فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَليمٌ) الاعتداء تجاوز الحد ومخالفة أوامر الله تعالى، كما قال تعالَى: (. . . وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ. . .).
ومعنى النص الكريم: ومن تجاوز ما أمر الله تعالى بعد إعلامه بأنه اختبار من الله لتربية نفسه وتهذيبها وإشعار بمخافة الله تعالى، وهو غائب بأن يمتلئ قلبه بالإيمان به، ويطيع الله كأنه يراه، من اعتدى بعد هذا فهو يعاند الله تعالى ويكابره، ومن يكون قلبه ممتلئا بالمكابرة والمعاندة، فإن الإيمان لَا يسكن قلبه، ويكون له عذاب أليم.
________
(1) مقام المشاهدة: " أن تعبد الله كأنك تراه "، ومقام المراقبة: " فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". وكلاهما إحسان كما في حديث جبريل الشهير. والمداومة على الثاني توصل إلى المقام الأول لمن وفقه الله تعالى.(5/2355)
وقد يقول قائل: إن الله تعالى ذكر جزاء من قتل الصيد متعمدا فقال تعالى على ما سنتلو إن شاء الله تعالى: (وَمَن قَتَلَهُ منكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) وذلك ليس عذابا أَليما، ويجاب عن ذلك: بأن ذلك ليس مجرد جزاء للذنب الذي ارتكبه كله، ولكنه جزاء دنيوي يعود به على الذين في بيت الله، أما الجزاء الأخروي، فإن الله مستقبله به يوم القيامة، وفوق ذلك أن ما ذكره تعالى في جزاء القتل للصيد، إنما هو جزاء الفعل والعذاب الأليم جزاء الكابرة والمعاندة التي تدل على نقص الإيمان، بل تدل على عدم الاستسلام لله تعالى.
* * *(5/2356)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... (95)
* * *
الخطاب للمؤمنين بوصف الإيمان، فالإيمان يقتضي ألا يقتلوا الصيد وهم محرمون، وقوله: (وَأَنتُمْ حُرُمٌ) معناه وأنتم محرمون، فكلمة حرم جمع لحرام، وحرام قد تكون وصفا للمحرِم، فيقال: رجل حرام، وامرأة حرام إذا نوت الحج واتخذت شعاره، وجمع حرام حرم، والمحرم أو الحرام هو الذي يؤدي الحج أو العمرة، واتخذ شعارهما، إذ يصبح ما كان حلالا له بإطلاق، مقيدا في إحلاله، ويكون عليه مشاعر يجب أداؤها.
والنهي منصب على قتل الصيد، فما هو الصيد المحرم، وهو بلا ريب صيد البر، كما خصصت ذلك الآية من بعد، فقد قال تعالى من بعد ذلك:(5/2356)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) فمن هذا النص يتبين أن التحريم مخصوص بصيد البر، ويخرج منه صيد البحر، وذلك لأن البحر بعيد عن الحرم، والمحرم قد يحرم في منطقة قد تكون فيها بحار، فتحريم صيد البحر يكون إجهادا وحرجا وضيقا من غير فائدة تعود على المقيمين حول البيت الحرام.
والنهي منصب على الصيد نفسه لَا على قتله؛ لأن التحريم يتجه إلى محاولة صيد الحيوان، لَا إلى قتله فقط، وقد دل على ذلك قوله تعالى من قبله: (. . . غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حرُمٌ. . .).(5/2356)
وقوله تعالى: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا).
وأجيب عن ذلك بأن الغاية هو القتل للأكل غالبا، فعبر عن السبب وأريد المسبب، والقتل منهي عنه بالذات.
ولكن ما هو الصيد المحرم أيقع على كل حيوان بري، فيحرم صيده من غير قيد يقيده؛ لقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه استثنى من تحريم الصيد الفواسق، فقال - عليه السلام - فيما رواه الصحيحان " خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح، الغراب والحدأة والعقرب، والفأرة، والكلب العقور " (1) وهذه رواية مالك عن نافع عن ابن عمر، ورواية عائشة أم المؤمنين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة، والعقرب والفأرة والكلب العقور. . " (2).
وقد اتفق الفقهاء على أن قتل هذه غير ممنوع.
وقد جرى الخلاف فيما وراء ذلك، وكان أساس الخلاف هو أن النص معلل واختلفوا في تعليله، ففريق قال: ليست ثمة علة إلا الأذى، وعلى ذلك يكون محرما صيد ما عدا هؤلاء، إلا إذ كان مؤذيا بالفعل فيحرم الوحش إلا إذا كان قد ساور المحرم، وقال بعض الفقهاء: إن كل حيوان لَا يؤكل ومن شأنه مساورة الإنسان لإيذائه كالنمر والأسد وغيرهما يباح صيده، واختلفت الروايات والأقوال في المذاهب فقيل: لَا يباح صيد أي حيوان إلا ما جاء النص بإباحته، وما يساور الإنسان فعلا ليؤذيه، وقيل: يباح ما من شأنه المساورة، وقيل: إنه يباح صيد كل ما لَا يؤكل، وهو قول الشافعي، وإنا نميل إلى هذا القول؛ لأن التحريم معلل، وليس تعبديا خالصا، والحكمة واضحة، وهي منع التضييق على أهل الحرمين الشريفين، ولأن الصيد في غالب أحواله لَا يتجه إلا إلى ما يؤكل فيندر من
________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه مالك: المناسك - ما يقتل المحرم في إحرامه (798) عَنْ ابْنِ عُمَرَ، ويروي عن عائشة كما صرحت بذلك رواية البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها.(5/2357)
يصطاد ثعلبا أو ضبعا، ولأن القياس يثبت على الغراب والحدأة فهي حيوان لا يؤكل، وهذا هو الذي نراه معقولا، وهل يباح لحم ما يصطاد للمحرم إذا اصطاده غير محرم؟ لقد اختلف الفقهاء في ذلك، وأساس الاختلاف، الاختلاف في ذات الممنوع، أهو الأكل أم الصيد؟.
قال كثيرون من الصحابة والتابعين منهم ابن عباس: إنه يحرم على كل حال؛ لأن الصيد ذريعة إلى الأكل، وليس تحريم الصيد لذاته، ولكن لكيلا يكون أهل مكة في ضيق.
وقال آخرون: يحل ما دام لم يتول الاصطياد، وقد قال ذلك علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وجمع من الفقهاء.
القول الثالث: أنه إذا صيد لأجل المحرم كضيافته ونحوه فإنه يحرم، لا يكون كاصطياده.
والقول الرابع: أنه إذا لم يعاون المحرم في الصيد، ولو بالإشارة فهو حلال.
وهذا الذي نميل إليه؛ لأنه إذا كان قد عاون في الاصطياد، ولو بالرأي فقد اصطاد، وإذا لم يكن شيء من ذلك، فهو حلال، وإلا امتنعت الضيافات، وكان الناس في حرج وضيق السبيل إلى تبادل المودة، وهي مطلوبة في الإسلام.
(وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَم) المتعمد أن يكون عالما بالتحريم أو أن يكون من شأنه العلم بالتحريم؛ إذ يكون مقيما في دار الإسلام، وأن يكون قد قصد القتل ولم يقصد سواه وإلا فلا، كأن يساوره سبع يريد قتله، فيضربه، فيصيد صيدا، أو يرى عن بعد سبعا مفترسا ثم يرى شبحا يظنه هو فيتبين أنه غيره، فلا يعد في هذه الحال متعمدا الصيد ويكون فعله خطأ.
وعلى ذلك يكون ما عدا من اشتملت عليه هذه القيود خطأ، ويكون الخطأ قسمين: خطأ في الفعل بألا يريد الصيد فيقع الصيد كالصورة السابقة، أو خطأ(5/2358)
في القصد بأن يكون القصد ذاته غير سليم إذ يصوب سهمه على شبح فتبين أنه صيد.
وعلى ذلك يكون الجزاء لأجل التعمد، ولا جزاء في الخطأ.
ولكن الفقهاء اتفقوا على أن محظورات الصوم خطؤها كعمدها يوجب الفداء فكيف يعتبر الخطأ؟ ولقد أجاب عن ذلك ابن جرير، بأن جزاء الصيد ثبت بالكتاب، وجزاء الخطأ ثبت بالسنة، وقد أخرج الشافعي وغيره عن عمرو بن دينار أنه قال: رأيت الناس جميعا يغرمون في الخطأ، وبعض الفقهاء قال: إن جزاء العمد ثبت بالنص وجزاء الخطأ ثبت بالقياس أي أنه ثبت قياس الخطأ على العمد.
وعندي أن النص الظاهر في أن الجزاء مقيد بأن يكون القتل عمدا، وكل جزاء في حال الخطأ البحث فيه يكون إهمالا لقيد العمدية، ولذلك تقيد العمدية، بما يشمل الخطأ في القصد وغيره، فالعمدية القصد إلى الصيد ولو كان ناسيا لأنه محرم، أو جاهلا أنه محرم، وبذلك يكون سريان النص مع ما ورد من آثار فإن الأثر الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان فيه الصائد ناسيا إحرامه، فقد روى أنهم وهم في الحج عنَّ عير (حمار وحشي) فحمل عليه أبو اليسر، فطعنه برمحه فقتله، فقيل له قتلته وأنت محرم، فأتى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن ذلك فنزلت الآية (1)، وعلى ذلك اعتبر أبو اليسر قاتلا عمدا، وقد كان ناسيا أنه محرم، وذلك لمجرد أنه قصد القتل من غير نظر إلى أي ناحية نفسية أخرى، وبذلك يكون التوفيق بين الكتاب والسنة، وإنهما لمتوافقان، فالناسي يعد عامدا، وقاصد غير الصيد يكون مخطئا.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أن الجزاء يكون بالمماثلة بين الصيد، وحيوان يقاربه في الحجم من النعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وهكذا فسر بعض الفقهاء المماثلة، وقصرها على ذلك أكثر الفقهاء، وهو ظاهر النصوص؛ لأن الله تعالى
________
(1) ذكره الآلوسي في التفسير: ج 7، ص 23.(5/2359)
قرر أنه يحكم بالمماثلة ذوا عدل من المؤمنين، ولأنه قرر احتمال العجز عن المثل، فجعل بدله كفارة إطعام مساكين، فإن لم يجد يكون عدل ذلك صياما، ولأنه قرر أنه إذا وجده يرسله هدْيا إلى الكعبة.
وقال أبو حنيفة: إن المثل يكون بالقيمة، ولا شك أن ذلك القول قد يشكل ظاهرا مع ما ورد من نصوص إلا أن يقوّم الصيد، ويشترى بالقيمة هديا، فقد جزى بمثل ما قتل من النعم، والخلاصة أن القيمة تكون تعويضا يخير فيه بين أن يشتري هديا أو طعاما، فإن لم يستطع فالصوم.
وقد بين سبحانه طريق معرفة الجزاء ومآله وأنواعه فقال سبحانه:
(يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) الهدى اسم لما يذبح في الحج مهدًى إلى فقراء مكة، والنص صريح في أن الهدْي يبلغ إلى الكعبة، وكونه يكون هديا يصل إلى الكعبة يشير إلى حكمة منع الصيد في البيت الحرام، وهو أن الحجيج الكثيرين إذا أبيح لهم الصيد قطعوه عن أهل مكة، وجعلوهم في ضيق وحرج.
وذوو العدل من المسلمين هم أهل الشهادة ذوو الخبرة الدقيقة في تقدير الحيوان، بحيث يكونون ممن يصفقون في أسواق النعم، أو من أهل المعرفة بها الذين يعلمون الأسعار بملاحظة مكانها وزمانها.
وهذان الحكمان يعينان المماثلة، سواء أكانت المماثلة بتوسط القيمة، أو كانت بالمماثلة في الهيئة والحجم ونحو ذلك، وذلك لأن الحنفية يقررون أنه في القيميات، أي التي لَا تتعلق وحداتها - تكون المماثلة بتعرف القيمة، ولا سبيل غير ذلك، فلا يمكن أن يكون الحيوان مماثلا للحيوان إلا بتعرف قيمتهما.
وإذا قدرت القيمة اشترى بها هديا، وبلغ الكعبة، وذبح هنالك تعويضا، وإذا تعذر شراء الهدْي، أو تعذر الوصول إلى الكعبة تصدق به على المساكين، بحيث يكون لكل مسكين نصف صاع من بُر، أو صاع من الذرة أو الشعير أو(5/2360)
قيمة ذلك، فإن تعذر على المعتدي شيء من هذا لفقره كان عليه أن يصوم يوما لكل إطعام المساكين، ولا شك أن التخيير هنا ليس على حقيقته، إنما هو ترتيب مراتب على حسب القدرة على كل رتبة، فالأصل بلا ريب شراء هدْي، وذبحه عند الكعبة، فإن تعذر ذلك كان الطعام، فإن تعذر كان الصيام، وقوله تعالى: (أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ) أي ما يساويه من الصيام على أساس أن يكون لطعام المساكين وجبتين - صوم يوم، وقدرت الوجبتان بنصف صاع من بُر أو قيمته، أو صاع من غيره أو قيمته.
هذا هو الظاهر عند الحنفية، وروي عنهم أنهم قالوا بالتخيير إذا عرفت القيمة بين الذبح عند الكعبة، وبين إطعام المساكين، وبين الصوم، وعندي أن الترتيب حسب القدرة أوضح، وذلك هو رأي أحمد وزفر.
والمذاهب الأخرى تتلاقى في الجملة مع المذهب الحنفي بيد أنها تعتبر المماثلة في الأوصاف، وعندي أن المذهب الحنفي أوضح وأسهل تطبيقا، وأدق في تعرف المثل، وقد اضطروا إليه عند استبدال الطعام بالذبح، إذ لَا يعرف مقدار الطعام إلا بمعرفة القيمة.
(لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ) الوبال: العاقبة السيئة، ومعنى ليذوق أي ليدرك عاقبة الأمر الذي وقع فيه إدراك من يحسه ويذوقه؛ وذلك لأنه عمل على حرمان ناس من أن يذوقوا طعاما شهيا، كانوا ينالونه، فعليه أن يغرم نفسه مثله من طعام يذوقه في نظير ما حرمهم منه، فالعقاب من جنس الاعتداء: (. . . فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ. . .). وأن ما كان منهم من قبل، فإنه موضع عفو، لا يحاسب الله تعالى عليه في الدنيا ولا في الآخرة، فمعنى قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) أي أنه سبحانه لَا يطالب بتعويضه منهم؛ لأنه سلف ومضى منهم قبل التحريم، ولا يطبق القانون إلا على ما يجيء بعده، ولذلك قرر مؤكدا، أن العقاب يكون لما يقع بعده وللعائدين، وقال سبحانه: (وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ).(5/2361)
أى من عاد بعد تحريم الله للصيد فإن الله تعالى ينتقم، ونرى أن " الفاء " وقعت في جواب الشرط في غير ما سوغ فيه دخول الفاء، وأوَّلوا لذلك وقدروا محذوفا بجعل الجملة اسمية، وبعضهم جعل " من " اسما موصولا، والفاء تدخل في خبر الموصول، والحق أن القرآن فوق قواعد النحويين، وقد ورد دخول الفاء في شرط من، فقد قال تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا).
وقواعد النحويين غالبة تلزم الناس، ولا تلزم القرآن. والعود هو تكرار قتل الصيد، وذلك يدل على الاستهانة بأمر الله ونهيه، فيستحق صاحبه النقمة، ونقمة الله تعالى أشد النقم، ولذا قال تعالى: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَام) أي والله تعالى غالب فوق العباد، لَا يترك الأشرار يرتعون، فهو ذو انتقام كما أنه الرحيم، بل إن انتقامه من رحمته؛ لأن الرأفة بالأشرار ليست من الرحمة، ولذلك قال بعض العلماء: إن القاصد إلى الصيد معاندا لَا تقبل منه الكفارة، ويكون عذابه يوم القيامة لاستهانته بأمر الله ونهيه.
* * *
(أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ... (96)
* * *
في هذا النص الكريم نجد الله تعالى بين فيه ما حرم، وما حلل للمحرم، فأحل صيد البحر وطعام صيد البحر الذي يجوز أكله، وحرم عليهم صيد البر ما داموا محرمين مسستمرين على الإحرام، فالحلال في كل الأوقات والأماكن، والحرام في حال معينة محدودة فهو ذكر لنعمة الله تعالى وفيه إشارة إلى حكمته فيما حرم، وأباح سبحانه أن يصطاد الصائد من البحر، وأن يطعم منه، فأبيح الفعل والأكل لكم، والمتاع الانتفاع، ومعنى السيارة: المسافرون السائرون الذين لا يستقرون في مكان معلوم، فلكم أن تأكلوا لحما طريا من البحار لأنكم عابرو السبيل، والحرام فيما يتعلق بالبر حال الإحرام لكيلا تضيقوا على سكان مَن حول البيت الحرام. . وختم الله تعالى الآية بالأمر بالتقوى والتذكير بالاجتماع أمام الله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). وفي هذا تذكير بتقوى الله، حتى يعلموا أن الدنيا مهما يكن متاعها لها نهاية، وأن الإنسان محاسب على ما يتناول يوم(5/2362)
الحشر، أي يوم الجمع من غير تفرقة، والله وحده، هو العالم القادر المنتقم الجبار الرءوف الرحيم.
* * *
(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
* * *
كانت الآيات السابقة تقرر منع الصيد، وتؤكد المنع، وذكرنا أن ذلك ليس تعبديا فقط، بل فيه حكمة ومعنى ذلك أن الذين حول الكعبة يسكنون واديا غير ذي زرع عند بيت الله المحرم، وكانت دعوة إبراهيم - عليه السلام - أن يجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم، وقد استجاب الله تعالى دعاءه، ولكي يتحقق لهم الرخاء منع الصيد عن أولئك الذين جاءوا إليهم حاجين أو معتمرين، حتى لا تستنفذ كثرتهم ما حول مكة من صيد يمدهم باللحم طول العام، وفي هذا النص الكريم الذي نتكلم الآن في معناه إشارة بينة إلى هذا المعنى، فقد قال تعالت كلماته:(5/2363)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)
(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ)
نتقدم قبل الكلام في معنى النص إلى بعض نواح لفظية تمهد للكلام في المعنى: أولها - أن (جَعَلَ) إما أن نفسرها بمعنى خلق أو شرع الأحكام أو بمعنى صيَّر، وعلى الأولين تكون متعدية إلى مفعول واحد، ويكون المعنى على هذا خلق(5/2363)
الله تعالى الكعبة، وهي البيت الحرام وشرع لها تلك الأحكام التي تصونها وتصون شجرها وحيوانها لتكون قواما للناس في معاشهم ومعادهم، ويكون فيها نهوض لمقاصدهم وغاياتهم، وتروية لمتاجرهم، وليرزقوا بين الناس، وعلى أن (جَعَلَ) بمعنى صير يكون قوله تعالى: (الْبَيْتَ الْحَرَامَ) مفعولا ثانيا، ويكون المعنى صير الله تعالى الكعبة بييتا محرما، لتكون قياما للناس.
الثاني - من النواحي اللفظية هو في كلمة " الناس " أيراد بهم العرب الذين يعيشون حول الكعبة، ويتحقق بذلك الاستجابة لدعوة إبراهيم، أم يراد بهم الناس عامة الذين من شأنهم أن يحجوا إلى ذلك البيت؛ ويكون المعنى على الثاني، جعل الله الكعبة لها تلك المكانة لتكون قياما لكل الناس الذين يفدون إليها وهم المسلمون عامة؛ إذ يتعارفون فيها، ويتبادلون المودة الإسلامية الرابطة، ويوثقون الصلات الإنسانية والدينية والخلقية، يتراحمون فيما بينهم، ويحسون بالتجرد الروحي، والضيافة الربانية، وفي ذلك كله قيام لهم، وليس القيام هو القوام المادي فقط، بل المادي والروحي والخلقي.
الثالث - في قوله تعالى: (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ). الشهر الحرام قيل ذو الحجة، ونرجح أن المراد أربعة الأشهر الحرم، والهدْي ما يساق، وأخصها ذات القلائد، وهو ما يوضع عليها من شعارات من قلادة من بعض الأشجار تدل على أنها للبيت الحرام كما قال تعالى: (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ. . .).
ويكون معنى القلائد على هذا ذوات القلائد ويذكر بعض العلماء أن معنى القلائد هي ذات القلائد التي قرر الشارع أن توضع إشعارا لها بأنها للحج، وفى ذلك تكريم للبيت، وإعلاء، وإشعار لمكانته القدسية وذلك عائد على الناس عامة وعلى أهل مكة خاصة، وسيقت هذه الكلمات: (وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ) لبيان أنها قيام للناس.
وعلى ذلك تكون نعم الله تعالى بالبيت الحرام أربع:(5/2364)
أولها - البيت ذاته، وما منح من قدسية، وكان الناس لَا يحسون بالأمن، حيث يتخطف الناس في كل مكان، كما قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67).
وفى ذلك الوقت الذي لم يكن بالبلاد العربية حكومة تفرض سلطانها في أي مكان، قد ألقى الله تعالى في قلوب العرب بمهابة البيت حتى كان الرجل يلقى قاتل أخيه أو قاتل أبيه فلا يمسه بسوء، وحرم على المحرم الصيد، حتى يتوافر الخير طول العام لأهلها.
الثانية - الشهر الحرام، والمعنى فيه هو الجنس على رأى كثيرين، وهو ما نختاره إذ كان الناس يتقاتلون فإذا جاء ذلك الشهر امتنعوا عن القتال، فتعود القضب إلى أجفانها وتهدأ النفوس بعد ثورتها، وتقر بعد اضطرابها، والأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان، فيتمكن الناس من زيارة البيت الحرام آمنين مطمئنين حتى يتحللوا.
الثالثة - نعمة الهدى يساق إلى الكعبة من حيث الحجيج يحرمون، وقد يكون ذلك من أماكن بعيدة، فخير الأرض يصل إليهم موفورا، وخيرهم لَا تمتد إليه يد مجرم.
الرابعة - نعمة القلائد. وقد جاء في تفسير فخر الدين الرازي في بيان وجه النعمة فيها: (والوجه في كونها نعمة أن من قصد البيت في الشهر الحرام لم يتعرض له أحد، ومن قصده في غير الشهر الحرام، ومعه هدْي وقد قلَّده، وقلَّد نفسه من لحاء شجرة الحرم لم يتعرض له أحد، حتى أن الواحد من العرب يلقى الهدْي مقلدا، أو يموت جوعا فلا يتعرض له ألبتة).
(ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الإشارة للقيام، جعل الله تعالى ما شرعه للكعبة والحج من محرمات وشعائر، ومن تحريم الصيد، ومن الهدْي جعل كل هذا لتعلموا أن الله تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض. . . . وهنا توجد عدة أمور تثير النظر.(5/2365)
أولها - لماذا كانت تلك الشرائع المتعلقة سبيلا لمعرفة علم الله لما في السماوات وما في الأرض؟.
وثانيها - عند عطف الأرض على السماوات كرر ما في المعطوف والمعطوف عليه.
وثالثها - لماذا قرن علم الله تعالى بما في السماوات والأرض بعلمه تعالى بكل شيء، ولماذا تكون أحكام الحج والكعبة سبيلا لمعرفة علم الله تعالى العام المحيط بكل شيء.
والجواب عن هذه الأمور هو أن ما شرعه الله تعالى لمكة وما حولها وما فيها دليل على أن الله تعالى بعلم ما في السماوات وما في الأرض؛ لأن مكة في أرض جدبة لَا ماء فيها ولا شجر، وأنها جبال لَا ثمرة فيها، وأنه لَا خير يرجى من طبعها، كما قال إبراهيم - عليه السلام -: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرع عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِْ. . .). فالسماء لَا تجود عليها بغيثها منتظما والأرض لَا تجود عليها بإخراج إنزالها من معادن وفلزات سائلة وغير سائلة، فجعل الله سبحانه وتعالى الحج إليها. وحرم على المحرمين ما حرم من صيد ليبقى لهم ما عندهم من وفر في الحيوان المتأبد، ولتحمل من الأراضي الخصبة والغنية والتي فيها الثروات إلى تلك الأرض الجدبة؛ فينقل سبحانه من الفيض إلى الغيض ليعم الخير، وكانت بمكة كعبة للمسلمين، لأنها أرض لَا ترام من غاصب، ولا تراد من ظالم، ثم هي في وسط الأرض حتى قال علماء الأرضين: إن بيت الله تعالى الحرام في وسط أرض الله الواسعة، فهي نقطة الارتكاز في قطرها.
وقد يقال إن أرض العرب فيها البترول وفيها الزرع، ونقول إن ذلك بعيد عنها بمئات الأميال، بل ربما تجاوزت الحسبة الألف، فبينها وبين البترول البيداء الجرداء، فكان المتفهم لذلك التشريع لَا بد أن يؤمن بعلم الله بما في الأرض والسماء.(5/2366)
والجواب عن السؤال الثاني، هو أن تكرار (ما في) في قوله تعالى: (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) فيه إشارة إلى دقة العلم، وأنه لَا يغادر صغير ولا كبيرة إلا أحصاها، وتقديم السماوات على الأرض؛ لأن السماوات فيها مصدر الرزق، كما قال تعالى: (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ).
والجواب عن السؤال الثالث، في كل جزء من شرع الله تعالى فيما شرعه يدل على أنه صادر عن العليم الخبير، فشريعة الله تعالى في الميراث تدل على أنه من عند الله تعالى العليم، وشريعته في تكريم البيت الحرام وما حرم فيه من صيد البر، وما أبيح من صيد البحر وطعامه وتحريمه القتال في الشهر الحرام، وإيجابه سوق الهدْي وغير ذلك من شعائر الحج، ومباحاته ومحظوراته دليل على علم الله تعالى العزيز الحكيم الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
* * *(5/2367)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
* * *
كان النهي عن قتل الصيد وهم حرم سهلا على نفوس الأتقياء شديدا على نفوس الأشقياء الذين يسيرون وراء أهوائهم، وكل أمر ممنوع متبوع، وقد ابتلاهم الله تعالى بالصيد تناله أيديهم ورماحهم، وهم قريبون منه وهو قريب منهم فكان لَا بد من شكائم قوية تحكم النفس وتمنعها من الانطلاق وراء إشباع الرغبات، وهي على مقربة منها، والإرادة الحازمة المسيطرة على هوى النفس صبر قوى وضبط للنفس، وقد نبه سبحانه إلى العقاب الشديد للمخالف، كما نبه إلى رجاء الرحمة والغفران لكي يكون الصبر على رجاء الله سبحانه وتعالى وخوفه، فيخشى عقابه، ويرجو رحمته وثوابه، فالمؤمن في خوف، وقد روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لتعادلا " (1). فهذا النص لتقوية إرادة المؤمن، والآية فيها عبارات تنبئ عن التشديد، فيما اشتملت، فابتدأت بالأمر الحازم (اعْلَمُوا) وفي ذلك تنبيه شديد وإيقاظ للضمير، ليكون ما ينبه إليه من بعد، أوثق في القلب وأشد تثبيتا، ثم أكد الخبرب " أن " في بيان في ذكر الله تعالى وصفه بشدة العقاب، وصفه بالغفران
________
(1) جاء في الدرر المنتثرة (374) ج 1، ص 680.(5/2367)
والرحمة، ثم تكرر ذكر لفظ الجلالة لتربية المهابة في النفس، وتوكيد شدة عقابه سبحانه، وتوكيد غفرانه ورحمته.
والغفران ستر الذنوب، والرحمة الثواب، وأن ذلك عدل الله تعالى فلا يستوي من يحسن ومن يسيء، وبعد أن نبه الناس إلى الخير والسداد على ألسنة الرسل، قال سبحانه:
* * *(5/2368)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
(مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
* * *
في هذا النص السامي ترشيح وتقوية لمعنى الإنذار والتبشير في النص السابق، وفي هذا النص ما يفيد بالمعنى الضمني أن الرسول عليه التبليغ، وأنه لَا تبعة عليه بعد التبليغ، وأن المكلفين بعد تبليغه تكون تبعة الشر على الذين بلغوا، وجزاء الخير لهم، وأن الحساب بعد ذلك لله تعالى، وإنه لمحاسبهم على الشر إن فعلوه، ومجازيهم على الخير إن أدوه، ويقبل توبة العصاة إن تابوا وذلك بغفرانه ورحمته، وأن ذلك الجزاء على الخير خيرا وعلى الشر شرا يكون من عليم خبير، لَا تخفى عليه خافية، فهو يعلم ما تخفيه السرائر وتكتمه، ويعلم ما يظهر على الجوارح وتعلنه، فهو يعلم السر وأخفى، يعلم ما يبدونه وما يكتمونه، والخير له جزاؤه والشر له عقابه.
* * *(5/2368)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
(قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ... (100)
* * *
أمر الله تعالى نبيه أن يذكر لهم أن الخير والشر لَا يستويان، وأن الخبيث والطيب لَا يتساويان، فلا يمكن أن يكون معاملة أهل الخبيث كمعاملة أهل الطيب، وأمر الله تعالى نبيه أن يقول ذلك، ويبينه للناس على أنه جزء من رسالته يبينه للناس ويعرفهم به أو يذكرهم إياه وهو ما ترتضيه الفطر السليمة وتدركه العقول المستقيمة، وهو بيان لطبائع هذا الوجود.
والخبيث هو الأمر المستقذر، إما لأنه في ذاته قذر تعافه النفوس والطبائع السليمة، وإما لأن سبب الحصول عليه خبيث، فجاءه الخبث من سببه، إذ انسحب السبب على المسبب فلوثه، وإما لأنه مخل بالمروءة، فالمستقذر هو(5/2368)
الخبيث، وهو حسي، وأدبي، والطيب ما يكون حسنا في ذاته وفي طريق كسبه، وترضاه النفوس المستقيمة والعقول المدركة، وتأتي الشرائع بإباحته.
وإذا كانت تلك هي القاعدة الإنسانية العالية، والعادلة، فإنه لَا بد من عقاب المسيء، وثواب المحسن، ولكن الباطل له لجاجة وفيه كثرة، لأنه مجاوبة للذائذ الشهوات، وما يستلذ يكثر، وما يطاوع الهوى يزيد، وما يكون فيه صبر وضبط نفس يقل، وإن كان طيبا، ومهما يكثر الشر لن يتساوى مع الخير، ولذا قال سبحانه: (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثرَةُ الْخَبِيثِ). أي ولو أثار نفسك وعجبك واسترعى نظرك كون الخبيث كثيرا، إن الشر مهما يكثر لَا يمكن أن يستحسن شرعا أو ترضى به الأخلاق، ولا يمكن أن ينقلب بالكثرة مساويا للخير بل إنه كلما كثر، وجبت مقاومته، بشدة وبمقدار كثرته، تكون شدة المقاومة، وذلك فرق ما بين شريعة الله تعالى وقوانين العباد، فإن قوانين العباد، تستمد قوتها من الكثرة، وعرف الناس، ولو كان فاسدا، أما شريعة الله، فهي للخير المحض، وإذا كثر الشر لَا تتبعه، بل تقاومه، ولا ترضى به، لأنها جاءت لنشر الخير، ولا يمكن أن ترضى، وإلا ما كانت رسالات الرسل، ولا جهاد الأنبياء والصديقين والشهداء الصالحين، ولذلك أمر سبحانه بمقاومة الشر مهما كثر، فقال تعالت كلماته: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قال الله تعالى في الآية السابقة: (لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ). وأن هذه الجملة السامية تصلح الكبرى لقياس طويت صغراه، وهي مفهومة من قوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ زَحِيمٌ). إذ الكلام يكون هكذا ولكلام الله تعالى المثل الأعلى الذي لا يصل إلى مثله البشر. . لَا مساواة بين الخير والشر، والله يعاقب على الشر، ويثيت على الخير، والنتيجة لهاتين المقدمتين، أن الأشرار سيعاقبون، والأخبار سيثابون لَا محالة، ولازم هذه النتيجة أن يحذر الناس فيرجوا ثواب الله ويخافوا عقابه، وذلك الحذر يكون بتقوى الله تعالى بامتلاء القلب بخشيته، والعمل على اتقاء عذابه؛ ولذا قال:(5/2369)
(فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي إذا كان كل امرئٍ مجزيًّا بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فاملأوا قلوبكم بتقوى الله وخشيته وملاحظة أنه يعلم ما تبدون وما تكتمون، فاعبدوه كأنكم ترونه، فإن لم تكونوا ترونه، فاعلموا أنه يراكم، وهو يعلم سركم وجهركم، فإن خشية الله تعالى في أعمالكم على هذا النحو يُرجى منها الفلاح والفوز؛ لأنها سبب لذلك، فالرجاء في: (لَعَلَّكُمْ) من العبيد، لَا من الله؛ لأنه سبحانه يرجى ولا يرجو إنه بكل شيء عليم.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
* * *
في الآيات السابقة بين الله تبارك وتعالى أنه لَا يصح أن نحرم ما أحل، وإذا حرمناه بأيمان أقسمنا بها - بين سبحانه وتعالى تحلة أيماننا. ثم أشار من بعد إلى ما حرمه، وهو ما يكون مستقذرا في ذاته، أو يكون تحريمه مؤقتا بزمان ومكان، وليس تحريمه على التأبيد، ولكن العرب كانوا يحرمون على أنفسهم حلالا من الطيبات بأوهام يتوهمونها من غير تنزيل جاء بتحريمها، وليس في ذاتها ما يستقذر، وجنسها يحللونه ولا يحرمونه، ثم كان من المؤمنين من يسأل عن هذه الأمور فبين سبحانه أنه لَا أمر ولا نهي إلا ما جاء به القرآن، وأنه لَا يجوز أن يتقدموا بأسئلتهم حتى يبينه القرآن فكل حكم يكون في وقته المعلوم لتستأنس فيه القلوب بأحكام الشرع جزءا جزءا حتى يتمه الله تعالى قبل أن يقبض رسوله إليه ولذلك قال سبحانه:(5/2370)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْألُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسؤْكُمْ) كان المسلمون الأولون كثيري السؤال للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن أحكام، يسألونه عن أمور يشددون بها على أنفسهم، ويسألونه عن أمور تتجافى عن مبادئ الإسلام، ولكن لم يئن وقت تحريمها - لأن الإسلام شريعة عامة خالدة، وقد ابتدأ مخاطبا العرب بهذه الأحكام، ومنها من لم يكن عندهم أنس بتحريمها فاحتاجوا إلى التدرج، حتى يشربوا روح الإسلام، فينزل عليهم التحريم، وقد استأنست قلوبهم ببعض معالي الإسلام، ولقد كان منهم مخلصون يطلبون الحق في الأمور، ولا يلتفتون إلى مبادئ التدرج في الشرع، ومنهم غير مخلصين يريدون الإعنات، ومنهم بين أولئك وهؤلاء من يظهرون بألسنتهم التفقه والذين طلبوا التشديد. وقد سكت النبي - صلى الله عليه وسلم - ليطلب الناس ما يتيسر لهم، وما يمكن أن يكون أقواهم قادرا على أشده، ويروى أنه عندما فرض الحج في القرآن الكريم إذ قال تعالى: (. . . وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. . .). وقال عليه الصلاة والسلام: " إن الله كتب الحج فحجوا " فسأله عندئذ أعرابي قائلا " أكل عام يا رسول الله " فقال عليه السلام: " ويحك، ماذا يؤمنك أن أقول نعم، ولو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لكفرتم، ألا إنما أهلك الذين من قبلكم أثمة الحرج، والله لو أنِّي أحللت لكم جميع ما في الأرض، وحرمت عليكم منها موضع خف لوقعتم " (1).
كانت هذه الأسئلة تقع من المسلمين الأولين، والذي نراه خاصا بالآية التي نتكلم في معناها الأسمى ما كان يجري على الألسنة من أسئلة خاصة بأمر الشرع الذي لم ينزل فيه إباحة ولا تحريم كالخمر التي حرمت تحريما قاطعا بعد أن أشرب المؤمنون حب الإسلام، ونبذوا عادات الجاهلية التي لَا تتفق مع مبادئه، ونحسب أن هذه هي موضوع الآية الكريمة.
________
(1) مسند الشاميين (965) ج 2، ص 81 عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. ورواه الطبراني في الكبير وإسناده حسن جيد.(5/2371)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) والمعنى على هذا السياق لَا تسألوا عن أحكام أمور لم يجئ حكمها المبتوت في الإسلام، وشرع الله تعالى فيما كتب في علم الله العلي الحكيم أنها محرمة، ولو أبدى سبحانه هذا التحريم لهم لساءهم ذلك البيان لعدم الفهم، ولأنهم لَا يزالون متأثرين ببعض أحكام الجاهلية، كالخمر، فإن الشرع الإسلامي كرهها، ولو سئل عنها، فإنه لا يمكن أن يصرح بإباحتها، ولا يمكن إلا أن يكون بتحريمها، والتحريم القاطع قبل خلع الربقة الجاهلية تماما يسوء بعض النفوس، وهذا معنى قوله تعالى: (إِن تُبْدَ لَكمْ تَسُؤْكُمْ) ولو أنهم تركوا السؤال حتى نزل القرآن بالحكم في ميقاته الذي وقته الله تعالى ما كان في الحكم مفاجأة تسوء؛ لأنه يكون بعد إشراب القلوب بأخلاق الإسلام، ولذا قال سبحانه: (وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) والمعنى الظاهر من هذا أن القرآن عندما ينزل بها تحريما ومنعا أو إجازة وإباحة تكون النفس المؤمنة قد استعدت لتلقيها كما تهيأ الأرض الخصبة للزراعة فيجيء البذر والماء في إبانهما فتنبت نباتا حسنا بإذن ربها، وإن نزلت في القرآن كان السؤال في وقته وفي موضعها استفساراتها، ويكون بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسيرا، وعبر في حرف الشرط ب " إن " للإشارة بقلة السؤال؛ لأن البيان يكون كاملا من كلامه تعالى ومن سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْهَا) الضمير في عنها قال أكثر المفسرين: إنه عائد على الأسئلة التي تضمنها قوله تعالى: (لا تَسْألُوا). ولكن ذلك التضمين ليس بواضح، والأولى عندي أن نقول: إن الضمير يعود على الأشياء نفسها، لأن الضمير في " عنها " يعود إلى الأشياء، وبمقتضى النسق البياني لن يعود الضمير إلى شيء، ولذلك العفو عن الأشياء مغزاه الشرعي؛ لأن الناس قد يتساءلون عن هذه المحرمات قبل تحريمها، فيتساءلون عن الخمر قبل تحريمها، ويتساءلون عن تحريم زواج المؤمنة بالكافر قبل التحريم، وعن التبني قبل التحريم، وعن زواج امرأة(5/2372)
الأب قبل التحريم، وقد أجيب عن كل هذا، عفا الله عما سلف، فالمعنى عفا الله عن هذه الأشياء قبل التحريم، وبهذا يتحقق معنى العفو، وهو رتبة بين المباح والمطلوب، وأن الأشياء التي كان مسكوتا عنها أمدا طال أو قصر في الإسلام ثم حرمت بعد ذلك لَا يمكن أن تكون مباحة، لأنه لَا تنطبق عليها حقيقة المباح " إذ إن حقيقة المباح أنه يكون متساوي الضرر والنفع بالنسبة للمتناول، ويرجح أحدهما التناول، أو الحاجات الشخصية، ولا يقال عن شيء حرمه الشارع تحريما قاطعا لَا شبهة فيه إنه متساوي النفع والضرر، وما دام لم يوجد ما يثبت طلب الكف عنه، فإنه يكون في فترة السكوت مع كونه ضارا قد عفا الله تعالى عنه.
(وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) هذا ختام ذلك النص، ختم بهذين الوصفين للذات الكريمة للإشارة إلى أن جعل هذه الأشياء القبيحة في ذاتها كالخمر والتبني وزواج امرأة الأب في موضع العفو، ما دام لم ينزل شرع بتحريمها لَا يكون إلا من غفور يغفر الذنوب، ولا يحاسب إلا أن يكون نذير يمنع وينذر بالعقاب، كما قال سبحانه: (. . . وَمَا كُنَّا معَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا).
وكان وصفه سبحانه وتعالى بالحلم، وهو فيما يتعلق بالعباد التأني وأخذ الأمور بالتؤدة والروية، وبالنسبة لله تعالى علم الحكيم الذي يقدر لكل وقت ما يقتضيه، وللناس ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، فهو يؤخر التحريم، حتى تستأنس القلوب ويستمكن الإيمان، وهو لَا يأخذ بالهوادة ما يتعلق بأصل الإيمان كالتوحيد وترك الشرك، بل يبتدئ به من غير مواناة، ويقول لنبيه: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)، لأنه لب الدين، ليس فيه هوادة، ولا لأحد فيه إرادة.
* * *(5/2373)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
(قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
* * *
هذا قصص للعبرة ساقه لأولئك الذين كانوا يتعرفون أحكام الأشياء قبل ميقاتها ويتلهفون على معرفة حكم الله في أمور كانوا يريدون بيان الحكم فيها، وكان موجب ذلك السؤال والتلهف على معرفة الحكم أن يستجيبوا لداعي الله تعالى بالأمر والنهي، ولكنهم بعد أن(5/2373)
جاء الحكم المقرر الثابت تركوه هاجرين له، بل منكرين وجاحدين، فليست العبرة بتعجل المعرفة إنما الاعتبار للإيمان به، وأخذ الأنفس بتنفيذه، والمبادرة بالاستجابة.
والضمير في قوله تعالى (سَأَلَهَا) يعود إلى الأشياء على تقدير السؤال عن حكمها، وسأل تتعدى بنفسها، كما تتعدى بـ " عن "، وقد كان سؤالهم قبل الميقات الذي عينه الله تعالى، ثم لما حان الميعاد جاء التحريم، مع أنهم كانوا يسألون قبل الميقات جحدوه وكفروا به، وفي الكلام مقدر محذوف دل عليه السياق، وهو أنهم سألوا في غير الموعد، ثم نزل الحكم في الموعد، فأصبحوا كافرين، وفي الكلام بعض إشارات بيانية، يتقاضانا البحث ذكرها.
الأولى - حذف إنزال التحريم، وحذفه لأنه ليس العبرة فيه، إنما العبرة في أنهم سألوا ولجوا في السؤال ثم لما جاء التحريم كفروا.
الثانية - التعبير بـ " ثم " الدالة على التراخي؛ لأنه يدل على التباعد المعنوي بين اللجاجة في السؤال ثم الجحود والكفر بعد ذلك كأنهم كانوا يريدون حكما على هواهم، فلما جاء بما لَا يهوون كفروا.
الثالثة - التعبير بقوله تعالى: (ثُمَّ أَصبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ). فكلمة أصبحوا تدل على أنهم كانوا مؤمنين، والتحريم حولهم من الإيمان إلى أشد الجحود، إذ صاروا كافرين، أي أن الكفر صار وصفا لهم، ولم يكن حالا عارضة لهم والله الهادي إلى سواء السبحل.
* * *
(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا(5/2374)
حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
* * *
كان العرب يحرمون على أنفسهم أنواعا من النعم، ويحسبون ذلك دينا يتبع، ويتقرب به إلى منشئ الخلق من غير دليل، ولكنه وَهْمٌ سيطر عليهم، واستمكن في قبائل مختلفة منهم، فبين الله تعالت كلماته أن هذا ليس من شرع الله في شيء ولا سبب له إلا وهم مسيطر، ونسبوه إلى الله تعالى افتراء عليه، ولأنهم لَا يعقلون ما ينبغي في التحريم والتحليل لأن التحليل لذات الشيء، وقد خلقها الله تعالى طيبة، وكان كسبها طيبا، والتحريم، إما لأذى في ذات الشيء، أو أن فيه أذى لغيره كتحريم الصيد في ميقات الحج.
وقوله تعالى:(5/2375)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
(مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَة) معنى " جعل " هنا أنشأ وشرع، والمعنى ما أنشأ الله تعالى شرعا في التحريم في شيء من البحيرة والوصيلة والسائبة والحام، أي هذه الأشياء ما شرع الله تعالى أحكاما خاصة بنعم متصفة بهذه الأوصاف، بل هي وسائر النعم سواء، والتفرقة بينها وبين غيرها من وهم كان عندهم، لَا من حقيقة ثابتة تدركها العقول، ويظهر أن العرب كانوا متفقين في الجملة على تحريم هذه الأنواع فلا يأكلونها أو لَا يأكلها العامة منهم؛ إذ تنذر للكهنة، وذلك على اختلاف القبائل في أماكن بلاد العرب، ومع اتفاقهم على أصل التحريم بالنسبة لهذه الأشياء، قد اختلفت الروايات في حقيقتها، واختلف اللغويون باختلاف الروايات في حقيقة معناها. ويظهر أنه ليس اختلاف رواية أو أختلاف روايات متعارضة، إنما هو اختلاف قبائل العرب، وليس لنا أن نحصي(5/2375)
الروايات عدًّا ونراجح بينها، فنحن نميل إلى تصديقها جميعا، على أنها اختلاف بين القبائل، والمهم في القضية أنهم يحرمون بأوهامهم، ويفرقون بين النعم بأخيلة وأوهام من غير أي أصل ديني ثابت.
ولنكتف في تقريب هذه الأصناف برواية واحدة، وبلغوي واحد، وهو الراغب الأصفهاني، فالبحيرة عنده هي الناقة التي تلد عشرة أبطن فتبحر أذنها أي تشق، وتترك ويسيبونها فلا تركب ولا يحمل عليها، وقد قال تعالى في ذلك: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) وذلك ما كانوا يجعلونه بالناقة إذا ولدت عشرة أبطن شقوا أذنها، فيسيبونها، فلا تركب ولا يحمل عليها، والسائبة عندهم هي التي تسيب في الرعي فلا ترد عن حوض، ولا علف، وذلك إذا ولدت خمسة أبطن، وواضح أن الفرق بينها وبين البحيرة في المزايا أن ركوبها والحمل عليها لا يمنع، بينما يمنع في البحيرة.
والوصيلة هي: الشاة التي تلد توءمين ذكرا أو أنثى، قالوا وصلت أخاها، فلا يذبحونه من أجلها كما لَا يذبحونه، والحام هو كما قيل الفحل إذا ضرب عشرة أبطن يقال حمى ظهره، فلا يركب.
هذه تعريفات موجزة من بين الروايات المختلفة ذكرنا هذه الرواية لنقرب معناها، وكان تقديسها أو تكريمها لمعنى الولاد فيها، وأن بعضهم كان ينذرها نذرا لآلهتهم، وبعضهم كان يبيحها للكبراء دون الضعفاء ويحسبون ذلك دينا، وما هو إلا افتراء على الدين، ولذا قال سبحانه:
(وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) أصل الفرى معناه: القطع، والافتراء في القرآن الكذب القاطع، فمعنى افتروا على الله الكذب، قالوا كذبا مقطوعا بأنه كذب، وما ذكر الافتراء إلا مقترنا بالكذب للإشارة إلى أنه كذب مقطوع بأنه كذب، ومعنى النص الكريم: أن الله تعالى لم ينشئ في شرعه شيئا من البحيرة والوصيلة، ولكن الذين كفروا بسبب كفرهم وضلالهم قد قالوا بهتانا فحرموا على أنفسهم ما أحل الله، ونسبوا التحريم بهتانا(5/2376)
إلى الله تعالى، وما دفعهم إلى ذلك إلا أوهام مسيطرة على أكثرهم فلا يعملون عقولهم، ولا يفكرون في أمورهم تفكير العقلاء، بل أوهامهم هي المتحكمة فيهم، ولذا ختم سبحانه وتعالى النص بقوله تعالت كلماته (وَأَكثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ).
ومع هذا الضلال المبين لايستجيبون لداعي المرشد الهادي الذي يدعوهم إلى ما أنزل الله، ولذا قال سبحانه:
* * *(5/2377)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ... (104)
* * *
ما كان بالنسبة للحلال والأطعمة صورة مما هم عليه من الأوهام، وهي وإن لم تكن في ذاتها أمورا كبيرة تدل على عقل جامد لَا ينفذ إليه الحق السائغ الذي تستقيم عنده العقول، وترتاح إليه، فإن صغائر الأمور تدل على النفوس التي تتردى في كبارها، وأولئك لجمود تفكيرهم وطمس بصائرهم إذا قيل لهم تعالوا، أي تساموا واعلوا بتفكيرهم لتدركوا ما أنزل الله تعالى من قرآن يتلى، وما بين به النبي - صلى الله عليه وسلم - من نيرات واضحات، إذا قيل لهم أعرضوا بجانبهم، تولوا وقالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، وتلك حجة كل ضال مقلد لمن سبقوه وترك كل هداية مرشدة، والامتناع عن الإصغاء إلى الحق.
ولم يذكر الفاعل في قوله تعالى: (وَإذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا) وذلك لكثرة الدعاة وتكرار الدعوة، فالله يدعوهم إلى الحق، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم، والمؤمنون بأقوالهم ولسان حالهم يدعونهم، والدعوة لهم مكررة ليست واحدة حتى يذكر قائلها، ويندد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله:
(أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ) والمعنى أيقولون حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، ويقلدونهم، ويتبعونهم، ويغلقون باب الهداية عليهم ولو كان آباؤهم لَا يعلمون شيئا من الدين، ولا من الحلال والحرام، ولا يهتدون إذا بين لهم الطريق، أي ولو كانوا حائرين بائرين لَا يدركون الحق في ذاته ولا يهتدون إليه إذا أرشدوا وبين لهم.(5/2377)
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - شديد الرغبة في هدايتهم، حتى خاطبه ربه بقوله: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
وكان كذلك المؤمنون، فبين الله أنهم غير مسئولين عن إيمانهم بعد أن يرشدوهم، فقال تعالت كلماته:
* * *(5/2378)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا ... (105)
* * *
كان المؤمنون يعجبون من حال الكفار كيف يتبعون آباءهم على غير بينة وكيف يستمرون في غيهم، ومنهم ذوو قربى، فكانوا يرشدونهم، ويجزعون لإصرارهم، فبين الله تعالى في هذا النص الكريم أنهم بعد البيان ليس عليهم إثمهم، بل عليهم أن يلزموا بعد التوجيه أنفسهم، ومعنى قوله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ). احفظوا أنفسكم وصونوها عن الاتباع من غير تفكير، فلا تقلدوا آباءكم من غير بينة، واهتدوا بهدْي الله، ولا يضركم ضلال من ضل واستمر على غيه بعد أن أرشد إلى وجه الحق، ولكن لم يدخل قلبه بل استمر على ضلاله القديم، فهذا النص الكريم يفيد أمرين: أولهما - أن يحفظوا أنفسهم، ويقوها شر التقليد المردِي، ويعملوا على أن تبقى الهداية منيرة سبيلهم عامرة قلوبهم بها. وثانيهما - أنه لَا يضرهم ضلال الضالين، ما داموا قد تجنبوا طريق الغواية هم، وأرشدوهم إلى الحق.
ولعل ظاهر الآية يوهم أنه لَا يضر ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما دام لَا يضر المؤمن ضلال من ضل، وقد ظهر ذلك الفهم الخطأ في عهد صديق هذه الأمة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فقال: إنكم تقرءون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب " (1) والآية ليس فيها دليل ناهٍ عن الأمر
________
(1) رواه بنحوه أحمد: مسند العشرة - مسند أبي بكر رضي الله عنه (1). ورواه بلفظ مقارب جدا: ابن ماجه: الفتن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4005).(5/2378)
بالمعروف والنهي عن المنكر، والآيات الآمرة بهما، والأحاديث الواردة فيهما لا تزال قائمة ولا ينسخها وهم يسبق إلى ذوي الأوهام من غير نص يدل عليه، ولقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن مقام هذه الآية بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال عليه الصلاة والسلام: " بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شرا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأى برأيه، فعليك بخاصة نفسك ودع العوام، فإن من ورائكم أياما الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم " (1) وروي عن بعض التابعين أنه قال: كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتذاكروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقلت أنا: أليس الله تعالى قال في كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُم). فأقبلوا على بلسان واحد، وإني لأصغرهم سنا، وقالوا: أتنزع آية من القرآن لَا تعرفها، ولا تدري ما تأوليها؟! فتمنيت أني لم أكن تكلمت، وأقبلوا يتحدثون، فلما حضر قيامهم، قالوا: إنك غلام حديث السن، وإنك نزعت آية ولا تدري ما هي، وعسى أن تدرك ذلك الزمان، إذا رأيت شرا مطاعا وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأى برأيه، فعليك بنفسك لَا يضركم من ضل إذا اهتديت.
وخلاصة المروي عن آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين اتبعوهم بإحسان أن الآية لا تمنع القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل القيام به واجب محكم وإنه لَا يتم الاهتداء المنصوص عليه في الآية إلا بالقيام بهذا الواجب الخطير، وإنه، لا يترك إلا بحقه، وذلك إذا كان النداء بالحق يورث الفتن عندما يكون الهوى مطاعا والشر متبعا ولا يستطيع منادي الحق، أن يجد مصيخا (2) وقوله يزيد حدة الخلاف، ولا يكون سماع لذوي الكيس والرشد، ولقد قال عبد الله بن المبارك: إن هذه الآية أوكد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الخطاب لجماعة
________
(1) رواه الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة المائدة (3085) وقَالَ أبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيب. كما رواه أبو دود: الملاحم - الأمر والنهي (4341)، وابن ماجه: الفتن (4014)، وفيه زيادة: " ورأيت أمرا لَا يَدان لك به " أي لَا قدرة لك به.
(2) مصيخا: مستمعا. القاموس - صيخ.(5/2379)
المؤمنين، ومؤداها احفظوا أنفسكم معشر جماعة المؤمنين، ولا يهمكم ضلال غيركم من الأمم، ولا يجعلكم تغيرون أموركم إلى فساد، ولا شك أن من حفظ جماعة المؤمنين القيام بذلك الواجب العظيم.
وفى الحق إن القيام بهذا الواجب هو خاصة الأمة الإسلامية كما قال تعالى: (كنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ).
ولا يصح أن يُتخلى عنه، وليس في مصادر الشريعة ولا في مواردها ما يسوغ التخلي، وأن ترك القول في أيام الفتن الطحياء (1) التي يكون القول مؤديا إلى زيادة في الفتن والاتهام، فلا يجدي قول، ولا يهدي فكر إلى الرشاد، فيكون السكوت أولى من الكلام، حتى تهدأ عجاجة الفتنة، وتعود القلوب إلى جنوبها، ويوجد السميع، ولكن في هذه الحال يكون الإنكار القلبي، وإرشاد القابلين للإرشاد، في غير ضجيج ولا عجيج والله سبحانه وتعالى راد الحق إلى نصابه، والقضب إلى أجفانها، وهو بكل شيء عليم.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى
________
(1) من الطحح وهو الهلاك كما في " العين ": وطوَّحْتُ به: حَمَلْتُ على رُكوبِ مَفازة يُخاف هلاكُه فيها. قال أبو النَّجْم: يُطوحُ الهادي به تطويحًا.(5/2380)
أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
* * *
في الآيات السابقه ذكر سبحانه وتعالى أحكام الطيبات وأنه لَا يجوز تحريمها، وأن المشركين يحرمون على أنفسهم ما أحل الله تعالى، ويدعون أن تحريم ذلك دين متبع، وقد بين سبحانه وتعالى بطلان ذلك، وبين سبحانه وتعالى أن على المؤمنين أن يحفظوا أنفسهم، ويلتزموا الهدى، وألا ينحرفوا عن الحق، وفى هذه الآيات المقبلة بيان طريق من طرق الإثبات وهو الإثبات بالشهادة، والجملة السابقة كانت لبيان الحق في عامة صوره وأحواله، وهذه الآيات في صورة منه وهي أدق الصور، وهي التي تكون بعد الوفاة، لقد قال تعالى:(5/2381)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) قال فخر الدين الرازي في الربط بين هذه الآية وما قبلها: " اعلم أنه تعالى لما أمر بحفظ النفس في قوله تعالى: (عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ) أمر بحفظ المال في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ)، وموضوع هذه الآية أدق الموضوعات في باب الإثبات، وقد قرر علماء القانون الوضعي دقة الإثبات في موضوعها، وهو الوصية التي تكون في سفر، ويموت صاحبها في هذا السفر، وإنهم قد تساهلوا في طرق الإثبات فيها تحققا من صحة الوصية والأموال ومآلها، حتى لقد قال بعض القانونيين: إنه تثبت الوصية بالكتابة على الرمل لمن حضرته الوفاة، وهو نائم على ذلك الرمل؛ وذلك الأن الإثبات في هذه الحال التي مات فيها صاحب الوصية من غير أن يتمكن من أن يكتب وصيته صعب.(5/2381)
ولهذا شدد الإسلام في ضرورة كتابة الوصية، والشخص قوي معافى، حتى لا يدركه الموت قبل أن يتمكن، حتى أن عبد الله بن عمر ليقول: (لا يحل لمؤمن إلا أن يبيت ووصيته مكتوبة قد وضعها تحت وسادته).
الخطاب في قوله تعالى للمؤمنين بقوله تعالت كلماته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) للإشارة إلى أنه من مقتضيات الإيمان العناية بالوصية، ونقلها وتنفيذها بالعدل، كما قال تعالى: (فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. . .).
والشهادة على الوصية نصابها اثنان ذوا عدل منكم والعدالة هي الصدق في القول والأمانة على المال والقيام بأوامر الدين، والانتهاء عن منهياته، بحيث لا يجاهر بمعصية، ولا يرتكب منكرا إلا اللمم كما قال تعالى: (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْم وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ. . .)، والقيام على الوصية يكون بتنفيذها كاملة موفورة، والمحافظة على الأموال، ونقل إرادة صاحب تلك الأموال.
وإنه لَا يتوافر العدل في كل الأحوال في الوصية، فإنه قد يكون الموت في سفر، ولا يتوافر العدل من المؤمنين، فقد يكون المصاحب للمتوفى من غير المؤمنين، أو من غير العدول، ففي هذه الحال يتساهل وتقبل شهادة غير المسلمين، ولذا قال سبحانه:
(أَوْآخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ).
قوله تعالى: (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ما المراد بهذا المغاير؛ وذلك يستدعي بلا ريب تفسير (منكم) فقد قال بعض العلماء: إن منكم معناها من قبيلتكم، أو من أقاربكم، ويكون من غيركم معناه من غير قبيلكم أو من غير ذوي قرابتكم، والجميع في دائرة أهل الإيمان، ويتمسك هذا الفريق بأنه لَا تقبل شهادة غير المؤمن، فلا يمكن أن يكون المراد من غيركم الكافرين؛ لأن الكافر لَا تقبل شهادته على المؤمن عندهم.(5/2382)
وقد قال آخرون: إن المراد بقوله تعالى (مِنكُمْ) هو أن يكون الخطاب للمؤمنين؛ لأن النداء في الذين آمنوا لَا في قبيل منهم، إذ النداء لهم قاطبة لا لفريق منهم، ولذلك يكون الاثنان اللذان من غيرهم من غير المؤمنين، ومقتضى هذا التخريج أن تقبل شهادة غير المسلمين في هذه الحال، وقد أجازها جمع من التابعين منهم سعيد بن المسيب وابن سيرين، ويحيى بن يعمر، وعكرمة، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وقتادة، وشريح القاضي، وهذا رواية عن أحمد بن حنبل، وقد قرروا أن شهادة غير المسلم على المسلم تقبل في حال السفر، وعلى أن تكون الشهادة في وصية كما نص القرآن الكريم، وذلك لمقام الضرورة، ولمنع ضياع الحقوق ما أمكن ولأن ذلك يشبه التحري، ويكون المراد من العدالة الاشتهار بالصدق والأمانة، ومنهم من يكون كذلك، وإن أصاب الضلال اعتقاده، وثانيا لأن قبول شهادتهم استثناء فيقتصر على موضع الوصية، فيقتصر على مورد النص، وهي تقييد الحال بحال السفر، وتقييد الموضوع بأن يكون في الوصية.
وهنا إشارات غير لفظية:
الأولى - قوله تعالى: (إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ). المراد به إذا سافرتم؛ لأن المسافر يضرب في الأرض، وقد أشرنا إلى ذلك من قبل.
الثانية - قوله تعالى: (فَأصَابَتْكم مّعيبَةُ الْمَوْتِ). أي نزل بكم، وسماه سبحانه وتعالى مصيبة؛ لأنه بطبيعته يؤلم أو يصحبه أو يقارنه أو يسبقه آلام نفسية، ولأنه حق ليس بمحبوب وخصوصا لمن يموتون حتف أنفسهم، ولا يموتون استشهادا في سبيل الله تعالى، ورجاء لقائه، ولأنهم يفدون بموتهم جماعة المؤمنين؛ فالثمن الذي أخذوه أغلى من الموت الذي قدموه.
الثالثة - أنه عندما ذكر سبحانه الاثنين من غير المؤمنين لم يذكر العدالة ولكن المفروض أن يكونا صادقين اشتهرا بالأمانة، ولكن لم تذكر العدالة؛ لأنه لا يمكن أن يكون غير المؤمن عدلا عدالة مطلقة، بل تكون مقيدة.(5/2383)
هذا، ويلاحظ أن الأئمة الثلاثة مالكا والشافعي وأبا حنيفة وأصحابه لا يقبلون شهادة غير المسلم على المسلم مطلقا في سفر أو حضر، في وصية أو غير وصية، ويظهر أنهم يسيرون على التخريج الأول.
وقد بين سبحانه طريق أداء الشهادة، فقال: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْد الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) الضمير في قوله تعالى: (تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةَ) يعود على الشاهدين ذوي العدل من المسلمين أو من غيرهما، والحبس الإمساك لأداء الشهادة اللازمة حتى تؤدى، والصلاة كما يفسر التابعون الذين تلقوا تفسير أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يراد بها صلاة العصر؛ إذ يكون وقت استجمام النفس، واستحضار عظمة الله تعالى، وطيب الجو، والفقهاء يعتبرون من السنة سماع الشهادة بعد صلاة العصر، حيث تكون النفوس قارة مطمئنة، وإذا كانا غير مسلمين، فإنهما يسمعان بعد صلاتهم.
وهذا حكم عام، ويلاحظ أن شهود الوصية لهم صفتان: إحداهما - صفة الشاهد العدل المخبر عن الواقع الناطق بالصدق فيه الذي يشهد على مثل الشمس عيانا، الصفة الثانية - أنهما وصيان للميت أمينان على ماله، يحافظان عليه، حتى يصل إلى أهله، ويسلم إليهم موفورا غير منقوص، ولذلك كان حقا عليهما أمانة الله تعالى، ولذلك كان أي ريب فيهما يؤدي إلى ضياع المال وحق المتوفى، وحق ذويه، ولذلك شرع القسم إن كانت ريبة أي ريبة كانت، ولو كانت نفسية ليس لها مظاهر مادية، ولذا قال: (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتمْ) وهذا النص الكريم يفيد أن الحبس بعد الصلاة والقسم على صدق القول لَا يكون إلا حال الارتياب، وبهذا يرد قول الذين يقولون: إن الشهود لَا يستقسمون، أولا - لأن هؤلاء ليسوا شهودا من كل الوجوه، لأن لهم صفة أنهم أوصياء، والأوصياء يحلفون إن كان ثمة ريبة في تصرفهم، وثانيا - لأن الحال حال استثنائية فيجب ما أمكن الاحتياط، والحلف عند الارتياب، فلا بد من توثيق القول بالوثائق، لكي يكون الاطمئنان بدل الشك والارتياب، وبين سبحانه تتميما للاستيثاق صيغة اليمين، فقال:(5/2384)
(لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ) الشراء يطلق بمعنى البيع، والمعنى لَا نبيع يمين الله تعالى الذي أقسمنا به، ولا عهدنا الذي عاهدناه بهذه اليمين بأي ثمن كائنا ما كان وبأى قدر كان، فالضمير يعود على القسم بالله المفهوم من قوله تعالى: (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ). وقال تعالى: (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أي ولو كان الذي يستفيد من شهادتنا ذا قرابة قريبة، فكلمة قربى لَا تطلق إلا على القرابة القريبة التي تحمل غير الأتقياء على الكذب في الشهادة، ومن موضوع القسم، والتغليظ فيه عدم كتمان الشهادة، وكتمانها هنا يشمل ثلاث صور من الكتمان: أولاها - أن يخفى بعض الحق، وثانيها - أن يخفى بعض الموصى به فلا يذكره كله، والصورة الثالثة - لمن لَا ينقل كلاما للموصي يحرر إرادته. ومن مؤكدات القسم أن يقولوا مع قولهم في القسم " لا نكتم ": (إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ).
وذلك بأن يقروا على أنفسهم بالإثم إن حادوا أو كذبوا في يمين الله، أو قالوا غير الحق الذي كانوا أوصياء عليه، وقد أكدوا الإثم على أنفسهم في إيمانهم بمؤكدات أربعة: أولها - التعبير بالجملة الاسمية، ثانيها - التوكيد بـ " إنا " - ثالثها - اعتبار الحكم على أنفسهم بالإثم نتيجة منطقية لأعمالهم، ولإخفائهم الحق، ورابعها - أن يخرجوا من زمرة الأبرار الأطهار ويدخلوا في زمرة الآثمين الأشرار، والأمر بالنسبة للذي غيب في التراب، وهو لَا ينطق بما يريد، ويبين ما عليه حاله وماله يوجب الاحتياط فيهما قبل الشهادة، والتحري على أمره بعد وفاته، فعسى أن يكون حق قد ضاع شيء، وقد تبين سبحانه حال العثور عليه، فقال:
* * *(5/2385)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
(فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ ... (107)
* * *
عثر الرجل يعثر عثرا إذا وقع على أمر لم يكن معلوما من قبله، ولم يقع عليه غيره ممن يهمهم، ويقال: أعثرت فلانا على أمر أطلعته عليه، وكل من اطلع على أمر كان خفيا يقال: قد عثر عليه، والعثور على الشيء يكون في الغالب العلم الذي لم يكن له مقدمات عنده، بل ربما يكون الإطلاع عليه بالمصادفة.(5/2385)
والأمر في هذه الحال الذي يموت فيها المورث يكون محل جهل إذ يموت في سفر، ولا طريق للعلم إلا عن طريق هذين الشاهدين اللذين لهما مع الشهادة صفة الوصية، والعثور يكون بمثل الاطلاع على شيء من ماله عندهما لم يكن قد جرى ذكره على لسانهما، ومعروف عند ورثته أنه كان يملكه، أو يظهر عليهما يسار مفاجئ ويتبين من قرائن الأحوال أنه كان من ماله، أو يظهر من كتب أرسلها المتوفى قبيل وفاته تدل على ما كان يملكه عند الوفاة، ولم يذكرا في شهادتهما وهكذا يكون العثور على شيء لم يكونوا يعلمونه.
ومعنى قوله تعالى استحقا إثما - أي أنهما خانا في الأمانة، فلم يقوما بحق الوصاية، وكذبا في الشهادة فلم يصدقا، وحلفا يمينا غموسا تغمس صاحبها في النار، فاستحقاقهما للإثمِ بسبب ذلك الكذب وتلك الخيانة، والحلف الكذب، وقوله تعالى: (اسْتَحَقَّا إِثْمًا) تتضمن كل هذه المعاني وغيرها، والإثم هو هذه المعاني كلها، والعثور على ما يتضمن ضياع حقوق الورثة، وذهاب أموالهم، وما قالوه فيه بخس لما يستحقون، وضياع لما يملكون، إذ قوله تعالى حين الوصية أي حين إخبار المتوفى بأمواله وإيصائهم بالمحافظة عليها، وتوزيعها بين مستحقيها وإذا كانت جناية هؤلاء على المستحقين للتركة، فالقول قول المستحقين يدلون به، ولذا قال سبحانه: (فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا). أي فشاهدان آخران يقومان في إحقاق الحق، وإظهار الحقيقة، وبيان ما خفي من إرادة المتوفى وأمواله وما له من حقوق وعليه من واجبات مقام الأولين، وهذا التعبير من ألطف التعابير بعد ظهور الإثم، إذ إنه ينبئ عن التعاون بين هؤلاء الآثمين، والأبرياء في إظهار الحق، إذ إن المجني عليهم يقومان مقام من جنوا.
وقد بين سبحانه مَن الذين يختار منهم الآخران اللذان يقومان، فقال سبحانه: (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ) في هذا النص السامي بيان من يختار منهم، وكيف يختاران، والضمير في قوله تعالى (اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) يعود على الإثم المذكور في من استحقا إثما، وهو الفاعل؛ والمعنى أن الذي يكون منهم الآخران(5/2386)
الذين استحق الإثم عليهم أي حقت آثاره ومغبته عليهم وهم الورثة، وهذا على قراءة الفعل بالبناء للمعلوم، ومعناها - كما رأيت - الذين حقت عليهم مغبة الإثم ونتائجه، وهم المستحقون للمال بعد وفاة المتوفى بوصية المورث أو بوصية الله تعالى بالميراث، وهناك قراءة بالبناء للمجهول (1)، ومعناها الذي استحق عليهم أي أخذ منهم بمقتضى الشهادة الباطلة، والمؤدى في القراءتين واحد.
ذكر النص أنهما الأوليان بالنطق بالحق لأجل الورثة، إما لأنهم أقرب الورثة أو لأنهما أرشدهم، أو ألحق بمحبتهم.
ومعنى النص الكريم على هذا أن اللذين شهدا المتوفى عند وفاته هما أولى الناس بذكر الحقيقة، وإن كان ارتياب يحبسان بعد الصلاة ويستقسمان قسما موثقا، فإن ظهر ما يدعو إلى تكذيب شهادتهما في كلها أو في بعضها، كان للمستحقين للتركة حق الشهادة ويختار أولاهما بالتحدث عن المتوفى، وهذا معنى (أَوْلَيَانِ)، وهي خبر لمبتدأ محذوف، وتدل على طريقة الاختيار، وإن هؤلاء لأن المال يئول إلمهم لَا يقبل قولهم إلا بيمين لأنهم بمنزلة المدعَى عليه بكلام الأوصياء الذين يكذبونهم، ولذا قال سبحانه:
(فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، وتقديره إذا كانا يتقدمان لإحقاق الحق فلابد أن يقسما بالله، وهنا إيجاز معجز، إذ يقسمان بالله تعالى على الختل (2) في الأمانة وعلى ما يريان أنه الحق، ثم يقسمان مع ذلك على أمرين أولهما - أن شهادتهما أحق بالقبول من شهادة الآخرين لصدقها، ولظهور الخيانة في قولهم، ولأنه فقدت قوتها لعدم الأمانة، وثانيهما - أن يقسما على أنهما ما اعتديا، بأخذ
________
(1) قرأها بالفتح (استَحَق) حفص، والأعشى عن أبي بكر عن عاصم (غير النقار، وجبلة)، وقرأ الباقون بالضم، أي: (استُحِقً). أفدته من غاية الاختصار - برقم (817).
(2) فيقسمان على (عدم) الختل. والختل: الخديعة. من: خَتَلَه يَخْتِلُه ويَخْتُلُه خَتْلًا وخَتَلانا: خَدَعَه.
كما في القاموس: ختل.(5/2387)
ما ليس بحقهما، وكان التعبير بنفي الاعتداء؛ لأنهما مطالبان. والمطالب يخشى اعتداؤه؛ لأن كذبه يتضمن اليمين الغموس، ويتضمن الأخذ بغير حق، فيكون اعتداء، ولقد أكد الله سبحانه وتعالى عليهم عدم الاعتداء بأن يقولوا: (إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) وذلك فيه تأكيد لعدم الاعتداء، وبيان أن شهادتهما أحق من شهادة الأولين، إذ لو لم يكونوا صادقين لكانوا ظالمين، وقد أكدوا ظلمهم بأربعة مؤكدات: أولها - الجملة الاسمية، وثانيها - بأن المؤكدة، وثالثها - بإثبات أن الحكم بالظلم له مقدماته فيكون منطقيا، ورابعها - دخولهم في زمرة الظالمين، وخروجهم من طائفة الأبرار الأخيار.
وإن ذلك كله تقريب للحق، وبعد عن الباطل، ولا يمكن أن يكون الحق مؤكدا من كل الوجوه، بل لَا بد من التقريب دون التحديد، ولذلك قال سبحانه:
* * *(5/2388)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
(ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ... (108)
* * *
الإشارة في ذلك إلى النظام كله الذي نظمه القرآن الكريم، والنسق الحكيم من الشهادة التي يقوم بها الوصيان تكون ابتداء من أهل التقوى، ويعتمد على تقواهم وعدالتهم، فإن أمسكا بعد الصلاة، وأخذت عليهما الأيمان المغلظة ويتعرف الأمر من ورائهما، ولا يترك من غير تحريات كاشفة، فإن عثر على أن الشهادة فيها إثم أو غير حق استشهد غيرهما من الذين ينقص حقهم بشهادتهما، واختير أولى الناس من المستحقين بالقول، ذلك النظام كله أقرب إلى أن يؤدي الشاهد الشهادة على وجمها، إما لأنه يريد الحق لذات الحق، أو لأنه يخاف أن الأيمان الشاهدة الجارية على لسان غيره بعد يمينه تعلن كذبه على الأشهاد، وخيانته بين الجموع والآحاد، فمعنى ترد أي تترك أيمانهم، وتطرح ويعاد القول إلى غيرهم بعد تكذيبهم.
والنص يومئ إلى أنه إذا عثر على كذب بعد شهادة الأقربين ترد الشهادة على من يليهم حتى لَا يضيع حق قط.(5/2388)
ولقد يَروي الرواة قصة في هذا الموضوع ويذكرونها على أنها سبب النزول، وإنا نذكرها؛ لأنها موضحة للوقائع، جاء في تفسير ابن كثير " عن ابن عباس عن تميم الدارى في هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضر أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ). قال: برئ الناس منها غيري وغير عدي بن بدار، وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام (أي إسلامهما) فأتيا الشام لتجارتهما، وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بديل ابن مريم بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك، وهو أعظم تجارته فمرض فأوصى إليهما، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله، قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم واقتسمناه أنا وعدي، فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إلى أهله ما كان معنا، وفقدوا الجام فسألونا عنه، فقلنا ما ترك غير هذا، وما دفع إلينا غيره قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة تأثمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر، ودفعت إليهم خمسمائة درهم، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها، فوثبوا عليه، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل المدينة فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ).
إلى قوله: (فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا) فقام عمرو بن العاص، ورجل آخر منهم فحلفا، نزعت الخمسمائة من عدي بن بداء " (1) وهكذا. . . وقد ختم الله تعالى بيان ذلك الحكم الشرعي بقوله تعالت كلماته:
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) ختم الله تعالى بيان ذلك الحكم الشرعي الدقيق بأمرين، وذكر أمر كلي، أما الأمر الأول فهو الأمر بالتقوى بأن يملأوا قلوبهم بخشية الله تعالى ومهابته، واتقاء عصيانه، وجعل وقاية بينهم وبين عذابه، وذلك أمر لازم لكل مؤمن، وخصوصا لمن يودعون أسرار الناس، الذين لَا يستطيعون دفع الكذب والباطل عنهم.
________
(1) رواه البخاري: الوصايا - باب: (يا أيها الذين آمنوا شهادة) (2780)، ورواه مطولا، الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة المائدة (3059) عن ابن عباس عن تميم الداري.(5/2389)
والأمر الثاني - هو ما قرره بقوله سبحانه: (وَاسْمَعُوا) أي اسمعوا قول الحق وعوه، واعملوا به ولا تيئسوا، ولا يأخذكم السأم عن أن تسمعوا كل قول حتى تصلوا إلى الحق الذي تبتغونه.
وأما الأمر الكلي فهو أن الله سبحانه وتعالى لَا يهدي القوم الفاسقين، ومعنى عدم هدايتهم أنهم بسبب ما اكتسبوا من سيئات الفسق، وما أحاطت به خطيئاتهم أصبح الحق لَا يدخل إلى قلوبهم، فلا يهتدون لأن الفسق صار شأنا من شئونهم، ولا يمكن أن تلتقي الهداية مع الفسق في قلب من فسق عن أمر ربه. اللهم جنبنا الباطل وأهله، إنك سميع مجيب.
* * *
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
* * *
الكلام من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ. . .). كان في أهل الكتاب، ومعاندة اليهود، وتحريف(5/2390)
النصارى عقيدة المسيح عليه السلام، ثم بين سبحانه علاقة المسلمين بالمشركين واليهود، ومن جاورهم من النصارى، وبين أن الأخيرين كانت علاقتهم بالمسلمين مودة، وذكر الرهبان عندهم، وبين بهذه المناسبة إباحة القرآن للطيبات، وأشار إلى تحريمه للخبائث في ذاتها بتحريم الخمر، ثم أشار إلى ما حرم من مكان معلوم ووقت معلوم ثم ذكر مكانة الكعبة، وما حرمه المشركون على أنفسهم من غير حجة ولا سلطان مبين، ثم تكلم عن شهادة أوصياء الميت إذا مات غريبا وكان المناسب بعد ذلك أن يتكلم عن حال الناس بعد أن يجمعوا يوم القيامة، ومقالة الرسل لمن بعثوا إليهم، وأخصهم عيسى - عليه السلام - الذي ادعيت أولوهيته، فقال تعالت كلماته:(5/2391)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
(يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوب) قال كثيرون من المفسرين، وعلى رأسهم إمام البلاغة الزمخشري: إن هذه الآية غير مقطوعة عن سابقتها من ناحية السياق اللغوي؛ لأن (يَوْمَ) متعلق بقوله سبحانه: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا): أي اتقوا الله تعالى واسمعوا الحق وأنصتوا إليه يوم القيامة يوم يجمع الله الرسل، ويسألهم عن إجابة أقوامهم لدعواتهم الحق، ويصح أن تكون متعلقة بقوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
والمعنى، والله سبحانه وتعالى لَا يهدي القوم الفاسقين إلى ما فيه نعيم يوم القيامة، يوم يجمع الله الرسل ويسألهم؛ لأن اليوم ليس بيوم تكليف ولكنه يوم جزاء، ويكون الفسق شاملا للكفر؛ لأن الكافر فاسق عن أمر ربه.
وبعض المفسرين، قطع الآية عما قبلها واعتبرها إنذارا مبتدءا، وقالوا إن قوله سبحانه: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ). متعلق بمحذوف مقدر هو - اذكر - لأهل الكتاب يوم يجمع الله الرسل. . . . في هذا اليوم المشهود يقول الله تعالى مخاطبا رسله الأكرمين بالتجلى عليهم:
(مَاذَا أُجِبْتُمْ). والمعنى أي إجابة أجبتموها؛ وذكر بالبناء للمفعول، ولم يذكر أقوامهم، فلم يقل ولله المثل الأعلى أي إجابة أجاب أقوامكم، تحقيرا(5/2391)
لأولئك الأقوام، إذ جهلوا مع أسباب العلم، وكفروا مع قيام ذرائع الإيمان، ولأن الصلة بينهم وبين رسلهم قد قطعت يوم القيامة، فلا ينالون شرف الاتصال بهم، إذ الاتصال كان للهداية وقد حرموها.
وكانت إجابة الرسل: (لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي إنك أنت وحدك العالم علما ليس فوقه علم؛ لأن التعبير بصيغة المبالغة:
(عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي لكل ما يغيب عن الناس أجمعين، وما يغيب عنهم.
ولكن لماذا نفوا عن أنفسهم العلم، مع أن عندهم بعض العلم؟ وقد أجيب عن ذلك بأنهم علموا أن المقصود استنكار حال من بعثوا إليهم وتوبيخهم، فساروا على مقتضى السياق، وقالوا: لَا علم لنا في هذا بل أنت الأعلم، وقيل في الجواب عن هذا: إنهم كانوا في حال ذهول، فنفوا عن أنفسهم العلم في حال ذهولهم، وقيل في الجواب أيضا: إنهم استحقروا علمهم بجوار علم الله تعالى، وقيل: إن علمهم كان بمن عاصروهم لَا بمن جاء بعدهم، وقد جاء في الكشاف في توضيح الجواب الأول ما لَا يغني عنه التلخيص، فقال - أي الزمخشري - رضي الله عنه:
(فإن قلت: كيف يقولون لَا علم لنا، وقد علموا بما أجيبوا؟ قلت: يعلمون أن الغرض من السؤال توبيخ أعدائهم، فيكلون الأمر إلى علمه وإحاطته بما منوا به منهم وكابدوا من سوء إجابتهم إظهارا للتشكي، واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم وذلك أعظم على الكفرة، وأفتّ في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم، إذا اجتمع توبيخ الله تعالى وتشكي أنبيائه عليهم، ومثاله أن ينكب بعض الخوارج على السلطان وخاصة من خواصه نكبة قد عرفها السلطان، واطلع على كنهها، وعزم على الانتصار له منه، فيجمع بينها، ويقول: ما فعل بك هذا الخارجي، وهو عالم بما فعل به يريد توبيخه وتبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بي، تفويضا للأمر إلى علم سلطانه، واتكالا عليه، وإظهارا للشكاية، وتعظيما لما حل منه، وقيل: من هول ذلك اليوم يفزعون ويذهلون عن الجواب،(5/2392)
ثم يجيبون بعد ما تثوب إليهم عقولهم بالشهادة على أنفسهم، وقيل معناه: ساقط مع علمك ومغمور؛ لأنك علام الغيوب، ومن علم الخفيات لم تخف عليه الظواهر التي فيها إجابة الأمم لرسلهم، وقيل: لَا علم لنا ما كان منهم بعدنا، وإنما الحكم للخاتمة، وكيف يخفى عليهم أمرهم، وقد رأوهم سود الوجوه موبخين).
ولقد كان الذين أرسل إليهم منهم من حرَّف الدعوة، وجحد بعضها، ومنهم من آمن، ولكن الذين حرفوا من المسيحيين لم يحرفوا الدعوة فقط، بل تكلموا في شخص المسيح عليه السلام، وأخرجوه من البشرية في زعمهم وافتروا له الألوهية، ولذلك خصه الله تعالى بذكر ما يكون له يوم القيامة، وما أجرى من معجزات على يديه:
* * *(5/2393)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ... (110)
* * *
" إذ " هنا بدل من يوم يجمع الله الرسل، أي اتقوا الله واسمعوا يوم الجمع، ووقت أن يخاطب عيسى - عليه السلام - بهذا الخطاب، وعيسى - عليه السلام - بعث في قوم لَا يؤمنون إلا بالمادة، وبالأسباب الظاهرة، ويسندون كل أمر في هذا الوجود إلى سبب يعلمونه، لَا يؤمنون بالروحانيات، ويكفرون بما لَا يعلمون بالأسباب، فجاء عيسى - عليه السلام - روحانيا ظاهر الروحانية، وجاء من غير أب ليكون شخصه خرقا للأسباب، ولتكون مظاهر حياته دافعة للمادة، يخاطب الله عيسى - عليه السلام - بقوله تعالى: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ). وفي هذا النداء إشارة إلى أنه ابن مريم لَا ابن أحد سواها فقد ولد من غير أب، والإله أو ابن الإله لَا يمكن أن يكون متولدا، ولا يمكن أن يكون محدثا ومخلوقا، فهذا النداء في ذاته مع بيان حقيقة سيدنا المسيح عليه السلام رد عليهم وعلى افترائهم في وقت لَا يستطيعون فيه تمويه الباطل وتزيينه بقول الزور والبهتان الآثم.(5/2393)
وقد ذكر سبحانه وتعالى عيسى - عليه السلام - في ذلك اليوم المحشود، وما كان التذكير إلا للمبطلين الذين افتروا عليه، وهو سرد لنعم الله تعالى على عيسى وأمه، وأنه مخلوق من فضل الله، وما أُعطي من خواص فبفضل من الله تعالى، وهو مانحها ومعطيها، وما دام هو المانح، وهو المعطي، فلا فضل لعيسى على أحد إلا بفضل من أعطى، ولا يمكن أن يكون له ولدا أو قرينا.
وابتدأ سبحانه بتذكير نعمته عليه وعلى أمه، ونعمته على والدته مشهورة في القرآن قد ذكرها سبحانه وتعالى في سورة آل عمران فقال: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37).
إلى أن قال سبحانه: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43).
كانت السيدة مريم - على هذا النسق المتلو - مصطفاة من قوم مصطفين أخيار أطهار وكفلها نبي، وخاطبتها الملائكة حتى قال الأكثرون إن فيها نبوة ولا يعلم أن أنثى كانت من الأنبياء غيرها.
ونعمة الله تعالى على سيدنا عيسى ذكرها الله تعالى بقوله تعالى:
(إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) نعمتان ذاتيتان كانتا مع شخص المسيح - عليه السلام - وليس فيهما أمر كسبي، بل فيهما خلق روحاني، أما الأولى، وهي التأييد بروح القدس فلها تخريجان أو هما معا، أولهما - أن الله تعالى أيده بطبيعة روحانية مطهرة في وقت سادت فيه المادية(5/2394)
وسيطرت، فخلق الله تعالى فيه تلك الطبيعة الروحانية، فمعنى قوله روح القدس روح الطهارة والنزاهة والكمال الذي اتسم به، وأي نعمة أجل من هذه النعمة، والتخريج الثاني أن معنى أيدناه بروح القدس أيدناه بجبريل عليه السلام، فقد عبر في القرآن بروح القدس وأريد به جبريل، كما قال تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ).
وعندي أن الأمرين يجوز جمعهما، وكلاهما صادق فعيسى عليه السلام كان روحانيا مطهرا، وكان مملوءا بالروح المطهرة، وأيده جبريل هو وأمه، كما قال تعالى، في تبشيرها بالمسيح عليه السلام وولادته: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33).
هذه نعمة التأييد، وهناك نعمة أخرى هي في ذاتها نعمة، ولذا ذكرت منفصلة مقرونة بكلمة " إذ " أي اذكر - وهي أنه تكلم في المهد، أي تكلم وهو مولود، فالمهد مكان تربية الطفل عقب ولادته، وذلك تأييد لبراءة مريم البتول(5/2395)
وذكر كلامه وهو كهل، عندما استوى رجلا مكتملا، للإشارة إلى أن كلامه وهو في المهد يشبه كلامه وهو رجل مكتمل، وتلك حكمة الله تعالى، وبيان أن الأسباب لَا تتقيد بها إرادة الله تعالى.
(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) كان ما سبق هداية ربانية صرفة، وتأييدا لصدق أمه وبراءتها، وإرهاصا بنبوته، وهو منحة ليس لكسب العبد فيه إرادة، وهذه النعمة الأخيرة التي جاء بها ذلك النص الحكيم هي نعمة للعبد فيها كسب، وللإرادة البشرية فيها مكان فوق أنها جميعا لله تعالى، ولذلك أضاف سبحانه التعليم إليه، فالتعليم منه سبحانه، والتعلم من عيسى عليه السلام، والكتاب، يفسره بعض العلماء بالكتابة، فلم يكن عيسى عليه السلام أميا، بل كان قارئا لأن معجزاته الكبرى لم يكن كتابا منزلا من عند الله يتحدى به البشر أن يأتوا بمثله، ولأنه لم يكن في قوم أميين، بل كان في قوم فيهم علم الكتابة وفيهم الدراسة والبحث ولهم فلسفة.
وفسر الكتاب بعض العلماء بما سبقه من كتب النبيين كزبور داود وما جاء عن أخبار سليمان وإبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب والأسباط.
ويصح أن يراد الأمران، وهو ما نختاره، فالله سبحانه وتعالى قد ألهمه تعلم الكتابة وقرأ بها كتب النبيين وأخبار من سبقوه.
والحكمة هي في العرف الأدبي العام العلوم النافعة، والكلام المحكم الدقيق العميق الذي يكشف للناس عن أسرار هذا الوجود، ونفوس الناس، ويوجهها إلى الخير، ويدخل في الحكمة على هذا كل التعليمات المرشدة الهادية إلى مكارم الأخلاق، وقد كان سيدنا عيسى - عليه السلام - نبيا حكيما مرشدا أمينا.
وعلم الله تعالى رسوله الأمين التوراة التي نزلت على موسى والإنجيل الذي نزل عليه صلوات الله تعالى وسلامه عليه، ولماذا ذكر سبحانه وتعالى التوراة مع أنها قد تكون داخلة في ضمن الكتاب الذي علمه أولا؟ ونقول في الجواب عن ذلك، بأن التوراة تحتمل الدخول في الكتب المذكورة أولا، وتحتمل أن يقصد(5/2396)
بالكتاب الثقافة العامة الدينية وما كان شائعا من أفكار مدونة في عصره، وبذلك لا تشتمل التوراة، وتحتمل اشتمال كلمة الكتاب الذي يراد به الجنس على التوراة، ويكون تخصيصها بالذكر مقترنة بالإنجيل، للإشارة إلى أنهما متلازمان وأن الإنجيل الذي جاء به عيسى - عليه السلام - متمم للتوراة التي جاء بها موسى عليه السلام، وأنه منفذ لأحكامها إلا ما جاء به الإنجيل ناسخا لها.
بعد هذا التعليم الذي علمه لعيسى - عليه السلام - أخذ سبحانه وتعالى يذكر بعض معجزاته، وهي كبراها، فقال:
(وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي) كل معجزاته - عليه السلام - كانت من جنس طبيعته التي فطره الله تعالى عليها، لقد كانت ولادته خارقة للعادة؛ إذ خلقه الله سبحانه وتعالى من غير أب يلقي النطفة في رحم، بل ولد من أم من غير أب، لبيان أن الله تعالى لَا تحكمه الأسباب التي تجري في مجرى العادات، إنما هو سبحانه خالق الأسباب والمسببات فعال لما يريد، لا تخضع إرادته لسلطان سبحانه وتعالى، فمعجزات عيسى كلها بيان لأن الله تعالى فوق قاعدة السببية التي كانت مسيطرة في ذلك العصر المادي الذي كان لا يذعن إلا للأسباب والمسببات المادية.
وهذه المعجزة باهرة قاطعة في أن الخالق لهذا الكون لَا تحكمه الأسباب، إذ إن الناس يجدون أسباب الخلق هو التوالد بأن تحمل الأنثى من ذكر، وتلد، ثم يكون الحي من بعد ذلك، فيكون من خرق الأسباب أن يكون الحي بإجراء الحياة على يد مخلوق لله تعالى، فقد أذن لعيسى - عليه السلام - أن يصور من الطين كهيئة الطير، فمعنى " خلق " هنا هو تصويره جسدا من الطين، وجعله على شكل طائر، ثم نفخ فيه بإذنه سبحانه، فيكون طيرا بإذن الله تعالى.
وذكرت كلمة (بإذني) عند تصوير شكل الطير، وعندما صار طيرا؛ للإشارة إلى أن كل ذلك من عند الله، وأنه الخالق وليس عيسى هو الخالق، ولكنه سبحانه وتعالى أجرى الخلق على يديه.(5/2397)
(وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي) الأكمه هو المولود أعمى، ويقال لمن طمست عينه بفقء أو نحوه: كمهت عيناه، والبرص داء إلى الآن لم يوجد له دواء يشفيه وقد يوجد دواء يجعله أسهل احتمالا مع بقائه.
وقد كان سيدنا عيسى يبرى الأكمه بإذن الله تعالى فيجعله مبصرا، وذلك يشبه إيجاد الحياة في غير الحي؛ لأن إيجاد البصر في غير المبصر، والمولود غير مبصر، وغير قابل للإبصار بحكم الأسباب الطبيعية يعد إنشاء وإيجادا، ويقاربه علاج البرص، لأنه بدوامه يشبه الذي يكون جبلة، وإذا كانوا لَا يعرفون سببا للشفاء فالله تعالى خالق الأسباب أجرى الشفاء على يدي عيسى عليه السلام، لأنه سبحانه فعال لما يريد، وكان معجزة لعيسى عليه السلام.
وهناك معجزة رابعة، وهي إحياء الموتى، وقد ذكرت هذه المعجزة في سورة آل عمران على لسان عيسى - عليه السلام - بما حكاه الله تعالى عنه بقوله: (وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ. . .). والمذكور هنا هو قوله تعالى:
(وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي) والنصان يتلاقيان في المؤدى، وإن اختلفا في اللفظ، فالأول يفيد أن سيدنا عيسى عليه السلام قد أجرى الله تعالى على يديه إحياء الموتى إذا لم يكن قد دفن، وذلك ما يدل عليه النص الأول، والثاني يدل على أنه قد أجرى الله تعالى على يديه إحياء الموتى بعد دفنها ووضعها في قبورها، فقد كان عليه السلام يجري الله تعالى على يديه إخراجها من القبور أي أنها تحيا في قبرها، وتخرج إلى الوجود في حياة.
وإحياء الموتى بعد الدفن أو قبل الدفن غير تصوير الطين طيرا ثم النفخ؛ لأن هذا إيجاد للحياة في جماد، والثاني إعادة للحياة وقد ذكرت كلمة (بإذني) في كل هذا، لبيان أن العمل ليس لعيسى، وإن جرى على يديه، إنما هو لله سبحانه وتعالى خالق كل شيء.
وقد كان موجب هذه البينات الباهرة القاهرة أن يؤمنوا، ولكن بني إسرائيل فيهم عناد وطغيان فكفر كثيرون، وهموا بأذى عيسى - عليه السلام - فكانت نعمة(5/2398)
الله تعالى عليه أن يكفهم عنه، فقال تعالى: (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ). لا تزيد الحجة المتعنت إلا طغيانا وكفرا، وكلما قويت الحجة تحركت في نفسه عوامل الحسد والحقد، فأوجدت ضغنا فيطمس الله تعالى على بصيرته، فلا يدرك.
جاءهم عيسى - عليه السلام - بالبينات أي الحجج المبينة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فناوءوه العداوة، لأنه كانت لهم الرياسة الدينية، وهذه الحجج إن اتبعوا ما توجبه حسبوا أن الرياسة تذهب منهم، فقاوموها، ولا يمكن أن يقاوم صاحب الحق إلا بالباطل، ولا يمكن أن يقاوَم صاحب الحجة والبرهان الساطع إلا بالباطل، لذلك قاوموا بطرق ثلاثة كلها شر، حاربوه بتأليب الناس ودعوة أتباعهم إلى الإعراض عنه، وحاربوه ثانيا بالأذى ينزلونه به، والتحريض عليه، والائتمار به، ولكن دعوته كانت تنفذ إلى القلوب من غير حجاب، وذلك لأن الله كف عنه أذاهم، ولما يئسوا منه خلصوا إلى الطريق القاتل، وهو الدس عند ذوي السلطان، وكانت نعمة من الله تعالى عليه أعظم وأوضح، فقد نجاه الله تعالى من أيديهم، كما قال تعالى: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولَكِن شُبّة لَهُمْ. . .). وقوله تعالى: (ومَا قَتَلُوهُ يَقِينًأث بَل رَّفَعَة اللَّهَ إِلَيْهِ. . .).
كف الله تعالى الأذى عن سيدنا عيسى - عليه الصلاة والسلام - وقد كفروا مع ظهور هذه الآيات الباهرة التي فيها البرهان القاطع الذي لَا يقبل جدلا، أشار الله تعالى إلى ما اتخذوه من تعلات بقوله تعالت كلماته: (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْر مُّبِينٌ).
أي إذا كانت هذه البينات ظاهرة، فهي لَا ترفع اللجاجة من الذين كفروا وجحدوا، لأن الذين يكفرون بالحق عندما يجيئهم يسارعون بالكفر، ثم يحاولون أن يوجدوا ما يبرر كفرهم، كشأن كل من يحكم بالباطل يسارع إليه، لأنه غاية(5/2399)
مراده له، ثم يتلمس التعلات لكفره، أو بعبارة أخرى يحكمون بالباطل، ثم يحاولون سماع الشهادات الباطلة التي تؤيد ذلك الباطل، لقد قالوا إن كل ما فعله عيسى - عليه السلام - من تصوير الطير والنفخ فيه بالحياة، وإبراء الاكمة والأبرص وإحياء الموتى - ما هو إلا سحر مبين، أي بين واضح مع أنه أمور واقعة محسوسة، وليست تمويها باطلا خادعا، ولا تخييلا غير واقع، مما يدل على أن المبطل اللجوج لَا يقنعه دليل مهما يكن، اللهم اجعلنا مع الحق، وللحق.
* * *
(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
* * *(5/2400)
قوله تعالى:(5/2401)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
(وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) والوحي معناه الإلهام ويكون على أقسام: وحي بمعنى إرسال جبريل إلى الرسل عليهم السلام. ووحي بمعنى الإلهام كما في هذه الآية؛ أي ألهمتهم وقذفت في قلوبهم؛ ومنه قوله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى. . .)، ووحي بمعنى الإعلام في اليقظة والمنام. قال أبوعبيدة: أوحيت بمعنى أمرت، و (إِلَى) صلة؛ يقال: وحى وأوحى بمعنى؛ قال الله تعالى: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا).
* * *
قوله تعالى:(5/2401)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
(إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ... (112)
* * *
ما تقدم من الأعراب (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) (أَن ينَزِّلَ) يستطيع بمعنى يطيع؛ كما قالوا: استجاب بمعنى أجاب، وكذلك استطاع بمعنى أطاع. وقيل المعنى: هل يقدر ربك، وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل؛ ولهذا قال عيسى في الجواب عن غلطهم وتجويزهم على اللَّه ما لَا يجوز: (اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مؤْمِنِينَ) أي لَا تشكو في قدرة الله تعالى.
وهذا فيه نظر؛ لأن الحواريين خلصان الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال: " من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ". ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جاءوا بمعرفة الله تعالى وما يجب له وما يجوز ما يستحيل عليه وأن يبلغوا ذلك أممهم؛ فكيف يخفى ذلك على من باطَنَهُم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى؛ إلا أنه يجوز أنه يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط (1)، وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك للرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي وقد علمت أنه يستطيع؛ فالمعنى: هل يفعل ذلك؛ وهل ييجيبني إلى ذلك أم لَا؟ وقد
________
(1) عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَرَّ بِشَجَرَةٍ لِلْمُشْرِكِينَ يُقَالُ لَهَا: ذَاتُ أَنْوَاطٍ يُعَلِّقُونَ عَلَيْهَا أَسْلِحَتَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ " رواه الترمذي: الفتن - ما جاء: لتركبن سنن (2180).(5/2401)
كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: (. . . رَبِّ أَرِنِي كيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى).
على ما تقدم، وقد كان إبراهيم عَلِم لذلك علْمَ خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لَا يدخلها ريب ولا شبهة، لأن عِلم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لَا يدخله شيء من ذلك؛ ولذلك قال الحواريون: (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا) كما قال إبراهيم: (. . . وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. . .).
(قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ) أي اتقوا مغاضبه وكثرة السؤال؛ فإنكم لَا تدرون ما يحل بكم عند اقتراح الآيات؛ إذ كان الله عز وجل إنما يفعل الأصلح لعباده. (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) أي إن كنتم مؤمنين به وبما جئت به، فتعد جاءكم من الآيات ما فيه غِنى. قوله تعالى:
* * *(5/2402)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
(قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا ... (113)
* * *
نُصب بـ " أنْ ". وقوله: (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) عطف كله، بينوا به سبب سؤالهم حين نُهوا عنه. وفي قولهم: (نَأكُلَ مِنْهَا) وجهان: أحدهما - أنهم أرادوا الأكل منها للحاجة الداعية إليها، وذلك أن عيسى عليه السلام كان إذا خرج اتبعه خمسة آلاف أو أكثر، بعضهم كانوا أصحابه، وبعضهم كانوا يطلبون منه أن يدعو لهم لمرض كان بهم أو عِلَّة، إذ كانوا زَمْنَى أو عميانا، وبعضهم كانوا ينظرون ويستهزئون. فخرج يوما إلى موضع فوقعوا في مفازة، ولم يكن معهم نفقة فجاعوا وقالوا للحواريين: قولوا لعيسى حتى يدعو بأن تنزل عليهم مائدة من السماء، فقال عيسى لشمعون: (قَال اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتم مُّؤْمِنِينَ) فأخبر بذلك شمعون القوم فقالوا له: قل له: (نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا) الآية. الثاني - (نَأْكُلَ مِنْهَا) لننال بركتها لَا لحاجة دعتهم إليها، وقولهم: (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا) يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها - تطمئن إلى أن الله تعالى بعثك إلينا نبيا. الثاني - تطمئن إلى أن الله تعالى قد اختارنا لدعوتنا. الثالث - تطمئن إلى أن الله تعالى قد أجابنا إلى ما سألنا؛ وقيل: أي تطمئن بأن الله قد قبل صومنا وعملنا. (وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا) بأنك رسول الله. (وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) للَّه بالوحدانية، ولك(5/2402)
بالرسالة والنبوة. وقيل: (وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ) لك عند من لم يرها إذا رجعنا إليهم.
* * *
قوله تعالى:(5/2403)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
(قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا ... (114)
* * *
اللهم أصلها يا الله، والميمان في " اللهمَّ " بدل من " يا "، (رَبَّنَا) نداء ثان، (أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ) المائدة الخُوَان الذي عليه الطعام، لَا تكون المائدة حتى يكون عليها طعام، فإن لم يكن قيل: خِوان، وهي فاعلة من مَادَ عبده إذا أطعمه وأعطاه؛ فالمائدة تمد ما عليها أي تعطى، وقوله تعالى: (تَكُونُ لَنَا عِيدًا)، (تَكُونُ) نعت لمائدة وليس بجواب.
(عِيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا) أي لأول أمتنا وآخرها، فقيل: إن المائدة نزلت عليهم يوم الأحد غدوة وعشية؛ فلذلك جعلوا الأحد عيدا. والعيد واحد الأعياد؛ وإنما جمع بالياء وأصله الواو للزومها في الواحد، ويقال: للفرق بينه وبين أعواد الخشب، وقد عيدوا أي شهدوا العيد؛ وقيل: أصله من عاد يعود أي رجع فهو عود بالواو، فقلبت ياء لإنكسار ما قبلها، مثل الميزان والميقات والميعاد؛ فقيل ليوم الفطر والأضحى: عيدا لأنهما يعودان كل سنة. وقيل: سمي عيدا للعود في المَرَح والفَرَح، فهو يوم سرور الخلق كلهم؛ وقيل: سمي عيدا لأن كل إنسان يعود إلى قدر منزلته؛ ألا ترى إلى اختلاف ملابسهم وهيئاتهم ومآكلهم فمنهم من يضيف ومنهم من يضاف، ومنهم من يَرحَم ومنهم من يُرحَم. وقيل: سمي بذلك لأنه يوم شريف تشبيها بالعيد: وهو فحل كريم مشهور عند العرب وينسبون إليه، فيقال: إبل عيدية؛ قال: - " عِيدِيَّةٌ أَرهِنَت فيهَا الدنانِير وقرأ زيد بن ثابت (لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا) على الجمع. قال ابن عباس: يأكل منها آخر الناس كما يأكل (منها) أولهم.
قوله تعالى:
* * *(5/2403)
قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
(قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ... (115)
* * *
هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى كما كان سؤال عيسى إجابة للحواريين، وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق، فجحد القوم وكفروا بعد نزولها مُسِخوا قِردة وخنازير. قال ابن(5/2403)
عمر: إنَّ أشدَّ الناس عذابا يوم القيامة المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون، قال الله تعالى: (فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ). واختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لَا؟ فالذي عليه الجمهور - وهو الحق - نزولها، لقوله تعالى: (إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ). وقال مجاهد: ما نزلت وإنما هو ضَرْبُ مَثَلٍ ضَرَبه الله تعالى لخلقه فنهاهم من مسئلة الآيات لأنبيائه. وقيل: وعدهم بالإجابة فلما قال لهم: (فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ) - الآية. واستغفروا الله وقالوا: لَا نريد هذا، وهذا القول والذي قبله خطأ، والصواب أنها نزلت. قال ابن عباس: إن عيسى ابن مريم قال لبني إسرائيل: " صوموا ثلاثين يوما ثم سَلُوا الله ما شئتم يُعْطيكم " فصاموا ثلاثين يوما وقالوا: يا عيسى لو عملنا لأحد فقضينا عملنا لأطعَمَنَا، وإنا صمنا وجُعنا فادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء، فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات، فوضعوها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس كما أكل أولهم.
وعن ابن عباس وأبى عبد الرحمن السُلَميّ كان طعام المائدة خبزا وسمكا.
وخرّج التِّرمذيّ في أبواب التفسير عن عمّار بن ياسر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأُمِروا ألا يَخونوا ولا يَدَّخروا لغد فخانوا وادّخروا ورَفعوا لغدٍ فَمُسِخوا قِرَدة وخنازير " (1).
* * *
(وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
________
(1) سنن الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة المائدة (3061).(5/2404)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
* * *
الكلام إلى الآن في محاسبة الناس يوم القيامة ومجاوبتهم بشأن عيسى ابن مريم من حيث إنهم نحلوه ما ليس فيه، وادعوا ما لم يقله، فادعوا عليه الألوهية هو وأمه فكانت المجاوبة حول هذه الفرية التي افتروها، وذلك الوهم الذي توهموه وادعوه على المسيح عليه السلام.(5/2405)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
(وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) العطف هنا على قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّه الرُّسُلَ. . .). فإن
هذا كله صورة للمجاوبة التي تكون يوم القيامة بين الرسل، وأقوامهم، ومن بعثوا إليهم بشكل عام، وخص عيسى - عليه السلام - في هذا المقام بالمجاوبة؛ لأنه كان أكثر الرسل افتراء على شخصه النبوي الكريم، إذ ادعوا عليه الألوهية، وكان نداؤه بذكر: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) للإشارة إلى الولادة الطبيعية التي تنفي أن يكون إلها أو ابن إله، أو فيه عنصر الألوهية بأي وضع من الأوضاع؛ لأن الألوهية والبشرية نقيضان لَا يجتمعان، فلا يمكن أن يكون البشر فيه ألوهية، ولا الإله فيه بشرية، ومعنى (اتخذوني)، اجعلوني، والتعبير بـ اتخذوني أو اجعلوني يدل على أنه ليس له حقيقة، بل هو في ذاته اتخاذ بما لَا أصل له.
والاستفهام للتقرير، أي ليقر عيسى - عليه السلام - بخلافه، ذكر الحقيقة في ذلك اليوم الذي لَا تجزي نفس عن نفس شيئا، والذي يتقرر الجزاء وليس وقت العمل، فيه توبيخ لهم، وتكبير لذنوبهم، وبيان لافترائهم، وعظمه وهو من قبيل إحضار أعمالهم وأقوالهم، وبذلك يرد الاعتراض الذي يورده العلماء إذ يقال كيف يسأل الله تعالى عيسى وهو سبحانه وتعالى يعلم أنه لم يقل شيئا من هذا، ولا(5/2405)
يمكن أن يدعي لنفسه ما ادعوه له؛ فالسؤال ليقر في المشهد العظيم بكذبهم وافترائهم على الله سبحانه وتعالى، وفي ذلك أبلغ توبيخ، وتجسيم لذنبهم وأوهامهم، وافترائهم على الله سبحانه وتعالى. والذين قالوا: إن عيسى وأمه إلاهان هم البربرانية من طوائف النصارى، ولم يستنكره غيرهم، فكأنهم أقروه، والذين لم يقروه، قالوا: إن الله ثالث ثلاثة الآب والابن وروح القدس.
والذين قالوا: إن عيسى وأمه آلهان من دون الله لم ينفوا ألوهية الله إذ لم يعرف عنهم أنهم نفوها، حتى يقال عنهم: إنهم قالوا: إن عيسى ابن مريم وأمه إلهان من دون الله أي غيره، والجواب عن ذلك أن من لم يؤمن بوحدانية الله تعالى بل أشرك غيره معه لَا يقال: إنه آمن بالله، واعترف بألوهية الله سبحانه وتعالى، لأنه لَا يعبد إلا الله وحده، أو نفسر (مِن دُونِ اللَّهِ) أي خلاف الله فكأنهم قالوا: إن هناك اثنين مع الله تعالى. . تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وقد بين الله تعالى إجابة عيسى - عليه السلام - بقوله:
(قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) س بحانك معناها تنزيها لك عن هذا القول وتقديسا، وهي منصوبة على أنها مصدر لفعل محذوف، وتصدير سيدنا عيسى في ذلك اليوم المشهود - كلامه بذلك للدلالة على أنه أمر لا يليق في ذاته، فلا يمكن أن يصدر عن عاقل يعي ما يقول ويدركه، ففيه نفي مطلق للشرك وبيان للنزاهة والتقديس، وأنه هو الذي يسبح له وحده ثم بعد هذا التنزيه المطلق الذي كان نفيا مطلقا، أخذ ينفي عن نفسه هذا الكلام المحال، فنفي عنه بأنه ليس من شأنه أن يقول مثل هذا القول، بل ذكر استحالة أن يصدر عنه، وقال: (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ). وفي هذا تأكيد للنفي من وجوه ثلاثة:
أولها - أنه نفَى أن يكون شأنه ذلك القول، فلا يمكن أن يصدر عنه، فهو لم ينف القول فقط، بل نفَى احتمال أن يقول، ونفَى احتمال القول أقوى في الدلالة من نفي المقولة.(5/2406)
ثانيها - أن كلامه يدل على أن ذلك غير معقول في ذاته، فكيف يقول.
ثالثها - أنه أثبت أنه مستحيل قوله لأنه ليس بحق. (إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ). هذه الجملة تأكيد لنفي ما سئل. عنه، وهو أنه قال: (اتَّخِذُونِي وَأمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ).
إذ إنه لو كان قد حصل لعلمه الله تعالى، وما دام لم يعلمه، فهو لم يقع، ولا يمكن أن يقع؛ لأن الله لَا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء، وفى هذا النص فوق دلالته على عدم الوقوع بأبلغ تعبير إثبات شمول علم الله تعالى، وإنه بكل شيء محيط، وقد زكى هذا المعنى الجليل بقوله: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ). ففي هذا النص إثبات قصور علم الإنسان بجوار علم الله تعالى، وإثبات أن علم الله تعالى شامل لمطويات القلوب، وعلم الإنسان مقصور على ما يظهر من الجوارح فالله يعلم ما يخفَى في الصدور، والإنسان لا يعلم إلا ما هو ظاهر محسوس، أو ما يكشف عنه الظاهر المحسوس، فلا يعلم ما الخفي إلا ما يظهره الجلي، والنص يدل على نفي الألوهية من جهة ثالثة، لأن علم الله شامل لكل شيء لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وعلم عيسى من النوع القاصر الذي لَا يحيط إلا بالمحسوس أو ما ينبئ عنه المحسوس، فهو نفي للألوهية من طريق العلم، ثم هو موازنة من جهة ثانية بين نفس الإنسان المكشوفة لخالقه، وذات الله تعالى التي لَا يعلم البشر عنها إلا وحدانيتها، وما يعلمه للإنسان منها.
وقد أكد عيسى علم الله تعالى المحيط الذي يعلو عن الصفات البشر بقوله: (إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) أي إنك يا صاحب الجلالة تقدست أسماؤك تعلم الأمور المغيبة عن حسنا، والمكنونة في المستقبل علما دقيقا لَا يخفى منه شيء عليك، ولذلك عبر بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة، وعلى الدقة وعلى الإحاطة(5/2407)
التامة الكاملة وأنه سبحانه وتعالى يعلم ما بطن كعلمه بما ظهر، فإن ما ظهر وما بطن هو بالنسبة لنا نحن بني الإنسان، وأما بالنسبة لله تعالى فإن الجميع مكشوف غير مستور.
وقد أكد علم الله تعالى للغيب بأربعة مؤكدات: أولها - بـ " إنَّ " المؤكدة.
ثانيها - بالضمير المؤكد في قوله تعالى: (أَنتَ).
وثالثها - بصيغة المبالغة التي تعد مبالغة بالنسبة للعبيد، ولكنها حقيقة فوق ما نتصور بالنسبة لله تعالى العليم الحكيم، وإن هذا أقصى ما تتسع له لغتنا القاصرة عن التعبير عن الحقائق الإلهية.
رابعها - جمع الغيوب، فلم يفرد الغيب، بل قال الغيوب بكل أنواعها ما وقع في الماضي، وما يقع في المستقبل وما يتعلق بالكائنات كلها الروحاني منها والمادي، والكل خلقه سبحانه، من طيور في الهواء، وأسماك في الماء، وملائكة، وجن، وإنس، وهكذا كل ما هو غيب في ذاته، أو بالنسبة للبشر، أو لطوائف منهم.
* * *(5/2408)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
(مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ... (117)
* * *
هذا الكلام السامي في تأكيد القول الأول، وهو إثبات تنزيه الله تعالى، وأنه ما دعا إلا إلى الوحدانية، ولقد كان كل هذا في مقام التوبيخ وإثبات الحجة عليهم، وعقابهم على كفرهم، وافترائهم على الله تعالى ربهم، وعلى عيسى ابن مريم رسوله سبحانه إليهم.
والجملة السامية السابقة فيها إثبات استحالة أن يكون قد قال " اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ "، فهي تفى بالدليل، وهي هذه الجملة السامية فيها نفي، وإثبات. فيها نفي القول الذي نسبوه بهتانا إليه، وفيه إثبات ما قاله، ولم يقل سواه، ولذلك كان فيه قصر بالنفي والإثبات، فهو يذكر أنه دعا إلى التوحيد المطلق، وفيه إثبات أنه لا يمكن أن يدعو إلا إلى التوحيد المطلق، وذلك لثلاثة أمور:(5/2408)
أولها - أنه هو الذي أمر ربه، ولم يؤمر بغيره، وهو رسول من عند الله، ولا يمكن أن يكون الرسول قد أدى الرسالة على وجهها إلا إذا بلغ ما أمر به دون سواه، ولذا قال عليه السلام: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ).
ما أمرتني أن أقوله وأبلغه، وإلا أكن غير مؤد للرسالة.
ثانيها - أنه لم يكتف ببيان أنه أدى ما أمر به إجمالا، بل ذكر حقيقة ما دعا مفسرا غير مجملا، إذ قال: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ). فإن هي المفسرة، فهو يفسر ما أمر به وهو بين لَا إبهام فيه.
وثالثها - أنه أقام الدليل على استحقاقه وحده للعباده سبحانه: (رَبِّي وَرَبَّكمْ). أي أنه هو المستحق للعبادة لأنه هو وحده الذي خلقني، فأنا مخلوق، فكيف أكون إلها، وهو الذي خلقكم وحده فكيف تعبدون غيره؟!، وفي هذا التعبير أثبت وحدانية الخلق والتكوين ووحدانية الذات، كما أثبت تصريح اللفظ وحدانية العبادة.
وقد أكد عليه السلام أنه بلغهم تلك الحقائق، فقال كما حكى عنه ربه: (وَكنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ). أي كنت مشاهدا لهم رقيبا عليهم تعلم ما حاولوه من الزيغ والتحريف مدة بقائي فيهم، فما تركت تنبيههم إلى التوحيد في العبادة والذات والصفات والتكوين مدة إقامتي بينهم، ولما تركت الدنيا كنت أنت الرقيب.
(فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) في النص الكريم السابق ذكر - عليه السلام - شهادته عليهم وهو حي، قائم برسالته مؤد لها على وجهها، وفي هذا النص يذكر انتهاء مهمته بوفاته، ويفوض أمرهم إلى ربهم في ألطف تعبير وأدق إشارة.
والفاء للتفصيل كما تدل على الحالية والبعد به، والمعنى عند حد وفاتي ومن قبلها، ومن بعد كنت أنت وحدك الرقيب عليهم العالم بحالهم وأنت على كل شيء عالم بحالهم تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وفقنا الله لما يحب ويرضى.
* * *(5/2409)
(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
* * *
الكلام العظيم موصول في حديث السيد المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام يوم يجمع الله تعالى الرسل يوم القيامة.
ولقد كان من المجاوبة بين الله تعالى، وبين السيد المسيح - عليه السلام - في شأن الأوهام التي توهمها من يدعون النسبة إليه، وذكرت هذه الأوهام كأنها واقعة في زمن المسيح - عليه السلام - وهي قد وقعت من بعده ولم يحضرها، ثم المجاوبة تكون من بعد ذلك، إذ إنها تكون يوم القيامة يوم يجمع الله تعالى الرسل، ويسألهم عما كان من شأن إجابات أقوامهم، واختص سبحانه وتعالى بالذكر عيسى لما ذكرنا من أنه أشد الأنبياء افتراء عليه إذ ادعوا أنه ابن الله وأن الله ثالث ثلاثة، وذكرت أخبار يوم القيامة - كأنها حاضرة لتحضر بين يدي النصارى الذين ادعوا ما ادعوا بالصيغة الإنكارية التي تكون من المسيح عليه السلام - يوم، ليتبينوا أن المسيح - عليه السلام - بريء منهم، ومما يتكلمون به حول ذاته النبوية البشرية.
وخلاصة تلك المجاوبة:
أن العلي القدير سأله سؤال العالم بالجواب (أَأَنتَ قلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ)، وكان الجواب بالنفي؛ لأن الله تعالى يعلم أنه لم يقع وما(5/2410)
كان لهم أن يعتقدوا في السيد المسيح - عليه السلام - أو أمه ألوهية؛ لأنهما كانا يأكلان الطعام، ويمشيان في الأسواق، وذلك شأن البشرية، لَا شأن من يكون إلها.
وقد تضمن الجواب تأكيد النفي بأنه ليس من شأنه، ولا يحق له؛ لأنه بشر مخلوق لله سبحانه وتعالى، فالبشرية لَا تتخلى عنه، وأنه لَا يمكن أن يكون إلها، يشارك الله تعالى في خلقه، فالله خالقه، ولا يمكن أن يكون المخلوق كالخالق، ولأن الله تعالى هو الذي يربه بعد خلقه، وهو الذي علمه الحكمة، وهو الذي جعله يتكلم كما يتكلم الراشدون في المهد، فكان كلامه في المهد ككلامه وهو كهل، أي رشيد قد اكتملت رجولته، واستوى خلقه، وهذا يدل على أن السيد المسيح - عليه السلام - عاش إلى أن بلغ سن الكهولة، فقد بلغ أشده، وبلغ أربعين، وإن كانت كتب النصارى الحاضرين تومئ إلى أنه لم يصل إلى الأربعين.
وقد ذكر سيدنا عيسى - عليه السلام - أنهم في رقابة الله تعالى من بعده، يعلم حالهم، ومآل أمرهم وانحرافهم عن الجادة التي أرشدهم - إليها الله تعالى على لسان نبيه الأمين عيسى - عليه السلام.
وأنه هو تعالى الذي شاهد أعمالهم، وأنه محاسبهم بها مجازيهم عليها، والأمر في شأنهم إليه، وأمورهم مفوضة إليه، وهو العزيز الحكيم، والغفور الرحيم، فإن شاء أخذهم بذنوبهم كاملة، وإن شاء عفا عن بعضها، وإن شاء تغمدهم برحمته وغفرانه إن تابوا، وآمنوا بالله وحده وآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك قال تعالى حكاية عن بقية كلام عيسى في ذلك المشهد العظيم.(5/2411)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وإنا نجد في هذا النص الذي يذكر الحال يوم القيامة ينبئ عن رأفة المسيح عليه السلام، ورفقه، ورغبته في ألا يكون الناس في عذاب إلا أن تكون تلك إرادة الله تعالى، فالنص تفويض لله تعالى، وهو يشبه في هذا طلب إبراهيم أبي(5/2411)
الأنبياء عليهم السلام الغفران لأبيه كما حكى الله سبحانه وتعالى عنه بقوله تعالى: (وَاغْفِرْ لأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ).
فالمسيح - عليه السلام - يحكى الله تعالى عنه في ذلك اليوم المشهود قوله:
(إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادًكَ) أي إن تعاقبهم العقاب الشديد فهم عبادك تملكهم، ولا حق لهم عندك، وهم قد أذنبوا، فبحكمتك وعزتك كان عقابهم، وإن تغفر لهم وتستر سيئاتهم وتصفح عنهم فإن ذلك جائز منك، وهو صفح الغالب القاهر، الذي يضع الأمور في مواضعها وأفعاله في دائرة الحكمة والتدبير المصون عن العبث.
وهنا قال العلماء: كيف يسوغ أن يطلب عيسى - عليه السلام - في المشهد العظيم الغفران للكفار الذين أشركوا بالله تعالى، فجعلوا عيسى وأمه إلهين وقالوا إن الله ثالث ثلاثة، وقالوا إن المسيح ابن الله؟ وقد أجابوا عن ذلك بإجابات مختلفة أدقها ما قيل من أن الغفران للكفار جائز عقلا، وليس مستحيلا، ولقد كان طلب عيسى عليه السلام؛ الغفران لهم من قبيل طلب إبراهيم - عليه السلام - الغفران لأبيه، فهو ناتج من فرط الشفقة، والرأفة، على أن عيسى - عليه السلام - ما طلب الغفران، بل فوض الأمر لرب العالمين تعالت حكمته، وإذا كان ما يناقش في هذا المقام فهو أنه فرض جواز الغفران، ونحن نرى أن ذلك الفرض يتفق مع النسق التاريخي الذي وقع، وذلك بأن نفرض أن المسيحيين الذين أشركوا منهم من كان على ضلاله القديم بعد أن بلغته الدعوة المحمدية، ومنهم من استمر على غيه بعد أن تبلغه الدعوة المحمدية إلى التوحيد، وتبين حقيقة الدعوة المسيحية كما جاء بها الإسلام، وهؤلاء الأخيرون لَا مساغ لفرض الغفران لهم شرعا؛ لأنهم أشركوا الأولون فقد كانوا على فترة من الرسل وكانوا على جهالة عمياء لا تسمح لهم أن يعرفوا حقيقة دعوة المسيح عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه قد نزل بهم بعد المسيح - عليه السلام - من الاضطهادات والشدائد والكوارث ما جعلهم يستخفون بدينهم، ويفرون بها، ولا شوكة لهم، وقد قارنت هذه الشدائد المسيحية(5/2412)
فى نشأتها من بعده وفي تكونها وليدا وفي تدرجها، واستمرت هذه الشدائد نحوا من ثلاثة قرون، نزل فيها أشد ما ينزله الإنسان بأخيه الإنسان حتى أنه كان يتخذ منهم مشاعل تسير في موكب الإمبراطور الروماني نيرون، إذ تطلى أجسامهم بالقار، وتشعل فيها النيران، ويسار بهم في موكبه.
ولم يكشف عنهم البلاء إلا بعد أن اختفت المصادر الحقيقية لدينهم، وادعى التثليث تدريجيا، وما كان عندهم من علم يعلمونه ويحاسبون به، وهؤلاء أحسب أن فرض عيسى غفران الله تعالى كان فرضا سليما يتفق مع عزة الله تعالى وحكمته، وشمول علمه.
* * *(5/2413)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
(قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ... (119)
* * *
بعد أن ذكر سبحانه من مغيبات الأمور اليوم الذي يجمع الله الرسل وأقوامهم، وتكون المجاوبة بين عيسى وربه، وهو الحق الذي بعث به، وفيها بيان مقامه ممن افتروا عليه الكذب، وضلوا في افترائهم وإذا كان ذلك فيه إشارة إلى العذاب الذي يستقبل أولئك المفترين على الرسول والذين جاءتهم المعجزة الباهرة التي لَا يمارِي فيها إلا من ران على قلبه. بين سبحانه جزاء الذين يذعنون للحق، وسماهم سبحانه الصادقين وأن الذي ينفعهم هو صدقهم، والصدق شعبة مما طلبه الحق، ولكنه سبحانه جعله شعار المؤمنين، وذلك لأن الصدق هو وصفه الإيمان الذي يلازمه، ويروى في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: " أيكون المؤمن جبانا؟ فأجاب عليه السلام: يكون المؤمن جبانا. وسئل أيكون بخيلا؟ فأجاب عليه السلام: يكون بخيلا، وسئل أيكون كذابا؟ فقال: لَا يكون المؤمن كذابا " (1). فالكذب والإيمان نقيضان لَا يجتمعان، والإيمان يلازمه الصدق، وقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ).
والصدق يلازمه الإخلاص، ويكون معه القرب من الله تعالى، ولقد
________
(1) رواه مالك: الموطأ - وحدثني مالك أنه بلغه أن عبد الله (1862).(5/2413)
قال عليه الصلاة والسلام " إنَّ الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقا " (1).
وإن الصدق ذو شعب ثلاث، أقربها الصدق في القول، فلا ينطق إلا بالحق، ولا ينطق إلا بما يجول بصدره، ولا يماري ولا يداهن، ولا يرفث في قول، والثانية صدق النفس فلا يغش نفسه، ولا يخدعها، بل يحاول أن يطلع على عيوبها ويعالج هذه العيوب، ولا يخدع نفسه ليكذب عليها، والثالثة، صدق الإنصاف، فلا يغمط غيره، ولا يحقد ولا يحسد، ولا يضغن، وينصف أعداءه من نفسه.
ومن كانت هذه حاله ينفعه صدقه؛ لأنه صدق القول والنفس والعمل، له جزاؤه في الجنة جنات تجري من تحتها الأنهار، وفي ذلك النعيم خالد خلودا أبديا لا نهاية له، وفوق هذا الجزاء المادي الحسي، هناك جزاء معنوي وهو رضوان من الله، وهو أكبر من كل جزاء، ولذلك رضي الله عن الصادقين فهم مقربون إليه زلفى، وهم لَا يرضون بربهم بديلا ولا شريكا في عبادة أو قربى، أو استعانة أو استجابة، فالله ملء قلوبهم يعبدونه كأنهم يرونه.
وإن ذلك هو الفوز العظيم الذي لَا فوز يماثله أو يقاربه.
* * *
________
(1) رواه مسلم: البر والصلة - قبح الكذب وحسن الصدق (2607)، والبخاري: الأدب - (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (6094).(5/2414)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
(لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
* * *
في هذا النص الكريم بيان للحق الذي لَا مجال للريب فيه، وبيان لسلطان الله تعالى على كل ما في السماوات وما في الأرض، وأنه ذو سلطان في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وهو القادر على كل شيء يريده، لَا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض، وفي الكلام إشارات بيانية نذكرها.
الأولى - إثبات أن الله وحده هو الجدير بالألوهية، والمستحق للعبادة، لأنه ذو السلطان الكامل المالك لكل شيء.(5/2414)
الثانية - أن تقديم لفظ الجلالة يفيد وحدة سلطانه وملكه وقدرته أي أنه وحده المالك لكل شيء.
الثالثة - ذكر السماوات والأرض، والتصريح بما فيهن للإشارة إلى أن كل شيء فيهن مخلوق له سبحانه، وليس فوقه أحد فلا يقال: إن أحدا له سلطان بجوار سلطانه وإن المعجزات التي تجري على أيدي بعض النبيين من خلقه هو الذي خلقه على يديه وليس النبي خالقها.
الرابعة - إثبات أنه قادر على كل شيء لَا يتقيد بالأسباب والمسببات، لأنه على كل شيء قدير، وهو خالق الأسباب.
الخامسة - تقديم الجار والمجرور يفيد كمال قدرة الله تعالى على الأشياء إنه حميد مجيد، سميع بصير عزيز حكيم.
* * *(5/2415)
(سُورَةُ الْأَنْعَامِ)
تعريف 4
سورة الأنعام قالوا إنها نزلت بعد سورة الحجر، وإن عدد آياتها خمس وستون ومائة آية كلها نزل بمكة ما عدا عدة آيات قالوا: إنها نزلت بالمدينة هي الآيات 0 2 و 22 و 91 و 92 و 14 1 و 141 و 151 و 152 و 153 - وهي آيات نزلت في بيان أحكام تتعلق بالحلال والحرام من التكليفات العملية، وهي لهذا كانت أنسب بالمدينة؛ ذلك لأن ما يتعلق بالعقيدة قد اختص بمكة؛ إذ كان فيه بيان الوحدانية في الذات وفي الصفات والخلق والإنشاء والعبادة والألوهية، وأنه لَا إله إلا هو، وبيان رسالة الله وأخبار الرسل السابقين، وما جاءوا به، وما نزل بأممهم، وما جاء من أحكام بمكة كان أكثره على ألسنة الأنبياء السابقين وما كانوا يدعون إليه أقوامهم، فدعوة شعيب - عليه السلام - إلى الإيفاء بالكيل والميزان، ونهيهم عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وغير ذلك. أما القرآن المدني، فقد نزلت به الأحكام التكليفية العملية؛ لأنه قد كونت دولة للإسلام، فكان لَا بد من نظم تقيمها، وأحكام تنظم علاقات آحادها، وقد ابتدأت العبادات بالصلاة المفروضة في مكة لمناسبتها للألوهية، ومعاني العبودية، ثم أُكملت في المدينة ليتكوَّن رأي عام فاضل، ومجتمع متضافر متعاون.
ابتدأت السورة ببيان استحقاق الله تعالى وحده للحمد؛ لأنه خالق السماوات والأرض وحده، وجاعل الظلمات والنور، وبيان أن أصل خلق الإنسان من طين، وبيان كمال سلطان الله تعالى في خلقه، وعلمه بالسر وما يخفى، وبيان آيات الله تعالى في كونه، وتلقي الجاحدين، وما كانوا يكذبون به الحق، إذ يجيئهم ويستهزئون به لإعراضهم عن الآيات البينات المثبتة الموضحة الكاشفة.(5/2416)
وإن كان المشركون لم يؤمنوا لإعراضهم عن البينات، فقد أنذرهم سبحانه بعاقبة أمرهم، ببيان عاقبة من سبقوهم بعد جحودهم، وأشار سبحانه وتعالى إلى طموس مداركهم، وجحود نفوسهم، وعدم تلقيهم للنور والهداية، وأنه لَا يجدي معهم توجيه، ولا دليل حتى أنهم - لو نزل إليهم من السماء كتاب في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الجاحدون: إن هذا إلا سحر مبين، كما قال الجاحدون برسالة عيسى - عليه السلام - عند إحيائه الموتى، وإبرائه الأكمه والأبرص، ونزول المائدة، قالوا: إن هذا إلا سحر مبين.
وأن الجاحدين شأنهم الاستهزاء بالحق إذ جاءهم، وأن على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتأسى في استهزائهم به بما كانوا يفعلون مع الأنبياء السابقين، وبين سبحانه وتعالى سوء عاقبتهم.
ولقد بين سبحانه من بعد ذلك طائفة من ضلال تفكيرهم باستهزائهم عند ذكر خالق السماوات والأرض، ويتولى - عليه الصلاة والسلام - الإجابة مبينا أن الله كتب على نفسه الرحمة، وأن من رحمته أن يجمع الناس يوم القيامة، بيَّن ثواب المحسن وعقاب المسيء ثم بين سبحانه وتعالى ملكه لكل شيء وسلطانه الذي فوق كل شيء، وإذا كان الله مالك كل شيء وفاطر السماوات والأرض - لا يمكن أن يتخذ الرسول وليا نصيرا غيره سبحانه، وأن يكون أول من يسلم وألا يكون من المشركين، وأن يخاف عذابه إن عصى، ولا فوز إلا لمن يصرف عنه عذاب يوم القيامة.
وإذا كان سبحانه يملك كل شيء، فهو كاشف الضر إن مس الإنسان، وهو القادر على النفع، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير، وإذا كان المشركون يستمرون على عنادهم فالله هو الشاهد الحكيم بين الرسول وبينهم، وشهادته أكبر شهادة، وأن هذا القرآن أوحى به إلى الرسول لينذر به المشركين ومن يبلغه دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن كنتم أيها المشركون تشهدون أن مع الله آلهة أخرى فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن أن يوافق على هذه الشهادة، بل لَا بد أن يكذبها.(5/2417)
وأن أهل الكتاب الذين أوتوا علما بالرسالات يعرفون الرسول كما يعرفون أبناءهم، ومع ذلك لَا يؤمنون لأنهم غيروا دينهم أو كتموه، ولا أحد في هذا الوجود أكثر ظلما ممن افترى على الله الكذب، أو كذب بالدلائل القائمة الثابتة الدالة على الحق، ولا يمكن أن يفلح ظالم بكتمان الحق أو إظهار الشرك.
وقد بين سبحانه حال المشركين يوم القيامة، وأنهم لهول يوم القيامة ينكرون أنهم كانوا مشركين.
ومن هؤلاء المشركين من يكون على قلوبهم مثل الأكنة عند الآيات البينات، ولا يؤمنون بأي آية، وإذا جاءوا يجادلون قالوا عن الآيات: إن هي إلا أساطير الأوَّلين، وهم يبتعدون عن الحق، وينهون غيرهم عن اتباعه، وهم في الحالين هالكون بما يفعلون.
ثم يصور سبحانه حالهم في الآخرة فيقرر أنها مفارقة لحالهم في الدنيا، إذ يبدو لهم ما كانوا يخفون، وهم بذلك قد خسروا خسرانا مبينا وجاءتهم الساعة بغتة من حيث لَا يحتسبون، وأن الدار الآخرة هي دار البقاء، والحياة، وكانوا يتوهمون أنه لَا حياة بعد الدنيا، والدنيا بجوارها لهو ولعب، وذكر سبحانه عزاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسل قبله إذ جحدوا، ثم لَا مناص من أن يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - وألا يكبر عليه إعراضهم مهما تكن حالهم.
وليعلم أن الذين يستجيبون لدعوته الذين يسمعون ويتعظون هم الأحياء حقا، والآخرون موتى وسيبعثهم الله، ويعاقبهم، وهم الذين لَا يسمعون، ويطلبون آيات أخرى غير التي أعرضوا عنها، وقد ذكرهم سبحانه بأن الأحياء جميعا من الحيوان والطيور أمم، والكتاب المحفوظ يحوي كل شيء.
وبين سبحانه أن الذين يعرضون عن الآيات صم لَا يستمعون إليها، وبكم لا ينطقون بالحق، ويعيشون في ظلمات لَا يبصرون، ولقد ذكرهم سبحانه بندائهم لله تعالى في حال شدتهم أو موتهم أو قيامهم أيدعون غير الله، وبين سبحانه أنه(5/2418)
يختبر الأمم بالضر يصيب أجسامهم، وبالبؤس يصيب نفوسهم، ولقد زين لهم الشيطان سوء أعمالهم فظنوه حسنا، وأنهم كما نسوا ما ذكِّروا به اختبروا بالنعمة، ثم أخذوا بغتة، وهم لَا يشعرون، وقطع دابرهم بسبب ظلمهم، وذكرهم سبحانه بأنه إذا أخذ سمعهم وبصرهم لَا يدركون، وذكر أنه يصرف لهم الآيات، ويوجههم إلى الحقائق الثابتة عساهم يفقهون الأمور على وجهها. وقد بين سبحانه عمل الرسل وهو التبشير للمتقين والإنذار للمكذبين، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لَا يقول لهم: عندي خزائن الله أصرفها كما أشاء، ولا يقول لهم: إنه يعلم الغيب، ولا يقول لهم: إنه ملك، بل إنه يتبع ما يوحى إليه، والناس مختلفون بعد ذلك في تلقى نور الوحي، وجزاؤهم على حسب حالهم فلا يستوي المحسن والمسيء كما لا يستوي الأعمى والبصير.
وإن الإنذار يكون أثره في قلوب الذين يخافون يوم القيامة وما يكون فيه من هول.
وإنه يجب أن يكرم أهل الإيمان، ولا يطردوا لفقرهم أو ضعفهم، فإنه من فتنة الناس بعضهم ببعض أن يوفق للحق الضعفاء، ويكذبه الأقوياء ليقولوا أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا، ويجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرحب بالمؤمنين ويبين الحق لهم، وأن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة، وهي العدالة وجزاء الحسن بالحسن، والعفو عن السيئ الذي ارتكب بجهالة، وأمر الله نبيه أن يتخذ من نفسه قدوة حسنة، فيقول: إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دونه وألا أتبع أهواءكم، وأنه على بينة من ربه، وأنه ليس بيده العذاب الذي يستعجلونه، ولو كان عندي لقضى الأمر الذي بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين.
وإن الغيب كله عند الله تعالى، فعنده سبحانه مفاتحه لَا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، ويعلم ما نكسب بالنهار ويتوفانا بالليل، ويستمر الإنسان بين الليل والنهار، حتى يُقضى أجل مسمى، ثم يكون المرجع إلى الله تعالى. وأنه سبحانه فوق هذا العلم المحيط، له القوة الكاملة، فهو القاهر فوق(5/2419)
عباده، وهو الذي يحفظ عباده، والمرجع إليه سبحانه، وهو المنجي من كل سوء، وهو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو ينزل بكم ما هو أشد، فيجعلكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض، وأن قومك قد كذبوك وما تدعو إليه وهو الحق، ولكل خبر عظيم مستقر يستقر عنده، ولست عليهم بوكيل مسئول عما يسيئون به. وإنك واجد منهم لجاجة في الإنكار، فذكِّر، ولا تقعد معهم إذ يخوضون في آياتنا، وما عليك ولا على من معك من المتقين من حسابهم من شيء، فذرهم؛ لأنهم اتخذوا دينهم هزوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا، ولكن ذكِّرهم فقط حتى لَا يسقطوا في الشر إلى أقصى درجاته، وينالوا من بعد ذلك عذاب الجحيم، وقل لهم: أندعوا من دون الله ما لَا يضرنا ولا ينفعنا، ونرد على أعقابنا بعد ذلك إذ هدانا الله كالذي أصابته حيرة باستهواء الشياطين له في الأرض، فيدفعه الشيطان إلى التردي، ويدعوه أصحابه إلى الهدى، وهو حائر، وأن الهدى هدى الله، وأمرنا أن نسلم لرب العالمين وأن نقيم الصلاة، وأن نؤمن بالله وهو الذي خلق السماوات والأرض ويوم يقول: كن، فيكون، وقوله الحق، وله الملك يوم القيامة، وهو الحكيم الخبير، عالم الغيب والشهادة.
ولقد بين سبحانه وتعالى قصة الخليل إبراهيم أبي الأنبياء وأخبار ذريته، وفى هذه القصة بين سبحانه كيف يكون إدراك العقل لله سبحانه ووحدانيته، مستمدا ذلك من الفطرة السليمة - رأى الخليل بفطرته أن الأصنام لَا يمكن أن تكون آلهة، وخاطب أباه بذلك، واعتبره ضلالا، ثم اتجه إلى تعرف الإله الأوحد، ظنه في كوكب، ولكنه أفل فزال، والإله لَا يزول، ثم ظنه القمر إذ رآه بازغا، ولكنه أفل أيضا، واعتبر نفسه تسير في ضلالة، وأنه إن لم يهده ربه الذي يؤمن بوجوده ليكونن من الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال: هذا ربى؛ لأنها أكبر، فلما أفلت أدرك أن الله تعالى لَا يكون أمرا محسوسا، فقرر البراءة من الشرك واتجه إلى الخالق الذي تدل آثاره على وجوده، ومخالفته لمخلوقاته، فقال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(5/2420)
وأخذ بعد هذه الهداية يحاجُّ قومه ويحاجُّونه ويذكر لهم أن أوثانهم لا تضر ولا تنفع، فليسوا موضع خوف منه، وهم الجديرون بأن يخافوا؛ لأنهم يشركون بالله ما لم ينزل به حجة تدل على صحة الإيمان بهم، ثم قال: (. . . فَأيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ). لَا شك أن أحق الفريقين بالأمن الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك، وتلك حجة الله تعالى الذي أجرأها على لسان إبراهيم - عليه السلام - وأجراها من بعده على ألسنة الأنبياء من بعده، وعلى نوح من قبله. وقد ذكر سبحانه وتعالى الأنبياء من ذريته، وقد آتاهم الله الكتاب والحكم والنبوة، وكان من أقوامهم من آمن، ومنهم من كفر، فإن يكفر المشركون من العرب الذين بعث إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - فغيرهم مؤمن؛ وهم يقاومون الشرك، وقد بين سبحانه وتعالى العبرة في قصصهم، فقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90).
وقد بين سبحانه وتعالى بعد قصة إبراهيم أن الذين يشركون ما قدروا الله حق قدره، وقد نفوا رسالة الله تعالى، فسأل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى، وقد كان يعرف أن لليهود كتابا، وقد بين أن اليهود يخفون بعضه وهو كثير ويظهرون بعضه، ولا يصح أن يقتدوا بآبائهم؛ لأنهم علموا ما لم يعلموا من قبل، ولم يعلمه آباؤهم.
وذكر سبحانه بعد ذلك منزلة القرآن، وهو أنه كتاب مستمر بهدايته واتباعه، وأنه نزل على محمد الذي علمتموه أمينا عدلا لَا يكذب، ولا أحد أظلم ولا أكذب ممن يدعى أنه أوحى إليه، ولم يوحَ إليه بشيء. . ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله من المشركين وأشباههم، وصور سبحانه وتعالى حال الظالمين، وهم في غمرات الموت باسطي أيديهم بالمنجاة، ويقال لهم: اليوم أخرجوا أنفسكم بما كنتم تقولون على الله غير الحق، وكنتم عن آياته تستكبرون، وأنهم سيذهبون إلى الله مجردين عن الأتباع والنُّصَراء، وتركوا ما مكنوا فيه من أموال وبنين وأولياء وراء ظهورهم، وكانوا كما خلقهم أول مرة، وليس معهم الشركاء الذين(5/2421)
زعموا أنهم يشفعون لهم: (. . . لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ).
بعد هذه الأدلة الساطعة، والقصص المذكِّر، والتوجيه المنبه، بين سبحانه أنه وحده المنشئ على غير مثال سبق، فهو الذي يفلق الحب فيكون منه النبات، ويفلق النوى فيكون منه الشجر، وهو يبدع الحياة في هذا النبت الجامد، ويخرج ذلك البذر الجامد من الأغصان الرطيبة، وهو الذي يخرج الإصباح من الظلام، ويجعل الليل سكنا واطمئنانا بعد كدح النهار، وهو الذي يجعل الشمس والقمر بحسبان، وكل ذلك بتقديره، وهو العزيز العليم، وهو الذي زيَّن السماء بالنجوم لتهتدوا بها في ظلمات البحر، وذلك ليكون أمارة وجوده ووحدانيته لقوم يعملون عقولهم، ولا تتسلط عليهم أوهامهم، وبعد أن بين ذلك التوجيه العام في خلقه؛ اتجه إلى بيان خلق الإنسان فأنشأ بني الإنسان من نفس واحدة، واستقر في هذا الوجود، وأودع الأرحام ودائعها، وتلك آيات لمن يؤمن، وينفذ ببصيرته إلى حقائق الأمور، وبين من بعد ذلك، الثمرات التي تكون من التقاء السماء بمائها بالأرض فيكون أطيب الثمار، وأطيب الزرع، وما فيه من عجائب، وبين تنوع الخلق، فأشار سبحانه إلى النخيل والأعناب والزيتون والرمان، والمتشابه، وغير المتشابه، وما يكون من ثمرات، وفي كل ذلك لمن يؤمن بالحق ويذعن للحقائق.
ومع كل هذه الآيات البينات التي يدركها من يعقل، ويصل إلى الحقائق فيها من يفقه، ويذعن لها من يؤمن بالحق ولا يماري فيه - مع كل هذه الآيات وجد من جعلوا له شركاء من الجن وهو الذي خلقهم، ومن يحمقون، فيدعون أن لله بنات وبنين سبحانه وتعالى عما يصفون. إنه سبحانه خلق السماوات والأرض كيف يكون له ولد ذكر أو أنثى وليست له صاحبة، وإذا كان الله تعالى خالق كل شيء فهو وحده المستحق للعبادة وحده، وهو سبحانه المنمِّي لكل شيء بعد خلقه.(5/2422)
وقد بين بعد ذلك بعض صفاته، فهو لَا تدركه الأبصار؛ لأنه غير محسوس، وهو يدرك الأبصار، وهو العالم علما دقيقا لكل شيء، وأن كل ما سبق؛ فيه ما يبصركم بالحق، والتبعة عليكم بعده، (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ)، وإن هذا كله تصريف في القول المعجز، ليؤمنوا وليقولوا: درست على ربك. ومن بعد ذلك أمر الله تعالى نبيه الكريم بأن يتبع ما يوحى إليه، وأن يعرض عن المشركين، والله تعالى هو الذي كتب عليهم الكفر، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حافظا يمنع عنهم الكفر، ولا حاميا يدافع عنهم.
ولقد علم الله المؤمنين الحكمة بأن ينظروا إلى مآلات أقوالهم ولو كانت حقا، فلا يسبوا ألهة المشركين حتى يندفعوا فيسبوا الله تعالى ظالمين جاهلين، ثم هم معاندون، يقسمون أنهم إن جاءتهم معجزة غير القرآن يؤمنوا، فردهم سبحانه بأنه يختار من الآيات ما يكون مناسبا وله الحكمة، والله سبحانه هو مقلب القلوب، فليتركوا في ضلالهم وعمايتهم بعد البيان المرشد الحكيم.
وأن هؤلاء كتب الله تعالى عليهم الشقوة إلا أن يرحمهم فيتركوا ما هم فيه من ضلالة، فلا تجدي فيهم الآيات إلا أن يشاء الله تعالى، فلو أنزل الله تعالى عليهم الملائكة، وكلمهم الموتى معلنين بعثهم، وجمع عليهم كل شيء يكون في المستقبل ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله، والله سبحانه وتعالى قد اختبر الأنبياء فجعل لهم من شياطين الإنس والجن أعداء يزخرف بعضهم لبعض القول ويغرونهم، ولو شاء الله تعالى ما فعلوه، فذرهم وما يفترون، وأنه لتصغى إليه أفئدة الذين لَا يؤمنون بالغيب والآخرة، بل لَا يفهمون إلا ما بين أيديهم، وبذلك يقترفون الآثام التي يقترفونها لأنهم يقولون إن هذه الحياة الدنيا هي وحدها الحياة.
وأنه لَا يمكن أن يكون للمؤمن حكم غير الله؛ لأنه هو الذي أنزل الكتاب مبينا فيه كل شيء وأهل الكتاب يعرفون ذلك، ولا يصح أن يكون ذلك موضع شك، وأنه ببيان القرآن تمت كلمة ربك صدقا وعدلا، وهو السميع العليم، ولا يجوز التقليد للآباء والبيئات، فإنه إن يطع النبي من في مكة أو بلاد العرب يضل عن(5/2423)
سبيل الله، لأن سبيل الله تعالى هي الحق والعقل، وهم يتبعون الظن ويخرصون، وربك أعلم بمن يضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين.
وإن من شركهم أن يذبحوا الذبائح باسم الأصنام فنهى الله تعالى المؤمنين عن أن يأكلوا مما لم يذكر اسم الله تعالى عليه، بل إنهم يأكلون ما ذكر اسم الله تعالى عليه، ولا يصح أن يوجد ما يمنعهم إلا من يكون في حال اضطرار، والله أعلم بالمعتدين، وعلى المؤمنين أن يذروا ظاهر الإثم وباطنه، وألا يأكلوا مما لم يذكر عليه اسم الله تعالى، ولا شك أن المشركين سيجادلون في تحريم هذا وإحلال غيره، وعلى المؤمنين ألا يطيعوهم، وإلا كانوا مشركين مثلهم، وإنه لا يتساوى الميت مع الحي، وكذلك لَا يتساوى الضال الذي هو كالميت مع المؤمن الذي يحيا حياة طيبة وله نور يمشي به في الظلمات، ولكن زين لهم سوء أعمالهم. وإنه ليس بغريب أن يناوئ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أكابر من قريش، فإن كل قرية يكون فيها أكابر مجرميها، يمكرون فيها ويسيطرون عليها، والعاقبة عليهم وما يشعرون، وهم يحسدون رسل الله تعالى فيطلبون أن يؤتوا مثل ما أوتي رسل الله، وذلك شرط لإيمانهم، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وسيصيبهم صغار بسبب إجرامهم وعذاب شديد بسبب كفرهم ومكرهم السيئ لخفض كلمة الله تعالى. ومن يرد الله تعالى الخير له يشرح صدره للإيمان، ومن يرد غير ذلك منه يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء من شدة ضيق صدره وتوالي أنفاسه، وبذلك يكون عليه الرجس وعلى الذين لَا يؤمنون، وهذا صراط الله تعالى مستقيما قد فصلنا الآيات وبينَّاها لقوم يذكرون.
ولقد بين سبحانه وتعالى اختصاص المؤمنين، فذكر أن لهم دار الأمن والاطمئنان والسلام عند ربهم الذي خلقهم وهو وليهم، وذلك جزاء عملهم، وإن الله تعالى يوم يجمعهم جميعا يناديهم يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس، وأولياؤهم من الإنس يقولون قد استمتع بعضنا ببعض، وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا، فذكر سبحانه أن النار هي المثوى الذي ينتهون إليه، وكذلك يمكن بعض(5/2424)
الظالمين من بعض بسبب ما كانوا يكسبونه، ثم في هذا الجمع الجامع ينادي رب البرية (يَا مَعْشَرَ الْجِنِ وَالإِنسِ. . .)، ويذكرهم بمن بعث إليهم من رسل يذكرون لهم آياته سبحانه، وينذرونهم لقاء يومهم هذا، فيشهدون على أنفسهم، ولكن غرتهم الدنيا وزخرفها، وأطغاهم أن الله تعالى لَا يهلك القرى بسبب ظلمها، وأهلها غافلون. ولكل درجات بسبب أعمالهم، والله لَا يترك عمل عامل، وهو الغني ذو الرحمة إن شاء يذهبهم، ويستخلف من بعدهم قوما غيرهم، وما وعد به سبحانه آت لَا محالة لأنه لَا يعجزه أحد، وأمر الله نبيه أن يدعو قومه إلى أن يعملوا ما فيه رفعة مكانتهم واجعل نفسك قدوة لهم في العمل، وستعلمون من تكون له عاقبة الدار.
وذكر سبحانه وهْمًا من أوهامهم إذ جعلوا لله تعالى مما خلق من الإبل والبقر والغنم نصيبا وجزءا لما يزعمون آلهة، فما يجعلونه للشركاء يكون لهم، وما يكون لله لَا يصل إليه، ويصل إلى شركائهم، وساء ما يحكمون به في هذه القضية وغيرها.
ومنهم من كان قد زين لهم الشيطان قتل أولادهم بوهم للآلهة التي يزعمون، فأردوهم، ولبسوا عليهم دينهم ولو شاء ربك ما فعلوه وهو افتراء فذرهم أيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعد أن بينت، وحرموا على أنفسهم بأوهامهم، فجعلوا بعض الأنعام للأكل والحرث وأنعام لَا يطعمها كل الناس، وأنعام ممنوعة، وأنعام حرم ركوبها، وأنعام يأكلونها من غير ذكر اسم الله، وكل ذلك افتراء سيجزيهم الله تعالى عليه، وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام للذكور منا، ويحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء وسيجزيهم الله تعالى على ذلك، إنه حكيم عليم.
وكانوا يقتلون أولادهم سفها بغير علم، ويحرمون ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين.(5/2425)
ولقد بين سبحانه أنه أباح الطيبات وهو الذي خلقها وأنشأها للناس، فذكر أنه أنشأ جنات معروشات كالأعناب وغير معروشات كالبرتقال وغيره، والنخل والزرع مختلنما أكله من قمح وشعير وفول وبقول والزيتون والرمان متشابها آحاده وأنواعه وغير متشابه، وخلق ليؤكل، كلوا من ثمره، وآتوا ما عليه من زكوات يوم حصاده ولا تسرفوا في الأخذ حتى لَا تطغوا إن الله لَا يحب المسرفين، وبعد أن بين النعم فيما تخرجه الأرض بين نعمه، فمن الأنعام حمولة تحملكم من أرض إلى أرض أنتم وأمتعتكم وتتخذون من جلودها وأشعارها وأوبارها فرشا، ولا تتبعوا خطوات الشيطان في طعامها وتحريم بعضها، وتحليل بعضها، فسبب التحريم ليس متحققا فيها، فهي ثمانية أزواج؛ من الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين، فما سبب التحريم الذي تبتدعونه في بعضها فهل في الذكورة، فتحرموا كل الذكور؟ أم في الأنوثة فتحرموا كل الإناث؟ أم فيهما فتحرم كلها؛ وأنتم تحرمون بعض الذكور دون بعض، فلا مبرر للتحريم، والتحريم ظلم وافتراء، ومن أظلم ممن افترى على الله ليضل الناس بغير علم، إن الله لَا يهدي القوم الظالمين، ثم أمر رسوله بأن يبين المحرمات من الأنعام وهي: الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير وكل هذا رجس قذر، وما أهل لغير الله وهو فسق، وذلك كله حرام على المختار فمن اضطر غير متعدّ، ولا متجاوز حد الضرورة فإن الله غفور رحيم، ثم بين سبحانه ما حرمه على اليهود لغلظ قلوبهم، فذكر أنه حرم عليهم كل ذي ظفر من البهائم، وحرم من البهائم شحومها إلا ما حملت ظهورها أو الحوايا أو ما اختلط من الشحوم بالعظم، وكان تهذيبا لنفوسهم الشرهة، وجزاء لبغيهم.
وذكر سبحانه أن المشركين يكلون شركهم إلى تقدير ربهم، أي يأثمون، ولا يحملون أنفسهم إثمهم، وكذلك كل الفاسقين حتى يروا بأس الله تعالى يوم القيامة - وهل عندهم علم سوَّغ أن يحملوا غيرهم إثم فعلهم، فيحرموا ما حرموا؛ إن يتبعون إلا الظن الكاذب والوهم، والله عنده الحجة البالغة، وهاتوا(5/2426)
شهداء يشهدون أنه حرم ما حرموه على أنفسهم، فإن شهدوا فلا تشهد معهم، ولا تتبع أهواء الذين كانوا بأدلة الله يكذبون، ولا يؤمنون بالآخرة، وهم بربهم يعدلون، ويجعلون معه شركاء.
وبعد أن ذكر سبحانه ما حرموه على أنفسهم، وبطلان ادعائهم أمر رسولِه أن يبين لهم ما حرمِ عليهم وهم فيه واقعون وهو (. . . أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152).
وقد بين سبحانه بعد ذلك أن هذا هو صراطه المستقيم، عليهم أن يتبعوه، ولا يتبعوا السبل، فتفرق بهم عن سبيله، فغيرها مثارات الشيطان، وطرائقه، وتلك وصيته رجاء أن تتقوه فاتبعوها؛ ويبين سبحانه أن هذه المحرمات جاءت في شريعته - صلى الله عليه وسلم - وفي كتابه، وقد سجلت في القرآن، فكانت شرعا لله، فاتبعوها واتقوا الله لعلكم ترحمون، ولا تعرضوا عنها بأن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين هم اليهود والنصارى من قبلنا ونحن غافلون عن دراستهم، أو تعرضوا قائلين لو أنزل علينا الكتاب لكئا أهدى منهم فها هو ذا أنزل عليكم من ربكم فيه بينة وهدى ورحمة، وإنكم من بعد تظلمون بتكذيبكم بآيات الإعجاز فيه، وتصدفون عنها، وجزاؤكم على ذلك الظلم سوء العذاب.
هذه حجج قاطعة فإذا كنتم تعرضون عنها، فهل تنتظرون أن تأتيكم الملائكة أو يأتي ربك، أو يأتي بعض آيات ربك القاصمة لظهوركم، (يَوْمَ يَأتِي بَعْضُ آيَاتِ) وهو يوم القيامة (. . . لَا يَنفَع نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ).(5/2427)
وإن الذين فرقوا دينهم من اليهود والنصارى وكانوا شيعا لست منهم في شيء، إنما أمرهم إليَّ ثم أنبِّئُهم، بما كانوا يفعلون، ثم بين سبحانه الجزاء فجزاء الحسنة عشرة أمثالها، وجزاء السيئة مثلها، وطالبه - صلى الله عليه وسلم - أن يكون قدوة فأمره أن يقول: (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ. . .).
وبين أن كل نفس وما تفعل، فلا تزر وازرة وز أخرى، ولا تكسب كل نفس إلا عليها، وإلى الله مرجع الجميع، فينبئهم بما كانوا فيه يختلفون.
وبين سبحانه منزلة الإنسان في هذا الوجود، فقال تعالت كلماته: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165).
* * *(5/2428)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
* * *
كان ختام السورة السابقة إثبات سلطان الله تعالى الكامل، وقدرته الشاملة، وأنه لَا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض، إذ قال سبحانه: (لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيْءٍ قَدِيرٌ). وفي هذه الآية يبين سبحانه السبب في كمال سلطانه، والظهر الأعظم لكمال قدرته، وهو خلق(5/2429)
السماوات والأرض وخلق الإنسان، فإن هذا من أسباب السلطان الكامل على السماوات والأرض ومن فيهن، وهو مظهر كامل لكمال قدرته سبحانه وتعالى، وهذا قوله تعالى:(5/2430)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
(الْحَمْدُ للَّه الَّذي خَلَقَ السَّمَوَات وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَات وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)
الحمد معناه اللغوي: الثناء على المحمود بالفعل الاختياري الذي يقوم به، فلا يحمد على فعل كان بالجبلة والتسخير، إنما الحمد يكون ثناء على فعل اختياري، الحمد بمعنى الثناء مراتب، أدناه الثناء على العباد في أعمالهم الاختيارية. واستعماله في القرآن في الثناء على العباد قليل إلا إذا كان في التنديد بطلبهم للحمد مثل قوله تعالى: (. . . وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا. . .). وأعلى من هذا مرتبة الثناء على الله تعالى بما هو أهله، وذكر صفاته، والإحساس بجلائل نعمه، ولهج لسان العبد بهذه النعم.
والمرتبة العليا شكر هذه النعم والخضوع المطلق له سبحانه، والقيام بحق عبادته، وإفراده بالعبودية، وإن ذلك هو المطلوب من العباد، وهو أعلى الشكر، وقد قال سبحانه: (. . . لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ. . .)، والشكر امتلاء القلب بذكر الله تعالى وذكر نعمه، وشكرها، وهو الذي طالب به القرآن الكريم كما قال تعالى: (. . . اذْكرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ. . .)، و " أل " هنا للاستغراق، والمعنى أن المستحق لكل أنواع الحمد ومراتبها هو الله تعالى، فهو المستحق للعبادة، وهي أعلى درجات الحمد، وهو الجدير بكل حمد، دون غيره، وإذا كان ثمة حمد للعباد فهو إن كان على خير أسدوه كان حمد الله تعالى لتوفيقهم وعونهم، وإن كان الدافع على الثناء غير الخير، فهو ليس بحمد، وإنما هو كذب وافتراء على الحق وتعاون على الشر. وفد ذكر سبحانه أسباب ذلك الحمد الذي بلغ أعلى درجاته، فقال تعالت كلماته:(5/2430)
(الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظّلُمَاتِ وَالنُّورَ) هذا وصف لله سبحانه وتعالى يثبت كمال حق العبودية له وحده، وأنه لَا يستحق الحمد الكامل سواه، ولقد يقول الصوفية: إن العبودية لله تعالى ثلاث مراتب: أولاها - أن يعبدوه لذاته، والثانية - أن يعبدوه لصفة من صفاته كصفة الخلق والتكوين، والثالثة - أن يعبدوه لتكمل نفوسهم، ويحسموا بفضل الطاعة، وهذا النص يفيد أن حمد الله تعالى؛ لأنه خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، والحق أن المراتب الثلاث لَا تباعد بينها، فمن يعبد الله لذاته، فإن ذاته تعرف بصفاته، ومن يرى شرفه في عبادة الله وحده، فهو يتسامي.
والقول الجملي - أن الذكر لخلق السماوات والأرض لبيان سلطان الله تعالى وقدرته واستحقاقه وحده الألوهية؛ بدليل قوله سبحانه بعد ذلك: (ثُمَّ الَّذِين كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).
وهنا بعض المباحث اللفظية التي نتعرض لها؛ لأنه يكون تقريبا لمعاني الإعجاز في النص:
المبحث الأول - التعبير في خلق السماوات والأرض بـ " خَلَق "، وفي الظلمات والنور بـ " جَعَل "، فنقول: الخلق معناه الإنشاء الابتدائي هنا، والجعل يتضمن معنى تكوين شيء من شيء أو شيئين، وقد يتضمن الخلق ذلك المعنى بقرينة؛ وهنا المتبادر من المعنى أن الله تعالى أنشأ السماوات والأرض إنشاء، وجعل منها الظلمات والنور، فمن اختفاء الشمس عن الأرض يكون ظلام الليل، ومن بزوغ الشمس على الأرض يكون النور، وذلك كله بجَعل الله تعالى، وبأصل التكوين والتقدير من العزيز العليم.
المبحث الثاني - لماذا جمع " الظلمات " وأفرد " النور "؟ والجواب عن ذلك: أن النور واحد، من نتائجه الكشف والظهور، وتعدد أسبابه لَا يغير حقيقته، أما الظلمة فإنها متنوعة بتنوع أسبابها. . فهناك ظلمة الليل، وهناك ظلمة المحابس،(5/2431)
وهناك ظلمة القبور، وهناك ظلمة الغمام، وهي تتغير حقائقها بتغير أسبابها، ثم ثمة إشارة إلى أمر معنوي، وهي أن ظلمة الإدراك تتعدد حقائقها، فهناك ظلمة الانحراف، وظلمة الأهواء والشهوات وطمس القلوب، والنور واحد، (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ. . .)، فالنور في هذا واحد.
المبحث الثالث - لماذا أفردت الأرض وجمعت السماوات مع أنه قد وردت نصوص تعتبر الأرض سبعا كالسماوات؟ والجواب عن ذلك: أنه في كثير من المواضع تفرد وتجمع السماء في مثل قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30).
وإنما تعدد السماوات لعظمها، ولإحاطتها بالأرض، ولما فيها من الآيات البارزة، ولتزيينها بالنجوم، ولأنه لم يعلم أن الله تعالى قد عُصي فيها، ولأن طبقاتها متمايزة ينفصل بعضها عن بعض، والأرض طبقاتها متصلة.
المبحث الرابع - ما الذي كان العطف عليه في قوله تعالى: (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) ولماذا عطف بـ " ثم "؟ أما الجواب عن الجزء الأول فهو أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، وهو وحده يستحق الحمد، ثم مع ذلك يجعل الذين كفروا بسبب ضلالهم مثلا يعدلونه به، وهو أصنامهم، أو ما يزعمون من آلهة، والتعبير بـ " ثم " للبعد بين الحقيقتين، فالحقيقة الأولى التي توجب توحيد الله تعالى وحده، والثانية - ما يقع من هؤلاء الكافرين على غير بينة ولا إدراك، ولقد قرر الله تعالى الحقيقة الثابتة، فقال عز من قائل:
* * *(5/2432)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
* * *
بعد أن ذكر جلت قدرته خلقه لهذا الكون وما فيه، وسلطانه على السماوات والأرض ومن فيهن، بين سبحانه خلق الإنسان الذي يؤمن ويكفر، ويأثم ويفسق، ويهتدي لأمر ربه،، والذي حارت البرية فيه، كما قال أبو العلاء المعري:(5/2432)
والذي حارت البرية فيه ... حيوان مستحدث من جماد
ذكر أن الله تعالى خلقه، أي أنشأه من طين فلا يصح أن يستكبر، ويستغلظ على الهداية، وليذكر أصله، فأصله من طين، ولا يزال رب البرية يربه وينميه من الطين، فغذاؤه نبات أو حيوان يرجع إلى الطين، وفي ذكر هذا الأصل إشارة إلى أمرين جليلين: أولهما - عظمة الخالق وإبداعه الذي يجعل من صلصال من حمأ مسنون ذلك الإنسان الحي المتفكر المتدبر الذي يختار الشر فيغوى، ويختار الخير فيهتدي، والإشارة إلى تذكير الإنسان إلى أصل خلقه، لكيلا يستكبر ولا يغتر ولا يستعلي، وإذا كان أصله من الطين، فليس عجبا أن يعود كما بدأ: (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)، (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ. . .).
وإن الله سبحانه وتعالى، قد خلق الإنسان من الطين، أي خلق أصله من طين، ثم توالد وتناسل من بعد ذلك، وعمر الأرض ما شاء أن يعمرها حتى كان منهم من نسي أصله الطيني، وقد قدر سبحانه لكل إنسان أجلا، ولبني الإنسان جميعا - أجلا - أما الأول - فقد أشار إليه سبحانه وتعالى: (ثُمَّ قَضَى أَجَلًا) أي عمرا تكون له نهاية في هذه الدنيا، وعقبى هنالك في الآخرة، وكان العطف بـ " ثم " للإشارة إلى الأطوار التي يمر فيها الإنسان، والأطوار التي يمر بها الجنين، وللتفاوت بين الحقيقة التي نراها ونحسها والغيب الذي لَا نعرفه، مما قدره الله تعالى إذ يقول سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. . .).
هذا هو أجل العمر، وقال سبحانه بحد ذلك: (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) وما هذا الأجل المسمى عنده، ولا يعلم به أحد الآن يصح أن يكون الأمد الذي يكون بين الوفاة، وبعث من في القبور، ويصح أن يكون ما قدر للإنسان في هذه الأرض من وجود، والأمران متلاقيان، فالزمن الذي يكون بين وفاة كل واحد، والبعث(5/2433)
من القبور، والحساب والثواب أو العقاب، ثم الذي تنتهي به الدنيا، وهو مغيب، لأن الساعة علمها عند الله قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187).
ووصف هذا الأجل الثاني بأنه مسمى عنده يفيد اختصاص علمه سبحانه وتعالى بذلك، كما أشارت الآيات التي تلوناها، وقدم (أَجَلٌ مُّسَمًى) على قوله تعالى: (عِندَهُ)، لأن الأجل المسمى هو المبتدأ، وما بعده خبر، والمبتدأ مقدم حقيقة، ولأن الأجل هو المتحدث عنه باعتبار أن موضعه لَا يعلمه إلا الله تعالى، وسوغ الابتداء بالنكرة؛ لأنها موصوفة، والموصوف المنكر يصح أن يكون مبتدأ لأنه معرف بنوع من التعريف، وتأخير (عِندَهُ) ليس فقط، لأنَّ الأجل هو المبتدأ - بل لأن (عِندَهُ) مشعلقة بكون التسمية عنده فالعندية ليست لذات الخبر، إنما هي للوقت المسمى الذي اختص الله تعالى به، فكان الأنسب أن يكون المسمى مقترنا بالعندية التي هي متعلقه.
وإذا كانت الآجال ترى مقدرة، فكل حي ينتهي بالموت لَا محالة، فكان الأجل الذي لَا يعلمه إلا الله تعالى لَا ريب فيه أيضا، ولكن بعض الناس في ريب وشك، لأنهم مربوطون بالمحسوس؛ ولذا قال سبحانه: (ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرونَ) أي أنه مع ما ترون، وتعلمون من أن الإنسان يموت كما ترون، وأنه من طين، مع ذلك تمترون، أي تشكون وتجادلون في شككم، والأدلة قائمة، وكان العطف بـ " ثم " لتباعد ما بين الحقائق الثابتة وأسبابها، والامتراء هو التردد الذي ينتهي إلى محاجة ومجادلة، وقد ينتهي إلى شك، ثم إلى إنكار، وكان الخطاب لكل المخاطبين بالقرآن مؤكدا بـ " أنتم "، للإشارة إلى أن النفس البشرية حسية، وهي تأخذ أحكامها على الغائب الخفي من المحسوس الجلي. فكان الخطاب للجميع(5/2434)
ليخلعوا من نفوسهم عوامل التردد، ويتجهوا إلى تصديق العليم الحكيم القادر على كل شيء.
* * *(5/2435)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
(وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
* * *
بعد أن أشار سبحانه وتعالى أنه الخالق لكل شيء أشار سبحانه إلى البعث وذكر من قبل ذلك أنه الخالق ذو السلطان المطلق في هذا الوجود يسيطر عليه بجلاله، وألوهيته، واستحقاقه للألوهية وحده، وهو العالم فيه بكل شيء، فلفظ الجلالة يتضمن معنى الألوهية الحق، ومعنى الوحدانية والعلم والقدرة والإرادة، والسلطان الكامل الذي لَا يدانيه سلطان، فمعنى قوله: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ) يتضمن خضوع كل من فيهن له سبحانه، وسيطرته الكاملة وقدرته وعلمه، واستحقاقه للعبودية؛ والألوهية وحده.
والضمير في قوله: (وَهُوَ) يعود على المستحق للحمد الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، والذي خلق الإنسان من طين، وإنه بذلك يكون مستحقا للحمد، ويكون هو المسيطر في الكون الذي أنشأه وفي الإنسان الذي صوره من طين، وسخر له ما في السماء والأرض.
وقد ذكر وصفان جليلان فيهما تذكير وتبشير وإنذار.
أولهما - أنه يعلم (سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ) فإنه يعلم ما تظهره الجوارح وما تخفيه السرائر، يعلم ما يجري على الإنسان وما تخفي الصدور، فإن حاسب على ما يفعلون، فحسابه حساب اللطيف الخبير الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء أنى يكون، وهو مجاز على ذلك إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهو من بعدُ الغفور الرحيم.
الوصف الثاني - أنه يعلم ما يكسبون من خير أو شر، ولكل ذلك حسابه من هنا إلى يوم القيامة.
* * *(5/2435)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
(وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4)
* * *
قد وصف الله الذين كفروا بأنهم بعد قيام الدلائل التي تدركها الفطرة السليمة على وحدانية الله تعالى يجعلون عديلا لله في وحدانيته، ويشركون فيه، ومع أن الآيات الفطرية تدل أن خلق الإنسان إلى فناء في الدنيا ثم إلى بقاء، وإنها للجنة أبدا، أو للنار أبدا وقد بين من بعد أن الذين طمست فطرتهم فلم تدرك الحق لذات الحق لَا تجدي معهم البراهين مهما قويت، ولا الآيات مهما بينت، فبين أنهم معرضون كمن يرى ضوء الشمس فيضع غشاوة لكيلا يراها، ومن يسمع الحق فيضع أكنة على أذنه، وما تأتيهم أية حجة إلا أعرضوا عنها، وهنا بعض المباحث اللفظية التي تقرب معنى الآية الكريمة:
الأول - أن (ما) في قوله تعالى: (وَمَا تَأتِيهِم مِّنْ آيَةٍ) لعموم النفي (إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضينَ). واستغراقه، أي لَا توجد أي آية.
الثاني - التعبير بقوله تعالى: (مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ) فيه (من) تبعيضية، والمعنى فيه ما يأتيه آية (من) بعض آيات ربهم الذي خلقهم وذرأهم من العدم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، وهو الذي يكلؤهم ويرعاهم - إلا كانوا عنها معرضين.
المبحث الثالث - أن قوله تعالى: (إِلَّا كانُوا عَنْهَا مُعْرِضينَ) فيه إثبات أن الإعراض عن الحق دأبهم وصفة ثابتة فيهم لَا يتخلون عنها، ودل على ذلك النفي والإثبات، ثم التعبير بـ " كانوا " الدالة على الدوام والاستمرار، ثم التعبير بالوصف والمعنى الجملي: لَا تأتيهم معجزة قاطعة في الإثبات من عند خالقهم إلا تلقوها معرضين عن مغزاها، تاركين مؤداها.
* * *(5/2436)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5)
(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (5)
* * *
إذا كانوا لَا تأتيهم آية بينة مثبتة الرسالة إلا استقبلوها بإعراض كأنه عادة لهم، وشأن من شئونهم، فلا بد أن يكذبوا بالحق الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ما اشتملت عليه الرسالة المحمدية، فهم قوم بور؛ لأن الناس أقسام ثلاثة: قسم يهتدي إلى الحق(5/2436)
عندما يدعَى إليه، لأنه يدرك ببصيرته، إذ هي مشرقة مخلصة تستجيب للفطرة، لأن الحق في فطرتها، وفي ثناياها. وقسم يقبل الحق، ويستمع إلى آياته ودلائله ويهتدي به. وقسم على قلبه غشاوة يعرض عن الحق، وعن أدلته، وهؤلاء لا علاج لهم إلا بالسيف يقاتلون به، أو بالعذاب الشديد ينزل بهم في الآخرة.
وأنهم لم يكتفوا بتكذيب الحق إذ جاءهم على لسان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وبما اشتمل عليه القرآن الكريم من حقائق ثابتة بل تجاوزوا إنكار الحق إلى الاستهزاء بأهله، والسخرية بمعتنقيه؛ ولذلك قال سبحانه: (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ) فإن هذا النص الكريم يشير إلى إخبار بالاستهزاء مطوى قد أغنى عن ذكره ما بعده في ثنايا القول الحكيم، وإن هذا تهديد بأنه سينزل بهم عذاب شديد هو نتيجة وثمرة لاستهزائهم، وكأنه لحتميته نبأ عن القرآن الذي كان به هذا الاستهزاء، وفي الكلام إشارات بيانية تؤكد أنهم مخاطبون بالرسالة ومعاقبون على الإعراض.
الأولى - في قوله تعالى: (لَمَّا جَاءَهُمْ) وأنه نزل بساحتهم وصار قريبا منهم ففي هذا تنبيه على أنهم المخاطبون بحجيته، وأنه بينهم مستمر دائم لَا يتوانى عن تذكيرهم مهما فروا، حتى يكون ضلالهم عن بينة، ومن بعد فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها.
الثانية - تأكيد ما ينزل بهم نتيجة لسخريتهم بـ " اللام " وبـ " سوف "، وبأنه يأتيهم فينزل بساحتهم، وذلك تأكيد لوقوعه.
الثالثة - التعبير عن العذاب بأنه أنباء ما كانوا به يستهزئون، والنبأ هو الخبر العظيم، وقد وضح ذلك الزمخشري في الكشاف فقال: فسوف تأتيهم أنباء الشيء الذي كانوا به يستهزئون، وهو القرآن، أي أخباره وأحواله، بمعنى سيعلمون بأي شيء استهزءوا، وسيظهر لهم أنه لم يكن بموضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته.(5/2437)
وقد بين سبحانه لهم العبرة بما نزل بمن سبقوا، ومن مجاورتهم ديارهم، فقال:
* * *(5/2438)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا ... (6)
* * *
القرن: الجماعة المقترنة التي تعيش في زمن واحد، والاستفهام داخل على فعل محذوف دل عليه سابق الكلام ولاحقه، والمعنى المقرب: أيعرضون ذلك الإعراض عن المعجزات التي تبين لهم الحق، ويستهزئون ذلك الاستهزاء لأهل الحق، ولم يروا بأن ينظروا نظرة تدبر وتفكر العدد الكثير من القرون الذين أهلكناهم من قبل، وكانوا أشد قوة، وآكد منهم، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع فهو للتوبيخ، لأنهم فعلا أعرضوا واستهزأوا ولم يتدبروا ويتبصروا، والآية الكريمة تنبههم إلى وجوب التبصر والتدبر، وتذكرهم بما يستقبلهم إن استمروا على غيهم، وهي فوق ذلك دليل على كمال قدرته على تنفيذ إنذاره، وقد ذكَّر الله تعالى لأولئك الأقوام الذين أهلكهم الله تعالى في سبيل بيان العبرة:
أولا - بأنهم مكنوا في الأرض بما لم يمكن للمشركين الذين عاصروا محمدا - صلى الله عليه وسلم - فقال تعالى: (مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) أي جعلنأم مكانا في الأرض لم نمكن لكم مثله، أي لم نمكنه لكم، وذلك كناية عن سعة السلطان، وقيام الصنائع، وكثرة العمران، وثبات حكمهم، واستقرار أمرهم، فأنتم معشر المشركين لم يكن لكم شيء من ذلك، وأنى يكون مكانكم بجوار مكان فرعون، وأنى يكون سعة عمرانكم بجوار سبأ في مسكنهم الذي كان فيه جنات عن يمين وشمال.
وثانيا - أن الله جعل لهم العيش رغدا، ورغد العيش كان غيثا من السماء فأرسل عليم السماء مدرارا، والمراد من السماء هنا جهة العلو، ولذا أفردت فقال تعالت كلماته: (وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا) أي أرسلنا عليهم السحب تنزل دارَّة الماء، ويصح أن نقول: إنه أرسل ما في السماء من السحب، أو اعتبرت السحب(5/2438)
الماطرة فإنها سماء باعتبارها في وجهة العلو، وفي التعبير بـ " أرسل " بدل " أنزل " إشارة إلى معنى الغوث والإمداد المستمر الدائم، والعرب لم يكن مطرهم كثيرا، بل كان غيثا، يجيء الفينة بعد الفينة.
وثالثها - بالأنهار تجري من تحتهم؛ ولذلك قال تعالى: (وَجَعَبا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ) في التعبير بـ (جعل) معنى التحويل، أي حولنا أمطار السماء إلى أنهار تجري من تحتهم أي تحت سلطانهم يسيرون مجاريها كما يريدون، فكان الماء عندهم غدقا ولم يكن ذلك عند العرب، فبأي شيء يفترون ويستعلون، وماذا صنع سبحانه بهؤلاء؛ قال: (فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ).
الفاء هنا للتفصيل، والبيان بعد الإجمال، لقد أشار سبحانه إلى ما نزل بهم، وهنا يبين سبحانه أنه أهلكهم بسبب ذنوبهم، والإهلاك بسبب الذنوب له مظهران:
أحدهما - أن الذنوب ذاتها تهلك أمما، إذ تشيع فيهم الترف والغرور والفساد في الأرض، وبذلك تنحل وتضمحل، وتذهب قوتها.
المظهر الثاني - إهلاك الله تعالى الأمم عقابا على أوزارها، وإن الأمم إذا هلكت بسبب فسادها، جاء جيل يصلح أمرها، ويزيل أسباب الفساد، ويجدد المتخرب، وهو الجيل الذي ينشئه الله على آثار المفسدين، وهو غير الجيل السابق؛ ولذلك كان التنكير وكان الوصف بـ (آخرين).
* * *
(وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)(5/2439)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
* * *
كانت الآيات السابقة تبين إعراض الذين كفروا عن آيات الله تعالى، وهي المعجزات التي يأتي بها الأنبياء لإثبات أن رسالاتهم من عند الله سبحانه وتعالى، وأن المشركين يعرضون عن القرآن الكريم، ويطالبون بآيات أخرى ويحسبون أن المسوغ لكفرهم نقص فيها، لَا نقص فيهم بعدم الإذعان للحق، وأن الناس قسمان: قسم يذعن للحق إذا قامت بيناته، وهذا يكفيه ما اختاره الله سبحانه وتعالى دليلا على رسالة من بعثه الله تعالى؛ لأنهم طلاب حق يتعرفون دليله، ويذعنون إليه.
والقسم الثاني - استولت عليهم أهواؤهم وشهواتهم، وسدت مسالك النور في قلوبهم، فهم في لهو وإعراض، وهؤلاء لَا تزيدهم قوة الدليل إلا إصرارا، وهؤلاء لَا يذعنون للحق مهما تكن قوة الدليل، وهم الذين قال الله تعالى فيهم:(5/2440)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
(وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كتَابًا فِي قرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْديهِمْ لَقَالَ الَّذينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مبِينٌ).(5/2440)
أى إن هؤلاء لَا ينقصهم الدليل، ولكن ينقصهم التوجه، وأخذ أمر الدين بعناية وتفكير واتجاه سليم لطلبه، فإن الاتجاه المخلص يجعل النفس تشرق، وتمتلئ بالحكمة، فيقنعها الدليل، وهؤلاء المغرضون ينقصهم ذلك الاتجاه المستقيم، الذي يملؤهم بالنور، ويشرق في قلوبهم طلب الحكمة والنزوع إليها، وعلى ذلك لا تجدي فيهم الآيات مهما تكن قوة الدليل وحسيته.
وفى النص القرآني مقامات بيانية تقرب معناها السامي، وإن كان بينا في ذاته. .
الأول - (لَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاس) (لو) هنا حرف امتناع لامتناع، أي أن الله سبحانه يمتنع عن أن يفعل ذلك، لأنه عبث لَا يليق أن يصدر عن ذاته العلية، إذ لَا ثمرة له، فلن يؤمنوا مهما تكن قوة الدليل، وذلك مثل قوله تعالى: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15).
فالكلام القرآني في مضمونه هنا يحكم بأن
الهداية السامية لَا تفتح لها قلوبهم المعرضة المتحيرة المركسة في الضلالة.
وقوى سبحانه وتعالى امتناع هدايتهم، إذا جاءتهم آية بأن لو نزل عليهم مكتوب من السماء محفوظ في قرطاس متضمن معنى رسالة الله تعالى، ولمسوه بأيديهم للدلالة على العلم الحسي الذي لَا ريب فيه ولا شك - لَا يؤمنون، فتأكدت لديهم رسالة الله تعالى بأمور ثلاثة بهذا المكتوب الذي وضع في غلافه، وبلمسه بالحس، وبكون اللمس بكل الأيدي والجوارح.
المقام الثاني - أنهم لَا يقابلون ذلك بالتصديق والإقبال والإذعان، بل ينتحلون الأعذار لكفرهم، ولا يجدون مساغا إلا ادعاء السحر يلجأون إليه، مع أن السحر تخييل وتسكير للإبصار، وهذا فيه لمس بالأيدي، فلم يقتصروا على الرؤية حتى يقولوا: إنما سكرت أبصارنا، بل نحن قوم مسحورون، ومع ذلك يبهتون الحق، ويجابهون الواقع ويقولون مؤكدين: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مبِينٌ).(5/2441)
الثالث - أن الله تعالى حكم سبحانه بعدله وإنصافه بأن ذلك قول الذين كفروا منهم، ففي ذلك إشارة إلى أمرين:
الأول - الإشارة إلى أن الذين يقولون هم الذين كفروا، وأن هناك في مقابلهم مؤمنين يذعنون للحق، ويصدقون الآيات.
الثاني - أن السبب هو الكفر والجحود والإعراض، فلا يؤمنون بآية مهما تكن قوتها في الدلالة، لإعراض القلوب وعدم اتجاهها إلى الحق، بل إنها مظلمة معتمة لَا يدخل إليها النور مهما يكن وضاء.
الرابع - أنهم لفرط جحودهم وإغلاق قلوبهم يؤكدون أنه سحر مع اللمس بالأيدي، وقد أكدوا حكمهم الباطل أولا - بالنفي والإثبات، أي أنه مقصور على أنه سحر، ثانيا - بالإشارة إليه، وذكروا أنه بين واضح.
ثالثا - والمعنى الجملي أنه لَا تجدي فيهم معجزة ولا دليل، ويؤكد هذا قوِله تعالى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111).
* * *(5/2442)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
(وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)
* * *
(لَوْلَا) هنا للتخصيص، أي أنها في ظاهرها لحضهم النبي - صلى الله عليه وسلم - على طلب الملَك، وجاء بالبناء للمجهول؛ ليكون الطلب لمن أرسل الرسول، وأنهم يعلقون الإجابة على إنزال الملك، والحقيقة أنهم يتعنتون، والنص القرآني يفيد أنه وجد منهم من طلب ذلك فعلا، وأسند القول إلى المشركين؛ لأن التعنت في الصورة الشاملة لهم فما يصدر عن بعضهم تعنتا، إنما يصدر في المعنى عن جمعهم؛ لأن الباعث واحد.
ويروى محمد بن إسحاق فيقول: (دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فقال زمعة بن الأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث بن كلدة، وعبد بن عبد يغوث، وأُبي بن خلف بن وهب، والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد مَلَك يحدث عنك الناس؛ ويُرى معك).(5/2442)
فما طلبوا أن ينزل عليه ملك لَا يرونه، لأنه كان ينزل عليه جبريل الأمين على قلبه ليكون من المنذرين؛ إنما كان مطلبهم أن يكون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ويخاطبهم بالشهادة له بالتأييد والنصرة فيما يدعو إليه.
وقد رد عليهم خالق الكون بردين يبينان سذاجة تفكيرهم - أولا - وعنتهم ومعاندتهم للحق - ثانيا.
الأول - يقول الله تعالى: (وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنظَرُونَ) والمعنى القريب إلينا، أننا نحن الله العلي القدير القاهر فوق عباده لو أنزلنا ملكا لقضى الأمر أي لانتهى أمر الدعوة، وألزمتهم نتيجتها في الدنيا، ولعوقبوا على تكذيبهم عاجلا، ولا يكون العقاب آجلا في الآخرة، بل يكون في هذه الحياة وترون أثر تكذيبهم، ولا (تنظرون) أي لَا تمهلون إلى اليوم الآخر، ولا ينطبق عليكم قول الله تعالى: (قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْم يُبْعَثُونَ)، فقضاء الأمر إنهاء أمر الدعوة بالهلاك، ولكن دعوة محمد جهاد مستمر، لَا ينتهي أمرها بإهلاك المعاندين، كما تحققت دعوة نوح في قومه: (وَقَالَ نُوحٌ ربِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)، إنما دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - جهاد بالحق، ومغالبة للباطل، حتى يدفع الباطل بالحق فيدمغه فإذا هو زاهق، وهي صورة باقية واضحة في الجهاد إلى يوم القيامة؛ لأنها شريعة دائمة لدفع الناس بعضهم لبعض، ولولا ذلك لفسدت الأرض، وإذا كانت شريعته هي خاتمة الشرائع تكون للبقاء، فإنها لا تنتهي بمجرد معاندتها في ابتداء أمرها.
وإن الله سبحانه وتعالى قد أهلك ولم يُنظِر كما فعل مع قوم عاد وقوم لوط، وقوم شعيب؛ لأن الله تعالى لم يقدر أن يكون منهم مجاهدون مغالبون للباطل إلى يوم القيامة، فجعلهم عبرة المعتبرين.
الأمر الثاني - الذي رد به طلبهم التعنت كان بقوله:
* * *(5/2443)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
(وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
* * *(5/2443)
إذا كان الرسول يكون معه ملك، فإن المغزى أنهم يريدون أن يكون الرسول ملكا - ولو جعل الله بدلى الرسول البَشَري رسولا من الملائكة، لكان الأمر الطبيعي لكي يختلط بهم، ويخاطبهم، ويوجههم أن يجعله سبحانه وتعالى رجلا يكون له مظاهر البشر، ويندمج فيهم ويدعوهم، وحينئذ لَا تكون جدوى في اختياره ملكا بدل أن يكون رجلا؛ لأنه سيختلط عليهم، ويقولون كيف يكون رجل هو الذي يدعو، وما يعترضون به على النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - هو عين ما يعترضون على ذلك الملك الذي لَا يكون في مظهره إلا رجلا كمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فمعنى قوله: (وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَا يَلْبِسُونَ) لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم، إذ يقولون إذا رأوا الملك في صورة رجل هذا رجل، وليس بملك ونحن نطلب ملكا، وعلى ذلك يكون الدليل على أنه ملك هو القرآن المعجز الذي يتحدى به كما يتحدى به النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا جدوى، ولقد قال تعالى: (قُل لَوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا).
ونرى أن الرد الأولى فيه بيان سنة الله تعالى في هداية خلقه، وأن الشريعة التي يريد الله تعالى لها البقاء لَا تنقضي بالإفناء لمن تلقوها وينقضي الأمر، والرد الثاني يثبت أن طلبهم لَا نتيجة له، وأنهم ليسوا طلاب حق، بل متعنتون مستهزئون، لَا يريدون الحق أو الدليل عليه؛ ولذا قال سبحانه:
* * *(5/2444)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)
(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (10)
* * *
في هذا النص الكريم تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فيما كان فيه من بلاء وابتلاء، لقد ابتُلِيَ من المشركين بالإنكار والمعاندة، وطلب آيات، ولا يقصدون إلا المهاترة، وقد سبق إنكارهم كل دليل يساق إليهم، ساق لهم القرآن دليلا. وتحداهم أن يأتوا بسورة منه، فطلبوا آيات أخرى، وجاءهم بدليل حسي يدل على أنه مبعوث من رب العالمين، وهو الإسراء والمعراج فاتخذوه سبيلا للإنكار، ولم يتخذوا منه حجة للإثبات، وابتلاه - صلى الله عليه وسلم - باستهزائهم والسخرية منه، واتخاذهم القرآن مهجورا. فبين(5/2444)
سبحانه أن ذلك شأن الدعاة إلى الحق المجاهدين في سبيله، فهم ينالهم الاستهزاء وتواليهم أسباب الإيذاء، فلا ينتظر أن يجيب الأقوام بمجرد دعوتهم، بل ينالهم والمؤمنين أسباب الإيذاء المتوالي، والاستهزاء المستمر، وكذلك الشأن في كل دعوة جديدة، فليس محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدعا من الرسل فيما يلقاه، فكلهم استهزئ بدعوته.
وقد أكد سبحانه الاستهزاء بهم في قوله: (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ من قَبْلِكَ) أكده سبحانه بـ " قد " وبـ " اللام ".
وإن الله لَا يترك الظالمين يعيثون في الأرض فسادًا ويؤذون أهل الإيمان؛ ولذلك لَا بد أن ينزل بهم عقاب هذه السخرية في الدنيا والآخرة؛ ولذلك قال سبحانه:
(فَحَاقَ بِالَّذِينَ لسَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ).
(الفاء) هنا فاء السببية، أي بسبب هذا الاستهزاء نزل ما نزل من عذاب بأمر الله وبأيدي المؤمنين، وقال الراغب الأصفهاني: إن (حاق) مأخوذة من (حَقَّ) قلبت فيها إحدى القافين حرفا لينا كالتظنن تقلب إحدى النونات ياء، فيقال (التظني) وهذا المعنى يشير إلى أن ما يحيق بهم من نتائج السخرية هو حق عليهم يؤخذون به.
والأكثرون من علماء اللغة: على أن حاق بمعنى أحاط، ولا تكون إلا في الشر، والمعنى أحاط بهم الأثر المؤلم لهم لسخريتهم. وهنا إشارتان بيانيتان:
أولاهما - أن الله ذكر أنه يحيق بالذين سخروا ولم يقل بالساخرين للإشارة إلى أن ما يصابون به من العذاب إنما هو بسبب سخريتهم؛ لأن التعبير بالموصول يفيد أن الصلة هي علة الحكم، وللإشارة إلى أن العذاب نتيجة السخرية.
ثانيتهما - أنه تعالى قال: (فَحَاقَ بالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءونَ) وإنما الذي حاق هو العذاب لَا ذات السخرية، ويقول العلماء: إن ذلك مجاز(5/2445)
علاقته السببية، فهو عبر بالسبب وأراد المسبب، وإن ذلك يفيد أن العذاب ملازم لهذه السخرية لَا ينفصل عنها، فحيث كانت كان عذابها لَا محالة.
والعذاب الذي ينزله الله تعالى بالساخرين قسمان: عذاب بهلاك أو بآفات سماوية، كما أرسل على فرعون وقومه الجراد والقُمَّل والضفادع والدم آيات مفصلات، والآخر بأن يمن على أولئك الذين يُسخر منهم بالقوة والنصر والتأييد، على كل من المستهزئين الساخرين، كما كان الأمر بالنسبة للمشركين الذين كفروا برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
* * *(5/2446)
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
* * *
أمر الله تعالى نبيه بأن يذكرهم بحال من سبقوهم، وأن يروا آثارهم حسا، ثم يتدبروا فيها فكرا، ليعرفوا أين ذهب هؤلاء، فيستفيدوا من ذلك ثلاث فوائد:
الفائدة الأولى - أن يعرفوا أن هذه الحياة التي يعيشون فيها ليس لها دوام، بل إن لها انتهاء، وأنها لَا تبقى فيها باقية.
والفائدة الثانية - أن أولئك الأقوام قد مكن لهم في الأرض بما لم يمكن لهم، وما منعهم ملكهم الواسع، وقوتهم الظاهرة من أن يؤخذوا كما يؤخذ أضعف الضعفاء، وأن النهاية واحدة لَا فرق فيها، فالدنيا عرض زائل.
الفائدة الثالثة - أن الله عذبهم بالإهلاك في الدنيا بسبب طغيانهم؛ لأن الله تعالى لم يرد أن يجعل منهم حماة لشريعة خالدة، فسيجدون في سيرهم أرض ثمود، وأرض عاد وما فيهما من بنيان قُوِّض عليهم، وأرض قوم لوط، وقد جعل الله تعالى عاليها سافلها، فإذا كانوا يطلبون من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستعجل لهم العذاب مستهزئين، فها هي ذي المَثُلات، والعبر، فليعتبروا، وإلا فهم قوم بور، لا يتعظون ولا يعتبرون.(5/2446)
وفى النص بحوث لفظية:
أولها - أن الله أمر نبيه أن يخاطبهم هو؛ لأنهم يستهزئون به - صلى الله عليه وسلم - فكانت المجاوبة منه لهم، وطلب السير، من قبيل الطلب المندوب، أو اللازم، والنظر كذلك من قبيل الطلب، والمراد النظر بالرؤية والإبصار ثم بالتدبر والتفكير، فليس إبصارا مجردا، ولكنه إبصار وتفكير، ولو كان إبصارا مجردا لكان مقيدا بالغاية منه وهو التفكير والتدبر.
ثانيها - الحكمة في العطف بـ " ثم " بدل (الفاء)، والمقام مقام (الفاء) كما في قوله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِين) النمل، فإن السياق هنالك يجعل النظر مسببا عن السير، ومترتبا عليه، أما هنا فالسير مطلوب في ذاته، ويجيء النظر المطلوب أيضا كأنه غير مقصود من السير، وكأنه أمر بدهي هو نتيجة للسير، ولم يربط بالسببية بينهما فكان التعبير بـ " ثم " المفيدة للتراخي، وهذا تصريف الله تعالى في آياته: (. . . كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ).
ثالثها - معنى " كيف " هنا " حال "، أي انظر حال عاقبة المكذبين بعد موتهم أين البطش الذي كانوا يبطشونه والجبروت الذي كانوا يطغون به، وأين المال والبنون وما كانوا يغترون به؟
وذكر الله (عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)، ولم يقل تعالت كلماته عاقبة المستهزئين؛ لأن التكذيب هو الأصل الذي ترتب عليه الاستهزاء وذكر السبب يتضمن ذكر المسبب.
* * *(5/2447)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
(قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ... (12)
* * *
أمر الله تعالى نبيه أن ينبههم إلى خلق السماوات والأرض ومن فيهن، والمجاوبة بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن خلقهم، ومن يملك من فيهن ومن له السلطان، وقد نقلهم من أمر حسي يستطيعون أن يروه، ويعتبروا به إلى أمر فكري هو ثمرة للتفكير في الإنسانية(5/2447)
كلها، والاستفهام يتضمن معنيين: أولهما - التنبيه إلى أن الله تعالى يملك السماوات والأرض ومن فيهن من أقوياء وضعفاء، ومن إنس وجن، ومن ملائكة أطهار لَا يعصون الله تعالى ويفعلون ما يؤمرون، ومن أخيار في الأرض وأشرار، فالجميع في قبضة يده سبحانه وتعالى، ولا أحد فوق سلطانه، والمعنى الثاني - تبكيتهم، وبيان أنهم ومن هم أقوى منهم في قبضة يده سبحانه.
ونميل إلى أن الاستفهام للتنبيه، فإنه من أمثل الطريق لتقرير الحقائق، السؤال ثم الإجابة؛ ولذلك كانت الإجابة بأمر الله تعالى نبيه أن يقول: (قُل لِّلَّهِ) فكانت هذه الإجابة تقريرا للحقيقة الثابتة التي يدركها العقل السليم، وهي مما يوجبه الإيمان، وتقرره الفطرة وبداهة العقول.
وقد ذكر عدله ثم ذكر رحمته من بعد، وأشار إلى أن العدل والرحمة متلازمان، فقال سبحانه:
(كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ)
ومعنى كتب الله تعالى على نفسه أنه أوجب تفضلا وتكرما من غير إلزام من أحد ألزمه الرحمة بعباده، فهو الذي يمدهم بنعمه محسنهم ومسيئهم، وخيِّرهم وشرِّيرهم، وهو الذي يكلؤهم بالليل والنهار، ولقد روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش إن رحمتي سبقت غضبى " (1) ولهذه الرحمة لم يسارع بإنزال الهلاك على العصاة ممن بعث إليهم محمداً - صلى الله عليه وسلم -، عسى أن يخرج من ذرية المشركين من يعبد الله سبحانه وتعالى، ويخلص في إيمانه.
ومن مظاهر رحمته أن يعاقب المسيء، ويثيب المحسن، فإن ذلك هو العدل وفيه رحمة، فحيث كان العدل كانت الرحمة، فهل يستوي الذين يعملون والذين
________
(1) رواه بهذا اللفظ أحمد: مسند المكثرين - مسند أبي هريرة (7476)، ورواه البخاري: التوحيد - وكان عرشه على الماء. (7422) بلفظ مقارب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(5/2448)
لا يعملون، وهل تستوي الظلمات والنور، وهل يستوي الأخيار والأشرار. إن عقاب العاصي رحمة بالعموم، وإن لم يكن رحمة بذات العاصي فهو لَا يستحق الرحمة؛ ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من لَا يَرحَمْ لَا يُرْحَم " (1) ولقد ذكر سبحانه أن من مقتضى رحمته أن يجمع الناس يوم القيامة ليوم لَا ريب فيه، يجازى فيه المحسن بإحسان، ويعاقب فيه السيئ؛ فقال تعالت كلماته: (لَيَجْمَعَنَّكمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ) فهذه الجملة استئنافية لبيان نوع من العدل، وهو أن يثاب المحسن، ويعاقب السيئ، ويحاسب كل على ما قدم من عمل في هذه الدنيا، إذ هو رحمة بالخلق، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن القصاص فيه رحمة كبيرة، فقال تعالت كلماته: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ. . .)، والقصاص بكل ضروبه فيه حياة ورحمة.
وهنا بعض إشارات بيانية:
الأولى - أن الله أكد جمع الناس يوم القيامة، وذلك بـ " اللام " الدالة على قسم مطوي في القول، وبنون التوكيد الثقيلة.
والثانية - تعدية الجمع بـ " إلى " دون " في "؛ للإشارة إلى أن الجمع نهايته تكون يوم القيامة، فهم يحشرون في القبور، والجمع مستمر في ذلك.
الثالثة - إثبات أن ذلك اليوم لَا شك فيه عند أهل الدراية والمعرفة ومن يشك فيه فهو ليس ذا إدراك سليم، وإذا كان بعض الناس يشك فيه، فليس ذلك إلا من سقم الإدراك، وفساد الفطرة، وينبغي ألا يشك فيه مدرك، فالبديهة تقول إن الله تعالى لم يخلق الكون عبثا، ولم يخلق الإنسان عبثا، بل خلقه ليفنى ثم ليبقى من بعد ذلك، ومن خلق في الابتداء قادر على الإعادة في الانتهاء، وبين سبحانه بعد ذلك الحال الواقعة للذين يكفرون بالله وبالرسالة وباليوم الآخر، وأن شرهم متكاثف يردف بعضه بعضا.
________
(1) متفق عليه رواه البخاري في كتاب: " الأدب ": رحمة الولد وتقبيله (5538)، ومسلم في كتاب " الفضائل " رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالصبيان والعيال (4282).(5/2449)
(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
عبر عن الكفار بالرسالة المحمدية، والوحدانية واليوم الآخر بالذين خسروا أنفسهم، وجعل الكفر نتيجة للخسران، فالخسران يبتدئ، والكفر نهايته، أو هما متلازمان، فالخسران سابق ولاحق لأنه يترتب على الكفر خسران متضافر.
والخسران الذي يسبق الكفر، وهو خسران الفطرة، فلا يكفر بالدليل القاطع إلا من يخسر فطرته وخسران الإدراك السليم؛ لأنه لَا يكفر بوجود الله إلا من ينسى أن كل أثر له مؤثر، وكل موجود له موجد، وخسروا عقولهم إذ سيطرت الأوهام عليهم، فأشركوا مع الله أحجارا تحطم، وأوثانا تصنع، ونجوما تأفل، وخسروا نفوسهم فصارت معوجة، وخسروا قلوبهم فصارت مظلمة، وإذا كانت كل مداركهم قد سدت فهم لَا يؤمنون؛ لأن الإيمان يحتاج إلى قلب مخلص، وعقل مدرك، وإذعان للحق إذا بدت معالمه، وظهرت أماراته، وإنهم بعد الكفر يزيدون خسرانا، إذ كل إنكار للحق خسران في ذاته؛ لأنه نزول عن مرتبة الإنسانية السامية.
وقد قال تعالى: (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) وعبر بالمضارع للإشارة إلى أنهم لَا يكون الإيمان شأنا من شئونهم، ذلك لأن من امتلأت نفسه بالأوهام وصارت عشا لها، وضلت عقولهم لَا يمكن أن تذعن لشيء، بل هي دائما مضطربة حائرة تنتقل من ضلال إلى ضلال، ومن متاهة إلى مثلها، كمن يضل في بيداء كلما أوغل زاد ضلالا (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً. . .).
* * *(5/2450)
(وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
* * *
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة سلطانه في خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وإحاطة علمه سبحانه ومعرفته للسر والجهر، وتلقِّي المشركين لبيان تلك الحقائق مع الإعجاز الدال على صدق الأخبار النبوية بالتكذيب والاستهزاء، والإعراض عن البينات من الآيات، وطلبهم آيات أخرى، وبين سبحانه أنه ما دام الإعراض، وما دام الجحود مستوليا على نفوسهم، فلن تجدي معهم آية؛ لأن ما سيق إليهم كاف، ولأنهم يكذبون حسهم ما دام إنكارهم سابقا لتلقيهم، وقد ضرب لهم سبحانه الأمثال بما وقع للسابقين، ونبههم سبحانه إلى ملكيته لكل ما في السماوات والأرض، وفي الآيات التي نتكلم في معناها بيان لسلطانه وعلمه الكامل بكل ما فيها، وما ينبغي أن يكون أثرا لعلمه سبحانه وتعالى بذلك، فقال تعالى:(5/2451)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
(وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).(5/2451)
(سكن) هنا من السكون بمعنى الاستقرار، والمعنى ولله سبحانه وتعالى كل ما استقر وأقام في السماوات وفي الأرض من حيوان وجن وما احتويا من نبات وجماد وبحار وجبال ووهاد ومعادن ولآلئ، والتعبير بـ " ما " في قوله: (وَلَهُ مَا سَكَنَ) للدلالة على العموم.
وقد يراد السكون الذي هو ضد الحركة، لأنه لَا سكون إلا معه حركة، إذ إن السكون معنى نسبي لَا يتحقق إلا إذا كان معه حركة، وإذا كان الله تعالى، يعلم السكون لكل ما في السماوات والأرض فهو سبحانه يعلم الحركة والسكون، وأنه لَا مانع من أن يراد المعنيان معا، إذ يعلم سبحانه كل ما استقر في السماوات والأرض، ويعلم حركاتهما وسكناتهما.
ويعلم ذلك في الليل والنهار، ويملك كل ذلك، فالنص الكريم يدل على ملكية الله تعالى لكل ما في السماوات والأرض عامة، بلا استثناء ويعلم ما في كل الأماكن، وفي عموم الأزمان، بلا استثناء ليل ولا نهار.
وهو مع هذه الملكية الكاملة يديرها بعلم كامل، ويهيمن عليها بقدرة قاهرة، وإرادة مسيطرة، وعلم دقيق لذلك قال سبحانه: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي أنه سبحانه وتعالى يسمع دبيب النمل من غير أُذن، ويعلم كل ما كان أو سيكون من غير مشابهة في سمعه وعلمه للمخلوقات (. . . لَيْس كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُو السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، لَا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وفى هذا النص الكريم إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى يملك الناس وما حولهم لَا يخرجون عن قدرته، وهو المهيمن عليهم، إن شاء خسف بمن يخالفه، وأهلكهم، ولم يجعل من الكافرين ديَّارًا، وأنه عليم بما يكون من الطائعين، فيجزيهم ويهديهم، وما يكون من العصاة، فيعاقبهم ويرديهم، وفيه إنذار للمشركين.
* * *(5/2452)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ... (14)
* * *(5/2452)
إذا كان الله سبحانه وتعالى وهو الذي يملك كل من في السماوات والأرض من إنس وجن وملائكة وغير ذلك، وهو المسيطر عليها ليلا ونهارا، وهو الذي فطر السماوات والأرض، وأنشأهما على غير مثال، فإن الله سبحانه هو الحق والنصير، وهو المعبود، وإن أولئك المشركين يريدونك أن تعدل عن اتخاذ الله تعالى وليا ونصيرا، ومعاضدا، ومؤيدا، وأن تتخذ أحجارا لَا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع، ولذلك أمر الله تعالى نبيه أن يخاطبهم مستنكرا ما هم فيه من اتخاذهم غير الله أولياء، وجاعلا الاستنكار منه - صلى الله عليه وسلم -، والاستنكار بالنسبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - استنكارًا للوقوع فهو بمعنى النفي عنه - صلى الله عليه وسلم -، أي لَا يمكن أن يقع منه - صلى الله عليه وسلم -، وبالنسبة لهم استنكار لما يقع منهم فهو توبيخ، والاستنكار لأعمالهم واقع ضمنا، في استنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - على نفسه أن يقع منه ذلك، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ينفي وقوعه منه، ويوبخ من عملوا ذلك.
والمعنى قل يا محمد لهؤلاء الذين أشركوا بالله غيره في العبادة وادعوا أن الأوثان تقربهم إلى الله تعالى زلفى - أنا لَا أتخذ غير الله وليا، وقدم في الاستفهام كلمة (أَغَيْرَ اللَّهِ) لأن ذلك موضع الشناعة عليهم في الاستنكار؛ إذ إنه موضع الغرابة أن يكون غير الله متخذا وليا، فكان ذات الاتخاذ غريبا في ذاته، والإشراك في ذاته ترك لعبادة الله وعدم اتخاذه وحده وليا ونصيرا؛ لأن الولاية الحق هي لله وحده، فاتخاذ أي ولي معه ترك لولاية الله تعالى، والولي يطلق بمعنى النصير، وبمعنى المعبود، وبمعنى الصديق الحميم، وهو هنا بمعنى النصير المعبود، فلا يُسْتنصَر إلا الله، ولا يُعبد سواه، وقد ذكر سبحانه على لسان نبيه الكريم عملين له سبحانه يوجبان أن ينفرد وحده بالعبادة:
أحدهما - ما ذكر سبحانه وتعالى: (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) أي منشئهما على غير مثال سبق، ابتداء حيث لم تكونا من قبل، وقد قال مجاهد التابعي تلميذ ابن عباس: (سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: كنت لَا أدري ما(5/2453)
فاطر السماوات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان إلى في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، يقول: أنا ابتدأتها - أي ابتدأ - بشقها).
ونقول: إنه ليس بمعقول أن يكون ابن عباس جاهلا بالمعنى المفهوم من السياق، ولكن لعله كان لَا يعلم أصلها في اللغة، وكيف كانوا يستعملونها؛ حتى التقى بالأعرابيين، فوضح لديه أصل الاستعمال.
وفطر السماوات والأرض يوجب أن تكون الولاية لله وحده؛ لأنه الخالق لهذا الوجود والذين يشركونهن معه، لَا يملكن لأنفسهن ضرا ولا نفعا، فكيف نتصور ولاية لهن بجوار ولاية الله الخالق المنشئ.
الأمر الثاني - أن الله لَا يحتاج، وغيره يحتاج، فهو يُطْعِم كل من في هذا الوجود، ويمده بأسباب الحياة والنماء ولا يطعمه أحد، وهذا على قراءة (وَلا يُطْعَمُ) بالبناء للمجهول، وهناك قراءة بالبناء للمعلوم، والمعنى فيها أنه يطعم من يشاء بالرزق الموفور، ولا يطعم من يشاء بالتقتير عليه في الرزق.
(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكونَ أَؤَلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَن مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
كما أمر الله تعالى نبيه بأن يستنكر أن يتخذ غير الله وليا، وهو الذي أبدع ذلك الوجود، وكل ما فيه يحتاج إليه، وهو لَا يحتاج إلى أحد، وكنى عن هذا الاحتياج بإطعام غيره إذ أشد الحاجة تكون إلى الطعام، بعد هذا أمر الله تعالى نبيه بأن يقول إنه امر أن يكون أول من أسلم، وفي ذلك بيان أن الإسلام مطلوب من الجميع وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أول من يُؤمر بالإذعان لله تعالى والخضوع له، وفي بيان أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك مع أنه بالبداهة أول من خوطب بالإسلام، وأمر بما اشتمل عليه، كان أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ ليكون أسوة حسنة لهم، كما قال سبحانه: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. . .). ولأن الاقتداء دعوة حسية، ولأن في الإنسان نزوعا إلى التقليد، واتباع المهتدين، والتعبير بقوله تعالى: (أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) تعبير بالحال الواقعة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، بأن يكون في(5/2454)
حال أول من ينشئ الإسلام ويذعن لله سبحانه وتعالى، وكأنه يقول لهم: أنا منكم، وأُمرت أن أكون أول من يخترق الحجزات لأذعن لله الواحد الأحد الفرد الصمد، ثم قال تعالى: (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي أنه كما أمر أن يكون أول المذعنين لأوامر الله تعالى المخلصين له، نهى أن يكون من المشركين، بأن يكون في صفوف المشركين الذين يجعلون مع الله تعالى غيره معبودا، وأن أخرج من صفوف المشركين وإن كانوا قومي وعشيرتي، وفيهم الأقربون، وهنا نثير ثلاثة أمور نقرب بها معنى النص الكريم:
أولها - كيف تعطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية، إذ إن الأولى أمرت، والثانية - ولا تكونن من المشركين؟ وقد أجاب عن ذلك العلماء بإجابات مختلفة، والذي نراه أن الجملة الأولى ظاهرها إخبارية، ولكن لتضمنها معنى الأمر كانت في معنى الجملة الطلبية الإنشائية، فإن نسق الكلام هكذا (كن أول من أسلم ولا تكونن من المشركين).
الثاني - لماذا كان النهي عن الشرك بعد الأمر بأن يكون أول مذعن لمطالب الإيمان بالواحدانية، والجواب عن ذلك أن النهي هو عن أن يكون من المشركين بأن يتبرأ منهم، ومن إشراكهم، ويخرج من صفوفهم، ولو كانوا قومه وعشيرته القربى، وإذا خرج من صفوف أهل الكفر كان في حزب الله، وحزب الله تعالى هم المفلحون.
الثالث - لماذا كان الالتفات من الإخبار الظاهر في قوله تعالى: (وأمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) إلى الخطاب في قوله تعالى: (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)؟ والجواب عن ذلك أن الخطاب فيه توكيد معنى النهي عن الشرك، وكلتا الجملتين للخطاب كما خرجنا في الأمر الأول، والله تعالى هو وحده الذي يملك الأمر والنهي.
* * *(5/2455)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
(قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
* * *
هذا أمر ثالث من الله سبحانه وتعالى لنبيه الأمين - صلى الله عليه وسلم - أن يبين حالا من أحواله - صلى الله عليه وسلم -، يكون فيها تنبيه لهم، وتحذير من أن يبقوا على الشرك، ويستمروا على عصيان الله تعالى، فيأمره تعالى بأن يقول لهم: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ).
فذكر هذه الحال من النبي - صلى الله عليه وسلم - تنبيه لهم إلى أنهم في مقام من يخاف عذاب يوم عظيم.
ففي هذا النص إنذار لهم بأن عذاب يوم عظيم ينتظرهم، وأنه يجب أن يخافوه، ويتقوه، بأن يقلعوا عما هم فيه من الوقوع في أسبابه، وهو العصيان، وأكبر العصيان الشرك، وأنذروا بأدق تعبير، وأنصف تصوير، وأبلغ بيان إذ جعلت حال النبي - صلى الله عليه وسلم - من الخوف من عذاب الله إن عصى منبهة إلى الاقتداء، والتفتيش عماهم فيه من معصية.
وفى الموضع كلام في عصيان الأنبياء أيتصور وقوعه؟ ونقول إن الأنبياء معصومون عن العصيان، ولكن الخوف من العصيان يعتريهم؛ لأنهم لفرط إحساسهم بعظمة الله وإيمانهم بحسابه وعقابه وثوابه، ورقابتهم النفسية لله يكونون دائما في خوف ووجل، لَا لتوقع العصيان، ولكن رهبة من الديَّان.
ولأن العصيان الجلي غير متوقع عبر بـ (إن) التي لَا تدل على الوقوع، فقال (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) وهنا فوق التعبيص بـ (إن) التعبير بـ (ربي) فإنه يستبعد عصيان الرب الخالق المنمي الكالئ، الذي هو فوق كل شيء.
واليوم العظيم هو يوم القيامة، وكان عظيما، بما فيه من أمور، من تجلي الله سبحانه وتعالى، وحسابه وعقابه، والتنكير للتعظيم، فهو ذو عظمة متكررة، ولعظمة ذلك اليوم وعذابه قال تعالى:
* * *(5/2456)
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
* * *
الضمير الذي يعتبر نائب فاعل يعود على عذاب يوم القيامة العظيم، وهناك قراءة بالبناء للفاعل (1)، ويكون المفعول محذوفا، والضمير يعود إلى ربي أو إلى الله المذكور تعالى في قوله: (أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا). إلى آخره، ويكون المعنى على هذه القراءة من يصرف الله تعالى عنه هذا العذاب العظيم في ذلك اليوم فقد رحمه، وعلى أي حال فالضمير في قوله تعالى: (فَقَدْ رَحِمَهُ) يعود على الله، ولهذا اختار ابن جرير الطبري قراءة البناء للفاعل، إذ يكون الصارف الدافع للعذاب هو الرحيم، فالنسق يكون واضحا.
و (يَوْمَئِذٍ) من إضافة الوقت إلى الوقت أي ذلك في يوم ذلك الوقت وهو يوم القيامة، وكان ذلك رحمة من الله لأن العذاب يكون عظيما، وذهاب العذاب ودفعه رحمة، ومع ذلك فهناك الجنات التي تجري من تحتها الأنهار، والنعيم القيم، فالرحمة إيجابية وسلبية، فالسلبية دفع العذاب، والإيجابية الهداية؛ فإنها في ذاتها رحمة، ثم ما يعقبها من جزاء. ثم ما هو فوق ذلك وهو رضوان الله تعالى.
وذلك كله من الرحمة المتنوعة المتعددة وهو الفوز المبين الواضح الذي لا يماري فيه إلا جهول.
* * *
________
(1) (من يَصرِف) بفتح الياء، وكسر الراء: قراءة عاصم - غير حفص - وحمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب. [غاية الاختصار ج 2، برقم (833)].(5/2457)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ... (17)
* * *
المس يطلق على ما ينزل بالإنسان من ضر، مثل قوله تعالى: (. . . قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ. . .). وقوله تعالى: (. . . مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاءُ. . .)، ومثل قوله تعالى: (وَإذَا مَسَّ الإِنسَانَ(5/2457)
الضُّرُّ. . .)، والضر هو الأمر المؤلم الذي ينزل بالمرء من ضيق في الرزق، أو مرض في الجسم، أو هزيمة في حرب أو نحو ذلك، فإذا مسَّك أيها النبي - صلى الله عليه وسلم - ضر من هذا النوع الذي تتأثر به في دعوتك، فلا يكشف عنك هذا الضر - لتستمر في تبليغ رسالته - إلا الله تعالى، بعد أن تتخذ الأسباب، وظاهر هذا الكلام أن الخطاب يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون لتقويته في تبليغ دعوته، وتأكيد ولايته، واستعانته به سبحانه وتعالى وحده.
ويصح أن يكون الخطاب لكل مؤمن قارئ للقرآن، أو لكل من هو أهل للخطاب، وفيه بيان أن الناس جميعا في سلطان الله، فما يصيبهم من نفع فبتقديره، وما يصيبهم من ضر فبتقديره وإرادته، وهو الكاشف لهذا الضر إن أراد ذلك كله مع الأخذ بالأسباب؛ لأن الأسباب لَا تعمل وحدها، إنما لَا بد معها من إرادة الله تعالى والتوكل عليه؛ ولذلك كان الله تعالى يأمر بالتوكل عليه بعد الأخذ بالأسباب، لأنها وحدها لَا تعمل إلا مع التفويض، كما أن النوم والتواكل لا يجديان، والتوكل في هذه الحال تواكل وليس اعتمادا على الله سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: (وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كل شَيْء قَدِيرٌ) فيه المقابلة بين الخير والضر، وأن الأول يكشفه الله، والثاني بقدرة الله تعالى، والتعبير بالمس في الأمرين من قبيل التشاكل اللفظي، والكل تحت سلطان الله تعالى وقدرته، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من هو أهل للخطاب الذي يتلو القرآن الكريم، أو يستطيع تلاوته، وكشف الضر: إزالته، ومس الخير: نفعه، ولماذا عبر عن الضر بأن الله كاشفه، وعن مس النفع بقدرة الله تعالى؟ ونقول في الإجابة: إن من نزل به ضر يكون إحساسه بزواله، فعبر عن زواله بكشف الله تعالى، وأما النفع فإنه يكون صاحبه في حال تستوجب الحمد والثناء وطلب البقاء فيناسبه إثبات قدرة الله تعالى.(5/2458)
وإن كشف الضر والنفع كله بقدرة الله تعالى، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت " (1) وقال الله تعالى: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ. . .).
* * *
________
(1) جزء من حديث متفق عليه، رواه البخاري: القدر - لَا مانع لما أعطى الله (6615)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (593).(5/2459)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
* * *
معاني هذه الآية الكريمة جامعة لكل سلطان الله على عباده في السماء والأرض، فهو الغالب على كل شيء لَا إرادة لأحد مع إرادته، وإرادته، فوق كل إرادة، فهو المسيطر سيطرة كاملة على عباده، والفوقية المذكورة في النص الكريم هي فوقية سلطان لَا فوقية مكان، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فلا جبار له إرادة عند سلطانه سبحانه، ولقد قال ابن كثير في معنى النص جملة رائعة، فقد قال: (يقول تعالى: إنه مالك الضر والنفع، وإنه المتصرف في خلقه بما يشاء لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه وهو القاهر فوق عباده، أي هو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء ودانت له الخلائق).
وإنه بهذا السلطان القاهر يدبر كل شيء بحكمته، وعلمه الدقيق المحيط، الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فبحكمته الظاهرة وبعلمه المحيط وقدرته القاهرة يسير الكون وما فيه ومن فيه إنه على ما يشاء قدير.
* * *
(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا(5/2459)
تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
* * *
في الآيات السابقة بين الله تعالى أنه خالق السماوات والأرض، وفاطرها على غير مثال سابق، وكيف خالف المشركون الفطرة الإنسانية، والعقل المستقيم، وأشركوا بأحجار في عبادة الله لَا تنفع ولا تضر، وبين سلطانه تعالى، ثم ذكرهم سبحانه بنوازل تنزل بهم، فهو الذي يكشف الضر إن نزل، وهو الذي يسوق الخير بفضل قدرته ومنته. وفي هذه الآيات يذكرهم سبحانه بإشراكهم مع قيام المعجزة القاطعة بأنه سبحانه وتعالى هو الله وحده، فالآيات السابقة كانت في الآيات الكونية المثبتة للوحدانية، والآيات اللاحقة تثبت الوحدانية بالدلائل السمعية المثبتة للوحدانية والتي ثبت صدقها بالمعجزة القاطعة، وهي القرآن الكريم؛ ولذا قال تعالى:(5/2460)
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
(قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).
فرض النص الكريم أن خصومة بين محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو الداعي إلى الوحدانية، والمشركين الذين يرتعون في الوثنية، وأن هذه الخصومة تحتاج إلى شاهد يشهد، وأنه لابد من شاهد يفصل، وحاكم يحكم ويقضي، فأمر الله تعالى(5/2460)
نبيه في بيان رائع حكيم، أن يسأل المشركين عن أي شيء في هذا الوجود أكبر وأعظم وأقوى وأزكى شهادة بحيث تقبل شهادته ولا ترد، وكان الكلام في صيغة الاستفهام تنبيها إلى جلال الشاهد، وتنبيها إلى سلامة دعوى محمد - صلى الله عليه وسلم - ليدركوا حقه وضلالهم، ثم نبههم إلى الإجابة السليمة للسؤال التنبيهي التي لَا تقبل مراء ولا جدلا، وهو أن أكبر شهادة هي شهادة الله سبحانه وتعالى، الذي خلق الكون وهو الذي يحوط كل ما فيه بالحياطة الكاملة، والتهذيب والتربية، فقال تعالت كلمات: (قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ) في هذه الخصومة التي فرضتموها، هي خصومة الباطل اللجلج مع الحق الأبلج، وقد تكلم الزمخشري في بيان لفظي بلاغي، فذكر أن في النص الكريم توجيهين:
أحدهما - أن الإجابة تنتهي عند قوله: (اللَّهُ) وأن ما بعد ذلك تقرير للشهادة، فـ (شَهِيدٌ) يكون جملة جديدة، لأنه خبر لمبتدأ محذوف، ويكون المعنى على هذا التخريج قل الله ذو الجلال والإكرام، والعزة وصاحب الإنعام في هذا الوجود، وهو كاف، وهو أكبر شهادة، ولا شهادة بعد شهادته، وهو يشهد بالحق وبالوحدانية، يشهد بما جاء في القرآن بعد أن شهد بما خلق وأنشأ، ثم بين أنه هو شهيد في هذه الخصومة.
والتخريج الثاني - أن الإجابة تكون في نهايتها عند (شَهِيدٌ)، فالمعنى قل إن الله تعالى شهيد، فـ (شَهِيدٌ) تكون خبرا للفظ الجلالة ابتداء، وكلاهما توجيه ليؤكد معنى الشهادة في النص القرآني.
ولماذا كانت شهادة الله تعالى أكبر شهادة؛ لأنها التي تتفق مع العقل، ولأنه المنشئ، ولأنه الباقي وكل شيء هالك إلا وجهه.
وما الدليل على شهادة الله تعالى؛ نقول: هي بيناته، وهي التي ينطق به بها القرآن الذي قام الدليل على أنه من عند الله تعالى العزيز الحكيم؛ ولذلك جاء ذكر القرآن الناطق بالحق، فقال تعالى:(5/2461)
(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ).
هذا النص فيه المعجزة التي تدل على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو يشتمل على شهادة الله القولية بأنه واحد أحد ليس بوالد ولا ولد، وأنه القادر على كل شيء وأنه القاهر فوق عباده، وهو أمر حسي يتلى عليهم ليلا نهارا، ويقرأ عليهم جهارا، وكان معجزا ببلاغته، وما فيه من علم، وما فيه من قصص صادق، وما فيه من شرائع منظمة للعلاقات بين الناس في أسرهم ومعاملاتهم، واجتماعهم، وعلاقات الإنسانية بعضها ببعض، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - في إثبات أنه المعجزة التي تحدى بها الناس أن يأتوا بمثلها فعجزوا عجزا مبينا: " ما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحي به إليَّ، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة " (1).
ولماذا كانت معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - قرآنا يتلى، وتولى سبحانه حفظه من التحريف والتبديل إلى يوم القيامة كما قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
والجواب عن ذلك أن معجزات الأنبياء السابقين كانت تقع ولا يعلم بها على اليقين إلا الذين عاينوها وشاهدوها، والذين من بعدهم لَا يعلمونها إلا بالخبر الذي لَا شك فيه. أما شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فإنها باقية خالدة إلى يوم الدين فلا بد أن تكون معجزاتها قائمة حاملة معنى الإعجاز والتحدي ما دامت الشريعة قائمة خالدة، فلا بد أن يكون القرآن الكريم حجتها خالدا بخلودها.
والنص القرآني الذي نتكلم فيه اشتمل على أمور ثلاثة:
أولها - بيان أنه المعجزة المثبتة لصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ذكر ذلك بالإشارة، إذ قال: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ) وقد ثبت بالتحدي عجزهم عن أن يأتوا بمثله.
________
(1) متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه.(5/2462)
ثانيها - أنه مشتمل على الإنذار للمشركين والمخالفين والعصاة إن استمروا على غيهم، ولم يستجيبوا لنداء ربهم، ودعوة نبيهم إلى الوحدانية والفضيلة، وتكون مجتمع سليم نقي.
ثالثها - أن النص يتضمن أن القرآن حجة وإنذار لكل منِ بلغه سواء خاطبه
النبي - صلى الله عليه وسلم - أم بلغه، وقد بين ذلك قوله تعالى: (لأُنذِرَكم بِهِ وَمن بَلَغَ) أي أن من بلغ القرآن فهو مخاطب به، سواء أكان من العرب أم كان من العجم، وكأنه خاطبه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " بلغوا عن الله تعالى، فمن بلغته آية من كتاب الله تعالى فقد بلغه أمر الله " (1)، وروي عن جمع من التابعين أنهم كانوا يقولون: (من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد - صلى الله عليه وسلم). وإن هذا النص يستفاد منه أمران:
أولهما - أن من لم يبلغه القرآن ولا يعلم عنه شيئا، فإنه لَا يعتبر قد بلغته الدعوة الإسلامية، وإثمه على الذين تقاصروا عن تبليغها وبيانها.
ثانيهما - أنه لَا معذرة لمن يعرف القرآن، في الكفر بالحقائق الإسلامية.
ولكن كيف التبليغ بالقرآن، والعجمة سائدة في هذا الوجود سواء أكانت إنجليزية أو فرنسية أو غيرهما؟
والجواب عن ذلك أنه يجب في سبيل الدعوة إلى الإسلام؛ التي هي فرض كفاية على المسلمين؛ يأثم المسلمون جميعا إن لم يكن دعاة إلى الإسلام - يجب عليهم أن تفسر طائفة مخلصة مؤمنة فاهمة القرآن تفسيرا موجزا تبين معانيه، ويترجم ذلك التفسير إلى كل لغة أعجمية.
(أَئِنَّكمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أخرَى قل لَا أَشْهَدُ).
________
(1) رواه ابن جرير عن قتادة مرفوعا. وهو مرسل. [جامع البيان ج 7، ص 103،، وأخرج البخاري (3386) عن عبدِ الله بن عمر أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بلِّغوا عني ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرجَ، ومن كذَبَ عليَّ مُتعمِّداً فليتَبوَّأْ مَقعدهُ منَ النار ".(5/2463)
شهادة الله التي فصل بها في القضية، ونطق بها القرآن الكريم؛ ولذا أحيل بيانها إلى القرآن في قوله تعالى: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ) وفي هذا النص السامي يقابل بينها وبين شهادتهم وما يتبعه النبي - عليه الصلاة والسلام - أيتبع الله تعالى العلي الحكيم أم يتبع أهواءهم؟! معاذ الله أن يتبع الهوى بل إنه يتبع الهدى. والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، فهم وقع منهم ذلك، وتأكد وقوعه ولم ينكروه؛ ولذلك كان تأكيد وقوعهم بأن قال تعالت كلماته: (أَئِنَّكُمْ) فهو إنكار لهذا الأمر الواقع منهم وقوعا مؤكدا، وإنكار الواقع توبيخ، فالاستفهام هنا يتضمن معنى تقرير ما وقع منهم وتوبيخهم عليه، وعبر بتشهدون للإشارة إلى قوة الضلال في نفوسهم إذ إنهم مع ضلال الفكرة الوثنية يعتقدونها أشد الاعتقاد؛ لأن الشهادة لَا تكون إلا بالعلم اليقيني، فهم يؤمنون بـ (تشهدون) بالشرك أي بأن مع الله آلهة أخرى، وتسمية الأوثان التي يشركون بها مع الله تعالى آلهة؛ لأن ذلك في زعمهم، فليست آلهة ولا يمكن أن تكون آلهة، إذ هي أوثان أو أشياء أو أشخاص لَا يكون منها نفع ولا ضرر، وليست مفيدة في ذاتها، وهم يعبدونها، فهي بزعمهم آلهة.
ووصفت بـ (أُخْرَى) مع أنها جمع، وكان الظاهر أن توصف بـ (أخَر) ليوصف الجمع بالجمع، ولكن لأنها مشتركة في وصف جامع وهو أنها أحجار فهي في المعنى شيء واحد؛ لذا وصفت، فهي في المعنى واحد، وكذا وصفت بما يوصف به الواحد لَا بما يوصف به العدد، والوصف بـ (أخرى) فيه إشارة إلى بطلان عبادتها.
وإنه من المبالغة في التوبيخ والتنديد أن يأمر الله تعالى نبيه بألا يشهد بما يشهدون، بل يشهد بشهادة الحق، فيقول تعالى: (قُلْ لَا أَشْهَدُ).
وفى أمر الله تعالى له بالقول مع التنديد لهم والتوبيخ لهم ما يدعو إلى الاقتداء والتأسى به - صلى الله عليه وسلم - وهو العاقل الصادق الأمين المعروف بذلك بينهم جاهلية وإسلاما، وإن ذهبت اللجاجة ببعضهم إلى إنكار المعروف بلسانه لَا بقلبه.(5/2464)
(قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).
هذا تقرير وتأكيد لمعنى الجملة السابقة وهي لَا أشهد وتحتمل أن تكون داخلة في مقول القول، ويكون مقول القول لَا أشهد وإنما هو إله واحد، ويحتمل أن تكون جملة مبتدأة، والفصل في الأول يكون لأنها بيان لما قبلها، وفي الثانية يكون لابتداء الكلام، وإن كان في المعنى فيه تقرير لما سبقه.
والضمير (هو) يعود على الله تعالى، وهذا النص السامي تضمن أمرين: أولهما - وحدة الله تعالى، وقدض عليه غوله تعالى: (إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ) وهذا يفيد قصر الألوهية على الله تعالى فلا يعبد سواه سبحانه، ويفيد مع ذلك أنه لَا يتصور أن يكون المعبود بحق غير واحد؛ لأن المنشئ المكون المدبر واحد، ولا يتصور بمقتضى النظر إلا أن يكون المعبود واحدا.
الأمر الثاني - التصريح ببراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يعبدون من أوثان يشركون بها مع الله تعالى: (وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ). في هذا النص تنديد شديد بعبادة الأوثان؛ لأن الرجل العاقل يتبرأ منها، ولا يليق أن يعبدها، وقد أكد براءته بـ (إن)، وبالوصف (بريء) وبأن ذلك افتحال منهم، وليس ألوهية في شيء.
* * *(5/2465)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ ... (20)
* * *
الذين آتاهم الله سبحانه وتعالى الكتاب هم اليهود والنصارى أوتوا التوراة والإنجيل، وهم بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين يعرفون محمدا - صلى الله عليه وسلم - ورسالته، وبعثه وصفته ومهجره، ويؤمنون بالله تعالى ويوحدونه، ولا يشركون، يعرفون هذه الحقائق كما يعرفون أبناءهم الذين هم من أصلابهم فهو عندهم بمرتبة اليقين، وقد وردت الآثار بذلك.
ويروى في ذلك أن كفار مكة قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فأرنا من يشهد أنك رسول الله، وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما(5/2465)
أنه قال: جاء النحال بن زيد وقردم بن كعب فقالوا: يا محمد! ما نعلم مع الله إلها غيره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا إله إلا الله تعالى، بهذا بعثت وإلى ذلك أدعو " (1).
فهذا النص الكريم (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ) شهادة ثابتة بعد شهادة الله تعالى التي حكاها النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه جل جلاله، وبعد شهادته - صلى الله عليه وسلم -، وهي شهادة النبيين السالفين أجمعين.
والضمير في (يَعْرِفُونَهُ) على من يعود؛ قال الأكثرون من المفسرين: إنه يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤيد ذلك سبب النزول المذكور أولا، وهو المروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طريق الكلبي، وهو يؤيد الوحدانية ويؤكد الشهادة بها من قبل تأييد النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدق رسالته. وجوز ابن جرير الطبري عودة الضمير على الله تعالى، ويؤيده أنه أقرب ظاهر مذكور في الآية، كما يؤيده رواية ابن عباس في شهادة أهل الكتاب الذين شهدوا بالتوحيد، وهو ظاهر، وإن كان لَا يظفر بالكثرة التي يظفر بها الرأي الأول.
(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ).
ختم الله تعالى النص ببيان خسارتهم لأنفسهم، وإركاسهم أنفسهم في الفساد، ويترتب فقد الإيمان، وعلى هذه الخسارة الفادحة التي فقدوا بها أنفسهم كأناس لهم إدراك وفهم في ربط للمسببات المنطقية باسمها، وإن المشركين كانوا يؤيدون نحلتهم بتكاثر معتنقيها، فذكر لهم القرآن الكريم أن الله تعالى يشهد ببطلان كلامهم وقام الدليل على صدق شهادة الله - تعالى - بالكتاب الموحى به، والذي قام الدليل على صدقه بالتحدي به، وعجزهم عن أن يأتوا بمثله، وشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد علموا أنه الصادق الأمين وإن لجَّ قادتهم في الخصومة حتى فجروا
________
(1) رواه ابن جرير الطبري، في جامع البيان: ج 7، ص 104.(5/2466)
فيها، وشهدت الكتب السابقة والذين يعتنقون ما فيها، فلماذا يكذِّبون ويشركون فماذا بعد الحق إلا الضلال، وأي خسارة نفسية أكثر من الفُجر في الخصومة، واللجاجة في البهتان حتى أصبحوا لَا يتصور الإيمان منهم.
* * *(5/2467)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
* * *
الاستفهام هنا إنكاري للنفي وفيه توبيخ للمشركين، هو حكم على أمر واقع، ومعنى القول: لَا أحد أظلم من الذي قصد إلى الفرية على الله تعالى، أو كذب الحجج القائمة، أو كذب ما جاء في القرآن الكريم من آيات بينات، ومعنى النص أن المشركين كذبوا على الله تعالى بكل عقائدهم، وبذلك بلغوا أقصى درجات الظلم الذي لَا يوجد أعلى منه، إذ بلغوا أقصى غايات الكذب الذي يبهت العقلاء والأمناء الصادقين، وقد قال الزمخشري في بيان كذبهم على الله تعالى: (جمعوا بين أمرين متناقضين، فكذبوا على الله تعالى بما لَا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح، حيث قالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، والله أمرنا بها، وقالوا: الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وذهبوا فكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا ولم يؤمنوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم).
هذه بعض أكاذيبهم على الله تعالى التي بلغوا بها أقصى درجات الكذب، وبها استحقوا أن يكونوا هم، ومن يشابهونهم أكثر الناس افتراء، وأظلم الناس في هذا الافتراء، وخلاصتها أنهم كذبوا على الله تعالى بأن ادعوا عليه سبحانه ما لم يكن، وكانوا في ذلك مرتكبين لأعظم بهتان، وكذبوا بآياته، والآيات قسمان: آيات هي المعجزات، ومنها التي تحدى بها الأنبياء، والآيات الكونية، وقد كذبوا الاثنين، وكفروا بآيات الله تعالى في آيات الكون الدالة على إبداع خلقه، وأنه سبحانه هو الخالق وحده، وهناك الآيات القرآنية قد كذبوا بها فلم يؤمنوا.(5/2467)
ولا يمكن أن يفوزوا وهم على هذا الظلم؛ ولذلك ختم الله تعالى الآية بقوله تعالت كلماته: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) فالظلم وخصوصا ظلم الكذب يفسد النفس، ويفسد العقل ويفسد العمل.
* * *(5/2468)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
* * *
الكلام هنا متصل بما قبله، ذلك أن ختام الآية السابقة هو قوله تعالى: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وذلك يومئ إلى أن الله لَا يوفقهم للخير في الدين؛ لأنهم
خسروا أنفسهم ولم يؤمنوا، ولأنهم أظلم الناس بافترائهم على الله، وتكذيبهم لآيات الله، ويوم يحشرهم أي يجمع الناس جميعا لَا يُستثنى منهم أحد، يكون الخسران المبين، والعذاب الأليم، والحرمان من النعيم.
وفى الآية الكريمة قراءتان ذكرهما الزمخشري، أولاهما - قراءة حفص بالنون في (نحشر) و (نقول) (1)، ومعناها ظاهر بين لَا يحتاج إلى تخريج أو تأويل، وثانيهما - بالياء في (يحشرهم) وفي (يقول)، ويكون الضمير في الأمرين يعود إلى الله تعالى، وهو مذكور عن قرب في الآية السابقة.
والحشر مؤكد بكلمة (جَمِيعًا)، وهذا التأكيد يمنع احتمال التخصيص، ويكون الضمير يعود على النابر أجمعين، وأن الذين يعاقبون ويحاسبون هم الذين أشركوا؛ ولذا قال تعالى: (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) والعطف بـ " ثم " كان لتعدد الوقائع قبل هذا الخطاب الموجه للمشركين خاصة، والذين اختصوا بالخطاب فيه؛ لأنه لَا شركاء يزعمونهم آلهة مع الله إلا عند الذين أشركوا، فهناك أمور تقع يوم القيامة قبل هذا الخطاب وكان تقدير القول هكذا: يوم نحشر يكون الحساب، وتحضر كل نفس ما كسبت، ويكون لكل امرئٍ كتابه، ويحصى عمله من خير وشر، ثم نقول للذين أشركوا: (أَيْنَ شركاؤُكمُ الَّذِينَ كنتُمْ تَزْعُمُونَ) الشركاء هم
________
(1) (ويوم يحشرهم. . ثم يقول) بالياء فيهما [الأنعام (22)، وهي قراءة يعقوب، وقرأ بها عنه روح ورويس غاية الاختصار.(5/2468)
الآلهة التي زعموها آلهة مع الله تعالى، فإضافة الشركاء إليهم لأدنى ملابسة، أي لمجرد العلاقة النفسية والفكرية التي نحلتها عقولهم السقيمة في إدراكها لهم، وهل كانوا غائبين عنهم، حتى يبحث عن مكانهم، لعل ذلك يكون، ولعل حالهم من أنهم لَا قوة لهم، وليس لهم الشفاعة القربة، ولا النصرة القادرة، يعتبرون كأنهم شيء معدوم يسألون عنه، وما كان سلطانهم إلا بزعمهم الفاسد في الدنيا، وقد رأوا الحقائق عيانا، وكشفت الأمور لهم، فغاب عنهم سلطان تلك الالهة المزعومة.
* * *(5/2469)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
(ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
* * *
أصل معنى الفتنة، إدخال المعدن النار ليزول عنه الخبث الذي يعلق به، وأخص المعادن الذهب، ففتنته إدخاله في النار لتعلم جودته، ثم أطلقت على الاختبار والعذاب والبلاء، والمصيبة والكفر والإثم والألم والضلال.
وفى النص الكريم قراءتان: إحداهما - ضم تاء (فتنتُهم) (1)، والمراد من الفتنة الاختبار الشديد بهول ما رأوا، والمعنى على هذه القراءة وهي قراءة حفص: وكان من أثر الاختبار والهول الشديد الذي رأوه يوم الحشر والحساب، أن نسوا ما كانوا عليه من شرك، وقالوا مقسمين: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشرِكِينَ) أي أنهم أقسموا بالله غير صادقين في الحقيقة، ونادوا الله بـ (ربنا) معترفين بربوبيته وحده، ويكون ذلك من فرط الهول والشدة وعظمة ما رأوا من صدق الحقائق، حتى كذبوا أنفسهم.
والقراءة الثانية بفتح التاء وبالياء في يَكُنْ (2). ويعتبر اسم (يكن) هو (أن قالوا)، وقد رجح هذه القراءة ابن جرير الطبري، وقال في معناها: (ثم لم يكن
________
(1) قرأ (فِتْنَتُهُمْ) بالرفع - ابن كثير وابن عامر، وحفص والمفضل كلاهما عن عاصم، وقرأ الباقون بنصب التاء.
(2) (ثم لم يكن) بالياء - قراءة حمزة والكسائي، ويعقوب، وخلف، والمفضل عن عاصم، وقرأ الباقون بالتاء.(5/2469)
قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله إلا أن قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، فوضعت الفتنة موضع القول لمعرفة السامعين معنى الكلام.
وإنما الفتنة الاختبار والابتلاء، ولكن لما كان الجواب من القوم غير واقع هنالك إلا عند الاختبار وضعت الفتنة التي هي الاختبار موضع الخبر عن جوابهم واعتذارهم).
وخلاصة المعنى الذي يقرره ابن جرير أن الفتنة الاختبار، وأنها بهذا المعنى هي السبب للقول، والقول هو المسبب ويكون التخريج هكذا لم يكن القول المتسبب عن الفتنة إلا أن قالوا إنا كنا مشركين، فعبر عن المسبب بالسبب لبيان شدة الهول وما يترتب عليه.
* * *(5/2470)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
(انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
* * *
النظر هنا ليس هو نظر البصر، ولكنه نظر القلب والتأمل والتفكير والاعتبار، والنظر القلبي إنما هو إلى حالهم وما كانوا عليه من فزع واضطراب بسبب يوم القيامة الذي تزلزل فيه: (. . . وتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)، فهذا التصوير لحالهم بعد رؤيتهم هول يوم القيامة، إذ قالوا غير ما كان منهم كاذبين اعتذارا عما كان أو إنكارا، أو نسيانا للهول الذي هم فيه إذ ساروا سكارى لَا يعون، وهذا هو الذي نختاره فكذبهم بإخبارهم غير الواقع كان غفلة وذهولا؛ ولذا قال: (وَضَلَّ عَنْهُم مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) أي غاب عن ذاكرتهم فنسبوا ما كانوا يفترونه من قول فيشركون مع الله غيره في العبادة، فـ (ما) اسم موصول بمعنى (الذي)، وما أنساهم إلا الهول حتى أخبروا بغير ما وقع منهم، اللهم نجنا من كرب يوم القيامة وما فيه.
* * *
(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ(5/2470)
لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
* * *
الكلام موصول في المشركين الذين تقوم لديهم الدلائل القاطعة على وحدانية الله تعالى، وسلطانه تعالى عليهم في الدنيا، وإثبات رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمعجزة التي تحدى العرب فيها أن يأتوا بمثلها، وبيان ظلمهم، ثم بين سبحانه بعض حالهم يوم القيامة، وكيف يغيب عنهم ما كانوا يفترونه، وفي هذه الآيات يبين حالهم عند تلقى الدعوة المحمدية.(5/2471)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)
(وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْرًا).
الأَكتة جمع كنان، وهو الغطاء، والمعنى أنه لَا يصل الحق إلى قلوبهم لوجود ذلكَ الغطاء الحاجز المانع من أن يصل نوره إلى قلوبهم، بل إنه لَا يصل إلى مسمعهم، فقد جعل الله تعالى في آذانهم وقرا، والوَقر، بفتح الواو ثقل السمع، وهذا النص كناية عن كمال الإعراض، فهم لَا يصل إليهم القرآن،(5/2471)
وقد تفاهموا فيما بينهم على الإعراض (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَروا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ). وإذا وصل إلى سمعهم فهنالك غشاوة على قلوبهم تمنعهم من أن يشرق فيها نوره، وعلى ذلك لَا يكون لاستماعهم جدوى وفائدة، وهنا يسأل سائل، إذا كان منع الهداية من الله تعالى بالغشاوة على قلوبهم والختم عليها، وبالوقر في آذانهم فلا يسمعون سماع تبصر، وطلب للهداية فماذا يكون عليهم من تبعة يحاسبون عليها حسابا عسيرا بالعذاب الأليم؟ والجواب عن ذلك أن الله سبحانه وتعالى يسير الأمور وفق حكمته العليا، فمن يسلك سبيل الهداية يرشده، وينير طريقه، ويثيبه، ومن يقصد إلى الغواية، ويسير في طريقه تجيئه النذر تباعا إنذارا بعد إنذار، فإن أيقظت النذر ضميره وتكشفت العماية عن قلبه فقد اهتدى وآمن بعد كفر، ومن لم تجد فيه الشذر المتتابعة ولم توقظ له ضميرا، ولم تبصره من عمى، فقد وضع الله تعالى على قلبه غشاوة، وفى آذانه وقرا.
وقوله: (أَن يَفْقَهُوهُ) المصدر المكون من (أن) وما بعدها مضاف إلى مصدر محذوف يقدر على ما يناسب المقام من وضع غلاف يمنع النور، ووقر يمنع السمع، فيكون التقدير كراهة أن يفقهوه أو لمباعدة أن يفقهوه، ومعنى يفقهونه أن يدركوه إدراكا عميقا، ينفذون فيه إلى لبابه، وغاياته، فليس المراد مجرد الفهم والمعرفة، بل المعرفة النافذة التي تصل إلى اللب وتستولي على القلب.
وإن سبب ذلك كله هو الإعراض المطلق الذي سيطر على كبرائهم، وسبق الكفر إلى قلوبهم ومعارفهم، ومع هذا الإعراض، وبسببه يحكمون من غير أن يفقهوا فيقول ما حكاه الله عنهم.
(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا).
والكافر بالحق المعرض عن الأدلة يسبق كفره إيمانه، فالكفر سابق على التثبت والاستدلال، فهو متجه إلى الإنكار ابتداء؛ ولذلك وصف الله تعالى الذين(5/2472)
مردوا على الجحود والإنكار، وقال فيهم: (وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا) والآية الدليل المعجز على رسالة الرسول، فالآية كما يقول العلماء لعموم النفي، أي أنهم لا يؤمنون بأي رسالة يرونها مهما تكن قوتها ظاهرة، ومهما تكن دلالتها قاهرة؛ لأن العناد والجحود يقهر كل حجة ويمنع سلطانها على القلب؛ إذا ختم عليه، حتى لَا ينفذ النور إليه، فإذا كفروا بالقرآن فذلك شأن الذين طبع الله على قلوبهم، وجعل في آذانهم وقرا، وعلى قلوبهم أكنة، وعلى أبصارهم غشاوة؛ ولذلك قالوا في معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا جادلوا كما حكى الله تعالى عنهم: (حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَروا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)، ويلاحظ هنا أن الله تعالى يقول: (إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ) فيه إشارة إلى أنهم كانوا بعداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبل ثم جاءوه، ولم يكن مجيئهم إذعانا لحق، ولا طلبا لحقيقة، ولكن كان تحديا للرسول ومبالغة في الإنكار، واستهانة بالقرآن الحكيم وهو الآية الكبرى؛ ولذا قال الذين كفروا: إن هذا إلا أساطير، والأساطير جمع أسطارة أو أسطورة، والمعنى ما هذا إلا أخبار الأقدمين. وهنا إشارتان: أولاهما - أنهم ما جاءوا يطلبون الحق، ولكن جاءوا يجادلون، تقال للتسلية. ومنها ما يكون غير صادق، والجدل في أكثر أحواله تمويه، وليس طلب حق. والثانية - أن الذين كفروا يقولون ما هي إلا أساطير الأولين بسبب كفرهم فكفرهم سابق لرفضهم المعجزة.
* * *(5/2473)
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
(وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
* * *
إن المشركين لَا يكتفون بالإعراض عن الحجج الثابتة والبينات القاطعة، ولا يكتفون بالافتراء على الآيات تتلى عليهم، والاستهانة وقولهم إن هي إلا أساطير الأولين، لَا يكتفون بذلك، بل يتعدى شرهم إلى غيرهم فهم ينهون الناس عن اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - والقرآن الكريم هو آيات بينات، فهم لَا يهتدون، ويمنعون الهداية عن غيرهم ينهونهم، ويثيرون السخرية عليهم إن اتبعوا الهدى واستقاموا على(5/2473)
الطريقة المثلى، وينأون عن النبي، أي يبتعدون عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويتجافون مجلسه، فهم يقومون بأعمال ثلاثة كلها انحراف عن الصراط المستقيم واتباع للغواية: أولها - الإعراض عن آيات الله تعالى وتكذيب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وثانيها - أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق، فهم ضالون مضلون، والثالث - أنهم لكي يباعدوا بينهم وبين الحق، ولا يجعلون سبيلا لقلوبهم يجتهدون في ألا يلتقوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، فيتجافوا عن مجالسه لكيلا يكون منه منفذ للحق إلى قلوبهم، ففيهم غواية ولجاجة.
وفى هذا التفسير يكون الضمير في (عنه) في الحالين يرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به.
وبعض المفسرين التابعين لبعض التابعين جعل الضمير في ينهون في الحالين يعود إلى عشيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأعمامه وكانوا عشرة، فهم للعصبية التي كانت قائمة يذبون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وينهون المشركين عن أن ينالوه، وفي الوقت ينأون عن إجابته، ولعل أوضح مثل لذلك أبو طالب، فقد كان يمنع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذاهم، ويمتنع عن اتباعه مع أنه في قرارة نفسه كان يظنه على حق، ولقد روي عنه شعر في ذلك، فقد روى أنه قال:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسَّد في التراب دفيناء
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وأبشر بذاك وقرَّ منه عيونا
ودعوتنى وزعمت أنك ناصح ... ولقد صدقت وكنت ثَمَّ أمينا
وعرضت دينا لَا محالة إنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذاري سبة ... لوجدتني سمحا بذاك مبينا
وإن الأول هو المقبول المعقول؛ لأن القرآن لَا ينزل في حكم الآحاد إلا إذا كان يؤدي إلى عموم، والأول أظهر وهو عام فيؤخذ به.
وإنهم في إصرارهم وعنادهم ولجاجتهم في كفرهم ونهي الناس عن الاتباع،
بل فتنتهم - يسيرون في طريق الفساد والضلال ولا يهلكون أحدا إلا أنفسهم؛ لأن(5/2474)
الدعوة إلى الحق ماضية، فإن عوقها معوق فإلى حين؛ إذ الضالون لَا يشعرون أنهم يسيرون في طريق الهاوية، ولو شعروا بها لتجنبوا، وكذلك أهل الضلال دائما.
* * *(5/2475)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
* * *
ذكر الله تعالى حال المشركين في الدنيا في لجاجتهم في الكفر، بإعراضهم عن الآيات البينات، وجحودهم للنبوة، ونهيهم غيرهم عن اتباعه ومجافاتهم له، وكان لابد من المقابلة بين هذه الحالة المنحرفة المتجافية عن الهداية، وحالهم يوم القيامة إذ يعرضون على النار، ويقفون عليها، فذكر سبحانه مخاطبا النبي: إنك أيها النبي لو اطلعت عليهم ورأيت حالهم إذ وقفوا على النار واطلعوا عليها ورأوها تستقبلهم بلهيبها وسعيرها - لرأيت هولا عظيما يدفعهم لأن يتمنوا أن يعودوا إلى الدنيا ولا يكذبوا بآيات خالقهم ومنشئهم وكالئهم وحاميهم ويكونوا من المؤمنين، وفي الآية الكريمة إشارات بيانية، بذكرها نقرب ما في الآية من بلاغة رائعة:
الأولى - التعبير بـ (إذ) التي تدل على الماضي بدل (إذا) التي تدل على المستقبل، وذلك لتأكيد الوقوع، وليستبين المستقبل حاضرا قائما، ويتصور على أساس أنه موجود لَا على أنه سيوجد.
الثانية - أنه عبر بـ (على) بدل (فِي) للإشارة إلى أن مجرد الاطلاع عليها، والعلم بها بالعيان يلقى في النفس بهولها وشدتها، فما بالك بالوقوع فيها.
الثالثة - أن (لو) شرطية والجواب محذوف وتقديره - لو رأيتهم في هول وفزع وشدة فتمنوا أن يعودوا ويصلحوا.
الرابعة - أن التمني كان بالنداء لصيغته وهي (ليت) كأنه يقول: (يا ليت) أقبلي فهذا وقتك الذي نستغيث بك فيه؛ إذ لَا نملك إلا التمني فهو أداتنا الوحيدة، وإن كانت أداة العاجزين.(5/2475)
الخامسة - أن قوله تعالى: (وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فيه قراءتان - إحداهما - بنصب الباء والنون على أنها جواب التمني بإضمار محذوفه، والثانية - بضمها على تقدير محذوف (1)، وتقدير الكلام هكذا: ليتنا نرد ونحن لا نكذب، ونكون أول المؤمنين، ويكون فيها فضل توكيد بذكر وعدهم بعدم التكذيب، وبأن يكونوا من المؤمنين.
السادسة - توكيد إيمانهم بأنهم يخرجون من صف أهل الشرك والكفر إلى صف المؤمنين الصادقين.
* * *
________
(1) (ولا نكذبَ. . ونكونَ) بالنصب فيهما - قراءة حمزة ويعقوب وحفص.(5/2476)
بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
(بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
* * *
(بل) هنا للإضراب، والرد على ما يتمنونه، والغاية التي يريدونها، والمعنى أن أولئك لَا يتمنون الذي يتمنونه لأجل الهداية، بل ذلك لهول ما يرون والفزع لما يستقبلهم، ولأنه بدا لهم الأمر الذي كانوا يخفونه، ويصح أن يكون الإضراب هنا للانتقال من مقام تمنيهم إلى مقام آخر، وهو بيان أنهم لو عادوا في الدنيا وخلقت فيهم الشهوات والأهواء وعبثت بهم، واستولت عليهم لعادوا لما نهوا عنه.
وما الذي بدا لهم وكانوا يخفونه من قبل؟ اختلف المفسرون على آراء كلها محتملة، وهي تنتهي إلى رأيين:
أولهما - ما كانوا يخفونه في طوايا نفوسهم وأعمالهم في الدنيا قد بدا عيانا لهم، وأحسوا فيه بقبح ما فعلوا، فبدا لهم ما كانوا يخفون من مفاسد، وبدا أن كفرهم ليس لنقص في الاستدلال، ولكن لعناد، ولإعراض بدا لهم ما كانوا عليه من عنجهية جاهلية، وأنها جوفاء في الآخرة، وأنها التي دفعتهم إلى الكفر، وليس نقص الدليل، وبدا لهم أن إعراضهم عن الآيات لم يكن لنقصها، ولكن لنقص في نفوسهم وإذعانهم.(5/2476)
التأويل الثاني - أن الذي بدا لهم هو عذاب الآخرة، وهولها، وشدائدها، وقد كانوا ينكرونها، فظهر ما كانوا يجحدون، ولكن كيف يكون ذلك قد أخفوه، وهل الإنكار المعلن إخفاء؟ والجواب عن ذلك أن الفطرة الإنسانية توجب التصديق إذا قام الدليل، وأن المعاندة حيث قام الدليل إخفاء لما يقتضيه. وقد قال تعالى: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ. . .). فجحودهم كان إخفاء لموجبات الإيمان، وأن شهوة السلطان والعصبية، وغلبة الدنيا والفساد عليهم جعل الحق يختفي عليهم، ويخفونه هم بالمعاندة والمكابرة، والمماراة، فلما كانت الآخرة، وكانت القيامة بأهوالها بدا ما كان مختفيا، وأخفت الأهواء والمعابث، وظهرت الحقائق وأحسب أن المعنيين مستقيمان، ولا مانع من جمعهما، فالنص يعمهما.
ولقد ادعوا في تمنياتهم أنهم يعودون ليكونوا في ضمن المؤمنين، ولا يكذبوا بآيات ربهم الذي خلقهم وكونهم وحماهم، فبين سبحانه أنهم لو ردوا إلى الدنيا بزخارفها وعصبياتها، وأهوائهم وشهواتهم، وحب الغلب لعادوا لما نهوا عنه من الإعراض عن الآيات، والمكابرات في المعجزات، والاستهانة بالإيمان والمؤمنين، ووقعوا في كل المخابث التي كانت منهم، وذلك لأن السبب في الجحود هو سيطرة الهوى والشهوة والعصبية الجاهلية، فإن عادوا إلى الدنيا بمتعها البراقة فسيستولي عليهم بريقها، ويكون منهم ما كان أولا.
ولقد أكد الله سبحانه كذبهم في أمنياتهم ونتائج تمنياتهم فقال: (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) والكذب هنا خاص بما يمكن أن يقع منهم، وما أرادوا في تمنيهم الأماني، فتمنياتهم كاذبة لَا يمكن أن تحقق، ولو عادوا لكان منهم ما وقع أولا؛ إذ إنهم يعودون بما كانوا يحملون من ركائز في نفوسهم، فالتكذيب لما يكون منهم في المستقبل، وقد أكد سبحانه تكذيبهم بـ " أن " وبالجملة الاسمية، وباللام المؤكدة.
* * *(5/2477)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
(وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
* * *
الحياة التي تسمى حياة في نظرهم ولا شيء سواها حياة الدنيا، هذه الجملة تفيد ثلاث فوائد:
أولها - نفي وجود أي حياة غير الحياة التي يعيشونها، ولو كانت هذه الحياة هي الدنيا وليست العالية القويمة.
الثانية - أنهم ينسبون الحياة إليهم لاستمتاعهم فيها وما فيها من لهو ينغمسون فيه، وعبث يعبثونه.
الثالثة - إنكارهم صراحة لبعثهم وتأكيد النفي بالباء، وبالجملة الاسمية.
لقد قالوا ذلك القول في الدنيا بلا ريب، ولكن كلمة (قالوا) في هذا النص " أهي معطوفة على كلمة (لعادوا)، وقولهم هذا يكون على فرض عودتهم، وهذا هو الظاهر، ويكون قوله تعالى: (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) جملة اعتراضية مؤكدة لمعنى عودتهم إلى ما كانوا عليه إن عادوا إلى الدنيا، إذ هي تكذيب ادعاء أنهم لا يكذبون بآيات ربنا، ويكونون من المؤمنين.
ويصح أن تكون (وقالوا) كلام سيق مستأنفا للمقابلة بين حالهم التي يرونها في الآخرة، إذ يرون الهول عيانا، وقد ينكرون البعث، ويؤكدون الإنكار له، وها هم أولاء يرونه، ويتمنون ما يتمنون.
* * *(5/2478)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
(وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
* * *
ولو ترى إذ وقفوا على النار كانت في بيان ما يستقبلهم من عذاب مادي رهيب يقرع إحساسهم قرعا شديدا مزعجا، وفي هذا الموضع، (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ) هي بيان عقاب معنوي توبيخي، وبيان كذبهم في الدنيا ومحرهم بآيات ربهم، ولو ترى يا محمد أو لو ترى يا قارئ القرآن إذ وقفوا أي حبسوا مطلعين على تجلي ربهم، ومملطانه وكمال عزته البارزة لهم التي حاولوا إخفاءها في(5/2478)
أنفسهم في الدنيا، وإن لم تكن خفية في ذاتها، لقد تجلى عليهِم ربهم بسؤال المستنكر لحالهم في الدنيا، وبحجتهم في قولهم: (وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِين) (أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ) أي هذا البعث الذي تعاينونه وتشهدون أهواله ثابتا بالحق، فقوله (بالحق) متعلق بمحذوف، أو نقول إن (الباء) زائدة، ويكون المعنى أليس هذا البعث هو الحق الذي لَا ريب فيه، وتكون (الباء) لتأكيد معنى الإنكار الذي هو بمعنى النفي، وقد دخل على نفي، ونفي النفي إثبات، ولقد كانت إجابتهم مصدقين، لأن الواقع يحملهم على التصديق والإذعان لما يدعو إليه رب العالمين بقولهم كما حكى ربهم، (بلى) وبلى لنفي ما يكون بعد الاستفهام، أي لنفي (أليس هذا بالحق)، نفي ما تضمنته ليس النافية هو تصديق أنه الحق، وإذا كان ذلك ثابتا بحكم قولهم وعيانهم، فلا بد أن يتجلى الله تعالى عليه بذكر ما يستحقون، فقال تعالت كلمات: (فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) أي فانغمسوا في العذاب ذائقين لآلامه محسين بها، فالذوق هنا كناية عن الإحساس الشديد بعد الانغماس فيه، والأمر هنا أمر تكويني يحكي الواقع الحق، وقد يكون مع ذلك أمر قولي لَا اختيار لهم فيه، بل إنه مجاب بالاضطرار، و (الباء) هنا للسببية أي بسبب كفرهم بالبعث، وإنكارهم له، و (الفاء) في قوله: (فذوقوا) فاء الإفصاح، أي إذا كنتم تفترون أنه الحق فذوقوا عذابه بما أنكرتم. اللهم هبنا الإيمان بالغيب وامنحنا اليقين.
* * *
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ(5/2479)
وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
* * *
الكلام موصول في الكفر باليوم الآخر وأثره النفسي والاعتقادي، وما يترتب على الكفر باليوم الآخر جحود النبوات، ولقد ابتدأ سبحانه بما يتصل بما قبله، فقال تعالى:(5/2480)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا) بين الله سبحانه وتعالى في هذا النص أن الذين يكذبون باليوم الآخر تصيبهم خسارة، وخسرانهم أولا لأنهم يفقدون العزاء الروحي الذي يصيب كل إنسان مما يعاني في الحياة، فلو كانت الحياة الدنيا لَا حياة بعدها يكون الشقاء النفسي المقيم لكل من يصيبه ألم فيها، أو يقع في نفسه أنه في شقاء لأنها فيها السعادة في زعمه، ولأنه بفقد معاني الإنسانية، إذ يكون كالحيوان الذي يأكل ليعيش، ويعيش ليأكل فيفقد كل المعنويات العالية، ولأنه ثالثا، يرتع في الشهوات الموبقة، ولأنه رابعا يكون في تناحر مستمر، إذ لَا يخشى الله ولا يرهب عقابه، وأخيرا يخسر بتلقي العذاب الذي يقع عليه يوم تقوم القيامة، وعبر عن قيام القيامة واليوم الآخر بلقاء الله تعالى تشريفا لذلك اليوم، ولأنه له الولاية الحق في ذلك، فلا ولاية ولو ظاهرية لغيره ولا ملك لغيره ولو كان ظاهريا، وفيه ترغيب في الإيمان باللقاء، وترهيب من تكذيبه، وإنهم إذ يكذبون يستمرون في ضلالهم حتى تجيئهم الساعة بغتة أو فجأة من غير أن يكونوا على أهبة لها، وهنا يرد للنظر أمور.(5/2480)
أولها - ما معنى (حتى تأتيهم الساعة)، أي ما مقام (حتي) أهي للغاية أم للتفريع؛ وإذا كان للغاية فمن أين الابتداء؛ يقول الزمخشري: إنها متعلقة بـ (يكذبون) أي أنهم يستمرون في تكذيبهم وغلوائهم حتى تجيء إليهم الساعة وهم في غيهم يعمهون.
ثانيها - ما المراد بالساعة؟ واضح أنها القيامة فذلك تعبير قرآني عنها، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. . .).
وسميت القيامة ساعة؛ لأنها تحمل أشد الأهوال، ولأنها فاصلة بين نوعين من الحياة، حياة فانية وأخرى باقية، حياة عمل، وحياة جزاء.
الثالثة - الساعة تجيء من غير علم بوقتها للجميع فكيف تكون بغتة للذين كذبوا بلقاء الله دون غيرهم؟ والجواب عن ذلك أن الذين آمنوا بلقاء الله تعالى يتوقعونها، وإن لم يعلموا وقتها، أما الذين كذبوا فهم يكفرون بها فيفاجأون بها، وإن الذين آمنوا يرجون لقاء ربهم، ويرجون رحمته، وأما الذين كفروا بلقاء الله تعالى فلا رجاء عندهم.
أولئك الذين تجيئهم القيامة ولقاء ربهم بغتة ويرون العذاب، تصيبهم حسرة، أي غم شديد، وقد قال الأصفهاني في تفسير الحسرة ما نصه: (الحسرة الغم على ما قاله والندم عليه كأنه انحسر عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه، وانحسرت قواه إذا انحسرت قواه من فرط غم أو أدركه إعياء عن تدارك ما فرط منه).
والتفريط هو الإهمال وعدم العناية والغفلة عما يجب للأمر.
والضمير في قوله تعالى (فِيهَا) يعود إلى الحياة عند بعض العلماء ولكن ليس لها مذكور سابق إلا أن يكون ما ذكروه من قبل، وقولهم: (. . . إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)، والحق في نظري أنه يعود إلى(5/2481)
الساعة وتفريطهم فيها هو عدم التفاتهم لها، وغفلتهم عن ذكرها، فكانوا يعملون مخير مرتقبين لها، بل غافلين عنها.
ونادوا الحسرة مضافة إليهم قائلين (يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا)؛ لبيان أنهم في حال غم وحزن، وينادون حسرتهم التي تلازمهم كأن هذا وقتها ولا وقت ألزم وأنسب لها من هذا الوقت.
(وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ).
الوزر الحمل الثقيل، وسمي به الإثم والذنب؛ لأنه أثقل الأحمال النفسية التي تنوء به القوة، والجملة استعارة تمثيلية لما يثقلون به يوم القيامة من أثقال الآثام، فقد شبهت حال من يحمل الآثام الثقال الكثيرة بحال من يحمل الأحمال الثقال على ظهره وينوء بها؛ لأن كليهما ثقيل، الآثام لوباءتها وعذابها، وقد رشح سبحانه للمشبه به في قوله تعالى: (أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) فإن هذا بيان لسوء ما يحملون، وقد ابتدأ بـ (أَلا) الدالة على التنبيه، ثم التعجب من شدة ما يحملون، وساء وأساء: تستعمل للتعجب، فمعنى (سَاءَ مَا يَزِرُونَ) ما أسوأ ما يزرون وما يحملون لسوء عاقبته، وما وراءه من عذاب.
* * *(5/2482)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
* * *
في هذا النص تكون المقابلة بين الحياة الدنيا والآخرة، أو الحياة العاجلة والحياة الآجلة، أو بالأحرى بين من يطلب الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما وراءها من حياة أخرى، ومن يطلب الحياة الآخرة، وأيهما أمثل، ولذلك كان حصر الحياة الدنيا في أنها لهو ولعب، فإن هناك حصرا بالنفي والإثبات، فهي مقصورة على اللهو واللعب، وذلك لمن يطلبها من غير نظر إلى ما وراءها من حياة أخرى، فإنه حينئذٍ لَا ينظر إلا إلى لذائذها وشهواتها، ولا تكون حينئذ إلا لهوا ولعبا، واللهو واللعب هما الاشتغال بما لَا يجدي في ذاته، ولكن قد يختلفون في حقيقتهما مع قربهما في المعنى، فاللعب العمل الذي لَا مقصد منه إلا تزجية الفراغ وقضاء الوقت، وقد يكون عبثا، واللهو طلب ما يُلهي عن الجد من الأمور من ملاذ(5/2482)
وأهواء وشهوات، والفرق بينهما غير محدود، بل هما متقاربان يستعمل أحدهما في موضع الآخر، ومهما يكن فإن الاشتغال بكل واحد منهما لغير غاية مجدية مذمة لَا تجوز من عاقل، وإذا قصد بأحدها الاسترواح حتى يقوى على الجد من غير سأم ولا إملال فربما لَا يكون قبيحا.
وإن قصر الحياة على اللهو واللعب إنما هو لمن أهمل ما وراءها، أما من عنى بما وراءها وقام بالجد من الأمور، فإنها الطريق إلى الآخرة، وهي طريق الذين يتقون.
وكانت المقابلة للدلالة على موضوع القصر، فإن الذين يتقون هم من الذين يعيشون في الدنيا، ولكن لم تكن لهم كل شيء، بل ما نظروا إليها إلا ليطلبوا الآخرة بها والله على كل شيء قدير.
وقوله: (وَلَلدَّار الآخِرَةُ خَيْرٌ للَّذِينَ يَتَّقُونَ).
في هذه مقابلة بين الذين يطلبون الدنيا لذاتها، والذين يطلبون بها الآخرة؛ إذ الأولون تكون عندهم لعبا ولهوا، والآخرون تكون عندهم جدا، يطلبون ما في الدنيا لغاية وراءها، ولا يطلبونها لذاتها، وهذه المقابلة فهمت بالصراحة في الكلام بشأن الأولى، وهو الخسران، وفهمت بذات القابلة في الثانية، وهناك مقابلة أخرى، وهو أن عاقبة الآخرين خير، وهذه فهمت بصراحة في الثانية، وبالمقابلة ذاتها في الأولى وهو الخسران أيضا، وقد أكد الله تعالى الخيرية لأهل التقوى فأكد باللام المؤكدة، ثم خاطب الله تعالى الناس فقال تعالت كلماته: (أَفَلا تَعْقِلُونَ) الاستفهام هنا للحث على التفكر والتدبر، والمقابلة بين اللذات العاجلة السريعة الفانية، واللذات الآجلة الدائمة الباقية.
* * *(5/2483)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
* * *(5/2483)
(قَدْ) هنا للتحقيق وتأكيد العلم، وقد حاول بعض العلماء أن يجعلها للتكثير، ولكن التحقيق جاء من موضوعها لَا من ذاتها، وإني أقول إني لَا أعلم أنها جاءت في القرآن داخلة على المضارع إلا بمعنى التأكيد، وكتاب الله تعالى فوق ما يقرره علماء النحو واللغة.
وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يحزنه أن القوم لَا يؤمنون، ويفترون الكذب عليه، ولقد نهاه الله تعالى عن أن يلج الحزن في نفسه لعدم إيمانهم، فقال تعالى: (. . . فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ. . .)، وقال تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمنِينَ). ولقد كان يحزن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفرهم، وما يقولون في هذا الكفر من رميهم له بالكذب والافتراء، وأنه ساحر، وأنه مجنون، وأن كتاب الله تعالى أساطير الأولين، ولقد ذكر الله تعالى أنهم لَا يكذبون النبي - صلى الله عليه وسلم -، و (الفاء) هنا تكشف عن محذوف يفيد السببية، تقديره مثلا فلا تحزن لأنهم لا يكذبونك، (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ)، والجحود نفي ما في القلب ثبوته، وإثبات ما في القلب نفيه أي عدم الإذعان للحق، وقد قامت أدلته، وكثير من العرب كانوا يعتقدون صدق محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولكنهم يمارون في الحق، ولا يذعنون، ويجادلون في آياته، وقد روي أن طاغوت الشرك أبا جهل عوتب في أنه صافح النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة فقيل له في ذلك فقال: إني لأعلم أنه النبي، ولكن متى كنا لبني مناف تبعا؟!
وهذا على أساس أن الجحود في الآية منصبّ على نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ يعرفون صدقه، ولكن لَا يذعنون له، فيكونون جاحدين، وهناك تخريج بياني آخر، وهو أن الجحود منصب على آيات الله تعالى وليس تكذيبا، فهو تعزية للنبي - صلى الله عليه وسلم - من جهة أنهم لَا يكذبونه، ولكن يقرّون في ذات أنفسهم، ولكن يجحدون بشهادة ربهم على صدقه، فهم أشد وبالا.
وهنا إظهار في مقام إضمار إذ إنه سبحانه وتعا أف قال: (وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) ولم يقل (ولكنهم) وذلك لبيان سبب الجحود وهو الظلم(5/2484)
المستقر في نفوسهم، وفيه فوق ذلك تسجيل الظلم عليهم، وهم بذلك مستحقون للعقاب.
* * *(5/2485)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
(وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ... (34)
* * *
هذا تنبيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحث على الصبر، والانتظار لما وعد من النصر المؤزر، فالله سبحانه وتعالى يبين أنه ليس أول المكذبين، بل سبق إلى ذلك الرسل الصادقون الداعون، ولقد أكد الله سبحانه وتعالى الخبرب (اللام) وبـ (قد) لتأكيد التسلية، ولتأكيد طلب الصبر، وتأكيد الوعد بالنصر، ولم يكن التكذيب للرسل سببا للحزن، بل كان طريقه شحذ العزيمة بالصبر، وبتحمل الأذى، وبترقب النصر، والعمل عليه، فمع العزيمة المعززة بالصبر النصر، وليس مع اليأس قوة، فالصبر كان نتيجة التكذيب؛ ولذا كان العطف بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب، وقوله (كُذِّبُوا وَأُوذُوا) للبناء للمجهول وهو مع (ما) يكون المصدر المؤوَّل منهما - فما للموصول الحرفي أي المصدرية، والمراد الصبر على تكذيبهم وإيذائهم، ودل على أن موضع الصبر هو تكذيبهم وإيذاؤهم، وكانوا صابرين حتى أتاهم نصر الله تعالى وأنه مع الصبر الأجر، ولقد قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214).
فالنصر إن شاء الله آت لَا محالة، وهو العزيز الحكيم القادر العليم.
(وَلا مبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَأِ الْمُرْسَلِينَ).
كلمات الله تعالى هي كلمات النصر الذي وعد الله تعالى به نبيه - صلى الله عليه وسلم - ووعد به المرسلين، من قبله، مثل قوله تعالى: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173). وقوله تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21).
ومعنى تبديل كلمات الله تعالى أن يتخلف وعد الله، فلا يكون النصر المبين ما دامت الأسباب بأمر الله وتوفيقه مهيأة، وإنه وعد الله تعالى من كلمات الله(5/2485)
لا تبديل فيها ولا تغيير ما دام الإيمان يملأ القلوب، والصبر يؤيد النفوس ويأخذون بالأسباب، فإن تغيرت النفوس فليس ثمة موضوع لوعد الله تعالى: (. . . إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11).
وفسر بعض العلماء كلمات الله تعالى بما هو أعم من النصر، وهو شرائعه، وآياته وتوحده، وصفاته، ونصره أي أنه إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفق على رسالته أن يعروها تغيير بسبب تكذيبهم وإيذائهم فلا مبدل لكلمات الله تعالى، ونحن لهذا نميل.
ولقد أكد سبحانه العظة والتسلية في أنباء المرسلين، فقال تعالت كلماته:
(وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن ئبَأِ الْمُرْسَلِينَ) ولقد جاءك فيما قص عليك من قصص النبيين وأخبارهم وأنبائهم ما فيه العظة الكاملة، وفيه المثُلات لأقوامهم والنصر لهم، وكما قال سبحانه: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ. . .).
* * *(5/2486)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)
(وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ... (35)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة من أول السورة. أنهم متعنتون طلبوا أن يكون مع الرسول ملك، وبين الله سبحانه في ذلك أنهم معرضون عن الآيات، وأن الكفر قد سبق إلى قلوبهم، فانسدت عليهم كل مسالك الإيمان، فلا يشرق فيهم نور اليقين، ولو نزل عليهم قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين، وإن يروا كل آية لَا يؤمنوا بها، وأنهم معرضون عن الحق، وإن الآية التي نزلت عليك كافية لإيمانهم إن أرادوا إرشادا، وابتغوه، ولم يبتغوا غيره.
وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حريصا على إيمانهم، وكان يكبر عليه إعراضهم عن الدعوة الحق التي يدعو إليها، والحجة الدامغة التي يثبت بها صحة دعوته، وكأنه(5/2486)
يود إيمانهم حتى ولو كان يتحقق بآيات أخرى، فالله سبحانه وتعالى يبين له أنه لا جدوى في آية جديدة؛ لأنهم سيعرضون عنها لَا محالة، ويكون المعنى: إن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أي مسلكا عميقا في جوفها، أو سلما أي مرقاة ترتقي بها إلى السماء لتأتيهم بآية فلن يجدي ذلك؛ لأنهم لَا يريدون حجة لنقص الحجة التي بين أيديهم، ولكن يريدون العنت ولو جاءتهم آية ما آمنوا، فالنص الكريم لبيان أنه لَا سبيل لإيمانهم إلا أن يجمعهم الله على الإيمان، ويقذف بالحكمة في قلوبهم، والله تعالى لم يكتب ذلك، إنك لَا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء.
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَ مِنَ الْجَاهِلِينَ).
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حريصا على أن يؤمن كل الذين يدعوهم إلى دعوته، ويظن أن الحجة وحدها كافية لاستجابتهم، فبين سبحانه وتعالى أن حكمته اقتضت أن يكون في الوجود أشرار وأخيار من الناس، حتى يبتلى الأخيار بالأشرار، وأن سنته في خلقه اقتضت أن يكون في الخلق إبليس يوسوس في صدور الناس ويكون الكفاح بينهم، وأن يبلوهم بالشر والخير فتنة. ولو شاء سبحانه أن يكونوا جميعا مهديين لجمعهم على الهدى والتقوى، ولكنه لم يشأ، كما قال تعالى في آية أخرى: (وَلَوْ شَاءَ ربُّكَ لآمنَ من فِي الأَرْضِ كُلهُمْ جَمِيعا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حتَى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
وما دامت إرادة الله تعالى لَا بد أن يكون في عباده أخيار يصدقون ويؤمنون، ومعرضون جاحدون، فادع إلى سبيل الله وانتظر أن يكون المناوئ والمجيب، ولا تكونن من الجاهلين بحكمة الله تعالى، وليس الجهل بأمر شرعي حتى لَا يكون محلا للنهي، إنما هو تنبيه إلى أمر تكويني، كان التنبيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤكدا، وهو تنبيه لغيره بالأولى.
الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله.
* * *(5/2487)
(إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
* * *
الكلام في شأن المشركين وعرض الآيات عليهم، وطلبهم آيات أخرى، وهم معرضون عن كل الآيات بقلوبهم لأنها في أكنة، ولا يسمعون الحق لأن آذانهم فيها وقر لانصرافها، وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك وذكر وجوب اليأس من المشركين الذين يعرضون عن آيات الله مدعين أن ما سيق لهم لَا يكفي لإقناعهم، فقال تعالى:(5/2488)
إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
(إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ).
الاستجابة هنا هي الإجابة بعد التفكر والإمعان وتقدير الأمر، فهي إجابة محكمة دقيقة، وهذا ما تدل عليه (السين)، فهي إجابة بعد استقراء الدليل على(5/2488)
وجوبها، وقد حصر سبحانه وتعالى الاستجابة بأنها لَا تكون إلا للذين يسمعون ولا يعرضون، وينفذون إلى لباب ما يستمعون إليه، ولا ينأون عنه، وفي الكلام تشبيه الذين يعرضون عن الدين ولا يستمعون سماع وعي وإدراك وتفهم بحال الصم الذين لَا يسمعون؛ لأن السمع لَا قيمة له إذا لم يصل بصاحبه إلى التفهم والهداية.
وقد قال تعالى من بعد (وَالْمَوْتَى يَيْعَثُهُمُ اللَّهُ)، وقيل: إن الموتى هم موتى الأحياء الذين لَا يدركون الحق، ومعنى بعثهم إيمانهم وهدايتهم، أي أن الله تعالى قادر على هداية موتى التفكير الذين لَا يستجيبون، وقيل المراد بالموتى الكفرة الأموات، ومعنى البعث ليس الإيمان، إنما المراد أنه سبحانه وتعالى سيبعثهم ثم يحاسبهم على كفرهم، والرأي عندي أن تكون كلمة الموتى على حقيقتها والبعث على حقيقته، ويكون نسق النص الكريم هكذا: إنما يستجيب للحق ويذعن له الذين لَا يعرضون عن الآيات، ثم بين بعد ذلك حال الذين لَا يجيبون بإثبات قدرة الله بأن الله تعالى سيبعثهم مع الموتى، ثم يكون الحساب والعقاب ويرون ما لم يؤمنوا به، ويستمعون إلى ما أعرضوا عنه وكفروا، ولذا قال سبحانه من بعد ذلك: (ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) أي ثم إليه وحده يعودون راجعين ليجازيهم المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ولا يستوي المحسن والمسيء.
* * *(5/2489)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
(وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
* * *
فقد دأبوا على الإنكار، لأنهم دأبوا على الإعراض (وَمَا تَأْتيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) أالأنعام، (. . . وَإِن يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا. . .)، ولكنهم مع ذلك الإعراض يدعون أن إنكارهم لنقص الدليل، وليس للعنت ومجرد الجحود. ولقد كرروا القول في ذلك، وما أرادوا معجزة مطلقة بل معجزة حسية تلفت أنظارهم وقد ذكر القرآن الكريم بعض ما طلبوا، فقال تعالى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)(5/2489)
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93).
قالوا بصيغة الطلب الذي يشبه التمني والتحريض فعبر بـ (لولا) الدالة على التحريض والتمني، وكأنهم يتمنون الإيمان بتمني الآية وهم في ذلك منحرفون عن الغاية، وقالوا لولا أنزل عليه، أي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وذلك التنزيل آت من قبل ربه وعبروا بالمجهول وبربه وهما يفيدان أن الطلب ليس منه، ولكنه من ربه، فإذا كان رسولا من عنده، فليجب ذلك الطلب الذي نتمناه، ونكون من بعده مؤمنين. وقد رد الله سبحانه وتعالى بأمرين:
أولهما - أنه سبحانه قادر عليه فهو المالك للسماوات والأرض ومن فيها، وهو القادر على أن ينزل عليهم تلك الآية، فلن يعجزه شيء في الأرض، ولكن الآيات التي تكون مع النبيين لإثبات رسالتهم تكون على مقتضى حكمته، وتكون مناسبة لشريعتهم فتكون خالدة بخلودها.
الأمر الثاني - الذي أجابهم سبحانه وتعالى هو أن أكثرهم لَا يعلمون، وهذا يفيد أنه سبحانه وتعالى مع قدرته على ما يطلبون لن يجيبهم، لأنهم لَا يعلمون أنهم لَا يؤمنون، ولو جاءهم بالآيات؛ لأنهم سبقوا إلى الإنكار والجحود. فيكفرون بهذه الآية كما كفروا بالقرآن، ولأن القرآن حجة في ذاته وهو أقوى حجة تناسب شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأن الآيات المادية وقائع حسية تنتهي بانتهاء زمنها، ولا يعرفها إلا الذين يرونها، أما القرآن فهو باق خالد معجز في كل الأعصار والدهور فناسب شريعة خالدة باقية إلى يوم القيامة.
* * *(5/2490)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
(وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ... (38)
* * *
ذكر في الآية السابقة بيان قدرة الله تعالى على أن ينزل أي آية يريدونها، ولكنه لَا ينزلها، لأنهم لَا يعلمون ولا يفهمون ما يناسبهم، والله تعالى لَا يسير(5/2490)
وراء أهوائهم، وفي هذه يؤكد قدرته وعلمه، وسعة إحاطته بالأحياء جميعًا، وقد قال الزمخشري في ذلك: (الغرض من ذكر ذلك سعة الدلالة على عظم قدرته ولطف علمه، وسعة سلطانه وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لما لها وما عليها مهيمن على أحوالها لَا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان).
ومؤدى هذا الكلام إثبات أن علم الله تعالى الواسع كان من مقتضاه ألا يجيب ما طلبوا؛ لأنهم لَا يعلمون المآل، وهو يعلمه، كما يعلم كل حيوان من دابة تدب، وطائر يطير، ويعرف ما يحتاج إليه وما لَا يحتاجه، لقد بين الله سبحانه وتعالى عظم خلق الحيوان، وأنها جماعات وطوائف مخصوصة، كل طائفة تكون جنسا قائما، وقد فسرها الأصفهاني بقوله قوله تعالى: (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِير بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) أي كل نوع منها على طريقة قد سخرها الله عليها بالطبع، فهي من ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالشرنقة، ومدخرة كالنمل، ومعتمد على قوت وقته كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك من الطبائع التي يخصص بها كل نوع. والنص فيه تعميم للأنواع كلها لأن اجتماع (ما)، و (من) يدل على الاستغراق للجماعات والآحاد معًا، فهي في علم الله تعالى جماعات وأجناس وطبائع مختلفة مثلكم - وقوله تعالى: (وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) لإفادة التعميم في أن علمه تعالى يشمل الطائر في الجو، كما يشمل الدابة التي تدب في الأرض، والطائر الذي يطير، فذكر الذي يطير بجناحيه يدل على علم الله تعالى على ما في الأرض من دواب تدب، وأسماك ولآلئ تسبح، وما في الجو من طيور تطير، وكل هذه أجناس ذات طبائع مختلفة، وذكر الجناحين في الطير لتوجيه الأنظار إلى الإبداع في الصنع مع جمال التكوين والقدرة.
وفى ذلك بيان لقدرة الله تعالى، وبيان لأن الإنسان لَا يصح أن يعلو ويستكبر فأمثاله من الأحياء عدد كثير، وليس عددًا قليلا.(5/2491)
(مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ).
ما تركنا شيئًا لم يحص في الكتاب أي في المكتوب المسجل بعلم الله وهو اللوح المحفوظ، فالكتاب هو اللوح المحفوظ، وقد ذكر ذلك صراحة في آية أخرى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6).
أي مفصح ذاكر لأسمائها وأعدادها وأنواعها. وهذا أوضح تفسير لمعنى (مَّا فَرَّطْنَا فِى الْكِتَابِ مِن شيءٍ) وقال بعض المفسرين: الكتاب هو القرآن ومعنى التفريط أنه لم يغادر شيئا من الأحكام إلا بينه. وأسرف آخرون فقالوا: إن القرآن ما ترك علم شيء قط من الشرائع أو غيرها من الأشياء والأحياء.
والأبين هو ما ذكرناه أولا - لأنه المتفق مع النصوص الأخرى، وثانيًا لأنه المناسب لذكر الأحياء. ولقد ذكر الله تعالى من بعد ذلك أن كل الأحياء يحشرون إلى ربهم، فقال تعالت كلماته: (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) أي يجمعون إلى ربهم الذي خلقهم من عدم، والتعبير بـ " ثم " للإشارة إلى أنهم أعداد لَا تحصى في علمنا، وجمعهم ليس يسيرًا في ذاته، وإن كان بالنسبة لله تعالى أمرًا ميسرًا، وفيه أيضًا بيان لبعد الموت عن البعث والقيامة، وإشارة لاستغراقهم جميعا.
* * *(5/2492)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
* * *
هذا النص السامي يبين أن الذين لم يسارعوا إلى الحق استجابة لعناصر الانحراف والجحود في نفوسهم، واتباعًا للهوى لَا يهتدون؛ لأنهم سدوا على أنفسهم مسارب النور إلى الحق، وقد شبه سبحانه وتعالى حالهم بحال الصم والبكم الذين يسيرون في الظلمات، فإنهم لَا يبصرون طريقًا للهداية يسيرون فيه؛ إذ إنهم في ظلمات حالكة متكاثفة فلا يبصرون، ولو كان بصرهم سليما، فهؤلاء لا يجذبهم دليل ولا يهديهم برهان، ولا يمكن أن يستجيبوا لمن يهديهم، لأنهم بكم لَا ينطقون، ولا يمكنهم أن يستجيبوا لداعي الهداية، لأنهم لَا يسمعون إذ هم(5/2492)
صم وبكم، فالكلام فيه استعارة تمثيلية إذ شبهت حال الجاحدين الذين يعرضون عن كل آية بحال الصم البكم الذين يعيشون في الظلام من حيث لَا نور يهديهم، ولا سبيل لأن يهتدوا.
وقد بين سبحانه وتعالى أن ذلك بعلم الله تعالى وإرادته، وأنه لَا تخرج حركة عن حركة إلا بإذنه فهدايته المهتدين بمشيئته، وضلال الضالين بمشيئته، فلا يخرج شيء في الوجود من غير مشيئته، ومعنى (مَن يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ) أي مَن يَشَأ الله تعالى له أن يكون في ضلال يضلله بأن يجعله يسير في طريق غوايته، فيعرض عن الآيات ويصاب بستار يحول بينه وبين الحق من ذات نفسه لَا من أمر خارج عنه، بل باختياره الغواية فيتركه الله يسير في طريقه الذي رسمه لنفسه، ومن يشأ الله تعالى له الهداية يسير في طريق مستقيم يوصله إلى الحق والهداية.
وهنا أمر نشير إليه، هو أن الهداية والضلال ليسا إجباريين لَا اختيار للعبد فيهما، كما يقول الجهمية ومن يسيرون في طريقهم، وليسا للعبد من كل الوجوه، كما يقول المعتزلة، ومن يسيرون في فجهم، وإنما الأمر أن للعبد اختيارًا في الطريق الذي يسيره، والله تعالى يوفقه فيه، فإن كان خيرًا خطا فيه إلى الغاية، وإن كان شرَا سار حتى الهاوية.
* * *(5/2493)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
* * *
(أَرَأَيتَكُمْ) استعمال قرآني أراد العلماء أن يخرجوه على مقتضى قواعدهم النحوية، من حيث الإعراب، وكيف يكون وضع الحروف، وكلمة أرأيت في القرآن والاستعمال العربي تستعمل للتنبيه والتحريض على الرؤية والنظر، فهو استفهام للتنبيه مؤداه أرأيت كذا فإن لم تكن رأيته فانظره، فهو تنبيه، وحث على الإمعان فيه والتأمل، وقوله تعالى: (أَرَأَيْتَكُمْ) فيه جمع بين خطابين أحدهما مفرد، وظاهره أنه خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو التاء، وهو فاعل الرؤية أو على حد قول النحويين التاء فاعل، والثاني - خطابهم بالكاف، والظاهر الذي يبدو بادي(5/2493)
الرأي أن الخطاب لهم بالقصد؛ ولذلك جاء بعده (إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ)، وكان خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لتنبيهه - صلى الله عليه وسلم - إلى خطابهم وإجابتهم، ويكون المؤدى بيان ضعفهم أمام الحوادث، والمسلمات وصغارهم واستغاثتهم بالله وحده، وأنهم لَا يدعون سواه، وتنبيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك.
هذا ما يبدو لنا من معنى هذا الاستفهام البليغ الذي هو من آيات الإعجاز، ولا حاجة فيه إلى أن نقول: إن الكاف حرف أو اسم، ولا أن نقول الخطاب بأيهما أبالتاء وحدها أم بالكاف وحدها. والحق أنه بهما معًا فالتاء للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والكاف للمشركين، وفي التاء تنبيه إلى ما يكون منهم من إجابة.
والخطاب موجه إليهم للإجابة عن سؤال معين إن أتاكم عذاب الله الدنيوي من زلزال مدمر أو خسف يجعل عالي الأرض سافلها، أو عاصف شديد، أو فاجأتكم الساعة أي القيامة (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ) أي أتدعون غير الله من أحجار تجتلبونها أو نار توقدونها وتعبدونها، أو شمس تقدسونها؛ لَا أحد غير الله سبحانه، إذن فلِمَ تعبدون غير الله؟! وهم لَا يملكون ضرا ولا نفعًا، وعلق سبحانه وتعالى الإجابة على الصدق لكي يكون الجواب لَا تمويه فيه بل يكون صادرًا عن حقيقة واقعة لَا عن أوهام يتوهمونها، ويحسبونها، بل عن عقل مدرك صادق خالص من الأوهام والأهواء والأخيلة الفاسدة. ولقد أكد سبحانه الإجابة السليمة بقوله تعالى:
* * *(5/2494)
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
(بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
* * *
انتهى الكلام السامي بقوله تعالى: (أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كنتُمْ صَادِقِينَ) أي تتحرون الحق وتدركونه. وقد أجاب سبحانه وتعالى عنهم بالإضراب عن تفكير أوهامهم وهو أنهم لَا يدعون سواي، ولذا قال سبحانه: (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) قيل للإضراب الانتقالي عن تفكيرهم وأوهامهم، وتقديم المفعول على الفعل والفصل بقوله: (إِيَّاهُ تَدْعُونَ) للقصر، أي لَا تدعون إلا إياه، إذا لَا تفكرون في غيره،(5/2494)
وذلك دليل على أن المشركين مهما يضلوا يتجه تفكيرهم في الشدائد إلى القوة الخفية الخالقة في هذا الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى خالق الكون ومسيره، فهو مجيب المضطر إذا دعاه، وأن الله يكشف أي يزيل الضر، وكأن الشدة غطاء غامر محيط، وإزالته كشفه، ففي هذا التعبير استعارة فيها تشبيه حال إزالة الشر، بحال كشف غطاء غامر مؤلم، بجامع إزالة الضر في كل، وإظهار السلامة، والفاء هنا لترتيب الفعل على الدعاء وسرعة الإجابة.
وإن الله تعالى يكشف الضر إذا لم يكن في ذلك مفسدة وكان فيه خير، وكانت الرحمة تفرضه، كما قال تعالى: (. . . كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. . .)، ولذا قال سبحانه: (إِن شَاءَ) أن يتفضل عليكم بهذا الكشف، ويرحمكم ولم يكن في هذا مضرة، ولا إغراء بالفساد، ولا إيذاء لغيره، فعمله تعالى في دائرة الحكمة والنفع، وإن لم يكن في ذلك إلزام، فإنه سبحانه وتعالى (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ).
وظاهر أن كشف الشدة إنما يكون في شدائد الدنيا، وهي التي تتعلق بها المشيئة إن شاء أنزلها وأبقاها لحكمة، وإن شاء أزالها وأنظرهم، كما كان يفعل مع قريش، أما ما يجيء بعد الساعة من حساب وعقاب المشركِين فإن الله لَا يكشفه عن المشركين، إذ يقول سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْركَ بِهِ وَيَغْفِر مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ. . .). فلا يمكن بمقتضى وعيده سبحانه أن تكون عقوبة الشرك يوم القيامة موضع كشف أو إزالة.
وقوله تعالى: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ) الكلام متعلق فيه بالمشيئة، وأريد به السبب، ذلك أن السياق يستفاد منه أن الكشف عن الدعاء، والحقيقة أن الكشف عن الضر الذي سبب الدعاء والله سبحانه وتعالى كاشفه، ومزيل ضرهم.
إنهم في هذا الحال يتركون أحجارهم، لأنهم في هذه الحال تستيقظ مداركهم، فلا يلتفتون إلى أوثانهم إذ يرونها لَا تنفع ولا تضر، بل ربما يكون(5/2495)
البلاء حاطمًا لها، ومنكسًا، فيتركونها أو أن شدة الهول تجعلهم ينسون ما علق بأوهامهم عنها ولا يكون أمامهم إلا الحقائق الثابتة.
ويكون هذا النسيان سببا للترك وعدم الالتفات، ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكونَ) أي تغيب عن ذاكرتكم فتتركونها لأنها لَا حول لها ولا قوة، ولا يذكرون إلا خالق الكون، ورب الوجود كله، وهو الحي القيوم، ولكن نسيانهم قد يستمر، وقد يذكرونها بعد الشدة.
ويجب أن نذكر هنا أن المشركين من قريش لم تكن قد ذهبت بهم اللجاجة في المادة إلى ألا يؤمنوا بالروح، فهم مع إشراكهم بالله تعالى كانوا يحسون بمقتضى الفطرة أن هناك قوة روحية تسير الأمور الكونية؛ قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63).
اللهم ألهمنا شكرك ولا تنسنا ذكرك.
* * *
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
* * *(5/2496)
الكلام في أحوال المشركين مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومجابهتهم له وسوق العبر لهم، وفى هذا النص الكريم بيان أحوال النبيين مع أقوامهم، وأحوال الأمم في الضراء والبأساء، ومقدار انتفاعهم بها والعبرة في ذلك؛ ولذلك قال تعالى:(5/2497)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) في هذا النص بيان لعلاج الله تعالى للأسقام النفسية للأمم التي تتعصى على الهداية، وعلى الاستقامة على الحق إذا دعوا إليه، فليس الناس جميعًا طلاب حق يتبعونه إذا هدوا إليه، ولا يستمعون إلى الحجة إذا سيقت إليهم، بل يعاندون ويكابرون، فهؤلاء يحتاجون إلى علاج دنيوي، وذلك بالشدائد تنزل بهم، لأن الجحود والمبالغة في الإنكار سببهما الاغترار بالدنيا وما فيها من متع، ولا علاج لغرور الجدة إلا بالحرمان منها ليذوقوا طعم المر بعد أن ذاقوا رطب العيش، ولا علاج لغرور الصحة إلا بالمرض حينا، ولا لعلاج للقوة إلا بالضعف. وعسى أن يكون هذا بصوره المختلفة باختلاف الداء مؤديا إلى شفاء النفس، والاتجاه بها إلى الهداية، وقد عالج الله تعالى حالهم بأمرين: أخذهم بالبأساء، وهي البؤس الشديد، والبؤس هو الفقر وضيق العيش حتى يكون ضنكا، وذلك يكون للأمم بالأزمات تجتاحها، وبجفاف النبات، وبالجوائح المبيدة وغيرها مما يصاب به اقتصاد الأمم، والثاني الضراء بالمرض تصاب به الأجسام وبالأوباء المرضية تتفشى بين الجماعات.
ولقد فعل الله تعالى ذلك بفرعون وقومه عندما أصابه هو وهم الغرور وطغوا في البلاد. وقد قال تعالى في ذلك بعد أن سخروا بكل آية: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ (1) وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136).
________
(1) قال المؤلف - رحمه الله -: القمل: حشرة تأكل الزرع تشبه دودة القطن، ولعلها هي.(5/2497)
وإن الآلام علاج النفوس المغرورة بزخارف الدنيا، ومتاعها إن كانت صالحة للعلاج، وقد يستعصي الداء ويصعب العلاج، وإن الله تعالى عالج الأمم بالآلام عساهم يخضعون، ويبتعد الغرور عن نفوسهم؛ ولذا قال سبحانه: (لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) أي لعلهم يخضعون ويتطامنون وتذهب كبرياؤهم إذ يحسون) بضعفهم وإنه حيث كان الإحساس بالضعف قربت النفس من الإيمان فالإيمان إذعان وخضوع، ومن جنسهما التضرع والتطامن والبعد عن الغرور، وعن الاستكبار على الحق، والرجاء هنا يفيد المقاربة بين إصابة الكاذبين بالبأساء والضراء.
والخضوع للحق. فالمراد من الرجاء لازمه، وهو القرب من الحق، والإذعان له.
* * *(5/2498)
فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
(فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
* * *
البأس هنا الشدة. وهي أكثر ما تكون في شدة الحرب. ولأواء القتال، ويطلق على شدة الفقر والبؤس في العيش، و (لولا) هنا للنفي مع تمني الوجود فهي لنفي تضرعهم مع تمني أن يكونوا قد تضرعوا، والتمني هنا معناه ينبغي، كأن المعنى هكذا لم يتضرعوا وكان ينبغي أن يكون البأس الشديد مؤديا إلى ضراعتهم، لأنه يشعرهم بضعفهم أمام قدرة الله تعالى الغالب القاهر فوق كل شيء. لكن الإحساس بالضعف الذي دل عليه نزول البأس عليهم - ولا قبل لهم - وجد مانعان يمنعان أثره. فإذا كان قد وجد سبب الضراعة فقد وجد المانع منها. والمانع منها أمران:
أحدهما - قسوة القلوب. وقد عبر سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله تعالى:
(وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ) وكان ذلك الاستدراك للإشارة إلى أن الضراعة وقسوة القلوب لَا يجتمعان ولو نزلت الشدائد، وإن ضرعوا فإلى أمد محدود، ثم تعود إليهم أحوالهم.
والسبب في أن القسوة والضراعة نقيضان لَا يجتمعان أن القسوة غلظ في النفوس والطباع وإن بعض النفوس لتقسو حتى تكون كالحجارة أو أشد قسوة، وإن(5/2498)
مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ.
والضراعة رقة في القلب ورأفة في النفس، وإحساس بآلام الغير وآلام النفس فلا يكون القاسي ضارعا ولو كان جبانا، إذ الضراعة علو مع رأفة ورحمة وطمأنينة والقسوة غلظة، وقد يكون الجبان غليظا، بل في أكثر الأحوال هو كذلك.
الأمر الثاني الذي يمنع الضراعة - تزيين الشيطان العمل للنفس. وقد عبر سبحانه عنه بقوله تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) إن الشيطان قد يراد به هنا النفس الأمارة بالسوء التي تزين السوء فتجعله كالحسن وما هو بحسن، وإن هذا التزيين النفسي لعمل السوء للنفس لَا يجعل الآثم يحس بإثم ما ارتكب.
والضراعة توجب الإحساس بذلك الإثم، حتى يتجه إلى ربه تائبًا توبة نصوحا، ومن أول درجات هذه التوبة أن يحس بإثم ما فعل. ثم يندم عليه. ثم يعتزم ألا يفعل، ولا يمكنه أن يكون ذلك ممن زين له سوء عمله فيراه حسنا وما هو بحسن.
وفى التعبير بقوله تعالى: (وَزَينَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ناحية بيانية رائعة ذلك أن عبر بزين لهم الشيطان سوء ما يعملون. . ولم يقل حسن لهم الشيطان. كما يجري على الألسنة فلان يحسن القبيح؛ لأن القبيح لَا ينقلب حسنًا، والسيئ لَا ينقلب، ولكن السيئ أو القبيح بتمويهات وتزيينات يظن معها أنه حسن. وما هو إلا تمويه باطل، وإنهم إن لم يهذبوا بالشدائد اختبروا بالنعم، فقال تعالى:
* * *(5/2499)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
(فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
* * *
الفاء لتفصيل ما كان منهم وبيان ما ترتب من عواقب قريبة وأخرى بعيدة، فإنهم إذا لم يتضرعوا بسبب قسوة قلوبهم وأنهم زينت لهم أعمالهم - كان لذلك(5/2499)
عواقب. وكانوا بتلك القسوة وتزيين السوء ناسين لما ذكروا به. فقد ذكروا بالبأساء والضراء وبسبب قسوة قلوبهم تركوا ما ذكروا به والنسيان هنا ليس هو مجرد الترك، إنما هو نسيان آثار الضراء والبأساء، فإن الضراء والبأساء لكي تنتجا آثارهما الحقيقية من الضراعة يجب أن تتركا آثارًا في القلوب تكون مذكرة بانتظام دائم لهما ولكن القسوة والغرور، والعجب والاستكبار محت تلك الآثار المذكرة فكان النسيان، وعاد الاغترار والاستكبار.
والله تعالى في هذه الحال التي أصابهم فيها النسيان يقول: (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) أي أن الرزق وأسباب القوة والاغترار والاستكبار تأتيهم وتسهل لهم، فكانوا في سعة في كل شيء، وقوله هذا: (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كلِّ شَيْءٍ) فيه استعارة تمثيلية لمعنى تسهيل كل شيء حتى يكونوا في بحبوحة وسعادة مادية وعدم خوف، واطمئنان إلى المستقبل، أو نقول إن النص القرآني كناية عن هذا المعنى، لأنَّ من يفتح له باب كل شيء، يكون لَا محالة في سعة مادية واطمئنان مادي.
وهذا المعنى فيه اختبار للنفس غير المؤمنة بالنعمة بعد أن اختبرها بالنقمة.
كقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95).
وإن هذا الذي ذكره النص القرآني بالنعمة بعد النقمة هو اختبار شديد؛ ولذا روى عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج. ثم تلا قوله تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ). وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا أراد الله تعالى بقوم بقاء أو نماء رزقهم فتح باب القصد والعفاف، وإذا أراد بقوم اقتطاعا فتح باب الخيانة ".(5/2500)
وإن هذا الفتح والرزق الواسع إلى حين ليذوقوا النعمة ثم الحرمان منها فجأة؛ ولذا قال سبحانه:
(حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هم مُّبْلِسُونَ).
إنهم إذ يكونون في فرح مما أعطاهم الله تعالى أخذهم الله تعالى بالحرمان أو أصابهم بالموت المفاجئ أو الخراب الجائح في وقت لم يتوقعوه، بل كانوا يتوقعون المزيد من النعم ويحسبون أنها حق مكتسب لَا يمحى (فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ)، أي في غم وكمد وحزن ويأس وحيرة بعد الفرحة.
وهنا تعبيران جليلان جديران بالالتفاف.
أولهما - أنه عبر عن إعطاء الله النعمة بما أوتوا - أي بالبناء للمجهول؛ لأنهم يحسبون أن ذلك بعلمهم وقدرتهم وحدهم. كما جاء على لسان واحد من أمثالهم وهو قارون (. . . إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78).
الثاني - أن الله أضاف الأخذ إلى ذاته العلية إذ قال: (أَخَذْنَاهُم) لأنهم لا ينكرون ذلك وينسبونه إلى ربهم.
* * *(5/2501)
فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
(فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
* * *
الفاء هنا للتفريع على ما قبلها، و (دَابِرُ الْقَوْمِ) أي آخر. والدابر هو الآخر وإذا قطع الدابر، فإن معنى ذلك أن القطع سرى من الأول حتى وصل إلى الدابر، وإطلاق الدابر بمعنى الآض جاء في كلام العرب، ومن ذلك قول بعضهم: " إن من الناس من لَا يأتي الصلاة إلا دابرا " أي آخر الوقت والدابر تجيء بمعنى الأصل.
والمؤدى واحد في النص الكريم، أي قطع الذين ظلموا عن آخرهم، وذلك بسبب(5/2501)
ظلمهم، وظلمهم كان لأنهم أشركوا بالله تعالى: (. . . إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)، ومن كان يشرك برب العباد لابد أن يظلم العباد، فمن الذي يتقوه من بعده. وظلموا أنفسهم؛ لأنه سبقت العظات والمعاملات ولم يعتبروا فاستحقوا ما نزل بهم.
وقد ختم الله تعالى النص بقوله: (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يعلمنا الحمد لله عند زوال الظالمين، فهلاك الظلمة والطغاة نعمة تستوجب الحمد والثناء، ويقول في ذلك الزمخشري: " (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة، وأنه من أجل النعم وأجزل القيم ".
ونظير هذا النص الكريم قوله تعالى: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى. . .).
ووصفه سبحانه بـ (رَبِّ الْعَالَمِينَ) إيذان بأن القضاء على الذين ظلموا بعد أن اختبروا بالبأساء والضراء، ثم بالسراء والنعماء هو من تقدير الربوبية، وتدبيره سبحانه رب العالمين.
* * *
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
* * *(5/2502)
فى الآيات السابقة بين الله تعالى ما عامل به الأمم السابقة بعد أن جاءتهم رسلهم بالبينات، فاختبرهم سبحانه وتعالى بالبأساء تنزل بهم، والضراء تمس أحياءهم، رجاء أن يعرفوا ضعفهم بجوار قدرة ربهم، وأن تربي الشدائد نفوسهم، فمن لم يتجه إلى الله، ويكفر بعد كشف الضراء عنهم، ويقسو قلبه وينسى ما ذكر به من شدائد، يختبره بالنعمة، يفرحون بها، ويذوقون حلاوتها، ثم ينزل بهم الحرمان ويأخذهم بغتة بالشدائد ويكون ذلك أقسى من الأول إذ يتحيرون ويقطع دابرهم، وفي هذه يبين لهم سبحانه نعمة الله عليهم في الخلق والتكوين، ويذكرهم باتجاههم إليه إن أخذ سمعهم وأبصارهم وختم على قلوبهم أفلا يدركون، فقال تعالى:(5/2503)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ).
في الآيات السابقة - كما قلنا - كان ذكر ما ينزل حولهم ثم يصيبهم، فالدمار ينزل حولهم ثم يصيبهم، وهنا ذكر ما ينزل بحواسهم وكيانهم قائم لم ينقص، ففي هذا النص بيان قدرة الله تعالى في أنفسهم وفي أجزائهم وحواسهم، وامتلاكه لهذه المداخل التي تكون إدراكهم وهي السمع والبصر والفؤاد؛ كما قال تعالى في آية أخرى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31).
ومعنى أخذ الله سمعهم وأبصارهم والختم على أفئدتهم، أن يصبحوا لَا يسمعون حقيقة ولا يبصرون حقيقة، ولا يفقهون فيسلبهم سبحانه الفهم والإدراك، وواضح أن أخذ السمع والبصر يكون بعدم السماع والإبصار؛ لأن هاتين الحاستين تسمعان وتريان، وأخذهما فَقْدُ عملهما - ولكن الأفئدة شيء يخفى لَا يؤخذ بل هو باق، ولكن يغشى عليه، فليس الجنون ذهاب العقل، وإنما الجنون ستر العقل فلا يدرك الأمور على وجهها، ولذلك عبر عن فقد الإدراك بالجِنة؛ لأن العقل يُستر ولا يذهب كما يذهب السمع والبصر؛(5/2503)
ولذلك قال سبحانه: (وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم) أي وضع غشاوة على قلوبهم، فتصبح كالشيء المختوم لَا ينفذ إليه شيء من الإدراك، وذلك بلا ريب هو أعلى دقة في التعبير تليق بمقام القرآن الكريم في البيان الذي لَا يصل إليه أحد من البشر، والتعبير بقوله تعالى: (أَرَأَيْتُمْ) الاستفهام فيه للتنبيه، كأنه سبحانه وتعالت كلماته يقول أرأيتم. أي إن لم تكونوا قد رأيتم ذلك فَرُوه وعوه، وأدركوا ما وراء ما يدل عليه.
وقوله تعالى: (مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ) الاستفهام فيه لإنكار الوقوع الثابت بالدليل الذي لَا مجال لإنكاره، والضمير في (به) يعود إلى المأخوذ، وهو السمع والبصر والفؤاد، وقام الأخذ والختم مقامه من قبيل قيام السبب مقام المسبب، و (يأتيكم) معناه برده عليكم، وعبر سبحانه بـ (يأتي) للإشارة إلى أنه يكون كالجديد، والنص يشير إلى أنهم وحواسهم في يد الله سبحانه وتعالى، ويشير إلى أمر آخر، وهو أنه تعالى قادر على إعادة السمع والبصر والإدراك، وهي أجزاء جسمكم المدركة المصرفة، أفلا يكون قادرا على إعادتكم في البعث كما بدأكم أول مرة، إنكم ترون من يذهب سمعه كان في أذنيه وقرا ثم يسمع، ومن يذهب بصره ثم يبصر بعمل الله، ومن يصاب بجنة ثم يفيق، وكل ذلك من الله تعالى، إن ذلك محسوس، فلماذا لَا يقيسون عليها عودة الأجسام بعد بلاها كما بداكم تعودون.
(انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - لبيان حال المشركين، وأنهم لَا تؤثر الحجة فيهم مهما تكن واضحة نيرة ملزمة، والتصريف: التغيير، وهو يكون في ذات الآيات يتعددها من آية كونية إلى آية قرآنية، فالتعدد صورها، فتعدد في صور الآيات الكونية من عواصف عاتية إلى مطر صاخب إلى خسف للديار، ومن آيات قرآنية زاجرة ضاربة للأمثال مبينة للمثلات، إلى تذكير بقدرة الله تعالى فيما تحيط بهم، وتذكير بأنفسهم، ومع هذا التصريف المتتابع، والآيات الواضحة المنوعة تجدهم صادفين، ولذا قال تعالى: (ثمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) أي(5/2504)
يعرضون، ولا يجيبون من الصدوف بمعنى الإعراض، وأصل الصدوف اليل عن الجانب؛ لأن أصله الصّدَف بمعنى الجانب، فمن يصدف يميل عن هذا الجانب أو يجعله حاجزًا دون الإيمان، وقد عبر في العطف بـ " ثم " للدلالة على التراخي المعنوي بين الآيات وتتابعها والإعراض، وقد أكد سبحانه وتعالى الإعراض منهم بضمير الفصل؛ لأن وقوعه غريب في ذاته بعد تلك الآيات البينات.
* * *(5/2505)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
* * *
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: (قُلْ)، وللنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمشركين في قوله: (أَرَأَيْتَكُمْ) وقد ذكرنا تخريج هذا اللفظ على ما يقوله النحويون واللغويون في البحث السابق، فارجع إليه، (بَغْتَةً) أي مفاجأة، و (جَهْرَةً) أي جهارا، وقد ذكرت الجهرة في مقابل البغتة؛ لأن البغتة بمقتضى المعتادة تكون في خفية ولا إعلان فيها من قبل، أو على الأقل تجيء من غير ترقب ولا انتظار، فهي خافية على من نزلت عليهم، ولذلك قابلتها جهرة، ولقد فسر الزمخشري احتمال بغتة أن تكون بمعنى ليلا، وجهرة بمعنى نهارا، وهو معنى مقارب، لأن المفاجأة تكون بالليل، والعلنية تكون بالنهار عادة.
وعذاب الله تعالى يجيء من غير ترقب. كحال الذين قالوا (عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا) فقال سبحانه: (. . . بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وقوله تعالى: (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الوقوع، أي لَا يهلك إلا القوم الذين تجمعوا على الظلم، وتحزبوا وتضافروا عليه، وتعاونوا على إثمه. وهنا مباحث لفظية موضحة:
أولها - لماذا كان النفي بالاستفهام؟ الجواب عن ذلك للتنبيه، كأنه كان سؤال وكانت إجابة، وذلك تأكيد للنفي فضل تأكيد.
ثانيها - أن سبب الهلاك هو الظلم، فقد ظلموا بسبب الشرك، وظلموا بعدم الطاعة، وظلموا أنفسهم بضلالها، والظلم وخيم العاقبة.(5/2505)
ثالثها - أن الكلام فيه حصر الهلاك في الظالمين مع أن الفتنة تعم ولا تخص، كما قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تصِيبَنَّ الَّذِين ظَلَمُوا مِنكمْ. . .).
ونقول في الجواب عن ذلك: إن الله لَا يهلك الظالمين إلا إذا ساد الظلم، فبعضهم وقع منهم الظلم فعلا، والآخرون سكتوا عنه فكانوا ظالمين بسكوتهم، وقد قال تعالى في شأن بني إسرائيل: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79).
ولقد ورد في الأثر: إن الله لَا يعذب العامة بظلم الخاصة، إلا إذا رأوا المنكر وسكتوا عنه. أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1).
* * *
________
(1) عن عدي، قال رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ اللَّهُ عَزً وَجَل لَا يُعَذبُ الْعَامَةَ لعَمَلِ الْخَاصةِ حَتَّى يَرَوا الْمُنكَرَ بَينَ ظَهرَانَيْهِمْ وَهُم قَادرُونَ عَلَى أنْ يُنْكِرُوهُ فَلا يُنْكِرُوهُ، فَإذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَذَّبَ اللَّهُ الْخَاصةَ وَالْعَامَةَ ". رواه أحمد: مَسند الشاميين - حديث عدى بن عمَيرة الكندي رضي الله عنه (17267).(5/2506)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)
* * *
التبشير هو الإخبار بالبشرى، وهي الخبر السار، والإنذار هو الإخبار بالسوء في المستقبل تحذيرا وإعذارا، فالتبشير وعد بما يلقى في النفس السرور والاطمئنان، والإنذار وعيد بالعذاب، والجزاء المماثل للإثم، وقصر الله تعالى المرسلين على الإنذار والتبشير -؛ لأنه ليس عليهم أن يحملوا الناس على الهداية إن لم يهتدوا، ولا يتحملوا وزر العصاة إن عصوا أمر ربهم، إنما الثواب لمن أطاع، والعذاب لمن عصاه، وذكر سبحانه وتعالى ذلك بالنص، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كادت نفسه تذهب عليهم حسرات حتى يؤمنوا، وقال تعالى له: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، فالله سبحانه بين له أنه لَا يهدي من أحب، وأنه ليس عليه هدايتهم وأن رسالته غايتها الإنذار والتبشير كسائر المرسلين، وأنه بعد تبليغ الرسالة يكون الخير لهم، والتبعة عليهم.(5/2506)
(فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلأ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أي فمن أذعن للحق، وآمن بما جئت به، وجعل هواه تبعا لما تدعو إليه فله الجزاء الأوفى، ودعم الإذعان الحق بالعمل الصالح، فالإيمان من غير عمل أجوف أجرد لَا ينتج بذاته، ومن آمن وعمل صالحا فإنه لَا يحزن على ما فاته في الماضي، بل يطمئن بذكر الله، ولا يخاف من المستقبل لأنه يرجو ما عند الله تعالى.
* * *(5/2507)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
* * *
أولئك هم المقابلون للذين أذعنوا للحق وعملوا عملا صالحًا، وهؤلاء كذبوا بآيات الله، ويراد بالتكذيب للآيات الإعراض عن الأدلة القاطعة المثبتة لوحدانية الله تعالى من كونيات ظاهرة، ومعجزات قاهرة، وآيات قرآنية بينة واضحة باهرة، فلم يكن تكذيبهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقط، بل كان تكذيبهم للأدلة الواضحة التي تشبه الحس المرئي والبارز المحسوس، وهذه الآيات هي التي ساقها الله لهم، وهو خالق الكون ومدبره، وقال في عقوبتهم: (يَمَسُّهُم الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) أي يصيبهم العذاب بسبب فسقهم، أي خروجهم عن الحق، وإنكارهم لَا يوجب العقل الإيمان به، وأردفوا كذلك بفعل الموبقات، فإذا كان المؤمنون قد أذعنوا للحق، وزكوه بالعمل الصالح، فأولئك أنكروا الحق، ودعموا الإنكار بارتكاب الموبقات والزور من الأعمال، وعبر سبحانه عن إصابة العذاب وإدخالهم جهنم بـ " يمسهم "، لأن موضع الإحساس بالألم هو الجلد، فمسه بالعذاب هو الإيلام الشديد، اللهم قنا عذاب النار.
* * *
(قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ(5/2507)
أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
* * *
في الآيات السابقة كان بيان الله سبحانه وتعالى للآيات الكبرى تتابع عليهم آية بعد آية، وهم معرضون، والله تعالى يذكرهم بسلطانه في الأرض وفي السماء وفى أنفسهم، وبين أن من يشركونهم مع الله لَا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولا يدفعون عنهم شيئًا لو أخذ الله تعالى سمعهم وأبصارهم وختم على قلوبهم، ولا يملكون أن يدفعوا العذاب إذا أتاهم بغتة أو جهرة، ولم يبين علاقتهم بالمؤمنين وكلامهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - وحوارييه، وفي هذه الآيات يتكلم في ذلك، فيقول الله تعالى:(5/2508)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
(قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ).
كان المشركون يستكثرون أن يكون محمدا نبيَّا مرسلا، ولم يكن من الأغنياء العظماء في أموالهِم، بل كان يتيما فقيرًا، فقد قالوا: (. . . لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرآنُ عَلَى رَجُلٍ منَ الْقَرْيتينِ عَظِيمٍ)، وحسبوا أن النبي يجب أن يكون(5/2508)
محُدِّثا عن الغيب، وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لَا يعلم الغيب، وأمره الله تعالى أن يقول: (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188).
وقد كانوا يقولون إنهم يريدون ملكًا رسولا. وقد أخبر تعالى عنهم:
(. . . مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ. . .). وقد تولى الله سبحانه وتعالى ردهم في هذه الآيات، وأمره بأن يقول لهم:
(قُل لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِى خَزَائِنُ اللَّهِ) أمره الله تعالى بأن يحدد مضمون الرسالة، ولا يتوهموا أن الرسالة تقتضي أن يكون الرسول مالكًا للأموال والخزائن، ولا أن يكون عليما بالغيب، وأن الرسول لم يدع شيئًا من ذلك، وإن الرسول ليست له خاصة إلا أنه يبشر وينذر، وأنه يوحى إليه من رب العالمين، وأنه مع من يدعوهم يتبع ما يوحى إليه من ربه.
إن الرسالة الإلهية يضعها الله تعالى في عباده المصطفين الأخيار من البشر، (. . . اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ. . .)، وإن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ما تطاول بفضل مال ولا ثروة، ولا غنى، ولكنه كان فقيرًا بين الفقراء قريبا منهم متدانيا إليهم يخفق قلبه معهم، ويحس بآلامهم، وكان من البشر، ليخاطب البشر، (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ). وإن التفوقة ليست بالغنى والفقر، وإنما التفوقة بالهداية والضلال، والعلم والجهل؛ ولذا قال سبحانه في التفوقة بين من استبصر وأدرك ولو فقيرًا، وبين من ضل وغوى، ولو كان غنيا.
(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ).
أمر الله تعالى نبيه بأن ينبههم إلى أنه لَا يستوي العالم والجاهل والمهدِي والضال، والرشيد والسفيه، وكان أمر الله تعالى بذلك لنبيه، وتكرار الأمر بأن يقول لهم ما يقول، لفضل التنبيه، ولتقوية الإيمان بأنه يتكلم عن ربه، ولأنه الذي يتولى محاجاتهم، والاستفهام هنا لنفي الوقوع مع التنبيه إلى هذا، والمراد من(5/2509)
الأعمى غير المدرك للحقيقة وغير المهتدي، ومن طمس الله تعالى على بصيرته فأصبح الحق لَا يصل إليه، والمبصر من أدرك كل هذا، ففي الكلام تشبيه الضلال بالعمى، وإدراك الحق والإذعان له والاهتداء بالبصر؛ لأنه يعيش في نور البصيرة، والأول يعيش في ظلام الجهل والضلال.
وقدم العمى في الذكر على البصر؛ لأن المشركين يدعون أنهم مع ضلالهم وجهلهم، وبعدهم أعلى من أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - من المؤمنين، وذلك لكثرة أموالهم، وقلة أموال المؤمنين، فبين سبحانه أنهم لَا يمكن أن يساووهم فضلا أن يعلوا عليهم؛ لأن الأعمى ولو غنيا، لَا يساوى المبصر ولو فقيرا، وكان عليهم بدل أن يفضلوا أنفسهم على المؤمنين لفقرهم أن يتفكروا ويتدبروا في أسباب الفقر والغنى، وأسباب الفضل وأسباب العلو، وأن يتعرفوا الهدى والضلال، وأن يتدبروا في حاضر أمرهم وقابله، وأن يعتبروا بالعظات والأمثال التي تساق إليهم، وأن يكشفوا عن أنفسهم غمة الاغترار والإعراض عن الحق، وألا يكونوا في غيهم يعمهون؛ ولذا قال تعالى: (أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) الفاء هنا موضعها قبل الاستفهام، ولكن الاستفهام له الصدارة فقدم عليها عن تأخير في نسق الكلام، والمعنى أنه كان يترتب على عدم المساواة بين الأعمى البصير أن يتدبروا ويتفكروا، والاستفهام للتحريض على التفكير.
* * *(5/2510)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
(وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
* * *
الكلام السابق في المشركين، وإعراضهم عن الآيات وختم الله تعالى على قلوبهم مع توالي الآيات والنذر عليهم وإعراضهم، وقد يتوهم متوهم أن الإنذار لا جدوى منه، ولكن ليس الناس جميعا كذلك، بل فيهم من تؤثر فيه الموعظة ويجدي فيه الإنذار، والحق أن الناس قسمان: قسم تعتريه الرهبة من الغيب، ويخاف الحشر إن ذكر به، فلم يكن فيه اغترار يقسو به قلبه، ويصرفه عن المنذرات والاستماع إلى داعي الحق، وصنف غلبت عليه شقوته لَا تجدي فيه موعظة،(5/2510)
ولا يرهب الغيب وما فيه؛ لأنه يَعْمَه في غيه، وهم في غفلتهم ساهون، وهؤلاء لا يجدي فيهم النذير، وهم الذين ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم وأبصارهم غشاوة، وقد ذكر الزمخشري أن الذين يخافون أن يحشروا منهم المسلمون الذين يؤمنون بالبعث والنشور، ولكن تتقاصر أعمالهم، فيجديهم النذير، ومنهم أهل الكتاب الذين لم يفسدهم الغرور، ومنهم بعض المشركين الذين لم يطمس على قلوبهم، بل لَا يزال في قلوبهم نافذة ينفذ منها الندم، فإن علموا بالحشر خافوه فآمنوا، ومن المشركين من يؤمنون بالحشر، ولكن يظنون أن الشركاء الذين يبتدعونهم يشفعون لهم، فإذا أعلموا الحق فيه اتبعوه، وما ذكرناه في تقسيمنا يعم هذه الأنواع وغيرها.
والضمير في به يعود إلى ما أوحى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو القرآن الكريم، وقد ذكرنا ضروب الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم، ويلاحظ بعض أمور:
أولها - أن الإنذار للجميع فلا يختص الذين يخافون دون غيرهم، ولكن الذين ينتفعون به هم الذين يخافون الحشر، وما وراءه من حساب وعقاب.
ثانيها - أن العنصر المميز بين أهل الخير وغيرهم هو الخوف والخشية من الله فأولئك يكون فيهم رأفة، ومع الرأفة يتفتح القلب للهداية، ويدخله النور، ومع الغلظة يكون الظلام، وكأن الغلظة حجارة قوية تجعل ما وراءها في ظلام دامس.
ثالثها - أن الغرور باعتقاد شفيع يشفع أو ولي يناصر من دون الله تعالى يسدُّ مسالك النور والهداية، فلا بد أن يكون كل الإحساس لله سبحانه وتعالى.
رابعها - أن الإنذار في هذه الحال يجعل للتقوى مكانا، فيكون الرجاء فيها، وهو من العبد لَا من الرب، ولذا قال: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).
* * *(5/2511)
وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
(وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ... (52)
* * *
جاء النهي من الله تعالى بألا يطرد أهل التقى ولو كانوا عبيدًا أو فقراء، فإن هؤلاء يقوم بهم عمود الدين، وإذا كانت الضلالة لَا تساوي الهداية، والعمى(5/2511)
لا يستوي مع البصر، فإنه لَا يصح أنه يطرد الفقراء لرجاء إجابة الأغنياء، ولا يطرد الضعفاء لرجاء إجابة الأقوياء، يروى عن ابن مسعود أنه مر الملأ من قريش بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك؛ أهؤلاء الذين مَنَّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعًا لهؤلاء؛ فلعلك إن طردتهم أن نتبعك.
وروي عن خباب بن الأرت في قوله تعالى: (ووَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ) إلى قوله: (فَتَكُون مِنَ الظَّالمِينَ) قال: جاء الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزارى فوجدوا النبي - صلى الله عليه وسلم -قاعدًا مع بلال وصهيب وعمار وخباب في أناس من الضعفاء من المؤمنين؛ فلما رأوهم حوله أتوه، فقالوا: إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا العرب به فضلنا، فإن وفود العرب تأتيك، فنستحي أن ترانا العرب مع هؤلاء الأعْبُد، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئمت، فنزل قوله تعالى: (وَلا تَطْرُدِ الَّذين يَدْعُونَ رَبَّهُم).
هذا ما قيل في سبب نزول هذه الآية، والنص يومئ إلى هذا المعنى، فقد قال تعالى، كما سنتلوا:
* * *(5/2512)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
(وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا ... (53)
* * *
نهى الله النبي عن أن يطرد هؤلاء الضعفاء، وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يميل إلى تأليف قلوب الأقوياء للدخول في الإسلام لينال بقوتهم قوة، ولكن الله تعالى بين أن القوة في الإيمان، لَا في غطرسة المتغطرسين وإن أولئك وإن كانوا ضعفاء فقراء فإنهم أقوياء بعزة الإيمان وبعزة الحق ولا تفرقة بين أتباع الأنبياء بالطبقية، إنما التفرقة بقوة الإيمان والتقوى كما قال تعالى: (. . . إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ. . .). وإن الرفعة بين أتباع الأنبياء بالإيمان والعبادة. وقد ذكر الذين نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طردهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي، ومعنى يدعون يعبدون مخلصين؛ لأن العبادة دعاء، والدعاء: التضرع الخالص، وهو مخ العبادة، وهو لبها، ولذلك عبر عن العبادة بالدعاء - وبالغداة(5/2512)
والعشي: المراد في الصباح والساء، أي أنهم في عامة أوقاتهم ذكروا الله تعالى ربهم الذي خلقهم وكلأهم وحماهم، يريدون وجه الله، لَا يقصدون عرضا من أعراض الدنيا، وينصرفون إليه تعالى لَا يريدون إلا ذاته الكريمة ولا يقصدون سواه، فكيف يطرد هؤلاء لأجل ناس لَا يعرفون إلا عرض الدنيا وإن الله تعالى قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يكون مع هؤلاء، فإنهم قوة، والإيمان يملأ النفس قوة؛ لأنها قوة الصبر، ولذلك قال تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28).
(مَا عَلَيْكَ مِنْ حسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ).
جاء هذْا النص الكريم بعد قوله تعالت كلماته: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي يقصدون بعبادتهم ذاته العلية ولا يقصدون شيئًا سواها، مهما يكن، وإن الله تعالى يتولى حسابهم بالجزاء، وما يعود عليك من حسابهم شيء ولا يعود عليهم من حسابك شيء فهم عباد مجزيون بأعمالهم، كما أنك يا محمد مجزي بعملك، فليس لك أن تطردهم، وهذا التعبير (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ) يشبه ما نقل عن نوح - عليه السلام - في قول الله تعالى: (قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113).
ويؤدي التعبير على هذا أن هؤلاء آمنوا بربهم وحسابهم عند ربهم، وما عليَّ من حسابهم من شيء، كما لَا يحاسبون على عملي، فكل له عمله، فكيف أطردهم، ولذلك قال تعالى: (فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي فإن طردتهم استجابة لغيرهم وأنت لَا تتحمل مغبة أعمالهم، ولا ما هم فيه كنتط من الظالمين؛ إذ لَا وزر كان منهم يستوجب الطرد إلا مسارعتهم للإيمان بما جئت وتلكؤ غيرهم، إن ذلك لظلم عظيم إن كان، ولا يمكن أن يكون من محمد - صلى الله عليه وسلم -.(5/2513)
وهناك تخريج آخر، لقوله: (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍ) بأن المعنى ما عليك شيء من حساب رزقهم إن كانوا فقراء وما من حسابك في الفقر والغنى عليهم من شيء، أي إنك أنت هاد ومرشد، داع إلى من يقرب منك ومن يجيب، وسواء أكان فقيرًا أم كان غنيا، فكيف ترد فقيرًا مهديا لفقره وتقرب غنيا غير مهدى لغناه فإن تطردهم من بعد فإنك تكون من الظالمين، ومعاذ الله أن يكون ذلك منك.
إن الضعفاء أول من يتبع الأنبياء، لأنهم غير مشغولين بالمال والبنين وزخارف الحياة، وضجاتها، ولجاجة القوة وخصوصًا ما يكون منها على غير أساس من الأخلاق، فنفوسهم تكون أقرب إلى الفطرة والاستقامة؛ ولذلك كان غالب الذين اتبعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - من الضعفاء والعبيد، وكل الذين يحسون بآلام الحياة الدنيا، ورجاء حياة أخرى، ولقد سأل هرقل ملك الرومان أبا سفيان ابن حرب الذي كان قائد الشرك إبان ذاك عمن يتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؛ فقال: بل ضعفاؤهم، فقال هرقل: فكذلك أتباع الرسل (1).
وإن هذا بلا ريب اختبار لنفوس الأقوياء فقوله: (فتنا) معناها اختبرنا، وكان فتنة لهم من ناحيتين: الناحية الأولى أن جاههم مع كبريائهم سيكون حاجزًا لا يسهل دخول الإيمان في قلوبهم. الثانية سيجدون أن الذين يسبقونهم إلى الإسلام هم الضعفاء، فيكون ذلك صعوبة نفسية أخرى لَا تسهل دخول الحق إلى قلوبهم، ويقول قائلهم الضال: (. . . لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)، ومن يجتاز هاتين الصعوبتين من الأقوياء يكون إيمانه أرسخ من الجبال كأبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وحمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب،
________
(1) راجع هذا الحديث، في صحيح البخاري: بدء الوحي - باب بدء الوحي (7)، ومسلم: الجهاد والسير - كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل ملك الروم (1773) فيما رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن أبي سفيان رضي الله عنه. وهو حديث طويل.(5/2514)
وعبدالرحمن بن عوف، وغيرهم من الأقوياء ذوي الوجاهة في الجاهلية والوجهاء عند الله والناس في الإسلام.
والكاف في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا)، للتشبيه، وقد شبهت الصورة الكلية لاختبار الله تعالى لخلقه، أو على الحقيقة معاملته معاملة المختبر لهم شبهت تلك الصورة بهذه الحالة القائمة، التي آمن فيها الضعفاء وسبقوا بها الأقوياء، وصار لهم فضل السبق، والتشبيه للتقريب والتوضيح، واللام في قوله تعالى: (لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا) للعاقبة أي: وما كانت هي الباعث على الاختبار، ولكن كانت عاقبة ونتيجة الاختبار.
(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ).
يثبت الله سبحانه وتعالى هذا النص بثلاثة أمور:
أولها - أن الفضل ليس بالغنى، ولا بالجاه ولا بالقوة في الدنيا، ولكن بمقدار شكر الله تعالى على ما أنعم، والإنسان في الوجود محفوف بنعم الله تعالى تحوط به من يوم خروجه إلى الحياة إلى وقت مفارقتها، وواجب عليه الشكر لها فشكر النعم واجب بمقتضى العقل والنقل، وبمقدار شكر النعمة يكون الفضل.
ثانيها - أن أولئك الذين يسارعون إلى الإيمان بوحدانية الديان، هم أصحاب الفضل؛ لأنهم هم الذين يسارعون إلى الإيمان، ودعوة الله وعبادته، والإذعان له.
ثالثها - أن الله هو وحده العالم بمن يستحق الفضل وبمن يشكره وهو المستحق للفضل منه، وأفعل التفضيل على غير بابه، والمراد أنه سبحانه يعلم الشاكرين علماً ليس فوقه علم، فهو وحده العليم، السميع البصير.
* * *(5/2515)
(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
* * *
قوله تعالى:(5/2516)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
(وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ).
السلام والسلامة بمعنى واحد. ومعنى " سلام عليكم " سلمكم الله في دينكم وأنفسكم؛ نزلت في الذين نهى الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن طردهم؛ فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال: " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام " فعلى هذا كان السلام من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: إنه كان من جهة الله تعالى، أي أبلغهم منا السلام، وعلى الوجهين ففيه دليل على فضلهم ومكانتهم عند الله تعالى. وفي صحيح مسلم عن عائذ بن عمرو أن أبا سفيان أتى على سلمان وصُهَيْبٍ وبلال ونفر فقالوا: والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها؛ قال: فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟! فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم -(5/2516)
فأخبره فقال: " يا أبا بكر لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك " فأتاهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه أغضبتكم؟ قالوا: لَا، يغفر الله لك يا أخي (1)؛ فهذا دليل على رفعة منازلهم وحرمتهم كما بيناه في معنى الآية. ويستفاد من هذا احترام الصالحين واجتناب ما يغضبهم أو يؤذيهم؛ فإن في ذلك غضب الله، أي حللو عقابه بمن آذي أحدا من أوليائه. وقال ابن عباس: نزلت الآية في أبي بكر وعمر وعثمان وعلى - رضي الله عنهم - وقال الفُضَيل بن عِيَاض: جاء قوم من المسلمين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إنا قد أصبنا من الذنوب فاستغفر لنا فأعرض عنهم؛ فنزلت الآية. وروي عن أنس بن مالك مثله سواء.
قوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) أي أوجب ذلك بخبره الصدق، ووعده الحق، فخوطب العباد على ما يعرفونه من أنه من كتب شيئا فقد أوجبه على نفسه. وقيل: كتب ذلك في اللوح المحفوظ (أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَة) أي خطيئة من غير قصد. قال مجاهد: لَا يعلم حلالا من حرام ومن جهالته ركب الأمر، فكل من عملِ خطيئة فهو بها جاهل. وقيل: من آثر العاجل على الآخرة فهو الجاهلِ. (فَأَنَّهُ غفُورٌ رحِيم) قرأ بفتح (أنَّ) من " فأنَّهُ " ابن عامر وعاصم، وكذلك (أَنَّهُ منْ عَمِلَ). وقرأ الباقون بالكسر فيهما (2)؛ فمن كسر فعلى الاستئناف، والجملة مفسرة للترجمة؛ و " إنَّ " إذا دخلت على الجمل كُسِرت وحكم ما بعد الفاء الابتداء والاستئناف فكُسِرت لذلك. ومن فتحهما فالأولى في موضع نصب على البدل من الرحمة، بدل الشيء من الشيء وهو هو فأعمل فيها " كتب " كأنه قال: كتب ربكم على نفسه أنه من عمل؛ وأما " فأنه غفور " بالفتح ففيه وجهان؛ أحدهما - أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر، كأنه قال: فله أنه غفور رحيم؛ لأن ما بعد الفاء مبتدأ، أي فله غفران الله. الوجه الثاني -
________
(1) رواه مسلم: فضائل الصحابة - من فضائل سلمان وصهيب وبلال رضي الله عنهم (2405)، وأحمد: أول مسند البصريين - حديث عائذ بن عمرو رضي الله عنه (20117).
(2) (أنه. . فأنه) بفتحهما (أي بفتح الهمزة في الموضعين): ابن عامر، وعامر ويعقوب. ووافقهم نافع وأبو جعفر في الأول، وقرأ الباقون بالكسر فيهما.(5/2517)
أن يضمر مبتدأ تكون " أنَّ " وما عملت فيه خبره، تقديره: فأمره غفران الله له، وهذا اختيار سيبويه، ولم يُجِز الأول، وأجازه أبو حاتم. وقيل: إنَّ " كتب " عمل فيها؛ أي كتب ربكم أنه غفور رحيم. وروي عن علي بن صالح وابن هرمز كسر الأولى على الاستئناف، وفتح الثانية على أن تكون مبتدأة أو خبر مبتدأ أو معمولة لـ " كتب " على ما تقدّم. ومن فتح الأولى - وهو نافع - جعلها بدلا من الرحمة، واستأنف الثانية لأنها بعد الفاء، وهي قراءة بيِّنة.
* * *
قوله تعالى:(5/2518)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
(وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
* * *
قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ) التفصيل التبيين الذي تظهر به المعاني؛ والمعنى: وكما فصّلنا لك في هذه السورة دلائلنا ومحاجتنا مع المشركين كذلك نُفصِّل لكم الآيات في كل ما تحتاجون إليه من أمر الدين، ونبين لكم أدلتنا وحججنا في كل حق ينكره أهل الباطل.
وقال القُتَبى: (نُفَصِّلُ الآيَاتِ) نأتى بها شيئا بعد شيء، ولا ننزلها جملة متصلة، (وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) يقال: هذه اللام تتعلق بالفعل " فأين - الفعل الذي تتعلق به؛ فقال الكوفيون: هو مقدّر، أي وكذلك نفصل الآيات لنبين لكم ولتستبين؛ قال النحاس: وهذا الحذف كله لَا يحتاج إليه، والتقدير: وكذلك نفصل الآيات فصلناها. وقيل: إن دخول الواو للعطف على المعنى، أي ليظهر الحق وليستبين، قرئ بالياء والتاء (1). " سبيل " برفع اللام ونصبها، وقراءة التاء خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، أي ولتستبين يا محمد سبيل المجرمين. فإن قيل: فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستبينها؟ فالجواب عند الزجاج - أن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطاب لأمته، فالمعنى: ولتستبينوا سبيل المجرمين. فإن قيل: فلم لم يذكر سبيل المؤمنين؟ ففي هذا جوابان: أحدهما - أن يكون مثل قوله: (. . . سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ. . .).
المعنى: وتقيكم البرد ثم حُذِف، وكذلك يكون هذا المعنى ولتستبين سبيل المؤمنين ثم حذف. والجواب الآخر - أن يقال: استبان الشيء واستبنته، وإذا بان
________
(1) (وليستبين) بالياء: عاصم (غير حفص)، وحمزة والكسائي وخلف، وقرأ الباقون بالتاء.(5/2518)
سبيل المجرمين فقد بانَ سبيل المؤمنين. والسبيل يذكر ويؤنث؛ فتميم تذكره، وأهل الحجاز تؤنثه؛ وفي التنزيل (. . . وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ. . .)، مذكر (. . . لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ. . .)، مؤنث؛ وكذلك قرئ (وَلِتَسْتَبِينَ) بالياء والتاء؛ فالتاء خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمراد أمته.
* * *
قوله تعالى:(5/2519)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
* * *
قيل: " تَدْعُونَ " بمعنى تعبدون. وقيل: تدعونهم في مهمات أموركم على جهة العبادة؛ أراد بذلك الأصنام. (قُل لَا أَتَّبِعُ أَهُوَاءَكُمْ) فيما طلبتموه من عبادة هذه الأشياء، ومن طرد من أردتم طرده. (قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا) أي قد ضللت إن اتبعت أهواءهم (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِين) أي على طريق رشد وهدى.
وقرى " ضلَلْتُ " بفتح اللام وكسرها وهما لغتان. قال أبو عمر بن العلاء:
ضَللتُ بكسر اللَام لغة تميم، وهي قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف، والأَولى هي الأصح والأفصح، لأنها لغة أهل الحجاز، وهي قراءة الجمهور. وقال الجوهري: والضلال والضلالة ضد الرشاد، وقد ضَلَلتُ أَضِلُّ، قال الله تعالى: (قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي. . .)، فهذه لغة نجد، وهي الفصيحة، وأهل العالية يقولون: ضَلِلْتُ بالكسر أَضَلّ.
* * *
قوله تعالى:(5/2519)
قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
(قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
* * *
قوله تعالى: (قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ من رَّبِّي) أي دلالة ويقين وحجة وبرهان، لا على هوى؛ ومنه البينة لأنها تبين الحق وتظهره. (وَكَذَّبْتُم بِهِ) أي بالبينة لأنها في معنى البيان؛ كما قال: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكينْ فَارْزُقُوهم مِّنْهُ. . .). وقيل يعود على الرب، أي كذبتم بربي لأنه جرى ذكره.
وقيل: بالعذاب. وقيل: بالقرآن. وفي معنى هذه الآية والتي قبلها ما أنشده مصعب بن عبد الله بن الزبير لنفسه، وكان شاعرا محسنا رضي الله عنه:(5/2519)
أأقعدُ بعد مارجفتْ عظامي ... وكان الموتُ أقربُ ما يَلِينِي
أُجادلُ كل مُعترِضٍ خَصِيم ... وأجعل دِينَه غَرَضًا لِدِينِي
فأتركُ ما علمتُ لرأي غيرِى ... وليس الرأيُ كالعلم اليقينِ
وما أنا والخصومةُ وهْى شيء ... يُصرَّفُ فِى الشَّمال وفِى اليَمِينِ
وقد سُنَّت لنا سُنَن قِوام ... يَلُحْنَ بكلِّ فَجِّّ أَو وَجِين (1)
وكان الحقُّ ليس به خفاء ... أَغَرَّ كَغُرَّةِ القَلَقِ المبينِ
وما عوِضٌ لنا مِنهاجُ جَهْمٍ ... بمنهاج ابنِ آمنةَ الأمينِ
فأمَّا ما علمتُ فقدكَفَانِي ... وأمَّا ما جهلتُ فجنبونِي
قوله تعالى: (مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي العذاب؛ فإنهم كانوا لفرط تكذيبهم يستعجلون نزوله استهزاء نحو قولهم: (أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا. . .)، ( ... اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء. . .)، وقيل: ما عندي من الآيات التي تقترحونها. (إِنِ الْحُكمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم إلا لله في تأخير العذاب وتعجيله.
وقيل: الحكم الفاصل بين الحق والباطل لله. (يَقصُّ الْحَقَّ) أي يقص القصص الحق؛ وبه استدل من منع المجاز في القرآن، وهي قراءة نافع وابن كثيرٍ وعاصم ومجاهد والأعرج وابن عباس؛ قال ابن عباس: قال الله عز وجل: (نحْن نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ. . .). والباقون (يقْضِي الحقَّ) بالضاد المعجمة، وكذلك قرأ علي - رضي الله عنه - وأبو عبد الرحمن السُّلَمِي وسعيد بن المسيِّب، وهو مكتوب في المصحف بغير ياء (2)، ولا ينبغي الوقف عليه، وهو من القضاء؛ ودل على ذلك أن بعده (وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ) والفصل لَا يكون إلا
________
(1) الوجين: شط الوادي.
(2) قال الفخر الرازي " يقض " بغير ياء لأنها سقطت لالتقاء الساكنين، كما كتبوا (سندع الزبانية) (فما تغن النذر).(5/2520)
قضاء دون قَصَص، ويُقوِّي ذلك قوله قبله: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) ويقوى ذلك أيضا قراءة ابن مسعود (إن الحكم إلا لله يقضي الحق) فدخول الباء يؤكد معنى القضاء.
قال النحاس: هذا لَا يلزم، لأن معنى " يقضي " يأتي ويصنع فالمعنى: يأتي الحق، ويجوز أن يكون المعنى: يقضي القضاء الحق. قال مكيّ: وقراءة الصاد أحب إليّ؛ لاتفاق الحرميين وعاصم على ذلك، ولأنه لو كان من القضاء للزمت الباء فيه كما أتت في قراءة ابن مسعود، قال النحاس: وهذا الاحتجاج لَا يلزم؛ لأن مثل هذه الباء تحذف كثيرا.
* * *
قوله تعالى:(5/2521)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
(قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
* * *
قوله تعالى: (قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) أي من العذاب لأنزلته بكم حتى ينقضي الأمر إلى آخره. والاستعجال: تعجيل طلب الشيء قبل وقته (وَاللَّه أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ) أي بالمشركين وبوقت عقوبتهم.
* * *
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ(5/2521)
رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
* * *
في الآيات السابقة ذكر الله تعالى آمرا نبيه أن الله على بينة ويقين من أمر ربه، وذكر أن المشركين يستعجلون ما ينذرهم الله تعالى، ويذكر الله تعالى ما نزل بغيرهم، والنبي يترك الأمر لحكم الله يفصل بينه وبينهم، والفصل الحق يقتضي علما واسعا، وتنفيذه يقتضي قهرا غالبا، وسيطرة كاملة، فذكر سبحانه اختصاصه بالعلم الكامل، والقدرة القاهرة، والسيطرة الكاملة؛ ولذا قال سبحانه:(5/2522)
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).
المفاتح جمع مِفْتح، وهو المفتاح فيقال مفتح ومفتاح بمعنى واحد، وقيل من بعض النحويين: إن مفاتح جمع مفتاح، إذ يجوز نحويا حذف الياء، كما يقال في محاريب جمع محراب، محارب بحذف الياء، وهناك قراءة، (وعنده مفاتيح الغيب) والمعنى واحد في القراءتين، وقال بعض المفسرين: إن المراد خزائن الغيب أي الأسرار المكنونة في علم الله تعالى.
والأكثرون على المفازح هي جمع مفتاح، وهو ما يتوصل به إلى ما يكون بداخل الشيء، فمعنى قوله تعالى: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ) لَا يتوصل إلى غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول، فإنه يعطيه غيبا بما اختزنه في علمه المكنون إن أراد وبمقدار يقدر حسب المصلحة والحكمة كما أعطى عيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهما.
والغيب ما غيب واستتر، والكلام فيه استعارة تمثيلية تشبه بحال علم الله بالغيب واستتاره عن الناس - إلا من أراده - بحال من يكون معه مفاتيح خزانة لا يصل إلى ما فيها سواه، وقد تأكد علم الله تعالى بالغيب وحده، وأنه لَا يعلم أحد إلا من جانبه، بأمرين: أولهما - التقديم، فقال سبحانه: (وَعِندَهُ) بتقديم(5/2522)
الظرف للقصر، الأمر الثاني - بالقصر الصريح، بنفي العلم عن غيره وإثباته له وحده إذ قال سبحانه: (لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)، ثم بين دقة علمه بالمغيب وعمومه، فقال تعالت كلماته: (وَيَعْلَمُ مَا فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي أنه سبحانه يعلم ما في البر من حيوان يدب، وطائر يطير، وكهرباء، وفضاء، وحرارة ونظم كونية رتبها سبحانه وسخرها لابن الأرض، حتى وصل إلى جوف الفضاء وارتقى إلى الكواكب والنجوم، كما علمهن على ظهر الأرض، ولذلك عبر سبحانه وتعالى بالبر، ولم يعبر بالأرض، ليشمل التعبير الأرض، وما فوقها، وما بينها وبين السماء من فروج، ويعلم سبحانه أحياء البر، وكيف يكونون، لأنه خالقهم، وذلك تقدير العزيز العليم.
ويعلم ما في البحار من أسماك وجواهر ولآلئ، والجاريات المنشآت في البحر، وفي البحر عالم، ولسير البحار نظم، ولاستعمالها قوانين نظمها بإرادته الحكيمة رب العالمين، وخالق السماء والماء، وكلها مسخر للإنسان، يستعملها في العمارة والبناء، وفي التخريب والفساد، وكل ذلك بتمكين الله تعالى: (. . . لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا. . .).
(وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ).
هذا نوع تفصيل بعد إجمال، وقد اختير ما يكون ظاهره تحت أنظار الناس، وأسراره في علم الله تعالى العليم الخبير اللطيف البصير، وقد ابتدأ بالأوراق التي تسقط، فقال سبحانه: (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) و (من) هنا الدالة على عموم العلم، وعلم الله ليس كعلمنا الظاهر المبني على البصر، إنما علمه هو العلم بأصل تكوينها، وسير نموها، فهو يعلم الأشجار التي علقت بها كيف غرست، وكيف كونت، وكيف نمت جذورها وتفرعت فروعها وتهدلت أغصانها، وكيف تكونت أوراقها، وأندت بالحياة حتى اخضرت وازدهرت، ثم كيف جفت وسقطت فذلك بعض علم الله تعالى، وهو علم بغيبها، ولا يعلم ذلك العلم سواه؛ لأنه(5/2523)
هو الذي برأها، ونماها وربَّها، وفي الجملة هو الكامل العلم بالغروس والأشجار، ثم ذكر من بعد ذلك علمه الكامل بالزروع، فقال: (وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ) أي يعلم حال الحبة التي تلقى في جوف الأرض، وهو ظلماتها، وعبر عن داخل الأرض بظلمات وهو ظلمة واحدة؛ لأنه ظلمة متكاثفة متكاثرة بسبب جهل الإنسان ما يجري في باطنها من أسباب لَا يدركها الإنسان إلا بعد أن تظهر، فهو لا يعرف كيف ينتفع من الماء، وكيف تمد بالغذاء من أرض صالحة، وسماد مخصب، وكيف تتنوع في نموها، وهي تسير السير الفطري الذي سنه الله سبحانه وتعالى، أي أكد أن الله وحده هو الذي يعرف كيف يتكون من الحبة نبات يستوي على سوقه وكيف يشتد ويغلظ سوقه ليعجب الزراع.
فالنص الكريم جمع فيه تكوين الأشجار والغروس، وتكوين الزروع والحب، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ فَالِق الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ. . .)، وبعد أن بين سبحانه علمه بإنشاء الغروس والزرع بين سبحانه وتعالى علمه الكامل بثمرات الغروس والنباتات في ضمن علمه الكامل بالرطب واليابس، فقال تعالى: (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) وتفسير العلماء للرطب يتجه إلى اتجاهين: أولهما - تفسير الرطب واليابس بما يناسب الورق والحبة، وهو ما يكون ثمرًا. للأشجار رطبا أو جافا من عموم الثمار كالموز والتفاح، والقصب، وغير ذلك، وفيه توجيه للنعمة التي أنعم الله بها على عباده فوق إحاطة علمه، وقدرته في التكوين والإبداع.
وبعض المفسرين يرى أن الرطب واليابس في كل الوجود، فهو يعلم اللين والجامد في كل شيء، فهو يعلم ما في باطن الأرض من فلزات ومعادن كريمة، ومعادن سائلة، وما يكون في باطن الأرض من أحجار نباتية وغير نباتية وسائلة وجامدة.
وإني أرى ذلك الرأي وأختاره ليكون ذلك تقريبا لأكبر قدر من النعم التي أنعم الله تعالى بها على عباده.(5/2524)
ويقول سبحانه مؤكدا تمام العلم الذي لَا يغيب عنه شيء: (إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) أي أنه ثابت لَا تغيير فيه ولا تبديل فهو عالم بكل شيء علما ثابتا كالمكتوب البين المسجل في كتاب واضح، لَا يخفى منه خافية، وعلى ذلك فكونه في كتابه مبين موضح، وواضح هو في ذاته كناية عن الثبات والاستقرار لمعنى العلم المؤكد، وقال بعض المفسرين: إن ذلك الكتاب هو اللوح المحفوظ المشتمل على علم الله تعالى المكنون في الغيب.
وبعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى تمام علمه بالأشياء أشار إلى قدرته سبحانه وتعالى، وعلمه بالإنسان، وما يكون منه، فالله يعلم بما يسر، وما يظهر، فهو سبحانه يعلم ما ظهر وما بطن، ويعلم السر وأخفى، ولذا قال تعالى من بعد:
* * *(5/2525)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ... (60)
* * *
الضمير يعود على الله تعالى ذي الجلال، وهو سبحانه الذي يتوفاكم بالليل، والمراد إنامتكم، ولم يعبر بتسكنوا في الليل وهو يتضمن معنى النوم، لأن السياق لبيان قدرة الله تعالى، وسلطانه عليهم، وكونهم في قبضة يده، وأنه يحصي عليهم أعمالهم، فكان التعبير بالوفاة عنه أنسب، والنوم يعتبر من قبيل الوفاة، كما قال تعالى: (اللَّهُ يتَوفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مسْمًّى. . .).
فالموت الأكبر هو قضاء النحب، والموت الأصغر هو النوم، ولقد شبه النبي - صلى الله عليه وسلم - عند إنذار عشيرته بأمر ربه: " والله لتموتن كما تنامون ولتبعثن كما تستيقظون وإنها لجنة أبدا، أو لنار أبدا " (1).
وقوله: (وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ) الجَرْح هو إصابة الأعضاء والأجسام بما يدميها، ويطلق على الكسب، والمراد هنا الكسب خبيثا أو طيبا، وسميت سباع
________
(1) رواه ابن عساكر ج 2، وذكره القرطبي بلفظ " كما تنامون فكذلك تموتون وكما توقظون فكذلك تبعثون " ج 8 ص 5705.(5/2525)
البهائم جوارح، لأنها تجرح، وتكسب قُوتها بجراحتها، وسميت الأعضاء العاملة في جسم الإنسان جوارح، لأنها هي التي تكسب، وهي التي تجرح، والمراد - والله تعالى أعلم - أن الله تعالى يعلم ما جرح الناس بالنهار، فيعلم خفايا نياتهم في أعمالهم، ويعلم ما يكسبون من خير وشر، ويعلم ما يخفون وما يبدون، وفي ذلك إنذار وتبشير فهو إنذار لمن يكتسبون الشر، وتبشير لمن يكسبون الخير، وأحسب أن استعمال (جَرَحْتم) الذوق البياني يجعلها أقرب إلى استعمال الشر، ولكن الأولى هو التعميم، والله سبحانه وتعالى أعلم بالمراد.
وقوله تعالى: (ثُمَّ يَيْعَثُكُمْ فِيهِ) الضمير يعود إلى النهار، ويكون الكلام متصلا بالتوفي بالليل، فالسياق يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم في النهار بعد الليل، ولذلك قال الشوكاني في تفسيره: إن الضمير يعود إلى الليل، لابتداء النهار والمؤدى واحد، وإن كان ثمة اختلاف في توجيه السياق والإعراب، وكان التعبير بـ " ثم " لتفاوت ما بين مظهر الليل ومظهر النهار، والتفاوت ما بين أعمال النهار وأعمال الليل.
إن تداول الليل والنهار مستمر، فليل يعقبه نهار، ونهار يعقبه ليل لنهاية واحدة، وهو قضاء أجل مسمًّى عند الله تعالى، وإن كان لَا يعلمه إلا الله تعالى لأنه سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34).
(لِيُقْضَى أَجَلٌ مسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ). إنه بعد أن يقضى الأجل المسمى، يكون المرجع إلى الله وحده، فلا سلطان لغيره، ولا يرجع إلى أحد سواه، ودل على هذا القصر تقديم الجار والمجرور، فإنه دل على القصر، والتعبير بـ " ثم "، لأن هناك تفاوتا زمنيا، بمقتضى الأجل المسمى الذي يطول ويقصر، ولتفاوت ما بين ما يكون في الحياة الدنيا من لهو وعبث وتفاخر، وتقوى أحيانا، ثم قال(5/2526)
سبحانه: (ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) والتعبير بـ " ثم " أيضا لتفاوت ما بين الحياتين، وليتبين الإخبار بالعمل العظيم، وإخبار الله تعالى بما كانوا يعملون يتضمن أمرين: أولهما - أن العمل يكون مبينا لهم كأنه حاضر أمامهم يشاهد ويبصر، لَا يخفى منه شيء صغيرا أو كبيرا. وثانيهما - الجزاء عليه وسمي جزاء عمل العامل عملا له؛ لأن الجزاء عادل مساوٍ لاستحقاقه كأنه هو، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
وبعد أن بين سبحانه بكل شيء، وبكل إنسان، وأن لكل جزاءه على قدر عمله. بين قدرته القاهرة، فقال تعالى:
* * *(5/2527)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
* * *
هذه تبين قدرة الله تعالى، وكمال سلطانه على كل شيء، فهو سبحانه وتعالى قد قهر له كل شيء وذل، ولا يخرج عن سلطانه أحد، وكل شيء في سلطانه وفي إرادته لَا يقع شيء في الكون، ولا يخرج دون أمره، وقوله تعالى (فَوْقَ عِبَادِهِ) كناية عن علو إرادته ولا إرادة لمخلوق فوق إرادته، أو يقال إنها استعارة تمثيلية فيها تصوير علو الله تعالى على كل شيء في الوجود سلطانا وتذليلا بمن يكون فوق كل شيء حسا، وفي الحقيقة ذلك مجاز مشهور لَا يحتاج إلى تقدير تشبيه أو نحوه، كقولنا: الأمير فوق رؤسائه، أو فوق رعيته، وقد انحرف انحرافا كبيرا الذين قالوا: إن ثمة فوقية حسية، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وإنه من قهره وسلطانه، وكونه فوق الكل أرسل على الناس حفظة، والتعبير بـ (أرسل) لتناسق الكلام إذ إن الذي يسيطر على كل شيء وفوق كل شيء يناسبه فيمن يسخره من خلقه على خلقه أن يكون بـ (أرسل)، و (حفظة) جمع حافظ.
مثل كتبة جمع كاتب، وسفرة جمع سافر، وهؤلاء الحفظة يحفظون العباد، ويحوطونهم، ويكتبون ما يكون منهم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.(5/2527)
ولقد ذكر سبحانه هذا المعنى في عدة آيات: من كتابه، فقد قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ)، وقال تعالى: (لَهُ مُعَقبَاتٌ
مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ. . .)، وقال تعالى: (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18).
وإن هذه الرقابة والمحافظة لأولئك تستمر، حتى الوفاة؛ ولذا قال تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا) " حتي " هنا للغاية، والمعنى تستمر هذه
الحال حتى يجيء أحدهم الموت، وعبر بالماضي لتحقق المجيء مثل قوله تعالى:
(أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ. . .)، أو تكون حتى تفريعية أي إن تلك الرقابة لأجل الحساب كما يدل الكلام، وقوله - تعالى: (تَوَفَتْهُ رُسُلُنَا) أي ملك الموت ومن معه، وهنا يلاحظ أن ذكر مجيء الموت قدم على ذكر الوفاة، والمراد من مجيء الموت تقدير نهاية الأجل؛ ولذلك عبر بـ (أَحَدَكُمُ) ولم يقل، حتى إذا ماتوا؛ والوفاة قد جاءت بعد الإحصاء الدقيق من الحفظة؛ ولذلك قال من بعد ذلك: (وَهُمْ لَا يُفَرِّطونَ) أي لَا يهملون، ولا يتركون شيئًا مما فعل، بل كل ما عمل مهيأ له يجده حاضرا بعد وفاته.
* * *(5/2528)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
* * *
وإنه بعد أن يموتوا يردون إلى الله تعالى معروضة أعمالهم محصاة إحصاء دقيقا يردون إلى الله تعالى مولاهم الحق، وفي هذا النص بضعة مباحث نشير إليها ففيها تقريب لمعنى النص الكريم.
أولها - التعبير بـ " ثم "، والتراخي هنا لبيان مكانة الحساب والرد على الله تعالى؛ لأن الالتقاء بحساب الله أمر ذو خطر عظيم لما كانوا يفعلون غير متوقعين بعد ذلك من وقائع تزلزل قلوب الفاسقين، وتطمئن لها قلوب المؤمنين.
وثانيها - أنه عبر عن الرد للحساب بالرد لله تعالى ذي الجلال، وذلك يشير إلى خطورة الأمر، ودقة الموقف، وجلال الحساب.(5/2528)
وثالثها - أن الله تعالى عبَّر عن ذاته الكريمة، أنه مولاهم الحق، أي ذو الولاية الحق، فلا ولاية لمن اتخذوهم أولياء، بل إنهم ينسونهم، وينكرونهم، كما قال تعالى: (هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ. . .)، و (الحق) يصح أن نقول إنها وصف لمولاهم، أي هو الولي الحق الذي لَا يصدق على غيره أنه ولي قط، أو نقول إنها بالحق الثابت وبالعدل الذي لَا يظلم ربك فيه أحدا.
وقوله تعالى: (أَلا لَهُ الْحُكْمُ)، " ألا " فيه للتنبيه وتقديمه له على الحكم للإشارة إلى أنه وجد له الحكم، ولا حكم لأحد سواه فليترقبوا جزاء ما عملوا، والحساب قائم ومؤكد؛ ولذا قال من بعد: (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) أي أنه لَا يوجد حاسب في سرعة حسابه وهذا يؤكد الحساب وما يترتب عليه من ثواب وعقاب، وإنها لجنة أبدا أو لنار أبدا (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِر أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ. . .). ويثبت أن حساب الله سريع؛ لأن الله يعلم كل شيء قبل أن يقدموا عليه إن الله بكل شيء عليم.
* * *
(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
* * *(5/2529)
فى الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى عموم علمه، ما خفي منه وما ظهر، وما جدَّ وما يجد، حتى إن الورقة تسقط يعلمها، والحبة تنبت فتكون في علمه بكونها وحالها، يعلم الرطب واليابس من الثمرات، وهو الذي نظم الوجود بمقتضى هذا العلم المحيط، هو الذي يعلم الوفاة بالليل، والصحو بعد، وما يكسب بالنهار من خير نافع، وشر ضار، وأنه المسيطر على كل شيء، وأن المرجع والمآب إليه، وعنده الحساب السريع، والحكم العادل.
وفى هذه الآيات، يبين نعم الله تعالى عليهم، إن ادلهمت بهم كارثة يضرعون إليه، وبين أنه إذ كان هو وحده الملجأ عند الكارثة تكرثهم فهو القادر على أن ينزل بهم البأساء والضراء، ومع هذه النعم السالفة، ومظاهر القدرة الباهرة يكذبون بالحق إذ جاءهم، وأنباء الرسالة ثابتة مستقرة لَا تتخلف، وأنه إذا كان الناس فيهم أطهار وأشرار، فعلى الأطهار ألا يخوضوا في فتن الأشرار، وقد ابتدأ سبحانه بقوله:(5/2530)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63)
(قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضرُّعًا وَخُفْيَةً).
كان المشركون يعرفون الله سبحانه وتعالى، ولكن لَا يؤمنون به، ولا يخصونه بالعبادة بل يشركون معه الأوثان، ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وكذلك أكثر الوثنيين، يعرفون أن قوة خفية تسير الوجود، ولكنهم يعبدون أشياء حسية يحسبون أن روح الألوهية تحل فيها، وهم في غيهم يعمهون.
فلا عجب، إذا كان المشركون عندما تشتد بهم الشديدة لَا يتجهون إلا إلى خالق الكون ومنشئه ومسيره والقيوم عليه سبحانه وتعالى، ولقد أمر الله تعالى الرسول الكريم أن يوجه أنظارهم إلى أنه لَا يذكر في الشديدة إلا الله سبحانه وتعالى، وأنهم يذكرونه حيث تكون الكريهة، وحيث يكون الخطر، فأمره بأن يوجه إليهم الاستفهام ليقروا بهذه الحقيقة: (قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) والاستفهام إنكاري تقريري بمعنى لَا أحد ينجيكم من ظلمات البر والبحر، وأنتم(5/2530)
تقرون بذلك إذ تدعونه تضرعا وخفية، فلا تلجأون لغيره ولا تجدون منجاة إلا من عنده، والظلمة هنا الشدة، فهي مجاز، شبهت فيه الشدة والكرب بالظلمة؛ لأن النفس فيها تتحير، ولده فتبلس، فتكون كأنها لَا ترى ولا تعرف وجه الخروج؛ ولذلك يقال لليوم الشديد الذي يملؤه الكرب: يوم مظلم، ويقولون: نهار ذو كواكب، أي أنه لشدته يكون كأنه ليل ترى فيه الكواكب، وفي شدائد البر والبحر تكون غمة حقيقية، فقد يكون غيم شديد، لَا رؤية فيه، أو ريح عاصف وإعصار، وقد يكون الخسف الذي يلقي في ظلمات الأرض، وقد يكون اصطخاب الأمواج بالأذى، وهكذا فتجتمع ظلمة الشدة، والظلمة الحقيقية وقد تكون الشدة حيرة، يضلون فيها الطريق فتبتلعهم الصحراء، أو تكون إذا ركبوا البحر، فضلت فيه المحجة (1)، أو ألقتهم الريح لَا يهتدون ولا يجدون النجاة، فكل هذه ظلمات متكاثفة.
وإن حالهم أنهم لَا يلجأون إلا إليه ولذا قال سبحانه عنهم: (تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً) أي أنكم في حال الشدة، تتجهون إليه سبحانه وتعالى بقلوبكم ونفوسكم، ولا تجدون ملجأ منه إلا إليه، ويظهر ذلك الالتجاء القلبي ضراعة وتذللا يجري على ألسنتكم ولا تجدون سبيلا للامتناع عن الجهر بالضراعة والتذلل لله تعالى، وتسليم الوجه له، فالتضرع دعاء الله تعالى مستسلمين له جهرا، والخفية خنوع النفس، واتجاهها قلبيا إليه سبحانه، وقد صور الله تعالى ضراعتهم، بقوله: (لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ).
هذا قسم يقسمونه، ويؤكدون به ما هم عليه من الالتجاء إلى الله؛ ولذلك كان التوكيد بالنون الثقيلة وباللام، وموقع هذه الجملة مما قبلها أنها تفسير للضراعة التي جهروا بها أو هي تفسير بمعنى (تدعون) فهم يدعون الله تعالى، بمعنى أنهم في سريرة أنفسهم وضراعة قولهم، يقسمون بأن الله تعالى إن أنجاهم من هذه الكروب الكاربة، والشدائد الشديدة، ليشكرونه حق شكره، وشكر الله تعالى
________
(1) المَحَجَّةُ: الطريق.(5/2531)
بالعبادة، وتخصيصه بها؛ لأنهم إن أشركوا معه غيره في العبادة لَا يعدون عابدين؛ إذ إنه حيث أفرد بالالتجاء، لَا يتصور إلا أن يفرد سبحانه وتعالى بالعبادة.
ويصح أن يكون قوله تعالى عنهم: (لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) مقولا لقول محذوف تقديره قائلين لئن أنجيتنا من هذه.
ومع أنهم وعدوا بالشكر أي إخلاص العبادة لله تعالى، فهل وفوا بذلك؟ إنهم لم يفوا؛ إذ إنها حال إذعان في الشدة، فإذا نجوا عاد إليهم جحودهم، وغرتهم أنفسهم وأمانيهم.
* * *(5/2532)
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
(قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
* * *
أمر الله تعالى نبيه الكريم أن يبين لهم أن الله تعالى مستجيب لضراعتهم عند تضرعهم، والتجائهم إليه خفية، ووعدهم بأن يخلصوا عبادتهم لله ويشكروه على نعمائه المتضافرة المتكاثرة الحي نعيش في ظلها دائما، وإن كان تعالت حكمته يعلم أنهم غير موفين لعهدهم وأنهم ناكثون في أيمانهم، كما حكى سبحانه وتعالى عن طبيعة الإنسانية المنحرفة، إذ قال تعالت كطماته: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ. . .).
وإن الله تعالى بين أنه لَا ينجيهم مما يعرض لهم من شدائد من خارجهم، وما لَا قبل لهم به وحسب، بل ينجيهم من ذلك، وينجيهم من الكروب الحي تعتري نفوسهم من ضراء تنزل بهم، أو مرض يحل بأجسامهم، ومن كل شيء يكربهم ويلقي غمة النفس عليهم، ولذلك قال سبحانه: (وَمِن كُلِّ كَرْبٍ). ولقد فسر الأصفهاني في مفرداته الكرب فقال: الكرب الغم الشديد (. . . فَنَجًّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ)، والكربة كالغمة. وأصل ذلك من كرب الأرض وهو قلبها بالحفر، فالغم يثير النفس إثارة، ويصح أن يكون ذلك من كربت(5/2532)
الشمس، أي دنت للمغيب، ويستفاد من هذا أن الكرب غمة شديدة تصيب الإنسان من أمر نفسي يثير النفس، ويجعلها في قلق وحيرة واضطراب نفسي، ويقيم عليها، كمرض عزيز أو موته، أو ضرر أو فقد مال أو خسارة في تجارة، فالله تعالى هو المنجي منه، وبهذا تبين أن الله تعالى هو الذي ينجي خلقه من كل شيء، فهو القائم على كل شيء، ومع هذا الخير العميم، ومع استجابة الله تعالى لضراعتهم، والتجائهم إليه، وإنجائه لهم بالفعل بعد أقسموا إن نجاهم يشكرونه أي يعبدونه وحده؛ لأنه الذي أنجاهم، وخلصهم مما هم فيه، مع هذا بمجرد أن يعودوا إلى الاطمئنان والاستقرار يشركون، ويحنثون في أيمانهم، ويعودون إلى ما كانوا عليه، بل إنهم يستمرون في غيهم يعمهون، وإنه كما قال بعض المفسرين: الأصل في السياق أن تكون حالهم حال من لَا يشرك، فكان مقتضى الضراعة أن ينفي الله شركهم بعد قسمهم على الشكر والعبادة، ولكن عاد إليهم جحودهم؛ ولذا قال سبحانه: (ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ) أي أن إذعانهم العارض لم يكن ساكنا في نفوسهم، بل هو أمر عارض، بسبب يزول بزوانه، ولم يكن إذعان الذين خلصوا بنفوسهم، ويلاحظ بعد إشارات بيانية:
أولها - التعبير بـ " ثم " ففيه إشارة إلى التفاوت الكبير بين حال ضراعتهم، وحال كفرهم، أو بعبارة أدق استمرار حالهم.
الثانية - أنه سبحانه عبر بالجملة الاسمية، وذلك تأكيد لشركهم الذي كان نقيض شكرهم الذي وعدوا به ونكثوا في وعدهم.
الثالثة - أنه عبر بالفعل المضارع الذي يصور حالهم ويدل على استمرارهم.
وبعد أن بين سبحانه وتعالى كمال سلطانه في النعم يمنحها ليرغبوا في الإيمان والإذعان، ذكر سبحانه قوته في القهر والعذاب.
* * *(5/2533)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
(قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ... (65)
* * *
بعد بيان قدرته على كشف الكروب بين سبحانه وتعالى قدرته على إنزال الشدائد؛ جزاءً لهم بما كسبت أيديهم، فهو كاشف الضر، وهو منزل العذاب، كل يسير على مقتضى حكمته، وعلى ما يصلح به الإنسان، ويستقيم عليه أمر العالم كما قدر رب العالمين: (. . . وَكلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ).
وقبل أن نتكلم في معنى القدرة القاهرة، نذكر كلمة في ناحية بيانية، وهو لماذا أمر الله تعالى نبيه في التنبيه إلى ضعفهم، وقدرته سبحانه وتعالى، وصدر الكلام بكلمة (قُلْ) في بيان ضعفهم، واستجابته لضراعتهم، واستعلائه بقدرته عليهم؟ ونقول في الإجابة عن ذلك فيما يبدو: إن تصدير الكلام بـ " قل " فيه تنبيه؛ فضل تنبيه، وفيه بيان مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه هو الصلة بينهم وبين ربهم، وأنه المبعوث إليهم من قبله، وأنه هو الذي يخاطبهم عنه سبحانه في كشف الضر عنهم، ورفع الغمة إن نزلت بهم، وهو منذرهم بالعذاب الشديد.
والخطاب هنا لمن؟ أهو للمشركين فقط الذين وعدوا بالشكر ثم أشركوا؛ أم هو خطاب للناس أجمعين؛ ظاهر السياق هو الأول لأنه الخطاب، ولكن موضوع الخطاب يعم، ولا يخص المشركين، ولأن مفسري السلف والآثار الواردة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تومئ إلى أن المؤمنين يدخلون في عموم الخطاب، وإنا نميل إلى هذا العموم.
والنص الكريم يفيد عموم العقاب؛ لأن العذاب الذي ينزل من فوق يعم الجميع، كذلك العذاب الذي يجيء من تحت الأرجل يجيء عاما لَا خاصا، فإذا كانت صواعق، أو إعصار شديد وصواعق، أو سيل عارم كل هذا يعم ولا يخص، وكذلك الخسف الذي تمور به الأرض مورا، والزلازل المدمرة، والبراكين الحارقة كل هذا يعم ولا يخص ينزل بالمؤمنين مع الكافرين، وقد عبر الله سبحانه وتعالى عن هذه الأمور بعبارتين جديرتين بالنظر فيهما:(5/2534)
أولاهما - التعبير بـ (يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ). فإن البعث معناه الإثارة، وعبر بيبعث للإشارة إلى أن الله تعالى هو الذي يثير عليهم ذلك العذاب وعبر بـ (يبعث) بدل ينزل عليهم، لأن البعث والإثارة تعني أن النزول يكون من علٍ، ولأن البعث والإثارة فيهما معنى الإيجاد لَا ليس بموجود.
ثانيتهما - التعبير عن ذلك بكلمة (عَذَابًا) ففيها الإشارة إلى أنه في معنى الجزاء على بنيان واقع، أو أن الذين نزل بهم أكثرهم يستحقون، وهو على أية حال أمر مقصود، وقد أشار الله تعالى في آيات أخرى إلى أن الكوارث قد تكون عقابا على ذنوب سلفت، أو طغيان استحكم كقوله تعالى فيمن ينفقون من غير إيمان: (مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117).
ومثل قوله فيما نزل بقارون وداره في حال طغيانه: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76).
إلى أن قال سبحانه عنه: (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81).
فدلت هذه النصوص على أن الله تعالى ينزل عذابا كونيا، لغرور أو طغيان أو فسق عن أمر ربهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أنواعًا ثلاثة من العذاب الذي يبعثه:
الأول والثاني أن يبعث عذابا من فوق أو من تحت، (أَن يَيْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ).(5/2535)
ومعنى العذاب الذي ينزل من فوق، أطلقه الكثيرون من العلماء على ما ينزل من السماء؛ ببعث وإثارة من الله من صواعق وإعصار وريح فيها صرٌّ، وحاصب من السماء، وحجارة من سجيل تجعلهم كعصف مأكول، وغير ذلك مما ينزل الله من علٍ، والعذاب الذي يكون من تحت الأرجل مما يكون من الأرض التي يفترشونها من خسف في الأرض وميد فيها، وبراكين وزلازل، وغير ذلك من آفات الأرض التي تقرض الزرع.
وعبر عما يجيء من الأرض بقوله تعالى: (مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) وذلك للإشارة إلى قربه الشديد منهم، وإلى أنه يكون في مقام استقرارهم، فيكون ميد الأرض من تحت أقدامهم حيث هم مستقرون فيها، وللإشارة إلى أنهم أول من يصابون بهذا العذاب، ولا منجاة منه، إلا أن يكون لله تعالى في منجاتهم إرادة.
وروي عن ابن عباس أنه فسر العذاب من فوقهم بفوقية معنوية، وهم الأئمة المفسدون، والحاكمون العابثون، ومن هم تحت أرجلهم بالرعاع الأقربين يهرفون بما لا يعرفون ويتبعون كل ناعق يدعو إلى هواه ويقفون على ما يريد (1)، فعلى هذا النظر تكون الفوقية والتحتية ليست حسية، وإن لذلك الكلام وجها من الحقيقة، فإن أشد ما تصاب به الأمم أن تتحكم فيهم أئمة الفساد، وأن يجدوا تابعا من الذين لَا يعرفون كيف يرادون، أعلى الخير أم على الشر، وعلى ورد الماء العذب الذي يسقي النفوس، أم على مناقع الأوباء الخلقية والاجتماعية، فإن ذلك يفني الأمم في وحدتها واجتماعها، وإن تخريب السماء وتخريب الأرض يسرع تعويضه، وإقامة بديل له، أما تخريب النفوس وإشاعة الرذيلة فلكي تخرج الأمة
________
(1) روى ابن جرير الطبري في جامع البيان - ج 7، ص 141، أن ابن عباس كان يقول في هذه: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) فأما العذاب من فوقكم: فأئمة السوء. وأما العذاب من تحت أرجلكم: فخدم السوء.(5/2536)
منه لَا بد من تبديل الأقوام وتغيير واستبدال نفوس بنفوس، وذلك يحتاج إلى زمن طويل: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يغَيِّروا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ دسُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ).
وإني أرى أن العذاب الذي ينزل من فوق، والذي يجيء من تحت الأرجل، كلا الأمرين يشمل الحسي، ويشمل المعنوي بولاة السوء، وتحكم السفلة ومن لا يفقهون، ويتبعون كل ناعق، ولا يميزون بين الخبيث وغيره، لَا على أن ذلك من الجمع بين الحقيقة والمجاز، بل على أن ذلك تفسير لكلمة العذاب، بما يعم ولا يخص حسيا أو معنويا.
والنوع الثالث من العذاب الذي تصاب به الأمم، وهو الداء العضال الذي أصاب أهل الإسلام، هو التفرق والتباين (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأسَ بَعْضٍ).
هذا عذاب للأمم، يحل وحدتها، وينثر جمعها، وهو أشد أنواع العذاب، عندما يتفاقم، ويكون الهوى المتبع، والشح المطاع وإعجاب كل امرئٍ وكل جماعة بنفسها وطريقتها (. . . كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحونَ)، فعندئذ تنفك العرا، وتنحل الأواصر، ويقوم المنكر، ويذهب المعروف، ولا سماع لصوت الحق.
و (يلبسكم) المذكورة في الآية من لبَس بفتح الباء يلبس، وهي تتضمن معاني ثلاثة: أولها - الستر، فالحقائق تستر عمن يُلَبَّس عليه، فلا يراها، وثانيها - الخلط، فيختلط الحق بالباطل، والذين يقعون في هذا اللبس (يلبسون الحق بالباطل) فلا يكون وضوح يفرق بين الحق والباطل، وثالثها - وجود غشاوة على القلوب تحجب عنها بسبب التعصب لما يعتقده، فيزين له سوء عمله، فيراه حسنا، ويرين على قلبه فلا يدرك.(5/2537)
وقوله تعالى: (يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا) شيَع هنا حال، أي يخلطكم حال تشيع جماعتكم، فتكون كل جماعة شيعة قائمة بذاتها منفصلة عن سواها - وأصل كلمة شيعة من شيعت النار بالحطب: قويتها، فالشيعة من يتقوى بها في حدة وحرارة، وينتشرون عنها منادين بها، وقد تستعمل في معنى التجمع للخير، كما في قوله تعالى: (وَإِنَّ مِن شيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ)، وقوله (. . . هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ. . .)، ولكن كثيرًا ما تكون في التشيع لغير الحق، وما يكون فيه تعصب شديد فتكون كأنها وقود يقوي النيران؛ نيران الحقد والحسد والبغضاء.
ومعنى الجملة السامية (يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا) أنه سبحانه يخلطكم، وتلتبس الأمور، ولا تميزون بين الخبيث والطيب، وتكونون قوما بورا، وذلك الضلال يصحبه انقسامكم شيعا متفرقين توقد بينكم نيران البغضاء والعداوة، وتفترقون فيما بينكم، فلا تكونون أمة واحدة تجمعها وحدة جامعة، ولكن تكون طرائق متفرقة، وأخلاطا غير متجانسة ولا متمازجة.
ولا تكون العلاقة فيها مودة واصلة ورحمة عاطفة، بل تكون العداوة المستحكمة، كل شيعة تتربص بالأخرى الدوائر في غير هوادة، ولا نفوس قارة، بل في نفوس فاترة، وهذا مؤدى قوله تعالى: (وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأسَ بَعْض) أي تكون العلاقة أن يذوق كل جماعة شدة الجماعة الأخرى، أي يكون بأسهم بينهم شديدا، فقوتهم تكون على أنفسهم، ولا تكون على غيرهم، وعبر سبحانه عن البغضاء والعداوة بأن يذيق بعضهم بأس بعض، وذلك تصوير بياني يشبه الإصابة بالبأس بذوقه واستطعامه للإشارة إلى أنهم يستطعمون العداوة بينهم، ويستطيبون البأس الشديد الذي يحكمهم كمن يستطيب طعاما شهيا، وذلك ينبئ عن فساد أمرهم، واضطراب حالهم، وقلب طباعهم، حتى إنهم يستمرئون العداوة كأنها طعام مريء.(5/2538)
إن كل بلاء يهون إلا بلاء التشيع، وقد ابتلى الله تعالى به أهل الإيمان، روت الصحاح بآثار متضافرة أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ستبتلى بهذا البلاء (1). روى ابن جرير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله زوى لي الأرض، حتى رأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها، وإني أعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربى ألا يهلك قومي بسنة عامة (أي بأزمة وجوع) وألا يلبسهم شيعا، ولا يذيق بعضهم بأس بعض، فقال: يا محمد: إني إذا قضيت قضاء فإنه لَا يرد، وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدوا ممن سواهم فيهلكوهم بعامة، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، وبعضهم يقتل بعضا وبعضهم يسبي بعضا " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إني أخاف على أمتي الأئمة الضالين، فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة " (2). اللهم إن هذه دلائل، قد رأيناها، وأضلنا الضالون من الأئمة، حتى صار بعضنا يأكل بعضا، اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، وأجرنا من شر ذنوبنا، وعواقب أعمالنا، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
(انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ).
يأمر الله تعالى نبيه بأن ينظر في تصريف الله تعالى آياته البينات، وهو توجيه لما في القرآن الكريم من توجيه حكيم، وإعجاز يتحدى به الإنسانية كلها، فالسورة كلها تصريف في التوجيه، وفي كل بيان جده، ألم تره نبه إلى علمه المحيط الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة فهو يعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين، وهو الذي يتوفى الأنفس حين موتها، والتي لم تمت في منامها، وهو
________
(1) من ذلك ما روى الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة الأنعام (3066) عَنْ سَعْدِ بْنِ أبِي وَقَاصم عَنْ النبى - صلى الله عليه وسلم - في هَذه الآيَة: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) فَقَالً النبِي - صلى الله عليه وسلم -: " أمَا إِنهَاً كَائنَةٌ وَلَمْ يَأتِ تأوِيلُهَا بَعْدُ " قَالَ أبُو عيسى: هَذَا حَديثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. كما رواه أحمد في مسند العشرة (1469).
(2) وروَاه مسلم: الفتن وأشراط الساعة - هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض (2889) بلفظ مقارب.(5/2539)
الذي يرد إليه الأمر كله، ثم بين أنه وحده الذي يلجأ إليه المشركون، إذا اشتدت الشديدة، وحلت الكريهة، وهو القادر على أن ينزل إليهم البلاء، ويذيقهم كئوس الاختبار.
هذا تصريف في القول المحكم الصادق ليدركوا الأمور على وجوهها بعد أن يوجهوا إليها، رجاء أن يفقهوا ويدركوأ، فالرجاء هنا في قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) هو في حالهم إذا كانوا يعتبرون، وفيما هو من شأن ذلك التصريف في القول الحكيم، ويفقهون معناها يدركون لب الحقائق، وتنفذ بصائرهم إليها، والله سبحانه هو الحكيم الخبير العليم.
* * *
(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أنه سبحانه وتعالى هو الذي يلجأ إليه عند الشدة، وأنهم يلجئون إليه ويدعونه تضرعا وخفية في ظلمات البر والبحر، وأنه هو وحده المنجي، ولا منجي سواه، وأنه سبحانه منزل الشدائد، وهم بعد زوال الغمة بدل أن يوفوا بعهودهم ويشكروا نعمة الله باختصاصه بالعبادة، كما اختص بالإنجاء والابتلاء - يشركون غيره ممن لَا يضر ولا ينفع، وفى هذه يقرر موقفهم من الحق، وخوضهم في أمره بالباطل مما يدل على أن(5/2540)
سبب ضلالهم أنهم لَا ينظرون في قضية العبادة نظرة جادة تتكافأ مع مقدار الجلال في الحقائق الدينية والمعاني الإلهية، ولذلك لَا تنافذ بصائرهم، ولا تهتدي قلوبهم، بل هم في غي دائم حتى يسترشدوا فيرشدوا ويطلبوا الحق فيهتدوا.(5/2541)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل).
مع هذا التصريف في بيان الآيات، بذكر النعمة التي يلجأون إلى طلبها دون سواه، وبيان القدرة الكاملة الشاملة، وبيان أنه الذي ينزل الابتلاء، والعذاب الدنيوي ليقيسوا عليه من بعد العذاب الأخروي، كذبت قريش قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبها مع قيام البينات الصادقة، ومع حالهم من الاستسلام، وطلب النجاة منه عند الشدة، يدل على إدراك ناقص أولا - لأنَّ مناقضة الشخص لحاله أو لبعض أحواله دليل على غفلته عن إدراك الحقائق كاملة، وعن نسيان الوقائع، ويدل أيضا على جحود مستحكم ومقاومة للحق مع قيام الأدلة، وشهادة الآيات، ويدل على تغلغل التقليد في نفوسهم، حتى إنه يضع على أعينهم غشاوة، وإن كان البصر قائما، فلهم أعين لَا يبصرون بها ولهم آذان لَا يسمعون بها.
وقال بعض المفسرين: إن قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - هم أمته الذين بعث فيهم لَا فرق بين عربي وأعجمي، ولا أبيض وأسود، ولا شرقي ولا غربي، فأولئك قومه - صلى الله عليه وسلم -.
ونحن نميل إلى ما عليه الجمهور من المفسرين، لأن الأمة أعم من القوم، في أصل الدلالة اللغوية، وإنما ذكر الله تعالى قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - من قريش، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حفيا بأن يؤمنوا حريصا على إيمانهم، حتى إنه عندما كان الأذى بشتى ضروبه، قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لَا يعلمون، وقال: " وإني لأرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله " (1)، وللإشارة إلى عموم الدعوة إلى هذه الدعوة، وإنه
________
(1) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ [ص:176]، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ". متفق عليه؛ البخاري: أحاديث الأنبياء - حديَث الغار (3477)، ومَسلم: الجَهاد والسير - غزوة أحد (1792). =(5/2541)
إن وجد من يرد دعوته من قومه، ويشددون في بلائه، فسيجد المستجيب من غيرهم، وإن الهداية قد تكون من خارج قومه (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء. . .).
قوله تعالى: (وَهُوَ الْحَقُّ) فيه إشارة إلى أنهم لَا دليل عندهم ولا موجب، لأنه الحق الثابت الذي قام الدليل عليه، وشهدت له البينات، وقام من أنفسهم دليل صدقه، فالواو ما يسمى في عرف النحويين واو الحال، أي أنى يكذبون ذلك التكذيب، والحال أنه حق ثابت، وذلك لشدة العناد، إذ إن الدليل قائم، والقربى بينك وبينهم ثابتة ومع ذلك جحدوا بها، وإن استيقنتها أنفسهم، ولست مسئولا عن كفرهم، وقد بينت وبلغت، وما عليك إلا البلاغ.
وإذا كان قومك يكذبون بالحق، وقد ظهرت دلائله، وبرقت بوارقه، فقل لهم إنك إذ بلغْت، وبينت، لست مسئولا عنهم، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيل) وأمره - صلى الله عليه وسلم - من قبل الله تعالى لتأكيد أن عليهم وحدهم تبعة تكذيبهم، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مهما تكن صلته بهم من قرابة ورحم موصولة من جانبه، لَا يتحمل تبعة ما يفعلون، بل كل امرئٍ بما كسب رهين، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وما على الرسول إلا البلاغ، والوكيل هنا المتكفل بأمورهم، الموكول إليه شئونهم الذي شملت كفالته عليكم، فليس بذي رقابة ومسئولية عنهم، وقد قال الراغب في معنى وكيل: وكيل فعيل بمعنى مفعول قال تعالى: (. . . وَكفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)، أي اكتف به أن يتولى أمرك، ويتوكل لك، وعلى هذا: (. . . حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ). (. . . وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكيلٍ)، أي بموكل عليهم، وحافظ لهم، كقوله تعالى: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23). وعلى هذا قوله تعالى: (قُل لَّسْتُ
________
= وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم. . . " فهو في حديث الأخشبين، وهو متفق عليه رواه البخاري: بدء الخلق - ذكر الملائكة (3231)، ومسلم: الجهاد والسير - ما لقى النبي - صلى الله عليه وسلم - (1795).(5/2542)
عَلَيْكُم بِوَكِيل) أي لست بموكل بكم حافظ عليكم لأحملكم على الجادة، بل عليّ التبليغ فقط، وأنتم مسئولون عما تكذبون وتقترفون؛ ولذا حملهم سبحانه التبعة، وأنه واقع بهم ما أنذرهم، وأن إخبارهم بما يكون في اليوم الآخر واقع لَا محالة.
* * *(5/2543)
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
* * *
النبأ هو الخبر العظيم الذي يكون ذا فائدة، وله واقع مصدق يفيد علما يقينيا، أو علما ظنيا، ولذلك بقال عن الأخبار المتواترة أنها أنباء، ومن ذلك قوله تعالى: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نوحِيهَا إِلَيْكَ. . .)، ومستقر هي مصدر مسمى بمعنى استقر، أو اسم زمان بمعنى زمان يستقر.
ومعنى الاستقرار مأخوذ من القرار بمعنى الثبوت والتحقق والوجود، فالمؤدى اللفظي للنص الكريم لكل خبر عظيم، بالإنذار أو التبشير؛ زمان يكون فيه، ويتحقق مضمونه، والمؤدى العام؛ أن أولئك الذين كذبوا بالحق لما جاءهم، قد جاءتهم الأنباء بالنذر، وجاءت المؤمنين الأنباء بما سيجدون من نعيم مقيم، وجنات عدن خالدين فيها، وإنه نبأ في الدنيا، أو في الحاضر، وتحققه ومستقره في القابل، وستجدون حقيقته ثابتة معلومة علم اليقين بالمشاهدة المحسوسة، وكذلك قال تعالى: (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي من المؤكد، أنكم ستعلمونه علم اليقين والاستقرار والوجود.
وقد يرد سؤال؛ أليس في ذكر القرآن الكريم وإنذار النبي - صلى الله عليه وسلم - ما فيه العلم اليقيني أو ما من شأنه تكوين العلم اليقيني؛ فلا علم أعلى منه، كما قال تعالى بعد هذه البينات: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ. . .)؟ والجواب عن ذلك أن العلم الذي قامت أسبابه بإنذار الله تعالى الصادق صدقا لَا يرتاب فيه عاقل هو علم الإخبار، أما العلم الذي يكون عند نزول العذاب، فهو علم المعاينة والمشاهدة، والنزول بهم، حيث لَا مجال للمراء، ولا للمباهتة والتكذيب. وقوله تعالى: (لِّكلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ) أهي منِ قول النبي - عليه الصلاة والسلام - المأمور به في قوله تعالى: (قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوكِيلٍ) ظاهر السياق أنها من مقول(5/2543)
النبي - عليه الصلاة والسلام - الذي أمر به، ويكون إجراء الإنذار على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه فضل من التشديد بسبب المواجهة والمخاطبة، وفوق ذلك له صلة بنفي أنه ليس وكيلا عليهم، فوضت أمورهم إليه، إنما التبعة عليهم وحدهم، ويصح أن يكون قوله تعالى: (لِكُلِّ نَبَإٍ). كلام من الله تعالى، ويكون حكما منه تعالى بما سيجري عليهم وكله من الله وإليه يعود.
* * *(5/2544)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
(وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ... (68)
* * *
كان المشركون الذين خاطبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى الوحدانية. بعد أن أنذر وبشر، وصدع بأمر ربه، يتخاطبون فيما بينهم، لَا يظلهم طلب الحق، ولا تدفعهم إرادة الحقيقة، وإنما يسود حديثهم اللجاجة في الجحود، ومعاندتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - واستهزائهم بضعاف المؤمنين، وتدبيرهم أساليب تعذيبهم، فحالهم ليست حال من يستمعون إلى الحق؛ إذ دعوة الذين يلجُّون في الخصومة والمعاندة تزيدهم تشديدا في موقفهم، وصم آذانهم، ولذلك لَا يكون من الخير تذكيرهم في هذه الحال الجاحدة لأنها تزيدهم إصرارا وجفاء وبعدا وعنادا.
والخوض أصل معناه في اللغة المرور في الماء، والشروع، والانغمار في موجاته، ثم استعمل في الانغمار في الأحاديث والأقوال باعتبارها تغطي الفكر، وتسيطر عليه كما يغطي الماء الخائض فيه. جاء في تفسير الشوكاني ما نصه: (الخطاب للنبي)، أو لكل من يصلح للخطاب، والخوض أصله في الماء ثم استعمل في غمرات الأشياء التي هي مجاهل تشبيها لغمرات الماء، فاستعير من المحسوس إلى المعقول، وقيل هو مأخوذ من الخلط وكل شيء خضته فقد خلطته، ومنه خاض الماء بالعسل وخلطه، والمعنى إذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والرد، والاستهزاء فدعهم، ولا تقعد معهم لسماع هذا المنكر العظيم، حتى يخوضوا في حديث مغاير!.
وإن جلوس النبي - صلى الله عليه وسلم - مع هؤلاء لَا يتصور أن يكون لمجرد المسامرة، ولكن لأجل رسالته. والدعوة في هذا الخوض المعاند، لَا تجدي كما ذكرنا، وإن الأمر(5/2544)
بالأعراض عنهم في حال العناد أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولخاصته المؤمنين، وعامتهم، فعلى المؤمنين ألا يغشوا مجالس المبتدعة في أثناء تقرير ابتداعهم، وإعلان انحرافهم، فإنه لَا جدوى في إرشادهم وهم في هذه الحال، وأن المؤمنين معرضون بكثرة الجدل معهم لأن تسري إليهم عدوى تفكيرهم، فإن الأفكار الفاسدة تُعدي كما تُعدي الأجسام المريضة الفاسدة، وقد شكا بعض الحنابلة أنهم لكثرة مجادلتهم مع الزنادقة سرت إليهم بعض طرق تفكيرهم.
(وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان حريصا على دعوة المشركين، فبين الله تعالى كما ذكر آنفا أنهم إذا خاضوا في الآيات التي هي دلائل الرسالة، واستهزءوا بها وألحوا في جحودها، ولجوا في استمساكهم بما هم عليه لَا يزيدهم ذكر الحق إلا لجاجة وعنادا وطغيانا إذ كلما جاءتهم آية ودلائل أخرى زادتهم كفرا، كما قال تعالى (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125).
فنكران الحق لَا يزيد الظالمين إلا خسارا، ويدفعهم إلى اللجاجة.
ولذلك كان النهي في الآية السابقة، ولكن دعاة الحق في قلوبهم ميل إلى ذكره، وهداية الناس إليه، فقد يدفعهم ذلك إلى أن يعاودوا الدعوة إليه وذكره عند الخائضين منكرين مستهزئين؛ ولذلك كان النص الكريم مكررا النهي في حال النسيان بسبب الرغبة في الدعوة إلى الهداية وقوله: (وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَان) هي " إن " الشرطية مؤكدة بـ " ما " ويصحب التأكيد بما التأكيد بالنون الثقيلة لغة وبيانا في (يُنْسِيَنَّكَ)، وهذا من مواضع وجوب التأكيد، والمعنى إن أنساك الشيطان، نسيانا مؤكدا فقعدت معهم، فلا تقعد بعد التذكر معهم، لأنهم ظالمون، ولأجل بيان بعض مرامي النص نتكنم في النواحي الآتية:(5/2545)
الأولى - أن التأكيد إنما هو في النسيان، وأن السبب هو الشيطان، وإذا كان الشيطان هو السبب في الوسوسة التي أدت إلى ذلك النسيان فإنه يجب التوقي منه ومحاربته، وعدم الأخذ بما يدعو إليه، والتوبة والإقلاع عما دعا، ولكن هل الشيطان بمعنى إبليس يسيطر على نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - فينسيه ما يجب عليه، وإن الذي نعلمه، وهو مقرر أن إبليس نزعت من قلبه علقته، فهو لَا يؤثر في نفس النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن الطبيعة الإنسانية هي التي تعتري الإنسان فينسى، فكيف ينسب نسيان النبي إلى الشيطان؛ وقد أجيب عن ذلك بأن المراد بالخطاب في هذا المقام من يخاطب من الأمة، فليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن اللفظ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلا بد أن يدخل فيه ابتداء بمقتضى السياق، وإن كان الأمر يعم كل داع، والجواب الذي نرتضيه أن الشيطان ليس هو إبليس هنا، إنما هو ما يعتري النفس الإنسانية، من غفوات، أو سهو وهو جائز على النبي - صلى الله عليه وسلم - في غير بيان الأحكام، والتبليغ عن الله تعالى، فإن النسيان في هذا يتنافى مع مقام الرسالة من الله تعالت قدرته، وسمت حكمته. وعبر عن النسيان بنسبته إلى الشيطان للإشارة إلى وجوب توقِّيه.
الثانية - أن النهي جاء بعد التذكر، فلا نهى في حال النسيان لأنه رفع عنِ الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، وقال سبحانه: (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَع الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) عبر سبحانه وتعالى عن الذكر بالذكرى، ومعنى الذكرى كثرة الذكر، والتحري له، والحرص عليه، وذلك فيه إيماء إلى وجوب التحرز من النسيان ما أمكن، حتى لَا يزداد الداعي تعبا، ويزداد المدعو لجاجة، فلا دعوة إلى الحق مع الإعراض عنه واللجاجة في الإعراض.
الثالثة - أن النص الكريم منع من القعود مع القوم الظالمين. أي تجمعوا وتحزبوا، وهم مستمرون في ظلمهم بكفرهم، وإصرارهم عليه، ولجاجتهم، واستهزائهم، ففي النص وصف لهم بالظلم، وأنه السبب في عدم القعود معهم.(5/2546)
وإن دعاة الباطل يتخذون لهم أوكارا، لَا يجالسهم فيها إلا من هم على شاكلتهم، فيجب الابتعاد عنهم.
* * *(5/2547)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ... (69)
* * *
الباعث لأهل التقوى على الجلوس والاستماع إلى الظالمين، وهم يخوضون في الآيات البينات الثابتة الدالة على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - منكرين، جاحدين مستهزئين، لاجِّين في عنادهم هو رغبتهم الملحفة في الهداية فأشارت الآية الكريمة أنه لَا رجاء فيهم، ولا غضاضة على أهل التقوى في ذلك؛ لأنهم ما عليهم إلا التذكير، وما عليهم من تبعات أعمالهم شيء إنما تبعات أعمالهم عليهم.
وهذا النص الكريم الذي نتكلم في معناه يبين أن الذين يتقون الله تعالى حق تقاته، ويجعلون بينهم وبين غضبه سبحانه وتعالى وقاية ليس عليهم تبعة عن أعمال الذين يخوضون في آيات الله تعالى، فالمراد من حسابهم أي أعمالهم المحسوبة عليهم، فهو من إطلاق المصدر على اسم المفعول باعتبار أن العمل هو السبب في الحساب، وهو من إطلاق اسم المسبب، وإرادة السبب، والمعنى ما دمتم قد أديتم واجب الإرشاد والتذكير، فما عليكم من تبعة أعمالهم من شيء. ولقد قال في معنى (مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ) الأصفهاني ما نصه: وقوله تعالى: (. . . مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ. . .).
فنجد قوله تعالى: (. . . عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ. . .)، أي أن المعنى ما دام أهل التقوى قد أدوا، فلا حساب عليهم، ولا ينالهم أذى من حسابهم، وقوله: (مِن شَيْءٍ) " من " هنا للدلالة على عموم النفي واستغراقه، أو تأكيد استغراقه، أي ما عليكم أي قدر - ولو ضؤل - من تبعات أعمالهم ما دمتم قد ذكرتموهم العاقبة لما هم عليه، فالواجب عليكم التذكير، ولذا قال سبحانه:(5/2547)
(وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)
هذا النص الكريم يبين ما على النبي والمتقين من بعد إلا التذكير الثابت الدائم المستمر، وفي أوقات يرجى فيها الإنصات والالتفات، والعناية بما يلقى عليهم، وذلك التذكير لرجاء أن يكونوا في حال من يتوقع إيمانهم، والتذكير بذاته موجب للإيمان إذا زالت الموانع، وأشد الموانع أن يسبق الجحود، وأن تغلف القلوب، فالرجاء في قوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) ليس من الله تعالى، ولكن لتصوير حالهم إذا استقامت قلوبهم، وخلصت من الشمر والجحود نفوسهم، وهو أنه يرجى إيمانهم، ولكنهم أحلوا محل الرجاء الجحود، والإصرار على الكفر، والعناد. . وقانا الله شر ذلك، وجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
* * *
(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى(5/2548)
وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى قدرته القاهرة، وأنه الملجأ في الكرب، ومع ذلك كانوا يخوضون، ويعبثون، والله يأمر نبيه بأن يعرض عنهم ولكنهم يستمرون في استهزائهم بالمتقين إذ كانوا ضعفاء فيسخرون منهم، وبذلك اتخذوا دينهم الذي كان يجب عليهم أن يعتنقوه لعبا، وذلك من غرورهم بالحياة، وظنهم أن الحياة الدنيا هي الباقية، أو لَا حياة بعدها؛ ولذا قال تعالى بعد أن أمر نبيه بالإعراض عن مجالسهم قال آمرا له:(5/2549)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
(وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا).
" ذَرْ " بمعنى اترك، وقال علماء النحو: إن " ذر " و " دع " لَا ماضيَ لهما، ولكن لهما مضارع وأمر، ولكن وجدنا في أساس البلاغة للزمخشري أن ماضيها حيٌّ يستعمل، فقد جاء فيه إذا قيل للقوم: ذروا هذا، قالوا: وذرناه.
والمعنى أعرض عن الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، والدين المضاف إليهم هو عبادة الأوثان التي عبدوها كأنهم اتخذوها لعبا ولهوا، واللعب هو الفعل الذي ليس مقصد يقره أهل العقل، واللهو ما يتلهى به، ويشغل به عن الأمر الجاد المنتج المثمر، الذي يكون له غرض مقصود مطلوب، فهؤلاء في اتخاذهم الأوثان التي يصنعونها ولا تنفع ولا تضر آلهة تعبد كأنهم يلعبون إذ يعملون عملا لَا يقره أهل(5/2549)
العقل والإدراك، ويلهون لأنه عبث يحبثون به، ولا غاية له عند أهل الفكر والمنطق، ولا على أن يفسر الدين بما هم عليه من عبادة الأوثان.
ويرد على ذلك التفسير أن هذا ليس جديرا بأن يسمى دينا، ولو كان مضافا إليهم.
ورأى بعض المفسرين أن المراد من دينهم الإسلام؛ لأنه الدين الذي جاء إليهم، وهم مخاطبون به، ومكلفون أن يتبعوه، فهو دينهم الذي جاء به رسول منهم، وهو الذي ارتضاه لهم أن يكون دينا، وقد اتخذوا ذلك الدين لعبا ولهوا، إذ لم يفهموا ما هم عليه، ومعنى اتخاذه لعبا ولهوا أنهم سخروا بمن اتبعه، وتهكموا على أهله، وأخذوا يخوضون فيه لعبا في مجالسهم، ولهوا عن الحق، يزكي ذلك قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضونَ فِى آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ. . .). وقال تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140).
وإن هذا اللعب وذلك اللهو وتعابثهم بالمؤمنين سببه هو غرورهم بالحياة الدنيا، وفهمهم لها أنها غاية الوجود ونهايته، ولذلك قال تعالى عاطفا على قوله تعالى: (اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا). أي خدعتهم هذه الحياة، وما اتخذوه فيها من مباهج غير ملتفتين للحياة الآخرة، ولا مؤمنين بها، ولا بالبعث والنشور، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ للَّذينَ يَتَّقُونَ).
خدعوا بالحياة الدنيا، فكان منهم ما كان من العبث بالحقائق الدينية والسخرية بأهلها، ولذا أمر الله تعالى نبيه - وإن ذلك فيه معنى التهديد لهم - بأن يتركهم في غيهم حتى يفاجئوا بمآلهم، ولكن مع ذلك أمر الله تعالى نبيه(5/2550)
رحمة بهم، أن يذكرهم دائما رحمة لمن يهتدي، ويطلب الحق، ويشغل به نشحه، فقال تعالى: (وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ).
الضمير في " به " قال أكثر المفسرين: أنه يعود على القرآن، والقرآن في حضور كل ذهن فكأنه مذكور يعود الضمير عليه، وأميل إلى أن الضمير الذي يعود إلى الدين الذي هم مكلفون أن يأخذوا به، ويتبعوا هديه، وإن الله تعالى مع أمره نبيه أن يتركهم فلا يلتفت إلى هزلهم وعبثهم واستهزائهم بالمؤمنين، أمره بأن يستمر في تذكيرهم بالدين تبليغا لرسالته التي أنزلت عليه، ولا يأخذنه الأذى الذي ينزلونه به وبمن معه، فذلك هو ما يصيب دعاة الحق، ولكن يجب مع الإعراض عن لعبهم ولهوهم أن يستمر في دعوته ومثله معهم كمثل المربي الكامل الذي لَا يهمه عبث تلاميذه، يعرض عنه، ولكن يستمر في هدايته لهم.
وذكر بالدِّين كراهة أن تبسل نفس بما كسبت، والابتسال: معناه في اللغة الإسلام إلى الهلاك، وأن تؤخذ بسوء ما اختارت.
والمعنى الجلي لَا تشغل نفسك بلهوهم وعبثهم، ولا يمنعنك ذلك من أن تستمر في تذكيرهم، حتى لَا يسلموا إلى الهلاك ويمنعوا من الخير، ويكون نصيبهم جهنم وبئس المصير، وإنك منذر، ولكل قوم هادٍ.
وإنه في هذه الحال لَا منجاة لهم منها، فلا ينقذهم منها ولي يناصرهم، ولا شفيع يشفع لهم، إذ هي الهلاك الدائم والعذاب المستمر؛ ولذا قال تعالى: (لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِى وَلا شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا) وإذا أسلموا إلى الهلاك في جهنم لَا يكون لهم من غير الله ولي يناصرهم أو يواليهم بمقتضى القرابة أو العصبة التي كانوا يتنادون بها، أو شفيع يشفع، ويترضى عنهم، وإن يقدموا ما يستطيعون من فداء لَا يقبل منهم فلا ولاية ولا شفاعة ولا فدية من عذاب أليم، فالعدل: هو الفداء الذي يعادل ما ارتكبوا، ويخرجون به من النار والعذاب، ومعنى (وَإِن تَعْدِلْ)، وإن تقدم فداء؛ يكون عدلا، لَا يؤخذ منهم.(5/2551)
وقوله تعالى: (مِن دُونِ اللَّهِ) أي من غيره، والتعبير بقوله " من دون " إشارة إلى أنه مهما يكن في نظرهم فهو دون الله، والله هو العلي المسيطر على كل شيء.
وقد بين بعد ذلك هذا العقاب الذي لَا مناص منه، ولا منجاة ولا خلاص، فقال تعالت قدرته: (وأُوْلَئكَ الَّذينَ أُبْسلُوا بمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ منْ حَميمٍ وَعَذَابٌ أَليمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ).
والإشارة إلى الذين يخوضون في آيات الله تعالى، الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، وكانوا يسخرون من الذين آمنوا وهم يذكرون بالدين الذي بعث به رسوله إليهم، وقد كانوا بفعلهم هذا (أُبْسِلُوا) أي أسلموا أنفسهم للهلاك والبوار، وأتوا إلى النار، ذلك بما كسبوا من عبث وكفر، وعتو، واستهانة، وعبر سبحانه بقوله: (بِمَا كَسَبُوا) للإشارة إلى أنهم قد فعلوا ذلك يريدون الكسب، فكان ذلك العذاب، فهم اشتروا العذاب والضلالة بالهدى، وهذا العذاب شديد يحيط بكل أجسامهم، النار في بطونهم وفي جلودهم، لهم شراب من حميم أي ماء يغلي يدخل بطونهم، فيمزق أمعاءهم، وهو نار في جوفهم، ونار تكوى جلودهم (. . . كُلَّمَا نضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ. . .). ولهم بذلك عذاب أليم وذلك العذاب بما كانوا يكفرون أي بسبب كفرهم المستمر الذي كان يتجدد، فكانوا يحدثون كل وقت من مظاهر ما أوجب استحقاقهم لهذا الألم؛ فمرة يسخرون من النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، ومرة يؤذون المستضعفين من المؤمنين، ومرة يقطعون عنهم الميرة (1)، ويقاطعونهم وأهلهم، ومرة يؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأخرى يخوضون في آيات الله تعالى، ويتخذون الدين الذي بعث به رسول منهم لعبا ولهوا، فهو كفر مستمر متعدد الوجوه أساسه الجحود، والآيات قائمة.
________
(1) المِيرَةُ، بالكسر: جَلَبُ الطعام. القاموس المحيط (مير).(5/2552)
وإن ذلك كله الأصل فيه ضلال استهواهم، وهو عبادة أحجار لَا تضر ولا تنفع، قد صنعوها بأيديهم ثم عبدوها بقلوبهم، ولذا قال الله تعالى:
* * *(5/2553)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71)
(قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا ... (71)
* * *
الله سبحانه وتعالى يأمر نبيه بأن يقول مصورا ضلالهم، وفساد تفكيرهم في أن يعود محمد وأصحابه إلى عقيدتهم، فيقول: (قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا).
ذلك أن قريشا بذلوا ما بذلوا في سبيل حمل محمد - صلى الله عليه وسلم - على أن يرجع عن دعوته، عرضوا عليه المال، وعرضوا عليه الإمرة عليهم، وعرضوا عليه كل ما يظنون أنه يرغبه في العود إليهم، كما يتصورون، ليرتاحوا في ذات أنفسهم حاسبين أن ما يدعوهم إليه يضرهم في عصبيتهم وجاهليتهم، وأنه يمنعهم مما كان عليه آباؤهم.
فالله أمر نبيه أن يستنكر ما يدعونه إليه، ويبين في استنكاره بطلان ما يعتقدون، وأنه انحدار في الإنسانية، وذلك من الجدل الحكيم، والدعوة إلى الإسلام في رفق وتواضع، فيقول: (أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا) أي لا يملك نفعا ولا ضرا، ولا يملك من أمره شيئا، ولا يملك موتا ولا حياة، وإن هذا إهمال لحكم العقل، نترك عبادة ما يضر وينفع، وهو مالك كل شيء وهو القاهر فوق عباده، وهو الذي نلجأ إليه في شدائد البحر والبر، كيف نترك عبادته إلى ما تدعونا إليه من أوثان لَا تنفع ولا تضر، وإن الله تعالى قد هدانا إليه سبحانه، وإن ما تدعوننا إليه نكسة بعد تقدم، ورجعة بعد الهداية، ولذلك قال تعالى فيما أمر به نبيه: (وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ) أي أنرد إلى الضلال بعد الهدى، وإلى الباطل بعد الحق، وإلى الظلمات بعد النور، وعبر سبحانه وتعالى عن ذلك بقوله وأن نرد على أعقابنا. العقب ما وراء القدم، أي أنرجع مدبرين على أعقابنا، منكسين بعد أن أبان الله الحق واهتدينا بهديه، وامتلأت قلوبنا بوحدانيته في العبادة، فلا نعبد سواه.(5/2553)
وقوله تعالى: (أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا) وقد فسر الزمخشري (ندعو) بنَعْبُد، وهو حسن، ويصح أن نفسر (ندعو) بكل دعاء بالعبادة وبالاستغاثة، وبالاستعانة في النصر، وغير ذلك مما يدعون به أصنامهم. وقدم نفي النفع على نفي الضرر؛ لأن نفي النفع أجلب للترك، إذ إن من يدعو إنما يدعو لنفعه لَا للضرر ولذا قدم عليه.
والاستفهام هذا إنكاري بمعنى النفي، أي لَا ندعو ما لَا ينفعنا ولا يضرنا، وهو نفي فيه معنى التوبيخ لمن يدعو ما لَا ينفعه ولا يضره.
وقد صور الله تعالى حالهم في دعوتهم إلى الباطل من اهتدى، ومن تنزل عليه أسباب الهداية كحال الشياطين التي تستهوي الضال بدعوتهم إلى ما لَا هداية فيه؛ بجوار أن له أصحابا يدعونه إلى الطريق اللاحب (1)، والسير فيما فيه النجاة فقال تعالى: (كَالَّذِى اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطينُ فِى الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا).
استهواه أي طلب هواه واستولى عليه يوجهه كيف شاء، كالذين يصنعون ذلك بالنوم، والاستيلاء على الحس، والشياطين هم الذين يضلون، ومن ذلك الأوهام التي تعتري من يسير في صحراء قفراء يتلمس المرشد في مهامه الأرض (2)، فيسمعه الوهم نداء يسير به في طريق الضلال، وسماهم الله تعالى شياطين تستهوي الأنفس، فيسيرون وراء هذه الأوهام والضلال كما قال المفسرون، وفى الوقت نفسه له أصحاب يدعونه إلى الطريق المستقيم، وهو حيران متردد بين دعوة الأوهام والدعوة الحق، فهو تشبيه حال المؤمن الذي يرى الأوهام ويرى الهادي.
________
(1) لحب: اللَّحْبُ: الطريق الواضح، واللاحب مثله. ويقال أيضًا: لَحَبَ، إذا مر مرًّا مستقيمًا. الصحاح للجوهري (لحب).
(2) المَهمَهُ: المفازةُ البعيدة الأطراف، والجمع المَهامِهُ. الصحاح للجوهري.(5/2554)
وهذا تصوير من الله تعالى لحال من يترك الحق إلى أوهام، ويكون حيران أي مترددا بين الضلال والهدى، وبين النور والظلمة.
وقد أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم بعد هذا التشبيه البين المبين: (قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي إن هدى الله تعالى هو وحده الهدى أي لَا هدى غيره، وقد بين سبحانه أن الهدى هو حق الله وحده، بالعبارة الدالة على القصر، وهي تعريف الطرفين، وضمير الفصل، الذي يدل على أنه لا هداية غير هداية الله، ومن عُدِم هذه الهداية فهو في ضلال مبين.
ولقد قال تعالى فيما ترتب على أن الهداية من الله وحده: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) أي أمرنا من الله تعالى الهادي إلى سواء السبيل بألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، وأن نكفر بالجبت والطاغوت، وأن نطيع الله تعالى الذي أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث، وأن نكون ربانيين وذلك لنسلم، اللام لام العاقبة أو لام كي للتعليل، ونسلم أي نخلص، ونكون لله تعالى حده، وقد أسلمنا وجهنا لله مخلصين له سبحانه.
وهنا كان البناء للمجهول لأن الآمر معلوم، وهو في صدورنا وأطواء نفوسنا، ولم تذكر المأمورات، ولكن ذكرت نهايتها وغايتها، وهو أن نسلم لرب العالمين الذي خلقنا وربانا، ويقوم على عامة أمورنا وخاصتها، وهو الحي القيوم.
ويلاحظ أن الله تعالى أمر نبيه أن يقول أندعو ما لَا ينفعنا ولا يضرنا، وكل ما كان من بعده بصيغة المتكلم ومعه غيره، وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أمره ربه، كان يتكلم ومعه المؤمنون المخلصون الذين لاقوا الشدائد في مكة حتى هاجر منهم إلى الحبشة من هاجر، وقد آذاهم المشركون يريدون ردهم على أعقابهم بعد إذ هداهم الله.
فالله تعالى أمر نبيه بأن يقول هذا القول عنه وعنهم، ليلقي اليأس في قلوب المشركين من أن يعود أحد إلى الشرك بعد الوحدانية، وإلى الكفر بعد أن ذاقوا حلاوة الإيمان.(5/2555)
وقد قال من بعد أن ذكرنا ما قرره النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين:
* * *(5/2556)
وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
(وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
* * *
حكى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الله تعالى بالصيغة التي أمره الله تعالى بها، فقال: (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ) وهذا عطف على معنى (لنسلم)، أي أمرنا سبحانه بأن نسلم لله رب العالمين، وأمرنا أن نقيم الصلاة، وكان الأمر بإقامة الصلاة بصيغة قول الله تعالى، لَا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكانة الصلاة في الدين، فإنه لَا دين من غير صلاة، فهي عموده، وهي لُبه، وهي مظهره ودلالته، والوحدانية أظهر ما تكون في الصلاة فهي عبادة الله وحده لَا يشرك به شيئا فيها، إلا أن يرائي، فهذه ليست صلاة.
وطلب الله تعالى من المؤمن إقامة الصلاة بأن يأتي بها مقومة كاملة في أركانها الظاهرة، ومعانيها من خشوع وخضوع، يتحقق فيها قوله تعالى: (. . . إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكبَرُ. . .).
وأورد سبحانه وتعالى إقامة الصلاة بالأمر بالتقوى فقال تعالى: (وَاتَّقُوهُ) أي اجعلوا بينكم وبين الله تعالى وقاية بينكم وبين غضبه بإطاعته حق الطاعة فيما يأمر وينهى، وأن يملأ نفسه بتقواه دائما، فيذكره في سره وعلانيته، ويملأ قلبه بخشيته، ويحس بأنه يراه دائما، ويعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور، يحس بأنه مع الله دائما، وبذلك يتربى فيه معنى الربوبية.
وذكر تعالى ما يربي التقوى في النفس، فقال: (وَهُوَ الًّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي وآمنوا بأنكم إليه تحشرون وهذا التعبير السامي يتضمن ثلاث حقائق يجب الإيمان بها:
الحقيقة الأولى - البعث وأن الناس يجتمعون بين يديه سبحانه وتعالى، وأن الإيمان بالبعث هو سر الإيمان وهو علو بالنفس الإنسانية إلى المرتبة السامية فلا يكون آكلا شاربا فقط يقول: (إِنْ هِي إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعوثينَ)، بل يعلو بإنسانيته يفعل الخير، ويرجو الجزاء.(5/2556)
الحقيقة الثانية - أن الملك لله وحده، وأنه في هذا اليوم هو الحكم وحده، فهو مالك يوم الدين، وقد دل النص السامي على ذلك بقوله: (إِلَيْهِ تُحْشرونَ) بتقديم " إليه " على الفعل أي إليه وحده تحشرون، فالمصير إليه سبحانه.
الحقيقة الثالثة - الحساب والعقاب والثواب فهو نهاية الحشر فتجزى كل نفس ما كسبت.
وقد ذكر سبحانه ما يدل على البعث والنشور بكمال قدرته فقال تعالت حكمته:
* * *(5/2557)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ... (73)
* * *
أي خلق سبحانه وتعالى السماوات والأرض وما فيهما، بالأمر الثابت وهو الحق، أي خلقه قائما على الحق والحكمة، وأنه قدر وجود هذا الكون بحكمته، وما خلقه ليفنى وينتهي، بل خلقه ليبقى، ويستمر، وهذا كقوله تعالى: (أَفَحَسِبْتمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجعُونَ). بل إنكم راجعون وستبقون إما في نعيم مقيم وإما في عذاب خالد وقال القرطبي: معنى بالحق، أي بكلمة الحق، وهي كن، وما ذكرناه أوضح.
ثم بين سبحانه وتعالى أن بعثهم ليس شيئا عسيرا ولا بعيدا ولا غريبا، بل إن البعث يكون بكلمة هي الحق فقال تعالى: (وَيَوْمَ يَقُولُ كن فَيَكُونُ). أي هذا القول الثابت الذي هو حق في ذاته، وهو كن فيكون أي أنه بقوله تعالى: كن، فإنه يكون كل شيء قد حضر فيجمع ما بعث من القبور، ويخرج الناس أشتاتا، مهما يكونوا وأينما يكونوا، كما قال تعالى: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)، فيوم يقول كن فيكون يكون البعث الكامل.
وقد قال سبحانه وتعالى إن قوله هذا هو الحق الذيِ لَا ريب فيه، وإنه آت لا محالة، ولذا قال: (قَوْلُهُ الْحَقُّ) وهو مبتدأ خبره (يوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ) أي(5/2557)
الظرف الذي تعلق بالخبر، ووصف سبحانه وتعالى ذلك بالحق لما أحاطه من إنكار وجحود، واستغراب وعجب، كما قال تعالى: (وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ. . .)، وأن الله تعالى يذكر حال ذلك اليوم الذي يقول سبحانه وتعالى قوله الحق (كُن فَيَكُونُ) يكون الملك الثابت الدائم الذي لَا يشاركه فيه أحد؛ ولذا قال تعالى: (وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ) والصور كما يقول القرطبي - قرن من نور ينفخ فيه بقدرة الله تعالى فيكون الجمع مما بعث في القبور من بعده الحساب والعقاب أو الثواب كما قال تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101).
وقد وصف الله تعالى ذاته الكريمة بما يدل على أنه يعلم كل ما يفعله الذين يبعثون، فقال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) أي يعلم ما غيّب، وما يشهد ويحضر، أي يعلم ما تسرون وما تعلنون، ويكافئ الناس على ما عملوا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر وكل امرئ بما كسب رهين.
وإن ذلك كله على مقتضى حكمته وعلمه الذي لَا يعزب عنه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض؛ ولذا ختم سبحانه وتعالى النص الكريم بقوله تعالى: (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).
* * *(5/2558)
إيمان إبراهيم بعد تفكير وتأملاته في الكون
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
* * *
كان الكلام في الآيات السابقات في الأصنام، وأنها لَا تنفع ولا تضر، وأنها لا تملك من أمر نفسها شيئا، حتى تملك من أمر غيرها، ممن يدعونها واقعين تحت أوهام تضافرت وتكاثرت عليها السنون حتى صارت كأنها حقائق في زعمهم، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى كيف أنكرها أبو العرب الذي يعتزون بنسبهم إليه، وأنه عدها ضلالا مبينا، وخاطب بذلك أباه مستنكرا، ورؤية الحقائق باررة من لسان شخص يكون أشد أثرا، وأنقى فكرا وأبعث على الاعتبار.(5/2559)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)
(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً).
" إذ " ظرف للزمان، والمعنى اذكر لهم ما كان في الماضي من موقف أبيهم إبراهيم - عليه السلام - من الأصنام، إذ قال لأبيه الذي كان يحبه، ويؤثره، مستنكرا ما كان منه من عبادة: أتتخذ أصناما آلهة؛ وهو استفهام إنكاري للتوبيخ، ولم يمنعه مقام الأب من أن يوبخه على عظيم ما يرتكب مستنكرا فعله: أتتخذ أصناما مصنوعة صنعتها أنت وأمثالك أتتخذها آلهة تعبد، أي أتتخذ من صناعتك آلهة معبودة، إن ذلك ضلالا مبينا تصنعه الأوهام في العقول حتى تجعل غير المعقول اعتقادا، ولذا قال لأبيه الذي كان يحبه: (إِنِّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ) إني أراك مع قومك (فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ)، أي بين واضح، والتعبير باسم الفاعل (مبين) للمبالغة في وضوح الضلال أي الضلال مبين لنفسه موضح لها، إذ كيف تصنع بيديك حجرا، ثم تعبده، هذا إجمال كلامه لأبيه، ولقد فصل الله سبحانه وتعالى مقالته لأبيه، في آية أخرى، فقال تعالى حكاية للمجاوبة التي كانت بينهما: (. . . إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48).
اعتزل قومه وأباه، وكان في بلد يعبد أهله النجوم، ولهم علم بها فانصرف إلى تعرف حال النجوم التي يقدسونها، ويجاريهم في تقديسها، حتى تبين له ولهم أنها غير جديرة بالتقديس والربوبية، لأنها متغيرة وتأفل وتختفي ثم تظهر، وذلك ليس شأن الإله الخالق المنشئ المبدع.
* * *(5/2560)
قال تعالى:(5/2561)
وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (75)
* * *
كهذا الإلهام الذي ألهمه إبراهيم صغيرا من إنكاره الأصنام، نرى إبراهيم سر الوجود نريه (ملكوت): أي ملك، وزيدت الواو والتاء للمبالغة في ملك الله تعالى، وأنسب أنها للمبالغة في سر الملك، وهو دلالته على الخالق المنشيء ليعلم ويعرف، ويحكم بالحق، وقال تعالى: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)، الواو لطعطف على فعل مفهوم من مضمون الكلام السابق، إذ تقدير القول نرى إبراهيم سر الملك في السماوات والأرض، وما يدل عليه ليعرف الله تعالى، وليكون من الموقنين الذين يعرفون الحق، ويجزمون به من دليله، ومن المعاينة التي تكشف عما غيب، لتَعَرُّف الغيب من مظاهر الحس.
قد أخذ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وهو بعد لم يبلغ أشده كما تدل على ذلك الأخبار الصحاح يتعرف الإله على ما يجري عليه علمهم، وما يقدسون، لقد كانوا يقدسون الكواكب أو يعبدونها ويسمون أصنامهم بأسمائها، أخذ يتتبع النجوم والكواكب، يتعرف خواصها في ظهورها، وخفائها، وذلك في الليل، لأنه وقت ظهورها، إذ ضوء الشمس يخفيها.
* * *(5/2561)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي ... (76)
* * *
مسايرة لهم في تفكيرهم واعتقادهم، أي على حسب ما تدعون وما تعبدون، (فَلَمَّا أَفَلَ) واختفى، وجده قد تغير من حال ظهور إلى حال اختفاء، وليس ذلك شأن الرب القائم على كل شيء؛ ولذا أثبت لهم لأول وهلة أن هذا لَا يمكن أن يكون ربا وقال مبينا بغض هذه الحال، وأنه لَا يعبد ما يكون على هذه الشاكلة، (قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)، وإذا كنت لَا أحبها فإني لَا أعبدها؛ لأن العبادة محبة، وإذا فقدت المحبة فلا عبادة.
واتجه إلى كوكب آخر وهو القمر، فقال الله تعالى عنه:
* * *(5/2561)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77)
(فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا ... (77)
* * *
أي باديا في أوله - (قَالَ) مسايرا لهم ومتجها في الظاهر اتجاههم أو ظانا: (هَذَا رَبِّى فَلَمَّا أَفَلَ) تبين أنه لَا يصلح إلها، وأراهم رأي العين أنه لَا يصلح إلها (قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ).(5/2561)
ولقد قال المفسرون أو الكثير منهم: إنه ما قال في واحدة هذا ربي مؤمنا بذلك أو ظنا له، وإنما قاله مسايرة لهم في اتجاههم ليبين من وراء ذلك بطلان ما يعتقدون على أساس أن تساير مجادلك فيما يعتقد، ثم تبين نتيجة قوله، وأنه ينتهي إلى غير الحق فتأخذه معك إلى الحق برضا واختيار، أو بقطع وإفحام.
وقال بعض آخر من المفسرين: إنه يتلمس الإله الذي يعبد بحق، بفطرته المستقيمة المدركة التي أدرك بها أنه لَا يمكن أن يكون ما يجري عليه الأفول إلها، فهو عندما قال: هذا ربى على النجم وقد كان يظنه ربا، فلما أفل عدل عن وصفه بالربوبية.
وهذا ما نراه، لأنه يتفق بعد ذلك مع قوله عندما رأى بزوغ القمر وأفوله إنه علم أنه ضال إن اعتمد على تفكيره من غير أن تلمسه نعمة الهداية من الله الذي علم مظاهر ألوهيته، وتلمسها فيما يعتقد قوِم أبيه في الكواكب والنجوم -، والشمس والقمر، وقال: (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) أقسم أنه أصبح في حاجة إلى هداية من ربه يهتدي بها في هذا الديجور، فاللام لام القسم، واللام الأخيرة في جوابه، وأكد أنه يكون من الضالين الذين لَا سبيل عندهم إلى الهداية إلى الحق في الألوهية، إن لم يهده ربه الذي لَا يعرفه، ويريد أن يعرفه.
وإن هذا الكلام يدل على أنه يعلم أن له ربا هو الذي أنشأه ورباه، ويقوم على حفظه وصيانته، ولكن ما هو؛ لقد تلمسه في كوكب ساطع من الكواكب في دُجُنَة الليل البهيم كأهل بلده، فلم يجده، وتلمسه في القمر فلم يجده، فاتجه طالبا الهداية إليه، وإن كان لم يعرفه في النجوم.
ثم عاوده طلب المعرفة في الشمسِ الساطعة التي هي ضياء الوجود، وتمده بالدفء والحرارة.
* * *(5/2562)
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
* * *
تتبع الكواكب متدرجا إلى القمر، ثم تدرج إلى الشمس التي تمد الوجود كله بالنور في النهار، والدفء في الليل والنهار، وتمد الأحياء من(5/2562)
حيوان ونبات، وأشجار بعناصر الحياة، اتجه إليها، فلم يجد فيها معنى الإله الذي لا يتغير ولا يتبدل؛ ولذا رفض شرك أولئك الذين يعبدون الكواكب، ويظنونها قادرة على كل شيء، وابتدأ من أصغرها إلى أكبرها، وقال عليه السلام: (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) لَا أعبده، ولا أشركه مع القادر سبحانه.
انتهت نظرات إبراهيم الناشئ. وسياق المؤرخين يدل على أنه في ذلك الإبان كان ناشئا، ولم يكن قد بلغ أشده - اتجه إلى رفض عبادة النجوم، والأصنام التي تسمّت بأسمائها، واتجه إلى خالق الكون وما فيه، ومن فيه، وإنه قد آمن بأن له موجدا لَا محالة، وبطل أن يكون كوكبا أو نجما، أو قمرا أو شمسا، فلم يبق إلا أن يكون موجودا واجب الوجود، وليس واحدا مما رأى.
ولذا اتجه إليه وحده، لَا على أنه قد عرف ذاته، ولكن عرف وجوده وكفاه ذلك معرفة؛ ولذا قال الله تعالى عنه.
* * *(5/2563)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
* * *
إني وجهت نفسي، وعبر عن ذلك بوجهه؛ لأن الوجه هو الذي يواجه به، ويتجه به إلى ما يتجه، ولأنه مظهر الخضوع والطاعة وبه يكون السجود، فكان الوجه له مظهر يجعله صالحا لأن يعبر به عن الجسم كله.
اتجه إلى الخالق لأنه عرفه مما خلق، والأثر يدل على المؤثر، و (فطر) معناها أنشأه وأوجده على غير مثال سبق، وهذا يدل على أن الفطرة السليمة تدرك بذاتها من فطرها؛ ولذا قال تعالى في دين الحق: (. . . فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكثرَ النَّاسِ لَا يَعْلَقونَ).
وإن بعض العلماء كالظاهرية يرون أن إدراك الله تعالى بدهيٌّ يدرك بالبداهة، لَا بالبرهان ذلك أن إبراهيم - عليه السلام - أدرك الله تعالى بفطرته بعد أن أبعد عنها ضلال الوثنية، ولأن أوهام الوثنية غشاء صفيق يحول بين الفطرة وإدراكها السليم.(5/2563)
وقد صنع الشاب إبراهيم - عليه السلام - صنيع المدرك الفاهم، فأخذ يزيل هذه الأوهام بعقله الصافي النافذ إلى الحقائق؛ أزالها عن نفسه، وأزالها عن غيره، ولكن آمن، وغيره لم يزلها من عقله الذي لصقت به، فلما زالت الأوهام اتجه فورها إلى ربه الذي أنشأ هذا الوجود، واستدل من هذا الوجود الممكن إلى وجود الله تعالى الكامل الموجود الأول والآخر والظاهر والباطن، والقادر على كل شيء سبحانه.
وقد وصف نبي الله إبرهيم بقوله: (حَنِيفًا) أي متجها ناحية الحق وحده دون غيره، فهو الحق وإن لم أرَه وهو الكمال وإن لم أحسه بالجارحة فقد أدركته بعقلي وقلبي، وهو ملء نفسي.
وقد ختم بقوله: (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) نفي أن يكون من المشركين، فذكر ضمير المتكلم في موضع النفي، وقد نفي أن يكون في عداد المشركين الذين أشركوا النجوم مع الله أو الأصنام التي تسمت بأسمائها، وبذلك انخلع من الشرك وأهله، وصار حجة للمؤمنين على الكافرين.
* * *(5/2564)
بين العقل والأوهام
(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
* * *
انتهى إبراهيم بعد أن تعرف الكواكب وأحوالها، وأن واحدا منها لَا يمكن أن يكون الذي يعبد، وأن الأصنام لَا تنفع ولا تضر اتجه إلى خالق الكون، واعتزل الشرك، وقال: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُون مِن دُونِ اللَّهِ. . .). وبعد هذا أخذوا يحاجونه في أمر أصنامهم وقوتها وهددوه بأنه سيصيبه منها ضرر، وهو يقول لهم: إن كانت تأكيد وتضر، فكيدوني ولا تنظروني.
والمحاجة التي أقاموها بينهم وبينه كانت محاجة بين اثنتين أحدهما اعتمد على الهداية والعقل، والثاني اعتمد على الخرافة والوهم، ولقد قال تعالى:(5/2565)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80)
(وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ) والمحاجة أن تكون مناظرة، ويقدم كل واحد من المتناظرين حجته ويدلي ببرهانه، وقد عجب إبراهيم - عليه الصلاة السلام - أن يحاجوه في الله تعالى منكرين له، وقال: (أَتُحَاجُّونِّي فِى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ). والاستفهام إنكاري لإنكار الواقعِ، وإنكار الواقع توبيخ، فهو يوبخهم ويؤيسهم من نتيجة المحاجة فيقول (وَقَدْ هَدانِ) أي أنه لَا مطمع لكم في أن أعود إلى عبادة الأصنام وقد هداني الله تعالى ووفقنى لأن أدرك أنه وحده المعبود بحق، ولا معبود سواه.
وتدل الآية الكريمة على أن أوهامهم زينت لهم أن أصنامهم قادرة على إنزال الأذى فخوفوه من الأذى، وقد ذكر سبحانه وتعالى محاجتهم لإبراهيم - عليه السلام - في مواضع من كتابه العزيز، فقد قال تعالى: (قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56).
وجاء في محاجتهِم: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82).
هذه عبارات من المحاجة التي أثبت بها أنه سبحانه وتعالى هداه، ولا يصح أن يتوهموا أنه يعود إليهم بعد أن هداه الله وقد هددوه بأن تصيبه آلهتهم بأذى رجاء أن يخاف ويسكت عن أصنامهم فحطمها، وجعلها جذاذا إلا كبيرها.
ولكنه قد اعتصم بالله تعالى، وهو يرى أنها لَا تضر ولا تنفع، وهكذا نجد العقل والهدى في صدام مع الوهم والضلال؛ ولذا قال لهم في إدراك عقلي مستقيم:(5/2566)
(وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ) أي إنني لم يستول عليّ الوهم كاستيلائه عليكم، فأخاف مما تشركون عبادته مع الله تعالى، فأنا أعلم أنها لَا تضر ولا تنفع، وهي أحجار صماء، تنقل من مكان إلى مكان فكيف أخاف منها، كيف أخاف من حجر لَا يسمع ولا يبصر، تصنعونها بأيديكم وتعبدونها بأوهامكم.
وقد كان إبراهيم حريصا في إجابته، ويخشى أن يصيبه قدر، فيتوهمون أن ذلك من سر آلهتهم، فقطع عليهم - عليه السلام - أسباب ذلك، وقال مطمئنا إلى قضاء الله تعالى: (إِلَّا أَن يشَاءَ رَبِّى شَيْئًا) هذا استثناء يدل على أمرين: أولهما - تفويضه لله تعالى في كل أموره، وأنه راض بما يقدره الله تعالى له، يتقبل ما يأتي به، وأنه وحده الذي يفعل ما يشاء.
ثانيهما - الرد عليهم في أن أصنامهم تستطيع أن تفعل شيئا، إنما الأمر كله لله وحده، هو الذي يصيب بالضرر إن شاء وهو الذي ينزل الخير من سحائب رضوانه إن شاء.
وأنه قادر على ذلك، وهو القادر وحده، وهو العليم بكل شيء يضع الأمور في مواضعها، لَا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكل شيء على مقتضى علمه بما كان، وما سيكون، ولذا قال تعالى: (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) وهو تمييز محول، ومعناه: وسمع علم ربي كل شيء، وفي تأخير التمييز إيهام مؤقت للتشويق، وبذلك يثبت في النفوس علم الله تعالى فضل ثبوت.
وذكره لله تعالى بوصف " ربي " للدلالة على أنه يستشعر معنى الربوبية دائما، فهو الذي رباه، وهو الذي يحميه ويحفظه من كل ضر وسوء، إلا أن يكون ذلك من حكمة أرادها، وهو العليم الخبير.
ثم قال تعالى: (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) الهمزة للاستفهام، والفاء للإفصاح، والمعنى إذا كان الأمر كله بيد الله تعالى وأن أحجاركم لَا تنفع ولا تضر، أفلا(5/2567)
تتذكرون الأمور، وتعرفونها على وجهها، والاستفهام هنا للتحريض على التذكر، ولقد كان حالهم مع إبراهيم، كحال قوم هود مع نبيهم فقالوا له: (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا. . .).
إن حال هؤلاء الذين ساروا وراء الأوهام عجب، يخوفون نبي الله تعالى من أن يصيبه سوء من أحجارهم التي لَا تضر ولا تنفع كما هو مشاهد بالحس ومدرك بالعقل، ومع ذلك لَا يخافون أن ينزل بهم مقت من الله تعالى الذي يملك الوجود كله، اكهتهم، وغيرها.
ولذا قال تعالى على لسان إبراهيم - عليه السلام:
* * *(5/2568)
وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)
(وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا ... (81)
* * *
الاستفهام هنا للتعجب من المفارقة التي كانت منهم، وهي مفارقة عجيبة يخوفون إبراهيم من أن تصيبه آلهتهم بسوء، ومع ذلك لَا يخافون هم من إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطانا، والعجب من ناحيتين: أولاهما - أن أصنامهم لَا تملك نفعا ولا ضرا، والله تعالى يملك كل شيء يملك النفع والضر، والإنقاذ من أسباب الضرر.
وثانيتهما - أنهم يخوفون إبراهيم - عليه السلام - ولا سبب للتخويف ولا يخافون، وقد توافر سبب الخوف، وقوله تعالى: (مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا) قالوا: السلطان هو الحجة، وقد ورد السلطان بمعنى الحجة في آيات من القرآن الكريم، قال تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ. . .).(5/2568)
و (مَا) دالة على الأصنام التي صنعوها، و (مِن سُلْطَان) لاستغراق النفي، أي ما لم ينزل به سلطانا أي سلطان كان، والتعبير عن الحجة هنا بالسلطان، إشارة أولا إلى أنه لَا دليل يسوغ عبادتها، وثانيا أنها: لَا قوة لها، ولا سلطان لها، حتى تصيب بسوء أو بنعمة، إنما هي أوهامكم التي جعلت لها تلك الصفة.
وقد رتب الله تعالى على هذه الحال أن قال تعالى: (فَأيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ). الفاء هنا فاء الإفصاح الذي يفصح عن هذا الشرط المقدر، أي إذا كنتم تلجأون إلى من لَا يضر ولا ينفع، وتحسبون أنه يمس من لا يعتقد به، وإبراهيم يلجأ إلى الله تعالى الذي يملك كل شيء، فأي الفريقين أحق بأن يكون في أمن لَا خوف أهو الذي يلجأ إلى الله القادر على كل شيء أم الذي يلجأ في عبادته إلى أصنام لَا تضر ولا تنفع؛ وعلق سبحانه وتعالى الحكم على العلم؛ لأنه لَا حكم من غير علم؛ ولذا قال سبحانه وتعالى: إِن كنتُمْ تَعْلَمُونَ) أي إن كنتم تدركون الأمور على وجهها، ولا تسيطر عليكم الأوهام التي تضل ولا تهدي، وقال في أداة التعليق التي تفيد الشك في العلم، لَا اليقين فيه، وإنه لا ريب الحكم واضح بين، وهم الذين يعبدون الله وحده، ولا يلجأون إلا إليه في خوفهم.
ولذا قال تعالى في بيان الفريق الآمن:
* * *(5/2569)
الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
* * *
إذ الأمن من الخزي في الدنيا، ومن عذاب الله تعالى في الآخرة، يكون لفريق الإيمان، وهم الذين يؤمنون بالله تعالى ولا يخلطون إيمانهم بأي ظلم، ولا يعبدون مع الله غيره، ولا يقدمون أي شيء إلا بأمره، و " لبس " هنا معناها خلط.
وقوله: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) هنا فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشرك، روي أنه لما نزلت هذه الآية (الًّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) شق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ليس الذي(5/2569)
تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح لابنه: (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ باللَّه إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (1).
وكان الشرك ظلما، لأنه تجاوز الحد المعقول، إذا كان الظلم تجاوز الحد، فالشرك أشد الأمور تجاوزا للحد، وقد فسر الزمخشري الظلم بالمعصية سيرا على مذهب من أن مرتكب الكبيرة غير مؤمن، وقد نرى تفسيره من غير أن ننتهي إلى نهايته؛ لأن العصاة وإن كانوا يدخلون في أهل القبلة ليسوا في أمن من العذاب إنما يعذبون بمقدار ذنوبهم إلا أن يتغمدهم الله تعالى برحمته.
وقال بعض المفسرين: إن الظلم الذي يعد شركا ما يلبسون به إيمانهم وهو الذي يقرره عباد الأوثان من أنهم يؤمنون بأن الله خالق السماوات والأرض ولكنهم يجعلون الأوثان مع الله لأنهم يقربونهم إلى الله زلفى، كما جاء في قوله تعالى (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3).
وإن هذا التفسير ينتهي إلى أن الشرك هو الظلم، ولكنه يبين لنا لماذا عبر الله تعالى بقوله: (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) أي بشرك، فإنه يكون هذا التعبير ردا على المشركين الذين يقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فإنهم يكونون مشركين في عبادتهم، ولو كانوا معتقدين أن الله وحده هو الذي خلق السماوات والأرض، وأنه وحده الذي ينجي من ظلمات البر والبحر، وأنه وحده الذي يكشف الضر، وأنه وحده الذي يلجأ إليه، وإنهم مع هذا الاعتقاد مشركون أوثانهم مع الله تعالى في العبادة، ومناط الشرك هو الإشراك في العبادة، وخلوص النفس في العبادة لله وحده هو الوحدانية الحق، وقد قرر الله تعالى أن الأمن لهؤلاء الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك، ولذا قال تعالى: (أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) الإشارة إلى الموصوفين بالإيمان الذي لم يخالطه ظلم أو شرك،
________
(1) متفق عليه رواه البخاري. ورواه أحمد. وفي آخره زيادة: " إنما هو الشرك ". مسند المكثرين - مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (3578).(5/2570)
بسبب هذين الوصفين كان لهم الأمن من أن يصيبهم في الدنيا سوء، وإن كان يصيبهم نصب وتعب في الحياة الدنيا، وينالون الأمن المطلق في الحياة الآخرة والنعيم المقيم فيها، ورضوان الله تعالى، وأي أمن أعلى من هذا؟ ووصفهم الله تعالى بوصف فيه راحة النفس واطمئنان البال وهو نعمة الهداية فإنها وحدها نعمة لَا يحس بها إلا المهتدون.
انتهت محاجة إبراهيم لقومه الذين كانوا يعبدون الأوثان والكواكب والنجوم، وقد كانت محاجة بين حكم العقل، وحكم الأصنام، وانتهت المحاجة ببيان أن الأمن والهداية في جانب الحق، ولقد قال سبحانه وتعالى إن حجة إبراهيم هي حجة العقل، وهي الجديرة بأن تنسب إلى الله، ونسبها الله سبحانه وتعالى إليه. فقال تعالى:
* * *(5/2571)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
* * *
الإشارة في قوله: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا) هي الإشارة للبعيد، وهي تبتدئ من وقت أن جن الليل فرأى كوكبا فظنه ربه، ثم لما أفل نفر منه، وأنكر أن يكون ربا، ولما رأى القمر بازغا ظن هذا ربه، فلما أفل أحس أنه ضال إذ يتبع النجوم والكواكب في أفلاكها ثم رأى الشمس، فبهره ضياؤها وحجمها، فظنها ربه فلما أفلت علم أن ربه ليس كوكبا، ولا نجما مهما يعظم حجمه، وأن ربه هو خالق الشمس والنجوم، والوجود كله، ثم من بعد ذلك حاجه قومه فأفلج عليهم، الإشارة إلى كل هذا فكانت للبعيد، ولعظم الفكر وقوة الاستدلال مع البعد كانت الإشارة للبعيد، وأضاف الله سبحانه وتعالى الحجة إلى ذاته العلية إعلاء لمكانتها، ولصدقها، وتشريفا لمن أجراها على لسانه وقلبه، وقوله تعالى: (آتَيْأَهَا) أي أعطيناها له بإلهام الفطرة السليمة، والعقل الحنيف الذي لَا يميل إلا للحق، ولا يتجه إلا إليه، وكانت هذه حجة قوية، أفلج (1) بها على قومه، وقامت حجة
________
(1) من الفَلجُ: الطفَرُ، والفوزُ. كما في القاموس.(5/2571)
عليهم فيما يفعلون ويتوهمون، ويزعمون ثم يعتقدون الباطل الذي ليس فيه حق، ولا شبهة حق، إنما البهتان العظيم، والظلم العظيم للحقائق.
وإن الله تعالى اختار إبراهيم أبا الأنبياء لتقوم به الحجة؛ لأنه لم يخلق الناس في الفكر والعلم على سواء فمنهم الهادي المرشد، الذي اختاره الله تعالى ليكون رسول الحق إلى الناس، ورسوله إليهم، ومنهم الضال الذي يطلب الهداية ومنهم من أركس في الشر، وختم الله على بصيرته وسمعه وبصره، فلا يدرك حقا، ولا يستمع لداعي الحق؛ ولذا قال تعالى: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) الدرجات المراتب العالية في الهداية والتوفيق، وعبر سبحانه وتعالى بالمضارع " نرفع " لتجدد الرفعة المستمرة، فالوجود الإنساني يستمر الخير فيه بوجود الهداة المرشدين، والمستمعين الأخيار الذين يستمعون فيقولون سمعنا وأطعنا، وبجوار هؤلاء أولئك الذين يستمعون طيب القول، فيقولون سمعنا وعصينا، وبذلك يتفاعل الخير والشر في هذه الحياة، وسيق لبيان العاقبة للمتقين، قال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269).
وقد ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ). إن الله الذي رباك وقام على نفسك وعلى عقلك، وهدى الأنفس فجورها وتقواها، وعلمك ما لم تكن تعلم، عليم بكل شيء، حكيم يضع كل شيء بميزان، وله فيما يشاء ويختار الحكم والعبر البالغات، تبارك الله رب العالمين.
* * *(5/2572)
أبو الأنبياء
(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
* * *
بعد أن بين الله تعالى هداية إبراهيم - عليه السلام - والتفكير المستقيم الذي هداه إلى ربه، وأن الله رفعه بذلك الإدراك المستقيم، ليكون هاديا مرشدا، ذكر الله سبحانه وتعالى ذريته من النبيين الهداة المهديين من بني إسرائيل، ومن العرب، وأشار سبحانه إلى من سبقه من النبيين، فذكر نوحا، وهو من قبله.
لم يستطع إبراهيم المقام في قومه بعد أن بلغ ما بلغ من الإدراك، وبعد أن اتسعت الهوة بينه وبينهم عندما جعل أصنامهم جذاذا وألقوه في النار، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ(5/2573)
التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
رأى إبراهيم ذلك، وأنه لَا مقام له بينهم، ولا قبل له بتحويلهم، فهاجر واعتزلهم، وأخذ يطوف في الآفاق فذهب إلى بلاد الشام، وإلى مصر، وأخذ رسول التوحيد يبث التوحيد في كل ركن، ولا يصاحبه إلا امرأته ومعه ابن أخيه لوط عليهما السلام.
عوضه الله تعالى عن هذا الانفراد في هذا التطواف أن وهب له إسحاق ويعقوب، ومن جاء من ذريتهما، وأن جعل من ذريته إسماعيل ويونس ولوطا.
وإذا كان قد عاش مفردا داعيا إلى الله تعالى بين الوثنيين في الأرض فقد عوضه عن هذا الانفراد بأن جعل في ذريته النبوة والحكمة، وقد قال تعالى فور اعتزاله لقومه، وهجرته عنهم: (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا). وإن هذه المهمة لم تكن فور اعتزالهم، بل بعد أن جاهد داعيا إلى الوحدانية في وسط المدينة حينما كان في(5/2574)
بلاد المشرق وبعد أن بلغ الكبر، فقد قال تعالى حكاية عنه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ).
ولقد ذكر سبحانه وتعالى فيمن وهبهم له من الأنبياء خمسة عشر نبيا، وذكر نوحا من قبله، لأنه أبو الخليقة بعد آدم - عليه السلام - فهو الأب الثاني.
ولقد ذكر الله تعالى طائفة من أنبياء الله تعالى من ذرية إبراهيم بلغ عددها كما ذكرنا خمسة عشر نبيا، كان لكل منهم مزية خصه الله تعالى بها، وذكر رسالة نوح من قبل.
وإن الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم في هذه الآيات من ذرية إبراهيم أولا: إسحاق ويعقوب، لأن إسحاق أول أنبياء بني إسرائيل، وهو الأب الأول لهم، ويعقوب الذي يسمى إسرائيل، وينسبون إليه، وجاء الرسل والأنبياء من بعده، وقال تعالى عنهما(5/2575)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
(كُلًّا هَدَيْنَا) أي أعطى الله تعالى كل واحد منهما هداية قائمة بذاتها؛ لأن كل واحد كان نبيا مبعوثا، وتلك مكرمة لإبراهيم أن جعل ابنه وحفيده نبيين كل له هداية وبعثة.
بعد ذلك ذكر الله تعالى ذريته من غير ترتيب زمني، ولا ترتيب في المكانة، وتلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، ومن غير تفرقة بين أولي العزم من الرسل، وغيرهم، بل ذكرهم القرآن فيما يبدو مجموعات ظاهرة تجمع كل مجموعة منها صفة بارزة فيها.
المجموعة الأولى - بعد ذكر نوح وإسحاق ويعقوب الذين كان لكل واحد منهم هداية بعثه الله تعالى بها، وإن تلاقت الهدايات كلها، لأنها من الله تعالى موحد الشرائع، وهم: داود وسليمان، وأيوب ويوسف، وموسى وهارون وهذه المجموعة تمتاز بالصبر، وهو واضح في حياة كل نبي منهم، فداود وسليمان كانا خليفتين في الأرض، ولهما ملك شرقي وغربي، والملك العادل يحتاج إلى صبر حكيم بالامتناع عن الظلم، وهو شهوة الملوك وداؤهم، وإن الصبر على نعمة(5/2575)
يحتاج إلى أفق أوسع من الصبر في الشديدة، فتحري الأحكام، وتعرف أسبابها وغاياتها يحتاج إلى عقل أريب (1) مدرك ونفس هادية مؤمنة.
وكان داود وسليمان، من رجال الحرب الذين لقوا بأسها وشدتها، والصبر في البأس أمر واضح بين، وأيوب - عليه السلام - صبر على الضراء إذ نادى ربه رب أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، وقد ضرب به المثل في الصبر على الضراء لكل من يصيبه ضر، حتى لقد قالوا في أعلى درجات الصبر، إنه صبر أيوب، فقد صبر من غير أنين ولا شكوى، مع الرحمة والمحبة لمن عاشره في ضرائه.
ويوسف - عليه السلام - كان عبدا صابرا، صبر على كيد إخوته، وإظهارهم البغض والعداوة، ثم صبر على نعمة السلطان بعد ذلك، فاجتمع له نوعان من الصبر، صبر على البأساء والشديدة حتى إنه ليسترقّ، وصبر عن هوى الشيطان وكف لشهوة النفس، وإنه رأى برهان ربه في أدق المواقف انفعالا نفسيا، وتعرض لمهاوي الشهوات، (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ. . .). وصبر على السجن مع الإحساس بالبراءة، وصبر على كيد النساء مع الكتمان من غير إفحاش، ولا تفحش، ابتلاه الله بترغيب النساء، فتقبل السجن عن أن يكون تحت إغرائهن: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكن مِّنَ الْجَاهِلِينَ).
وهكذا نجد المغالبة بين الإغراء الجارف، والصبر والعزيمة، وضبط النفس من الشاب القوي الجميل، ولقد هيا الله تعالى من بعد ذلك لهذا الشاب القوي أن يجلس على عرش مصر، فيكون الصبر على العدل، وتنظيم سياسة الاقتصاد، ومدافعة أهواء الناس، مع الصبر على البعد عن الأقارب، وعن أبيه الصابر الشفيق
________
(1) الأرِيبُ: العاقلُ. ورَجُل ارِيب من قوم أرَباء. لسان العرب.(5/2576)
الرفيق، ثم يكون بعد ذلك الصبر الكريم عن حب الانتقام، والعفو الذي تطيب به النفوس، فيقول لإخوته: (قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92).
وموسى وهارون، وكانا من عباد الله الصابرين، صبرا على أذى فرعون لقومهما، كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم، وصبر موسى كليم الله الذي عاش في بيت فرعون عدو قومه، فصبر على مجابهة أهله، حتى اجتذب بصبره وتحمله من آمن من آل فرعون، وكان على رأسهم امرأته الطيبة الطاهرة.
وصبر كليم الله تعالى على بني إسرائيل بعد أن خرج من أرض فرعون، صبر على فساد قلوبهم، فكان يعالجه بصبر المؤمن التقي الهادي، وصبر على كفرهم، وعاود دعوتهم إلى الإيمان، وصبر عندما اتخذوا العجل إلها، وصبر عليهم وهم يقولون اجعل لنا إلها، كما لهم آلهة.
دعاهم إلى القتال ليدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله تعالى أن يدخلوها، فقالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
ثم كان القتال بهؤلاء المستخذين الضعفاء في أنفسهم، الأقوياء في أبدانهم تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، وإني أحسب أن صبره عليهم، كان كصبر أيوب، وإن اختلف الشكلان، والنوعان، ولكن كليهما صبر.
وختم سبحانه الآية بقوله: (وَكذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ) أي كهذا الجزاء من الهدى نجزي المحسنين، وحيث كان الإتقان والإحسان كان الصبر.
والمجموعة الثانية - تمتاز بالروحانية والزهادة في الدنيا إلا ما يكون للحلال الصرف وهم زكريا ويحيى وعيسى، وإلياس، فزكريا هو الذي كان قائما على المسجد الأقصى، وهو الذي ربَّى مريم البتول (. . . وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. . .).(5/2577)
ويحيى ابنه الذي كان إجابة دعوة أبيه زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا، فأجاب الله نداءه (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39).
وعيسى كانت ولادته معجزة، وكانت حياته كلها معجزة، وقد أتى بالبينات، كان ينفخ في الطين كهيئة الطير فيكون طيرا بإذن الله، وينادى الموتى فيخرجون من قبورهم بإذن الله، ويبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وينبئهم بما يأكلون ويدخرون في بيوتهم، وإلياس كان قليل الطلب للحياة وملاذها كإخوانه من أولئك ذوي الأرواح الطاهرة، وإنه حيث كانت المادة كان النزاع في الأرض، وحيث غلبت الروحية كان الصلاح في الأرض، وكان منع الفساد، ولذلك قال تعالى عقب ذكر هذه المجموعة الطاهرة النى امتلأ قلبها بنور الله والروح الزاهدة. وقد وصفهم الله تعالى بوصف الصلاح الكامل، لأنه ذهبت عنهم كل أدران المادية الداعية إلى النزاع في الأرض(5/2578)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85)
(كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ)، أي كل واحد من هؤلاء من الصالحين الداخلين في جماعتهم وهم وجهاء في الدنيا والآخرة.
المجموعة الثالثة - هي ذرية إبراهيم من العرب، وهم إسماعيل باني الكعبة مع أبيه، وابنه البكر، والذبيح الذي فداه الله تعالى بذبح عظيم، وقد قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين، واليسع ويونس، ولوط وكان ابن أخيه، فكان من ذريته بهذا الاعتبار.
وكان من صلب إسماعيل محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبهذا كان لهم فضل فوق كل فضل سبقه؛ لأنه اجتمع في محمد - صلى الله عليه وسلم - الصبر والإقدام في موطن الإقدام، والروحانية بما لَا يقل عن روحانية عيسى، ولذلك قال تعالى:(5/2578)
وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)
(وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ) أي أن كل واحد من هؤلاء كان له فضل على العالمين بفضل الله تعالى، والله ذو فضل عظيم.(5/2578)
وهناك مجموعة رابعة من الأنبياء لم يذكرهم الله تعالى من ذرية إبراهيم، ولكنهم من ذوي قرابتهم، أو من جنس الأنبياء، وإن لم يكن لهم من قرابة إلا أخوة الأنبياء، فقد قال تعالى فيهم:(5/2579)
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
(وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ). أي جعلنا أنبياء أخلصوا وجوههم لله من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم كإدريس - عليه السلام - وشعيب وهود، وصالح، وغيرهم، وقد اجتبيناهم أي اصطفيناهم، واخترناهم للرسالة الإلهية، وهديناهم إلى صراط مستقيم من الحق لَا اعوجاج فيه، ولا التواء، والصراط الطريق كما ذكرنا من قبل، ولقد قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صرِاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عن سَبِيلِهِ. . .)، والصراط
المستقيم هو صراط الحق جل جلاله، ومن سار فيه لَا يضل ولا يغوى. وإن ما عليه أولئك النبيون من صبر في النعماء والضراء، والقوة والضعف، والشدة والرخاء، ومن سيطرة للروح على الجسد، وجعله خادما لمطالب الحياة، والعزة التي لَا ذلة فيها، والتواضع الذي لَا ضعة فيه، هذه هي الهداية تؤخذ من أخلاق النبوة، هذا هدى الله تعالى؛ ولذا قال تعالى بعد قصص الأنبياء السابقين:(5/2579)
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)
(ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).
الإشارة هنا للتقييد، وهو ما ذكر من إحسان الأنبياء وروحانيتهم، وما فعلوا من خير هو هدى الله تعالى المنسوب إليه، المطلوب من العباد من اتباع النبيين، يختار الله من عباده من يهديه، إذا سار في طريق الخير، واتبع سواء السبيل فإنه إن اتجه إلى الله هداه الله، وإن اتجه إلى الشيطان، أكسبه الله تعالى فضلا، وفي نفسه أسباب الهداية، ولكنه طمسهأاغواء الشيطان.
وقد قال تعالى: (مِنْ عِبَادِهِ) فالجميع عبيد لله تعالى يهدي إلى الحق من كتب الله له الهداية على النحو الذي بيناه وإن هؤلاء، وصلوا إلى ما وصلوا بالوحدانية (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ). " لو " كما يقول النحويون: حرف امتناع لامتناع، أي امتناع الجواب لامتناع الشرط، أي لو أشركوا، وهو ممتنع عليهم لاختيار الله، لحبطت أعمالهم وهو أيضا ممتنع لامتناع الشرط،(5/2579)
وحبوط الأعمال بطلانها حتى كأنها لم تكن أي يذهب ما في الأعمال من الخير ولسلبت منهم الهداية، فالشرك يمحو كل خير، ويذهب بكل عمل نافع، وما يفعله المشركون من خير يكفرونه.
والشرط هنا مع امتناعه وامتناع الجواب للتحريض على الوحدانية، وترك الشرك تركا تاما، وبيان أنه يحبط كل عمل يظن فيه الخير، ألا ترى أنه يحبط عمل الأنبياء، وهداهم، فكيف لَا يحبط عمل من دونهم، فالنص تقبيح للشرك أيَّا كانت صورته، وحث لهم على فعل الخير، وحمايته بالوحدانية.
ولقد بين الله سبحانه وتعالى ما آتي به النبيين من فضل، فقال تعالى:
* * *(5/2580)
أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ... (89)
* * *
الإشارة إلى الأنبياء الذين ذكر الله تعالى بعضهم بأسمائهم، ورتب جموعهم من حيث الغالب على أوصافهم، و (آتاهم) معناها أعطاهم.
والكتاب هو الكتاب المنزل، والمراد جنس الكتاب، وليس كتابا معينا كالقرآن أو التوراة، ومعنى أوتوه أنهم أوتوا علمه، وعلموه، ونشروه وتوارثوا ما اشتمل عليه، فيشمل الذين أوتوه من - نزل عليهم، ومن جاءوا داعين إلى ما فيه، والتكليفات التي اشتمل عليها، كبعض الأنبياء الذين لم ينزل عليهم كتاب، ولكن بينوا الكتاب الذي جاءوا لبيانه، كأيوب ويوسف، وسليمان، ويشمل الذين أوتوا - من عملوا به وأقاموا دعائمه من أتباع النبيين المخلصين الذين لم يغيروا ولم يبدلوا ولم يحرفوا، ولم يبدوا قراطيس يبدونها، ويخفون كثيرا منها.
والحكم، وهو الفصل بين الحق والباطل والظلم والعدل، والصالح والفاسد، ويدبرون الأمور على الهدى، والشرع.
والنبوة، وهي الإنباء عن الله بخطاب منه سبحانه، وما كان خطابه سبحانه إلا أن يكلم من وراء حجاب، أو يوحى إليه أو يرسل رسولا. وقد أفرد الله سبحانه وتعالى النبوة بالذكر مع أن ما مضى يتضمنها، وذلك لشرفها باتصالها(5/2580)
بالله تعالى وللتصريح بالأنبياء الذين لم ينزل عليهم كتاب، ولبيان مكان العلم الذي أوتوه واتبعوه، وأنه عن الله العلي الحكيم، وليرتب الحكم على الكفر بها إذ كان من العرب من كفر بالنبوة، وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء.
ولذلك قال تعالى: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ).
الإشارة إلى هؤلاء الذين أنكروا النبوة، وكان من المشركين من قريش وغيرهم من كانوا يجابهون النبي - صلى الله عليه وسلم - بإنكار أصل النبوات، وأن تكون مع النبي رسالة في قرطاس من الله سبحانه وتعالى أو يكون معه ملك، كما سيذكر الله تعالى من بعد ذلك، (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ. . .)، وسيجيء الكلام في هذه الآية قريبا إن شاء الله تعالى.
كان المشركون ينكرون أصل النبوة، فالإشارة في قوله تعالى: (فَإِن يَكْفرْ بِهَا هَؤُلَاءِ) هو الإشارة إلى قوم النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين أنكروا نبوته، وحاربوا رسالته، وآذوه هو والمستضعفين من المؤمنين، وصابرهم حتى كانت الهجرة وهذه السورة مكية، فتعينت الإشارة إلى من ناوءوا الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله تعالى: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ) شرط جوابه: (فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) ومعنى وكلنا، عهدنا إلى قوم من بعد كفركم يحفظونها، ويصونونها، وينقلونها للأخلاف من بعدهم جيلا بعد جيل، فيقال: وكلت فلانا بهذا الأمر أي عهدت به إليه يقوم عليه، ويحافظ.
وهؤلاء الأقوام الذين وكل الله بهم أمر النبوة المحمدية، ليسوا كافرين بها، بل يؤمنون ويصدقون، وقدم الجار والمجرور وهو (بها) على (كافرين)، للاهتمام، والتنبيه.
وإن هذا النص، فيه تبشير للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين بأن عهد الظلم والإيذاء سيأتي بعده عهد النصرة والقوة، وفيه تبشير للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأن هذا سينتشر(5/2581)
بين الناس، وستخالف فيه الأقوام، ولن يكون مقصورا على العرب، بل يتجاوزهم إلى الفرس والرومان والشام ومصر، وسيعتنقه الأبيض والأسود، وكل من له في الدعوة إليه فضل عظيم.
وأكد الله سبحانه وتعالى ذلك بـ (قد)، وأكد إيمان أولئك الذين سينصرونها بأنهم ليسوا بها بكافرين فنفى عنهم الكفر نفيا مؤكدا مستغرقا شاملا.
* * *
(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
* * *
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى الأنبياء من ذرية إبراهيم ومن قبله، وما اختص به بعضهم من الصبر وشكر النعمة، والعدالة في القوة، وبعضهم من الزهد، والروحانية، وبعضهم من الصدق في القول والوعد، بين الله تعالى أن أولئك الأنبياء نالوا هدى الله، وصبروا على أقوِامهم، وأنه حق على محمد خاتم النبيين أن يقتدى بهم فقال تعالى:(5/2582)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
(أُوْلَئِكَ الَّذِين هَدَى اللَّهُ).(5/2582)
الإشارة إلى ما كانوا عليه من صفات الصبر والشكر والزهد والصدق والتوحيد، ومجالدة المنكر، والصبر على أذى المعاندين، فالإشارة إلى أشخاصهم المتصفين بهذه الصفات العليا، وهي أساس هداية الله، وأسند سبحانه وتعالى الهدى إليه تشريفا لمعناها، وبيان أنه اختارها، واختيار الله تعالى يوجب اتباعها، والسير في طريقها، ولذا قال سبحانه وتعالى: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) الهاء هي هاء السكت تكون عند الوقف على المحذوف حرف العلة منه بالجزم تعويضا لذلك المحذوف، وينطق عند الوقف، وقال بعضهم لَا ينطق بها إذا لم يقف، ولكن الحق أنه ينطق بها في الأحوال كلها؛ لأنها مكتوبة في المصحف الإمام، ولا يوجد في هذا المصحف ما لَا ينطق به.
والاقتداء الموافقة في سلوك الطريق الذي سلكوه، والهدى الذي اتبعوه، والمنهج الذي نهجوه، و (الفاء) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لأنه إذا كان ذلك الهدى من الله فإنه يجب اتباعه، والاقتداء بهم فيه وتقديم (بهداهم) على (اقتده) للاختصاص، ومؤداه الاقتداء بهذا الهدى دون غيره، إذ إن الهدى هدى الله فلا هداية إلا هدى الله.
(هُداهم) كما أشرنا التوحيد، وألا تشركوا بالله شيئا، وما جاءوا به من شرائع أبدية لَا تتغير بتغير الأزمان، وبما اتصفوا به من صفات الصبر، والشكر والروحانية، والزهد، والصدق والأخلاق الكريمة، وإن الاقتداء يوجب الدعوة إلى هذا الهدى.
وإن هذا الكلام السامي يفيد أن الأنبياء الذين تختلف مراتبهم، وخواصهم، وصفاتهم كما قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ. . .).
قد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهم جميعا في صفاتهم كلها مجتمعة، فهو يكون بهذا الاقتداء جامعا لكل ما عندهم منهم؛ لأنه خاتم الأنبياء، ولأنه مخاطب للأجيال كلها، وأرسل للناس كافة بشيرا ونذيرا، فكان هو وشريعته صالحين لكل(5/2583)
الأجيال؛ لأنه وشرعه جمعا كل ما عند الأنبياء السابقين من صفات فاضلة ومراتب من التكليفات عالية.
وإذا كان ذلك مقام رسالته، فقد أوجب الله سبحانه وتعالى الدعوة إليها: لأنها الكمال البشري، وأنه لَا يريد منهم جزاء ولا شكورا؛ ولذا قال تعالى مخاطبا نبيه: (قُل لَا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا) لَا أريد منكم أي أجر من مال أو جاه أو سلطان لقد ظنوا بادي رأيهم أنه يريد مالا فعرضوا عليه مالهم، أو يريد السلطان فيسودوه عليهم، فبين الله لنبيه أن يقول لهم إن شيئا من أعراض الدنيا لا يريدها، ولكن يريد الإصلاح والتذكير بالله واليوم الآخر (إِنْ هُوَ إِلَّا ذكْرَى لِلْعَالَمِينَ).
إن المقصود من إنزال الله تعالى القرآن على نبيه الكريم ليس مالا يأخذ، ولا سلطانا يفرضه، ولا سيادة يطلبها وإنما جاء للذكرى والموعظة والهداية للعالمين أي للعقلاء أجمين، فهو ذكرى لهم بما فيه صلاحهم، وقيام أمرهم، ونشر العدالة، وذكرى لهم باليوم الآخر، وما فيه من حساب وعقاب، وذكرى ربهم بأن يكونوا دائما ذاكرين، أي تذكر دائم لله تعالى، وفي ذكر الله طب للقلوب من أدوائها.
وإن ذكر هؤلاء الأنبياء ونسبتهم إلى إبراهيم - عليه السلام - تذكير لعرب مكة ومن حولها بالنبوة الأولى نبوة نوح أولا، ونبوة إبراهيم أبيهم الذي ينتسبون إليه ثانيا، وتعليمهم أن الله يرسل أنبياء ورسلا، ولا يصح أن يكفروا بإرسال الله تعالى، والعرب وقت بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - كان كلامهم ينبئ عن أنهم لَا يؤمنون برسالة ولا رسول، وجابهوا النبي - صلى الله عليه وسلم - منكرين أصل الرسالة مستغربين لها، قال تعالى: (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ. . .)، وقال تعالى: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94).(5/2584)
وأنكر اليهود أن يكون محمد رسولا زاعمين أن الرسالة فيهم.
ولذلك نزل قوله تعالى ردا على كل من أنكر أن يرسل الله بشرا رسولا، وعلى من أنكر أن تكون الرسالة في غير بني إسرائيل؛ ولذا قال تعالى:(5/2585)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
(وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّه عَلَى بَشَرٍ من شَىْء).
قَدَرَهُ أن تَعَرَّف مقداره بكيل أو وزن أو قياس، ولما صارت تطلق على العقلاء كانت بمعنى تقدير المعاني، والمعنى هنا (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ) ما علموه حق العلم، وما عظموه حق التعظيم، إذا اعتقدوا أن الله لَا يبعث بشرا رسولا؛ لأن ما خلق هذا الوجود الإنساني عبثا، بل بعثه ليتحمل الأمانة التي حملها بمقتضى فطرته، وليكون خليفة في الأرض وما كان ليبعثه، ويتركها من غير بشير ونذير، يرشده إلى الحق، وينذره لكيلا يقع في الآثام، فكان من مقتضى الحكمة الإلهية أن تكون الرسالة الإلهية ليهدي الرسول ويرشد، وينذر، ويجنب الإثم والشر (. . . وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، وقال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نبْعَثَ رَسُولًا).
أنكر المشركون الرسالة الإلهية، وأنكر اليهود أن تكون في العرب، فرد الله تعالى كلامهم بالحجة الباهرة وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن يورد الحجة على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك كل أمر يرد الله به على باطل المعاندين يأمر رسوله أن يتولى هو الرد عليهم، بما أوحى الله تعالى به، وهذا ما يلاحظه المتتبع لكتاب الله تعالى بترك الرد على باطلهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - بأمره وبيانه.
قال الله تعالى آمرا نبيه: (قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَذِى جَاءَ بِهِ موسَى). أي بينا واضحا كالنور في تكليفاته ومعانيه، ليكون مصدر الهدى للناس، يعلمون التكليفات والعقائد السليمة منه، ويرشدهم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة، إن أطاعوه، وأخذوا بما فيه، واهتدوا بهديه.(5/2585)
ولقد قال سبحانه بعد ذلك: (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ). والقراءة المشهورة بالتاء في (تجعلونه)، و (تخفون) (1)، وهناك قراءة صحيحة متواترة، بالياء في الاثنتين.
وقد اختلف في هذه الآية أنزلت بمكة، وهو الأصح، أو نزلت بالمدينة، والخطاب فيها ابتداء لليهود الذين غيروا وبدلوا ونسوا حظا مما ذكروا به، والقراطيس هي الصحائف من التوراة المكتوبة أبدوا بعضها، وأخفوا أخرى، وعلى بـ " مِن " أن الآية مكية، تكون قراءة الآية سائرة على مقتضاه، فيكون الاحتجاج بنزول الآية نقضا لعموم نفيهم إذ قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء فقد نفوا مؤكدين بمن أي بأي شيء، والنفي العام ينقض بإثبات أي جزء من المنفي، والجزء الذي ذكره القرآن هو نزول التوراة، وقد كانوا يعرفونها، وإن لم يقرأوها، ويتسامعون بينهم بها، وإن لم يتداولوها؛ لأنهم قوم أميون، وكانوا يلتقون باليهود، ويعرفون أنهم أهل كتاب دونهم؛ وذلك لأن أهل مكة كانوا تجارا يذهبون إلى اليمن وإلى الشام في متاجرهم فيمكن الاحتجاج عليهم بما عند اليهود إذ يعلمونهم، والمعنى أنه ثبت أن اليهود نزل عليهم كتاب هو في أصله نور وهدى، وذلك ينقض قولكم ما أنزل الله على بشر من شيء، وبعد أن ذكر سبحانه وتعالى التوراة بالإكبار، لأنه كتاب من عند الله تعالى، ذكر سبحانه وتعالى ما فعله اليهود فيها مزقوها، وجعلوها قراطيس أبدوا بعضها، وأخفوا كثيرا، وليست الكثرة بمقدار ما أخفوا، ولكن بقيمته، وكان فيما أخفوا البشرى بمحمد - صلى الله عليه وسلم - الذي ينكرون؛ وإن الرسالة التي أنكرتم أصلها، وألزمتم بها - فيها خيركم، وفيها رفعكم من مرتبة الأمية إلى العلم، وفهم الحقائق الدينية، ولذا قال تعالى:
(وَعُلِّمْتم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ) وعلى أن الآية مكية مع قراءة التاء، يكون على أنه بعد إثبات نزول التوراة الذي ينقض نفيهم يكون هناك التفات من الحديث عن الغائب إلى الحضور لتوبيخ اليهود على صنيعهم، فكان ثمة احتجاجان في
________
(1) (يجعلونه. . يبدونها. . ويخفون)، بالياء غيباً ابن كثير، وأبو عمرو، وقرأ الباقون بالتاء.(5/2586)
النص القرآني احتجاجا على المشركين من أهل مكة بنقض النفي العام عندهم بنزول التوراة التي تفيد أنه كان من البشر رسول من أولي العزم من الرسل، واحتجاج على اليهود الذين غيروا وبدلوا أو احتجاج على العرب، وتوبيخ وتنديد بعمل اليهود.
هذا كله على أن الآية نزلت بمكة، أما على أنها مدنية فيكون الخطاب ابتداء لليهود الذين كانوا يجادلون النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد روي عن ابن عباس أن اليهود قالوا في القرآن: ما أنزل الله كتابا، ويكون قوله تعالى: (تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تبْدُونَهَا وَتخْفُونَ كَثِيرًا)، توبيخا شديدا لهم، ولوما عنيفا على تغيير في كتابهم وإنكار الحقائق الاعتقادية التي اشتمل عليها، وعلمتم بهذا الكتاب ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم، وافتريتم بأنكم أهل علم بكتاب، وجحدتم حقوق غيركم بانتمائكم إلى هذا الكتاب، وقلتم ما علينا في الأميين من سبيل، وإن كنتم بذلك ظالمين.
وتفسيرها على هذا واضح بين، وكونها آية مدنية في سورة مكية لَا يمنع، فإن العبرة بكون السورة مكية بالأغلب الكثير، لَا بالنادر القليل، وقد قال بعض الناس: إنها نزلت مرتين مرة في مكة وأخرى في المدينة، وأودعت في سورة مكية؛ لأنها نزلت فيها أول مرة، وعلى قراءة (يخفون) و (يجعلون)؛ يكون التفات عن اليهود تحقيرا لأمرهم، ومبالغة في توبيخهم على ما حرفوا وبدلوا.
سألهم الله تعالى على لسان رسوله الأمين (مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاءَ بِهِ موسَى) ولكن الجواب لم يجئ إلا في آخر الآية الكريمة، وكان الجواب الكريم الذي أمر الله نبيه أن يقوله: (قُلِ اللَّهُ) أي الذي أنزله الله تعالى القادر على كل شيء الذي لَا يبعد عن سلطانه شيء في هذا الوجود، وإذا كان قد أنزل التوراة فهو منزل القرآن، قال الله تعالى لشبيه: (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)، قل لهم (اللَّهُ) بإيجاز، ولا تزدهم، ليتفكروا أو يتدبروا بما فيه أمرهم إن كان فيهم عقل غير عابث، (ثُمَّ ذَرْهُمْ) أي اتركهم (فِى خَوْضِهِمْ) في القول الذي(5/2587)
لا يعرفون مرماه، ولا يدركون نهايته، ولا يصلون إلى مؤداه لاعبين، فقوله تعالى: (يَلْعَبُونَ) حال من ضمير ذرهم.
وقد ذكر الله تعالى ذلك الكتاب الذي أنكروه، فقال تعالت كلماته:
* * *(5/2588)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
(وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ... (92)
* * *
(وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ) الإشارة إلى الكتاب وهو القرآن ذكر الله تعالى أمورا ثلاثة، بعضها فيه معنى التعليل، وبعضها فيه تعليل بالغاية، وأولها أنه (مُبَارَكٌ)، ومعنى البركة النماء والزيادة، وإن القرآن مبارك في معانيه فهو يشمل كل علوم الدين والأخلاق، وفيه ذكر للكون، وفيه بيان العقيدة الإسلامية، وفيه أسماء الله الحسنى، وفيه أوصاف الله الذاتية، وثبوت الكمال المطلق لله تعالى، ونفي كل ما لَا يليق بالله، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وفيه كل أصول التكليفات الدينية، وفيه القصص الحق عن النبيين، وعن الأمم التي خالفت أنبياءها وكيف كان مصيرها، وإن معانيه وما كشفه ألفاظه تذهب في العقول إلى مذاهب من الإدراك لَا نهاية لها، وكلما أمعن القارئ في ألفاظه وعباراته أشعت منها نورا مبينا، وذكرا حكيما، حتى قال بعض الناس إن للقرآن ظاهرا وباطنا، إذ كلما أمعن فيه بالنظر، أدرك ما لم يكن من قبل، وهو يوجه الأنظار إلى علم الأكوان بإشارات لامحة، وعبارات واضحة.
ومهما نتكلم في معاني القرآن، فلن ندرك الغاية، ولا نقاربها، وهذا يصور معنى أنه مبارك الأمر الذي في القرآن أنه مصدق الذي بين يديه، ونجد اللفظ عاما لكل ما بين يديه من أخبار الأنبياء السابقين وأخبار أقوامهم، والعبر، والمثلات فيهم، فهو سجل النبوات، ومعجزات الرسل، وكان كذلك ليعلم بها من يعلم، ومن عنده العظة والاعتبار، كما قال تعالى: (. . . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ)، ومصدقا للكتب السابقة من التوراة والإنجيل والزبور.(5/2588)
كان القرآن لذلك كله (وَلِتُنذِرَأُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأم القرى هي مكة؛ لأنها في البلاد العربية فإنها الأصل لها، وذلك لأن بها البيت الحرام التي يتخطفت الناس من حولهم وإذا جاءوا إليها كانوا آمنين، فهي الملجأ من كل مخوف، ولأن الناس يحجون إليها، ولأنها كانت وسط التجارة في البلاد العربية، ولأن بها قريشا ذرية إبراهيم - عليه السلام - وقد قال بعض العلماء: إنها جغرافيا تعد في وسط العالم، لذلك سميت بأم القرى.
وإنذار أم القرى هو إنذار أهلها، وإطلاق المكان وإرادة أهله هذا كثير في القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: (فَلْيَدْعُ نَادِيَه)، وما كانت البقع والمباني لتنذر إنما ينذر أهلها.
(وَمَنْ حَوْلَهَا) من مساكن سواء أكانت لأهل المدر أم كانت لأهل الوبر، بل يمتد ما حولها إلى الفرس والشام وما وراءه والرومان وغير ذلك، للدلالة على عموم الرسالة المحمدية، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كان كل نبي يبعث لقومه، وبعثت للأحمر والأسود " (1). ولقد قال تعالى في عموم رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقِرآن: (. . . وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)، وقال تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2).
وهكذا نجد الآيات الكثيرة الدالة على عموم الرسالة المحمدية، وهو خاتم النبيين، فلا نبي بعده، وما كان الله تعالى ليترك عباده سدى من غير نذير يرهب بسوء عاقبة الشر، وبشير يبشر بحسن العاقبة لأهل الخير.
________
(1) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَكَانَ النَّبِيُّ إِنَّمَا يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ، فَلْيُصَلِّ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ ". رَواه أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند جَابر رضي الله عنه (13852). وأصله عند البخاري ومسلم بنحوه.(5/2589)
وإن القرآن يؤمن به من يدرك حقيقة الدين، وحقيقة الدين أن يعلم الإنسان أنه لم يخلق عبثا، وأن الحياة الآخرة هي الحياة الباقية، وأن الدنيا سبيل لها، وأن نعيمها هو الباقي.
ولذا أخبر تعالى أن الذين يؤمنون بالآخرة هم الذين يؤمنون بالقرآن فقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنونَ بِهِ) ذلك أن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بالحق والخير؛ لأنهم يرون أن الحياة الدنيا فيها التنازع بين الخير والشر، بين النفس اللوامة، والنفس الأمارة، ولا بد أن ينتصر الخير، لأنه الفطرة، ولا يكون ذلك إلا بحياة أخرى، ولأن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بحكمة الإيجاد والتكوين، ولا يمكن أن تكون نتيجة الحياة النهائية هي تلك المغالبة وذلك التناحر، وفوق ذلك أن الإيمان بالغيب يجعل النفس مستسلمة لله تعالى راضية بما عنده، وما أعده لها من نعيم، فلهذا كان الإيمان بالآخرة والإيمان بالقرآن العظيم متلازمين لَا ينفصلان، فمن آمن بالآخرة آمن بالقرآن، ومن آمن بالقرآن آمن بالبعث والنشور والقيامة واليوم الآخر.
وإن كمال وصف المؤمنين بالقرآن أن يكونوا صالحين غير مفسدين، وألا يعملوا إلا معروفا، ولا يقع منهم منكر، وذلك بالصلاة التي هي عمود الدين لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتملأ النفس بذكر الله، وبذكر الله تطمئن القلوب، ولذا قال تعالى: (وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) وتقديم الجار والمجرور لبيان أن اختصاص الصلاة بالمحافظة يؤدي إلى كل الخير، والمحافظة عليها بإقامتها مستوفية الأركان حسا ومعنى، وامتلاء النفس بخشية الله تعالى، وأدائها في أوقاتها فإنه بهذا يكمل الدين، ويتم الإيمان.
* * *(5/2590)
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
* * *
بين الله تعالى منزلة كتابه الكريم وذكر أنه الحق الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد بدأ سبحانه وتعالى بذكر ظلم من يفترى عليه سبحانه، ويدعى أنه أوحى الله تعالى إليه، ولم يوح إليه بشيء، فقال تعالى:(5/2591)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ).
الاستفهام في قوله تعالى (وَمَنْ أَظْلَمُ) هو للإنكار بمعنى النفي، وفيه من التنديد بالذين يفعلون ذلك أشد التنديد، وقد ذكر سبحانه افتراءهم على الله بنفيهم إنزال الرسل، وقولهم: (. . . مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ. . .)، والآن يبين أنهم لَا يقفون موقف الإنكار، بل يبهتون ويكذبون ويفترون، وذكر سبحانه طوائف ثلاثة ترتكب في حق الله تعالى أشد الظلم لأنفسهم(5/2591)
بتضليلها وإيغالها في الشر وظلم الناس بنشر الباطل بينهم وتضليلهم، وظلمهم للحقائق الدينية.
أولى هذه الطوائف التي افترت على الله تعالى كذبا، أي اختلقت على الله كذبا، والافتراء هو اختلاق الكذب، وهو يتضمن معنى الكذب، ولكن صرح بالكذب، لبيان شدة افترائهم، واختلاقهم، وكلامهم الباطل الذي ليس له أصل من الحق أو الحقيقة كعبادتهم الأوثان، وادعاء أنهم يقربونهم إليه زلفى، وكادعاء النصارى أن لله ولدا، وأنه إله، وكتحريم المشركين بعض النعم على أنفسهم، وتحريم البحيرة والموصولة، وغير ذلك، وكافترائهم على الله بأنهم أولياؤه وأحباؤه، فهؤلاء في أشد أحوال الظلمة.
الطائفة الثانية - تلك التي تدعي أنه أوحى لها، ولم يوح إليها بشيء كبعض المقربين من النصارى مثل بولس الذي كان وثنيا، وادعى بعد ذلك دخوله في دين المسيح وحوَّله من وحدانية، إلى وثنية، وادَّعوا أن من سموهم رسلا أوحى إليهم وتجلى لهم روح القدس، وغير ذلك من الأوهام الباطلة، والأكاذيب التي ما أنزل الله بها من سلطان، وكبعض الأعراب الذين كانت منهم نواة الردة الذين ادَّعوا أنه يوحى إليهم كما يوحى إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -.
الطائفة الثالثة - التي ادَّعت أن القرآن لَا يعجز، وأنها ستنزل مثل ما أنزل الله تعالى من قرآن، وقد أخبر تعالى عنهم، فقال: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ).
هؤلاء الطوائف الثلاث هم أظلم الناس، لأنهم كذبوا على الله تعالى، وأضلوا أنفسهم وأضلوا الناس وكان كلامهم افتراء، وإن هذا النوع الذي يبهت الناس بالباطل هو الذي نشر الأديان الباطلة والأوهام الكاذبة، وما من عقيدة باطلة تنتشر إلا بظلم هؤلاء، ومن تبعهم.
وإن هؤلاء مآلهم جهنم وبئس المصير، وقد صور الله تعالى حالهم، وأرواحهم تنتزع من أجسامهم، والأيدي تبسط إليهم بالعذاب الشديد العتيد المهيأ(5/2592)
لهم، فقال تعالت كلماته: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ) والغمرات الشدائد، جمع غمرة أي شِدَّة، وأصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيغطيها، وإطلاقها على الشدائد من قبيل أنها مغمورة فيها لَا تكاد تخرج منها؛ ولهذا قد أحاطت بها، كما يغمر الماء الغريق، فيحيط به من كل جوانبه، وغمرات الموت شدائده التي تكون عند الاحتضار أو عقبه، يحسّ فيها بغمرة شديدة عند الموت، وإذ يقبر، والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار (1)، وإنهم في هذه الحال التي يحتضرون، وبعد موتهم؛ الملائكة تبسط أيديهم بالشدة والعذاب المهيا لهم، ولذا قال تعالى: (وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ) تقول لهم بلسان الحال (أَخْرِجُوا أَنفُسَكمُ) يقال بسط يده بالعطاء وبسط يده بالحرب، والبلاء والشدة، وذكرت في القرآن كثيرا بمعنى الشدة، ولذا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْديَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنَكُمْ. . .).
وقول المعتدى عليه من ولدى آدم: (لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِط يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) أالمائدة، فمعنى قوله تعالى: (وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ) أي بالضرب والعذاب الذي لَا مناص منه، ولا يمكنهم التخلص منه ولا الخروج، والملائكة يقولون لهم بالقول أو بلسان الحال: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ) أي أنه قد أحيط بهم فلا خلاص لهم، ويقال أخرجوا أنفسكم إن استطعتم إلى الخروج سبيلا، فهو مصيركم ونهايتكم، وما صرتم إليه، بأعمالكم المتكافئة بالشر التي حبط فيها كل خير، لأنه قد طمس على بصائركم.
وقال بعض المفسرين: إن قوله تعالى (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ) خطاب لهم حال الاحتضار كأنه يقال لهم سلموا أنفسكم لنا وقد علمتم أن هذا اليوم هو ساعة الأداء لما كسبتم وما قدمتم فتأخذوا جزاءه، وقالوا: إن هذا تشبيه لحالهم بحال المدين الذي يلازمه غريمه، فلا يستطيع الهرب منه حتى يؤدي الدين الذي عليه، ونرى أن الأول أوضح، وأبين، والنتيجة واحدة.
________
(1) رواه الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع - باب منه (2460) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(5/2593)
وقوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ) فيه أداة شرط وهي (لو)، وفعل شرط، والجواب غير مذكور يدل عليه التعبير بغمرات الموت، وبسط الملائكة، وحالهم من أنهم لَا يستطيعون حولا ولا طولا، ويكون الجواب: لرأيت ثم رأيت هولا شديدا هو جزاءً وفاقا لما قدموا من سوء، وفعلوا من شر.
وقد ذكر الله الجزاء فقال: (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) اليوم فيما يظهر هو ما بعد القيامة من عقاب، وعذاب الهون هو العذاب الذي يكون هوانا، وذلا، واستحقارًا لأمرهم، وإضافة العذاب إلى الهوان إضافة تدل على أن الهوان ملازم للعذاب، فقد استكبروا على الحق، وقالوا غير الحق، فكانت العقوبة من جنس الجريمة، ولقد قال سبحانه في سبب ذلك: (بِمَا كنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ). أي السبب في العقاب أمران جمع الله فيهما الظلم كله:
أولهما - أنهم كانوا يقولون على الله غير الحق، فيشركون به، ويقولون إنه ثالث ثلاثة، ويقولون: المسيح إله، ويحلون ويحرمون بغير ما أنزل الله تعالى، وقوله تعالى: (كنتُمْ تَقولُونَ) تدل على استمرار قولهم، وعدم انقطاعه عنهم، وإصرار عليه؛ لأن (كنتم) تدل على الاستمرار، والمضارع يدل على تجدد القول آنا بعد آن. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
ثانيهما - أن الآيات البينات الهادية من معجزات دالة، ومن دلائل أخرى فكانوا يعرضون عنها، ويستكبرون، ويظنون أن الالتفات إليها فيه هوان عليهم، وكبرياؤهم منعهم عن الالتفات إلى الحق، فاستكبروا وتجبروا، وخاب كل جبار عنيد وكان الاستكبار متضمنا الإعراض عن الآيات؛ ولذا عدى بـ " عن " التي تدل على التجاوز والإعراض إذ قال تعالى: (وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) أي كنتم تستكبرون معرضين عن آياتنا الدالة؛ ولأنها قاطعة على الحق وفيها الهداية، ولكن لا تهتدون استكبارا وإعراضا، فنالوا جزاءهم.(5/2594)
ولقد بين الله تعالى جزاءهم الذي أشار إليه في الآية السابقة، بينة وقد زالت عنهم أسباب الطغيان والكبرياء. وقال تعالى:
* * *(5/2595)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... (94)
* * *
فرادى جمع فريد كأسارى جمع أسير، أي جئتم منفردين عن النصراء الذين كنتم تعتزون بهم، فما لكم من نصراء، وذهب عنكم افتراؤكم وما كنتم تقولون نحن أعز نفرا، وذهبت عنكم أموالكم التي كانت تعزكم، وتدفعكم إلى الاستكبار والتطاول بها، وتقولون معتزين نحن أكثر مالا، ذهب عنكم كل هذا وجئتم إلى الله بأنفسكم منفردين، وقد روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في موعظة له: " أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غُرْلا " (1) (أي غير مختونين). قال تعالى: (. . . كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْق نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كنَّا فَاعِلِينَ).
وإنكم تكونون في هذه الحال، كالحال التي بدأ خلقكم بها ولذا قال تعالت كلماته: (كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَولَ مَرَّة) أي تعودون ضعفاء كما خلقكم من ضعف أول أمركم؛ إذ خلقكم ضعفاء لَا تقدرون على شيء ولا تملكون شيئا، وفي النص إشارة إلى حجة البعث على الذين ينكرونه، ويستغربونه، إذ مؤداها أنه خلقكم ابتداء بقدرته، ويعيدكم بقدرته، ومن كان قادرا على الإنشاء، هو على الإعادة أقدر، وهو العزيز الحكيم.
وإن كل ما كانوا يملكونه من مال ونسب، وعبيد، وصولة، وسلطان يكون وراء ظهورهم وقال تعالى في ذلك: (وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) خولناكم أي مكناكم من أموال وأنعام، وسلطان، وراء ظهوركم، أي جئتم إلينا، وقد خلفتموه وراء ظهوركم فلا يمكن حينئذ أن تعتزوا بشيء منه، وقوله تعالى: (وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) تشبيه لحالهم في أنهم لَا يأخذون شيئا معهم كمن ترك ما يملك وراء ظهره، وذهب تاركا له، أو من ولَّى الأدبار من اللقاء فقد كانوا يغترون
________
(1) جزء من حديث متفق عليه، رواه بهذا اللفظ مسلم: الجنة ونعيمها وأهلها - فناء الدنيا وبيان الحشر (2860)، والبخاري بنحوه: أحاديث الأنبياء - (33490) عن ابن عباس رضي الله عنهما.(5/2595)
بأموالهم، وأصبح لَا يعرف ماله، فضلا عن أن يغتر به كما كان في الدنيا، ولم يعد المال إلا لحفظ الحياة بالقوت والكساء والصدقة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم أنه قال: " يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فهو ذاهب، وتاركه للناس " (1)، تذهب عنهم كل قواتهم الذاتية التي غرتهم واستكبروا بها عن آيات الله تعالى، وغرتهم في الحياة الدنيا، فاغتروا بها، وغرهم بالله الغرور.
ولقد ذكر سبحانه بعد ذلك حالهم مع ما كانوا يعبدون من دون الله تعالى بغير الحق، فقال تعالى:
(وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ).
أي أنهم في اليوم الآخر حيث الحساب، ثم العقاب لَا يرى معهم شفعاؤهم، أي الأصنام التي زعموها، تقربهم إلى الله زلفى إذ كانوا يقولون (. . . مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ... )، أي ليكونوا شفعاء لنا يقربوننا إلى الله تعالى، ولقد قال تعالى: (وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ)، ولم يقل تركتموهم وراءكم ظهريا؛ لأن المال والأنصار والعصبيات كان لها وجود، أما هذه الأحجار فلا وجود لها، وليس لها لسان تنطق، فقال سبحانه وما نرى هؤلاء الشفعاء؛ لأنهم لم يكن لهم وجود في الدنيا إلا بزعمهم، فهم موجودون في أوهامهم، ولا وجود لهم في ذاتهم إلا أنهم حجارة، ولقد قال تعالى في أوصاف هؤلاء الشفعاء في زعمهم: (الَّذِينَ زَعَمْتمْ أَنَّهُمْ فِيكمْ شرَكَاء) " الذين " وصف للشفعاء وهم حجارة، وكان الموصول بعبارة " الذين " التي تكون للعقلاء إجراء على لفظ الشفعاء لَا على حقيقتهم، والزعم هو الاعتقاد الباطل الذي ليس له أساس من العقل أو النقل، والزعم هو أنهم شركاء الله تعالى فيكم بالنسبة للنفع والضرر، والجزاء عقابا أو ثوابا، وقدم قوله تعالى: (فِيكُمْ) إشارة إلى أن الزعم
________
(1) سبق تخريجه.(5/2596)
الذي زعمتموه فيكم أنتم، وفي أوهامكم، ولا يتجاوزكم إلى غيركم ممن لم يسقط في مزاعمه مثلكم. وإن السبب في أنه تعالى لَا يراهم (معهم) أنه لَا وجود لهم، وأن الشيطان الذي سول لهم عبادتهم يتبرأ منهم كما يتبرأ المتبوعون عن التابعين في قوله تعالى: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167).
كذلك هنا كان الشفعاء الذين غابوا، ولم يُروا قد انقطع ما بين هؤلاء وأولئك، لأنه كان وهما ولم يكن هناك سبب يربط بينهم، فلما انكشف الأمر يوم القيامة تقطعت الحبال الواهية التي كانت تربطهم، فقال تعالى: (لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) أي تقطعت الصلة التي كانت بينكم التي خلقها وهمكم، والآن قد تكشف لكم الحق البين، وهم أنهم لَا وجود لهم إلا ما كان من أوهامكم، فماذا زالت فُقدَ الذي بينكم، ثم أكد الله تعالى هذا المعنى، فقال تعالت كلماته: (وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي غاب عنكم الزعم الذي كنتم مستمرين عليه مجددين له آنًا بعد آنٍ.
* * *
آيات الله في الكون وتوليد الأشياء من الأشياء بقدرته (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
* * *(5/2597)
ذكر الله سبحانه وتعالى كيف اهتدى إبراهيم - عليه السلام - إلى ربه مما خلق في الكون، وكيف استدل بالوجود على من أنشا الوجود كله، وهو رب العالمين ثم ذكر سبحانه السماوات، ورد على من أنكر أن يبعث الله بشرا رسولا، ذكر بعد ذلك الكون، وما فيه من توالد الأشياء بعضها من بعض بقدرته، وبعلمه وإرادته التي كان بها الخلق والتدبير فقال تعالى:(5/2598)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
(إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى). ويروي عن ابن عباس وبعض التابعين أن قوله تعالى: (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) أن معناها خالق الحب والنوى، وفالق في أصل معناه بمعنى فاطر أو يلتقيان في معنى واحد، وهو الشق، فمعنى فلق أي شق، ثم كان من الشق الإيجاد، وفاطر تطلق بمعنى خالق، كقوله تعالى فاطر السماوات والأرض أي خالقهما، و " الحب " هو ما ينتجه الزرع كالقمح والشعير والذرة، و " النوى " هو ما يكون في الثمار، كالتمر، والمشمش، والخوخ، وغير ذلك من الثمرات.
ووجه الإعجاب في خلق الحب والنوى هو التوجيه إلى أن هذا الحب يكون منه ذلك الزرع الأخضر، الذي تغلظ سوقه ويقوى، وإن هذا النوى يكون منه النخيل الباسق والدوحات العظام، ويكون منه ذلك الشجر المثمر المعروف، كما قال تعالى: (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35).
وقد ضعف ابن جرير، تفسير " فالق " بمعنى خالق، لأنه لَا يوجد (فلق) بمعنى (خلق)، ولكن الزجاج جوَّز ذلك، وأكثر المفسرين على أن الفَلْق ليس معناه الخلق إنما معناه الشَّق، وإن الله تعالى يشق الحب ليخرج منه نبات أخضر فذلك إشارة إلى التوالد الذي يتولاه الله تعالى، فيشق الحب فيكون منه الزرع الذي يكون منه حب. .، متراكب كثير، ويخرج من الحبة الواحدة، زرع فيه حب كثير، والنوى يشق فيكون أشجار باسقة، وثمرات طيبة، ويكون من النواة، ثمر فيه نوى كثير، وثمرات ناضجة كثيرة.(5/2598)
وقد ذكرنا أن هذا رأي الأكثرين، وهو ينتهي إلى معنى الخلق، ولكنه خلق عن طريق التوالد الذي يتولاه الله سبحانه وتعالى فيتولد بخلق الله وتكوينه من الحب الذي يبدو جامدا - زرع أخضر، وحب متراكب، ويتولد من النواة التي تبدو كأنها جماد لَا حياة فيها - شجر عليه ثمر، وفي الثمر نوى، فهو توجيه من الله تعالى إلى خلق خاص، لَا مجرد خلق النواة والحبة، ولكن ما يتولد عن النواة والحبة من نوى وحبوب.
وإذا كانت الحياة تخرج من هذا الجامد الذي يبدو بادي الأمر أنه لَا حياة فيه، فيخرج منه، ولذا قال تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيتِ مِنَ الْحَيِّ).
هذه الجملة السامية الأكثرون على أنها في معنى التفسير لـ فالق الحب والنوى، ويكون قوله تعالى: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) أي يخرج من ذلك الزرع، وذلك الشجر، وهما من الأحياء من الحب والنوى اللذين هما كالجماد الذي لا حياة فيهما في مظهرهما، وبذلك لَا يقال كيف تعد الحبة ميتة، أو النواة كذلك، وهما يطويان في أنفسهما بذرة الحياة، ولا يعدهما علماء النبات من الأموات.
وقوله تعالى: (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) أي أن هذا الحي، وهو الزرع والشجر، يخرج منه الذي يشبه الجماد، وإن كان فيه أصل عنصر الحياة، فقوله تعالى: (وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ)، معطوف في الظاهر المتبادر على (يخرج)، وقالوا إنه يجوز عطف اسم الفاعل، على الجملة المصدرة بفعل مضارع، لأن اسم الفاعل في معناه.
وقد يسأل سائل لماذا عبر بالمضارع، ثم عبر باسم الفاعل؟ ونقول في ذلك: أن التعبير باسم الفاعل يدل على تصوير الفعل، وهو الحياة، وتجددها آنًا بعد آنٍ، فيبتدئ بنبت، ثم يخضر ثم يكون له سوق، فهو يصور تدرج الحياة فيه بحكمة الله تعالى، وكذلك في النواة فالحياة فيها تبتدئ مما يشبه النبت، ثم تكون عودا فشجرة، أما الحبة أو النواة التي تجيء من الزرع أو الشجرة، فإنها تكون نهاية التجديد، وتظهر دفعة واحدة؛ ولذا كان التعبير باسم الفاعل.(5/2599)
وختم الله تعالى الآية التي موضوعها في التكوين بالتوليد، بقوله تعالى (ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تؤْفَكُونَ) الإشارة إلى ما ذكره سبحانه من فلق الحب والنوى، وتوليد الحياة منهما، وإن كانت مطوية فيهما، وكانت الإشارة للبعيد لعلو المنزلة السامية لذات الله ذي الجلال والإكرام.
وكانت الإشارة بخطاب الجمع إذ قال: (ذَلِكُمُ) وذلك لأن ثمة خطابا للناس الذين أشركوا بالله تعالى، والفاء في قوله تعالى: (ذَلِكمُ) لترتيب ما قبلها على ما بعدها، فهي لتعريف الذات العلية بأنها التي فلقت الحب والنوى، وأنها تحيي الموتى، فترتب على ذلك استنكار موقف المشركين، وتعريف الذات العلية، وقال تعالى: (فَأنَّى تُؤْفَكُونَ) فالفاء للإفصاح عن شرط مقدر مطوي في إذا كانت الذات العلية هي التي خلقت، وتحيي وتميت، فكيف تؤفكون، أي تصرفون عن عبادته وحده سبحانه وتعالى إلى الشرك: وتؤفك، وتأفك وأفك بمعنى صرف، وأحسب إنها صرف فيه إفك وكذب على الله، فالمعنى كيف تصرفون كاذبين على الله تعالى، مفترين عليه بعبادة غيره، سبحانه وتعالى عما تشركون.
وإن الله تعالى خلق الأرض وأحياها بالنبات والشجر وغذاها بالماء، وقد أظلها بالسماء، وإذا كان قد فلق الحب، فأخرج منه النبات، والنوى فأخرج منه الثمر، فقد فلق السحاب، فانشق؛ ولذا قال تعالى:
* * *(5/2600)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
(فَالِقُ الْإِصْبَاحِ ... (96)
* * *
الإصباح هو شروق الفجر، وذلك بأن يشق الخط الأبيض ظلام الليل.
والذين قالوا: إن معنى (فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى) خالقهما، قالوا هنا أيضا إن معنى (فَالِقُ الإِصْبَاح) أي خالق الإصباح بعد إظلام الليل، والذين قالوا، وهم الأكثرون: إن معنى فلق شق، وإن معنى (فَالِقُ الإِصْبَاح) شق الظلمة، بخيط الفجر الأبيض الذي يتسع شيئا فشيئا حتى يعم النور الوجود، فكان النهار المضيء الذي يكون فيه العمل والسعي في الحياة، وطلب الرزق، ولذلك قال تعالى: (وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا).(5/2600)
وإن الإصباح كما ترى هو دخول النهار، أو إيذان بدخوله؛ ولذا عُطفَ عليه الليل، فقال تعالى: (وَجَعَلَ اللَّيلَ سَكنًا) أي تسكن فيه النفوس والأجسام بعد طول النصب واللغوب؛ ولذلك قال تعالى: (وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرونَ). فالليل تسكن فيه النفوس وتقر، ويرجع المرء إلى أهله وولده، وهي مسكنه، ومطمأنه، وفي النهار يبتغي الرزق في الأرض، وإن الليل في أحواله طولا وقصرًا، والنهار كذلك طولا وقصرا يتبعان الشمس والقمر، كما يتبعان في أصل وجودهما الشمس؛ ولذلك قال تعالى بعد الليل والنهار (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا) وقوله تعالى: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) عطف على (جَعَلَ اللَّيلَ سَكنًا) و (حُسْبَانًا)، لحساب الأيام والسنين والأشهر، فبالشمس تعرف الأيام، ونعرف ساعاتها، فإن شروقها وغروبها يحدد عدد ساعات الليل والنهار ودرجاتهما، واختلاف أقاليم الأرض فيها طولا وقصرا حتى يقل النهار في بعض الأرض ويكون الأكثر ليلا، ويتناسب الليل والنهار في بعض الأرض، وبالشمس تعرف مناطق الأرض على حسب تسلط نورها وأشعتها على الأرض، وتكون الفصول الأربعة من صيف وخريف وشتاء وربيع.
والقمر تقدر به الأشهر القمرية بالأهلة، وتعرف أيامها بحال الهلال؛ ولذا قال تعالى فيما تلونا من قبل: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ. . .). وقوله تعالى: (. . . بِحُسْبَان)، أي بحساب دقيق لَا يتخلف عن مواقيته في كل بقعة في الأرض على حالها، لَا يتقدم ميقاتها ولا تتأخر حتى ينفخ في الصور، فيصعق من في السموات.
والفرق بين الحساب والحسبان، أن الحساب مقدر بعد وقوع ما يحسب وما يعد، أما الحسبان فإنه يحسب ويقدر قبل الوقوع.
ويلاحظ أنه إن ذكر التوالد في النبات والإحياء والإماتة ذكر الشمس والقمر، لأثرهما في إنبات النبات ووجود الأشجار، وحياة الأحياء، فالشمس(5/2601)
توجد الحرارة التي تمد الأحياء بالنماء والدفء، ومن الحرارة إيجابا وسلبا يكون المطر، ولقد ختم الله تعالي الآية بقوله تعالى: (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)، أي وهو القادر الغالب صاحب السلطان المطلق والملك التام في هذا الكون، وهو العليم بما يكون فيه، وما يجري وما يدبر.
وقد ابتدأ سبحانه ببيان سلطانه سبحانه في الأرض، وما يتوالد فيها من أحياء، ثم ذكر ما يؤثر فيها وفي أهلها في الليل والنهار وما جعل من الشمس والقمر بحسبان، بعد ذلك ذكر السماء، وما يكون فيها، فقال تعالى:
* * *(5/2602)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... (97)
* * *
خلق الله تعالى النجوم في السماء، وهي ذات أبراج كمطالع الشمس والنجوم، ولكل نجم مدار خاص به، يظهر في إبانه، واتجاهه يهدي السائرين في البر، فيهتدون به، ويعرفون به أهم متجهون إلى الشرق أم إلى الغرب وهل هم متجهون إلى الشمال أم إلى الجنوب، فيهتدون في الحيرة، ويصح أن يراد بها في ظلمات البر بالاهتداء بها في حيرة البر، وظلمات البحر بالاهتداء بها في ظلمات البحر.
ويصح أن يراد بذلك ظلمات الليل في البر والبحر، فإن الناس في نهارهم يهتدون بالشمس في شروقها وغروبها ومن ذلك يعرفون الاتجاه إلى الجنوب أو الشمال، أما في ظلمات الليل فالنجوم ليس بكونها منيرة، إنما بمسارها في اتجاهها.
هذه إحدى فوائد النجوم، أما المزايا الأخرى فأهمها أنها والأرض دلالة على منظم حكيم مبدع فقد قال تعالى: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11).(5/2602)
قوله تعالى: (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْم يَعْلَمُونَ) أي بينا الآيات مفصلة واضحة لقوم يعلمون ويعرفون حقائق هذا الوجود ويعلمون مصالحهم.
* * *
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
* * *
بعد أن أشار سبحانه وتعالى إلى خلق النبات من الحبَّات، والشجر من النواة - بين خلق الإنسان في الأرحام فقال تعالى:(5/2603)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ).
اتجه المفسرون إلى اتجاهات في تفسير قوله تعايى: (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) فمنهم من نظر إلى أن قوله تعالى: (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) تتجه إلى أصل التكوين الإنساني في أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات، فقال: معنى مستقر أي مكان استقرار وهو رحم الأم، ومستودع، أي مكان الوديعة الإلهية في أصلاب الآباء، فهو بيان لأدوار النطفة حتى تخرج من المستودع الذي أودعه الله تعالى فيها، وهو الأصلاب إلى المقر الذي أقرها الله فيها لتنمو فتكون نطفة في قرار مكين، ثم تكون النطفة علقة، ثم تكون مضغة، ثم تكون عظاما، فيكسو العظام لحما، ثم(5/2603)
يصير بشرا سويا، فتبارك الله أحسن الخالقين، والنفس الواحدة هي نفس آدم أبي وكما أشار سبحانه إلى فلق الحبة فتكون خضرة، وفلق النواة فتكون نخلا باسقا، وأشار هنا إلى خلق الإنسان حتى يصير إنسانا مكتملا.
واتجه آخرون إلى الاستقرار في الحياة، والاستيداع في النهاية إلى باطن الأرض، فالمستقر هو الدنيا والوجود في هذه الأرض، والمستودع القبر، الذي يودع فيه حتى يكون البعث والنشور، وذلك كقوله: (. . . وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَر. . .)، والأكثرون من الصحابة والتابعين على الاتجاه الأول، وهو أوضح، وأقرب تبادرًا للذهن، وإني أرى أنه لَا مانع من أن تكون في الاثنين، واللفظ يحتملهما، ويكون في الأول: لما يشبه العبارة وفي الثاني: لما يشبه الإشارة، فالعبارة سيقت لأصل التكوين، كما سيق أمر الحبة والنواة، وما جاء بعدها لذلك، ودلت بالإشارة على أنه استقرار إلى أمد، وبعده الاستيداع في القبر، حتى يوم البعث، فتأتي كل نفس بما كسبت، وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهونَ) أي ينفذون إلى أسرار الوجود من وراء مظاهره؛ لأن فَقِه ليس المراد بها مجرد العلم، إنما المراد بها العلم الذي يشق المظهر ليصل إلى سر ما وراءه، وقد علل الزمخشري أنه ختم الآية التي تدل على الاهتداء بالنجوم بقوله تعالى: (. . . قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، وهنا ختم بقوله: (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ) بأن الاهتداء حسي يرى فهو آية بينة محسوسة لَا تحتاج إلى النظر، والانتفاع والاهتداء، وأما الثانية، فإن الآيات فيها سر الوجود الإنساني الذي يتدرج فيه الحي من نطفة تجيء من الأصلاب، وتوح في الأرحام حتى تكون بشرا سويا.
وليس الفقه هو الفهم المجرد، إنما الفقه هو شق الحقائق حتى يصل إلى لبها وغايتها، فقوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ منْهُمْ(5/2604)
طَائِفَةٌ ليَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلّهمْ يَحْذَرُونَ).
وبعض الكتاب قال: إن العلم أعلى درجة من الفقه؛ لأن الفقه مطلق الفهم، والعلم هو المعرفة عن دليل قاطع يؤدي إلى اليقين، ونحن إلى قول الزمخشري نميل، ونرى أنه هو الذي يتفق مع (فقِه)، ومن غير الزمخشري أكثر إدراكا منه.
بعد أن بين الله تعالى كون الإنسان، وتدرجه في الخلق من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات وتدرجه فيها إلى أن صار إنسانا في أحسن تقويم، ذكر سبحانه وتعالى نعمة الماء في هذا الوجود، وما يخرج به في الأرض من حبوب وثمار تتشابه في شكلها، ولا تتشابه في طعمها، فهِي متشابهة وغير متشابهة، فقال تعالى كلامه:
* * *(5/2605)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
(وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ... (99)
* * *
أخبر الله عن ذاته العلية أنه هو الذي أنزل من السماء ماء، فهو وحده الذي أنزل من السماء الماء فلم ينزل إلا بقدرته؛ وهو وحده الذي يثير السحاب حاملة المطر الذي ينزل ماء على الأرض، فنزوله من السماء، هو نزوله من السحاب؛ لأن السماء ما تعلو فوق الأرض، وسماها الله تعالى سماء؛ لأنها تغطي الناس بالغمام الذي يتكاثف فيصير ماء يهطل على الأرض مطرِا، ولقد التفت البيان القرآني السامي من الغيبة إلى التكلم، فقال تعالى: (فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) أضاف الإخراج إلى ذاته العلية بصيغة المتكلم لبيان عظيم فضله، وأن إخراج النبات والنخيل والأعناب، والزيتون والرمان، وغيرها من أنواع الثمر والمطعومات بإرادته، وتخيره وتشكيله لها سبحانه وتعالى، وقوله تعالى: " به " أي منه، وبه وعن طريقه ولقد قال تعالى: (. . . وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْء حَيٍّ. . .).
وإن النص الكريم يفيد أن الله تعالى أنزل الماء وهو في ذاته نعمة، لأن منه حياة الأحياء من نبات وحيوان وإنسان كما قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)(5/2605)
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) والنعمة الثانية أنه أخرج الله تعالى به نبات كل شيء أي كل صنف من أصناف النبات من قمح، وشعير، وذرة، وأرز، وسمسم، وغير ذلك من أنواع الحبوب والبقول، وغيرها وهو منوع مختلف وإن اتحدت الأرض واتحد السقي؛ ولذا قال تعالى في آية أخرى: (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ. . .).
ولقد فصل الله تعالى أدوار الإنبات فقال: (فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا)، أي يخرج الله تعالى خضرا، أي أخضر، غضا طريا ذا شعب، ومن هذا الأخضر الغض يخرج بعظيم قدرته حبا جامدا متراكبا أي يركب بعضه بعضا في نظام رتيب متسق بقدرته تعالى كالسنبلة في القمح والأرز، والكوز في الذرة، وغيرها من الأنواع المختلفة، كيف تبدأ خضرا مزهرة فإذا نضجت وصارت حطاما أو قريبا من ذلك أتت بنبات نافع يكون مطعوما يغذي الأبدان، وهنا نجد عجيب قدرة الله تعالى فلقت الحبة الصلبة، وجعلت منها عودا أخضر غضا، ثم جعلت من هذا العود الأخضر وقد صار ثمارا حوى حبا متراكبا صلبا.
وقد ابتدأ سبحانه وتعالى بذكر النبات؛ لأنه يكون منه الغذاء والكساء من العرى، كالقطن، والكتان، والتيل، وغيرها مما يكون اللباس والكساء للناس. وبعد ذلك بين سبحانه الثمرات التي تكون من النوى، وابتدأ منها بالنخيل؛ لأنه يجيء منه التمر، وهو إن كان فاكهة هو أيضا غذاء، وقد كان غذاء عند العرب يشبه أن يكون رئيسيا.
فقال تعالى: (وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ) طلع النخل هو أول ما يبدو من ثمر النخل فيبدو ليه شق، فإذا شق كان العزق، وهذا العزق هو القنوان، وهو الذي بعد التمر يكون عرجونا، وتكون الشماريخ.
وفي هذا بيان نعم الله تعالى في التمر، وهو عطف على الكلام السابق جملة على جملة، ولم يقل سبحانه وتعالى، وأخرجنا النخل، وإن كان قد(5/2606)
أخرجه فعلا من النوى، ولكنه صار كالأرض يخرج منه مثل كل اتخرج الأرض من نبات، وقد قدر إخراج الله لهذا القنو من الطلع، كإخراج النبات من الأرض، فإخراج القنو كإخراج النبات من الأرض بقدرة الله تعالى، و " قنوان " جمع قنو، و " دانية " أي قريبة تتناولها الأيدي، وقد ذكر الدانية لأن نعمتها أقرب، ولأنه يظهر أن النخل القصير يكون طيب الجنى، ويظهر أن هذا النوع هو النخل الذي أكرم الله به السيدة البتول مريم عندما ولدت المسيح قال تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25).
وقد ذكر الله تعالى النخل والتمر عقب الحَب؛ لأن التمر كما ذكرنا يكون غذاء، وكما يقول علماء النبات إنه غذاء كامل.
وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك الأعناب، والزيتون والرمان فقال تعالى: (وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ).
وقوله " جنات " معطوفة على " نبات كل شيء " أي أخرجنا جنات من أعناب، وأعناب جمع عنب، والجنات جمع جنة، وهي الأرض ذات الأشجار الملتفة المتكاثفة التي تجنّ الأرض وتظلها، وعبر عن الأعناب بالجنات؛ لأنه إذا نما وترعرع، وأقيمت له العرائش كان جنة ساترة للأرض وحديقة غناء، تظهر وخضراؤها، وتُجَنُّ أرضها، وذكرت الأعناب بعد النخيل، لأنه كان كثيرا في أرض العرب، ولأنه فاكهة كانت أطيب الفواكه عندهم، ولأنه غذاء ودواء من عجمه وهو نواه.
ثم ذكر سبحانه وتعالى الزيتون والرمان، معطوفين على (نبات كل شيء) والتقدير في كل هذا أخرجنا بالإسناد إلى الذات العلية، لبيان قدرته العظيمة وإرادته الحكيمة، وآلائه على العرب وغيرهم.
وكان النخيل وطلعه بمقتضى السياق يكون معطوفا على (أخرجنا)، والاختصاص عندهم بالأهمية، ولأنه أكبر الأشجار المثمرة وأعلاها، فكان موجب الاختصاص أن يتغير الإعراب.(5/2607)
وقال تعالى: (مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِه).
المشتبه والمتشابه بمعنى متقارب كمستوٍ ومتساو، وهنا في تفسير مشتبه وغير متشابه اتجاهان في الفهم:
أحدهما - أن ثمار الزيتون قد يكون متشابها في الحجم والطعم، وقد يكون غير متشابه، وذلك دليل على أن الأمر باختيار الله تعالى جعل هذا متغيرا فقد يخلق التمر متشابها في حجمه وطعمه، وقد يخرج غير متشابه في ذلك؛ وكلٌّ بإرادة الله تعالى.
واتجاه آخر - وهو أن تتشابه الثمرتان في أنهما من شجرة واحدة، ولكن لا تتشابهان في الطعم أو اللون والرائحة كما ترى في ثمر الرمان، فقد تكون رمانتان من شجرة واحدة، ولكنهما مختلفتان في الحجم، وطعم الثمر ولونه، ويقول بعض العلماء: إن شجر الزيتون والرمان تتشابه فيهما الأوراق، ويختلف ما ينتجانه والحق أن الوجهين الأولين يمكن الجمع بينهما بأن يكون التشابه في العدد والحجم، وألا يكون تشابه قط، وقد قال تعالى: (نظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ).
" الينع " النضج، والمعنى انظروا نظرة اعتبار واستبصار إذا أثمر كيف يبتدئ الثمر خيوطا رفيعة، ثم تغلظ شيئا فشيئا نامية متدرجة في نموه، حتى تصل إلى حال النضج، فإنه يكون متغير الأحوال كما يبتدئ الجنين نطفة، ثم علقة ثم مضغة حتى يصير خلقا سويا، كذلك انظر إلى الثمر، كيف يسير في نموه حتى يصير ناضجا طيبا.
ثم قال تعالى: (إِنَّ فِى ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ).
الإشارة إلى ما تقدم من إنزال الماء من السماء، وإخراج نبات كل شيء منه، والنخيل وطلعه من قنوانه، وتدرجه من حال إلى حال، والأعناب والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه، الإشارة إلى هذا كله وما فيه من عجائب أن فيه آيات بينات على قدرة الله تعالى في تكوين الأثمار وتوالدها، وإذا كان الله تعالى(5/2608)
متصرفا في الوجود ذلك التصرف فهو الذي خلقكم، وهو قادر على إعادتكم كما بدأكم أول مرة، وقال تعالى: (لِّقَوْمٍ يؤْمِنونَ)؛ لأن أهل الإيمان هم الذين يدركون حكمة الله تعالى فيما خلق، وهم الذين يذعنون للحقائق إذا بدت آياتها.
وخاطب بالإشارة بالجمع بقوله تعالى: (إِنَّ فِى ذَلِكُمْ) للتنبيه وتوجيه أنظار الجمع إلى ما في هذا الخلق أو التكوين من عِبَر، تعالى الله العلي القدير.
* * *
الوثنية وادعاءالبنوة لله
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
* * *
بعد أن بين سبحانه وتعالى آياته في خلق الأشياء وتوالده وإثبات قدرته القاهرة، وإرادته العلية، وأنها تقتضي الإيمان بالله تعالى منشئ هذا الكون وما فيه ومن فيه، وأنه الحي القيوم القائم عليه يمسكه، ويمسك السماوات والأرض أن تزولا. ولئن زالتا لَا يمسكهما أحد من بعده.(5/2609)
مع هذه البينات ظهر أولئك الذين يشركون بالله تعالى وذكر سبحانه وتعالى أنهم يشرِكون الجن، فقال تعالى:(5/2610)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
ومعنى قوله تعالى: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ) أي أن الشركاء هم الجن، أي أنهم عبدوا الجن بجوار عبادة الله تعالى، وقد يسأل سائل إن المشركين قد عبدوا الأصنام، ولم يعبدوا الجن، فكيف يقال إن الشركاء لله الجن، وقد قال في محكم آياته أنهم اتخذوا الأنداد، والأنداد التي حسبوها أندادا لله هي الأصنام.
وقد اتجه المفسرون في إجابة هذا السؤال اتجاهين: أولهما - أن الشياطين، وهم من أتباع إبليس وهو رأس الجن هم الذين سولوا لهم عبادة الأوثان، وزينوها لهم، وقد جاءت بذلك النصوص القرآنية الكثيرة، من ذلك قوله تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61).
ويقول الله تعالى على لسان الملائكة: (. . . سُبْحَانَكَ أَنتَ ولِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُفم بِهِم مُّؤْمِنُونَ).
ويقول تعالى: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119). وإنه ما من شرك إلا والشيطان وراءه، والشيطان من الجن؛ إذ هو تابِع لإبليس، وهو من الجن، كما قال تعالى: (. . . إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عن أَمْرِ رَبِّهِ. . .). هذا هو قول الأكثرين.
الاتجاه الثاني - روي عن ابن عباس والكلبي أنهما قالا: إن الذين كانوا يعبدون الجن هم الثنوية من المجوس الذين كانوا يقولون إن الوجود يحكمه إلاهان إله الخير، واسمه يزدان وإله الشر واسمه أهرمن،(5/2610)
ولقد قال ابن عباس: إن موضوع الآية الزنادقة، وقد رجح فخر الدين الرازي ذلك الرأي، ولنترك الكلمة له، فقد قال: (هذا مذهب المجوس، وإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة لأن المجوس يلقبون بالزنادقة، لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله سمى بالزند والمنسوب إليه يسمى زندي، ثم عرب فقيل زنديق، ثم جمع فقيل زنادقة، واعلم أن المجوس قالوا: كل ما في هذا العالم من الخيرات، فهو من يزدان، وكل ما فيه من الشرور فهو من أهرمن، وأهرمن، هو إبليس بلغة القرآن، والقرآن قال إنه من الجن، فمن قال بهذا المذهب، فهو يعقبر إبليس وذريته من الجن شركاء لله تعالى في معنى الألوهية، وبذلك تتحقق شركة الجن).
وفى الحق: إن الآية تشمل بعمومها عباد الأوثان والزنادقة، لأن كليهما عبدا الشيطان، وإبراهيم - عليه السلام - عندما نهى أباه عن عبادة الأوثان قال له: (يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44). وعلى ذلك يكون المشركون والمجوس قد أشركوا الجن في عبادة الله تعالى، سواء أكان ذلك بأن سولوا لهم عبادة الأحجار، فتكون عبادة الأحجار عبادة للجن، أم عبدوا الجن مباشرة كالثنوية.
ولقد قال تعالى بعد أن ذكر هذه الشركة الوثنية قال تعالى: (وَخَلَقَهُمْ) أي أن الله تعالى خلقهم، فهم مخلوقون، حادثون ولا يصلحون أن يكونوا معبودين، لأن المعبود بحق هو القديم الذي لَا أول له، والباقي الذي لَا آخر له، ولأنه ليس من العقل في شيء أن يشترك الخالق مع المخلوق.
ثم ذكرِ سبحانه وتعالى افتراءات المشركين ومن لف لفهم، فقال تعالى:
(وَخَرَقُوا لَهُ بنِينَ وَبَنَات بِغَيْرِ عِلْمٍ) وخرقوا معناها اختلقوا القول، وافتعلوا، كان الرجل إذا كذب في النادي، قالوا خرق ورب الكعبة أي اختلق، فالمعنى: اختلقوا أن يكون لله بنون أو بنات، ومن الناس من قال الملائكة بنات الله، وقد تردد ذلك على ألسنة المشركين وعلى ألسنة اليهود.(5/2611)
ومن الذين خرقوا القول بأن لله تعالى بنين - الهنود والبوذيون، وأخذ عنهم النصارى بنوة عيسى، واليهود قالوا عزير ابن الله، فادعاء البنوة لله تعالى قد أخذ به اليهود، ثم سار وراءهم اليهود والنصارى، وكل من افترى على الله تعالى ذلك الافتراء.
ولقد قال تعالى إن ذلك قول ليس له أصل قام عليه، ولكنه جهالة، فقال تعالت كلماته: (بِغَيْرِ عِلْم) أي أنه ادعاء ليس له أساس، من أين أوتوه. بل عن أوهام توهموها، وجهل مبين بمعاني الألوهية، ويدل على فساد فكر وضلال فهم، واستهواء نفس ممن سيطر على نفوسهم. والله تعالى منزه عن ذلك.
وختم الله تعالى الآية بما يدل على التنزيه، وعلو المقام الإلهي عن ذلك فقال تعالى: (سُبْحَانَهُ) وهي مصدر يدل على التسبيح وتنزيه الله العلي الكريم عن ذلك (وَتَعَالَى) أي تسامي سبحانه وتعالى عما يشركون.
ولقد بين سبحانه وتعالى استحالة أن يكون له ولد، فقال تباركت آياته:
* * *(5/2612)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
(بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ... (101)
* * *
وكلمة (بديع) فعيل بمعنى اسم الفاعل، أي مبدع السماوات والأرض، وهي تقتضي معنيين: أحدهما - أنه أنشاها على غير مثال سبق، والثاني - أنه لم يكن قبلها شيء يحتذى، فقد أنشأها من العدم إنشاء، فهو خالقها، قبل أن لم تكن ومن كان منشئا لهذا الوجود بإرادة مطلقة لَا يمكن أن يكون وجود الأشياء لديه بنظام الأسباب والمسببات، فلم تكن الأشياء كإيجاد العلة للمعلول، بل هو إنشاء الموجد للموجود.
وإن من كانت هذه الحال حاله لَا يمكن أن يكون له ولد.
وقد بين الله سبحانه وتعالى استحالة ذلك من وجهة الأسباب العادية التي تقتضي أن يكون الوالد له امرأة تلد منه؛ ولذا قال تعالى: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ).(5/2612)
" أنى " من أين يكون له ولد، أو كيف يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة، أي امرأة يعقب منها الولد، كما تزين ذلك عقولكم الواهمة، ونفوسكم المطوقة بآفة الوهم والضلال، إنه ثبت أن الله واحد أحد لَا شريك له، في السماوات والأرض، فكيف يقولون ذلك الوهم، لقد ضل الذين قالوه أولا كالبراهمة، وضل الذين قالوه من بعدهم متبعين لهم، وضل الذين يتبعونهم اليوم.
لقد قال النصارى الذين أخذوا من البراهمة والبوذية: إن مريم البتول ولدت عيسى، وأقروا بأنها ولدته بعد أن حملت به تسعة أشهر، وجاءها المخاض، كما يجيء كل امرأة تلد، وألجأها إلى جذع النخلة، وولدته ووضعته في مزود، ثم عاش كما يعيش الناس، ثم ادعوا له بنوة لله تعالى ثم ألوهية زعموها فمن أين أتت إليه الألوهية وقد عاش بشرا سويا، يأكل كما يأكل الناس؟.
لقد زعموا لفرط وهمهم أن مريم البتول - عليها السلام - ولدت الإنسان والإله، وزعم بعضهم مخفّفًا فساد القول الأول أنه ولد إنسانا، ثم فاضت عليه الألوهية والبنوة معا، (. . . كَبُرَتْ كلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا).
ولقد قال الله تعالى مؤكدا نفي البنوة عن ذاته العلية: (وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ) أي أنه سبحانه وتعالى خالق كل شيء فهو غير محتاج لأحد؛ لأنه خالق الوجود كله، والبنوة ثمرة الاحتياج لتكون امتدادا للوالد، والله تعالى الخالق للوجود كله فكيف يحتاج لولده، ولكنها الأوهام المسيطرة، وكل عقيدة تشتمل على أن شخصا له بنوة أو ألوهية عقيدة أساسها الوهم الباطل، وأصحابها يعيشون في أوهام، وشيوعها دليل على فسادهم وفساد من يتبعونهم.
وقد قال تعالى مؤكدا معنى خلقه وقدرته بسعة علمه وإحاطته بكل شيء علما، فقال تعالى: (وَهُوَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ) فالخلق والتكوين هو بمقتضى العلم والحكمة والإرادة.(5/2613)
ولقد أكد سبحانه وتعالى حقيقة ربوبيته، وألوهيته بقوله تعالى:
* * *(5/2614)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
(ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ... (102)
* * *
الإشارة في " ذلكم "، إلى ما ذكر من فلق الحب والنوى وإنشاء النبات والأشجار والأنفس، والتوالد، والنزاهة المطلقة عن الشريك والولد، وانفراده سبحانه وتعالى بالخلق والتكوين والقيام لكل شيء والعلم بكل شيء وهذه أوصاف الوحدانية، وإذا كان واحدا في ذاته العلية، وواحدا في إنشائه للكون، فهو الجدير بالعبادة وحده وكل عبادة لغيره تكون باطلة بطلانا مطلقا؛ ولذا قال سبحانه: (ذَلِكُمُ اللَّهُ) أي ذلك المعبود بحق وحده، وهو ذو الجلال والإكرام، والإشارة بالخطاب للجميع (ذلكم) للإشارة إلى التكليف العام بعبادة الله تعالى وحده، وقد ذكر سبب الألوهية الكاملة، فقرنها بوصفين يزكيان معنى الألوهية: أولهما - الربوبية الكاملة؛ الذي يربي الناس والأشياء، يربها ويرعاها ويحفظها، الوصف الثاني - أنه خالق كل شيء، ولا شيء في الوجود إلا وهو الخالق له والقائم عليه، والمدبر لأمره، والكالئ له، وهو على كل شيء وكيل.
وقد قال تعالى: (فَاعْبُدُوهُ) أي أنه إذا كان هو وحده الخالق، وهو وحده المدبر فاعبدوه وحده، لَا شريك له، فهذه نتيجة للمقدمات الواقعة السابقة، ومن عبد غيره، فإنه قد سبق إليه وهم، وهو عبد للأوهام وليس مؤمنا بالله.
وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى أنه خالق كل شيء بين أنه خلقه، وِهو يحافظ عليه؛ ولذا قال جلت قدرته، وعظمت حكمته: (وَهُوَ عَلَى كلِّ شيءٍ وَكيلٌ) " وكيل " هنا من وكل إليه الأمر ليحفظه ويصونه فمعنى وكيل هنا قائم على الأشياء كلها ليحفظها ويصونها، ويدبر أمرها إلى أن يقضي فيها قضاءه وكان أمرا مفعولا، فهو الإله القائم على كل شيء سبحانه، وإن الله سبحانه وتعالى منشئ الوجود نحس بآثاره، وننعم بنعمه ولا نراه، فهو خفي الألطاف ظاهر بنعمه وآثاره؛ ولذا قال تعالى:
* * *(5/2614)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
(لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ... (103)
* * *(5/2614)
" الأبصار " جمع بصر، والبصائر جمع بصيرة، والبصر يعلم بالرؤية البصرية. والبصيرة تعلم بالرؤية القلبية، والإدراك العقلي، والخشوع، والاتجاه الروحي، والتعلق بالذات العلية، ولذا قال تعالى: (. . . فَإِنَّهَا لَا تَعمى الأَبصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
والإدراك هو: الرؤية المحيطة بالشيء من كل جوانبه، فالرؤية البصرية لا ترى إلا الجانب الذي يكون مقابل العيون، أما الإدراك فهو الإحاطة بكل الجوانب، من كل ناحية، ومعنى قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) لَا تحط الأبصار بكل جوانب عظمته وجلاله، وعندئذ ننتقل من الرؤية البصرية إلى ما تنتجه الرؤية من تأمل وتفكير، ذلك أن الرؤية البصرية رؤية للمحسوس، ثم بعد رؤية المحسوس يكون التفكير فيما توجهه هذه الرؤية، فإذا رأيت منظرا جميلا، فالرؤية تريك هذا المنظر، فتستريح نفسك، وتستروح معاني من الإحساس بالجمال، فإذا علا إدراكك. فإنك تفكر في بديع الصنع، وحسن هندسة التناسق، ثم أطياف الألوان، ثم مهارة الصانع، فهذا هو الإدراك بالإبصار، فالإدراك بالإبصار هو المعاني التي تومئ بها الرؤية، ويوجه إليها النظر المستقيم.
وقوله تعالى: (لا تُدْرِكهُ الأَبْصَارُ) هو كناية عن التفكير والعلم الذي ينتج عن البصر، وقد نفَى الله تعالى الإدراك، وهو يتضمن نفي الرؤية البصرية ابتداء، لأن الرؤية البصرية في الدنيا إنما تكون في مكان متميز متحيز، والله سبحانه وتعالى ليس له مكان، ولا يحده شيء في الوجود، وسع كرسيه السماوات والأرض وهو السميع العليم.
وفوق ذلك لَا يمكن للعقل البشري أن يدرك الحقيقة الإلهية؛ لأنه أعلى وأجل وأعظم من أن تصل إليه المدارك، ونحن ندرك آياته، ولا نعرف كنه ذاته، تبارك الله العلي الحكيم، هذ معنى نفي إدراك الأبصار، وما تؤدى إليه، وما يمكن أن يؤدي إليه مضمون هذا النفي، ثم قال تعالى: (وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ) أي يعلمها علما محيطا، وسع علمه كل شيء لَا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه(5/2615)
مثقال ذرة في السماء والأرض، يعرف ما تراه الأعين، وما تدركه، وما تؤدى النظرة من تأملات نفسية، فهو العليم بخواطر النفوس وخلجات الأفئدة، وهو اللطيف الذي يعلم أدق علم، الخبير الذي يعلم دقائق كل شيء.
وقد تكلم العلماء في هذا المقام في رؤية الله في الآخرة وفي الدنيا، فقال الأكثرون: إن الله تعالى يرى يوم القيامة بكيفية لَا نعرفها، يراه الأبرار وقد أخذوا ذلك من ظاهر قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، وإن ذلك من جزِاء المتقين، ولا يراه المجرمون أخذا من ظاهر قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ). ومن ظاهر قوله تعالى: (. . . وَلا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكيهِمْ. . .).
وأما في الدنيا، فإن الله لَا يُرى فيها؛ لأن الرؤية تقتضي التحيز في مكان، والله تعالى منزه عن ذلك، وقد طلب موسى - عليه السلام - رؤية ربه فقال: (. . . قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ. . .). فدلت هذه الآية على أن الرؤية في الدنيا غير ممكنة. وهنا يثار سؤال هل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربَّه في المعراج؟ بعض العلماء زعم أنه رآه، ولا يوجد نص قاطع يدل على ذلك، ولكن وردت آثار كثيرة، تدل على نفيه، فقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أرأيت ربك؟ قال: " إنه نور، فأنَّى أراه " (1).
وروى مسلم في صحيحه بسنده إلى مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قال: كنت متكئا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة (كنية مسروق) ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية - وكنت متكئا، فجلست - فقلت: يا
________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان، والترمذي في تفسير سورة 53 (النجم) وأحمد بن حنبل، ج 5 ص 157، ص 171، 175.(5/2616)
أم المؤمنين أنظريني، ولا تعجليني ألم يقل الله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ بِالأفُقِ الْمُبِينِ)، (وَلَقَدْ رآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)، فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو جبريل لم يره على صورته التي خلق الله عليها غير هاتينِ المرتين. . فقالت: أولم تسمع أن الله عز وجل يقول: (لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) أولم تسمع أن الله عز وجل يقول: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَه اللَّه إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسولًا. . .)، قالت: ومن زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم الفرية، والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ. . .). قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم الفرية، والله تعالى عول: (قُل لَا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ. . .).
هذا بالنسبة لرؤية الله تعالى في الدنيا، وأما في الآخرة فالأمر فيها إلى الله تعالى، وهو على كل شيء قدير.
* * *(5/2617)
البينات لَا يدركها الجاحدون (قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
* * *
بعد أن ذكر الله تعالى أنه خالق كل شيء ووجه الأنظار إلى تصريف الله تعالى في الكون مما ذكر الله تعالى في الآيات السابقة، ووجه الأنظار إلى ما فيها من دلائل على أنه وحده هو الخالق، وأنه ليس كمثله شيء وأنه وحده المستحق للعبادة - قرر أن هذه آيات تبضَر ذوي العقول الواعية، والقلوب الخاشعة المبصرة فقال تعالى:(5/2618)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
(قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ) والبصائر جمع بصيرة، والبصائر هنا هي الآيات التي ساقها الله تعالى مبصّرة للمدارك هادية للقلوب، وهي التي بسببها يدرك أهل البصر النفسي الذي لَا غشاوة عليه، وعلى ذلك يكون في الكلام مجاز، إما أن نقول فيه: إنه شبه سبحانه وتعالى الآيات التي تبين الحق بالبصائر التي تدركه وتعرفه، وتستبينه، وجامع التشبيه أنها تبين بنفسها، كما تدرك البصيرة الحق بفطرتها، أو نقول: إن الآيات سبب لنور البصائر، فأطلق المسبب وأريد السبب، وهو آيات الله تعالى في الكون وفي أنفسنا وفيما يحيط بنا، وما نراه من توالد الأحياء بعضها من بعض بقدرته تعالى.
وإن هذه الآيات علامات الحق ودلالاته، فمن أدركها فقد نجا، ومن لم يدركها فقد بغى على نفسه وأضلها؛ ولذا قال تعالى: (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ(5/2618)
فَعَلَيْهَا وَمَا أنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظ) الإبصار هنا ليس هو النظر الحسي، إنما هو الإدراك الحقيقي، الذي يدرك معنى الآيات وما تدل عليه، فهو المجاز الذي يشبه فيه الإدراك والخضوع للحق البين بإبصار الأمور الحسية التي ترى بالأعين من حيث وضوح الدلالات في كل، بل إن دلالات الآيات على ما تدل عليه أقوى. وكذلك قوله تعالى: (وَمَنْ عَمِي فَعَلَيْهَا) فشبه سبحانه الإعراض عن آيات الله تعالى، بمن عمي فلا يبصر، وأضاف الله سبحانه البصائر إلى الذات العلية بلفظ (ربكم) للإشارة إلى أنه صاحب النعم المتوالية عليهم التي توجب شكرها، والإيمان بها، وتبصر ما تدعو إليه الآيات.
وقوله تعالى: (وَمَا أنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظ) ظاهر ذلك أنه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن ثمة حاجة إلى أن يقول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَمَا أنَا عَلَيْكم بِحَفِيظ)؛ لأن الكلام منزل من عند الله تعالى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخاطب به العرب، والقرينة دالة على أن ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - لقومه الذي هو رءوف بهم، ولكنه ليس بحفيظ عليهم، ثم إن هذا النص السامي، وهو (وَمَا أنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظ) هو كالنتيجة المنطقية لقوله تعالى: (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِي فَعَلَيْهَا) أي فالتبعة عليكم كما قال تعالى: (فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ).
يقول تعالى حكاية عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أمره ربه: (وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) قدم الجار والمجرور؛ لأن نفوسهم ستهمهم؛ ولذلك قدم خطابهم على الوصف، وقد أكد سبحانه النفي بالباء، وأكده بالجملة الاسمية، والمعنى وما أنا بحفيظ عليكم من أن تتدلوا في العذاب بإنكاركم بآيات ربكم، وكفركم بالله بعد أن بدت الدلائل القاطعة، والأدلة البينة، الواضحة، كما قال تعالى: (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ من رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)، ولقوله تعالى: (وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْى عَن ضَلالَتِهِمْ. . .)، فلا مسئولية على الرسول في ضلالهم.(5/2619)
صرف سبحانه وتعالى الآيات الكونية، وصرف سبحانه وتعالى الآيات في كتابه تعالى في معانيها وفي مبانيها فمرة يكون بالأمر أو النهي أو الاستفهام، والبيان أحيانا بالإيجاز المعجز، وأحيانا بالإطناب المفصل، في نسق يعلو عن البشر، وذلك ليعلموا مقدار الإعجاز، وليستبينوا الحق من عباراته السامية، وتوجيهاته الهادية، ولكن كذبوا عليه وافتروا، وقالوا علَّمه إنسان، ولذا قال تعالى:(5/2620)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
(وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ) (الآيات) هنا فيما يظهر لنا الآيات القرآنية، والتشبيه في قوله تعالى: (وَكذَلِكَ نُصَرِّفُ) أي مثل هذا التصريف في ذكر الآيات في الخلق والتكوين وتوليد الأحياء، وبيان الوحدانية بأدلتها من خلق الله تعالى، كذلك التصريف في الآيات الدالة على التوحيد - نصرف في الآيات القرآنية، من إيجاز وإطناب، واستفهام وإنكار، وتوكيد للقول، وإرسال في البيان وغير ذلك، ليدركوا مقام القرآن، وقال تعالى: (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) وفي قراءة (دارست)، الواو في قوله تعالى: (وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ) معطوفة على فعل محذوف يؤخذ من سياق القول، كان يكون التقدير أو كذلك نصرف الآيات لتصلوا إلى ما فيها من إعجاز إن كنتم تعقلون، وليقولوا دارست غيرك أو درست ذلك على غيرك، فقد كان الكافرون يدعون ذلك، واللام هنا ليست للتعليل، ولكنها لام يسمونها لام
العاقبة، أي لتكون العاقبة عند الكافرين أن يقولوا دارستها مع أهل الكتاب أو درست عليهم وأعانوك، وهذا كما جاء في آيات كثيرة عن افترائهم، كقوله تعالى عنهم: (وَقَالَ الَّذين كفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا)، وقوله: (وَقَالُوا أَسَاطيرُ الأَوَّلِينَ اكتَتَبَهَا فَهِي تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)، وقال الله تعالى: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ). وقرئ (دَرَسَتْ) بفتحتين، ومعناها مضت وتكررت، كقولهم: سمعنا هذا من قبل. وإن الله تعالى أمر نبيه أن يعرض عن المشركين، وإنه يعتبر بحقائق القرآن المؤمنون؛ ولذا قال تعالى: (وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ). واللام هنا للتعليل أي نبين لمن(5/2620)
ينتفعون بعلمه وعظاته وبيناته، وإن نفع هؤلاء لمؤكد به يوجب بيانه، فمهما يضل الضالون الجاحدون، فإن القرآن لَا يزيدهم إلا خسارا، أما المؤمِنون فهو شفاء لهم وهداية، كما قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82).
وقوله (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي لقوم يعلمون علما متجددا بنزول القرآن فهو يزيدهم علما كما يزيد غيرهم خسارا.
إن الأدلة على صدق دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - قائمة لَا يماري فيها إلا جَحُود، وآيات الله تعالى هي البصائر لمن عنده قلب يذعن للحق إذا تبين، وقد قامت دالة على وحدانيته، وإذا كان الجاحدون ينكرون دلالات الوحدانية في العبادة، فلا تلتفت إليهم، وامض لما أمرك الله تعالى، ولذا قال تعالى:(5/2621)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)
(اتَّبِعْ مَا أُوحِي إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء، ولمن اتبعه في الغاية والمآل، اتبع أيها النبي ما أُوحي إليك، وهو القرآن، لأنه رأس ما أوحى الله به إلى نبيه الأمين، وعبر بالوصول " ما " دون ذكر الاسم الشريف، لبيان سبب الاتباع، وحقيقة القرآن، وهو أنه وحي من الله تعالى، فاتباعه هو اتباع الله تعالى، وشرف القرآن بشرف من أنزله، فقد التقى فيه شرفان جليلان:
أولهما - شرف ذاتي وهو أنه الكتاب الكامل الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه المعجز الذي لَا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، وأنه النبوة فمن حفظه فقد حفظ النبوة بين جنبيه.
ثانيهما - شرف إضافي، وهو أنه الكتاب الوحيد الذي ينسب إليه، وإذا كانت سبقته كتب أخرى فهو جامعها، وهو سجل النبوات قبله، فيه الشرائع السماوية كلها من غير تفريط في واحدة منها.
وقوله تعالى: (مِن رَّبِّكَ) تقوية للاتباع بأنه من الله ذي الجلال والإكرام الذي رَبَّى هذا الوجود ونماه وعلمه وكونه، فهو أوحى إليك من ربك الذي يعرف ما يشتمل على مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، في حياتهم الدنيا، وفيما يوصل إلى الآخرة.(5/2621)
واتباع ما أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يكون باتباع ما يدعو إليه من وحدانية الله تعالى التي هي ملاك الأمر كله واتباع أوامره ونواهيه، والإيمان بأنه يحل الطيبات، ويحرم الخبائث، وأن ما أحله تعالى فيه الخير والنفع العام والمصلحة في الدنيا والآخرة، وما يحرمه هو الفساد، ويؤدي إلى الهوان في الدنيا والآخرة. وقرن الله تعالى الأمر باتباع ما أوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ومعنى الإعراض عنهم ليس هو السكوت عن دعوة الحق بينهم والإصرار عليها، فإن قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُومَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكينَ)، وإنما معنى الإعراض أن يعرض عن سخريتهم بالضعفاء من المؤمنين، والجحود الذي يدأبون عليه وادعاء الأباطيل عليه من أنه علمه بشر، أو أنه دارسه مع أحد، ويعرض عن إلحاحهم في النكران، يعرض عن كل هذا ويمضي في دعوته، ولا يهمه لغو اللاغين وعبث العابثين وخوض الخائضين الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، يعرض عن هؤلاء المشركين الذين اندفعوا في ذلك بسبب شركهم.
وإن ذلك الإعراض عنهم؛ لأنك دعوتهم وتدعوهم، ولست مسئولا عن إيمانهم، ولا معاقبا على كفرهم (إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)، وإن إشراكهم بتقدير الله تعالى وبعلمه، وإنهم ساروا في طريقهم إلى الشرك، وسهلوا سبيلهم إليه، ولو شاء سبحانه ما مكنهم من الشرك، ولكن لأن الله تعالى خلق الإنسان، وأعطاه قدرة يرى بها الخير والشر كما قال تعالى: (وَنَبْلُوكم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، لهذا الاختيار الذي ركبه الله تعالى في نفوسهم من خروج على سلطانه تركهم في غيهم يعمهون، لأنهم سلكوا طريقا واختاروه.
* * *(5/2622)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا ... (107)
* * *
أي لو كانت مشيئة الله تعالى تعلقت بعدم شركهم ما أشركوا وما كانوا مشركين، وإذا كان ذلك قدر الله تعالى الذي قدره، وتدبيره الذي دبره، ودخلوا الشرك باختيارهم فأعرض عن أذاهم وسخريتهم، واتجه إلى الدعوة، واستمر فيها مع ملاحظة أنك لست كفيلا بإيمانهم، إنما أنت منذر.(5/2622)
وقد أكد الله سبحانه وتعالى أن النبي ليس مسئولا عن كفرهم، ولا مطالبا بإيمانهم، إنما هو منذر ومبشر، فقال تعالى: (وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ).
وما جعلناك حفيظا عليهم بمنعهم من الشرك ودفعهم إلى الإيمان، و (حفيظ) صيغة مبالغة من حفظ، أي ما جعلناك (حارسا) على إيمانهم تمنعهم من الخروج منه، وتحملهم على الدخول فيه، وقدم (عليهم) بيانا لاهتمامه بشأنهم بمقتضى الحراسة الحافظة، التي نفاها الله تعالى عنه، فالله تعالى لم يجعله كذلك، ولكن جعله فقط مبشرا ونذيرا، وهاديا بإذنه وسراجا منيرا، وقد أكد سبحانه وتعالى عدم مسئولية النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوكِيل) أي ما أنت قد فوض أمرهم إليك بتوكيل وكلته فتُدبر أمرهم وتوجههم إلى حيث تريد، إنما أنت منذر، وذلك كقوله تعالى: (إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ).
والله تعالى هو الذي ينظم علاقة الرسول بمن بعث إليهم وهي الدعوة، فمن أجاب فقد أحسن، ومن أعرض عن ذكر الله تعالى فقد طغى وكفر، وليس على الرسول تبعة كفرهم، والله تعالى هو المجازي.
* * *
النهي عن سب الآلهة، وقاعدة سدِّ الذرائع
(وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)(5/2623)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
(وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ).
نهى الله تعالى عن سب الأوثان والأصنام، وكل ما كانوا يعبدون من دون الله تعالى، حتى لَا يسبوا الله تعالى عدوانا وظلما واعتداء على الحق بجهل وبغير علم وإدراك سليم؛ إذ سووا بين الله تعالى وآلهتهم، فالفاء فاء السببية أي بسبب سب المؤمنين الحق لأصنامهم، يسبون الله تعالى ظلما وجهلا بغير الحق، وعبر عن أصنامهم بالموصول الذي يكون للعاقلين بقوله: (الَّذِين يَدْعُونَ) جريا على زعمهم من أن لهم فكرا وعقلا وإن كانوا لَا يعقلون.
وهنا نسأل عن معنى السب أهو الشتم أم مجرد ذكرهم بأنهم لَا يضرون ولا ينفعون، وأنها أحجار لَا تضر ولا تنفع، لَا يمكن أن تكون من السب أن يقال إنهم لَا يضرون ولا ينفعون، فقد ذكر في القرآن كثيرا أنهم لَا يضرون ولا ينفعون، فقد قال تعالى: (قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا)، وحكى الله تعالى عن خليله إبراهيم أنه قال لأبيه: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُيْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا). والقرآن الكريم المنزل من رب العالمين لَا يكون فيه سب ولا شتم، وإنما يكون فيه ذكر الحقائق الثابتة التي لا مجال للريب فيها.
وعلى ذلك لَا يمكن أن يكون وصف الأوثان بأنها لَا تضر ولا تنفع سبا؛ لكنه لكي يمنع العرب من عبادتها، لَا بد من وصفها بحقيقتها ومآلها، ولقد قال تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ).
إنما السب هو شتم الأوثان مثل: (لعنها الله)، و " قبِّحت آلهتكم " من غير ذكر أوصافها.
ولكن قد يقال: إن المشركين عدوا ذلك سبا، فقد قالوا أو قال وفدهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب، لقد سفه أحلامنا، وسب آلهتنا، ونقول: إننا نفسر كلام الله تعالى، وما علينا أن نفسر كلامهم، فليسموا ذكر الحقيقة سبا كما يشاءون، ولكن السب ليس كما يقولون.(5/2624)
(فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي يترتب على سب ما يدعونه من دون الله بالباطل سب الله تعالى ظلما وعدوانا جهلا، وقد فسرنا السب بأنه الشتم، وليس من الشتم وصف الأوثان بأنها لَا تنفع ولا تضر؛ لأن القرآن الكريم وصفها بذلك الوصف والقرآن ليس فيه شتم ولا سب، وما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - فحاشا ولا سبابا؛ ولذلك يجب أن يفسر السب بغير ذلك، ولقد استنبط العلماء من الآية أنه يجوز ترك الحسن إذا أدى إلى معصية، وهو ما يسمى في الفقه " سد الذرائع " أي منع ما يؤدي إلى الفساد اتقاء إليه، ولو كان في ذاته حسنا، وإنه يوازن بين الفعل وما يؤدي إليه، فإن كان الضرر الذي يؤدي أكثر من النفع الذي يكون من الأمر، قدم دفع الضرر الكثير على النفع القليل، بل إن القضية الأصولية " دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة ".
وإن ذلك أصل ثابت قد قررته هذه الآية الكريمة، وقد قال الإمام الزمخشري في ذلك: (فإن قلت: سب الآلهة حق وطاعة فكيف صح النهي عنه، وإنما يصح النهي عن المعاصي، قلت: رُبَّ طاعة علم أنها تكون مفسدة، فتخرج عن أن تكون طاعة فيجب النهي عنها؛ لأنها معصية، لَا لأنها طاعة، كالنهي عن المنكر، وهو من أجل الطاعات، فإذا علم أنه يؤدي إلى زيادة الشر، انقلب إلى معصية، ووجب النهي عن ذلك، كما يجب النهي عن المنكر، فإن قلت: فقد قال الحسن: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا، قلت: ليس هذا مما نحن بصدده لأن حضور الجنازة طاعة، وليس بسبب لحضور النساء؛ فإنهن يحضرنها، حضر الرجال أم لم يحضروا، بخلاف سب الآلهة).
وقد كان كلام الحسن ردا على ابن سيرين إذ امتنع عن السير في الجنازة؛ لأن فيها النساء.
ويلاحظ على كلام الزمخشري أنه عدَّ سبَّ الآلهة طاعة، كأن الدين أمرنا بسب الآلهة!! إن القرآن ومحمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يأمرانا بسبِّ قط، وقد قلنا إن وصف(5/2625)
الآلهة بأنها لَا تنفع ولا تضر ليس سبا، ولا يمنع أن يقال بيانا للحقائق، وإبعادا لهم عن عبادتها، وليس سبا منهيا عنه، ولو أدى إلى قول القبيح، إنما النهي عن سب الأوثان؛ لأنها ليست هي العاصية، ولما يؤدي إليه السب.
ومهما يكن تعليقنا على قول الإمام الزمخشري فإن مسألة سد الذرائع ثابتة، والآية الكريمة توحي إليها وتحث عليها، وإنه من المقررات ما يفضي إلى المعصية يعد معصية، ولو كان أصلها مباحا.
(كذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أمَّةٍ عَمَلَهُمْ).
أي كذلك الذي نراه من اندفاع المشركين إلى سب الله تعالى، وهو العلي الحكيم، إذا كان السب لآلهتهم كذلك الأمر زَيَّن الله تعالى بمقتضى سنته في الأحياء أن في كل أمة أي طائفة من يُحَسَّن لها عملها، حتى تظنه الحق وما هو إلا الباطل الصراح، ومن زين له سوء عمله فظنه حسنا، فإن عليه مغبته؛ وعليه تبعة ذلك الظن الفاسد وذلك العمل الظالم، وتزيين الله تعالى لكم ذلك سنة الله تعالى في خلقه، ليس مؤداه أنه يبرره، ويرضى عنه، فإن بيان الله تعالى هنا هو بيان لسنة الوجود، وليس ذكرًا للعقاب والثواب، والتكليف، وإنه مختار فيما يفعل ومرده إلى الله تعالى في العقاب والثواب؛ ولذا قال تعالى: (ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
أي أنه إذا كان قد زين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا في الدنيا، فإنهم راجعون إلى ربهم يوم القيامة، والتعبير بـ " ثم " للدلالة على البعد الزماني في نظرهم، والبعد بين ما زين لهم من الشر، وما يستقبلهم من جزاء؛ وفاقا لما عملوا من شر، وقوله تعالى: (إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهمْ) فيه تقديم الجار والمجرور على ربهم، للدلالة على الاختصاص، أي المرجع إلى الله وحده، وهو الذي يتولى جزاءهم على ما قدموا من شر، والتعبير بـ (ربهم) إشارة إلى كفرهم بالنعم التي أوْلاهم؛(5/2626)
إذ إنه هو الذي خلقهم ورباهم ونماهم وأمدهم بآلائه من وقت أن كانوا أَجِنَّة في بطون أمهاتهم إلى أن رُمِسُوا (1) في قبورهم.
النبأ: الخبر الخطير، ينبئهم أي يخبرهم بما كانوا يعملون، وهو إنباء مقترن بالجزاء، فهو إنباء بأعمالهم وجزائها، فيجزَوْن ما كانوا يعملون، أي أن الجزاء موافق للعمل، وأعدل العدل أن يكون العقاب مأخوذا من الجريمة نفسها، والله يتولى المحسنين.
* * *
الكافر الجاحد لَا يؤمن بمعجزه
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
* * *
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جاءهم بالمعجزة الكبرى، وهي القرآن، وتحداهم أن يأتوا بسورة من مثله، وعجزوا عن أن يأتوا بسورة من مثله ولو مفتراه، وكان يكفي ذلك برهانًا على رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكنهم لم يؤمنوا، وأعنتوا في الطلب، وأرادوا آيات أخرى، فطلبوا أن ينزل عليه كتاب في قرطاس من عند الله، ولن يؤمنوا حتى يروه، وطلبوا أن ينزل ملك من السماء مع هذا القرطاس، وهكذا من طرق الإعنات المختلفة، ولم يقدروا القرآن - المعجزة الكبرى - حق قدره، ولم يعدوه آية كافية، وهو أقوى الآيات، وهو المناسب لشريعة خاتم النبيين ومخاطبة الأجيال إلى
________
(1) رُمِسوا: دفنوا، ورمس الميت دفنه، والرمْس: تراب القبر. الصحاح.(5/2627)
يوم القيامة، ووعدوا قاسمين بأشد الأيمان وأغلظها أنه لو جاءتهم آية ليؤمنن(5/2628)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
(وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ليُؤْمِنُنَّ بِهَا).
جهد الأيمان، رُوِي أنه الحلف. ذلك أن العرب كانوا يعرفون الله تعالى، ويعلمون أنه الخالق، وأنه ليس كمثله شيء، ولكن يعبدون معه غيره، فإذا حلف بغير الله لم يكن هذا الحلف أشد الأيمان، فإذا حلفوا بالله كان ذلك أشد الأيمان، وهذا روى في التفسير المأثور.
وإننا نرى أن القَسَم الذي يعد جهد أيمانهم هو أغلظها وأشدها أيا كانت صيغته وأيا كان المحلوف به، وإن كان القسم بالله في ذاته هو أغلظ الأقسام وأشدها، ولا يمنع أن يكون غيره غليظا شديدا في زعمهم الوثني، وجهد: بمعنى الشاق وهو نائب عن مفعول مطلق محذوف (1)، أو هو مصدر بمعنى اسم الفاعل، ومعناه جاهدين، وهو حال من أقسموا، واللام في (ليؤمنن) لام جواب القسم، ونرى من هذا أنهم يؤكدوا أيمانهم إذا جاءتهم آية أي معجزة، وكأنهم لا يعتبرون ما جاءهم من معجزة قاهرة لَا يعدونها آية؛ لأنهم قوم ماديون، ويريدون آية مادية كما طلبوا أن ينزل عليهم كسفا من السماء، أو تفجر الأنهار تفجيرا، ولقد قال الله لنبيه: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ) ينزلها بحكمته وإرادته، وهو الذي يقدر مناسبتها ويقدر الهداية بها، وهو منزلها، فالأمر إليه، وفي ذلك إقناع وإنذار.
ولكن أهم صادقون في أيمانهم أنهم إذا جاءت الآية التي تكون على الوصف الذي طلبوه؛ إنه لَا دليل من ماضيهم المتعنت أنهم يؤمنون إن جاءت؛ لأن كفرهم ليس في نقص الدليل، ولكنه جحود ولا يزيدهم الدليل إلا شدة في الجحود، وعتوا واستكبارا؛ ولذا قال تعالى:(5/2628)
(وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ).
(يُشْعِرُكُمْ) أي يدريكم ويعلمكم علما يكون كالشعور الحسي (أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنونَ)، وقرئت بفتح همزة (أن)، ويكون المعنى ما يدريكم أنها إذا جاءت الآية كما يطلبون لَا يؤمنون، ويكون هذا إيذانا بأنهم لَا يؤمنون، ولو جاءتهم هذه الآيات التي يطلبونها، لأنهم جاحدون ابتدءوه وهم يصرون عليه فهم لا يؤمنون؛ لأن الجحود غلب عليهم فغلبت عليهم شقوتهِم، وكما قال تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7).
لقد سبق إليهم الجحود فاستقر في قلوبهم، فلا يرجى إيمانهم، وهم فوق ذلك بسبب جحودهم، ومسارعتهم إليه في قلق فكري ونفسي دائم، يغيرون تفكيرهم حيثما كان موجب له، ولكنه تغيير في دائرة الجحود.
وقرىء بكسر (إن) (1) ويكون المعنى: وما يشعركم، أي وما يدريكم، ويكون على معنى الاستفهام، وما يدريكم أنهم صادقون في عزمهم، وأنهم مريدون تحقيق أيمانهم الذين جهدوا فيها، ثم قرر سبحانه أنهم لَا يؤمنون فقال تعالت كلماته: (إنها إذا جاءت لَا يؤمنون) إنهم ليس لهم عزم صادق، ولذا قال تعالى:
* * *
________
(1) (إنها إذا جاءت) بكسر الهمزة، قراءة ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وخلف، وأبو بكر غير يحيى، وأبو زيد غير الفضل، والسراج عن حماد، ونصير وقتيبة غير النهاوندي. غاية الاختصار.(5/2629)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
(وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... (110)
* * *
وإن الجاحد لَا يكون مستقرا على قرار، ولا على نظر، بل هو مضطرب النفس والفؤاد والنظر فهو ينظر إلى التي تلوح أماراته، فتبهره بيناته، وهو لجوج في جحوده، فيكون متحيرا بين جحود مستكن قار، ونور تبدو آياته، وهذا قريب من معنى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) أي أن قلوبهم غير مستقرة وأبصارهم أي(5/2629)
مداركهم، وقد شبهت المدارك بالأبصار المبصرة، فهم متقلبون في تفكيرهم ولا إيمان عندهم تستقر عنده القلوب، لَا يفكرون ولا يتدبرون، ويستمرون على جحودهم كحالهم عندما لم يؤمنوا بالقرآن أول مرة، إذ جاءهم، أو كما كانت حالهم قبل أن يقسموا، وهذا تأكيد لأنهم لَا يؤمنون بعد القسم الذي أقسموه جهد أيمانهم.
وقوله تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ) معطوف على (يؤمنون) كما عطف عليه " ونذرهم في طغيانهم يعمهون ".
(وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
أي نتركهم في طغيانهم الظالم، وهو تمردهم على آيات الله تعالى، واقتراحهم على الله أن يأتي بآية أخرى، مما يدل على أنهم لَا يريدون إيمانا، إنما يريدون أن يظهروا أنهم على استعداد لقبول ما يجيء من آيات يقترحونها، وما كانوا يريدون بذلك إلا تعلة لكفرهم، بأنهم لم يقتنعوا بالقرآن دليلا، ومهما يؤت لهم من آية لَا يؤمنون بها، إنه قد سبق جحود نظرهم وفي الأدلة المقدمة لهم، فهم قضوا بكفر، وأدلة الأيمان تقرع حسهم قرعا.
(يَعْمَهُونَ) معناها يترددون في باطلهم والبينات القائمة على بطلانه، فهم يترددون متحيرين، ولا منجاة لهم إلا بإيمان صادق مذعن، وأنى يكون لهم، وقد غلب عليهم طغيانهم الظالم الأثيم، فلا سبيل لأن يصل الحق إلى نفوسهم إذ قد غلفها الجحود، فكان على قلوبهم غشاوة فلا يهتدون.
* * *
(وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا(5/2630)
شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى أنهم لَا يؤمنون بالآيات، ولو أقسموا جهد أيمانهم بأنهم يؤمنون إذا جاءهم ما يطلبون من آيات، لأنهم قد سبق جحودُهم تفكيرهم، وأن أفئدتهم ومداركهم متقلبة وأنهم مترددون بسبب طغيانهم، وفي هذه الآيات يبين سبحانه أنهم لَا يؤمنون إلا أن يشاء الله تعالى ولو نرل إليهم الملائكة وكلمهم الموتى، وحشر عليهم كل شيء.(5/2631)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
(وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُم الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُل شَىْءٍ قُبُلًا).
إن هؤلاء لَا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية. فليس هناك حاجة إلى دليل فوق ما تقدم من أدلة، فإنه لَا ينقصهم الدليل، ولكن ينقصهم القلب المؤمن الذي يذعن، وقد كتب الله تعالى عليهم الجحود، لأنهم لَا يؤمنون، ولو أننا أجبناهم إلى كل ما طلبوا على أقصى مداه - ما أجابوا إلى الإيمان إلا أن يشاء الله، فيقول الله تعالى العلمِم بالنفوس (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ) وقد طلبوا أن(5/2631)
يكون من يبلغهم ملك من الملائكة ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة - والتعبير بـ " نَزَلنا " يشير إلى أنه لو نزل إليهم الملائكة ملكا بعد ملك، لكي يؤمنوا، وقد طلبوا ذلك.
وكلمهم الموتى من قبورهم أو خرجوا من القبور ليدلُّوا بالفعل على البعث الذي أنكروه، ولو حشر عليهم كل شيء قبلا أي قبيل بعد قبيل، كما فسر مجاهد عن ابن عباس، لأن قبُلًا جمع قبيل.
وقرى قِبلًا بكسر القاف (1) بمعنى مقابلة، أي عاينوهم معاينة وقابلوهم مقابلة، ويصح الجمع بين القراءتين بأن يكون المعنى، وجمعنا كل شيء من المعجزات والناس المبعوثين وعاينوهم جماعة بعد جماعة ورأوهم بالعيان والمقابلة - لو كان ذلك ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله، وقوله تعالى: (مَّا كانوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ) معناها مما كان من شأنهم أن يؤمنوا إلا أن بكون تعالى شاء ذلك، فكل شيء بمشيئته سبحانه وتعالى.
وإن هذا النص السامي يفيد أنهم بجحودهم وإصرارهم عليه، وإنكارهم للمعجزات لو سيقت لهم لن يؤمنوا؛ لأن الله تعالى لم يشأ لهم الإيمان، فكتب عليهم الضلال لسوء ما يفعلون، ويجحدون، وتدل في سياقها على أنه لَا جدوى عندهم في تكاثر الأدلة، وما عندهم يكفي لقوم يؤمنون.
وقال تعالى: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) (لكن) للاستدراك عما يقتضيه السياق من أنهم يطلبون ويؤكدون أنه إذا جاءتهم آية يؤمنون، فيبين أنهم بجحودهم لم يشأ لهم الإيمان فلا يجدي دليل، فهو استدراك على ما زعموا من أن كفرهم لنقص الآيات، وينسون مشيئة الله تعالى التي كانت لجحودهم وهي أنهم لَا يؤمنون، وإن ذلك بجهلهم أن الله قد كتب عليهم الكفر بسبب جحودهم، ويجهلون أن ما عندهم من دليل وبينات فيها ما يوجب الإيمان، وهذا معنى، (وَلَكِنَّ أَكثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) الحق، ولا يذعنون له ولا يرضون به، وأن الله
________
(1) (قِبَلًا) بكسر القاف وفتح الباء، قراءة نافع وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وابن عامر،، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالضم فيهما (قُبُلًا). غاية الاختصار (860).(5/2632)
تعالى قد كتب على أكثرهم الكفر، وأنهم لَا يؤمنون، والتعبير بالمضارع يفيد استمرار جهلهم، وتجدده آنًا بعد آنٍ.
وإن هؤلاء المعاندين قد نصبوا أنفسهم لعداوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومقاومة دعوته، وهم وأشباههم من أعداء النبيين الذين قاوموا الدعوة؛ ولذا قال تعالى:
* * *(5/2633)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ... (112)
* * *
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصابر المشركين ويتحمل أذاهم هو وأصحابه، ويتحمل معاندتهم له، لَا يرضون القرآن دليلا على نبوته، وقد عجزوا عن أن يأتوا بمثله أو بعضه، وأقروا صاغرين بعجزهم، ولكن لم يمتنعوا هم عن معاداته بالباطل متخذين كل ذريعة سبيلا لباطلهم.
والله تعالى يثبت فؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك كان للنبيين من قبله، وكان مألوفا، وهو سنة الله تعالى في رسالاته فقال تعالى: (كذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا) أي كذلك الذي تراه من عداوة نفر من المشركين ولجاجتهم في العداوة، حتى لَا يتركوا بابا من أبواب الكيد إلا سلكوه، ولا مسلكا من مسالك الإعنات إلا اتخذوه، كذلك جعلنا لكل نبي عدوا من شياطين الإنسان والجن، وشياطين الإنس هم أولئك الذين ناصبوك العداوة، وشياطين الجن هم أعوان إبليس الذين يوسوسون، ويأمرون بالسوء والفحشاء ويسولون كل قبيح، ويزينونه، ويسمونه بغير اسمه، فهؤلاء يدفعون النفس الأمارة بالسوء، وأولئك يستجيبون لهم، ويفترون بوسوستهم، ولذلك قال تعالى: (يُوحِي) الوحي: الخطاب الخفي أو التوجيه الخفي، كما قال الله تعالى: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتَا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ).
فالوحي هنا هو التوجيه الخفي الذي يوسوس في الناس فيلقي في نفوسهم بتغريرهم، بزخرف القول، فيوهم بأن الكفر إكرام للآباء، وأن تقليدهم تعصب لهم، وأن الانطلاق من كل القيود الخلقية مروءة، وأن المعاندة هداية، وأن إهمال حكم العقل هو الاتباع، وهذا معنى قوله: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ(5/2633)
غُرُورًا)، أي يلقى في نفوسهم تحسين الباطل بأقوال باطلة، ولكنها مزخرفة بزخرف يكون غرورا للنفس الضالة، فتتدلى به.
وهكذا يجيء تضليل النفوس في الآحاد والجماعات بزخرف القول، فتسمى الحقائق بغير أسمائها فيسمى الجحود طلبا للدليل، ويسمى الشجاعة في الحق تهورا، ويسمى الإفساد حرية، ويسمى الاستبداد شورى، والشورى طغيانا، ولذلك كان بعض الحكماء يرى أن إصلاح الأخلاق يكون أولا بتصحيح الألفاظ، وإن هذه العداوة للأنبياء من شياطين الإنس والجن بإرادة الله تعالى، ولذا قال: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ).
أي إن هذه إرادة الله تعالى اختيارا، وليبلغ النبيون أعلى مراتب الإنسانية
بجهادهم في الدعوة إلى الله، وقوله تعالى: (ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ). معناه لو أراد الله تعالى ما فعلوه، أي شياطين الإنس والجن، ولكنهم فعلوه ليكون التنازعِ بين الخير والشر، ولأن الله تعالى مكن لإبليس الذي قال: (لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، ولو أراد الله ما تمكن، ولو شاء الله تعالى ما خلقه.
وإذا كان ذلك أمرا ثابتا بالنسبة للنبيين أجمعين، فتقبله وأعرض عنهم، ولا تأس على القوم الفاسقين؛ ولذلك قال تعالى: (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) أي فاتركهم وأكاذيبهم من إنكارهم حجية القرآن، ودلالته على النبوة، وافتراءهم على أنفسهم بحلفهم أنهم يؤمنون لو جاءتهم، وافتراءهم عليك من أنك تعيب أحلامهم، وتسفه آباءهم، وأنت تنطق بالحق وترشدهم وتهديهم سواء السبيل.
وقوله تعالى: (فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)، (الواو) واو المعية، و (ما) اسم موصول، أي أعرض عنهم واتركهم هم وما يفترونه، هذه هي النتيجة بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي أن يتركهم في غيهم يتحيرون، أما النتيجة بالنسبة لهم ولأمثالهم فقد ذكرها الله تعالى بقوله تعالى:
* * *(5/2634)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
(وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ ... (113)
* * *
(الواو) هنا عاطفة على نتيجة الجملة السابقة؛ لأن نتيجة يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا أن يفتروا، فكان العطف عليه (وَلِتَصْغَى إِلَيهِ أَفْئِدَةُ الَّذِين لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ) فالإغواء بزخرف القول غرهم فأفسدهم وأفسد من هم على شاكلتهم، وهم الذين لَا يؤمنون بالآخرة، وتصغي معناها تميل، أي تميل قلوب أولئك الذين لَا يؤمنون بالآخرة، ولم يقل الجاحدون بالآيات، بل ذكر الذين لا يؤمنون بالآخرة؛ ليشير إلى سبب الكفر وهو عدم الإيمان بالآخرة، ذلك أن الإيمان بالآخرة مقياس الإيمان، وهو ما يفصل قلب المؤمن عن قلب الكافر، فقلب الكافر لَا يتسع إلا لما هو مادي محسوس، ولا ينظر إلى ما هو مغيب مستور، فهو لَا يؤمن بأن وراء الحياة التي يعيشها حياة أخرى فيها جزاء ما يكون في هذه الحياة؛ ولذلك كان من أوصاف المتقين كما قال تعالى: (الذِينَ يُؤْمِنونَ بِالْغَيْبِ. . .)، فالإيمان بالغيب إيمان بسر الوجود وغايته ونهايته، وإنه لا نهاية لها بالقبور، أما الكافرون الجاحدون فيقولون كما حكى القرآن (إِنْ هِي إِلَّا حَيَاتُنَا الذُنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).
(وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ).
ليميل أولئك الذين لَا يؤمنون بالآخرة إلى زخرف الشيطان، وتغرير بالغرور، يحسبون أنه الغاية فهو سبيلهم وإذا رضوه عملوا بمقتضاه، وارتكبوا من الآثام ما هو غايته ونهايتهم، وهذا معنى قوله: (وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُون) والاقتراف معناه الاكتساب، وهو أكثر ما يكون في اكتساب ما لَا يحس وما ليس بخير، وأصل مادة " قرف " أن يقول ما ليس بحق يقال قرفتين إذا رميتني ما ليس فيَّ، فهو في القول الرمي بالباطل، وفي الأفعال اكتساب ما فيه إثم أو ما تكون عاقبته إثم.(5/2635)
وإن هذا النص الكريم يبين كيف يبتدئ الشر في النفس:
فهو يبتدئ أولا: بالميل إليه واستحسانه، وكما يقول الدارسون للنفس الإنسانية: أول الشر استحسانه. وثانيا: بالرضا به خلقا وقولا، فالرضا أعلى من الميل المجرد في مراتب الإدراك النفسي، والقلبي. وثالثا: بالعمل على مقتضى ما مال إليه وارتضاه؛ ولذا ختم الآية بقوله جل كلامه عن الشبيه والمماثل، (وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ) أي ليرتكبوا من المعاصي ما شاءوا أن يرتكبوا حتى يكون اقتراف المعاصي وصفا ملازما لهم لَا يفترقون وهناك بقراءة اللام بالسكون في قوله تعالى (وَلِيَقْتَرِفُوا) ويكون الأمر للتهديد، والإشارة إلى فساد طواياتهم، كأنه وراء الرضا الارتكاب، فليرتكبوا، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (1) كأنه لَا حاجز بين الإنسان والشر إلا الرضا به، فإذا رضي فقد زال وفتح باب الشر فليلج فيه. وهذا يدل على التهديد والإنذار ببلوغ نهاية الشر، والوصول إلى غايته، فليفعل ما يشاء والعاقبة والمآل إلى الله، وهو يستقبلهم بعذاب جهنم وبئس المصير.
إن الكافرين يريدون آية غير القرآن، والله تعالى هو الذي اختار القرآن آيته الكبرى ومعجزته الخالدة الباقية فإذا كان يستمع إليهم، فقد اختارهم حكاما على آية الله تعالى التي اختار، وذلك أمر منكر لَا يرضاه مؤمن، ولا يرضاه محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ ولذا قال الله تعالى على لسان نبيه الأمين:
* * *
________
(1) رواه البخاري: أحاديث الأنبياء - حديث الغار (3483). كما رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد ومالك. أما أبو داود فقد رواه بلفظ: " إذا لم تستح ".(5/2636)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
(أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ... (114)
* * *
(الفاء) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وقد كان ما قبلها طلب آيات، وقسم منهم بأنها إذا جاءت ليؤمنن بها، وكأنهم بذلك يريدون أن يجعلوا من أنفسهم حكاما على آيات الله تعالى على الآية الكبرى وهي القرآن فينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه أن يكونوا حكاما على آيات الله غير الله.(5/2636)
وقدمت همزة الاستفهام على الفاء؛ لأن الاستفهام دائما له الصدارة، و (حكما) معناها حاكم، بيد أن حُكْمه دائما حقا صوابا، والحاكم قد يكون صوابا وربما يكون غيره، وقد يكون حقا وربما يكون غيره، والمعنى الجملي: أتقولون في القرآن ما تقولون، وتطلبون آيات أخرى غير القرآن، وتريدون أن يكون غير الله تعالى حكما، وإنها في هذا المقام أهواؤكم.
وهنا إشارات بيانية:
أولاها: أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي، أي لَا أبتغى غير الله تعالى حكما، وقد قدم غير الله حكما، لمزيد استنكار ذلك، وإنه غير معقول وغير جائز، وغير مقبول في ذاته.
الثانية: أن الابتغاء من (بغى) بمعنى طلب، ومن موضع الاستنكار أن يرضي بغير الله حكما، فضلا عن أن يبتغيه، ويطلبه طلبا مشددا فيه، كما يريدون أن يطلب النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله تعالى هو الذي ارتضى له هذه الآية، وهي القرآن الكريم.
ولذا قال تعالى على لسان النبي: (وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مفَصَّلًا) وهذه الجملة حالية، أي كيف أبتغي غير الله تعالى حكما في آياته وقد أصدر حكمه، وأنزل إليكم الكتاب مفصلا مبينا معرفا بالأحكام المطلوبة، والأحكام المنهية في بلاغة، تحداكم أن تأتوا بمثلها فعجزتم عجزا مبينا.
وقوله تعالى: (أَنزَلَ إِلَيْكمُ الْكِتَابَ) أي آتاكم آيته؛ الكتاب الكريم مفصلا مبينا حجة باهرة، وقد شهدت له الكتب السابقة والأنبياء السابقون؛ ولذا قال تعالى:
(وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُم الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّه مُنَزَّلٌ من رَّبِّكَ بِالْحَقِّ)
فالله سبحانه وتعالى يبين أنه كتاب مجيد يعلمه السابقون من الأنبياء، وهو كتاب أزلي أبدي، علم أمره السابقون وسيبقى في الخلود إلى يوم الدين، وقد(5/2637)
جاءت كتب أهل الكتاب بالشهادة له فهو معجزة أزلية ثابتة، وقد قال تعالى في بيان ذكره في الكتب السابقة هو ورسوله الأمين: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)، فهو كتاب الخليقة الذي يشتمل على كل الحقائق الشرعية.
ولقد قال تعالى رادا على أي شكوك وارتياب: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94).
وإن الشك ليس من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه شك من المشركين أداهم إليه جحود الحق وقد عرفوه ولقد قال بعد ذلك في هذه الآية.
(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)
الامتراء: الشك، والنهي مؤكد بنون التوكيد الثقيلة، والفاء للإفصاح عن شرط مقدر فإن تقدير القول إذا علمت أنه حكم الله تعالى، وأن الكتب السابقة شاهدة على الصدق، فلا تكونن من الممترين والنهي للنبي - صلى الله عليه وسلم -، بظاهر القول، وهو لأمته التي يدعوها إلى الإسلام، وإلى أولئك الذين تهجموا بطلب آيات أخرى، وليس النهي للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الحقيقة؛ لأن النهي عن فعل يكون حيث يتوقع وقوعه، ولا يمكن أن يكون ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه الذي نزل عليه القرآن، فلا يمكن أن يكون منه امتراء إنما يكون من غيره، وإنما ذكر موجها إليه - صلى الله عليه وسلم -، لإعلاء شأن القرآن، ولبيان مكانته، وأنه فوق ارتياب المرتابين، ولأنه إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - منهيا عن الامتراء، وهو من نزل عليه القرآن فغيره أولى بالنهي.
وإن نزول القرآن والتحدي به، وعجزهم عن أن يأتوا بمثله، وتقدير الله تعالى بأنه لَا يؤتى بمثله قط إذ قال تعالت كلماته: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ(5/2638)
عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88).
وإذا قد نزل القرآن الآية الكبرى، فقد تمت كلمة الله في ذلك؛ ولذا قال سبحانه:
* * *(5/2639)
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
(وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ... (115)
* * *
كلمة الله تعالى حكمه وتدبيره، وما قرره، كما نقول في الكلام الجاري: قال فلان كلمته أي ما قرره وانتهى إليه فمعنى (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) بعد أن ذكر شأن الكتاب مقترفا بما يقترحون من آيات يسترون بها جحودهم وكفرهم فقُرّرت وسجلت، فالقرآن هو المعجزة التي اختارها حجة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، على المشركين، ومن يجيء بعدهم من أجيال يخاطبهم القرآن الكريم إلى يوم الدين، وكما تحدى العرب يتحداهم أن يأتوا بمثله.
وقوله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ) قرئت بقراءة أخرى بالجمع لَا بالمفرد بـ (كلمات ربك) (1) وإسنادها إلى الرب في القراءتين للدلالة على أنه سبحانه وتعالى هو الذي يعلم ما يناسب الأقوام والشرائع من معجزات النبوات، فهو يختار لكل نبي وشريعته، ما يناسبهما.
وقوله تعالى: (صِدْقًا وَعَدْلًا) أي قررت كلمة الله تعالى في القرآن حال كونه صدقا وعدلا أن كل ما فيه عن الله تعالى صدق لَا ريب فيه، وما فيه من أحكام هي العدل والقسطاس المستقيم، ثم أكد الله تعالى تمام كلماته، فقال تعالت حكمته:
(لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) أي تمت وتقررت كلمة الله الصادقة في القرآن، وأنه العدل والقسطاس ولا مبدل لكلماته، أي فإن الله تعالى لَا يبدل كلماته لأنها الصدق والعدل المستقيم، ولا يمكن أن يكون هناك مبدل لكلمات الله تعالى
________
(1) (كلمت) على الإفراد، قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف، ويعقوب، وقرأ الباقون (كلمات) بالف بعد الميم على الجمع. غاية الاختصار.(5/2639)
غيره؛ لأنه القادر على كل شيء، وليس في الوجود أحد له إرادة بجوار إرادة الله سبحانه وتعالى، وليس في قدرة مخلوق أن يغير على الله تعالى.
(وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم) وقد ختمت الآيات الكريمة بذكر الله تعالى بهذين الاسمين من أسماء الله الحسنى وهو أنه السميع العليم بكل شيء علم من يسمع ويرى بغير كيف ولا مماثلة لعلمنا وأنه عليم علما مطلقا ضمت الآيات الخاصة بالمعجزات لتأكيد أن الله تعالى هو الذي يختار بعلمه المحيط بكل شيء ما مثله يؤمن عليه البشر لكل نبي، وهو الحكيم الخبير فيما يختار، فليس لأحد أن يختار عليه، وهو الذي يقدر كل شيء، (. . . وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9).
* * *
الاتباع يكوق عن بينة
(وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
* * *
إن قوة الحق ليست بكثرة من يقولون، وإنما قوته بقوة دليله، فلا تطع الأكثرين لأنهم الكثرة، بل أطعهم لقوة ما عندهم من دليل، فالآية تدعو إلى اتباع العقل والمنطق واليقين، وليس اتباع الكثرة لأنها كثرة، وقد ذكر الله تعالى عن كثرة ضلت، وقلة اهتدت، فقال تعالى مثلا لذلك: (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ)، وقال تعالى: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين).(5/2640)
ولقد قال تعالى في الآية التي نتكلم في معناها:(5/2641)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
(وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ).
هذه الآية تدل بجملتها وظاهر ألفاظها أن الله تعالى يقول لنبيه الأمين: إنك تضل لو أطعت من في الأرض واتبعت كثرتهم، وإذا أريد بالأرض أرض المشركين من بلاد العرب، فالمعنى يكون محدودًا بحدود الكثرة العربية الذين كانوا في ذلك الوقت مشركين، فإن تطع أكثرهم يضلوك عن سبيل الله تعالى؛ لأنهم مشركون والشرك ضلال، فإن أطعتهم دخلت في ضلالهم، ويكون معنى القول نهي لمن مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من أن يتبعوا المشركين في ضلالهم لأنهم الأكثرون، فالكثرة لَا تعطي الدليل قوة، ولا تتبع اليقين دائما، بل إن أقوالهم تعتمد على الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا؛ ولذا قال تعالى: (إِنْ يتَّبِعُونَ اٍلَّا الظَّنَّ)، و (إنْ) هنا نافية بمعنى (ما)، أي إنهم لَا يتبعون إلا الظن فيظنون الأمر ظنا، ثم يعتقدونه اعتقادا، كما قال تعالى عن أمثالهم: (إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ)، وأكد هذا ببيان طريق ظنهم فقال تعالى: (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)
والخرص مأخوذ من خرص النخل؛ ليعرف ما تحمل من بلح، فيقال: خرص النخل يخرصه إذا حزره، ولا يمكن أن تكون نتيجة الخرص علما قطعيا تبنى عليه عقيدة، أو يؤخذ به رأى سليم في أي أمر من الأمور، وأقصى ما ينتهي إليه ظن لا قطع فيه. فالمعنى: إن هم إلا يظنون، وإن هم في سبيل ذلك لَا يتبعون إلا الخرص الذي لَا ينتهي إلى يقين قط.
هذا الكلام خرجناه على أن الأرض المراد بها أرض الشرك، ويكون المقصود طاعة المسثركين، ولكن الأرض لو يراد منها الأرض الواسعة أرض الله تعالى، ويكون المراد إن تطع الناس فيما يرون ويبتغون يضلوك عن سبيل الله تعالى، وليس الحق دائما مع الكثرة، بل قد تكون الكثرة على غير الحق، بل إنه ثبت من التحليل للعقلية الجماعية أنها لَا تدرك ما يدركه المتفكر في خاصة نفسه، وذلك(5/2641)
لأن الجماعات تغلب عليها العاطفة الجماهيرية، ولا يكون مجال لتمحيصها، ولعل هذا هو ما يرمي إليه النص القرآني في وصف تفكير أكثر من في الأرض، إذ يقول سبحانه: (إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ).
ومهما يكن فإن الآية الكريمة تدل على أمرين:
أولهما - أن الاتباع عن غير بينة لَا يجوز، بل إنه يجب النظر والبحث، وأن اتباع الجماعات من غير دراسة لَا يجوز، وأن الجماعات يغلب على تفكيرها الحدس والتخمين، ولا يسودها التفكير والدرس العميق والمنطق السليم.
ثانيهما - أن قوة الآراء ليست بكثرة معتنقيها، وإنما بقوة ما فيها من دليل، وإنه يترتب على ذلك أن التقليد لَا يجوز.
وقد يقول قائل إن الكثرة تغلب في الآراء عند الشورى، فلا يغلب رأي القلة، وإن كان معقولا، فكيف رأى الكثرة غير صحيح.
ونقول في الإجابة عن ذلك: إن أساس الشورى الرضا بالعمل، ورأى
الكثرة اتباعه هو الدليل على النزول على رضا الجماعة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نزل على رأي الكثرة عند الشورى في حرب أحد، ولو كان رأيه غير ذلك.
إذا كان الناس يضلون في تفكيرهم الجماعي، فلا تطعهم لأنهم يظنون ظنا، والظن لَا يغني من الحق، فإن الله هو الذي يعلم من يضل، ومن يهديه، ولذلك قال:
* * *(5/2642)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ ... (117)
* * *
أكد الله سبحانه وتعالى أنه هو وحده الذي يعلم علما لَا يدانيه علم بمن يضل عن سبيله، وهنا أمور بيانية نشير إليها:
أولها - أن الله سبحانه وتعالى عبر بـ (رَبَّكَ) وهو إشارة إلى كمال علمه الخاص بالأنفس، لأنه ربها الذي كونها، وربها وقام عليها، ووجهها إلى النجدين، نجد الخير ونجد الشر.(5/2642)
ثانيها - أن (أَعْلَمُ) بصيغة أفعل التفضيل، وليست على بابه؛ لأنها إذا كانت على بابه تكون موازنة بين علمه تعالى وعلم غيره، وعلم غيره لَا يوزن به علم الله تعالى، إذ هو علم نسبي، وعلم الله تعالى علم إحاطة شاملة، ومعنى " ربك أعلم "، أنه سبحانه وتعالى يعلم من يضل، ومن يهتدي علما ليس فوقه علم ولا يصل إليه علم كائنا لمن كان.
ثالثها - أن قوله: (مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ) فيه حرف جر حذف دل عليه قوله تعالى بعد ذلك (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، فـ (مَن): على حد تعبير النحويين منصوب بنزع الخافض.
رابعا - أن قوله تعالى: (يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ) عبر بالمضارع للدلالة على بقائه في الضلال مع تجدده، كلما جاء تارة يضل عنه، ويزداد إيغالا في الضلال، ومعنى " عن سبيله "، أي عن طريق الهداية، والوصول إلى الحق المبين. خامسا - أن الله سبحانه وتعالى أكد علمه الذي لَا يصل إليه علم؛ بـ " إنَّ " الدالة على التوكيد، وبالجملة الاسمية، وبضمير الفصل، الذي يدل على تأكيد الخبر.
(وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهدِينَ) العطف على " هو " في الجملة السابقة، وتكرر ضمير الفصل تأكيدا للإسناد، وعبر بالصفة بالنسبة لمن لم يضلوا، تأكيد لهدايتهم، وأنهم بسلوكهم طريق الحق، قد أنار الله تعالى قلوبهم، فكانوا مهتدين بهدايته.
* * *
الله أحل الطيبات
(فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ(5/2643)
بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
* * *
نهى الله تعالى عن اتباع المشركين خاصة، والجماعات من غير نظر عامة، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى الضلال الذي كانوا يتبعونه فكانوا يأكلون ما ذبح باسم أصنامهم، وما ذبح على نصبها، وكانوا يحرمون على أنفسهم بعض الأنعام، ويزعمون أن تحريم ذلك من الله، لذلك أباح الله تعالى للمؤمنين أن يأكلوا مما ذكر عليه اسم الله، وألا يأكلوا مما لم يذكر عليه اسم الله، وألا يحرموا على أنفسهم إلا ما حرم الله، فقال تعالى:(5/2644)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
(فَكلُوا مِمَّا ذكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كنتم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ). (الفاء) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، إن كنتم قد نهيتم عن اتباع المشركين في تحريمهم وتحليلهم، وتحريمهم بعض ما أحل الله - فكلوا مما ذكر اسم الله تعالى عليه.
وقد دلت هذه الجملة السامية على أمرين:
أولهما - إباحة ما ذكر اسم الله عليه تعالى عند ذبحه، فإن الذبح بإنهار الدم يكون تطهيرا له من الخبث الحسي، وذكر الله تعالى يكون تطهيرا معنويا من خبث الوثنية.
ثانيهما - أن كل الأنعام مباح أكله بعد تذكيته مع ذكر اسم الله تعالى عليه، فلا يحرم المؤمن شيئا مما حرمه المشركون، وإنه رد على بعض المشركين الذين(5/2644)
استباحوا الميتة، فقد روى النسائي في سننه أن بعض المشركين قالوا: كيف نحل ذبيحة الإنسان، ولا نحل ذبيحة الله؛ (1) يقصدون أن الميت ذبيحة الله تعالى، وذلك غلط فاحش، وكذب على الله، فالذبح إنهار الدم وإزالة ما يكون فيها من خبائث تضر الجسم، والميتة ليس ذبحا، وفيها بقاء الدم بخبائثه في الجسم. وقال تعالى: (إِن كُنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ) أي إن المؤمن لَا يتبع المشركين، ولا يحرم إلا ما حرَّم الله تعالى، ولا يحل إلا ما أحل الله، وقوله تعالى: (إِن كنتُم بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ) فيه توكيد وصفهم بالإيمان بقوله: (كُنتُم) الدالة على البقاء والاستمرار على وصف الإيمان، وأكد سبحانه وتعالى الإيمان بوصفهم به.
وهنا يثار بحث: هل تناول المباح يعد من الإيمان؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إن تناول المباح له جانبان، جانب التناول، وهو مباح بالجزء، فيجوز للإنسان أن جمل نوعا، وألا يأكل آخر، فيجوز أن يأكل اللحم، وأن يأكل الطير، أو يأكل السمك، فكلها حلال طيب، ولكن لَا يجوز أن يمتنع عنها جملة، فهي مباح بالجزء مطلوبة بالكل، فلا يجوز أن يمتنع عن كل المباحات، والجانب الثاني أن يحسب أن الامتناع عن بعض المباحات تعبد، كأن يمتنع عن اللحم من غير ضرورة جسمية كبعض الذين يسمون أنفسهم نباتيين، فإن هذا يكون ممنوعا لغير ضرِورة أو حاجة، فإنه يدخل في النهي في قوله تعالى: (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تحرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ. . .)، وقال تعالى مستنكرًا مِن حرم بعض اللباس من غير نص والطيبات من الرزق، فقال تعالى: (قُلْ منْ حرَّمَ زِينة اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ. . .).
* * *
ولذا قال تعالى:
________
(1) رواه النسائي: الضحايا - تأويل قول الله عز وجل: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) (4437) عَنْ ابْنِ عَباسٍ في قَوْلِه عَزَّ وَجَلَّ: (وَلا تَأْكُلُوا مما لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللَّه عَلَيْه) قَالَ: خَاصَمَهُمْ الْمُشْرِكُونَ فَقَالُوَا: مَا ذبَحَ اللَّهُ فَلا تَأْكُلُوهُ، وَمَا ذَبَحَتُمْ أنْتُمْ أكَلْتُمُوهُ؟! َ(5/2645)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ ... (119)
* * *
(ما) هنا للاستفهام الإنكاري، وهو بمعنى التوبيخ للمشركين إذ حرموا على أنفسهم ما لم يحرم الله من بعض الأنعام كالسائبة والبحيرة والحام؛ وذلك لأنه(5/2645)
إنكار للواقع، وإنكار الواقع توبيخ، والمعنى أي حجة لكم في ألا تأكلوا ما ذكر اسم الله تعالى عليه، لَا دليل، فانتم تحرمون على أنفسكم ما أحل الله لكم، وتنسبون التحريم لله سبحانه وتعالى وذلك افتراء على الله تعالى، وكذب عليه، كما قال تعالى في هذا الشأن إذ حرموا ما حرموا مدعين أنه من عند الله: (. . . قُلْ هَلْ عِندَكم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن ثَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ).
(وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ) أي تحرمون على أنفسكم ما أباحه الله تعالى وقد فصل لكم ما حرم عليكم، أي بينه، فإنه حرام، وقد ذكر تفصيل ما حرم الله تعالى، فيما يأتي من سورة الأنعام فقال تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145).
وقوله تعالى (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ) فيه قراءتان متواترتان، قراءة بالبناء للفاعل بفتح الفاء والحاء (1)، ويكون المعنى تحرمون عليكم بعض الأنعام التي ذكر عليها اسم الله عند ذبحها، وأنتم تعلمون ما بينه الله من محرمات أباحها للضرورة، ولم يكن المنع قيها إلا في حال الاختيار، ولا منع فيها في حال الاضطرار.
ويكون التوبيخ على أنهم علموا تحريم الله وأن ما عداه حلال، ومع ذلك حرموا ما حرموا من تلقاء أنفسهم. والمعنى على قراءة البناء للمجهول بضم الفاء والحاء (2) يكون المعنى تحرمون ما تحرمون بغيا، وقد علم بالتفصيل ما حرم عليكم،
________
(1) (فَصل) بالفتح، (ما حُرم) بالضم، قراءة عاصم وحمزة والكسائي، غير حفص والمفضل كلاهما عن عاصم. غاية الاختصار (863).
(2) (فُصِّل. . حرِّم) بضم الفاء والحاء، قراءة ابن عامر، وابن كثير؛ وأبو عمر والمفضل. وقرأ الباقون، وهم نافع وأبو جعفر وحفص ويعقوب: (فَصَّل. . ما حَرَّم). المرجع السابق.(5/2646)
أى إن المحرم كان معلوما من الله، وهو تحريم أيضا بمقتضى الفطرة السليمة؛ لأنه لا تستبينه النفوس السليمة، ولا الأذواق التي تعاف الرجس القذر.
(وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِآهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ) المعنى: إن كثيرا من الناسِ تسيطر عليهم الأوهام، حتى تزين لهم الضلال، فيتوهمون أنه حق، وما هو إلا الباطل والهوى هو الذي يخرج الوهم، ويحكمون من غير علم.
وقوله (لَيُضِلُّونَ) فيها قراءتان إحداهما - بفتح الياء (1) والمعنى أن كثيرا من الناس يضلون في ذات أنفسهم بأهوائهم التي تسيطر عليهم بغير علم، بل بوهم توهموه، وحكموا على مقتضاه من غير علم أوتوه، وينسبون ذلك إلى الله، والله تعالى بريء منه؛ لأنه مفترى عليه.
وهناك قراة أخرى بضم الياء، ويكون المعنى: إن كثيرا من الناس يُضلون غيرهم تبعا لأهوائهم التي تجعلهم يتوهمون تحريما في أشياء بغير ما حرم الله تعالى، وينسبون ذلك لله تعالت قدرته بغير علم علموه من قبل الله سبحانه وتعالى.
وإن القراءتين متواترتان كل منهما قرآن كريم، فكل واحدة قرآن، ويكون بين القراءتين أنهم يضلون بأهوائهم في ذات أنفسهم، حتى استمكن الضلال منهم فأضلوا غيرهم، فهم يضلون ويضلون بغير علم.
وهذا فيه تنبيه للمؤمنين، بأن يجتهدوا في عدم اتباع المشركين الذين ضلوا وأضلوا: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ).
وإن هؤلاء اعتدوا على الله فكذبوا عليه، واعتدوا على الناس فأضلوهم واعتدوا بتحريم ما لم يحرم عليهم، فكما أن الاعتداء يكون بتحليل ما حرم الله تعالى، فالاعتداء أيضا يكون بتحريم ما أحل الله.
________
(1) (يُضلون) بضم الياء، قراءة عاصم وحمزة والكسائي وخلف غير المفضل، و (يَضلون) بفتحها ابن كثير وأبو عمرو. وقرأ الباقون وهم نافع وأبو جعفر وروح - بفتح الياء. غاية الاختصار (864).(5/2647)
وأفعل التفضيل على غير بابه، والمراد أن الله تعالى يعلم علما، ليس فوقه علم بمن يعتدون، وعبَر سبحانه وتعالى بالوصف (بِالْمُعْتَدِينَ) على أن الاعتداء صار وصفا لهم، إذ اعتدوا فأشركوا، واعتدوا فحرموا على أنفسهم ما لم يحرم الله تعالى من الطيبات.
وقد أكد سبحانه علمه باعتدائهم بذكر أنه رب كل شيء، والرب يعلم بمن خلق وربى، وأكده بضمير الفصل: " هو " وهو يدل على أنه وحده العليم بالمعتدين، وأكده بـ " إنَّ "، وهذا فيه إنذار شديد للمعتدين.
* * *(5/2648)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
(وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ... (120)
* * *
الإثم هو ما يبطِّئ عن الخير، وأطلق على كل شر إثم، وعلى كل مخالفة لأمر الله تعالى إثم، وقد عد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإثم يبتدئ من القلب " ولذا قال فيما رواه مسلم: " البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك، وكرهت أن يطلع عليه الناس " (1).
وقد جاء ذلك النص السامي في هذا الموضع الذي يذكر فيه إباحة الذبائح التي ذكر فيها اسم الله للإشارة إلى أن الأساس في الذبائح وغيرها، هو ترك الآثام، فذكر اسم غير الله إثم ظاهر وهو شرك واجب تركه، وإن بجوار ترك الإثم الظاهر إثم باطن، وهو ما يتعلق بالنفس من حقد وحسد، ورغبة في الشر، والدس، والنميمة، والغيبة، والهم بالشر، بحيث لَا يكون التخلف عنه بقدرته، بل يكون بأمر خارج عن إرادته، والشرور قسمان: شرور ظاهرة كالقتل والزنى والقذف وشرب الخمر والسرقة، وقطع الطريق، والمجاهرة بالمعاصي، وشر خفي وهو أن تركس النفس في الآثام، فلا يكون في النفس، إلا عزم على الشر، أو إخفاء الضغن على الناس، وألا ينوي الخير، وأن يفعل الأمر الحسن مُرِائيا، وأن يزكي ويصلي مُرائيا، وذلك هو الشرك الخفي، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " من تصدق يرائي فقد أشرك " (2).
________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.(5/2648)
وقد حرَّم الله الإثم الظاهر والخفي، في هذه الآية، فقال تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَه. . .) أي اتركوا الإثم في ظاهره وباطنه، وعبر عن الإثم الخفي بباطنه؛ لأنه مستور في باطن النفس غير معلوم، والإثم واحد في الحالين، ظهر أو بطن، ولقد قال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرِّم رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْي بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا). وفى هذه الآية سمي الإثم فواحش؛ لأنه زيادة عن الفطرة زيادة فاحشة، فما من معصية إلا كان فيها خروج فاحش على الفطرة.
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ) هذا هو الجزاء الذي كتبه الله تعالى، لمرتكبي الآثام ما ظهر منها وما بطن، والذين يكسبون الإثم، سواء أكانوا يكسبونه بجوارحهم الظاهرة، أم يكنُّونه في نفوسهم مع اعتزاله، والحرص عليه، (سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُون) و (السين) هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل، وعبر سبحانه وتعالى بالموصول للإشارة إلى أن الصلة سبب الجزاء، وأن الجزاء يعم كل من يفعل، وكسب الإثم ارتكابه بقصد وإصرار عليه، وإغلاف باب التوبة، والكسب يجعله يسكن في النفس حتى يصير لونا من ألوانها، أو تعزيزه والملكة فيها، فلا يقال إنه كسب السوء، من يفعله مرة أو مرتين عن جهالة ثم يتوب من قريب.
وقال تعالى في الجزاء: (سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ) والاقتراف الكسب، ويطلق كثيرا على الكسب الآثم، وقد يطلق في قلة على كسب الخير، كما في قوله تعالى: (وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ).
* * *(5/2649)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
(وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ... (121)
* * *
أباح الله أن نأكل مما ذكر اسم الله عليه، فقال تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) وندد بالذين لَا يأكلون مما ذكر اسم الله ممن يحرمون بعض الأنعام؛ لأنهم حرموا ما أحل الله تعالى لهم.(5/2649)
وفى هذه يبين تحريم ما ذكر عليه غير اسم الله، كان يذبح على النصب، ويذبح باسم صنم من الأصنام أو شخص من الأشخاص تقديسا له، وتقربا عن طريقه، فإنه لَا يحل، كما قال في آية أخرى في المحرمات من الذبائح (. . . أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. . .).
وفى هذه الآية الكريمة أكد سبحانه أن الإهلال عند الذبح لغير الله تعالى فسق، فقال تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) وقد أكد سبحانه وتعالى أنه فسق بـ (إن) المؤكدة، و (اللام) المؤكدة، والجملة الاسمية.
وقد تكلم الفقهاء في هذا الموضوع موضحين موجهين الآيات الكريمة غير مخالفين لها.
ذلك أن أمرين نُصَّ عليهما:
أولهما - إباحة ما ذكر عليه اسم الله تعالى، وإن ذلك مباح بالاتفاق لأنه منصوص عليه، ولأن الله وبخ الذين لَا يأكلون ما ذكر عليه اسم الله، ولأنه يكون قد حرم ما أحل الله تعالى.
ثانيهما - أن الله تعالى نص على النهي عن أكل ما أهل به لغير الله، وأكد النهي بـ (إن) ذلك فسق أي خروج على الدين، ولكن بقيت حال لم ينص عليها نصا صريحا، وهي الحال التي يترك فيها اسم الله تعالى سهوا أو عمدا.
قال بعض العلماء: إنه في حال العمد يكون الأكل غير حلال، وقيل ولو كان سهوا، وحجتهم في ذلك، أن الله تعالى أباح ما ذكر عليه اسم الله تعالى، فكان بمفهوم المخالفة لَا يباح ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه، ولأنه نص على تحريم ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن المباح هو ما أنهمر دمه وذكر عليه اسم الله تعالى عند ذبحه، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن الصيد لَا يحل إلا إذا ذكر اسم الله تعالى عند إرسال السهم أو الكلب الصائد، فقد روي في الصحيحين " إذا أرسلت كلبك المعلَّم، وذُكر اسم الله عليه فكلوه " (1)، هذا نظر
________
(1) سبق تخريجه.(5/2650)
متفق مع النصوص المذكورة في هذه الآية، ويتفق مع الأحاديث الواردة في هذا الباب.
وقال آخرون من الفقهاء: إن المحرم هو ما ذبح بأنه لغير الله تعالى ويباح غيره لتلاقي الآيتين في المعنى، إذ إنه ذكر في تحريم المطعومات أن ما أهل لغير الله هو المحرم، فقد قال تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ... )، فمعنى (مِمَّا لَمْ يُذْكرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيه) أي ذكر غيره، والدليل على ذلك الآية الأخرى، وقوله تعالى: (وَإنَّهُ لَفِسْقٌ)، والضمير يعود إلى الأكل مما لم يذكر عليه اسم الله، أي الذبيحة، ولا يمكن أن يكون فسقا إلا إذا كان ثمة ذكر لغير الله تعالى.
وفوق ذلك فإنه من المقررات الشرعية أن ذبائح أهل الكتاب حلال أكلها، فقد قال تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ).
وهكذا نرى فريقا حرم ما لم يذكر عليه اسم الله سواء أتركه عمدا أو سهوا، وآخرون قالوا: يحل، سواء أتركه عمدا أو سهوا، وهناك قول وسط بين القولين المحل والمحرم، فقال: إن لم يذكر اسم الله سهوا، فإنها تحل، وإن تركه عمدا لَا تحل الذبيحة، وهذا الرأي أقرب إلى روح الإسلام؛ لأن من لم يذكر اسم الله سهوا، فإنه قد رفع الخطأ والنسيان، وما كان بإِكراه، وأما من تركه عمدا فقد أعرض عن ذكر الله، وذلك إثم لَا يبرره شيء.
ونحن نميل إلى هذا الرأي.
(وِإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ) الظاهر أن الشياطين هنا هم شياطين الإنس يوسوسون إلى أصدقائهم ليجادلوا المؤمنين في أمر ما أبيح من(5/2651)
الأطعمة وما لم يبح، فقد روى أن بعض المشركين كما روينا من قبل كان يقول للمؤمنين: ما ذبحه الله لَا تأكلونه، وما ذبحتموه تأكلونه، وإنهم يفعلون ذلك ليثيروا جدلا بين المؤمنين؛ ليشككوهم في أمر دينهم، والجدل في غير موضع الجدل إثارة للريب والشكوك وإثارة الريب تضعف الإيمان بالحق، وتفتح الأبواب للباطل، وإذا فتحت الأبواب للباطل في القلوب ضلت الأفهام وارتابت العقول والنفوس؛ ولذا قال تعالى:
(وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكونَ) أي إن سايرتموهم في جدلهم، وفتحتم لهم صدوركم، فإنهم يجرونكم إلى طاعتهم، وإن أطعتموهم إنكم لمشركون مثلهم، وهنا قسم مقدر في القول، وقوله تعالى: (إِنَّكمْ لَمُشْرِكونَ) هو جواب القسم بدليل وجود (اللام)، وبدليل أنه لم توجد (الفاء) إذ لو كانت جوابا للشرط لجاء بالفاء.
وهذا تأكيد لإشراك المؤمنين إن سايروهم في الجدل في أمور ليست موضع جدل، فالجدل - كما قلت - يولد الريب. اللهم اكف أمة محمد شر جدل أهلها، وامنحها الإيمان بما تقول، وما تدعو إليه.
* * *
الإيمان حياة والشرك ظلمات
(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا(5/2652)
وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
* * *
كانت الآيات السابقات في أحوال المشركين من إشراك بالله إلى سيطرة الأوهام عليهم، حتى حرموا على أنفسهم ما أحل الله تعالى، وفي هذه الآيات يبين سبحانه وتعالى أن الشرك موت نفسي كمن يموت موتا حسيا، وأن الهداية حياة بعد الموت، وأنها نور، وأن الشرك ظلمات متكاثفة بعضها فوق بعض تبتدئ بالأهواء، وهي ظلمة، ثم بالأوهام، وهي ظلمة، ثم تنتهي بالشرك وهو ظلمات.
شبه الله تعالى حال من يكون في جهل ثم يتجه إلى الهداية كحال من يكون ميتا فيحييه الله ويجعل له نورا يمشي به في الناس، ليهتدي به، ثم نفى أن يكون ذلك الحي المهدي بعد الجهل الذي هو الموت نفى أن يكون مثله كمثل من يعيش في ظلمات من الجهالة والضلالة لَا يمكن أن يخرج منها، وهذا معنى قوله تعالى:(5/2653)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
(أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا).
(الواو) عاطفة، هذه الجملة عطفت على ما قبلها من ذكر أوهام المشركين، وطلبهم آيات وتحريمهم ما أحل الله، وإحالة الإثم منهم ظاهرا وباطنا، وهذه الآية هي بيان للفرق بين المؤمن والمشرك، والاستفهام إنكاري لإنكار الواقع، فهو نفي للمشابهة، والمعنى لَا يستوي من يكون ميتا بالجهالة فأحييناه بالإسلام والهداية(5/2653)
والمعرفة وجعلنا له إدراكا ومعرفة يمشي بها في الناس هاديا لهم يرشدهم ويسترشد بهم، كمن مثله من نشأ في الظلمات لَا يخرج منها، بل يتردى فيها يتحرك في جنباتها، ولا يخرج، وعبر سبحانه عن عدم خروجه من الظلمات بقوله (لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا)، أي أنه ألِفَ الظلمات، وصار لَا يمكن أن يخرج منها، فعبر باسم الفاعل أي صار مثل المقيم في الظلمات، وأكد سبحانه وتعالى نفي الخروج بالباء وبالوصف، فهو مرتكس في الظلمات ليس بخارج منها.
فلا يستوي - بمقتضى هذا النفي - المؤمن والمشرك، كما لَا يستوي النور والظلمة، كما لَا يستوي المبصر والأعمى، وهذا كقوله تعالى في آية أخرى: (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23).
(كَذَلِكَ زُينَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) كهذه الحال التي صاروا بها في ظلمات ليسوا بخارجين منها، لأنهم استمرأوا الظلام وألفوه، واستطابوا الإقامة فيه لَا يخرجون - مثل هذه الحال زين للكافرين ما كانوا يعملونه من إنكار، وبقاء في الباطل، حتى حسبوا أن ما هم عليه، هو الحق الذي لَا يأتيه الباطل.
وقوله تعالى: (زُيِّنَ) بالبناء للمجهول للإشارة إلى أنه لم يكن لهم من عقل أو فكر أو هداية، إنما زين لهم باهوائهم وأوهامهم، فضلوا ضلالا بعيدا، و (ما) هنا موصول بمعنى الذي، و " كانوا " دالة على استمرار عملهم، وسيكون ما زينته لهم أوهامهم وبالا عليهم يوم القيامة.
* * *(5/2654)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123)
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا ... (123)
* * *
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعارَض، ويُمكَر به، ويُدبر له وللمؤمنين زعماء مكة وكبراؤها، وذوو البيوتات الكبيرة فيها، يؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وضعفاء المؤمنين، وكانوا هم الذين يدبرون ما يقال توهينا لأمر الدعوة، وإدحاضا لقول الحق،(5/2654)
ينسَون ما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمانة قربته منهم، وجعلته الثقة فيهم، ويقولون مرة كذاب، ويقولون أملاه عليه قوم آخرون، ويقولون ثالثة: إنه مسحور، وما كان يدبر ذلك القول إلا إذا كانوا بحكم وصفهم الجاهلي أشرافا وأكابر، فبين تعالى أن ذلك شأن أعداء النبوات، ويكون أكابرهم مجرميهم ويمكرون بالنبي ومن معه؛ ولذا قال تعالى:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا).
الأكابر جمع أكبر، وهو الذي بلغ أعلى العلو في قومه على حسب مقياس العلو عندهم، وكذلك، أي كالحال التي ترى من ذوي البيوتات في قومك جعلنا في كل قرية، أي مدينة عظيمة، أكابر مجرميها يمكرون ويدبرون وقوله تعالى: (أكَابِرَ مُجْرِمِيهَا) الظاهر منها أن " أكَابِرَ " مضافة إلى " مجرميها "، أي صيرنا في كل قرية مجرميها، (لِيَمْكُرُوا فِيهَا) أي يدبرون ما يقاومون به الأنبياء، ويعارضون، ويكون المؤدى الذين يعارضون الأنبياء في القرى أي المدن هم الذين يمكرون المكر السيئ فيها، وهذا كقول الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35).
وإن مقياس الكبر عندهم هو النسب وكثرة المال والقوة الظاهرة، وليست الأخلاق الفاضلة والعقيدة السليمة والشرف الذاتي الذي لَا يكتسب بالنسب، ولكن يكتسب بالخلال الكريمة الفاضلة.
ومعنى (لِيَمْكُرُوا فِيهَا)، أي ليدبروا الأمور العامة كما يحبون، أي يسيطرون على الفكر العام، فلا يكون الرأي العام عندهم فاضلا، وإنما يكون فاسدا أثيما.
(وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) أي إن عاقبة التدبير الفاسد الأثيم يعود عليهم بالوبال؛ لأنهم يريدون إعلاء الرذيلة بتدبيرهم وإنكار الحق بتفكيرهم،(5/2655)
وشيوع الشرك بتقليدهم لآبائهم، وإن ذلك يؤدي - لَا محالة - إلى الهلاك، ومصداق قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16).
وهكذا لَا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، وقد قال تعالى أيضا: (مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ من نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّة وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ).
مكر هؤلاء أن يحرضوا على معارضة الرسول، وأن يلقنوا الناس ما يردون به على دعوة الحق التي جاء بها النذير من قبَل الله تعالى، وأن يزيدوا معارضة الحق وأن يثبتوهم على الشرك.
(وَمَا يَمْكرُونَ إِلَّا بِأنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرونَ) لَا يحيق المكر السيئ إلا بأهله كما يكون؛ ولذا قال سبحانه: (وَمَا يَمْكُرونَ إِلَّا بِأَنفسِهِمْ)، أي أن مآل مكرهم عائد بالوبال عليهم، وقد أكد سبحانه أن مآل الوبال على أنفسهم، لَا على النذير الذي أنذرهم، أكد ذلك بالنفي ثم الإثبات وذلك فيه معنى القصر، أي أن المكر في عاقبته لَا يكون إلا عليهم، فهم في حقيقة الأمر يمكرون بأنفسهم، لَا بغيرهم.
وما يشعرون بتلك العاقبة؛ لأنهم سادرون في غيهم، لَا يرشدون ولا يفكرون، عميت عليهم أمورهم، فلا يشعرون بمغبة ما يفعلون، ولا بنتيجته، وإنهم إذ يقاومون أمر الله ونهيه اللذين حملهما نبيه المرسل - يقاومون مالك كل شيء والعليم بعواقب الأمور.
وكان مكرهم بأنفسهم؛ لأنهم يضللونها، ويزيدونها ضلالا، إذ إن كثرة التدبير للدفاع عن الضلال يزيد الضال ضلالا، والخاسر خسرانا، وإن عاقبة كل ذلك عليهم، إذ سينالون جزاء ذلك، وسيحملون أوزارهم، وأوزار الذين يضلونهم بمكرهم، وسوء تدبيرهم.
* * *(5/2656)
وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
(وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ... (124)
* * *
سمعوا القرآن الكريم، وهو يتلو عليهم قصص النبيين وآياتهم التي أجراها الله تعالى على(5/2656)
أيديهم من أخبار كسفيتة نوح وإغراق قومه، وأخبار موسى، وتسع آيات يينات جاءت على يده، وأخبار شعيب وصالح ولوط وهود، وما جرت من آيات حسية نزلت لهم ليؤمنوا، ونزلت بهم إذ كفروا، والمشركون متعنتون دائما ليسوا طلاب هداية، ولكنهم طلاب إعنات، وإرهاق ليبرروا جحودهم، ومظهر إعناتهم أن يطلبوا آيات وحسبوا أو أظهروا أن آية القرآن - وهو المعجزة الكبرى - لا تكفيهم (1)، وقد طلب منهم أن يأتوا بمثله فعجزوا وبدا عجزهم عيانا، ومع ذلك أخذوا يمارون، ويطلبون آيات، أو تأتيهم آية مثل ما أوتي الرسل أنفسهم. ومع أنهم لم يؤمنوا بالقرآن، ولم يعرفوا الرسلِ إِلا عن طريقه، طلبوا آيات كآيات الرسل الذين لم يؤمنوا بهم وقالوا (لَن نّؤْمِن حتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ).
قالوا مؤكدين النفي بـ (لن) بأنهم لَا يؤمنون، (حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)، أي حتى نؤتى من المعجزات مثل ما أوتي رسل الله.
أي أنهم إذا جاءتهم آية بينة تدل على رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا مؤكدين النفي، لن نؤمن حتى نؤتى الآيات التي أوتيها رسل الله تعالى، أي حتى ينزل علينا كما نزل عليهم، أو تكلمنا الملائكة كما كلموهم، وجاء ذلك على لسان بعض المشركين الذين يمكرون في أم القرى، وقد قال تعالى عنهم، إنهم يريدون أن يكونوا كالرسل لهم صحف منشرة (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52).
وروى أنه عندما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - قومه في مكة، وأبلغهم أنه رسول من رب العالمين، قال الوليد ين المغيرة: لوكانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك، لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا، وقال أبو جهل: والله لَا نرضى ولا نتبعه حتى يأتينا وحي كما يأتيه.
________
(1) راجع كتاب (المعجزة الكبرى) للمؤلف - طبعة دار الفكر العربي. وقد نصح الإمام رحمه الله تعالى في المقدمة بقراءته كتقدمة لهذا التفسير.(5/2657)
وهذا يدل على أنهم طلبوا أن يكونوا أنبياء مثل الأنبياء، ورسلا مثل الرسل قال هؤلاء المشركون إنهم لَا يؤمنون إلا إذ أنزل عليهم الذي ينزل على الرسل، فبين الله تعالى أن هذه رسالة يختار الله تعالى لها من يشاء بحكمته وعلمه الذي أحاط بكل شيء، فقال تعالت كلماته:
(اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) الله ذو الجلال والإكرام، والعلم والقدرة على كل شيء أعلم حيث يجعل رسالته، وأفعل التفضيل ليس على بابه، وكذلك كل أفعل تفضيل يوصف به الله تعالى؛ لأنه لَا توجد مفاضلة بينه وبين أحد من خلقه في أي وصف من الأوصاف، ومعنى أفعل التفضيل في العلم بالنسبة لله تعالى على هذا أن الله تعالى يعلم مواضع الرسالة علما ليس فوقه علم قط؛ لأنه علم الله العليم بما كان وما سيكون، وما هو كائن إلى يوم الدين.
وقوله تعالى (حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (حيث) ظرف مكان، أي الموضع من خلقه الذي يرتضيه ويصطفيه رسولا فهو الذي يربيه على عينه، ويشب على التقوى والعفة والأمانة، والخلق الكريم، حتى صح له أن يقول: " أدبني ربي فأحسن تأديبي " (1).
وإن ذلك لبين لهم لو كانوا لَا يجحدون بالحق إذا بدت لهم بيناته، وظهرت آياته، ولقد كان من أوسطهم نسبا، فكان في الذؤابة من قريش (2)، وكان أكرمهم خلقا وأطيبهم نفسا، وأعفهم وأشدهم أمانة، حتى كان يقال: الأمين، وسموه بهذا الاسم، فكانوا إذا أطلقوا كلمة (الأمين) لَا تنصرف إلا إليه عليه الصلاة والسلام، وكانوا يرضون حكمه، إذا جاء الأمر بالاحتكام فعندما اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود بعد أن بنوا الكعبة ارتضوا أن يكون الحكم أول من يدخل
________
(1) ذكره السيوطي في الجامع الصغير: ج 1، ص 21.
(2) الذؤابة: الشعر المضفور، واستعير هنا للدلالة على الصدارة، وأنه كان موضع الشرف والتباهي فيهم. صلى الله عليه وسلم.(5/2658)
البيت، فكان الأمين أول من دخل البيت، فقالوا مطمئنين راضين هذا الأمين، وطابت نفوسهم بحكمه.
فالله تعالى العليم الحكيم، قد وضع رسالته في خيرهم بإقرارهم فكيف يمارون من بعد ذلك، ويقول قائلهم كبرا وعلوا في الأرض: أنا أولى، ويقول آخر: نريد أن نؤتى مثل ما أوتي الرسل، قالوا ذلك استكبارا فكان عقابهم صغارا، وعذابا أليما، ولذا قال تعالى:
(سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ).
الصَّغار: هو الضيم والذل والهوان، فقد كانوا الأكابر الذين أجرموا، فكان العقاب الهوان، وكان عقاب الإجرام الذي ارتكبوه واستمرءوه وداوموا عليه العذاب الشديد.
وقوله تعالى: (سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) فيه (السين) لتأكيد الوقوع في المستقبل القريب، والتعبير بالموصول فيه فائدتان بيانيتان، أولاهما - أنها تفيد أن الصلة هي سبب هذا العذاب الشديد، والثانية - تسجيل الإجرام عليه، وأنهم كانوا فيما يمكرون مجرمين، ولم يكونوا أشرافا كراما، كما هو شأن الأكابر الذين يستعلون بانسابهم.
وقوله تعالى: (بِمَا كانُوا يَمْكُرُونَ) أي بسبب مكرهم السيئ، وهذا يفيد أن الكلام في موضوع الأكابر المجرمين الذين ذكروا في الآية السابقة؛ ولذا قالوا إن (الواو) في قوله تعالى: (وَإذَا جَاءَتْهُمْ آيَة) واو عاطفة على قوله تعالى: (وَكذَلِكَ جَعَلْنَا فِى كل قَرْيَة أَكابِر مُجْرِمِيهَا).
اللهم أبعدنا عن الإجرام وأسبابه، وعن الطغيان وبواعثه.
* * *(5/2659)
(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
* * *
بين الله تعالى في هذه الآية أن الناس صنفان صنف سلك طريق الهداية فهداه الله تعالى وشرح صدره للإسلام، فدخله مطمئنا نيِّرَ القلب، وقسم قد كتب الله تعالى عليه الشقوة، فضاق صدره ولم يدخل النور قلبه، وهذا بعض ما يشير إليه النص السامي.(5/2660)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
(فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صدْرَهُ لِلإِسلامِ).
هذا قسم المهديين الذين كتبهم في عباده المؤمنين، وإنه قد فهم القسمان فهمًا إجماليا من حال الجحود عند الوثنيين وتدبيرهم الأذى للمؤمنين، ففهم أن هناك فريقين فريق اهتدى وآمن، وفريق كفر وجحد وأنزل الأذى، وفي هذا يبين الله كيف يدخل الإيمان القلوب، وكيف يكون الصد عن سبيل الله، والفاء مترتبة على ما فُهم من أن الناس فريقان لبيان الحال النفسية، ولتفصيلها فمن يرد الله أن يهديه فالأمر أولا لهداية الله تعالى وإرادته، وإنه لَا بد أن يكون من حال النفس ما يجعلها تتجه إلى الهداية، فلا تكون معوجة بل تكون إرادة العبد مستقيمة خالصة نقية من الشوائب، ويكون الاتحاد، فتكون إرادة للهداية، ويريد سبحانه أن يهديه مع اختباره من غير إجباره، و (شرح) معناها يوسِّع؛ لأن معنى (شرح) في اللغة: التوسعة، والصدر القلب، وفي(5/2660)
العبارة مجاز، شبه اتساع القلب للحقائق بالشرع الحسي، وكل تعبيرات القرآن عن المعاني النفسية بالألف الدالة على المحسوسات، من قبيل المجاز، يستعان به على بيان الأمور المعنوية، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - من عبد الله بن مسعود قال: هل ينشرح الصدر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " نعم يدخل القلب نور "، فقال ابن مسعود: فهل لذلك من علامة؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزول الموت " (1).
وإن هذا يدل على أن شرح القلب، يكون بتوسعة المدارك وفهم قيمة هذه الحياة الفانية وإدراك أنها قنطرة للحياة الباقية، ومن غمَّ عليه ذلك فهو من الفريق الثاني الذي قال الله تعالى فيه:
(وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)، ليس الإضلال من غير عمل من جانب من أراد الله تعالى إضلاله، إنما يكون بعمل من جانبه قد كتبه الله تعالى عليه، بأن تهوى نفسه في طريق الضلالة بالميل إليها، والرغبة فيها، والحرص على طريق يدفعه إليه الغرور ونسيان الآخرة، وأن يعتقد أنه لَا حياة إلا الدنيا وما فيها.
وإنه إذا سار على هذا النحو أراد الله تعالى له الضلال، والكل بما كتبه الله تعالى عليه، وإنه إذا أراد الله ضلاله على هذا النحو الذي بيناه، جعل صدره ضيقا حرجا، أي أن قلبه لَا يتسع لغير ما ختم عليه، كما قال تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ). فالله تعالى يضيِّق صدره، وفي هذا أيضا مجاز، لأنه تشبيه للأمر المعنوي، وهو الإعراض عن الحق، وابتعاده عنه بالضيق الحسي، وإسناد الضيق إلى الصدر من ترشيح الاستعارة وتقويتها.
________
(1) مصنف ابن أبي شيبة (30104)، والحاكم قى المستدرك (7935)،) ج 4، 346.(5/2661)
وقوله تعالى: (حَرَجًا) قرئ بالفتح (1)، على أنه اسم جنس جمعي لحرجة، وهي الأشجار الملتفة التي لَا تسمح أن ترعى فيها راعية، والحرجة هي الشجرة التي تكون مختفية بين الأشجار لَا يصل إليها.
وقرى (حَرِجا) بكسر الراء (2) بمعنى الضيق، وهي تأكيد للضيق أي ضيقا شديدا لَا يمكن أن تدخله الهداية، وعلى تفسير الحرج بالفتح على اسم جنس جمعي للحرجة قيل إن الإمام عمر رضي الله عنه هو صاحب هذا التفسير.
فقد روى أنه سأل رجلا من الأعراب من أهل البادية عن الحرجة. فقال هي الشجرة تكون بين الأشجار لَا تصل إليها راعية، ولا وحشية ولا شيء، فقال عمر رضي الله عنه، وكذلك قلب المنافق لَا يصل إليه خير.
وعلى هذا التفسير، يكون في الكلام تشبيه، أو استعارة، وهو تشبيه قلب الكافر في أنه لَا ينتفع به، ولا يصل إليه بالحرج، وهو الشجر الملتف الذي لَا ترى الأرض من تحته، ولا تصل إليه راعية ولا وحشية ولا شيء، لأنه لَا ينتفع به في شيء.
(كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ).
هذا تشبيه آخر للكافر، (يَصَّعَّدُ) أصلها يتصعد، وقلب التاء صادا، وأدغمت الصاد في الصاد، وقرئ يَصَّاعد (3) وأصله تصاعد، وكان التصريف ما ذكرنا في يصعد، وهما بمعنى واحد، وتزيد تصاعد على تصعد؛ في أنها تدل على محاولة الصعود بعد الصعود، وذلك أثقل.
________
(1) (حَرَجًا) بالفتح، كلهم إلا نافع وأبو جعفر وأبو بكر. غاية الاختصار (866).
(2) (حَرجً) بكسر الراء، نافع وأبو جعفر وأبو بكر. السابق.
(3) (يصَّاعد) بتشديد الصاد وبالألف، قراءة أبو بكر والمفضل عن عاصم، وقرأها (يصْعد) بالتخفيف ابن كثير، وقرأ الباقون بالتشديد بغير ألف (يصَّعَد). غاية الاختصار.(5/2662)
والمعنى أنه شبهت حال الكافر في جهده، وثقل الإيمان عليه، بمخالفته الفطرة بذلك - بحال من يحمل عبئا ثقيلا، ويريد أن يصّاعد إلى السماء فينوء به حمله ولا يصل.
وإن ذلك يدل على أمرين: أولهما - أنه مهما يكن الجحود فإن الفطرة تقاومه، وتجعله عبئا ثقيلا، ومن يحارب الفطرة، فإنه يبوء بخسران مبين.
ثانيهما - أنها تشير إلى أن الضيق الشديد الذي جعله الله تعالى في قلب الكافر يجعله غير قادر على الرقى إلى الحقائق السماوية التي جاء بها الإسلام.
(كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ).
(كَذَلِكَ) الإشارة إلى حال المشركين التي أركسوا، والتشبيه هو تشبيه الرجس الذي ينزل بهم، و (الرِّجْسَ) أصل معناه الفتن أي الأمر القذر، الذي تستقذره النفوس وتعافه، وفيه بيان أن الكفر أمر قبيح تعافه العقول المستقيمة، وكيف تدرك العقول أن حجرا يصنع بأيديهم وهو لَا يضر ولا ينفع يعبدونه.
والمعنى لهذه الحال التي رأيناها في الكافرين، ووصف الله تعالى الكافرين بقوله: (الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) وذلك وصف لهم بأقل أوصافهم، وهو أنهم لا يؤمنون، النفي نفي للمضارع، وهو أنه يدل على الدوام المتجدد آنًا بعد آنٍ، أي يتكرر، بتكرار الآيات التي لَا تزيدهم إلا كفرا.
* * *(5/2663)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
(وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
* * *
بعد أن بين الله تعالى شرح صدر المؤمن لنور الحق، وضيق صدر الكافر، حتى لَا يدخل النور قلبه، بعد ذلك بيَّن الصراط المستقيم، والصراط هو الطريق والخط المستقيم.
والإشارة في قوله تعالى: (وَهَذَا صرَاطُ رَبِّكَ) إشارة إلى ما أوحي للنبي - صلى الله عليه وسلم - مما نزل عليه من الدين والقرآن، وقال سبحانه وتعالى: (مُسْتَقِيمًا) وهي حال من اسم الإشارة، وهو حكم من الله تعالى بأنه مستقيم، لَا عوج فيه، ولا(5/2663)
التواء، والخط المستقيم يصل إلى الحق بأقل طريق، وقال تعالى إن ذلك الحق واضح نيِّر مسلوك، ولذا قال تعالت كلماته: (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ) أي بينا الأدلة القائمة على صدقه، أو يراد من الآيات القرآنية أي بيناها ووضحناها لقوم يذكرون، من شأنهم التذكر والإدراك السليم، فلم يطمس على قلوبهم، ولم تضيق عن الحق صدورهم، والله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
* * *
الجزاء
(لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
* * *
بعد أن ذكر الله سبحانه حال الناس في الدنيا بين مهدي كتبت له الهداية، وبين شقي كتبت له الغواية، وبين من هداه الله إلى الصراط المستقيم صراط الله، أخذ يبين سبحانه جزاء كل من الفريقين، وابتدأ سبحانه بمن هداه الله تعالى إلى صراط العزيز الحميد، فقال تعالى:(5/2664)
لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
(لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِمْ).
الضمير في (لهم) يعود على من فصل لهم الآيات، فتذكرها، إذ يقول سبحانه: (قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) فقال سبحانه وتعالى: (لَهُمْ دَارُ السَّلام عِندَ رَبِّهِمْ) والسلام معناه الأمن، ودار السلام هي الجنة، وسميت دار السلام لأنها دار الأمن من الخوف، فلا يخافون أحدا، ولا يحزنون على شيء فاتهم فيها، وهي دار إقامة وفيها النعيم المقيم، وغيرهم في العذاب، وهم فيها يتمتعون بأمرين أولهما النعيم الدائم الذي لَا يخافون فيه انقطاعا.
ثاني الأمرين أنهم يكونون عند ربهم، فهم يلقون الله تعالى، وهو وحده نعيم نفسي لَا يعدله نعيم، وهو الذي رَبَّهم في الدنيا، ويربهم في الآخرة، فهم في رحمته في الدنيا، وقد قاموا بالشكر، وفي رحمته في الآخرة لاستحقاقهم الأجر، فالشكر منهم، والأجر من الله تعالى متقابلان، وهما البيع الرابح - وأكد الله تعالى الأمر الثاني وهو قربهم من الله تعالى فقال تعالى: (وَهُوَ وَلِيُّهم بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ).
(الولي) الموالى والنصير، والحبيب، والله سبحانه وتعالى هو ذلك كله بالنسبة للمؤمن الطائع الذي سلك طريق الله تعالى المستقيم، وتذكر الله تعالى في الدنيا، في سره وجهره، في ظاهره وباطنه، فهو وليه إذ أخرجه من الظلمات إلى النور وهو وليه إذ شرح قلبه للإسلام وهو وليه إذ وقاه الله تعالى ضر النفس بالانحراف والظلم، ثم هو وليه إذ لقيه في الآخرة ووقاه عذاب الجحيم.
وقد تكرم الله سبحانه وتعالى - وهو مجري النعم - بأن جعل نعيم الجنة جزاء، وهو المتفضل، وله المن والفضل، فقال تعالى: (بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي أنهم استحقوا دار السلام عند ربهم وولايته بالذي عملوا في الدنيا وداوموا عليه، وكان يتجدد عملهم بتجدد شعورهم بنعمة الله تعالى عليهم، ذلك الفضل من الله، والله يختص برحمته من يمثماء، وهو ذو الفضل العظيم.
* * *(5/2665)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ ... (128)
* * *
بين الله الجزاء الخاص بالمؤمنين أولا؛ لأن بيان جزاء الطاعة أعظم أهمية من جزاء العذاب؛ ولذا بينه سبحانه وتعالى أولا، لمكان التبشير، والله تعالى قدم التبشير على الإنذار رجاء الطاعة.
وقال تعالى: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) (الواو) تصل الكلام السابق بالكلام اللاحق، وإن (الواو) قد تكون عاطفة على ما فُهِم من الكلام السابق.
(ويوم) مفعول متعلق بفعل معناه اذكر لهم يوم يحشرهم الله جميعا، ويخاطبهم سبحانه بهذا الخطاب (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم)، والمراد - والله أعلم - قد شددتم في طلب الكثرة من الإنس لتضلوا، فالسين والتاء للطلب، وخبر الله تعالى بطلب استكثارهم يدل على أنهم نالوا هذه الكثرة، فأغووها، كما قال تعالى في كتابه العزيز؛ عن إبليس: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40). وقال تعالى: (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62).
والجن هنا هم إبليس وجنده من الشياطين كما تدل على ذلك الآيات الكريمة، وكما يدل على قسمه بأن يغويهم أجمعين إلا عباده منهم المخلصين، ولم يَرُدَّ الجن، أو لم يذكر الله تعالى جوابا لهم؛ لأن ماضي قولهم يدل على فعلهم، فلم يكن سبيل لأن يردوا، وقد توعدوا المؤمنين وجاهروا بعصيان ربهم، فلم يبق إلا أن ينالوا الجزاء راضين أو ساخطين (وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ) المغرورين، لأنهم لم يكونوا قد رأوا العذاب بما ذكر سبحانه وتعالى بقوله: (رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا).(5/2666)
قالوا غير مدركين عاقبة أقوالهم ظانين أنهم في لهو كلهو الدنيا، أو لعب كلعبها، أو قائلين بلسان الواقع الذي هم فيه، فهم قالوا بلسان الحال، لَا بلسان المقال، وقد نطقت أيديهم وجوارحهم بما كانوا يفعلون، (رَبَّنَا) شاعرين بمعاني الربوبية الكاملة التي لم يشعروا بها في الدنيا، (اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ)، أي انتفع بعضنا ببعض انتفاع متعة وبهجة، استمتعنا بإِغرائهم، فاجترفنا من اللذات والشهوات، والأحقاد، والعداوات، ووجدوا هم متعة في إغرائنا، وإغوائنا، وتلهينا، وتعابثنا، وكأنَّهم يجدون متعة في متعتنا، ولذة في لذاتنا، كانت هذه حالهم، ونريد أن نذكر إشارة بيانية في التعبير بقوله: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا) فإن التعبير بالحشر، يشير إلى أمرين أولهما - أنه يجمعهم غير مختارين ولا مريدين، وثانيهما - أنه يشير إلى كثرتهم، وأن الكثرة الكاثرة لم تمنعه تعالى من جمعهم وحسابهم، ومؤاخذتهم على ما فعلوا، ولقد قال تعالى في جزائهم: (قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ).
قال جل جلاله بلسان الفعل والمقال: (النَّارُ مَثْوَاكُمْ) أي محل إقامتكم الدائم الخالد الذي لَا ينتهي، فله ابتداء وليس له انتهاء، و (المثوى) اسم مكان من ثوى يثوى بمعنى أقام إقامة دائمة لَا يخرج منها مختارا، فالغالب فيها الإقامة الاختيارية، وقد عبر بها هنا تهكما عليهم، كأنهم اختاروا بأفعالهم؛ إذ قد اختاروا أسبابها، ومن اختار بابا فقد اختار الدخول فيه، وإن التعبير بـ (خالدين) يدل على البقاء الدائم بمشيئة الله تعالى الخالدة، وبإنذاره بذلك في عدة من آياته.
ولكنه قال سبحانه وتعالى مستثنيا: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) فهل هذا الاستثناء يدل على أن النار لها نهاية، تنتهي بمشيئة الله تعالى وأنه لَا خلود فيها؛ وكذا قال بعض العلماء ونسب هذا القول إلى ابن تيمية، وقرره ابن القيم في كتابه حادي الأرواح.(5/2667)
ونحن نرى أنه قول يناقض الآيات الكثيرة الواردة في خلود الجنة وخلود النار، وأن الحياة الآخرة ليست إلى فناء، وإنما هي دار البقاء، ولا دار بعدها ينتقل إليها الناس، والنبي - صلى الله عليه وسلم - في خطبته التي أنذر فيها عشيرته الأقربين، وصدع فيها بأمر ربه، قال: " إنها للجنة أبدا، أو النار أبدا، وإني لنذير لكم بين يدي عذاب شديد " (1)، وإن الله تعالى يقرر الخلود، ولا يترك أجسامهم تبلى من العذاب إذ يقول تعالت كلماته: (. . . كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا ليَذُوقُوا الْعَذَابَ. . .).
وقوله تعالى: (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) لَا يدل على أنه عذاب غير أبدي؛ لأنه صرح في النص بأنهم خالدون فيها، ولأنه صرح سبحانه وتعالى بكلمة أبدا في كثير من آياته، فيقول سبحانه: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدا. . .)، ولأن كلمة (إِلَّا مَا شَاءَ) تدل أن الأمر إلى مشيئته عذابا وغفرانا، وأنه شاء العذاب، وأنه: توعد بالتأبيد، وهو لَا يخلف الميعاد، وذكر المشيئة هنا للدلالة على أنه شاء ذلك، وأنه يمكن أن يشاء غير ذلك، ولقد قال الزمخشري إمام البيان في ذلك: " يخلدون فيها في عذاب النار الأبد كله إلا الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير، فقد روي أنهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون ويطلبون الرد إلى الجحيم، أو يكون من قول الموتور الذي ظفر بوتره، ولم يزل يحرق عليه أنيابه، وقد طلب أن ينفس من خناقه، أهلكني الله إن نفست عنك إلا إذا شئت، وقد علم الله أنه لَا يريد إلا التشفي منه بأقصى ما يقدر عليه من التعنيف، والتشديد فيكون قوله: إلا إذا شئت من أشد الوعيد، مع تهكمه بالموعد لخروجه في صورة الاستثناء الذي فيه إطماع ".
هذا تخريج حسن في الثاني لَا في الأول، لأن الأول يفيد أن ثمة عقابا بالبرد الشديد.
________
(1) سبق تخريجه.(5/2668)
والذي نرأه ما قلناه من قبل، وهو بيان أن العذاب بمشيئته سبحانه، وإنه إن شاء رفعه، ولكن لم يشأ فبقي الخلود على مدلوله.
ولا يقال إن مشيئة الله تعالى في عدم التخليد تتحقق في عصاة المسلمين، إذ عقابهم على سيئاتهم وما يفعلوا من خير فلن يكفروه، ويرد هذا أن الكلام في الكافرين بدليل وصف الخلود، إذ يقول سبحانه خالدين فيها.
ومن الغريب أن ابن القيم الذي ساق الأدلة غير الصحيحة في أن العذاب غير دائم، قال إن نعيم الجنة دائم، وأنه لَا مرية فيه، مع أنه جاء في سورة " هود " الآية الخاصة بنعيمِ الجنة والاستثناء بالمشيئة أيضا، فقد قال تعالى: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108).
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (إنَّ رَبَّكَ حَكِيم عَلِيم).
ختم هذه الآية الكريمة بذلك الكلام، وهو يؤيد مشيئة الله المطلقة التي دل عليها الاستثناء (إِلَّا مَا شاءَ) فإن مشيئة الله تعالى تسير على مقتضى ربوبيته التي ربت الإنسان وأتمت عليه بالنعمة، وحكمته التي تقدر الأمور والأشياء والأشخاص، وأنه ما خلى هذا الوجود عبثا، كما قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثَا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا ترْجَعُونَ)، وأن تدبيره للوجود بمقتضى علمه الذي أحاط بكل شيء، تعالى الله علوا كبيرا وتنزهت ذاته وعلت حكمته، وسع كك شيء علما.
* * *(5/2669)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
(وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
* * *
إن الولاء يُصْلح، وَيُفسد، فإذا كان الولي صالحا صلح به من والاه، وإذا كان فاسدًا أفسد من والاه، وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا) التشبيه فيه هو تشبيه حال الناس في تأثير بعضهم في بعض بالفساد، بحال تولي(5/2669)
شياطين الجن أو شياطين الإنس يغرونهم بالفساد، ويحسب أولئك أنهم يستمتعون، أو يستمتع بعضهم ببعض، وكلمة (نولي) ما المراد منها أهي الولاية بمعنى السلطان، ويكون المعنى، وكذلك نجعل بعض الظالمين ولاة على ظالمين مثلهم، فيفسد الأمر ويضطرب الحال، ويكون الفساد في الأرض، بدل الصلاح فيها، وهذا يفيد أن ظلم الولاة يكون بسبب ظلم الرعية فيما بينها، كما روى " كيفما تكونوا يولى عليكم " (1) وأن فساد الرعية يؤدي إلى ألا يحكمها إلا راع ظالم، فإنهم يتعاونون على الظلم والعدوان، ولا يتعاونون على البر والتقوى، وإن الوالي الظالم يجد العون على ظلمه من الرعية نفسها، وهذا منهي عنه بقوله): " من أعان ظالما سلط الله تعالى عليه ظالما " (2) وقد رأينا ذلك، وإنه إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منع ظلم الرعية، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لَتَأْمُرُن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذنَّ على يدي الظالم ولتأطُرُنَّه على الحق أطرا أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض ثم تدعون فلا يستجاب لكم " (3).
ووجه الشبه في الظلم بين الراعي والرعية بالتولي بين الجن والإنس، بإغراء الأولين وتلقى الآخرين وأن كليهما ظالم.
هذا إذا فسرنا التولية بمعنى السلطان، سلطان الظالم من الحكام على الرعية الظالمة الفاسدة، ويرشح لهذا المعنى قوله تحمالي: (بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ) أي بما كانت الرعية تكسب من ظلم في نفسها، وظلم في معاملاتها وفساد فيما بينهم يفسدون ولا يصلحون، فيجيء حكام على شاكلتهم فيتشاكلون فيما بينهم، يحكمون بمثل أخلاقهم.
________
(1) جاء في كشف الخفا: ج 2، ص 184 بلفظ: " كما تكونوا يولى عليكم، وقال في الأصل رواه الحاكم، ومن طريق الديلمي عن أبي بكرة مرفوعا، وأخرجه البيهقي بلفظ: " يؤمر عليكم!، وذكر أيضا أنه رواه الطبراني.
(2) رواه ابن عساكر في تاريخه عن ابن مسعود رضي الله عنه، رفعه، وفيه ابن زكريا العدوي. متهم بالوضع. كما في المقاصد. وراجع أيضا: كشف الخفاج 2، ص 315.
(3) رواه أبو داود: الملاحم - الأمر والنهي (4336)، كما رواه الترمذي أحمد وابن ماجه بنحوه.(5/2670)
وقد يكون معنى تولية الظالمين بعضهم بعضا، بمعنى الولاء النفسي، والتشاكل الخلقي، فكما أن الإغراء يكون من الجن للإنسان، فكذلك يكون الإغراء بالشر بوسوسة الولي لوليه، كالصديق للصديق، وإن الأولياء الظالمين يسري بينهم الظلم سريان المرض بين المرضى، فإن السلامة لَا تنتقل بالعدوى، ولكن العدوى تنتقل من المرضى، ومثل الظالمين كمثل المرضى يسرى الظلم فيهم، فيتظالمون، ويتبادلون الظلم، ويسري من بعضهم إلى بعض.
وعندي أن الآية الكريمة تحتمل التخريجين، ولا مانع من الجمع بينهما، والتشابه قائم في الحالين.
* * *
(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
* * *
بعد أن بين الله تعالى أنه سبحانه وتعالى يكشف يوم الحشر استغواء الجن لأوليائهم من الإنس، واستكثارهم من ذلك، وشعور الإنس بأنهم انتفعوا انتفاع متعة لَا انتفاع مصلحة، بعد ذلك بين تقصيرهم جميعا، وأنهم مخاطبون جميعا بهذا التقصير، وأنهم خوطبوا جميعا بالرسل، فما استجابوا للحق فقال تعالى:(5/2671)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)
(المعشر) الجماعة العامة، يا جماعة الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم. . . والخطاب للجن والإنس معا، وقدم الجن: لأنهم الذين كان منهم الاستغواء، والإنس استجابوا لاستغوائهم، فهم أساس الشر، إذ هم الذين وسوسوا بالشر، وهم الذين دعوا إليه وأغووا به؛ ولذا قدموا عند اللوم على إهمال دعوة الرسل، أولا، والإنس كان لومهم؛ لأنهم أطاعوهم، فالمُضِل منزلته في الضلال أقوى من منزلة من استجاب للتضليل اختيارا، وقوله تعالى: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ منكُمْ) فيه استفهام إنكاري لإنكار الوقوع، وفيه معنى التوبيخ والتأكيد، والمعنى قد أتتكم رسل منكم.
والرسل، أهُمْ من الإنس والجن، أم من الإنس فقط؛ والأكثرون على أنهم من الإنس فقط، أولا - لأن الله تعالى لم يذكر رسلا من الجن قط، ولو كان منهم رسل لذكرهم، وثانيا - لأن إرسال الرسل كان لما صنعه إبليس مع آدم إذ وسوس له أن يأكل من الشجرة، فكان الهبوط، وكانت الهداية بِالرسلِ لقوِله تعالى: (فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدى فَمَن تَبِعَ هُدَاي فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يحزنُونَ).
وثالثا - أنه جاء النص بأن الرسل ذوو الكتب المنزلة، وجاء على لسان الجن؛ أنهم خوطبوا بما جاءوا به، فقد قال تعالى عنهم: (إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32).
ورابعا - أن الله تعالى ذكر الأنبياء وكلهم من الإنس، فذكر أعدادا كبيرة، ثم قال تعالى: (ومِنْهُم مَّن قَصَصنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ).
ولم يذكر ولا بالإشارة أن في الجن رسلا أرسلهم.
لهذا رجح الأكثرون أو اختاروا أن الرسل ليسوا من الجن، ولكن قال بعض العلماء إنه كان من الجن رسل، أخذها من هذه الآية، وهي قوله تعالى:(5/2672)
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) فالتعبير يشير إلى أن من الجن رسلا؛ لأن الرسل من الفريقين، ولأن قوله تعالى (منكم) قريب من قوله تعالى: (لَقَدْ جَاءَكمْ رَسولٌ منْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِين رَءُوفٌ رحِيم).
وقد أجيب عن ذلك بأن هذا لَا يقتضي أن يكون من كل فريق رسول، بل إن الظاهر أن يكون الرسول من جماعة الجن والإنس معا، وبذلك يسوغ أن يكون من أحدهما دون الآخرين ما دام ينطبق عليه أنه من جماعة الإنس والجن فهما جماعة المكلفين، وضربوا لذلك مثلا قوله تعالى: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22).
فذكر سبحانه أنه يخرج من البحرين اللؤلؤ والمرجان مع أنه لا يخرج من الماء العذب اللؤلؤ والمرجان بل يخرجان فقط من الماء الملح، ولكن عبر عنهما بقوله تعالى (منهما) - لأنه ذكر البحرين، وهو يخرج منهما، وإن كان لا يخرج إلا من أحدهما.
وإن أولئك الرسل، يقصون آيات الله تعالى الدالة على الوحدانية، وأنه قادر على كل شيء؛ ولذا قال تعالى:
(يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا). (يقصون) من القصص، أو قص الأثر، والآية الكريمة تحتملهما، والمعنى على الأول، يذكرون لكم آياتي التي جاءت على أيدي الأنبياء السابقين، فكل رسول يتقدم بالآيات التي أجراها الله تعالى على يديه، ويذكر آيات من سبقوه من الرسل السابقين له، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - تقدم بالمعجزة الكبرى وهي القرآن، وكان معه آيات أخرى من خوارق العادات، وإن لم يُتحدَّ بها، وذكر الآيات التي جرت على يد عيسى - عليه السلام - من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله تعالى إلى آخر ما جاء في القرآن الكريم من آياته، وذكر في القرآن معجزات موسى - عليه السلام - من العصا، وفلق البحر، وانفجار الماء من الأحجار، وغير ذلك من المعجزات الباهرات الدالة على رسالة الله تعالى، وعلى قدرته القاهرة، وآياته الباهرة.(5/2673)
فالأنبياء قصوا آيات الأنبياء، قصوها في مجموعهم، لَا في آحادهم، وبذلك كانت الآيات بين يدي الجن والإنس معلومة ظاهرة بينة تدعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وتنذرهم بلقاء ربهم في ذلك اليوم فلم يتعظوا، ولم يعتبروا، وكان ذلك اللقاء الذي وراءه الحساب والعقاب.
هذا إذا خرَّجنا كلمة (يَقُصونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) على معنى القصص، وإذا خرجناها على معنى قَصِّ الأثر، أي تتبع الأثر واستدل، يكون المعنى في نظرنا أن الرسل عليهم السلام يتتبعون آيات الله في الكون، من سماء ذات أبراج، وأرض ذات جبال، وماء ينزل من السماء إلى الأرض فينبت كل شيء، ويكون منه كل شيء حي، ورياح تجري بإذن الله، وسحاب مسخر بين السماء والأرض، وغير ذلك من آيات الله، قَصَّ رسل الله تلك الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى أولا، وعلى قدرته القاهرة التي تقدر على الإعادة كما قدرت على الإنشاء، وكما قال تعالى: (كمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ). وإنه من بعد ذلك كان الإنذار باللقاء، والإنذار باللقاء ليس بذات اللقاء، ولكن بما وراءه من حساب وعقاب، ودخول جهنم والعياذ بالله من نارها وشرها.
هذا ما نراه في معنى القص، ونرى أن الآية تحتمل المعنيين، ولا مانع من الجمع بينهما بأن يكون المعنى ذكر قصص آيات النبيين التي جرت على أيديهم، وتتبع الأنبياء لآيات الله في الكون الدالة على وحدانيته وكمال قدرته، هذا ما يقوله الله تعالى للجن والإنس في ذلك المشهد الرهيب، فبماذا يجيبون؟ (قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا).
ومعنى (شهدنا) أقررنا، فإن الشهادة تكون بمعنى الإقرار، وبمعنى الإثبات، وبمعنى الحكم، وهي هنا بمعنى الإقرار المبني على المعاينة والرؤية، فهو إقرار مؤكد بالمعاينة والمشاهدة لَا بمجرد الإخبار عن أمر مغيب، وأكدوا الإقرار بأنه على أنفسهم، وهذا الإقرار موضوعه أن الرسل قد أتوا إليهم، وأشارت الآية إلى أنهم شهدوا على أنفسهم بمجيء الأنبياء ولم يؤمنوا بهم، ولم يصدقوهم، وأشار(5/2674)
سبحانه إلى السبب في عدم صدقهم، فقال تعالت كلماته: (وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)، أي غرهم ما فيها من متع، تسلط بها الجن على الإنس فضلوا وأضلوا، ولذا قال سبحانه بعد ذلك عنهم:
(وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ).
كانت الشهادة الأولى على أنفسهم بأنهم جاءتهم الرسل، ثم ذكر ما يشير بأنهم لم يؤمنوا بالرسل، إذ غرتهم الحياة الدنيا، فدلاهم بغرورها، (واستجابوا لغواية الأبالسة)؛ ولذا كان تكرار الشهادة والإقرار، وإذا كانت الشهادة الأولى إقرارًا بأن الرسل دعتهم إلى الحق، فالشهادة الثانية إقرار بأنهم دعوا إلى الحق وكفروا به، ولذلك قال تعالى: (وَشَهِدُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كَافِرِينَ) وهي إقرار على أنفسهم بالكفر، وهي شهادة تنطق بها ألسنتهم وجوارحهم وقلوبهم، كما قال تعالى في آية أخرى: (يوْمَ تَشهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ).
ولقد اعترض بأنه ذكر أنهم يكونون في حال فتنة، ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا: والله ربنا ما كنا مشركين، وقد أجيب عن ذلك بجوابين: أولهما - أنهم كانوا في اضطراب من هول الموقف، فمرة ينكرون، وذلك بسبب ما فتنوا به، وما أخذت به نفوسهم المضطربة الحائرة.
وثانيهما - أنهم في حال الإنكار كانوا في اضطراب، ولم يكن كشف لهم المكتوب عليهم، والمسجل عليهم في كتابهم فقد كتب عملهم في سجل، كمن يكون في حساب وتحقيق في القضاء فينكر ابتداء، فإذا عرض عليه فعله المسجل اضطر إلى الإقرار، لأنه يحس بأنه لَا مناص من أن يقر، والله أعلم بما يكون في يوم القيامة.
* * *(5/2675)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
(ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)
* * *
(ذلك) الإشارة إلى إرسال الرسل، وقصهم للبينات، وآيات الله، وذكر يوم القيامة، كل هذا ليكون نذيرا لأهل القرى حتى يهلكهم الله تعالى بظلمهم، وهم(5/2675)
غافلون والقرى المدائن الكبيرة، وقيل: إن الإشارة إلى شهادتهم على أنفسهم بمجيء الرسل، وشهادتهم على أنفسهم بأنهم كفروا بهم، فإذا كان قد ثبت ما ارتكبوا من جرائم وذنوب، ثبت بإقرارهم، فالحجة قد قامت عليهم، فلا ظلم ولا شبه ظلم.
وهنا إشارتان بيانيتان
إحداهما - أن الله تعالى ذكر هلاك القرى، والهلاك نازل على أهلها، ولكنه ذكر القرى، وحذف الأهل للإشارة إلى عمومه وشدته، وأنه لَا قبل لهم به.
الثانية - أنه نص على المحذوف في قوله، (وأهلها غافلون)، فكان المحذوف هنالك مذكورًا هنا، ونفَى الله تعالى الغفلة عنهم عند نزوِل الهلاك بهم إذ أنذروا بالرسل والآيات، كما قال تعالى: (وَمَا كنَّا مُعذِّبِينَ حتَى نَبْعَثَ رَسُولًا)، وكما قال تعالى: (وِإن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، وقال تعالى عن أخبار جهنم: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9).
وقد نفَى الله تعالى أن يهلك القرى قبل الإنذار؛ بقوله تعالى: (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى) نفي - سبحانه وتعالى - عنه وصف الإهلاك باسم الفاعل من غير إنذار تأكيدًا للنفي، ومنعا للظلم.
وقوله تعالى (ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ) (أنْ) مخففة من الثقيلة، وهنا ضمير محذوف هو ضمير الشأن، والمعنى أنه ليس من شأن ربك أن يكون مهلكا للقرى.
والظلم المنفي، أهو نفي الظلم عن الله، أي أن الله تعالى لَا يهلك القرى وأهلها غافلون ظالما لهم بعدم الإنذار، كقوله تعالى: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ للْعَبِيدِ)، وكقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا)، أي أن الله سبحانه وتعالى مهلك قرى المشركين، ولكي يكون الهلاك عدلا لَا ظلما كان الإنذار.(5/2676)
وهناك تخريج آخر ذكره ابن جرير، وهو الظلم منهم، والمعنى أنه ما كان ربك مهلك القرى بظلمهم وإشراكهم، وهم لم ينبهوا بمنع ذلك الظلم.
وقوله (وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ) حال من القرى، والمعنى ما كان الله ليهلكهم حتى ينذروا، ويبين لهم الحق، حتى يهتدوا عن بينة أو يضلوا عن بينة، والله الهادي إلى سواء السبيل.
* * *(5/2677)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
(وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ... (132)
* * *
ولكل من المكلفين درجات في القيام بما كلفوه من أعمال، فمنهم من يحسن، ويبلغ أقصى درجات التقوى فيكون له في الجنة على مقدار ما فعل، ومنهم من يفعل دون ذلك فيغفر الله تعالى ما شاء أن يغفر، ورحمته سبحانه وتعالى قد سبقت غضبه وعذابه، فيعطى بمقدار ما عمل، وكذلك العصاة درجات، فمن أطاع الكبراء له عذاب يناسب طاعتهم، أي أن الطاعة لها مراتب، والعصيان له دركات، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، كما قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19).
ويكون المعنى على الدرجات في الخير والشر، وأهل الخير درجات، وأهل الشر دركات متفاوتة، على مقدار شرهم وإن كانوا جميعا منغمرين فيه، كما قال تعالى: (الَّذينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كانُوا يُفْسِدُونَ).
وقد ذكر بعض المفسرين أن هذه الدرجات في العذاب فقط، لأن الآيات في تهديد الكافرين وإنذارهم لَا في جزاء المؤمنين ودرجاتهم.
وعندي أن الآية فيها تبشيو للمؤمنين، وأنهم درجات، وإنذار للكافرين وإنهم في دركات جهنم طبقات، والآية الكريمة تفيد أن الدرجات مما عملوا أي(5/2677)
مأخوذة من أعمالهم، فإن كانت خيرا فخير، وإن كانت شرا فشر، فهي مشتقة منها، ومن جنسها.
(وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ).
إن هذه الأعمال يعلمها الله تعالى لَا يخفى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء، فهو جزاء لما يعملون، جزاء من يعلم كل شيء، ولا يخفى عليه شيء، ولذا قال تعالت كلماته: (وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) عبر سبحانه وتعالى بنفي الغفلة عنه - سبحانه وتعالى - نفيا مؤكدًا، بمؤكدات ثلاثة أولها - التعبير بالجملة الاسمية، وثانيها - دخول (الباء) التي تدل على استغراق النفي. ثالثها - التعبير بـ (ربك)؛ لأن الرب هو الذي رَبَّ النفوس والأخلاق فهو أعلم الوجود بها، وأخبرهم بأحوالها، فجزاؤه جزاء من يضع العقاب في موضعه، والثواب في مكانه.
* * *
(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
* * *
إن الله سبحانه وتعالى أشار إلى أن الكافرين يجحدون، وقد قامت الآيات عليهم تدعوهم إلى الوحدانية، وأنه لَا يعبد إلا الله، وثبت أنهم يعاندون، ويردون الآيات، ويكذبون رسل الله سبحانه وتعالى، وقد أوتوا بالبينات من(5/2678)
ربهم، وما من نبي إلا أوتي ما مثله آمن عليه البشر. وفي هذه الآية الكريمة يبين سبحانه وتعالى أن الله غنى عن العباد، فلا يستفيد من عبادتهم إن عبدوه مخلصين، ولا ضير عليه من كفرهم، إن كفروا، ولكن الله تعالى برحمته بهم، يريد لهم الحق، ولا يرضي لعباده الكفر، ولذا قال تعالى:(5/2679)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133)
(وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ).
(الواو) عاطفة عطفت هذه الجملة على ما قبلها، وصدرها بقوله تعالت كلماته: (وَرَبُّكَ) أي خالقك، ومربيك وقد تولاك بربوبيته كما تولى الوجود كله بربوبيته، وهذا ترشيح لمعنى أن الغنى من لَا يحتاج فيكون في غناء عن غيره، ومن هو قائم على الوجود لَا يحتاج لأحد في الوجود، وقد ذكر سبحانه أنه الغني وحده، فكل من في الوجود يحتاج لغيره والله تعالى لَا يحتاج إلى أحد، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد عرَّف الله سبحانه وتعالى الطرفين في قوله تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ) وتعريف الطرفين يدل على القصر أي لَا غني في الوجود سواه، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15).
ووصف الله سبحانه وتعالى بعد تأكيد أنه الغني وحده، وأن كل من في الوجود فقراء إليه - بأنه ذو الرحمة أي أنه صاحب الرحمة وحده، و (ذو) بمعنى صاحب، فهو الرحيم رحمة مطلقة بعباده، ورحمة غيره رحمة نسبية، تليق بالمخلوقات، أما الله تعالى فرحمته واسعة، وسعت كل شيء، خلق الكون والناس برحمته، وخلق العقلاء وكفلهم برحمته، وأنزل من السحاب ماء مدرارا برحمته، وخلق من الماء كل شيء حي برحمته، وجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا برحمته، وخلق الموت والحياة برحمته، وخلق البعث والنشور برحمته، وأنشأ السمع والأبصار والأفئدة برحمته.
فإذا كان هو الغني وحده، فهو الرحمن الرحيم، والقادر على كل شيء؛ ولذا قال تأكيدا لقدرته وفقر العباد إليه.(5/2679)
(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ).
إن الذين يعاندون الله تعالى، ويحادون رسوله ومن اتبعه من المؤمنين، ويحادون الله بمحادة عباده المؤمنين. الله لَا يحاده شيء في الوجود، فإنه (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) لَا تكونون في الوجود، وذلك بإماتتكم أو إفنائكم (وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ) من الخلق، ومعنى (يستخلف) يكون خلفا لكم في الأرض ما يشاء من عباده، وجاء الكلام للدلالة على العموم، والمعنى أنكم وجدتم بمشيئة الله، ويذهبكم بمشيئته، وبجعل خلفا لكم من يشاء فأنتم في حياتكم ومماتكم، وحياة من بعدكم ومماته بمشيئته سبحانه، وهذا كما قال تعالى: (وَإِن تَتَولَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ). وكما قال تعالى: (إِن يَشَأ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأتِ بِآخَرِينَ. . .)، وقد أقام سبحانه الدليل على الإذهاب والاستخلاف بحالهم هم، فقال تعالى: (كمَا أَنشَاكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ).
أي أنتم لستم أول المخلوقين ولا آخرهم، فقد كنتم ذرية لمن سبقوكم، وهم قوم آخرون، وستكون من بعدكم ذرية، وقوله تعالى: (كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) تشبيه لحال الذين يخلفونهم بحالهم، فهو قياس حالهم على حال من يجيئون بعدهم، فإذا كنتم قد نشأتم من ذرية من سبقوكم، فمن يخلفونكم ينشئون من ذريتكم. والخلاصة: الله غني عنكم، وهو يرحمكم، والوجود يتوالد بعضه من بعض بقدرة الله تعالى والأجيال متعاقبة فإن كنتم جيلا كافرا، سيجيء من بعدكم جيل مؤمن، والله على كل شيء قدير.
* * *(5/2680)
إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
(إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
* * *
إن أشد إنكارهم كان في البعث، وكان هو العجب الغريب عليهم، فقد كانوا يعتقدون أن الله خالق كل شيء، وأنه ليس كمثله شيء، ولكن يعبدون ما يعبدون من الأوثان ليقربوهم إلى الله زلفى في زعمهم وما كانوا يؤمنون(5/2680)
بالبعث، ولا في الجزاء بعده، (وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَولهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ).
وإن البعث يكون بعده الحشر والحساب، ثم العقاب أو الثواب، وقد ذكرهم الله تعالى بالبعث، بذكر ما يكون فيه مما وعد الله تعالى به، وأوعد، وقد ذكر آخر ما يكون فيه وهو العقاب على كفرهم، والثواب لغيرهم، فقال تعالى: (إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ) (ما) هنا اسم موصول بمعنى الذي، وقد حذف الضمير من الصلة، والمعنى إن الذي توعدونه لآت، فأكد سبحانه وتعالى إثبات ذلك الذي أوعدوا به بـ (إنَّ)، وبالجملة الاسمية، وباللام، في قوله تعالت كلماته (لآتٍ) وكان الكلام بالبناء للمجهول، لمزيد التهديد بإبهام الوعيد، وعدم ذكره، ليذهب فيه العقل كل مذهب، وبعدم ذكر من أوْعد وهو معلوم، ليزدادوا خوفا، فيضعفوا عن المقاومة، ويؤمن من كتب الله تعالى الإيمان له، ويستمر في غيه من كتب الله العقاب له.
وإن الله تعالى قادر على كل شيء فهو قادر على إعادتهم، كما هو قادر على إنزال العقاب بهم؛ ولذا قال تعالى: (وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ) نفَى الله تعالى قدرتهم على إعجاز الله تعالى عن الإعادة، فإنه قادر عليها كما قال تعالى: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ)، وكما قال تعالى: (قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51).
ونفَى سبحانه وتعالى قدرتهم على الامتناع عن عقابه، فهو مالك يوم الدين، وهو المسيطر وحده (. . . لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَارِ).
وهنا في قوله تعالى: (وَمَا أَنتم بِمُعْجِزِينَ) إشارات بيانية:(5/2681)
أولاها - في النفي المؤكد، فقد أكده بذكرهم وخطابهم، وبذكر الضمير (أنتم)، وباستغراق النفي بذكر (الباء)، وبأن النفي منصب عليهم، أي ليس من شأنهم أن يعجزوا لأنهم ضعفاء، والضعيف لَا يعجز أحدا، كما قال تعالى: (. . . وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
الإشارة الثانية - أنه لم يذكر في النفي من يعجزونه، فلم يذكر الله تعالى إعلاء لاسمه الكريم عن أن يكون مظنة عجز أو أن يعجزه أحد، إذ إعجازه مستحيل، ونفي أمر هو مستحيل في ذاته غير سائغ، في سنة البيان.
الثالثة - نفي عموم الإعجاز من أي نوع هو، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى، وما أنتم بمعجزين " (1).
وإنهم يستمرون في طريقتهم من معاندة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وجحودهم وإيذائهم له عليه الصلاة والسلام ولأصحابه الذين اتبعوه مخلصين مسلمين وجوههم لله تعالى، وقد هددهم سبحانه وتعالى بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم أمر تهديد لقوله:
* * *
________
(1) رواه ابن أبي حاتم، وخرجه الحافظ العراقي: الإحياء: ج 4، ص 437.(5/2682)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
(قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ... (135)
* * *
وقد أمر الله تعالى نبيه الأمين أن يتولى هو القول التهديدي، وهو اعملوا على مكانتكم، والمكانة: الطريقة، أو الأمر الذي مكنوا منه، والأمر هنا للتهديد بالإشارة إلى عاقبة ما يفعلون، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا لم تستح فاصنع ما شئت " (2)، فالأمر (اصنع) للتهديد بأن يفعل متحملا تبعة ما يفعل ونتيجته، فإن كنتم تزعمون أنكم على حق فاعملوا وسترون العاقبة، وإني عامل على ما أدعو إليه، وهو الحق الذي لَا ريب فيه، ولكل وجهة هو موليها، فكونوا كما تريدون لأنفسكم.
________
(2) سبق تخريجه.(5/2682)
وإنه في هذا المقام المهدد المنذر الذي يحملهم الله سوء ما يعملون - يأمر نبيه بأن يناديهم نداء يقربهم ولا يبعدهم ويدنيهم ولا يجافيهم، فقال تعالى: قُلْ يَا قَوْمِ) فأمره تعالى بأن يناديهم بما يربطه بهم، وهو أنهم قومه الذين تربطهم رابطة النسب، فيحب خيرهم، وإنهم إن كذب الناس جميعا لَا يكذبهم، فهو يناديهم بنداء المحب الذي لَا يعادى ولكن يذكرهم بالحقائق التي لَا تقبل مداجاة (1)، ولا مواربة، وكأنَّه إذ يحملهم تبعة ما يعملون لَا يبعد عنهم بل يدنيهم، ليهديهم، فالهادي لَا بد أن يكون قريبا من أنفس من يتصدى لهدايتهم، ولقد ذكر من بعد ما يشير إلى العاقبة، وأنهم سيعلمونها علم البيان، فقال: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ).
(الفاء) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، و (سوف) هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل، أي سوف يعلمون بالعيان لَا بالخبر من له عاقبة الدار، و (العاقبة) النهاية التي تعقب ما يسبقها من أسباب تؤدى إليها، و (عاقبة الدار) المراد بها نهاية هذه الدار، وعاقبتها تكون لمن، والدار هنا قد تراد بها مكة وما حولها مما يسيطرون عليه، أو البلاد العربية، أو الدار الدنيوية على العموم.
أي سوف تعلمون من تكون له في النهاية، وفي عاقبة الأعمال الدار والسلطان، فالمراد من تكون له العاقبة في الدار والسلطان، وينصره الله تعالى حيث يكون لأهل الحق السلطان.
ويصح أن يراد الآخرة، وعندي أنه يراد الداران، أما الدار الآخرة، فأمرها إلى الله تعالى، وقد أشار سبحانه وتعالى أن النعيم المقيم يكون للمؤمنين، والجحيم يكون للكافرين.
وأما في الدنيا - وهذه الآيات قد نزلت بمكة - فإنه قد آل أمر البلاد العربية من اليمن إلى حدود الشام إلى المؤمنين في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصارت الكلمة للمؤمنين، وحقت كلمة الله تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُنْيَا
________
(1) المداجا ة: المداراة. الصحاح (دجى).(5/2683)
وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52).
وقال تعالى: (كَتَبَ اللًّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِى إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عزِيزٌ).
هذه عاقبة الدار في الدنيا والآخرة، ولقد ختم الله تعالى الآيات بقوله: (إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ).
الضمير ضمير الشأن، أي إن الله والشأن وسنة الله تعالى في خلقه لَا يفلح الظالمون، أي لَا يفوز الظالمون، والتعبير بالوصف يشير إلى أن الظلم هو سبب الخسران، وإنه وإن بدا الظلم قويًّا غالبًا فائزًا فإلى حين، والعاقبة للعادلين المنصفين المقيمين للحق، وللظلم صور شتى: ظلم في العقيدة، وظلم في العمل، وظلم في الحكم وظلم في المعاملة بين الناس، فإن الظالم لَا يفوز في نهايته، وإن فاز في بعض الأمور العرضية، والله هو الحكم العدل.
* * *
تحريم ما أحل الله
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)(5/2684)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
* * *
إن فساد الاعتقاد يؤدي إلى فساد الأعمال، فحيث فسدت العقيدة، اتجهت النفس تحت تأثير الأوهام إلى مفاسد كثيرة، فالأوهام التي تفسد الاعتقاد تفسد أيضا الحياة، فتحت تأثير أوهام الوثنية أفسدوا حياتهم، فحرموا على أنفسهم بعض ما أحل الله، وقتلوا أولادهم حاسبين أن ذلك يرضي أوثانهم، ونذروا للأوثان بعض الزرع والنعم ولله نصيب، فكما سووا بينها وبين الله في العبادة، أو زادوهم، فكذلك سووا بينه وبينها في النذر وتحيفوا في تنفيذها لله ولم يتحيفوا على الأوثان، ولذا قال تعالى:(5/2685)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
(وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا).(5/2685)
(الواو) تصل هذا الكلام بما سبقه من جحودهم وكفرهم وعنادهم بباب آخر من مفاسدهم مترتب على فساد عقيدتهم، وخضوعهم لحكم الأوهام فخضعوا بحكم الأوهام في الأصنام أيضا، أن جعلوا بهواهم ومن غير دليل من الشرع أو النقل عندهم - جعلوا من الحرث والأنعام وهي الإبل والبقر والغنم، جعلوا نصيبا لله ينففونها في الضيافات، واعانة الفقراء، وجعلوا شيئا آخر أو نصيبا آخر لآلهتهم ينفق لسدنتها وخدمتها، مع أن الجميع ملك لله تعالى، فقالوا: هذا لله، وهذا لشركائنا، أي لآلهتهم، وعبر تعالى عنهم بـ (شركائنا)، أي من جعلناهم شركاء لله تعالى باعتقادنا أو ظننا أو نسبناهم شركاء لله تعالى.
وهنا إشارات بيانية ننبه إليها:
أولاها - أن التعبير بـ (ذرأ) أي خلق متولدا من الحب، وانفلاق النوى، فالله سبحانه وتعالى هو الذي ذرأ النبات، وذرأ الثمار، وعبر عنه تعالى بالحرث، وهو نبت الأرض لإنتاج الزرع وهو سبب عادي لإخراج الزرع من الأرض، فأطلق السبب وأريد المسبب، فأطلق الحرث على كل ما أخرجت الأرض من زروع وثمار.
الثانية - التعبير بقولهم (نصيبا) وهو قدر ذكروه مجهولا، ولم يعرفوه ليتصرفوا فيه بما يشاءون، وهو المالك لكل شيء، فالأصل أن يكون كله لله تعالى، ويعطى بحكم الله لَا بحكم الهوى كل ذي حق حقه، فهو مقسم الأرزاق وهو الخالق لكل شيء، ولكنهم يذكرون نصيبا، ويعينونه بأنفسهم، وعلى حسب ما تهوى.
الثالثة - قولهم (هذا لله بزعمهم) التعبير (بزعمهم) في هذا، والزعم معناه الكذب. أو الظن الذي لَا دليل عليه يفيد أمرين:
أولهما - أن ذلك التقسيم فاسد في ذاته لأنهم لَا يملكون تقسيم الأرزاق، بل الذي يملكها؛ لأنه هو بارئها، وهو الله تعالى، ولكنهم يتهجمون على الله، فيقسمون بأهوائهم وأوهامهم، ومع ذلك يغيرون ولا ينفقون بأمر الله في أوجه البر فيعتدون.(5/2686)
ثانيهما - أن الله تعالى عبر عن أصنامهم بـ (شركائنا) لأنهم لَا يقبلون أن يقولوا لأوثاننا أو أصنامنا، والله تعالى والحق لَا يقبل أن يقال عنهم آلهة، فعبر الله تعالى عنهم بقوله: (وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) أي للشركاء الذين قلنا إنهم شركاء لله تعالى، وإضافة الشركاء إليهم، لأدنى ملابسة، ولأنهم ابتدعوها، وما أنزل الله بها من سلطان ولكنهم لَا ينفذون ما قرروا فلا يعطون لله ما قرروه، بل يطففون، ولكنهم كما قال الله تعالى: (فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ اٍلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكائِهِمْ).
إنها قسمة ضيزى، فينقصون مما هو لله في زعمهم، ويزيدون ما هو لشركائهم، فما يكون لشركائهم يخصصون لها شيئًا غير منقوص، وما يكون لله لا يخصصونه له كاملًا، ويقولون الله غني، وهؤلاء فقراء محتاجون، والله لا يحتاج لشيء، فإذا كان ما خصص للأوثان لَا يكفي سدنتها وخدمتها، وما ينفق حولها لَا يكفيها أخذوا من نصيب الله ليسدوا كل حاجاتها في نظرهم، وكله إنفاق في باطل، لَا خير فيه.
وقد روي أنهم كانوا في الحرث، عندما يخرصون ما ينتج، كل زيادة عما خرصوه يكون للأوثان، ولا يكون لله، وإذا كان الماء الذي يسقى به نصب أوثانهم قد ذهب إلى حرث الله عدوه حرثا للأوثان، وإذا كان الماء المخصَّص لحرث الله ذهب إلى حرث أوثانهم جعلوا الخارج لأوثانهم، ولوكان قد سقى بماء الله تعالى، وهذا قد روي عن ابن عباس فقد روي عنه رضي الله عنه أنه قال في تفسير هذه الآية: إن أعداء الله تعالى كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منها جزءا، وللوثن جزءا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه، وأحصوه وإن سقط شيء مما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن، فسقى شيئا مما جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن وإن سقط شيء من الحرث والثمرة التي جعلوها لله فاختلط(5/2687)
بالذي جعلوه للوثن - قالوا هذا فقير، ولم يردوه إلى ما جعلوه لله، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن - تركوه للوثن.
تلك إذن قسمة باطلة في مآلها، وفي أصلها، ولعل الذي جعلهم يفرطون في حق الله تعالى، أنهم ماديون، يؤمنون بالمادة وحدها، فظنهم في الوثن ما ظنوا، وهم يرونه ويلمسونه أنساهم الله تعالى فنسوا أنفسهم، فكل شيء يذهب من نصيب الوثن إلى نصيب الله يردونه حرصا عليه، وكل ما يجيء إلى نصيب صنمهم من نصيب الله يحسبون أن الوثن أراده، لمجسقطونه، فضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى:
(سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).
(ساء) في معنى التعجب، أي ما أسوأ ما يحكمون به، أي أنه أبلغ الأحكام إساءة، فهو حكم سىء في ذاته، وعندي أن الحكم السيئ أشد من الحكم الظالم؛ لأن الحكم الظالم قد يكون في تطبيفه ظالم، أما الحكم السيئ فإنه في أصله فاسد، وفي تطبيقه ظالم وفاسد.
* * *(5/2688)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
(وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ... (137)
* * *
إن الوثنيين تحكمهم أوهام باطلة يتوهمونها، وتسيطر عليهم أهواء ينسبونها إلى أوثانهم الذي سماهم الله شركاءهم، أي الشركاء التي زعموها شريكة لله تعالى في عبادته سبحانه.
وكما موهوا عليهم فأرادوا تحت سلطان الوهم أن يجعلوا من الحرث والنسل نصيبا لله، ونصيبا لشركائهم كذلك زيَّن لهم شركاؤهم أي أوثانهم في أوهامهم قتل أولادهم.
(زينوا) أي حسنوا وجعلوه كأنهم زينة لهم، يتباهون بها، (شُرَكَاؤُهُمْ)، ونقول في معنى الشركاء: أهم الأوثان أم شياطين الجن الذين تغلغلوا في(5/2688)
نفوسهم، وشاركوهم في إرادتهم؛ إن قلنا إنهم شياطن الجن الذين وسوسوا لهم، وزينوا لهم قتل أولادهم. كما زينوا لهم أن يجعلوا لله نصيبا مما ذرأ من الحرث والأنعام، فالآيات تسير من غير تأويل لظاهرها.
وإن قلنا: إن الشركاء هي الأوثان التي جعلوها شركاء لله تعالى في عبادته فإنها أحجار فكيف تحسن أو تزين، وهي لَا تعقل، ولا تتكلم، ولا تضر ولا تنفع، ونقول إن أوهامهم نحوها من أنها تضر وتنفع وأنهم يريدون إرضاءها، وقد توهموا أنها تطالبهم بذلك، فإن هذا يكون هو التزيين، فوهمهم نحوها هو الذي زين لهم قتل أولادهم، وقدم (قتْل) وهو المفعول على الفاعل وهم (شركاؤهم) لأنه أبلغ في التشنيع، والقتل هو الأمر الذي لَا يبرر.
وقال تعالى: (لِكثِيرٍ منَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ) فعبر سبحانه بقوله: (لِكَثِيرٍ منَ الْمُشْرِكِينَ) فلم ينسب إلى كلهم، بل نسب سبحانه إلى كثير منهم، وذلك إنصاف القرآن الكريم في حكاية أفعال العباد، وقتل الأولاد كان عند كثيرين منهم، وقد نص القرآن الكريم من شناعتهم في ذلك في الكثير من آياته، ومنها قوله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59).
وقال تعالى: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9).
وكان بعضهم إذا وصل أبناؤه عددا من الأبناء نذر قتل أحدهم، كما يروى عن عبد المطلب أنه نذر إذا وصل عدد أبنائه إلى عشرة قتل واحدا منهم، فكانت القرعة على عبد الله أبي النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وكان منهم من يقتل أوِلاده من إملاق أو خشيته، كما قال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)، وقال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ).(5/2689)
فالذين يدعون إلى منع النسل الآن خشية الإنفاق أو للإملاق يدعون بدعوة الجاهلية لعنهم الله وأخزاهم.
وقد ذكر الله تعالى ما توسوس به الأنفس، - والأوهام المسيطرة، ونهاية ما تؤدى إليه فقال سبحانه:
(لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ).
(اللام) للتعليل أو ما يسمونها لام كي، وهي مع كونها تعليلا هي بيان نتيجة قتل أولادهم، ذلك أن النتيجة أن يوقعوهم في الردى هو الهلاك، فمآل قتل الأولاد سواء أكان بالوأد، أم كان بالقتل خشية الفقر، أو للفقر، وقد يكون ذلك بالعمل على منع النسل، بالعزل أو نحوه، مما سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - " الوأد الخفي " (1) فإن ذلك يؤدي إلى منع نسل الأمة، ومنع نسل الأمة هلاك لها، وفناء تدريجي لقوتها، فالولد قوة، والعرب يعتزون بكثرة النفر.
وقال تعالى: (وَليَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ) أي ليخلطوا دين إسماعيل الذي كان الحنفية كدين أبيه إبراهيم، بأوهام كاذبة، وبذلك يفسدونه، وقد أفسدوه بالشرك، وأفسدوه أيضا أن أدخلوا فيه ما ليس من الدين ولا بأمر من الله ونهيه، كما فعلوا في جعل نصيب الله تعالى مما ذرأ من الحرث والأنعام، ومن قتل الأولاد، فإن هذا خلط ما ليس بالأصل الديني، وبذلك ضلوا سواء السبيل.
(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)
إن الله سبحانه وتعالى قدر لهم الضلالة، إذا ستروها، وتركوا الهداية، وسلكوا سبيلها فاختارها الله تعالى لهم، بعد أن اختاروها لأنفسهم، وإن الله لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وإذا كان الله تعالى قد كتب عليهم ذلك، فعن مشيئته صدر فعلهم، ولو شاء ألا يفعلوه ما فعلوه، ولكنه شاء
________
(1) رواه مسلم: النكاح - جواز الغيلة، وكراهة العزل (1442). عن عائشة رضي الله عنها. كما رواه الترمذي وأبو داود وأحمد ومالك وابن ماجه.(5/2690)
لهم؛ لأنهم اختاروه. وإذا كان تعالى قد شاءه لهم فقد افتروه، وقد أنذرت، وما عليك جناح إذا استمروا على غيهم فذرهم أي فاتركهم مع ما يفترونه، يرتعون في غيه، وما أنت إلا نذير.
* * *(5/2691)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
(وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ ... (138)
* * *
هذا كلام موصول بما قبله مما ترتب على العقيدة الفاسدة؛ إذ إنه متى فسدت العقيدة فسد الفكر وضلت الأفهام، فلا يصد عن القلب الذي امتلأ بالعقيدة إلا باطل، وكان أظهر مظاهر بطلان العقيدة الفاسدة ما يتعلق بالحرث والأنعام، فإن فرط أوهامهم في الأوثان أثر في حرثهم وأنعامهم، يعطون لها الأكثر ويبقون الأقل.
وقالوا بأفواههم جازمين في قولهم مشيرين: (هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ)، أي محجورة وممنوعة ليس لأحد أن يأكل منها، فمعنى حجر محجورة ممنوعة، فهي حجر بمعنى محجور كذبح بمعنى مذبوح ونقض بمعنى منقوض، أي أنهم يشيرون إلى ناحية من الزرع والثمار فيمنعونه، وإلى قدر من الأنعام فيمنعونه، وقرروا أن الأصل فيه المنع، حتى يكون منهم الإذن بأخذه لمن شاءوا، ولكن المنع يكون لمن، ولأجل من؛ قالوا: إنه يمنع لأجل الأوثان تكون لخدمتهم وسدانتهم ومن يكون حولهم، ومن بقي ينفق منهم على من نريد، ويرون أنه ينتفع منه رجالهم دون نسائهم.
ومهما يكن فإنهم يقررون أنه ممنوع لَا يقربه أحد إلا من يشاءون، وهذا مؤدى ما قال الله عنهم: (لا يَطْعَمُهَا إِلَّامَن نَّشَاءُ بِزعْمِهِمْ).
وهنا عبارتان نقف عندهما قليلا.
أولاهما - (لا يَطْعَمُهَا) أي لَا ينال منه أي قدر، ولو بالذوق، إلا من نشاء.
الثانية - (بِزَعْمِهِمْ) فإنه بزعمهم أي بافترائهم وظنهم، وهي تدل على أن المنع كان على زعم فاسد منهم، لَا على حق اعتمدوا عليه، ويدل أيضا على أن(5/2691)
إطعامهم من يشاءون مبني على زعم باطل كاختيار الرجال على النساء، وكاختيار خدام الأوثان على غيرهم.
وقد ندد الله تعالى بهذا العمل في قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرونَ).
وإنهم لضلالهم مع علمهم بأن الله تعالى خالق كل شيء وأنه ليس كمثله شيء ما يتخذونه حلالا من طعامهم لَا يذكرون اسم الله تعالى، فهم آثمون فيما يحرمون، وآثمون في تناول ما أحل الله تعالى، ولذا قال تعالى:
(وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ) كما حرموا على أنفسهم بعض الحرث والنسل؛ حرموا ركوب بعض الحيوان، ولا يذكرون اسم الله تعالى في الأنعام التي يأكلونها، فمن الأنعام التي حرموا ظهورها، أي لَا تركب مهما كانت الحاجة إلى ركوبها ولو كان هناك من يريد ركوبها يعني قد انقطع، ولا يستطيع: البحيرة والحام، فالبحيرة هي التي نتجت منها خمسة أبطن، وكان آخرها ذكرا، فإنها تبحر أي تشق أذنها، وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل، وذاتها من الذبح، ولا ترد عن ماء، ولا تمنع من مرعى.
والحام هو الفحل من الإبل يضرب عشرا ونتج، فإذا بلغ ذلك قالوا هذا حام، أي حمى ظهره من الركوب، وقد بينا هذه في سورة المائدة في ربع (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما). عند تفسير قوله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ).
يحرمون هذا بأوهام سيطرت على أفهامهم، ويقولون هذا من عند الله، وما هو من عند الله أن هذا افتراء افتروه فارتكبوا إثمين؛ إثم تحريم ما أحل الله من الأنعام أكلا وحملا، وإثم افترائهم على الله تعالى بإسناد التحريم إليه، فضلوا ضلالا بعيدا.(5/2692)
وإذا تناولوا ما أحل الله تعالى ارتكبوا إثما من نوع آخر، وهو ألا يذكروا اسم الله تعالى عليها، وهو الذي خلقها وأحلها، وأنعم بها؛ وإنهم إذ لَا يذكرون اسم الله تعالى يذكرون أسماء الأوثان، وكان كل ذلك افتراء على الله تعالى، ولذا ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى في كلامه العظيم: (سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُوا يَفْتَرونَ).
أي أن الله تعالى سيجزيهم أشد الجزاء، و (السين) لتأكيد الوقوع في المستقبل، وسيكون جزاء وفاقا بسبب ما كانوا يفترونه، أي يقصدون الكذب فيه، فقد افتروا على الله وأشركوا، وافتروا على الله تعالى وأحلوا ما حرم الله تعالى ونسبوا التحريم إليه، فكان ذلك بهتانا وإثما مبينا.
* * *(5/2693)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
(وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ ... (139)
* * *
الكلام موصول في بيان ما حرموه على أنفسهم أو بعضهم من الأنعام، وما في بطون هذه الأنعام هي من الإناث؛ لأن الذكور لَا يكون في بطونها شيء يناله الرجال دون النساء، وما في بطونها الذي يحرم على النساء ويباح للرجال خالصة قيل هو اللبن، وقيل هو الحمل، وأرى أنه يشمل الأمرين، وإن كان قوله تعالى: (وَإِن يَكُن مَّيْتَةً) أي إن تجئ به فهم فيه شركاء أي يشترك الذكر والأنثى، يرجح أو يقرب أن المراد الأجنة في الظاهر، ولكنه لَا يمنع أن يكون ما في البطون يشمل الألبان والأجنة معا، وخصت الأجنة بأنها إن نزلت ميتة اشتركوا فيها جميعا.
والإشارة في قوله تعالى: (وَقَالُوا مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لذُكُورِنَا) إشارة إلى نوع معين من إناث الأنعام، وقد قال مفسرو السلف إنها البحيرة والسائبة التي لَا ترد عن حوض ماء ولا مرعى، إذا ولدت خمسة أبطن، فإن هذه يكون لبنها، وما في بطنها من حمل للذكور دون الإناث إن نزل حيا وإن نزل ميتا فهم فيه شركاء بمعنى اشترك فيه الذكور والإناث.(5/2693)
وروى أن لبن الوصيلة والسائبة كان الرجال يشربونه والنساء لَا يأخذن منه شيئا، والوصيلة والسائبة لَا يذبحان بل تتركان حتى تموتا، فإذا ماتت إحداهما أكل منه الرجال والنساء.
وإنه يجب إن ننبه هنا إلى أنهم في هذا الإفك الذي يأفكونه يجعلون للمرأة من الطعام الشيء الذي يعاف، ويجعلون للرجل الطيب من الطعام، ولا يحرمونه مما يخص النساء.
وقوله تعالى: (وَقَالُوا مَا فِى بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَة (التاء) أي الوصف بالخلوص، فهي تاء للمبالغة، كالتاء في علامة ونسَّابة، وليست تاء التأنيث؛ لأنها خبر لما في البطون، وبدليل ما بعدها، وهو محرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء.
هذا ضلال جاءهم من أوهامهم في أوثانهم وفساد اعتقادهم؛ فإن فساد الاعتقاد يجعل العقل عشا للأوهام وتضل به الأفهام، وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت حكمته:
(سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) الوصف الذي جعل سببا للجزاء، هو الظلم الذي افتروه في جعل بعض الحرث والنعم لله، والطغيان في نصيب الله تعالى وقتل الأولاد من كثير منهم، وتحريمهم بعض الحرث والنسل إلا من يريدون أن يطعموه، وفي الغالب يحبسونه لأوثانهم إلا من يكون فيما حولهم، هذا هو الوصف، وطغوا في الظلم في ذاته، وشرك في الباعث عليه، وظلم لأنفسهم، وإن قوله تعالى: (سَيجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ) قالوا: إن معناه سيجزيهم بوصفهم، فوصفهم منصوب على نزع الخافض وكان حذف (الباء) فيه بيان أن الجزاء، هو على قدر هذا الوصف، وهو الظلم المبين الذي لَا يمكن إلا أن يكون من الشرك وما حوله.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالت حكمته: (إِنَّه حَكِيمٌ عَلِيمٌ) أي أن ذلك الجزاء الحكيم هو من وصفين لله تعالى وهو أنه (حكيم عليم) يضع الأمور(5/2694)
بمقتضى حكمته وإرادته، وبمقتضى علمه الذي أحاط بكل شيء، وأنه يعلم ما يخرصون، وما تجيش به نفوسهم، وما تنبعث منه أفعالهم، وهو السميع العليم.
* * *(5/2695)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ... (140)
* * *
هذا حكم الله تعالى فيهم في الدنيا والآخرة، فقد خسروا أنفسهم وأولادهم وأموالهم في الدنيا، ونالوا العذاب الدائم في الآخرة بافترائهم على الله بزعمهم أن ذلك بأمر من الله، أو رضا منه، والافتراء على الله تعالى عاقبته عذاب أليم، وقوله تعالى: (سَفَهًا) أي بخفة عقول وجهل، ولا علم ولا سبب للعلم.
وأى سفه وخفة عقل وعدم تفكير أقبح من أن يقتلوا أولادهم من إملاق أو خشية إملاق، وفي الوقت نفسه يحرمون بعض أموالهم على أنفسهم، كتحريمهم البحيرة والسائبة والحام والوصيلة، إنه جهل مبين، وعقل سفيه، لَا إدراك فيه، وينسبون ذلك إلى الله من غير علم.
إن الخسارة في الدنيا واضحة، خسروا أولادهم الذين هم فلذات أكبادهم بوأدهم أو قتلهم من إملاق أو خشية إملاق، وخسروا أموالهم التي حرموها على أنفسهم بأوهامهم، وأنفقوها إسرافا وبدارا على خدمة أوثانهم، وخسروا إيمانهم، إذ أشركوا بالله وافتروا، وأنهم حرموا بالوهم الفاسد، وزعموا أن ذلك تحريم من الله تعالى، وخسروا الحق في ذاته، وأثموا إثما عظيما، مع قتل الأولاد.
(وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ) هذا هو الأمر الثاني الذي خسروه، أو كان فيه خسرانهم، بأن رزقهم رزقا، فجعلوا منه حراما، فخسروا ولم ينتفعوا بنعمة الله التي أنعمها، وافتروا على الله، فقالوا بزعمهم الكاذب: إن الله تعالى هو الذي حرمها، وبذلك حكموا أوهامهم فخسروا عقولهم، وسيطرت عليهم أوهام بثها فيهم الشياطين فهم في تحريم ما رزقهم ارتكبوا إثمين: إثم التحريم، وإثم نسبته إلى الله تعالى افتراء عليه، ولذلك كان الخسران في الدنيا، والعقاب في الآخرة، والضلال المبين، ولذا قال تعالى:(5/2695)
(قَدْ ضَلُّوا وَمَا كانوا مُهْتَدِينَ).
حكم الله تعالى عليهم حكمين وأكدهما: أولهما - الحكم عليهم بأنهم وقعوا في الضلال والبعد عن الحقيقة، وقد أكد الضلال بقد، لأن قد تكون في القرآن للتحقيق، سواء أدخلت على الماضي أم على المضارع فلا يكاد في القرآن استعمالها إلا للتحقيق، فلا تكون للتقريب، ولا تكون للتكثير أو التقليل.
فالله قد أكد ضلالهم، وأي ضلال أشد من أن يقتلوا أولادهم للإملاق، وفى الوقت نفسه يمنعون ما رزقهم فيقعون في الإملاق.
الحكم الثاني أنه سبحانه حكم بأنهم ما كانوا مهتدين، فبين في الحكم ضلالهم وبين في الحكم أنه ليس من شأنهم أن يهتدوا، ولذلك نفي وصف الاعتداء، وأكد ذلك النفي بالجملة الاسمية، وبنفي الوصف عنهم.
ونقول هنا إننا بينا أن الخسران في الدنيا والآخرة، وهو في الدنيا واضح بين، وفي الآخرة مؤكد، وقد رأينا بعض المفسرين يقولون إن الخسارة هي في الآخرة لَا في الدنيا، واستدل بقوله تعالى في سورة يوِنس: (قلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْترُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلحُونَ مَتَاعٌ فِى الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كانُوا يَكْفُرُونَ).
ولكنا لَا نراها تدل على أن الخسارة في الآخرة فقط، وفوق ذلك إن الآية السامية التي نتكلم في معناها السامي، قد شملت قتل الأولاد وتحريم ما رزق الله تعالى افتراء، أما هذه الآية التي ساقها المفسر الفاضل فإنها في اتخاذ الولد ونسبته إلى الله بدليل الآية التي قبلها، إذ يقول الله تعالى: (قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ... )، إلى آخر الآية الكريمة. .
فكان بمقتضى النسق البياني للقرآن أن يكون العقاب الأخروي. أما في الآية التي نتكلم في معناها فواضح أنهم خسروا في الدنيا بقتل أولادهم سفها بغير علم، وتحريم ما أحل الله تعالى وافتراءً على الله تعالى.(5/2696)
وإنه من أقبح ما يتصور الإنسان من سفه الأحلام قتل أولادهم، وخصوصا وأد البنات، إنهم خسروا بذلك خسرانا مبينا.
وقد جاء في تفسير القرطبي: روى أن رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان لَا يزال مغتما بين يدي رسول لله، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لك تكون محزونا، فقال يا رسول الله: إني أذنبت ذنبا في الجاهلية، فأخاف ألا يغفره الله، وإن أسلمت، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أخبرني عن ذنبك، قال: يا رسول الله إني كنت من - الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إليَّ امرأتي أن أتركها، فتركتها، حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء، فخطبوها، فدخلتني الحمية، ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة: إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا في زيارة أقربائي، فابعثيها معي، فسرَّت بذلك، وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت عليَّ المواثيق بألا أخونها، فذهبت إلى رأس بئر، فنظرت في البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر، فالتزمتني، وجعلت تبكي وتقول: يا أبت أيْش تريد أن تفعل بي، فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت عليَّ الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول: يا أبت لَا تضيع أمانة أمي فجعلت مرة أنظر في البئر، ومرة أنظر إليها أرحمها، حتى غلبني الشيطان، فأخذتها وألقيتها في البئر معكوسة، وهي تنادي في البئر: يا أبت قتلتني، فكنت هناك حتى انقطع صوتها، فرجعت، فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه وقال: " إن الله لرءوف، لو أمرت أن أعاقب أحدا بما كان في الجاهلية لعاقبتك " (1). هذه قصة مثيرة، ولا بد أنها كانت تقع من الجاهليين، سواء أصحت هذه الرواية بالذات أم لم تصح، فكيف لَا تكون الخسارة في الدنيا بهذا الطيش الجاهل، رحم الله أمثال هذه الفتيات.
* * *
________
(1) ذكره القرطبي في التفسير: ج 4، ص 2533 - طبعة الشعب. ورواه الدارمي في سننه: المقدمة - ما كان عليه الناس قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - (2).(5/2697)
(وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
* * *
ذكر الله تعالى أحوال أولئك الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وحرموا على أنفسهم ما رزقهم الله من بهيمة الأنعام ونسبوا التحريم إلى الله تعالى افتراء، ثم ذكر سبحانه من بعد ذلك بطلان التحريم من خلق الله تعالى للنبات والنعم، مع ذكر نعمته في النبات والأشجار مما كان يدعوهم إلى التوحيد، والإيمان بالله وحده بدل أن يشركوا به، ويفتروا على الله بأوهامهم، فقال تعالى:(5/2698)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
(وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ).
الضمير يعود على الذات العلية، و (أنشأ) معناها خلق، وعبر هنا سبحانه وتعالى بكلمة (أنشأ) لبيان أنهم لم ينشئوها؛ فإن إشراف أصحابها عليها يجعلهم يتوهمون أنها نشأت بفعلهم، وإشرافهم فهم الذين غرسوا غرسها، وهم الذين بذروا حبها، وهم الذين حرثوا أرضها، وهم الذين رعوها وسقوها وأبرأوها، وسمدوها إلى غير ذلك. فنبههم الله سبحانه وتعالى أنه الذي أنشأها، ونماها، وأنزل لها الماء الذي يحييها، فإن الماء يسير من جذورها، ويعلو بقدرة الله، ثم(5/2698)
ينحدر وينزل، حتى يصل إلى أعلاها، فتكون غصون الأشجار، وأوراق الزروع والثمار، وترى فيها ريق الماء، إذا سقيت، وما ذلك إلا بتصريف الحكيم.
إن الذي أنشأ الأشجار، وأنشأ الزروع والثمار هو الله تعالى، فما كانت الأرض لتخرج الغرس وحدها، ولتخرج الزروع والثمار وحدها، وإنما يخرجها الله تعالى فهو الله تعالى الذي ينشئها.
وقوله تعالى: (مَّعْروشَات)، أي لها مما يشبه العرش يقام على سيقان، كما في الكروم التي تقام على سيقان من الخشب، وأحيانا شبه العروش من غير ما يقام عليه إلا جذور الأشجار، كأشجار البرتقال وغيره مما يشبهه، فإنك إذ تراها متلاحمة تكون كالمعروشات القائمة على العروش، وغير المعروشات، كالأشجار التي تعلو وحدها.
(وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِه).
خص هذه بالذكر، لما لها من أهمية في حاجة الناس، فالنخل قوت وفاكهة، والزرع فيه غذاء الإنسان والحيوان، والحيوان فيه غذاء الإنسان، وكل هذه من نعم الله تعالى ما أنشأناها، ولكن أنشاها خالق هذا الوجود فهو الذي يتولاها في نموها من حبة فلقها، أو نواة شقها، إلى أن تصير نباتا غلظ سوقه، أو نخلة عالية، والزيتون والرمان متشابها في ورقه، فورق الرمان كورق الزيتون يتشابهان، ولكن ثمرتهما مع التشابه في الورق والأغصان لَا تتشابهان.
وقوله تعالى (مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ)، الأكل الطَعْم، وتناوله، فهو مختلف في ذوقه وإن تشابه نموه، وعناصر الأرض التي يتغذى منها، والأسمدة التي تنميه واحدة.
وإن هذا التنويع في التكوين وإشباع الحاجات الإنسانية يدل على فاعل مختار فعال لما يريد، ولنستعرض في هذا المقام كلمات كتبها القرطبي في تفسيره، فقد قال رحمه الله تعالى:(5/2699)
وفى هذه الآية أدلة ثلاثة أحدها - أن التغيرات لَا بد لها من مغير. الثاني - على المنة سبحانه وتعالى علينا، فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء، وإذا خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم، وإذا خلقه كذلك ألا يكون سهل الجني، فلم يكن أن يفعل ذلك ابتداء؛ لأنه لَا يجب عليه شيء. الثالث - على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها، حتى إذا انتهى إلى آخرها أنشأ فيها أوراقا ليست من جنسها، وثم خارج، من صفته الجرم الوافر، واللون الزاهر، والجني الجديد، والطعم اللذيذ، فأين الطبائع وأجناسها، وأين الفلاسفة وأناسها، هل في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان، أو ترتب هذا الترتيب العجيب، فلا يتم ذلك في العقول إلا لحي عالم قدير مريد، فسبحان من له في كل شيء آية، ونهاية. وإن هذا الكلام كما ترى يتجه إلى أمرين هما أساس التوحيد: أولهما - أن الله تعالى خلق كل شيء بإرادته المختارة، وثانيهما - أنه قائم على هذا الوجود، وأنه وحده الذي يَربّهْ، ويدبر أمره، وهو الحي القيوم الذي لَا يماثله أحد فيه، ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، فسبحان الله رب العرش عما يصفون.
(كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ).
قوله تعالى: (كلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) الأمر فيه للإباحة؛ لأن الأكل من جنس الثمر ليس بواجب، ولكنه مباح، وقوله تعالى: (إِذَا أَثْمَرَ)، إشارة إلى وقت الإباحة، فهو إباحة وإرشاد بألا يأكل قبل أوان الإثمار فإن ذلك قد يضر ولا ينفع؛ لأن الفج من الثمار يضر الأجسام ولا يفيدها، فوق ذلك أنه إتلاف لَا فائدة (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) أهو الأمر فيه للندب أم للوجوب، ومن المؤكد أنه ليس للإباحة؛ لأن أشعبير بحقه، يفيد أن الإيتاء لصاحب الحق، والإيتاء لصاحب الحق في المال لَا يمكن أن يكون مخيرا فيه بين الإعطاء والمنع، وقد اختلف الفقهاء؛ أهو واجب فتكون زكاة المال قد ثبتت قبل الهجرة، مع أن الثابت أن(5/2700)
الزكاة فرضت بعد الهجرة في السنة الثانية، كذلك قال بعض الفقهاء، أو زعموا أن الآية مدنية.
والحق أن هذا الحق في المال ثبت في مكة، ولكن لم تشرع الزكاة التي تعد فريضة، ومصارفها التي جمعها ولي الأمر إلا في المدينة، حيث قامت الدولة الإسلامية التي تجمعها، أما في مكة حيث ثبت الإسلام ثبتت الصدقات حقا للفقراء والمساكين والسائل والمحروم، فلقد قال تعالى في سورة المعارِج وهي مكية وصفا للمؤمنين (وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26).
فالصدقات كانت مفروضة في الأموال، وخصوصا في الزروع والثمار، وإن كان ولي الأمر لَا يجمعها، لأنه لم يكن للمؤمنين دولة تجمعها، إذ كانوا مستضعفين في الأرض، فلما كانت السنة الثانية بعد الهجرة نظمت وعمت الأموال التي يكون لها نماء بالفعل أو القوة، وإن حق الفقراء في الزروع والثمار كان معروفا قبل الهجرة، ونظم الجمع، وعمم بعدها.
واقرأ ما جاء في قول الله تبارك وتعالى في ابتلاء أهل حديقة: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32).
إن هذه الآيات الكريمة تدل على أنه قبل الهجرة كان المؤمنون يشعرون بأن في الزرع والثمار حقا للسائل والمحروم كانوا يشعرون بذلك مؤمنين بهذا الحق.(5/2701)
وإن الآية الكريمة تدل على هذا وتدعو إليه، وتحث عليه، وهذا الحق كان المؤمنون يقومون به ويؤدونه من غير أن يجمعه حاكم، ولا يتولاه ولي للصدقات؛ لأنه لم تكن الدولة الإسلامية هي المهيمنة في مكة، فلما كانت الهجرة في السنة الثانية وجد نظام جمع الزكاة، ونظام صرفها، وتولت الدولة جمعها وصرفها.
ولذا نقول إن الآية مكية، ولا نسخ فيها بعموم ولا خصوص، وحكمها داخل في فرضية الزكاة الذي ثبت في المدينة تنظيمه، ولذا نرجح أن الأمر هنا للوجوب.
وقوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) أي يوم صرمه وقطعه، وسماه الله تعالى حق الزرع فقال (حقه) أي الحق الواجب فيه، فالصدقة حق المال، وواجب فيه أي أن المال ينتفع منها، فهي تزكيه وتنميه وتطهره، وهي أيضا حق السائل والمحروم، فهي حق الفقير لتسد حاجته، وحق المال لتطهره وتنميه، ويكون طيبا.
(وَلا تُسْرِفُوا إِنَّه لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
هذا عطف على قوله تعالى: (كلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ) فالعطف على إباحة أكل الثمار، فهو إذ أباح أكل الثمار وأمر بإعطاء حق المال يوم قطعه، لقد نهى عن الإسراف، والإسراف معناه الإنفاق في غير موضعه أو الأكل من غير حاجة، كقوله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تسْرِفوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِين).
وإن النهي عن الإسراف ظاهر في أنه منع من الإسراف في الأكل في الثمر، إذا أثمر، بأن يأكلوا فوق طاقتهم، أو أن يبيعوه وينفقوا ثمنه إسرافا وبدارا، أو أن يوزعوه على من يستحق ومن لَا يستحق، أو إعطاء الكثير لمن يستحق القليل، وبعض المفسرين يعمم النهي عن الإسراف، فيمنعه على من يأكل الثمار إذا أثمرت، وعلى إيتائه حقه يوم حصاده، ومن الإسراف في ذلك أن يدع قرابته فقراء ويعطي غيرهم، فابدأ بنفسك ثم بمن تعول، وقالوا: إن النهي عن الإسراف(5/2702)
يشمل الولاة الذين يجمعون الصدقات، ويأخذون أكثر من حق الله فيه، ولقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " المعتدي في الصدقة كمانعها " (1).
وقد ختم الله النهي عن الإسراف ببيان سببه، فقأل تعالى: (إِنَّهُ لَا يحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) أي النهي سببه أن الله جل جلاله لَا يحبه، فيغضب الله تعالى ممن يسرف بمجاوزة حق الإنفاق، وبوضع المال في غير موضعه، وبأخذ الصدقات مسرفا في الأخذ؛ لأنها إذا أخذ منها أكثر من حقها، فهو كمانعها، والله رءوف رحيم.
* * *
________
(1) رواه الترمذي: الزكاة - ما جاء في المعتدي في الصدقة (646)، وابن ماجه: الزكاة - ما جاء في عمال الصدقة (1808)، ورواه أبو داود: الزكاة (1585) بلفظ: " المعتدي المتعدي في الزكاة. . . ". عن أنس بن مالك.(5/2703)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
(وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ... (142)
* * *
(الواو) عاطفة على قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَ جَنَّات مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَات) أي: وأنشأ لكم من الأنعام حمولة وفرشا وطعاما ولحما طريا، فهي ذكر لآلاء الله تعالى ونعمه في خلقه إذ هيأ لهم أسباب الهناء التي أحل فيها طيباته ومكنكم منها.
و (الأنعام) جمع نعم، وهي الإبل والبقر والغنم، وما شاكلها مما يؤكل، وينتفع به الإنسان، وجعل الله تعالى منه (حمولة)، وهي ما يحمل عليها، و (فرشا) وهي ما يذبح بأن يفرش ويذبح، وما يتخذ من أصوافها وأوبارها وأشعارها فرشا، وهذه تشمل النعم التي تذبح، والغنم والعجول التي لَا تبلغ القدرة على حمل الأشياء، بل تذبح ويؤكل لحمها، وتسمى العجول، والغنم فَرْشا؛ لأنه يفرش ويذبح كما ذكر، ولأنها قريبة من الأرض، وقد جعلها الله فراشا، وقد قال تعالى في ذلك: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72).
(وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا(5/2703)
لِلشَّارِبِينَ)، وهكذا كانت آيات الله تعالى تتلى، مبينة نعمة الله في الأنعام يتخذ منها حمولة، ومنها فرش يذبح، ومنها فرش يفرش من أصوافها وأوبارها وأشعارها متاعا إلى حين انتهاء الدنيا.
ولأن الفرش منها الغنم، ونسل الأنعام الذي يذبح، قال تعالى بعد ذلك: (كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ).
والمعنى إذا كان الله تعالى قد خلقها فرَشا يذبح، فكلوا منه، لأنه رزق الله، ورزق الله تعالى يُقبل لأنه عطية الله، ويُشكر عليه، فلا تجعلوا مما رزقكم الله حلالا وحراما كما يفعل الذين يتبعون خطوات الشيطان، والأمر هنا للإباحة، والترغيب في تناول الحلال، وقد قلنا إن أوامر الإباحة تكون فيها الإباحة بالجزء وهي مطلوبة بالكل، فليس للإنسان أن يمتنع عن المباحات، ويترك تناولها، ولا يتركها كلها.
وقد كان بعض العرب يتصدقون بأكثر ما ينتج غرسه، فنهى الله تعالى عن الإسراف وقال: (كلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ).
(وَلا تَتَّبِعوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُو مُّبِينٌ).
الخطوات ما بين الأقدام، والمراد النهي عما يوسوس به الشيطان، وتجنبه بألا يسير سيره الذي يزين به الشر، وفي الكلام مجاز مشهور، والمجاز المشهور تنسى فيه العلاقة والقرائن، وكأنه حقيقة، ومؤدى المجاز تشبيه من يطيع الشيطان فيما يوسوس بالسائر وراء إنسان يتبعه خطوة خطوة، لَا يحيد عن طريقه، ولا يترك طريق الشر الذي يسيو فيه. وقد علل سبحانه وتعالى النهي بأنه عدو بَيِّن العداوة وبيانها ببيان آثارها ونتائجها، وليس معنى (مبين) أنه بَيِّن واضح عند السير وراءه، إنما هو بين في نتائجه وغوايته.
واتباع خطواته هو ما كان عليه الجاهليون فيما رزقهم الله تعالى فحرموا بعضه، بغير ما حرم الله، حرموا السائبة والوصيلة والحام بغير ما أنزل الله،(5/2704)
وجعلوا لله نصيبا مما خلق، وللشيطان نصيبا في الأوثان التي زينها لهم، وزين لهم قتل أولادهم، وزين لهم أكل الميتة، وما ذبح على النصب، وما أهل لغير الله تعالى به، وهو فسق، وخروج عن طاعة الله الذي يلجأون إليه في الشدة، والبأساء والضراء.
ولقد أخذ سبحانه وتعالى يبين ضلالهم فيما يحرمون على أنفسهم بوسوسة الشيطان، وينقض زعمهم فقال:
* * *
(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
* * *
نهى الله تعالى بالنسبه لما رزق الله تعالى - المكلفين أن يتبعوا خطوات الشيطان، وما يزينه للذين يفتحون قلوبهم لوسوسته، وآذانهم لسماع دعاته وأتباعه، وقد زين لهم أن يحرموا بعض الثمرات والزروع ويجعلوا جزءا لله، وجزءا لأوثانهم، وتطيش فيعتدون على ما جعلوه لله، ويحمون ما جعلوه لأوثانهم وحرموا بعض الأنعام، حرموا الوصيلة والسائبة والحام والبحيرة، وقد بينا ما يريدون من هذه الألفاظ من مسميات في موضعها في سورة المائدة في ربع(5/2705)
(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ) عند الكلام في معنى قوله تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَة وَلا حَامٍ. . .)، وفي هذه الآية وما بعدها يبين الله تعالى أنه لَا سند من عقل ولا نقل جعل بعض هذه الأنعام محرما، فقال تعالى:(5/2706)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143)
(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ).
(ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) عطف على (أَنشَأَ)، أو مفعول لفعل محذوف، وإذا كان التأويل فهي منصوبة، والأزواج جمع زوج، والزوج يطلق على كل فرد يقابله درد آخر، ويقال لكل واحد منهما زوج، ويقال لمجموعهما زوج، وعدّ الله تعالت كلماته، ثمانية: اثنان من الضأن ذكر وأنثى، واثنان من الماعز ذكر وأنثى، واثنان من الإبل، فحل، وناقة، واثنان من البقر ثور وبقرة، والضأن ذكره كبش، وأنثاه نعجة، والماعز ذكره تيْس أو جدي، وأنثاه معزة.
فهذه هي ثمانية أزواج عدا، وقد سلك القرآن في احتجاجه عليهم مسلك الجمع والإفراد، فبين أن التحريم في الرزق يكون لخبث في ذاته اقتضى تحريمه، وأن التحريم يكون من الله تعالى مانح الأرزاق والوجود، وقد ادعوا تحريمهم لما حرموا بوسوسة الشيطان أنه من الله تعالى، متتبعا تحريمهم، فقال تعالى: (آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ) أي كل زوج من المحرمات حرم الذكرين منها كالكبش والجدي فتحرم الذكور كلها، ولكنكم لم تحرموها كلها، بل خصصتم بعضها (أَمِ الأُنثَيَيْنِ) منها فحرم النعجة والمعزة، وكان يجب أن تحرم كل الإناث، ولكنكم حرمتم بعضها، وتركتم الآخر، وعلى ذلك لَا يكون التحريم بسبب في ذاتها أو ما اشتملت أرحام الأنثيين أي المواليد ذكورا وإناثا فيحرم الجميع، ولكن خصصتم فلا يكون سببه التحريم لذاتها، ولا بسبب من النقل، فبينوا ما اعتمدتم عليه من العلم إن كنتم صادقين، ولذا قال تعالى:(5/2706)
(نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كنتمْ صَادِقِينَ).
وإنه بعد البيان الصادق الذي ذكر أولا، يكون قوله تعالى: (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ) من قبيل التهكم بهم؛ إذ لَا دليل عندهم، وطلبه بعد بطلان وجوده تهكم به أو تعجيز لهم، والعجز عن إقامة الدليل في وقت الاحتجاج تسليم بالمدعى بحكم المنطق المستقيم والتفكير القويم.
وقوله تعالى: (إِن كنتُمْ صَادِقِينَ) التعليق بـ (إنْ) فيه إشارة إلى أنهم لا صدق عندهم وأنهم يفترون على الله تعالى فيما يدعون، وقوله تعالى: (نَبِّئونِي) النبأ الخبر العظيم، وهذا عظيم في زعمهم.
* * *(5/2707)
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
(وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ ... (144)
* * *
هذه هي أربعة الأزواج بعد الأربعة الأولى فتكون عدتها ثمانية، قال تعالى: (قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنثَيَيْنِ) أحرم الفحل من الإبل والثور من البقر، أم حرم الأنثيين من الأربعة، فحرم الناقة من الإبل، والبقرة من البقر، فإن كان التحريم للذكرين يشمل الذكور كلها، فإن التحريم على الإناث شمل الإناث كلها. أما وقد حرمتم بعضها دون بعضها، فإنه لَا يمكن التحريم لأمر ذاتي فيها، ولا لأمر نقلي، فلا دليل من عقل ولا نقل.
وإذا كان التحريم للمواليد كلها ذكورا وإناثا، وهي ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فإنه بمقتضى عموم القول. يكون التحريم لجميع المواليد من البقر والإبل، ولكنكم تحرمون بعضها دون بعض، فلا يمكن أن يكون التحريم لخبث فيها؛ لأن الخبث إن كان سبب التحريم، فهو يعم ولا يخص، فلا يمكن أن يكون التحريم بسبب في ذاتها، ولا لنقل نقلتموه، وإن ادعيتم ذلك فأنتم تكذبون على الله في ذلك، ولا دليل عندكم على التحريم من قبل الله، بل هو اتباع الشيطان، وتزيينه لكم حتى صار ذلك هواكم، وغلبتكم الأوهام؛ ولذا قال تعالى:(5/2707)
(أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا) طالبهم الله تعالى أن يأتوا بعلم يقيني جازم من النقل يدل على تحريم ما حرموه، وقد جاءت النصوص بإباحة الجميع، ثم عدل متهكما عليهم بأن ذكرهم بأنهم قد يدعون أنهم شاهدوا وعاينوا، ولذلك قال تعالى: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ) و (أم) فيها معنى الإضراب عما طلب أولا، ثم ذكر أنهم قد يدعون أنهم كانوا حاضرين إذ وصاهم الله تعالى، والله علم من وصى بهذا، وهذا تهكم عليهم، فإنهم ينكرون الوحي، ولا يدعونه لأنفسهم أنهم أوحى إليهم، ولكنها وسوسة الذي أوجد فيهم أوهاما زينت لهم ما فعلوا. وهكذا نجد النص القرآني سلك سبيل الاستقراء والسير والتقسيم فاستقرأ معهم سبب التحريم وإن كان الذكورة فهي تعم الذكور، وإن كان الأنوثة فهي تعم الإناث، وإن كانت الولادة فهي تعم المواليد، ولكنهم يخصون، فطالبهم بدليل من علم، فما عندهم، فسألهم أهم عاينوا ووصاهم الله فهم بلا ريب كاذبون، وهذه هي نتيجة الاستدلال، فهم كاذبون على الله تعالى، ولذا قال سبحانه بعد ذلك: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كذِبًا لِّيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ).
الفاء لترتيب ما بعدها على معنى ما قبلها، والمعنى إذا كانوا قد كذبوا على الله تعالى، وادعوا أن الله حرمها، فهم ظالمون مفترون ومن أشد ظلما ممن يفتري على الله كذبا ليضل الناس، ومن استفهامية، وهي للإنكار، لإنكار الوقوع، إذ معناه، لَا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا، أي قصد الكذب على الله تعالى بادعاء أن الله تعالى حرم بعض ما رزقهم الله، وهو لم يحرم، وفي ذلك مع النفي توبيخ لهم، لأنهم فعلوا ما استنكر أشد الاستنكار. وإن ظلمهم مركب من أمرين، أولاً لأنهم كذبوا على الله وقصدوا الكذب، والثاني أنه أضل الناس بهذا الكذب على الله، فقال إنه تحريم من الله، وليس من الله في شيء إلا أوهامهم الضالة.
وذلك الظلم والإضلال أوضح ما يكون في كبرائهم الذين أضلوا ضعفاءهم، وقد ختم الله سبحانه الآية بقوله تعالى:(5/2708)
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إنه سبحانه وتعالى بعد أن بين ظلمهم في تحريم ما أحل الله تعالى لهم، وجعلوا ما رزقهم سبحانه منه حلالا ومنه حراما وظلمهم في الكذب على الله تعالى بادعاء أن التحريم كان بأمره، وظلمهم للناس بإضلالهم بغير علم، ذكر سبحانه قضية عامة وهي أن الله لَا يهدي الظالمين؛ لأن الظالم إذا سلك سبيل الظلم والتضليل استمرأه واستطال على الناس، وركبه الطاغوت، وأظلمت نفسه، وأصاب قلبه ظلام لَا نور فيه، فلا يهتدي ولا يَرْعَوي، وقد بين الله تعالى، وأكد أن الظالمين لَا يهتدون فقال (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وقد أكد ذلك بالجملة الاسمية، و (إن)، وبنفي الهداية عن القوم الظالمين، وكان نفي الهداية من الله تعالى عن القوم الظالمين لأنهم بسيرهم في طريق الظلم قد سدوا باب الهداية عن أنفسهم، وذكر سبحانه نفي الهداية عن القوم الظالمين دون أن ينفيه هنا عن الواحد للظالمين؛ لأن الظالمين يعاون بعضهم على الظلم، فيتكون منهم رأي عام ظالم يبرر الظلم ويرتضيه، ويشجع عليه، ويتعاونون فيه على الإثم والعدوان بدل البر والتقوى، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
* * *
(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
* * *(5/2709)
فى هذه الآية حصر لما حرمه الله تعالى من الأنعام، وبيان أن الله تعالى لم يحرم ما حرموه على أنفسهم من الأنعام، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتولى هو البيان فيما أوحى إليه به؛ لأنهم كانوا يجابهون النبي - صلى الله عليه وسلم - بتحريم ما يحرمون غير متحرجين في ادعاء التحريم على الله تعالى، ويفترون على الله الكذب وكانوا ظالمين، ولا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا.
وإن المتتبع لآي الله تعالى يجد أن كل أمر يجري فيه الجدل، أو يثيرون هم فيه الجدل يأمر الله تعالى نبيه بأن يتولى البيان بلسانه مع بيان الله تعالى.(5/2710)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
(قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ) أي فيما أوحاه الله تعالى، وإنما بني للمفعول، لبيان نفي وجود الوحي نفيا مطلقا بغير ما هو مذكور، فالبناء للمفعول هنا.
لعموم نفي عدم الوجود، وفيه إشارة إلى أن ما حرموه غير معقول إن سمي به وحي مطلقا.
وقال (عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ)، أي على آكل يأكله، وعبر سبحانه بقوله تعالى (عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) بدل (آكل يأكله)؛ لأن الطعم تذوق واستطابة، والأكل قد يكون أكل غير مرغوب فيه، أو ما ليس له ذوق يستطاب، ففي هذا إشارة إلى أنهم يحرمون طيب اللحوم والمطعومات.
(إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فإنَّهُ رِجْسٌ).
الميتة الحيوان الذي يموت، وينحبس دمه فيه، ويدخل في معناه المنخنقة، والموقوذة التي وقذت بالحجارة حتى ماتت، والمتردية التي تردت في حفرة أو بئر، والنطيحة التي نطحت من أخرى حتى ماتت، فإن هذه تدخل في عموم كلمة ميتة إن توسعنا في معناها، بأن قلنا: إن الميتة ما لم تذكَّ بالذبح، وإنهار الدم، ومهما يكن فإنها في المعنى قريبة من الميتة.
والدم المسفوح هو الدم السائل، وقد تبين أنه سريع الفساد، وتسارع الميكروبات إليه، والدم المسفوح خرج به الدم الذي يكون بعد الذبح في جوار(5/2710)
اللحم، أو مخالطا له، والكبد والطحال، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روي عنه سماهما دما، كما روي أنه قال: " أحلت لنا ميتتان ودمان: الكبد والطحال، والسمك والجراد " (1)، والخنزير هو الدابة المعروفة، وهو محرم في الديانات الثلاث: اليهودية والنصرانية والإسلام، واستباحها اليهود والنصارى بعد تحريف دينهم عن موضعه، وبعد أن نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.
وقد ذكر سبحانه وتعالى سبب التحريم فقال: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) أي قذر، فهو قذر في ذاته، وهو قذر في غذائه فهو يتغذى من الأقذار، فيتغذى من العذرة، ولحمه رجس إذ إنه مقشش (2) فيه ميكروبات. أخصها الدودة، ولاحظ كثيرون أنه حيث يكثر آكلوه يكثر مرض السرطان، ولو تنبه العلماء إليه وبحثوا لحمه لوجدوا بعد الحيرة الطويلة أن هذا الداء العضال تكمن جرثومته فيه؛ لأن الله تعالى قال: (فَإِنَّهُ رِجْسٌ) وهو أصدق القائلين وإذا كان الخنزير فيه رجس حسي، ومن أجله حرم أكله، فان الله تعالى قد حرم ما فيه رجس معنوي، وقرنه به، وهو ما أهل لغير الله به، ولذا قدم كلمه (فسقًا) مقارنة لكلمة (رجس) لأنهما يلتقيان في المعنى؛ لأن هذا الخنزير رجس حسي، - وهذا الفسق رجس معنوي، فهما من باب واحد.
وقوله تعالى: (أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) أي أنهم ذبحوه لَا باسم الله، بل باسم أوثانهم، وكانوا حريصين على ذلك كل الحرص؛ لأنهم قدموا غير الله في ذبحهم، فقصدهم التقرب لآلهتهم فيه.
وهنا يثار بحث، فإن الآية تدل على أن ما أهل لغير الله يكون حراما، وبمفهوم المخالفة ما لم يهل لغير الله به يكون حلالا، وعلى ذلك يكون ما لم يذكر عليه اسم الله تعالى، ولم يهل به لغير الله يكون حلالا، وقد قررنا أنه إن
________
(1) رواه أحمد: مسند المكثرين (5690)، وابن ماجه: الأطعمة - الكبد والطحال (3314). عن عبد الله بن عمررضي الله عنهما.
(2) قشَّش: أكل ما في المزابل. القاموس المحيط.(5/2711)
لم يذكر اسم الله تعالى، نسيانا فإنه يؤكل المذبوح، وإن ترك عمدا، ففيه نظر، ما دام لم يذكر غير الله تعالى.
وهناك بحث آخر، وهو أن ثمة محرمات قد وردت بها آثار كسباع البهائم فإنها وردت الآثار بتحريمها وسباع الطيور، وبعض خشاش الأرض، كالحية والعقرب، وغيرها، وكالحمر الأهلية التي حرمت في غزوة خيبر. والآية تفيد القصر، أي قصر المحرمات على المذكور، كما تفيد إباحة غيره؛ لأن القصر كما هو مقرر في علم البيان نفي وإثبات، فقد أثبت التحريم في هذه الأشياء الميتة والدم المسفوح، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وثبتت الإباحة بالنص الذي أفاد القصر فيما عداها، وقد ثبت أن بعض ما عداها كان حراما. وهذا يتناقض مع القصر.
وقد أجيب عن ذلك بعدة إجابات:
أولها - أن هذا القصر خاص بالأنعام، وما كان يشبهها من البهائم كالخنزير، فإن النص سيق للرد على المشركين الذين حرموا بعض الأنعام وافتروا على الله تعالى بالكذب، فكان الرد بهذا القصر الذي يفيد تحريم ما نص عليه، وأن غيره مباح، وغيره هو ما يتعلق بالأنعام، وقد يرد على هذا أن التحريم كان فيه الخنزير، وهو لَا يشبهها، فمجيئه لَا يدل على أن الكلام في الأنعام فقط، ونقول إن مجيئه لَا يمنع أن الإباحة فيما عدا المنصوص عليه كان في الأنعام فقط، فلا يدخل في مدلول نفي التحريم غير الأنعام، بل يبقى سكوتا عنه حتى يجيء نص فيحرمه، وإلا فهو في مرتبة العفو أو الإباحة، هذا تخريج للقصر، ونعتقد أثه لا يمنع تحريم سباع البهائم وسباع الطير، وخشاش الأرض وهذا عندي أوضح التخريجات وأقربها.
والتخريج الثاني تخريج الزمخشري - وهو أن الاستثناء منقطع بمعنى لكن، وأنه لَا قصر حتى يكون الكلام مشتملا على نفي وإثبات نفي التحريم وإثبات(5/2712)
الإباحة، إنما هناك نفي لتحريم ما حرموا، ويكون مؤدى التخريج هكذا: قل لا أجد محرما عليَّ في ما تحرمون على طاعم يطعمه، فهذا النفي رد عليهم، لكن أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير أو أهل لغير الله فهو حرام، وعلى ذلك لا يكون قصر فيه نفي وإثبات للإباحة، ولكن فيه تحريم فقط، تحريم بالرد، وتحريم بالاستدراك. هذا كلام قاله الزمخشري.
ونقول لإمام البلاغة: إنه تخريج لَا يستقيم مع النسق البياني الذي يليق بكتاب الله العظيم.
والتخريج الثالث - أن الآية لم تدل على الإباحة المطلقة، إنما أخذت الإباحة بالمفهوم، ولا يؤخذ بالمفهوم حيث يكون نص، وهناك نصوص تمنع.
(فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغ وَلا عَاد فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُور رَّحِيمٌ).
هذا التحريم مؤكد في حال الاختيار، لَا في حال الاضطرار، فمن كان في حال ضرورة لَا يجد ما يطعمه، وقد تعرض للهلاك جوعا وهو غير باغ ولا معتد، فإن الله تعالى يغفر له أكله، وقد قلنا إن حد الضرورة قد بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - إجابة لمن سأله - إذ قال له: " أن يجيء الصبوح والغبوق ولا تجد ما تأكله " (1).
(والباغي) له تخريجان:
أولهما - أن الباغي، هو من خرج باغيا على الحاكم العادل ظالما له، أو من خرج لمعصية، فإنه لَا ينتفع بهذه الرخصة، وذلك يكون سيرا على قاعدة: إن من ارتكب معصية لَا تكون المعصية سببا لنعمة الرخصة، كمن يرتكب جريمة وهو سكران بمحرم، فإنه لَا يعفى من الجريمة بسبب السكر، وذلك مبدأ مقرر عند بعض الفقهاء وخصوصا فقهاء العراق.
والثاني - أن الباغي الطالب لهذا المحرم المشتهى له، كأن يكون مضطرا فلا يجد إلا خنزيرا، يشتهيه ويأكله باغيا له طالبا.
________
(1) سبق تخريجه.(5/2713)
و (العادي) هو له هذان التفسيران أيضا، فخرجه بعض الناس على أنه الظالم بمعصية أوقعته في هذه الضرورة فإنه عاص لَا يستمتع بنعمة الرخصة.
والثاني - أن العادي أي المتجاوز لحد الضرورة.
وأميل إلى أن الباغي المشتهى الطالب للميتة أو الخنزير، وأن العادي هو المتجاوز لحد الضرورة، فإن رحمة الله تعالى في الدنيا، تتسع للأشرار كما تتسع للأخيار والحساب عند الله، وعسى أن يغفر الله لهم، وننبه هنا إلى أمرين:
أحدهما - معنوي، وهو أن هذه الحرمات ما حرمت إلا لأنها خبائث، والله حرم الخبائث، وإن فيها إفسادا للجسم الإنساني وإضرارا به، وإن الضرورة وشدة الجوع قد تذهب بأوضار الأخباث التي في هذه المحرمات، وإن ضررها يقل بالنسبة للجائع جوعا شديدا يؤدي إلى الهلاك، وإن كان ثمة ضرر من بعد، فإنه أخف مما يترتب على الامتناع، ولذلك كانت الرخصة مقيدة بالا يتجاوز حد الضرورة؛ لأنه إن تجاوزه غلب الضرر، واشتد أثر الجراثيم المفسدة للجسم التي تحتوي عليها هذه المحرمات.
وثانيهما - وهو بياني ومعنوي أيضا، وهو قوله تعالى: (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) أثر لجواب الشرط المحذوف أو سبب له، فإن المقدر هكذا، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، كما ذكر في آيات أخر، أما هنا فلم يذكر، ولكن ذكر سببه، وهو فإن ربك غفور رحيم فالسبب أن الشارع الحكيم هو ربكم الذي خلقكم ورئكم، وقام على أمر حياتكم، وأنه غفور يغفر الإثم ويستره، وأنه رحيم لا يرهقكم وإن هذا يدل على رفع الإثم سببا بسببه.
* * *(5/2714)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ... (146)
* * *
بعد أن بين الله ما أحل للمسلمين وما حرم، وأنه فتح باب إباحة الطيبات بإطلاق فكل طيب حلال، وقد استنكر في عدة آيات كريمات على من حرم الطيبات التي أحلهِا الله، ونهى عن تحريم الطيبات، وقال تعالت كلماته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا).(5/2714)
بعد هذا بين سبحانه وتعالى أنه قد يحرم طيبات هي في ذاتها طيبات، ولكنها تزيد أدواء بعض النفوس، فيكون التحريم خاصا بمن حرم عليهم، ولا يكون عاما لكل الناس، كالدواء يكون غير جائز للأصحاء، ولكنه لازم للمرضى.
واليهود أصيبوا بالتخمة والترهل، وأدى ذلك إلى خمول وكسل، ومع الخمول والكسل، يكون القعود، ودعاهم سيدنا موسى إلى أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم أن يدخلوها، لَا أن يملكوها لهم دون سائر الناسِ، قالوا له متخاذلين بسبب ترهل أجسامهم: (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُون).
ويقولون أيضا: (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدونَ).
كان لَا بد من علاج لترهل أجسامهم وذهاب النخوة من نفوسهم. أما الثاني فرباهم على اليأس بأن يعيشوا في الأرض تائهين في صحرائها، فقال تعالى: (. . . فَإِنُّهَا محَرَّمَة عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ. . .)، وأما الأول وهو ترهل الأجسام وكسلهم، فقد عالجه سبحانه بأن حرم عليهم ما يؤدي إلى ترهل الأجسام من شحوم، ولحوم تربي الدهن في الأجسام، وتثقل عليهم حركاتهم. ولذا قال سبحانه.
(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كلَّ ذِي ظُفُرٍ) حرم الله تعالى على اليهود كل ذي ظفر من الأنعام. وذو الظفر - كما قال ابن جرير رضي الله تعالى عنه - كالبهائم التي لم تكن مشقوقة الأصابع كالإبل، والطير والأنعام والأوز والبط، والحيتان.
ويلاحظ أن هذه المحرمات تمتاز بكثرة الشحم، فالإبل لها سنام كله شحم، والأوز والبط هي شحوم قليل لحمها، وذو الظفر كما ترى قد فسرت به، وكل حيوان لم تنفرج أطراف أرجلها، وكان التحريم لهذا المعنى الذي ذكرناه، وفطما لنفوسهم، وفطم النفوس يعطيها قوة إرادة، ويجعل للعقل سيطرة على أفعالهم.(5/2715)
(وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا).
هذا هو القسم الثاني مما حرمه الله تعالى، وقد نص على الشحوم مما يدل على سبب التحريم في الماضي فوق أنه يقال إن أكل لحوم الإبل يقسَّي القلب، وقلوبهم قاسية.
وهنا نرى علاج الله تعالى لأجسامهم مع ملاحظة الرحمة بنفوسهم، فقد حرم سبحانه وتعالى الشحوم لما تؤدي إليه من ترهل، وضخامة، مع ضعف قوته وعزيمته، ومع قسوة النفس، وضعف الإحساس، ولكنه استثنى ما لَا يستطيعون عليه صبرا؛ استثنى أولا ما حملت ظهور البقر والغنم لطيب طعامها، ولأنها ليست شحوما كثيرة، ولا تؤدي إلى الترهل الكثير، واستثنى أيضا سبحانه: (أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ). (الحَوَايَا) جمع مفرده حاوية أو حَوْي، وهو ما تحوي واجتمع في البطن، وتشمل المعدة والأمعاء، ومواضع اللبن وأبيح ما حملت من شحم، كما أبيحت هي، وذلك لصعوبة فصله وإخراجه، وكان ذلك تيسيرا وتخفيفا في موضع التحريم، وتسهيلا للاستجابة إن كانوا طائعين.
وأن ذلك التحريم كان علاجا لأجسامهم، ولكسلهم، وفطما لنفوسهم، وتزكية لأرواحهم، وإرهافا لمداركهم وأجسامهم، ولذا قال تعالى:
(ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ) البغي هو الظلم، والظلم يشمل ظلمهم لأنفسهم بانطلاقهم في أكل ما يشتهون، وتسمن به أجسامهم، ويشمل بغيهم على غيرهم بالاعتداء والفحشاء، ويشمل ارتكابهم المعاصي ما ظهر منها وما بطن، ودلت الإشارة فيه إلى ما حرمه تعالى عليهم وفطم به نفوسهم الشرهة، وهذا كقوله تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ). وإن هذا التحريم كان تطهيرا لنفوسهم وتقوية لأجسامهم، وجزاء دنيويا على ما اقترفوا من طغيان.(5/2716)
وإن الإسلام أحل لهم الطيبات كلها، وقد قال الله تعالى ذلك عند بشارته بالنبي الأُميِّ، فقال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ. . .).
والله تعالى ولي النعم.
وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى:
(وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) الصدق معنى جامع لكل المعاني العالية، والصدق هنا هو الإخبار بالحق الذي لَا مرية فيه، وكيف نشك في خبر حكاه الله رب العالمين، ويشمل العدل في الجزاء الذي جازى به بني إسرائيل على طغيانهم، وعتوهم ويشمل صدق الدواء الذي عالج ترهلهم، وإفسادهم لأجسامهم بشهواتهم، وإفراطهم إلى غير حد محدود، وقد أكد الله سبحانه وتعالى صدقه في خبره وعدالته وعلاجه لأدواء جسمهم ونفوسهم بمؤكدات ثلاثة، أولها - الجملة الاسمية، وثانيها - (إنَّ) المؤكدة، وثالثها - اللام، والله تعالى هو العلي الكبير.
* * *
(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
* * *(5/2717)
إن الله سبحانه وتعالى في حكمته البالغة لَا يجعل الكافر في يأس من مغفرته، ولا يطمع في أن ينجو من عقابه إن أصر على معصيته، ولم يتب وهو في عافية وقوة، ولذا قال تعالى:(5/2718)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
(فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ).
يخاطب الله نبيه الكريم بقوله: (فَإِن كذَّبُوكَ) كافرين برسالتك، فلا تجعلهم في يأس من أن يتوبوا، وينتهوا من كفرهم إلى إيمان بربهم، وقل لهم عن ربك فاتحا باب التوبة والإيمان من غير أن تؤيسهم (رَبُكمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَة) أي صاحب رحمة وسعت كل الوجود أنعم على الناس بالوجود، والنعم المترادفة لعصاتهم والطائعين فيهم، وقد فتح باب التوبة للعصاة، والثواب ثابت للطائعين. وإنه مع هذه الرحمة الواسعة التي وسعت كل عاص يفتح باب التوبة له، والطائع بالثواب والنعيم المقيم، إنه سبحانه مع ذلك لَا يترك العصاة المصرين من غير عقاب إذا استمروا على غيهم؛ ولذا قال تعالى:
(وَلا يُرَدُّ بَأسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).
البأس الشدة، والظاهر أن المراد هنا العذاب الأليم يوم القيامة، وعبر سبحانه بقوله: (الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)، بلفظ القوم؛ لأن الإجرام يكون في جماعة تتضافر على الشر ويتعاونون على الإثم والعدوان، ونادر أن يكون من واحد بمفرده، أو عدد متنافر غير متجمع متعاون على الشر. هذا وإن سنة الله تعالى في كتابه الحكيم أن فتح التوبة مرغبا فيها، وأن يذكر بجوارها العقاب، كما قال تعالى:
(. . . وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَاب).
وكما قال عز من قائل: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50).
وكقوله تعالت كلماته: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14).
وكقوله سبحانه: (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ).
* * *(5/2718)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)
(سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ ... (148)
* * *
يبين الله سبحانه وتعالى ما يجول في قلوب الذين أشركوا وما أبدوه وهو قول الذين يعتذرون عن كفرهم بإلقاء التبعة عنهم، وقولهم هذا لَا يؤمنون به ولا يخضعون له، ولكنهم قوم خصمون، والمجادل المموّه يحتج بالحجة الباطلة وغير الباطلة.
إنه لو شاء الله ما أشركوا ولا آباؤهم، ولا حرموا من شيء، ولكنهم في وسط هذا القول الظاهر ينسون حقيقتين:
الأولى - أنهم عصوا الله، وأشركوا به، وحرموا ما حرموا مختارين وغير مجبرين، وأنه على ذلك يكون حسابهم وعقابهم في الآخرة ومؤاخذتهم في الدنيا ببيان أنهم خارجون عن الحق ينحرفون عنه، وفوق ذلك حرموا ما حرموا، وادعوا من غير أي برهان أو حجة بأن التحريم من الله افتراء عليه.
الثمانية - أنه ما كان الله تعالى ليتركهم في غيهم إلا لأنهم اختاروا السير في طريق الضلالة، فتركهم الله يسيرون فيه حتى بعدوا عن الحق بالضلال البعيد.
وإن ذلك دأب الخارجين، فخرج الذين من قبلهم بذلك القول الذين يلقون به الإثم عن أنفسهم وهو محيط بهم، لَا يخرجون من دائرته، ولذلك قال تعالى:
(كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِين مِن قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقوا بَأسَنَا).
كهذا القول الذي سيقوله الذين أشركوا ما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء قال الذين سبقوهم بالشرك من قبلهم، فالشر مسلسل فيهم ما داموا قد غووا، والكفر كله ملة واحدة في التفكير واستيلاء الهوى، وعدم تحملهم مسئولية فعلهم بإلقاء التبعة على غيرهم، ونفيها عنهم، واعتذارهم بأنهم لَا يؤاخذون على ما يرتكبون من آثام، وذلك الشأن في العصاة، يروى أنه حدث أن مرتكبا لما يوجب حدا سيق إلى عمر، فسأله لم ارتكبت هذا؟ قال: قضاء الله، فأقام عمر عليه الحد، وزاده أسواطا لأنه يحمِّل قضاء الله تعالى مسئولية عمله، ولقد قال(5/2719)
الإمام أبو جعفر الصادق بن محمد رضي الله عنه: أمرنا الله أمرا وقضى لنا أمرا، فلماذا نترك ما أمرنا، ونحمله على ما قضى لنا.
ذلك شأن الذين يفسقون عن أمر ربهم يلقون عن أنفسهم أوزارهم كاذبين بمثل هذه الاعتذارات وهم لَا يؤمنون بها.
وإنهم استمروا على غيهم وعلى قولهم حتى ذاقوا عذاب الله تعالى، ولذا قال الله تعالت كلمته (حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا).
وهذا يحتمل أن يكون بأس الله بقوة المؤمنين في الدنيا، ويحتمل أن بأسه بعذابه الأليم في الآخرة، وكيفما يكون العذاب فإن الله تعالى عبر بالماضي، وهو واقع في المستقبل للدلالة على تأكد وقوعه، كما في قوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ).
وإن هذه الاعتذارات التي يسوقونها بأنه لو شاء ما أشركوا ولا حرموا بعض الأنعام افتراء على الله فهل عندهم حجة على أن شركهم برضا الله، وأن تحريمهم ما حرموا بأمره أو رضاه لَا حجة عندهم، ولذا قال تعالى مفحما لهم رادا على افترائهم.
(قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا).
قل يا محمد في جدلهم مفحما لهم إن ادعاء رضا الله لَا يكون بمثل ظنكم، ولكن يكون بعلم جاء إليكم من الله، فتحتجون بهذا العلم، لَا بمجرد الظن والتخمين، وكثرة الكلام، والتهافت فيه، فهل عندكم من علم فتخرجوه لنا تحتجون به، وتسوغون كلامكم إن كان فيه ما يسوغ ما تزعمون.
والاستفهام للإنكار والتوبيخ، واستغراق النفي المتضمن له الاستفهام بـ (مِن) يفيد الاستغراق، أي هل عندكم من علم أي علم تزعمونه فتخرجوه لنا ليكون دليلا لكم؟.(5/2720)
وهذه الجملة السامية فيها إفحام، واستنكار، وتهديد وتوبيخ، وقد أكد الله تعالى أنه لَا علم عندهم فقال: (إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ).
إنهم لَا حجة لهم من علم أوتوه، ولا من دليل اعتنقوه، ولكن الظن الذي سبق إليهم، وتوهموه حقا لَا شك فيه هو دفعهم، وإن الظن لَا يغني من الحق شيئا، فهو رجحان أمر في نفوسهم جعلوه حراما، وذلك الظن لم يبنوه ولو على دليل ظني مرجح، ولكن على خرص وتخمين سيطرت عليه أوهامهم ووجهتهم إليه، وهذا معنى أو قريب من معنى قوله تعالى: (إِن تَتَّبعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) و (إنْ) للنفي، و (إلا) للاستثناء، أي ما يتبعون إلا الظن، فهذه الكلمة السامية نافية أن يكون دليلا مقنعا أو ملزما باليقين، ولكنهم يتبعون ظنا ترجحه أوهامهم، وأكد أن الظن مبني على أوهام بقوله تعالى: (وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصونَ) أي ما هم إلا يخمنون تخمينا قائما على الأوهام المضللة، وقد ضلوا بذلك ضلالا بعيدا.
وقد التفت الله سبحانه في خطابه الكريم من الغيبة إلى الخطاب لتكون المواجهة أرهب في نفوسهم، وليفزعوا إلى الحق وليلتزموا قول الحق - ولكنهم لَا يعلمون.
* * *(5/2721)
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
(قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
* * *
ساقوا كلاما كثيرا في تبرئة أنفسهم من ذنب شركهم، وتحريمهم بعض ما أحل الله، وطولبوا بالحجة، فلم يجدوا عندهم ما يستدلون به، وتحداهم رب البرية أن يأتوا بعلم أي علم، وقد بهت أولئك الكفار، بما طلب إليهم أن يأتوا به، وفى هذه الآية الكريمة يبين الله أن عنده الحجة البالغة أي التي تبلغ بصاحبها أقصى الحق والاستدلال، فـ (بالغة)، معناها مبلغة صاحبها أقوى الأدلة، كقول الله تعالى: (. . . عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ)، أي مرضي بها، أو مرضية، وإن استعمال المشتقات بعضها مكان بعض هو من أبلغ البيان العربي.(5/2721)
قوله تعالى: (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والفاء للإفصاح عن شرط مقدر، المعنى إذا لم يكن عندكم من علم أيَّ علم بما تدعون، فالله تعالى عنده الحجة البالغة الموصلة للحق الهادية إليه.
وتلك الحجة البالغة هي هذا الخلق والتكوين والإنثاء وتوليد الأحياء بعضها من بعض، فكل هذا يدل على الخالق الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، وليس كمثله شيء وهو السميع العليم، ولوكان معه آلهة كما يقولون لفسدت السماوات والأرض، وهكذا كل ما في الوجود يدل على أنه واحد سبحانه وتعالى، وأنتم معشر العرب تقرون أنه الخالق وحده ليس كمثله شيء، ولكن مع هذه الحجة التي لَا يمتري فيها عاقل، وتقرون بها تشركون معه غيره في العبادة، والألوهية، فضلت عقولكم، ولم ترتبوا على المعلوم نتيجته، بل حكمتكم من بعد ذلك الأوهام، وسيطرت. وتلك مشيئة الله تعالى (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكمْ أَجْمَعِينَ) أي أن الله تعالى شاء لكم الضلالة لأنكم اخترتموها وسرتم في طريقها بإرادتكم المختارة، فوصلتم إلى الضلال.
وهم في قولهم معتذرين مبطلين: (. . . لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِن شيْءٍ) قد حسبوا أن مشيئة الله تستلزم رضاه، كما فهم بعض الفرق الإسلامية من بعد، ولذا قالوا ما قالوا، والحق أن المشيئة لَا تستلزم الرضا، إنما الأمر هو الذي يستلزم الرضا والنهي يستلزم الغضب، فالهداية هي التي تستلزم الرضا؛ ولذا قال تعالى: (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكمْ أَجْمَعِينَ).
أي أن كل شيء في الوجود تحت سلطانه وإرادته، وهو لو أراد أن تكونوا جميعا على هدى لكان ذلك، ولكنتم جميعا في أعمالكم في رضوان الله تعالى.
وإنما أراد أن يكون منكم المهديون الدعاة إلى الحق، المؤمنون به، وأراد منكم من يكون على غير ذلك ليتم الابتلاء والاختبار، وهذا قوله تعالى: (ولَوْ شَاءَ اللَّه لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً). مهتدين كما قال تعالى: (ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ(5/2722)
النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119).
وكما قال لو شاء لجمعهم على الهدى وكما قال تعالى: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا).
وإننا نؤكد هنا أن الإرادة والمشيئة، لَا يستلزمان رضاه سبحانه، فإذا كان قد شاء ضلالة بعض عباد، فإنه لَا يرضى من عباده الكفر.
ولذا لَا يصح للمشركين، ولا لمن تكلموا في فلسفة أن يربطوا بين المشيئة والرضا، فقد نفَى الله تعالى ذلك نفيا مؤكدا في الكثير من الآيات، وما ربك بظلام للعبيد.
* * *(5/2723)
قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
(قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
* * *
الكلام الكريم لَا يزال فيما حرموه على أنفسهم مما أحله لهم وآتاهم من رزق، وقد طالبهم الله تعالى بما عندهم من علم أي علم بأن الله تعالى حرم هذا، فلم يكن علم أوتوه، ولكن أوهام سيطرت عليهم، والآن يطالبهم ليشهدوا أن الله حرم هذا ولذا قال تعالى: (قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا).
(هَلُمَّ) اسم فعل أمر بمعنى ادعوا أو هاتوا شهداءكم، أي الذين تعدونهم قدوتكم، والفضلاء فيكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا.(5/2723)
وإن هذا الكلام سائر مع سيأتي القول في تحريم ما أحل الله من رزق فجعلوا منه حراما وحلالا، فقد بين الله سبحانه وتعالى في الآية السابقة أنهم لا يستيقنون بشيء إن يظنون إلا ظنا، وأنهم يخرصون أو يكذبون، ولذلك دعاهم إلى أن يحضروا أماثلهم ليشهدوا أن الله تعالى حرم هذا، وإنهم حينئذ يرفضون، وذلك لأن أماثل العرب لَا يشهدون كاذبين، وإن كانوا كافرين، وإنا لنذكر أن أبا سفيان - زعيم الشرك قبل الفتح المبارك لمكة - عندما سأله هرقل أجاب إجابة صريحة صادقة وهو متململ، وقال: لولا أني أخشى أن تحفظ عني كذبة في العرب لكذبت. فما كان الأماثل منهم يسارعون إلى الكذب أو يرضونه. طلب الله أن يحضروا شهداء ليشهدوا أن الله حرم هذا، وإنهم لَا يشهدون.
ولكن حال تكذيبهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، واتباعهم أهواءهم، وسيطرة الأوهام عليهم قد تغلب عليهم نزعة الصدق، ولذا كان أمر الله تعالى الذي أمره بدعوتهم بأنهم إن شهدوا بالباطل، وليس بمستحيل على من أشرك فقد تدفعه لجاجة الكفر إلى أن يطمس معالم الحق فيكذب، إن شهدوا بغير الحق، (فَلا تَشْهَدْ مَعَهمْ) أي فلا تصدقهم؛ لأن الهوى قد يغلبهم على سجيتهم، ومن يشرك لَا يؤمن كذبه، ولو كان من أهل الصدق، ولذا قال تعالى: (فَإِن شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فإن غلب عليهم فشهدوا بالباطل كما ذكر، فأنكر عليهم شهادتهم، ولا تشهد معهم، ولا تسايرهم، وهذا معنى قوله تعالى: (فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) أي فلا تسايرهم في كذبهم الذي ينبعث من الهوى، ولذا قال تعالى من بعد.
(وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ).
نهى الله تعالى نبيه الكريم، ونهيه نهي لكل الذين اتبعوه، ويتبعونه إلى يوم الدين، نهاه عن أن يتبع أهواءهم، لأن الهوى ذاته يضل، ولا يهدي، ومن جعل إلهه هواه، فقد ضل سواء السبيل.(5/2724)
ونص القرآن: (وَلا تَتَبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) والمعنى الذي هو المقصود لا تتبع المشركين المفترين على الله تعالى الذين يحرمون ما يحرمون، ويفترون على الله الكذب. فيزعمون أنه الذي حرم، وعبر عن المشركين بقوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ) لأنه لازم لاتباعهم، لأن من اتبعهم، فإنما يتبع أهواءهم المنحرفة، وكيف يتردى مؤمن في اتباع الهوى، والهوى مضل، ومُرْدٍ، وأنى يكون ذلك من نبي كريم، ومن أتباعه الكرام.
ولذلك كان النهي عن اتباع هواهم، وقد ذكر لهم أوصافا ثلاثة مع أنهم أصحاب هوى وليسوا أصحاب عقل:
الوصف الأول أو الحال الأولى من أحوالهم - أنهم كذبوا بآياتنا آي بآيات الله تعالى في الكون الدالة على وحدانيته سبحانه وتعالى، فكذبوا الآيات الدالة على وحدانيته، ومعنى تكذيبهم هذه الآيات أنهم لم يعملوا بمقتضى ما تدل عليه من القدرة القاهرة، والإرادة المختارة، وكذبوا بالآيات الدالة على نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وكذبوا بالآيات القرآنية، والأحكام التي نزل بها وحي الله تعالى على نبيه الأمين الكريم - صلى الله عليه وسلم -.
والمكذب بالحق المعلوم الذي تبهر آياته البينات، لَا يصح أن يتبع لأنه ضال مضل.
الوصف الثاني أو الحال الثانية - أنهم لَا يؤمنون بالآخرة، ومن ينكر الآخرة ينكر حقيقتين لَا ينكرهما مؤمن، ولا يقع في هذا الإنكار إلا مادي لَا يؤمن بالغيب، وهو لب الإيمان.
أولى هاتين الحقيقتين - إنكار البعث، ويقولون: إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، وما نحن بمبعوثين، وهم بذلك يحسبون أن الله سبحانه وتعالى خلقهم عبثا، وأنه تركهم سدى، (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ).(5/2725)
الثانية - أنهم ينكرون الحياة الروحية، ولا يؤمنون إلا بالحياة المادية، ومن كان كذلك لَا يتبع.
الوصف الثالث - وهو الحال الثالثة، وهي نتيجة للأمرين، وهي أنهم بربهم يعدلون، أي يجعلون الأوثان، - وهي حجارة - معادلة للعبادة مع ربهم الذي خلقهم، وكوَّنهم، وربَّهم بربوبيته، أي أنه خلقهم ولم يتركهم، بل قام على تطويرهم من حياة إلى حياة، فهو الحي القيوم القائم على كل شيء الذي يكلؤهم بالليل والنهار سبحانه الواحد القهار.
وتقديم (بِرَبِّهِمْ) على (يَعْدِلُونَ)، لبيان ضلالهم في مساواتهم الله ربهم بالأوثان، وهو تأنيب لهم، وبيان لضلال عقولهم.
* * *
وصايا الله
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا(5/2726)
وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
* * *
هذه وصايا عشر هي وصايا الله تعالى لبناء مجتمع إنساني كامل، يقوم على أساس التعاون الإنساني والمودة ودفع الأذى ووقاية المجتمع من الآفات، ورعاية الضعفاء.
ولقد قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات(5/2727)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) إلى قوله تعالى: (لَعَلَّكمْ تَتَّقونَ).
هذا ما قاله ابن مسعود الصحابي الفقيه النافذ ببصيرته في معاني القرآن الكريم، ومستخرج الأحكام من بين ما نص عليه وما ظهر، وما استكن من معانيه العالية.
وفى الحق إن هذه الوصايا الإلهية التي هي وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم عليها بناء المجتمع الإنساني السليم، وبها تحارب الآفات الاجتماعية التي تتردى بها الجماعات في مهاوي التفرق والانحلال. فيها تطهر النفس والعقول من آفات الفكر، وتطهير المجتمع من التقاطع والتنابذ ومنع الاعتداء بأي نوع من أنواعه. وفيها، التعاون على حماية الضعفاء، وفيها إعطاء كل ذي حق حقه، وفيه إقامة العدل في كل ضروبه الذي هو ميزان الحقوق والواجبات، وفيها الوفاء بالعهود الذي هو رباط الجماعات الإنسانية مهما تختلف أجناسها وشعوبها وقبائلها.(5/2727)
وإن شئت أن تقول إن فيها أكثر التكليفات الاجتماعية البانية والواقية، وهي متفق عليها في كل الديانات السماوية، ومقررة في كل الشرائع العادلة، وإن لم تكن فيها على هذا السمو الرفيع كما جاء في القرآن.
(قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
خاطب الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - ليبلغ جوهر رسالة ربه بأن يقول بهم: (تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) أي أقبلوا أيها الناس أجمعين في شتى الأرض أجناسا وشعوبا وقبائل، وأقبلوا بعقولكم وأنفسكم أبين لكم ما حرم عليكم، فالنداء بـ (تَعَالَوْا) دعوة لإقبالهم له بكل مداركهم وتفكير وتنبيه لعظم ما سيبينه لهم من وصايا وتكليفات، والتلاوة هي قراءة القرآن الكريم مرتلا متتابعا في كلماته وأساليبه، والمراد هنا البيان لأن البيان؛ ثمرة تلك التلاوة المتتابعة الموضحة، فهذا تعبير بالمسبب عن السبب.
وقوله تعالى: (مَا حَرَّمَ رَبُكُمْ عَلَيْكُمْ)، (ما) اسم موصول بمعنى الذي، أي أبين لكم الذي حرمه الله تعالى عليكم، ويصح أن تكون ما موصولا حرفيا، ويكون المؤدى تعالوا أتلُ تحريم ربكم تعالى عليكم.
وفى التعبير بقوله تعابى: (مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) إشارة إلى أن ذلك من ربكم الذي خلقكم وربَّكمْ، وهذبكم، وهو العالم بالأمور كلها، وهو المحيط بما فيه خيركم، و (حرَّمَ)، إنما هو في الأمور الخمسة الأولى التي آخرها، (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ)، فإن هذه الخمسة محرمات ننتهي عنها وإذا شئنا الإحسان إلى الوالدين، أما الباقي فأكثره مأمورات من الوفاء بالكيل والميزان، وألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، فهو في معنى الأمر في معاملة اليتيم بالتي هي أحسن في ماله، ثم إقامة العدل والوفاء بالعهد فهذه أوامر لَا محرمات.
هذه الأوامر المذكورة في الآيات نهيا أو طلبا هي تسعة إن جعلنا الوفاء بالكيل والميزان أمرا واحدا، وإن جعلناها أمرين تكون عشرة كاملة.(5/2728)
(أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) هذا هو الأمر الأول الذي حرمه الله تعالى، وهو أعظم الأمور، وأقواها أثرا لأنه يتعلق بخالق الكون ومنشئ الوجود، وأصل الاعتقاد الديني، وهو أول الشريعة، وعليه اجتمعت كل الرسالات، كما قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ).
فالواحدانية لب الإيمان، والله تعالى يجعل كل السيئات قابلة للغفران إلا الشرك، ولذا يقول تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْركَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ).
وإن الوحدانية فيها تطهير للعقول من رجس الأوثان، والإذعان للإنسان والأوثان، وهي تربي العزة في المرء، فلا يخضع إلا للواحد الأحد، الفرد الصمد، وذلك من يعبد غير الله، ومن يخضع لغيره، وأنه إذا كانت الوحدانية برا بالخالق، فإن الإحسان إلى الوالدين برٌّ بمن جعلهم الله سببا ماديا في وجود الولد ولذا قال تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
هذا هو الأمر الثاني وهو الوصية بالوالدين، والوصية بهما هي الإحسان إليهما، والإحسان مرتبة أعلى من العدل، إذ هو فوق العدل في الرحمة والرأفة، فهو عدل ورأفة ووفاء وبر، ولذلك كان الأمر بالإحسان بجوار الأمر بالعدل، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90).
وقال تعالى: (وقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا). وإن الأمر بالإحسان يتضمن النهي عن الإساءة، إذ هو نهي عن الإساءة، وأمر بفضل العاطفة والمواساة والقرب، وإحسان الصحبة.
وإن الله تعالى أمر بالإحسان إلى الوالدين مقترِنا بالنهي عن الشرك في كثير من الآيات الكريمة، فقال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ(5/2729)
إِحْسَانًا)، وقرن الله تعالى شكر الوالدين بشكر الله وجمعهما معا، فقال تعالى: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15).
والإحسان إلى الوالدين شريعة النبيين أجمعين قد كلفها بني إسرائيل، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا).
فمن يعق الوالدين فهو فاسق عن أمر الله ونهيه. (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) هذه هي الوصية الثالثة،
وقد نزل سبحانه من إكرام الأصول والإحسان إليهم إلى الإحسان إلى الأولاد،
ولم يذكر سبحانه الإحسان إلى الأولاد لأنه أمر فطري تتقاضاه المحافظة على النفس، فالولد امتداد أبيه وما جاء القرآن بالأمر بالإحسان إلى الأولاد، ولكن أمر الإسلام بالقيام على تربيتهم ورعاية شئونهم ورزق أمهاتهم، كما قال تعالى:
(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ)،
ولكن كان في وحشية الجاهلية من يئد بناته بغيا بغير علم، وكان من يفعل ذلك وغيره لإملاقهم، والإملاق الفقر من كثرة الإنفاق، وقد نهى سبحانه وتعالى عنه، فقال: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكم مِّنْ إِمْلاقٍ) أي من فقر بسبب الإنفاق عليهم، وهو متلاق في المعنى مع قوله تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكمْ. . .)، فكأنه كان في الجاهلية من يقتل أولاده لإملاق واقع بسبب الإنفاق، ومن يقتل ولده لأنه يتوقع الإملاق إن لم يقتله.
وقد نهى الله تعالى عن ذلك الإثم الجاهلي، وهو من إغواء الشياطين، ولعله كان يسهل على الذين يفعلونه معهم، أنهم يفعلون ذلك، وهم بعد في المهد، أو عقب ولادتهم، فلم يكونوا تعلقوا بهم تعلق الآباء بالأولاد، وكانوا يفعلون ذلك سفها بغير علم، ولم يكونوا قد ذاقوا محبتهم؛ بالإلف، والتودد،(5/2730)
وقد قال تعالى في بيان أن الفقر أو الإملاق لَا يبرر؛ لأنهم لَا يرزقونهم، ولكن يرزقهم الله، ولذلك قال تعالى: (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) أي نحن نرزقكم معهم، كما رزقناكم وحدكم: (ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا. . .).
وقد فهم بعض العلماء من هذه الآية أن منع النسل لَا يجوز بعزل أو نحوه، والعزل أن يلقي النطفة خارج الرحم، ولكن رويت آثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى العزل، ولم يأمر به ولم ينه عنه (1)، ولكن جاء آخر الحديث في هذا الباب، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " العزل هو الوأد الخفي " (2).
وروي عن الصحابة أنه رأى أن العزل ليس به من بأس، ولكنه خلاف الأولى، ورأى آخر منعه، والفقهاء بعد ذلك اختلفوا فيه، فمنهم من قال إنه مكروه، ومنهم من قال إنه حرام كالحنابلة وأهل الظاهر، والغزالي قال إنه لَا يجوز إلا إذا كان ثمة عذر إليه، وفتح باب الأعذار على مصراعيه حتى لخشيت المرأة على جمالها، فإن زوجها يعزل عنها، ولكنه منع منعا مطلقا العزل أو حد النسل خوف الإملاق أو للإملاق، فإن ذلك يكون مصادمة للنص، ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق، والقول الفصل في الحد من النسل المترتب على العزل ونحوه، أن جمهور الفقهاء لم يرضه، حتى إن الغزالي الذي فتح باب المبررات له، قال: إنه لا ينبغي.
ومهما يكن فإنه من المؤكد أن الذين قالوا ليس به من بأس قرروا أن ذلك بالجزء لَا بالكل، أي أنه يكون لمن يريد ذلك أن يفعل، إذا كان له مبرر، على التوسعة في المبرر عند الغزالي. ولكنه حرام بالكل، أي حرام أن يدعو أحد إليه،
________
(1) من ذلك ما جاء في باب العزل من صحيح البخاري ومسلم، ففي صحيح مسلم: النكاح - حكم العزل (1438) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: ذُكِرَ الْعَزْلُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " وَلِمَ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ؟ - وَلَمْ يَقُلْ: فَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُكُمْ - فَإِنَّهُ لَيْسَتْ نَفْسٌ مَخْلُوقَةٌ إِلَّا اللهُ خَالِقُهَا ".
(2) سبق تخريجه.(5/2731)
أو تدعو الدولة إليه؛ لأن ذلك مناهضة للنص الكريم في القرآن، وقوله: " تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة " (1).
وقد قرر مجمع البحوث الإسلامية المنعقد في الأزهر سنة 1965 أن الإسلام يرغِّب في النسل؛ لأنه يقوي الأمة اجتماعيا، واقتصاديا، وحربيا، ويربي في الأمة روح العزة والمنعة، وقرر أن تنظيم النسل حق للزوجين دون غيرهما، يستعملانه للضرورة، ومسئوليتهما عن الضرورة أمام الله وحده.
(وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)
هذه هي الوصية الرابعة، وهي تتصل بالأولاد عن قرب أو عن بعد؛ لأن أخصِ الفواحش هو الزنى وقد قال تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا).
والفواحش: جمع فاحشة، والأصل في الفحش الزيادة عن الأمر المعتدل، والفاحش هو الزائد عن المعقول، ولذا يقال غبن فاحش أي زائد عن الحد المعقول في الصفقة؛ إذ لَا يدخل في تقويم المقومين، والفواحش هي المعاصي لأنها انحراف، وزيادة عن الفطرة وخروج عن منهاجها، وعن الطريق المستقيم، والظاهر ما يعلن، ويجهر به، والجهر بالمعصية في ذاته حرام، وما بطن أي وما استتر ولم يجهر به، وهو إثم، ولكنه دون إثم المجاهرة، ومن يجهر بالمعاصي، فإن ما يفعله إثمان إثم الفعل وإثم المجاهرة، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن من أشد الناس بعدا عن الله المجاهرين " قيل: ومن هم؟ قال: " ذلك الذي يعمل عملا بالليل قد ستره الله فيصبح يقول فعلت كذا وكذا يكشف ستر الله " (2)، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه
________
(1) رواه أبو داود: النكاح - النهي عن تزويج من لم يلد من النساء (2050)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (12202). عن أنس رضيِ الله عنه.
(2) عن أبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ". متفق عليه: رواه البخاري: الأدب - ستر المسلم على نفسه (6069)، وَمسلمَ: الزهد والرقائق - النهي عن هتك المسلم ستر نفسه (2990).(5/2732)
الشافعي: " يا معشر الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات فاستتر فهو في ستر الله ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد " (1).
ومن المعاصي ما يستتر استتارا؛ لأنه خلجات القلوب ولم يظهر في العمل لَا لعدول صاحبها، ولكنه فوجئ ما فوت عليه مقصده كمن بيت الاعتداء، أو الزنى، واتجه إلى الفعل، ولكن فات عليه ارتكابها لأمر خارج عن إرادته، فإنه يكون قد أبْطن معصيته، ولكن لم يُمكَّن من ارتكابها رغما عنه لَا مريدا، فإن من الآثام ما يكون باطنا، وعليه الإثم، وكمن يهاجر إلى مكان لَا يريد الهجرة لله أو لعمل صالح، ولكن يريد الفسق والفجور أو البغي، فإن هذا يكون فاحشة مما بطن. وهذا النص مثل قوله تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ. . .).
وقد يسأل سائل، إن هذا النص القرآني وما يشبهه فيه نص على المؤاخذة على ما في النفس وما يبطن، مع أن الحديث بأن الله تعالى لَا يؤاخذ على ما يحدث المرء به نفسه، وقال عليه الصلاة والسلام: " من هم بحسنة فلم يفعلها كتبت له حسنة، ومن همَّ بسيئة فلم يفعلها لم يكتب عليه شيء " (2)، فإن هذا حديث النفس أو همُّها، من غير أن تشرع بعمل، بل عدل من تلقاء نفسه.
وما في النص السامي الذي نتكلم في معناه هو من ارتكب الشروع، ولم يقتصر على حديث النفس ولا هم النفس والعدول، بل أراد الفعل وقصده، وأخذ في الأسباب، ولكن لم يتم لأمر خارج عن إرادته.
________
(1) رواه مالك في الموطأ: الحدود - ما جاء فيمن اعمْرف على نفسه بالزنا (1562).
(2) رواه الإمام البخاري: الرقاق - من هم بحسنة أوسيئة (6491)، وفي رواية: التوحيد (7501).
كما رواه مسلم: الإيمان - إذا هم العبد بحسنة (128) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وعلى هذا فإن من هم بسيئة فلم يفعلها - ابتغاء مرضاة الله تعالى - كتبت له حسنة. والله أكبر.(5/2733)
(وَلا تَقْتُفوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ).
هذه هي الوصية الخامسة التي أوصى بها رب العالمين، وهي النهي عن قتل النفس التي حرم الله تعالى قتلها إلا بالحق، ويكون القتل بحق أي بسبب يوجب القتل.
وهذا النص يفيد تحريم قتل النفس أساسا، فهي على أصل المنع إلا أن يكون ثمة موجب لذلك، فإن ذلك يكون بحق لحماية النفوس العامة، وقد قال - تعالى - في قتل قابيل أخاه هابيل حسدا وبغيا: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
فالقتل حرام، إلا إذا كان ما يبرره فيكون بحق، ومن الحق الذي يوجب القتل، ويحل النفس، أن يقتل غيره أو أن يبغي، أو أن يحارب الله ورسوله وهم قطاع الطريق أو أهل الحرابة كما قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34).
وهكذا نجد الحق الذي يبرر قتل النفس يكون لحماية النفس ذاتها، أو يكون صاحبها قد أباحها.
وإن النهي عن قتل النفس عام إلا إذا وجد ما يبرره، لأن الله تعالى حرم قتلها، فقوله تعالى (الَّتي حَرَّمَ) قتلها فيه الصلة، وهي علة النهي، فقتلها منهى عنه، لأن الله تعالى حرمها، ولذا إذا أباح صاحبها نفسه بردة، أو محاربة للمسلمين، فإن الله تعالى لم يحرم قتلها، فلا نهي، لأنه مباح الدم.
وبذلك يتبين أن الله تعالى نهى عن قتل الذمي المعاهد، ومن دخل أرض المسلمين مستأمنا، لأن عهده عصم دمه، والله أعلم.(5/2734)
(ذَلِكمْ وَصَّاكم بِهِ لَعَلَّكمْ تَذَكَّرونَ).
(ذَلِكُمْ) الإشارة إلى المذكور من النهي عن الشرك والأمر بالإحسان إلى الوالدين، والنهي عن قرب الفواحش وهو نهي عن المقاربة لَا عن الوقوع؛ لأنه نهي عن أن يدنو منها، فمن حام حول الحمى أوشك أن يقع فيها، والنهي عن القرب يدل على النهي عن الوقوع، والإشارة تشمل النهي عن قتل النفس، فهذا كله من وصايا الله سبحانه وتعالى، ووصايا الله تعالى جديرة بالاتباع، وجعل الخطاب في الإشارة بـ (ميم الجمع) لعموم التوصية بهذه الأمور التي أشار إليها، وليتسق القول مع (وَصَّاكُم بِهِ)، وقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي لكي ترجوا دائما أن تكونوا متذكرين. وقوله تعالى (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرونَ) لعل فيه للرجاء والرجاء من العباد لَا من الله تعالى.
والتوصية هي الطلب المؤكد من العباد.
* * *(5/2735)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
(وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ... (152)
* * *
نهى الله تعالى أن يقربوا مال اليتيم أو يأخذوه، وكان التعبير بالقرب، ويكون بالأولى النهي عن أكله لأنه إذا كان النهي عن القرب إلا بالخصلة أو بالطريقة التي هي أحسن لإنمائه وحفظه وصيانته، ومنها الاتجار فيه إذا كان الوصي عليه أمينا قادرا ماهرا لقوله عليه الصلاة والسلام: " اتجروا في مال اليتيم حتى لا تأكله الصدقة " (1)، كان أولى بالنهي أكله.
واليتيم هو الذي مات أبوه، والخصلة التي هي أحسن قال فيها بعض المفسرين، إنه المحافظة على أصوله وتثمير فروعه، ولو عَبَّر فقال المحافظة على الأموال الثابتة كالأرضين والدور والأغراس، وتثمير المنقول بكل طرق التثمير بالأمانة، ولا يأكلها، فإن التعبير يكون أوضح.
________
(1) سبق تخريجه.(5/2735)
وإنما كان النهي عن قرب ماله إلا بما يحفظه وينميه؛ لأنه فقد من يحميه، فَقَدَ الأب الحامي الذي يأخذ بيده إلى مدارج الحياة، يلاحظ جسمه، ويلاحظ ماله؛ إن كان له مال، وهنا لم يذكر إلا المال؛ لأنه مطمع الطامعين ومطلب الذين يأكلون أموال الناس أَكْلًا لَمًّا.
وإن مال اليتيم هو جزء من مال الأمة؛ إن حوفظ عليه كان محافظة على جزء من ثروتها.
وإن المال أمانة في يد وصيه، وفي رعاية الأمة مجتمعة ممثلة في قاضيها، حتى يبلغ أشده، أي يبلغ السن التي يقدر فيها على المحافظة على ماله، والقيام على شئونه في خاصة نفسه، وفي معاملته، والأشُد قيل جمع شَدّ، ككلب وأكلب، وقيل اسم لَا مفرد له، والمراد ما ذكرنا وهو بلوغه حد القدرة على إدارة شئون ماله، وأدناه بلوغ النكاح بأن يكون قد بلغ السن التي يمكن أن يتزوج، وأن يبلغ رشدا، أو يؤنس منه الرشد، بعد بلوغه سن النكاح، قال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6).
وقد شدد الله تعالى في الوصية باليتامى في أموالهم وأشخاصهم لأنهم ضعاف، ولشدة الوصايا بالأيتام كان المؤمنون يخشون على أنفسهم أن يخالطوا اليتامى فيظلموهم أو يأكلوا مالهم فأمرهم الله تعالى أن يكون برهم بالمحافظة على أموالهم، ومخالطتهم؛ لأن المخالطة تقر بها نفوسهم، ويأنسون بها، فلا ينفرون من مجتمعهم، ولذا قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ).
وإن رعاية نفس اليتيم تجعله قريبا بنفسه إلى الناس، ولا ينشأ نافرا منهم؛ لأنه لَا يجد الحماية والرعاية، وينشأ عدوا للجماعة التي يعيش فيها، ولذا قال(5/2736)
تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " شر البيوت بيت يقهر يتيما، وخير بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم " (1).
هذا إصلاح في الأسرة وهو إكرام اليتيم، وأوصى سبحانه وتعالى بالأمانة في الجماعة، فهي رباط المودة فقال تعالت كلماته:
(وَأَوْفوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّف نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)
هذان هما الأمران السابع والثامن اللذان أوصى الله تعالى بهما في ضمن عشر الوصايا، وهما الوفاء بالكيل في المكيلات، والوفاء بالوزن في الموزون بالقسط من غير بخس ولا شطط، ولا زيادة ولا نقص، بل للناس من وفاء الكيل بمقدار ما تطلب، وتعطيهم من الوزن بمقدار ما تطلب لو كنت طالب الكيل والميزان، وذلك على حسب الطاقة في تحري الحق في مكيل غير منقوص، وموزون غير مبخوس؛ ولذا قال تعالى: (لا نُكَلِّف نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) وإن الله تعالى إذ يطالب بالوفاء في الكيل والميزان يذم المطففين لهما، فقد قال تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3).
وكان الأمر بالوفاء؛ لأنه المطلوب، فالزيادة غير مطلوبة إلا من أهل السماحة، والنقص محرم ممنوع.
وإن الوفاء في الكيل والميزان يرمز إلى حسن التعامل في الأمة، ومنع أكل أموال الناس بالباطل الذي يضعفها ويقتلها.
ولذا عقب الله تعالى النهي عن أكل أموال الناس بالباطل بالنهي عن قتل أنفسهم أي تفريق النفوس في جماعتهم، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29).
________
(1) رواه بنحوه ابن ماجه: الأدب - حق اليتيم (3679).(5/2737)
ولقد قال ابن عباس فيما روي عنه كلمة جامعة في آفات الجماعات ونتائجها: (ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط الله تعالى عليهم العدو (1).
هذا وإن العدل في الأمة ميزانها، ولذا قال تعالى:
(وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى).
أمر الله تعالى بالعدل في القول، وأن لَا نقول إلا عدلا، ولذا قال: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) والعدل في القول تحري الحق فيه، فلا ينطق بأمر لَا يكون حقا.
والعدل في القول يشمل الحكم بين المتخاصمين، كما قال تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ). وتشمل الفصل في الخلافات بين الناس، فلا يقول إلا الحق، لأن الحق يحسم النزاع ويقطع دابر الخلاف، ويشمل القول في الشهادة، فلا ينطق إلا بما رأى وعاين، فإن الشهادة حكم أو هي طريق الحكم ودليله، وإذا قلت في مباراة فكن عادلا، وإذا قلت في امتحان فكن عادلاً؛ لأن الامتحان تقدير كفاية فهي حكم.
والعدل ميزان الحق في معاملات الناس وأحوالهم، والإسلام دين العدل، وإذا كان لكل دين سمة فسمة الإسلام هي العدل، ولذا قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90).
ولذا كان العدل رابطة الجماعة وميزانها، وقال تعالى: (وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أي ولو كان الذي يقوم عليه العدل في القول في حكم أو شهادة، أو فصل في
________
(1) الرواية موقوفة على ابن عباس في موطأ مالك: الجهاد - ما جاء في الغلول (998). وختر العهد: نقضه.(5/2738)
خصومة، أو مباراة، أو امتحان، فإنما العدل حيث تتنازع العواطف، وتمتلك النفوس هو فعل الأبرار، وهو المقياس الذي تتفاوت به مراتب العدول.
وإذ كان العدل ميزان الترابط بين الجماعات في الأمة، فالوفاء بالعهد ميزان العدالة في الأمم، ولذا قال تعالى:
(وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفوا).
هذه هي الوصية العاشرة من وصايا الله تعالى وهي تطلب من الناس أجمعين الوفاء بالعهد، وقوله تعالى: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا) قدم فيه (بِعَهْدِ اللَّهِ) لأهمية الوفاء بعهد الله، ولمعنى الاختصاص، أي احرصوا على الوفاء بعهد الله دون غيره.
وعهد الله تعالى الذي يتجه إليه، ما عهده إلى بني آدم من فطرة مستقيمة أنشأهم عليها، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى). وإن تكليفات الله تعالى عهود عليهم.
والعهود بين العباد عهود الله تعالى عليهم؛ لأنهم عادة يوثقونها بأيمانهم، وقد قرر سبحانه وتعالى ذلك، وقال: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92).
فهذه الآية تحث على الوفاء بما يكون من العهود بين الآحاد والجماعات، وهي تدل على ثلاثة أمور:
أولها - أن من وثق عهده بالله فقد جعل الله تعالى كفيلا بالوفاء، والخيانة أو خفر العهد خيانة لله تعالى.(5/2739)
ثانيها - أن الوفاء بالعهد يقوي الأمة فيجعل الناس يثقون بها، وتلك قوة، ولذلك شبه الله تعالى من ينقض عهده بالحمقاء التي تنقض ما فتلته من غَزْل، فتجعله أنكاثا شعرا متفرقا.
ثالثها - أنه لَا يصح أن تكون الرغبة في زيادة الأرض والسلطان سببا لخيانة العهد؛ لأن ذلك ظلم وطغيان، وفقد لقوة أكبر وأعز من النكث في العهد والخيانة وصدق ما قاله ابن عباس فيما نقلنا (ما خفر قوم في العهد إلا سلط الله تعالى عليهم عدوهم).
هذه وصايا الله سبحانه وتعالى، ويلاحظ أنه لم يذكر في هذه الوصايا الصلاة والزكاة والصوم والحج، وهي من أركان الإسلام، والصلاة عمود بهل دين، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا دين من غير صلاة " (1) لأنها لب العبادة. ولماذا لم تذكر الصلاة في هذه الوصايا، مع أنها لَا تقل طلبا في الإسلام عما ذكر من الوصايا العشر؛ ونجيب عن ذلك بثلاثة أمور.
أولها - أن المطالبة بها ذكرت إجمالا في قوله تعالى: (وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفوا) وقد ذكرنا أن أول عهود الله تعالى تكليفاته التي كلفها عباده.
ثانيها - أن هذه الوصايا مجمع عليها في الأديان، وهي الأساس النفسي والعملي لتكوين الجماعات الفاضلة، وقد جاءت بها الأديان كلها، ورضيتها الشرائع الوضعية المستقيمة.
ثالثها - وهي أهمها، أن هذه الآية مكية، ولم تكن الصلاة ولا الصوم ولا الحج قد فرض، والزكاة لم تكن قد نظمت كما ذكرنا آنفا.
________
(1) رواه أبو داود: الخراج والإمارة - ما جاء في خبر الطائف (3026)، وأحمد: مسند الشاميين - حديث عثمان بن أبي العاص (17454)، بلفظ: " لا خير في دين لَا ركوع فيه " أي لَا صلاة فيه.(5/2740)
وقد بين الله تعالى من بعد أن هذه الوصايا هي طريق الله الحق الذي بينه لعباده، فقال تعالى:
* * *(5/2741)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
(وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ... (153)
* * *
(الواو) واو العطف، فهي عاطفة هذه الآية على ما قبلها من الوصايا، و (أنَّ) مفتوحة، فهي ليست صدر جملة مبتدأة، بل مصدر منسبك مع ما بعدها، وعاملها (اتل)، واتل عليهم، وبين لهم أن هذا صراطي مستقيما لَا عوج فيه، والصراط: الطريق، فطريق الله تعالى مستقيم، والمستقيم أقرب طريق يوصل إلى الحق، كما أن الخط المستقيم أقرب خط بين نقطتين.
والإشارة إلى ما يبينه الله تعالى من ضلال الذين يحرمون ما أحل الله، وبيان ما أحل وما حرم وبيان ضلال من قتلوا أولادهم سفها بغير علم، وما بينه الله تعالى من نهي عن الشرك، وطلب الإحسان إلى الوالدين، والنهي عن قتل الأولاد من إملاق، والنهي عن القرب من الفواحش والنهي عن قتل النفس التي حرم الله قتلها، والأمر بالإحسان إلى اليتيم ووفاء الكيل والميزان، والعدل في القول والوفاء بعهد الله.
كل هذه المعاني، أو جماعها هو طريق الله تعالى وهو طريق مستقيم، وقوله تعالى (مُسْتَقِيمًا) حال من اسم الإشارة.
والطريق المستقيم الذي هو صراط الله، والذي هو الخط الذي بينه الله تعالى لعباده يجيء بجواره سبل مختلفة هي مثارات الشيطان يضل بها عباد الله تعالى عن الطريقة المثلى، والمنهاج السوي الهادي.
ولقد روى ابن مسعود قال: خَطَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطًّا بيده، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: " هذا سبيل مستقيم " وخط عن يمينه، وعن شماله ثم قال: " هذه السبل ليس(5/2741)
منها سبيل إلا على رأسه شيطان يدعو إليه "، ثم تلا قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) " (1).
ومعنى قوله تعالى (فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) أن هذه السبل التي هي مثارات الشيطان فيها أمران يخرجان بهما عن سبيل الله.
أولهما - أنها آثام لَا استقامة فيها بل هي معوجات مضلة. وثانيها - أنها مع ما فيها من إثم تبعد عن الحق وتتفرق في باطلها، فهي لَا تلتقي مع الخط المستقيم، وتتفرق بعضها عن بعض.
جاء في سنن ابن ماجه بسنده عن العِرْباض بن سارية قال: " وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقلنا يا رسول الله إن هذه موعظة موح فما تعهد إلينا، فقال: تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك من يعش منكم فسيرَى اختلافا كثيرا فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين بعدي. عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات، فإن كل بدعة ضلالة، وعليكم بالطاعة وإن كان عبدا حبشيا، وإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد " (2).
اللهم إن اتباع السبل المتفرقة التي هي مثارات الشيطان، والتي على كل رأس منها شيطان هي التي فرقت أمتك وجعلت بأسها بينها شديدا، اللهم فاهدها إلى صراطك المستقيم.
وإن هذا الصراط هو جماع التوصيات، ولذا قال الله تعالى:
(ذَلِكُمْ وَصَّاكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ويصح أن نعد هذه الوصية العاشرة، وتكون الوفاء بالكيل والميزان وصية واحدة، وهو أولى والإشارة إلى الصراط المستقيم
________
(1) رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (4131)، والدارمي: المقدمة - في كراهية الرأي (202).
(2) رواه ابن ماجه: المقدمة - اتباع سنة الخلفاء الراشدين (44)، وأحمد: مسند الشاميين (16692) من حديث الْعِرباض بن سَاريَةَ رضي الله عنه.(5/2742)
وصى الله تعالى به، أي أمرنا بالوقوف على هدى الله في هذا الصراط أمرا مشددا بألا نحيد عنه، لأن التفرق فيه يجعل أمرنا سددا بددا، لَا تجمعنا فيه جامعة، ولا نسلك طريق هداية، ولذلك قرر بعد هذه التوصية المؤكدة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي رجاء أن تمتلئ قلوبكم بتقوى الله تعالى، وأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية، ولعلكم أن ترجو رحمته بعد خوف عقابه، فإن الله غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا، ثم اهتدى.
* * *
الرسالة المحمدية حجة على المشركين
(ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
* * *(5/2743)
بين الله تعالى صراطه المستقيم، وهو صراط القرآن العظيم، وقد أشرنا من قبل إلى أن هذه وصايا الأديان كلها، ومن بعد ذلك أشار سبحانه وتعالى إلى شريعة موسى مبينة مع شريعة القرآن ليعلم العرب أن ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - وما نزل عليه من قرآن هو تكملة للرسالة الإلهية، فقال تعالى:(5/2744)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
(ثُمً آتَيْنَا مُوسَى الْكتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذي أَحْسَنَ وَتَفْصيلًا لكُلِّ شَىْء وَهُدًى وَرَحْمَةً).
(ثُمَّ) هنا عاطفة على الصراط المستقيم، وما سبقه من وصايا، وفهم من التعبير بـ (ثم) هنا أنها لمجرد العطف على التراخي من غير ترتيب؛ لأن ما يتعلق بموسى عليه السلام سابق على شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - قال الحافظ ابن كثير ذلك، وقال إنه ترقّ في الخبر من الحاضر إلى الماضي، واستشهد بقول الشاعر:
قلن لمن ساد ثم ساد أبوه ... ثم من قبل ذاك قد ساد جدهْ
ونحن نرى أن (ثم) هنا للترتيب والتراخي أيضا؛ لأن الترتيب والتراخي كما يكون في المستقبل يكون في الماضي، فهو قد ذكر الأب، ثم ذكر الجد، وذلك تراغ في الزمن الماضي. وليس ذلك غريبًا في استعمال (ثم)، فهو ترقٍ في الذكر من الحاصر إلى الماضي، وفي الماضي ذلك التراخي، وإن ذلك يتلاقى مع قول أبي السعود: إن (ثُمَّ) تجيء للتراخي في الإخبار مع الترتيب، كأن تقول: قابلتك اليوم، ثم بالأمس، ثم قبل ذلك، فان استعمال (ثُمَّ) هنا في موضها.
ويكون معنى قوله تعالى: (ثم آتَيْنَا موسَى الْكِتَابَ) إننا وصينا بالصراط المستقيم الذي هو صراط الله تعالى، وهوالقرآن الكريم، ثم من قبل ذلك آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا. . . . أي أن هذه الوصايا العشر، قد آتيناها من قبل موسى، كما قال تعالى: (وَكتَبْنَا لَهُ فِى الأَلْوَاح مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْعِظَةً). وكما قال تعالى: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا).(5/2744)
وكما قال تعالى: (وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً). وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا.
وفى الجملة: إن الله تعالى يقرر بهذا أن الشرائع السماوية في الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر ظاهره وباطنه وأن حديثها في الوحي والتنزيل واحد.
وقال تعالى: (تَمَامًا عَلَى الَّذِى أَحْسَنَ) أي تتميما وتكميلا لنعمة الهداية فلا شيء أتم من الهداية والتوفيق إلى الصراط وبيان الحق، ولأنه الكمال والتمام للخير جعله الله تفصيلا لكل شيء من شئون الهداية والتوجيه، فهو كتاب قد آتاه الله تعالى موسى فيه كمال الخير وبيانه، ووصفه الله سبحانه وتعالى بوصفين كريمين.
أحدهما - أنه هدى فهو يهدي إلى الحق ويرشد الذي أحسن التلقي، وكان قلبه مفتوحا للحق ويدخل إليه، ويصل إليه، ولم ينطمس قلبه وبصيرته، ولم يكن على بصره غشاوة.
وثانيهما - أنه رحمة، ففيه تفصيل الخير، وبيان الوصول إلى الحق في كل مسالك الحياة، والهداية ذاتها رحمة، والشريعة التي جاءت بها التوراة رحمة بمن بعث موسى عليه السلام لهم، وإن هذه الهداية والرحمة، الأخذ بها هو طريق لرجاء الإيمان باليوم الآخر، ولذا قال سبحانه (لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يؤْمِنُونَ).
أي أن الله تعالى آتي موسى هذا الكتاب تتميما وتكميلا للذي أحسن التلقي، وشرح صدره لقبول الحق، وجعله الله تفصيلا للحق وبيانا له، ونورا وهدى ورحمة - كان رجاء أن يؤمنوا بلقاء ربهم، فقوله تعالى: (لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) الرجاء فيها من العبيد لَا من الله تعالى.
وهنا يسأل سائل، لماذا كان الرجاء في الإيمان باليوم الآخر وبلقاء الله تعالى، ولم يذكر سبحانه وتعالى غيره مع أن الإيمان له عناصر غير مجرد الإيمان بلقاء الله تعالى؛ ونقول في الإجابة عن ذلك، إن الإيمان بلقاء الله تعالى هو(5/2745)
الجامع لكل معاني الإيمان، فمن آمن باليوم الآخر لَا يصعب عليه الإيمان بأي جزء من أجزاء الإيمان من بعد، ولذلك كان النكير من العرب والاستغراب في الإيمان بالبعث والنشور.
وفى قوله تعالى: (لَّعَلَّهُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ) ذكر لقاء الله الذي خلقهم وربَّهُم كناية عما يكون في اليوم الآخر؛ لأن لقاء الله تعالى هو أعظم ما يكون في يوم الدين.
* * *(5/2746)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
(وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ ... (155)
* * *
الإشارة إلى القرآن لأنه حاضر مهيأ كامل، وهو مبارك لأنه يشمل الخير والحق والفضل، وفيه مصالح الناس في معاشهم، وفيه الشريعة الإنسانية الكاملة ما ترك صغيرة ولا كبيرة من أمر الدين إلا بينها وفصلها تفصيلا، ففيه ما يطهر الروح والجسم، وفيه ما يطهر الجماعة وينميها، وفيه ما يجمع الناس على الود والرحمة، وفيه ما يحقق العدالة والميزان في هذا الوجود، فهو مبارك، وإنه لمستمر لكل من يتلقاه مهتديا بهدى الله تعالى، فهو حبل الله تعالى إلى يومه فهو مبارك في كل نواحيه. وهذا كقوله تعالى: (وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92).
وإذا كان الكتاب له هذه البركة وهذه الهداية فإن اتباعه يكون واجبا ولازما، لمصلحتهم، فإن فيه النفع العميم؛ ولذا قال تعالى: (فَاتَّبِعُوهُ)، (الفاء) تفصح عن شرط مقدر وجوابه الأمر (اتبعوه)، وقوله تعالى: (وفَاتَّبِعُوهُ) كان لرجاء الخير منه، وقوله بعد ذلك: (وَاتَّقُوا) كانت للوقاية من العذاب، فالاتباع لرجاء النفع، والاتقاء لتجنب ما يترتب على المخالفة من عقاب بعد الحساب، فالأمران فيهما ترغيب في الخير بالاتباع، وترهيب باتقاء نار جهنم عند الاختلاف والعاندة، وختم الله تعالى الآية بقوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).(5/2746)
أى إذا اجتمع اتباع القرآن والأخذ بهدايته وشريعته، وكانت التقوى في قلوبكم، فإن الرحمة ترجى لكم، ولذا قال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي رجاء أن تكون رحمة الله تعالى تعمكم، ورحمة الله وسعت كل شيء والرجاء من العبيد، لَا من الله، ويصح أن نقول إن الآية فيها بيان أن الرحمة هي الغاية المرجوة للاتباع والتقوى.
وهنا يجب أن نلاحظ أن القرآن الكريم يذكر دائما شريعة موسى عليه السلام، وذلك لأن موسى أنزل عليه الكتاب وهو التوراة فيه بيان كل شيء وفيه ما كان عقابا لبني إسرائيل، ولذلك عندما سمع نفر من الجن قالوا كما أخبر القرآن الكريم: (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31).
وإنه كان من المشركين من يعثذرون عن عبادة الأوثان بأنه لم يجئ إليهم من يهديهم كاليهود والنصارى، فذكر الله سبحانه وتعالى أنه أنزل إليهم الكتاب المبارك لكي يقطع عذر جهلهم، فقال تعالى:
* * *(5/2747)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
(أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)
* * *
المشركون كانوا يعتذرون عن وثنيتهم بكل تعلة سواء أكانت مقبوله أو مرذولة، فهم كانوا يرون اليهود والنصارى لَا يعبدون الحجارة، وإن كان فيهم - خصوصا النصارى - من يقدسون بعض الأحجار كتمثال العذراء. فكانوا يعتذرون عن وثنيتهم بأنه لم يجئ كتاب يهديهم إلى الحق كهاتين الطائفتين.
وقوله تعالى: (أَن تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ) متصل بالآيات التي قبلها، فهي قطع الطريق عن تعلة متعللون، وهو أنهم لَا كتاب يهديهم، فالمعنى وهذا كتاب مبارك خاطبناكم لئلا تقولوا معتذرين، أو فأنزلناه حجة عليكم، حتى لا تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين.(5/2747)
وقد اعتذروا باعتذارين!
أولهما - أنهم قالوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا، والطائفتان هما اليهود والنصارى، والكتاب المذكور هو فيما يظهر التوراة، فهي مصدر عند اليهود والنصارى، كما هو مقرر عند النصارى في هذا الزمان، وقد قرروا قصر هذه الكتب على هاتين الطائفتين، بكلمة (إنما)، أي الإنزال مقصور على هاتين الطائفتين، ولم ينزل علينا، وما كنا لنكلف بكتاب لم ينزل علينا إنما نزل على غيرنا.
ثانيهما - أننا كنا عن دراستهم غافلين غير مهتمين بدراسة ما عندهم، ولا ظالمين ولكن غافلين عنه، ولأننا لَا نعرف لغة الكتاب، ولم يبلغ إلينا.
وقوله تعالى: (وَإِن كنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ) (إنْ) هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، والمعنى أنه الحال والشأن كنا عن دراستهم غافلين لا نعرفها، ولم ننبه إلى معرفتها.
وقد أكدوا غفلتهم عنها بعدة مؤكدات.
أولها - (إنْ) المخففة فهي للتأكيد. ثانيها - (كنا)، وهي تدلى على استمرار غفلتهم، ثالثها - الجملة الاسمية فهي تؤكد ثبوت الغفلة، رابعها - (اللام).
وكان تسجيل الغفلة عليهم وتأكيدها، لتأكيد عذرهم.
وقد بين الله تعالى أنه قطع عليهم عذرهم بإنزال القرآن الكريم فلا حجة لجهلهم من بعد بيانه، وإنه المبارك والنور، وفيه الهداية، وفيه الشريعة الكاملة.
* * *(5/2748)
أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
(أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ... (157)
* * *
(أو) عاطفة على (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين. . .) فإنزال الكتاب الكريم لكيلا يقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين، أو يقولوا لو أنا أنزل(5/2748)
علينا الكتاب لكنا أهدى منهم، فالآية السابقة اعتذار أو في معنى الاعتذار عن شركهم وإيمان غيرهم، وهذا لبيان ما يرجون لأنفسهم من فضل لو أنزل عليهم كتاب مثل ما أنزل على غيرهم، بل إنهم يحسبون كما يحسب كل مفترٍ أنه لو جاء إليهم أمر من الأمور لعملوا بما يدعو إليه.
وإن المشركين قرروا ذلك كما حكى عنهم القرآن الكريم في قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَهُمْ نَذِيرٌ ليَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ).
أكدوا أنهم لو أنزل عليهم الكتاب لكانوا أهدى منهم فقالوا (لو أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم)، الكتاب المراد الذي أنزل على الطائفتين من قبلهم، ولكنه لم ينزل غلينا، فلهم الهداية دوننا، و (لو) هنا حرف امتناع لامتناع، أي امتنع علينا أن نكون مئلهم لأنه لم ينزل علينا مثلهم.
أنزل الله تعالى الشرطية الأولى، وهي أنهم لم ينزل عليهم، فقال تعالى: (فَقَدْ جَاءَكم بَيِّنَةٌ من رَّبكمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ).
وعبر عن الكتاب الكريم بقوله (بينة) إذ المعنى فقد جاءكم كتاب هو بينة، وعبر بهذا التعبير للإشارة إلى أنه بين في ذاته، وهي بينة فيها ما يدل على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - والدلالة على النزول من عند الله تعالى، فهو كتاب بيِّن يحمل في نفسه دليل صدقه؛ لأنه حجة يتحدى بها، وقد تحداهم أن يأتوا بمثله فعجزوا عجزا مبينا.
و (الفاء) في قوله تعالى: (فَقَدْ جَاءَكُم) للإفصاح عن شرط مقدر مضمونه في كلامهم، أي فإذا كنتم تطلبون أن ينزل عليكم كتاب، فقد جاءكم.
وقد وصف سبحانه الكتاب بأربعة أوصاف.
أولها - أنه (بَيِّنَةٌ)، أي هو بين في ذاته، وفيما دل عليه من شرائع بينها وفصلها، وأحكم بيانها.(5/2749)
ثانيها - بأنه (مِّن رَّبِّكُمْ) الذي خلقكم ويعرف ما يصلح أموركم، وينفعكم في معاشكم ومعادكم.
وثالثها - أنه فيه الهداية إلى الصراط المستقيم وإصلاح نفوسكم، وهداية جمعكم.
ورابعها - أن فيه الرحمة بكم؛ لأن فيه الشريعة المحكمة وهي رحمة للعالمين، ولأنه هو نبي الرحمة، قد جاءكم القرآن بما تطلبون أو بما تتمنون، أو بما يكون فيه ادعاؤكم، فهل آمنتم؛ كلا، لم يؤمنوا، وكان كلامهم غرورا أو تغريرا، وهو ضلال في كل أحواله، بل كذبوا بآيات الله، وانصرفوا عنها، ودعوا الناس للانصراف عنها، فضلوا وأضلوا وأشاعوا فساد الفكر والاعتقاد بين الناس، وهم بهذا أشد الظالمين، ولذا قال تعالى:
(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا) إنهم بعد أن جاءتهم الرسالة مع الكتاب الذي ادعوا أنه لو أنزل عليهم الكتاب لكانوا أهدى الأمم أي أكثرها هدًى، فلما جاءتهم كذبوا بها، وكذبوا بآيات الله التي أقامها عليهم في التصديق برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذبوا بالآيات الكونية الدالة على وحدانية الخالق فكذبوا بدلالتها على هذه الوحدانية، وكذبوا بآيات القرآن فلم يصدقوه، وهو آية كبرى، فكانوا ظالمين أشد الظلم، ولذا قال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا) (الفاء) للإفصاح عن شرط مقدر، أي أنهم إذا كانوا قد كذبوا الرسول الذي جاء ببينة من عند ربهم فقد ظلموا، والاستفهام هنا لإنكار الوقوع، أي النفي مع التوبيخ أي لَا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله تعالى، وصدف عنها فقد ارتكب ظلمين فاحشين:
أولهما - أنه كذب بآيات الله تعالى الدالة على كمال ربوبيته ووحدانيته وعاند الله تعالى في رسالة نبيه وتكذيبه له، وإن ذلك ظلم وكفر، وضلال.
ثانيهما - أنه صدف عنها، أي أعرض عنها إعراضا شديدا، فانصرف عنها، وعمل على أن يصرف غيره عنها، فالصدف الانصراف عنها، وصرف الناس عنها(5/2750)
بتضليلهم، وإيذاء المهتدين لحملهم على الضلال والفساد، والتحريض على ضعاف المؤمنين، وإيجاد رأي عام ضال مضل، ولقد أنذر الله تعالى الذين أعرضوا عن الحق، ودعوا الناس إلى الإعراض وآذوا من لم يعرض عنه، وسلك سبيل المؤمنين، فقال تعالت كلماته:
(سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كانُوا يَصْدِفُونَ).
(السين) هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل، وعبر بالسين الدالة على قرب الوقوع المؤكد؛ للدلالة على قرب الوقوع، وتأكده، وكل آت قريب ما دام مؤكد الوقوع.
وأسند سبحانه الجزاء إلى ذاته العلية، لتأكد وقوعه، فإن الله لَا يخلف الميعاد عذابًا أو ثوابًا.
وعبر سبحانه وتعالى عن الظالمين بالاسم الوصول، وهو إشعار بأن الصلة هي السبب في هذا الجزاء الشديد الذي وصفه سبحانه بأسوأ العذاب، أي عذاب وقعه يسوءهم، ويؤلمهم وهو في ذاته سوء لَا يكون إلا لمن تكون عاقبته السوءى، ولمن كان يفعل ما يسوءا، ويكفر بالله تعالى، وذكر سبحانه السبب في هذا العذاب الذي هو سوء في ذاته، فقال: (بِمَا كانُوا يَصْدِفُونَ) أي بسبب استمرارهم على الصدف بإعراضهم، وحمل الناس على أن يعرضوا عن سبيل الله سبحانه وتعالى.
وهكذا نرى المشركين في ضلال مستمر، فهم يضلون في أقوالهم وأفعالهم، وشركهم، وقانا الله شر مآلهم.
* * *
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا(5/2751)
إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
* * *
أتى الله تعالى بالبينات فكذبوها، وأرسل عليهم الرسل بمعجزات قاهرة فلم يصدقوها، وأرسل إليهم محمدا خاتم النبيين فكذبوه، فلم يبق إلا أن ينتظروا العذاب، وما يسبقه، والقيامة وما يتبعها من حساب وعقاب. منهم قد يئس الحق من أن يدركوه، ولذا قال تعالى:(5/2752)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ).
أكثر المفسرين على أن ذلك عندما يحين حين هذه الدنيا، والاستفهام إنكاري توبيخي، لَا ينتظرون بعد هذا التكذيب إلا أن تأتيهم الملائكة تقبض أرواحهم، أو يأتيهم ربك أي أمر ربك، فهي من قبيل حذف المضاف والاكتفاء بذكر الله تعالى، وأمر الله شديد لَا قبل لكم باحتماله، إذ يتغير الكون، وينفخ في الصور (أَوْ يَأتِيَ بَعْضُ آيَاتِ)، من تغيير كل شيء في الكون إذ تقوم القيامة.
(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ)، ولم ينفعها خير لم تكن قد قدمته من قبل، وهذا قوله تعالى: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا).
(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ)، وهي ما يجيء يوم القيامة، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض هذه الآيات، فقد روى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات، طلوع الشمس من مغربها، والدخان، والدابة، ويأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم، وخروج الدجال، وثلاثة خسوف، خسف بالمشرق وخسف(5/2752)
بالمغرب وخسف بجزيرة العرب " (1) رواه أحمد، وصححه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح.
وإذا كان ذلك اليوم المشهود يكون انتهى العمل وبقي الجزاء، تكون الدنيا قد انتهت وابتدأت الآخرة، فلا ينفع إيمان لأنه قد جاء بعد إبانة، وفات أوانه، فلا ينفع نفسا إيمانها؛ إن آمنت، إذ الإيمان يكون والنفس في فسحة من مجيء هذا اليوم، أو إذا كانت كسبت خيرا في إيمانها لَا ينفع في ذلك اليوم، فهو ليس يوم الكسب بل هو يوم أزاء فلا إيمان يجدي، ولا ينفع كسب كسبه في إيمان في ذلك اليوم لأنه إذا كان الإيمان لَا يجدي، فما يكتسبه فيه لَا يجدي، (أو) في معنى الواو هنا، ولكن عبر بها لتنويع عدم النفع، إذ لَا ينفع إيمان، ولا ينفع كسب مع إيمان، إذ إن هذا هو يوم الجزاء.
هذا تفسير المفسرين، وقد خطر خاطر أذكره غير جازم به، ولكني أذكره على أنه احتمال وذلك أن قوله تعالى: (يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأتِي رَبُّكَ أَوْيَأتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) أنهم لم تجئهم بينات النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد طلبوا أن تنزل عليهم الملائكة، ولو جعله الله ملكا لجعله رجلا، وللبسنا عليهم ما يلبسون، وطلبوا أن يروا الله كما طلب بنو إسرائيل أن يروا ربهم، وقالوا أرنا الله جهرة.
وطلبوا هم بعض آيات كونية، ومن ذلك ما حكى القرآن الكريم عنهم، إذ يقول تعالى: (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95).
________
(1) كما رواه مسلم: الفتن وأشراط الساعة - في الآيات التي تكون قبل الساعة (2901).(5/2753)
هذه آيات طلبوها، أن تسقط كسفا من السماء أو يأتي الله والملائكة قبيلا فالله تعالى يقول في هذه الآية: (هَلْ يَنظُرونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ) هده الآيات، أن تأتيكم الملائكة، أو يأتيكم ربكم أو بعض آيات ربكم لتؤمنوا، وقد كفرتم بكل الآيات، ثم هددهم بأن تأتيهم بعض آيات ربك فتكون القيامة، ولذا قال سبحانه آمرا نبيه أن يقول لهم: (قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ).
قل يا محمد يا خير الخلق:، انتظروا بعض آيات ربك التي تستقبلكم، فيكون الحساب والعقاب، وإنا منتظرون لنلقاكم فيكون الجزاء بعد الحساب وحينئذ ينزل العقاب بكم على كفركم، وينال المؤمنون الثواب لإيمانهم والله بكل شيء محيط، وإن ذلك جزاء المشركين. ومثل المشركين، الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعا وأحزابا في دينهم من غير المشركين ولذا قال تعالى:
* * *(5/2754)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ... (159)
* * *
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى المشركين وأحوالهم، وكفرهم بالآيات البينات أخذ يبين سبحانه وتعالى غير مشركي العرب من يهود ونصارى وصابئة، وقد تفرقوا فرقا مختلفة، فقال تعالى: (إِنَّ الَّذينَ فَرَّقوا دينَهُمْ وَكانُوا شيَعًا لَّسْتَ منْهُمْ فِى شَىء).
وقراءة حفص بتشديد الراء (1)، وهناك قراءة بالمد (فارقوا دينهم) وتكتب في المصحف من غير ألف كشأن كثير من حروف المد في القرآن كالسماوات، ولقد قال على كرم الله وجهه: فَرَّقُوا حتى فارقوا.
وإن موضوع الآية الكريمة أهل الكتاب، فقد تفرقوا في دينهم فرقا مختلفة قبل الإسلام فكان في اليهود الأريسيون والصدوقيون، ومنهم من لَا يؤمن بالآخرة، وكان منهم الربانيون والقرارون، وكل فرع بما عنده يشايع فرعه، ويعادي
________
(1) (فَرَّقُوا) هي قراءة العشرة غير حمزة والكسائي، وأبي غالب عن الأعشى عن أبي بكر عن عاصم. فقراءتهم: (فارقوا). غاية الاختصار (882).(5/2754)
غيره، ومن النصارى السامرة الذين ليسوا من بني إسرائيل، ولكن ينفون عنهم مع أنهم يؤمنون برسالة موسى عليهم، وإن لم يكونوا في طغيان بني إسرائيل.
والنصارى اختلفوا قبل الإسلام فيما بينهم فكان منهم الكاثوليك الذين يسمون في التاريخ العربي الملكانية، والأرثوذكس الذين كانوا على فرق مختلفة، ومن بعد الأرثوذكس الأقباط، وكانوا يسمون في التاريخ العربي اليعقوبيين وأرثوذكس اليونان والرومان، وغيرهم.
وكان منهم قبل الإسلام النسطوريون، وهكذا اختلفوا على غير جامع من الحقائق يجمعهم، وإن جمعهم اسم النصارى، ولذا قال تعالى: (ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37).
فواضح من سياق القرآن الكريم وتاريخ النصارى واليهود أنهم اختلفوا وفرقوا دينهم شيعا، وقد أكد القرآن الكريم أن الاختلاف بعد أن جاء الحق بينا؛ ولذا قال تعالى: (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ). ولقد قال بعض المفسرين: إن موضوع الآية هم المبتدعة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين فرقوا دينهم من خوارج وشيعة، ونهجوا غير منهاج السنة.
ولقد اختار الحافظ ابن كثير أن الآية الكريمة شاملة كل من يختلفون في دينهم من أهل الكتاب الحاليين الذين فرقوا دينهم من بعدما أوتوه من علم جامع، والذين يفرقونه، ويحذون حذوهم من بعد ذلك في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية.
وأقول: إن الآية موضوعها أهل الكتاب في مقابل الوثنيين الذين ضلوا مثل ضلال الوثنيين، ومظهر ذلك اختلافهم في أصل دينهم ومروقهم من حقيقة ما أمر(5/2755)
به ربهم، وما فعلوه بعد ذلك من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - يدخلون مدخلهم بالقياس أو الاتباع لهم فهم مثل ضلالهم.
والتشيع - هنا معناه الفرق التي يشايع كل واحدة منها زعيما يكون على الضلال فيتبعونه عن غير بينة وهداية.
ولقد حكم الله تعالى على هذه الشيع ببراءة النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقال تعالى: (لَسْتَ مِنْهُمْ فِى شيءٍ) أي أنك بريء منهم، لأنك لست منهم في منازعهم ومفترقهم في شيء ومن الاتصال، فقوله تعالى: (فِى شَىْءٍ) تأكيد في نفي اتصاله بهم وتأكيد لمغايرته لهم في دعوته، ويترتب على ذلك أن تبعة هذا الافتراق لا تعود إليك؛ إنما أنت نذير، ولكل قوم هاد، ولذا قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّه ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
بين سبحانه وتعالى في هذا النص السامي أن أمرهم في مصيرهم ونهاية أمرهم هو لله وحده، فهو الذي يتولاهم بالحساب، ومن بعده العذاب، و (إنما) هنا دالة على القصر، أي أن أمرهم إلى الله وحده، وفي ذلك من الترهيب بأمر الله تعالى ما فيه من إنذار بالهول الشديد والعذاب العتيد، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كانُوا يَفْعَلُونَ) الإنباء والتنبئ معناه الخبر الشديد الخطير، ومعنى إنبائهم بما كانوا يفعلون إنباؤهم بما ينتظرهم من العقاب بما كانوا يقولون، فينالون من بعد ذلك جزاؤه، ويصح أن يكون الإنباء بإنزال العذاب فعلا، فيكون الإبناء بالفعل لا بالقول، ويكون معناه أنه عذبهم بفعلهم لأن فعلهم هو الذي اقتضى العقاب، فهو سببه وملازمه لَا يفترق جزاء بما كسبوا.
وفى التعبير بـ (ثم) إشارة إلى افتراق حالهم في دنياهم عن حالهم في أخراهم افتراقا بينا؛ لأن بينهم مسافة بعيدة اقتضت التعبير بما يدل على التراخي، والله أعلم -
* * *(5/2756)
ما أنعم الله به على من هداهم
(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
* * *
ذكر الله تعالى أحوال الكافرين بالرسالة المحمدية، وعناد المشركين الذين عاندوا وكفروا بالآيات كلها، وأعقبهم بالإشارة إلى المتنابذين الكفار من أهل الكتاب وضلالهم.
وكان لَا بد من بعد ذلك من أن يذكر النور بعد الظلام، فأخبر سبحانه وتعالى عن المهتدين، وأنه يضاعف الحسنات، ويعفو عن السيئات إذا صدق الإيمان، وكانت الهداية الغالبة في أعمالهم وامتلأت بها قلوبهم؛ ولذا قال تعالى:(5/2757)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
(مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا).(5/2757)
من جاء بالحسنة أي العمل الذي هو حسن في ذاته واستحسنه الشرع الشريف، وحسنة: صفة موصوفها فعله حسنة في ذاتها، ورآها الشرع حسنة نافعة للناس فيها معاونة أو فيها طهارة وتزكية روح وإعانة محتاج وإغاثة ملهوف، وغير ذلك مما هو في أخلاق الناس أمر حسن، أو فيه نفع قصد به وجه الله تعالى، وجزاء الحسنة عشر أمثالها أي حسنات تساوي عشر أمثالها، أو هي عشر من هذه الحسنات، وفي قراءة (عشر أمثالها) (1) برفع عشر وتنوينها، أي مقدار عشر هي أمثال هذه الصدقة، ويظهر أن ذلك هو الحد الأدنى، وتعلو الحسنة بعلو القصد في النفس، وبعلو الموضوع بمقدار النفع والتعاون للإنسان، وقد ذكر سبحانه وتعالى أن جزاء الصدقة سبعمائة مثل، فقال تعالى، وهو أصدق القائلين: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261).
وذلك لأن الصدقة تتضاعف آثارها، وتكثر ثمراتها فهي تشبع نفسا جائعة، وتمنع تفككا واضطرابا، وتلقي أمنا وسلاما، وتزيل أحقادا وتوجد تعاونا مستمرا، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، وسماه الله تعالى قرضا لله تعالى، فقال (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرضًا حَسَنًا. . .)، وإن من يقرض موجد الوجود يكون بدله أضعافا مضاعفة، كمن يعطي ذا مروءة عطاء، فإنه يزيد في بدله، فكيف بخالق الناس، ولله المثل الأعلى في السماوات والأرض.
وجزاء سيئة مثلها لَا يزيد عنها، وقد يغفرها سبحانه، ولذا قال تعالى: (وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا) وَحَذَ الله سبحانه وتعالى هنا الجزاء حدا لا يتجاوزه، فذكر أنه لَا يجزى إلا مثلها، فنفى وأثبت، وذلك قصد للجزاء لا يعدوه، أما ما ذكر من جزاء الحسنة فذكر أنه عشر أمثالها، ولم يذكره سبحانه وتعالى حتى لَا يعدوه بل هو حد أدنى يقبل الزيادة بحسب أحوال النفوس وبحسب موضوع الحسنة، وكلما كانت متصلة بالناس، لنفعهم تضاعف الجزاء كما جاء في آيات الصدقات، والتعبير في بعضها بأنها قرض لله سبحانه وتعالى، وهو
________
(1) (عشرٌ أمثالُها) هي قراءة يعقوب، وقرأ الباقون بالإضافة.(5/2758)
الغني الحميد، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُم الْفقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
ولقد جاءت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يفيد أن في معنى الآية من الحد بعشر أمثالها هو حد أدنى، فقد روى مسلم والإمام أحمد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يقول الله عز وجل من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتى يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بِقِرابِ الأرض (أي بما يقاربها في ملئها وحجمها) خطيئة لَا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة، (1).
والسيئة الأمر الذي يسوء في نفسه، ويسوء الناس، ويعصى به الله تعالى، وعبر عنه بالسيئة بأقبح ما يكون من معاصي، فإن أعلى المعاصي ما يكون إساءة للناس، وإيذاء.
وقد صرح الحديث بالنسبة لمن يهم بسيئة فلم يفعلها بأنه لَا يكتب له شيء ومن همَّ بحسنة فلم يفعلها كتبت له حسنة؛ لأن النية الطيبة حسنة في ذاتها، فالأعمال بالنيات.
ولقد تكلم ابن كثير في بيان أحوال من يهم بسيئة فلم يفعلها فقد قسمها إلى ثلاثة أقسام باعتبار حال التارك لها بعد أن يهم، فقال رضي الله عنه: (اعلم أن تارك السيئة الذي لَا يعملها على ثلاثة أقسام، تارك يتركها لله تعالى، فهذا تكتب له حسنة على كفِّه عنها لله تعالى، وهذا عمل ونية، ولذا جاء أنه يكتب له حسنة، كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح: " فإنه تركها من جرائي "؛ أي من أجلي (2)، وتارة يتركها نسيانا وذهولا عنها، فهذا لَا عليه ولا له؛ لأنه لم ينو
________
(1) رواه مسلم: الذكر والدعاء والاستغفار - فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله (2687). عن أبي ذر رضي الله عنه.
(2) كما في رواية مسلم: الإيمان - إذا هم العبد (129) عن أبي هُرَيْرَةَ: وَقَالَ رَسُولُ اللًهِ - صلى الله عليه وسلم -: " قَالَتِ الْملَائِكَةُ: رَبِّ، ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ، فَقَالَ: ارْقُبُوهُ فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، إِنَّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرَّايَ ".(5/2759)
خيرا وما فعل شرا، وتارة يتركها عجزا وكسلا عنها بعد السعي في أسبابها والتلمس بما يقرب منها، فهذا بمنزلة فاعلها).
وإن ذلك تقسيم حسن أخص ما فيه أنه يخرج ممن يهم بسيئة ولم يفعلها من هَمَّ وأخذ في الشروع في جريمة، ولكن حال بينه وبينها أمر لَا يستطيع مدافعته فهو لَا يكون قد هم فقط، بل نوى الفعل واعتزمه ولكن عجز لأمر خارج عن إرادته.
ولقد ختم العلي القدير كلماته في هذا الموضوع بقوله تعالى: (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) إن الآيات عطاء وعفو، فالعطاء من فضل الله تعالى، والعفو من رحمته، وهو الذي يعطي من يستحق، ويمنع عمن يستحق، وإن شاء غفر، وعلى ذلك لَا يظلم أحدا شيئا؛ لَا يمنع حقا، بل يعفو ويصفح عن أهل الإيمان الذين لا يشركون به شيئا، وهو السميع العليم.
* * *(5/2760)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
(قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ... (161)
* * *
أمر الله تعالى نبيه أن يبين أنه يسلك الخط المستقيم الذي هو الدين القيم، وأنه ملة إبراهيم (قُلْ) يا محمد أيها النبي الأُميّ العربي (إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّى إِلَى صِرَاطٍ مسْتَقِيم).
كان ذلك الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليخاطب به العرب مخبرا عن نفسه الكريمة، وعمن اتبعه من المؤمنين - هداني ربي الذي خلقني، وربَّني وقام على كل ما أقوم عليه، فهو القوام على كل نفس، والقائم على كل شيء، فوصف الربوبية في هذا المقام للدلالة على أن الهداية منسوبة إلى الخالق المكوِّن، فهي هداية حق لَا ضلال فيها، ولا أوهام ولا أهواء عند الله سبحانه وتعالى، وقد أكد أن الهداية من رب الوجود بـ (إن)، والهداية كانت إلى دين اتصف بأمور ثلاثة.
أولها - أنه صراط مستقيم، أي طريق مستقيم موصل إلى الحق الذي لا ريب فيه من غير التواء ولا اعوجاج، فليس فيه تعقيد بل إنه الفطرة المستقيية، فطرة الله التي فطر الناس عليها.(5/2760)
الوصف الثاني - قوله تعالى: (دِينًا قِيَمًا) أي حال كونه دينا صحيحا، قِيَمًا و (قيم) مصدر قوِم، وزن فعل، كعوج. وهو نقيضه، وقرئ (قَيِّمًا) (1) أي هو في ذاته قيِّم بلغ أعلى المنزلة في الأديان، والقراءتان متلاقيتان في المعنى وفي القراءة الأولى كان المصدر وصفا، وذلك في معنى المبالغة في أنه قيم وقويم، كقولك فلان عَدْل.
الوصف الثالث - وهو شرف إضافي، فالوصفان الأولان ذاتيان؛ لأنهما وصفان حقيقيان لأنهما مشتقان من ذات الدين، وذلك الوصف هو قوله تعالى (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) وذكر هذا الوصف ليبين للعرب الذين كانوا يتفاخرون بنسبهم إلى إبراهيم، وبأنه أبو العرب، ويدعون أنهم على ملة إبراهيم مع عبادتهم الأوثان، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يبين لهم بإنه هو الذي على ملة إبراهيم، وليسوا هم على ملته في شيء.
وهنا وصف ذاتي لهذا الدين جاء في ثنايا ذلك القول. وهو قوله تعالى:
(حَنِيفًا) أي غير منحرف إلى باطل بل هو مائل إلى الحق متجه إليه، فهو مستقيم متجه إلى الحق فحنيفا صفة للدين.
ثم بين سبحانه ردًّا على وثنية المشركين، فقال: (وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي ليس لكم أن تفاخروا باتباعكم إبراهيم، فما كان إبراهيم من المشركين، ما كان إبراهيم أبوكم وأبو الأنبياء ممن دخل في صفوف المشركين، بل أوَّابًا مؤمنا. وهذا كقوله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفَا وَمَا كانَ مِنَ الْمُشْرِكينَ)، وقال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121).
________
(1) (قِيَمًا) بكسر القاف، وفتح الياء وتخفيفها، قراءة ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وخلف، وقرأ الباقون (قَيِّمًا) بفتح القاف، وكسر الياء وتشديدها.(5/2761)
ولقد كانت ملة إبراهيم عليه السلام سمحة لَا ضيق فيها، ودين محمد عليه الصلاة والسلام دين سمح لَا حرج فيه. ولقد قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ).
* * *
(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
* * *
أمر الله تعالى نبيه بأن يقول قولة يكون بها كله لله تعالى ليس لأحد شيء في نفسه أو جارحته، أمره بأن يكون كله لله، وإنه لكذلك، وخاطب من معه من المؤمنين ليكونوا ربانيين، وأن يخاطب بذلك المشركين ليتخلفوا عن الشرك والأوهام والأهواء،(5/2762)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)
(إِنَّ صَلَاتِي) أي دعائي وضراعتي، وعباداتي، ومنها الصلاة المفروضة، والنفل والتهجد لله وحده ليس لأحد فيها شركة أو نصيب، بل هي لله وحده لَا شريك له (وَنُسُكِي) النسك العبادة، والنسك أيضا جمع نسيكة، وهي الذبيحة في أضحية أو حج أو عمرة، قال بعض المفسرين: إنها هنا بمعنى العبادة، فيكون الكلام من عطف العام على الخاص، وتكون كلمة الصلاة المقصودة؛ الصلاة: فرضها ونفعلها، والتهجد بها، وخصت بالذكر، لأنها عمود الدين ولبه، ولا دين من غير صلاة.
وفسر ابن كثير النسك هنا بالذبائح في الأضحى، والعمرة والحج، ذلك أن العرب كانوا يشركون ويدَّعون أنهم على ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ويهلون لغير الله، فبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر الله تعالى له بالبيان بأن يذكر أن ملة إبراهيم كانت دينا قيما يعبد الله وحده، ويذبح مهلا لله تعالى وحده، وروي ذكر اسم الله تعالى في ذبيحة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فروي عن ابنِ عباسٍ عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبشين، وقال حين ذبحهما: (إِنِّي وجَّهْتُ وجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (1).
________
(1) رواه ابن ماجه: الأضاحي - أضاحي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (3121) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْد الله. كما رواه الترمذي وأبو داود وأحمد.(5/2762)
(قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163). وإن تفويض الرسول عليه السلام لربه تعالى تفويض كامل، وملكية الله تعالى له ولعباده ملكية كاملة لَا مثنوية فيها لله سبحانه وتعالى، ولذا أمره تعالى بأن يقول: (مَحْيَاي وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وهي تدل على أمرين:
الأمر الأول - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته الدنيا، ومماته من بعدها، ثم حياته في الآخرة لله تعالى هو المتصرف فيها المالك لها، فهو رب الوجود، ومالك يوم الدين، وهذا هو الفناء في ذات الله تعالى على الوجه الإسلامي الحنيف المستقيم.
والأمر الثاني - أن (محيا) و (ممات) مصدران ميميان، بمعنى الإحياء المستمر، والممات من بعد، ثم الإحياء المستمر، والمعنى إحيائي في هذه الحياة الدنيا المستمدة منك ولك - وإماتتي لك أنت الذي تحييني وتميتني، وحياتي الباقية الخالدة منك ولك، يارب العالمين.
وقرن القول السامي برب العالمين لبيان أنه القائم على الحياة وهو الذي بيده الموت والحياة من بعده، وهو الحي القيوم لَا إله إلا هو العزيز الحكيم.
وأكد سبحانه وتعالى على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله:(5/2763)
لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
(لا شَرِيكَ لَهُ) لا يشركك يا رب العالمين في نفسي وفي حياتي ومماتي أحد من الناس، أو غير الناس، فكلي لك من غير شريك، فأنت المالك وحدك لي ولغيري من كل ما في الوجود.
ثم يقول - صلى الله عليه وسلم - بأمر ربه: (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) أي أول من أخلص دينه لله ووجهه لله، فالإسلام استقامة النفس واتجاهها إلى الله وحده، من غير إشراك وثن، وأمر الله تعالى نبيه بأن يقول هذا لقومه من المؤمنين والمشركين تحريض لمن آمنوا على البقاء، وتحريض للمشركين على خلع عبادة الأوثان، فالأولية هي لمن يخاطبهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحتملهم على الاتباع والاقتداء به، كمن يقول لآخر: ادخل هذا الباب، وأنا أمامك أول من يدخل.(5/2763)
فالأولوية على هذا بالنسبة لأمته ولمن بعث إليهم، وذكر تحريضا لهم على الاتباع والاقتداء، كما ذكرنا، وليست الأولية مطلقة، فإن الإسلام دين الأنبياء جميعا قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولقد قال تعالى فيما قال نوح عليه السلام لقومه: (فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، وقال تعالى في إبراهيم: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)، ولقد قال يوسف: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101).
وقال بعض العلماء: إن أولية إسلام النبي - صلى الله عليه وسلم - أولية مطلقة، فهو كما قال ذلك القائل، أول الأنبياء إسلاما وآخرهم مبعثا، والله سبحانه وتعالى أعلم.
* * *(5/2764)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
(قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ... (164)
* * *
أمر الله تعالى نبيه أن يقول للمشركين في سياق الدليل على أنه لَا يعبد سواه، ولا رب سواه، والاستفهام هنا إنكاري لإنكار الوقوع لَا يمكن أن يقع مني أن أبغي غير الله ربًّا، ويكون تقديم غير الله على الفعل. في معنى القصر أي لا أبغي غير الله تعالى ربًّا أعبده، وعبر هنا بقوله (رَبًّا)، ولم يعبر بكلمة (إلها) مع أن المقصود هو العبادة، إذ المعنى أبغي غير الله إلها، وهو رب كل شيء، للإشارة إلى التلازم بين الربوبية والألوهية، إذ أنهم كانوا يعترفون بأن الله تعالى رب كل شيء وخالق كل شيء، ولكنهم يفرقون ذلك عن العبادة، فهم يعتقدون أن الله خالق كل شيء، ولكنهم يعبدون الأوثان، ويقولون: ما نعيدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فقوله تعالى (أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا) فيه إشارة إلى الربوبية والخلق والتكوين، والعبادة فالمعبود بحق هو الرب الخالق، لَا هذه الأوثان التي تتوهمون فيها سرا وتقريبا، وما هي بشيء.(5/2764)
وقد أكد القصر في العبادة على الله تعالى بقوله (وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) وكانت هذه مقدمة منطقية مؤداها، أنه خالق كل شيء، وخالق كل شيء هو المستحق للعبادة وحده؛ لأنه مالك كل شيء.
وإن التعبير بقوله تعالى (أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا) في التعبير بـ (رب) عما أشرنا إليه من معنى التلازم بين الربوبية والعبودية فيه إشارة أخرى، وهو أنه لَا يعبد غيره، ولا يتوكل إلا عليه؛ لأن الربوبية تقتضي ألا يلجأ المؤمن إلا إليه سبحانه وتعالى، وقد قال تعالى في معنى ذلك، (قلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا. . .)، وقال تعالى: (. . . فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ. . .). وإن كل امرئٍ بما كسب رهين، يحمل تبعات أعماله، ولا يحمل وزر غيره ولذا قال تعالى: (وَلا تَكْسِبُ كُلّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
قالوا إن المشركين كانوا يريدون من المؤمنين أن يرجعوا إلى دينهم الذي تركوه، وقالوا نتحمل وزركم ولا تتحملون آثاما، فالله رد قولهم بهذا، وما نحسب أن ذلك وقع، إن كان قد وقع، فالآية عامة لحقيقة رئيسة، و (الكسب) الفعل الذي يصدر عن شخص مؤمن بما يفعل، قد كسبته نفسه، وقام بها، ومعنى قوله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا) لَا تكسب أي نفس عملا إلا كانت مغبته ومآله عليها، تتحمل تبعته إن شرا، وتنال جزاءه إن كان خيرا وبذلك يكون النص محتملا الجزاء بنوعيه عقابا أو ثوابا.
ويصح أن الكسب هنا كسب الإثم، ويكون عليها بالعذاب، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)، أي لَا تحمل نفس وازرة وزر أخرى فكل امرئٍ بما كسب رهين، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى.
وإن جزاء الآخرة ثوابا وعقابا مبني على ذلك، فلا يحاسب امرؤ بجريمة غيره، ولا يلقى عن شخص جرم ليلحق إلى غيره، والله تعالى علام الغيوب، وكل يحمل كتابه.(5/2765)
ولكن في الدنيا عواقب للأعمال، قد تتعدى الفاعل، وقد قال تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [التخريج]، فإنه إذا عم الفساد وطم سيله، فسدت الجماعة وهلكت، ولا يكون أثره مقصورا على العصاة، بل يتعداه إلى غيرهم، كما قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16).
وروي أن أم المؤمنين زينب بنت جحش سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلة: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون، فقال عليه السلام: " إذا عم الخَبَث " (1)، والخبث هنا هو المعاصي وأشدها الظلم والفاحشة وما يوعز بها وإن عموم الفساد يكون من إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيعم العذاب، كما قال عليه الصلاة والسلام: " لَتَأْمُرُن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذنَّ على يدي الظالم ولتأطُرُنَّه على الحق أطرا أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض ثم تدعون فلا يستجاب لكم " (2) وإن عذاب يوم الدين لاحق بكل نفس كسبت، أو قصدت، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتًلِفُونَ).
(ثم) هنا للتراخي والترتيب؛ لأن ذلك يوم الدين فيكون الجزاء العادل، ينال كل امرئٍ ما كسب أو قصد، فالله تعالى يجازي على التقصير في بيان حدود الله ومنع العصاة، كما يجازي على ذات المعصية؛ لأن ترك الواجب معصية كارتكابها.
وقدم الجار والمجرور، لبيان أن المرجع إليه وحده فهو الذي يملك يوم الدين وحده، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته عذابا أليما.
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: أحاديث الأنبياء - قصة يأجوج ومأجوج، ومسلم: الفتن وأشراط الساعة - اقتراب الفتن (2880).
(2) سبق تخريجه.(5/2766)
وقال تعالى: (فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (الفاء) هنا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي هو الذي إليه وحده مرجعكم، فلا يكون لأحد سواه الحكم في هذا اليوم والقول النافذ له وحده، وهو حينئذ بقوله الطيب الصادق كبير بالحق فيما كانوا فيه يختلفون، فيعبد فريق الأوثان ويؤمن بالله آخرون، ويختلف النصارى فيما بينهم، واليهود يختلفون مع أنفسهم، وبينهم وبين أهل الحق من الناس ينبيء الله تعالى الناس بالحق، والباطل قولا وعملا، فيعذب المجرمين المبطلين، ويحسن إلى المحسنين، وكل امرئٍ، وما كسبت يداه.
* * *(5/2767)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
* * *
بين سبحانه اختلاف المؤمنين، وما يجب أن يكونوا عليه متأسين بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، آخذين بهديه مخالفين ما عليه المشركين، وختم الآية التي قبلها بأن الله تعالى يحكم بين المختلفين يوم القيامة بعد ذلك بين سبحانه وتعالى أن الله تعالى هو الذي خلق الأجيال التعاقبة الذي يخلف بعضها بعضا - وهي متفاوتة فقال تعالت كلماته:
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ).
(الواو) هنا واو الفصل بيان الآيات، وهي تفيد أن الآيات مترابطة تبع بعضها بَعْضا في نسق محكم متناسب يرتبط بعضه بعجز بعض.
الخلائف جمع خليفة، أي طبقة تخلف طبقة، وجيلا يخلف جيلا، وكل واحد منها يعد خليفة في هذه الأرض، يسيطر سيطرة الإنسان عليها، إن ظالما،(5/2767)
وإن عادلا، وذلك تحقيق مستمر للخلافة التي جعلها الله تعالى لآدم أبي البشر، إذ قال تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُكَ لِلْمَلائِكَة إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةَ قَالُوا أَتَجْعَلُ فيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ. . .).
وهنا بقوله سبحانه: (وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ) أي صيركم أجيالا تخلف بعضها بعضا، وكل جيل خليفة في الأرض يفسد بعضه، ويصلح بعضه، ويباح الفساد مع الصلاح، وينازعه حتى لَا يعم (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاس بعْضَهُم بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
ولذا قال تعالى (وَرَفَعَ بَعْضَكمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ).
الدرجات كما جاء بها التعبير في القربات هي الدرجات العالية التي تكون سابقات كريمة، والمعنى رفع منكم درجات بالهداية والسمو، والرفعة إذا أطاعوا اتجهوا إلى الخير، وإعلاء منازل الإنسانية، ولو كانوا هم الفقراء أو العبيد، أو المستضعفين في الأرض، ولا يلزم أن يكون من الأقوياء أو الأغنياء وقد اختبر كلا، فاختبر الأغنياء ليشكروا واختبر الفقراء ليصبروا.
وقد وردت آيات كثيرة في هذا التفاوت في الدرجة، مع ملاحظة أن تفاوت الدرجات ليست بالغنى، فليس الغنى درجة، دونها حال الفقر، إنما الدرجات الرفعة عند الله تعالى بالعمل الصالح، ولو كان فقيرا أو ضعيفا تزدريه الأعين كما كانت حال المؤمنين الذين آمنوا بنوح - عليه السلام - والذي أمره الله - سبحانه وتعالى - أن يقول: (وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31).
إنما التفاوت في الدرجات بالقرب من الله والإيمان، ومثل هذا قوِله تعالِى: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً(5/2768)
وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35).
فإن الدرجات في هذه الآية واضح أن المراد منها الدرجات في الرفعة، لا الدرجات في المال، فالتفاوت في المال لَا يكون درجات للأغنياء على الفقراء، وقوله تعالى (. . . لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا. . .)، أي ليكون الحال أن يسخر الأغنياء الكافرون من الفقراء المؤمنين.
ولو كان المراد التفاوت بالمال، لكان اعتراض الكافرين مسلما به؛ إذ قالوا (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ منَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم)، أي في المال وكثرته.
وإن المقصود من ذلك السياق أن نقول إن قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ) أن المراد برفعة الدرجات هو إيمان بعض المؤمنين ورفعتهم، وقد بين الله سبحانه وتعالى الحكمة من ذلك فقال: (ليَبْلُوَكُمْ فِى مَا آتَاكمْ) أي ليعاملكم معاملة من يختبركم فيما آتاكم من مال، أو رفعة معنوية دينية حيث يزدري الكافرون الأغنياء المؤمنين الفقراء، فيضيفون كفرا إلى كفرهم، ويضيف أهل الإيمان إيمانا إلى إيمانهم بصبرهم على الأذى وليختبر الغني في غناه فيشكر أم يكفر، ويختبر الفقير في فقره فيرضى ويصبر فيؤجر، أم يجزع ويكفر فيعاقب، فالغنى نعمة يختبر صاحبها، والفقر بأس يختبر صاحبه. والعاقبة إما عقاب وإما غفران ورحمة، ولذا قال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).
(إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ) أي أن عقابه نازل لَا محالة، ومؤكد أنه آت لَا ريب فيه، وكل آت قريب، ووصف سرعة العقاب لله تعالى يؤكد نزوله بالعاصي من غير تردد فيه، فهو العادل الذي لَا يبطئ في إقامة العدل، ويسارع بإنزاله فليس المراد بالسرعة سرعة الزمان إنما المراد سرعة الإيقاع.(5/2769)
وإنه في مقابل هذا غفور رحيم، يغفر لمن يشاء ورحيم بالخلق أجمعين ومن رحمته أن كان العذاب للعصاة، والمغفرة لمن لم يشرك به شيئا، وهذا كقوله تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). وقوله تعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6).
اللهم اجعلنا أهلا لمغفرتك ورحمتك، وجنبنا سريع عقابك، واعف عنا وتجاوز عن سيئاتنا إنك أنت العفو الغفور.
* * *(5/2770)
(سُورَةُ الْأَعْرَافِ)
هي سورة مدنية إلا ثماني آيات من الآية رقم 163 إلى الآية 170، وسنتكلم فيها في موضعها - إن شاء الله تعالى - وعدد آيات هذه السورة الكريمة ست ومائتان.
وقد ابتدأ الله تعالى هذه السورة بالحروف (المص)، وقد تكلمنا في هذه الحروف في فواتح سور القرآن، وذكرنا أنها من المتشابه الذي اختص علم الله تعالى، وذكرنا حكمة ذكرها، وعند الله غيب أمرها.
ابتدئت السورة بذكر القرآن، والأمر باتباعه، ثم أشارت إلى أن يوم القيامة يجيء بغتة، فالقُرى يجيئها أمر الله بغتة وهم نائمون، وعندئذ يحس الظالمون بظلمهم إذ ذهب طغيانهم، ويبين الله - تعالى - أن اليوم يوم سؤالهم عما ظلموا، وتوزن أعمالهم بخيرها وشرها، والوزن يومئذ الحق، وقد ذكر سبحانه أن السبب في طغيانهم أنه مكن لهم في الأرض، وتمكن الشيطان منهم.
ويذكر سبحانه كيف يتمكن الشيطان، وساق - سبحانه وتعالى - قصة الخلق الأول، ليبين لهم عداوة إبليس وكيف أغوى آدم على مخالفة ربه، هو وزوجه حواء، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين فدلاهما بغرور، وقد ذكر سبحانه عاقبة ذلك التدلي.
صرح بعد ذلك القصص الحكيم بالنهي عن الخضوع للشيطان إبليس ومن معه، فقال: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27).(5/2771)
وبين - سبحانه - أنه كما دلى الشيطان آدم وزوجه بغرور حتى تسبب في نزع لباسهم كذلك يغري قريشا فيجعلهم يطوفون عراة، وإن ذلك هو عين الفساد، وأمر الله تعالى أن يأخذوا زينتهم ويلبسوا عند كل مسجد (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكمْ عِندَ كلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
ويبين - سبحانه وتعالى - ما أحله الله من طيبات وما أراد الشيطان أن يحرمه عليهم.
ويبين - سبحانه وتعالى - أن مقاومة الشيطان إنما هي باتباع الهدى الذي يجيء على ألسنة الأنبياء (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَاتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ منكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
وبين - سبحانه وتعالى - أن الشيطان يغري أتباعه بمعاندة هؤلاء الرسل كما أغرى كبيرهم آدم وحواء بمخالفة أمر الله تعالى.
ثم يذكر - سبحانه وتعالى - مآل الطاغين على الرسل بإغواء الشيطان يوم القيامة وكيف يتطارحون الضلال بين الغاوين ومن أغووهم من شياطين الجن والإنس (. . . حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39).
وبين - سبحانه وتعالى - جزاء الذين استكبروا عن الحق بأهواء الشيطان، وفى مقابلهم جزاء الذين آمنوا وأطاعوا الله، ولم يغوهِم الشيطان، وأن لهم الجنة، (. . . وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44).
وكان بين أصحاب الجنة أصحاب الأعراف، وقد نادوا الظالمين الذين يعرفونهم (وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُم قَالُوا مَا أَغْنَى عَنكُمْ(5/2772)
جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49).
وأما أصحاب النار فقد ذكر الله - سبحانه - أنهم في عطش شديد، ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله.
بين الله تعالى من بعد ذلك أدت الذين عصوا واستكبروا قد جاءهم القرآن الكريم يهديهم، ويدعوهم إلى الحق، (وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدَى وَرَحْمَةَ لِّقَوْمِ يُؤْمِنُونَ).
ولكنهم كفروا به، وطغوا، وطلبوا معرفة مآله، فبين - سبحانه - أنهم يعرفون مآل ما اشتمل عليه بقول الذين نسوه من قبل (. . . قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53).
بعد هذا البيان الحكيم في هذه السورة الكريمة وجه الله تعالى العقول إلى آياته في الكون، فقال: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55). وينهى رب الكون عن الفساد في الأرض، ويبين آياته - سبحانه - في إرسال الرياح بشرا بين يدي رحمته، وأنه - سبحانه - يرسل سحابا ثقالا، إلى الأرض الميتة ليحييها.
ويقص بعد ذلك قصص أنبيائه، ليُسِّري على محمد - صلى الله عليه وسلم - بقصصهم، وليسوق العبر والمثلات للمشركين ليعتبروا ويستبصروا، فيذكر خبر نوح مع قومه، ويرمونه بالضلالة، كما رمى المشركون محمدا بها، ويعجبون من أن الله أرسل رسولا، كما تعجبت قريش من رسالته - صلى الله عليه وسلم -، ويذكرهم بأن الله تعالى سينجي(5/2773)
محمدًا من شرهم كما نجَّى نوحًا، (. . . فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ).
ويذكر من بعد نوح في هذه السورة الكريمة خبر هود مع قومه عاد، وكيف رموه بالسفاهة كما رمت قريش محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وقد كان فيهم الصادق الأمين، وكيف كان ينصح لهم، ويذكرهم بما آتاهم الله - تعالى - من نعمة، وقد عجبوا أن جاءهم رسول منهم، كما عجبت قريش (قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ)، وقال لهم هود: (. . .أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ).
وذكر - سبحانه وتعالى - من بعد قصة هود قصة صالح مع قومه ثمود، إذ دعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده، وأتى لهم بمعجزة حسية هي الناقة، وقد ذكرهم بما نزل بعاد من قبلهم، وذكرهم بنعمة الله تعالى: (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ولكنهم كفروا وعقروا الناقة، فأنزل الله تعالى عذابه الدنيوي، وتولى عنهم هود وقد أبلغهم رسالة ربه.
ومن بعده بعث الله لوطا إلى قومه، وذكر الله تعالى شذوذهم وأهلكهم الله تعالى: (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مًطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِين).
وأرسل إلى مدين أخاهم شعيبا، وقص الله - تعالى - في السورة قصصه مع قومه إذ دعاهم إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وألا يفسدوا ولا يعتدوا ولا يصدوا عن سبيل الله، وقد آمنت طائفة، وطائفة منهم وهم الذين استكبروا، وحاولوا إخراج شعيب قائلين: (. . . لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا. . .)، ولكن الله نجاه منهم، وقال لن نعود في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها.(5/2774)
وقال الذين كفروا للذين آمنوا (. . . لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرونَ) وقد أخذتهم بسبب عصيانهم الرجفة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. .، فتولى عنهم شعيب وقال لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين.
وقد بين - سبحانه وتعالى - في هذه السورة الكريمة سنته مع الذين يرسل إليهم النبيين أن يختبرهم بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون، ثم يختبرهم من بعد ذلك بالحسنة لعلهم يدركون، (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ. . .) فإذا كفروا، ولم تردعهم الضراء، ولم يشكروا السراء، أخذهم العذاب بغتة وهم لَا يشعرون.
ولقد ذكر - سبحانه وتعالى - أن أهل القرى، لو أنهم آمنوا لأتتهم النعم من حيث لَا يشعرون، (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
ولقد ذكر سبحانه في هذه السورة المحكمة غفلة أهل القرى أي المدن العظيمة عن أن يأتيهم عذاب الله تعالى في آياته سبحانه وتعالى، وأن الذين يرثون أرضها لا يهتدون، ولا يعتبرون بما كان منهم، (وَمَا وَجَدْنَا لأَكثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ).
ذكر بعد هذه العبرة التي بينها - سبحانه وتعالى - في سنته في الهداية، وعقاب من لَا يهتدون قصة موسى وفرعون، ومعجزة موسى، بل معجزاته مع فرعون، طاغية الوجود الإنساني في مصر، بل لَا يزال مثلا يضرب لكل طاغية في الأرض.
تقدم موسى إلى فرعون يدعوه إلى الله تعالى، وتقدم بعصاه فحرض فرعون قومه أنه يريد أن يخرجهم من أرضهم بسحره.(5/2775)
جاءوا بكل ساحر عليم، وتقدم موسى بعصاه، قاهر موسى للسحرة (. . . أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ). فأمر الله تعالى موسى أن يلقى بعصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، فخر السحرة ساجدين، لأنهم علموا أن ما جاء به موسى ليس سحرا.
عاقبهم فرعون وقال: (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126).
وقد أخذت شيعة فرعون ترد على موسى كالشأن في كل طاغية لَا يطغى إلا بشيعة تحسن له الشر، وتفتح له الخير، قالوا لفرعون: (. . . أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128).
ولكن بني إسرائيل يتململون بموسى، ويقولون: (. . . أوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكمْ وَيَسْتَخْلِفَكمْ فِي الأَرْضِ. . .).
أخذ الله تعالى آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه، وأرسل الله عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات.
وإذا اشتد الأمر بهم (. . . قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَئا الرِّجْزَ لَنؤْمِنَنَّ لَكَ ولَنرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)، فأغرقهم الله تعالى، وجاوز الله ببني إسرائيل البحر وأورثهم ملكا بعد أن كانوا مستضعفين في الأرض.
ولكن بني إسرائيل بعد أن جاوزوا البحر عادت إليهم وثنية الفراعنة (. . . قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)،(5/2776)
وذكرهم الله الذي نجاهم من فرعون وملئه الذين كانوا يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم، ويسومهم سوء العذاب (. . . وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ من رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ).
واعد الله تعالى موسى أربعينِ ليلة (. . . وَقَالَ مُوسَى لأَخيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِين).
ذهب موسى لميقات ربه (. . . وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ)، قبل الله توبة موسى وبين له اصطفاءه له (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ. . .) من أحكام شريعته عليه السلام، ويقول الله عن هذه الألواح: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا. . .)، وقد بين - سبحانه وتعالى جزاءهم في الآخرة.
وفى غيبة موسى الأربعين ليلة (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا خوَارٌ. . .). . . وزين لهم الشيطان عبادة العجل التي تقبلها المصريون في نفوسهم.
وإن الناس يضلون فإذا رأوا داعية الهداية ذهب عنهم ضلالهم فلما رأوا موسى سقط في أيديهم (. . . وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكوننَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا، وقال: بئسما خلفتموني من بعدي، وأخذ يعتب على أخيه هارون (. . . وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ. . .).
أحس موسى بأنه تجاوز في غضبه فاتجه إلى ربه ضارعا (. . . رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وذكر الله ما سينال الذين اتخذوا العجل ولم يتوبوا، وقال سينالهم غضب من ربهم وذلة.(5/2777)
وبعد أن ذهبت ضجة العجل وسكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفيها هدى ورحمة - واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات الله، فلما أخذتهم الرجفة (. . . قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ. . .).
اتجه موسى وقومه ضارعينِ إلى الله تعالى، وقالوا: (. . . إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156).
وذكر منهم ممن تتسع له رحمته: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157).
ويأمر الله - تعالى - في هذه السورة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد أن ذكر البشارة به بأن يقول: إنه رسول الله تعالى إلى الناس جميعا ويدعوهم إلى اتباعه.
وتعود الآيات إلى قوم موسى - عليه السلام - فيذكر أن (وَمِن قَوْمِ مُوسَى أمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) ويذكر أنه - سبحانه وتعالى - قطعهم في الأرض (. . . اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا. . .)، ثم يذكر - سبحانه وتعالى - آياته منهم ونعمه عليهم، من ضرب الحجر بعصا (. . . فَانْبَجسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاس مَّشْرَبَهُمْ. . .)، وأنه أنزل عليهم المن والسلوى، وأنه ظلل عليهم الغمام وأنهم لم يشكروا النعمة، بل كفروا بها.
ويذكر حالهم يوم السبت إذ حرم عليهم الصيد فيه (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ. . .).(5/2778)
ولقد يئس بعض المهتدين منهم من هداية إخوانهِم فقالوا: (. . . تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدَا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى ربِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقونَ)، ولقد بين الله تعالى حال الذين نسوا ما ذكروا به، وأنه أنجى الذين ينهون عن السوء، وأصاب الذين ظلموا بعذاب بما كانوا يفسقون، ولقد ذكر الله حال بني إسرائيل من بعد موسى، فقد بعث عليهم من يسومهم سوء العذاب، وقطعه في الأرض أمما، وورث من بعدهم خلف يأخذون أدنى ما في الكتاب وإن يأتهم عرض يأخذوه، ويقولون سيغفر لنا.
وإن بني إسرائيل قد مردوا على العصيان وقد أخذ الله - تعالى - الميثاق ورفع الجبل فوقهم كأنه ظلة، وظنوا أنه واقع بهم وأخذ عليهم الميثاق، وهم تحت تأثير تلك الآية القاطعة، وقال خذوا ما أتيناكم بقوة، ولكنهم نقضوه ولم ينفذوه.
ولقد بين الله سبحانه أنه أخذ (. . . مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكمْ قَالُوا بَلَى. . .)، ودل ذلك على أن التوحيد دين الفطرة وبين سبحانه أن هذه الآية الفطرية التي أودعها الأخلاف والذرية من ينسلخ منها يتبعه الشيطان ويغويه وتكون كل أعماله في دائرة الشر، (. . . كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كذَّبُوا بِآيَاتِنَا. . .) وأسوأ الأمثال مثل الذين كذبوا بآيات الله (. . . وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ).
وإن من يهديه الله فهو المهتدي، ولقد خلق الله لجهنم كثيرا من الجن والإنس، وهؤلاء لهم قلوب لَا يفقهون بها، ولهم أعين لَا يبصرون بها، ولهم آذان لَا يسمعون بها أولئك هم الغافلون.
وأخذ - سبحانه وتعالى - في هذه السورة الكريمة يذكر الذين اهتدوا في مقابل الذين كفروا وظلموا، وقال في الذين كفروا: (. . . سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183).(5/2779)
ووجه الله تعالى أنظار الناس إلى ملكوت السماوات والأرض، وبين أنه (مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
وذكر الله تعالى الساعة وأنه وحده هو الذي يعلمها (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188).
بعد ذلك بين الله - سبحانه وتعالى - خلق الإنسان وزوجه ليسكن إليها، وصور سبحانه ضلال الإنسان بمن تحمل امرأته حملا خفيفا فمرت فلما ثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190).
وبين - سبحانه وتعالى - ضلال من يشركون وذكر أنهم يدعون في عبادتهم أوثانا لَا تضر ولا تنفع سواء أكانوا أحجارا أم غيرها وقال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198).
ولقد دعا الله - تعالى - نبيه إلى ما يتجلى به في الدعوة فقال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا(5/2780)
اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203).
ولقد أوصى الله المؤمنين من ضمن وصيته لنبيه (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206).
هذه إشارة موجزة إلى بيان ما اشتملت سورة الأعراف إجمالا، ثم نقدمها بين يدي ذكر معانيها، ولنبدأ من بعد ذكر ما يسعه إدراكنا من معانيها والله الهادي.
* * *
معاني السورة الكريمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
* * *(5/2781)
المص (1)
(المص) قد تقدم القول في الحروف المفردة التي تبتدئ بها أوائل بعض السور، وهي من المتشابه الذي اختص به علم الله.
* * *(5/2781)
كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
(كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ... (2)
* * *
كتاب خبر لمبتدأ محذوف، أو خبر (المص) على نظر بعض الذين قالوا: إنها اسم للسورة أو الكتاب، والتنكير هنا لبيان شرفه العظيم، أي أنه كتاب بالغ الغاية في شرفه ورفعته ومؤداه، لأنه منزل من عند الله تعالى العالم بكل شيء،(5/2781)
والقادر على كل شيء العزيز الحكيم، وقال: (أُنزِلَ إِلَيْكَ)، أي أنه أنزل إليك وهو المعجزة التي تتحدى بها الخليقة أن يأتوا بسورة من مثله، فلا يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
والحرج الضيق، وأن يحس بأن الناس يجب أن يؤمنوا فلا يؤمنوا، كما قال تعالى: (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، وكما قال تعالى:
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)، فحرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إجابة الكافرين كان يجعله في حرج نفسي، إذ إن المؤمن بالحق يكون دائما حريصا على إجابة الناس له، فإن لم يجيبوا ضاق بذلك صدره من غير مغاضبة ولا معاندة، كما هو شأن النبيين - عليهم الصلاة والسلام - وقد قال تعالى: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12).
والمؤدى في كل هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضيق من الإنكار لأمر صادق لَا مرية فيه، فالله تعالى يبين له أنه ليس عليه إلا الإنذار.
وقوله تعالى: (فَلا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ منْهُ)، الفاء هنا لترتب ما بعدها على ما قبلها، والمعنى: هذا كتاب مبارك هاد مرشد، منير للحق، فإذا لم يجيبوا فلا يكن في صدرك ضيق، فليس ذلك لنقص فيك أو فيه، وإنما هو لنقص فيهم وقد أنذرتهم، وحسبك ذلك وكفى.
وقد ذكر الله غاية الكتاب والرسالة فقال: (لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ).
فالغاية من الكتاب الخالد أنه معجز بذاته، ولتنذر به الذين يكفرون، بأن تبين بالكتاب عاقبة كفرهم، وسوء النتيجة التي تنزل بهم، وهي العذاب الأليم، وليس عليك تبعة كفرهم، إنما أنت منذر ولكل قوم هاد، وإنك لَا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.(5/2782)
هذا بالنسبة لمن لم يؤمن، فهو لهبم منذر مبين يحمل دليله في ذاته، وبالنسبة للمؤمنين قال تعالى: (وَذِكرَى لِلْمؤْمِنِينَ) والذكرى هي التذكير الدائم، فهذا الأمر ذكرى لكذا، أي مذكر دائم مستمر، يرجعون إليه، والقرآن ذكرى دائمة فيه التذكير الدائم برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه تذكير بالشريعة؛ لأن فيه كلياتها، وفيه تذكير بالرسل أجمعين؛ لأنه سجل معجزاتهم، وفيه تذكير دائم بالله تعالى وهو العلي الحكيم، وفيه الأوامر والنواهي، ولذلك قال تعالى:
* * *(5/2783)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
(اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
* * *
إذا كان القرآن فيه ذكرى للمؤمنين، وإنذار للكافرين فاتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم مما يشتمل عليه القرآن الكريم، وما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما أمركم به فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، فكل ما أمر به فقد أمر به الله، فما كان ينطق عن الهوى (من يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ... ).
وقوله: (اتَبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكم مِّن رَّبكِمْ) فيه إشارات بيانية:
الأولى: أن ما اسم موصول صلته أنزل إليكم من ربكم، والصلة تكون سببا للحكم أو الأمر، فاتبعوا ما جاء به القرآن والنبي. وسبب ذلك أنه أنزل من ربكم الذي هو أعلم بما فيه صلاحكم في الدنيا والآخرة؛ لأنه ربكم الذي ذرأكم وإليه مرجعكم.
الثانية: أن قوله: (اتَّبِعُوا) فيه ملازمة لما أمر الله تعالى باقتفاء أثر النبي الذي أنزل إليه وأتباعه، وأتباعه أتباع لله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. . .).
الثالثة: قوله تعالى: (مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ) فيه إشارة إلى أن فيه خيرهم في الدنيا، وفيه صلاحهم في الدنيا والآخرة، وفيه إشعار بكمال ما كلفوه.(5/2783)
(وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ). بعد الأمر بالاتباع للرسول فيما أنزل إليكم من ربكم، كان النهي عن اتباع غيره، فمعنى: (وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ)، أي غيره، ممن يوسوسون بغير ما أمر، وتشمل كلمة أولياء، كل من يأمرون بغير أمر الله تعالى من الشياطين الذين يوسوسون بالشر، فمن لم يتبع ما أنزل الله يتبع أولياء الشيطان، وأن أولياء الشيطان يضلون ولا يهتدون، وكذلك الحلفاء الذين يدعون إلى الشرك ويحرضون عليه ولا يناصرون على الخير ككبار المشركين، أمثال أبي جهل وأبي لهب وغيرهما ممن كانوا يدعون إلى الشرك ويحرضون عليه، وممن دون الله من أولياء، الذين يجرون إلى الأهواء، وهكذا يكون اتباع ما أنزل إليكِم من ربكم هو الصراط المستقيم الذي قال تعالى فيه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمَا فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ. . .).
واتباع غير ما أنزل الله هو اتباع للسبل الضالة التي تتفرق بها عن الحق، وفى قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) ضمن إشارة بيانية مؤداها أن قوله: (وَلا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) النهي عن أن يتخذوا غير الله أولياء لهم فالله ولي المؤمنين كما قال تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ. . .)، (قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ) أي أنه مع هذه البيانات ومع النهي المتوالي في القرآن عن اتخاذ غير الله أولياء لَا تتذكرون إلا قليلا، وقليلا مفعول لـ " تذكَّرون " و " ما " دالة على قلة التذكر. والمعنى قليلا أي قلة تتذكرون أوامر ربكم وتتعظون بعظاته، (. . . إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) أالرعد،، ويقول الله تعالى: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى).
وإن الله تعالى ذكر بالقرى التي كان هلاكها لعدم تذكرها ولنسيانها أمر الله تعالى، فقال تعالت كلماته:
* * *(5/2784)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
(وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)
* * *(5/2784)
إن سنة الله تعالى أن يأتي بعذابه الدنيوي، وهم لاهون غافلون؛ وذلك لأن كفرهم يجعلهم في غفلة، وينسون معه بأس الله تعالى، لأنهم يكفرون به ولا يؤمنون، فيأتيهم من حيث لَا يحتسبون ولا يتوقعون، وإن ذلك كان شأن كل الذين عتوا عن أمر ربهم، ولذلك قال مذكرا من لم يتذكر إلا بقارعات العذاب الذي ينزل بهم: (وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا) و " كم " هنا دالة على الكثرة من غير عدد. و " مِن " لعموم الاستغراق، ولتأكيد معنى الكثرة، والقرية المدينة الكبيرة؛ لأنها تقري الناس وتجمعهم فيها، البأس هنا العذاب الشديد أو الهلاك، كما جاء لقوم لوط، ولقوم هود، ولقوم شعيب، والبيات الليل، ومعنى (بَيَاتًا) وهم بائتون، والمعنى: وكثير من القرى أهلكناها، فجاءها عذابهنا بياتا (أَوْ هُمْ قَائِلُونَ)، أي نائمون في القيلولة من شدة الحر، أو مستريحون.
وإن المراد أنهم يحسبون أنهم في أمن واطمئنان، فيأتيهم العذاب بغتة وهم لا يشعرون.
وإن هذه سنة الله تعالى في الكافرين يمهلهم ويجيئهم العذاب في مأمنهم، ولقد قال تعالى في ذلك: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47).
وهكذا تكاثرت آيات الله تعالى في كتابه العزيز تنبئ بأن الله تعالى يقصم الظالمين، وهم في غفلة ساهون، حتى إذا أخذهم رأوا الويل.
وإن ذلك فيه إنذار للعرب بأنهم لَا يصحح لهم أن يأمنوا مكر الله، وإنه نازل بهم لَا محالة، وإذا كان أمهلهم فلم ينزل بهم مثل ما نزل بغيرهم، فلأن الرسالة إليهم خالدة وأنها ليست لهم وحدهم، وإنما هي للأجيال كلها، وإن ما ينزل بهم(5/2785)
يكون بتوفيق الله لنبيه بعمل بشري ينتصر به عليهم، أو بريح صرصر عاتية تهزمهم ولا تمحوهم.
وماذا كانت حال الذين أنزل الله تعالى عليهم بأسه في قراهم وقد طغوا وبغوا وأثاروا الفساد، إنهم يحسون بظلمهم بعد أن فات وقت الإيمان، وقد قال، الله تعالى فيهم: (فَمَا كَان دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهم بَأسُنَا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ).
لقد قرعتهم هذه القارعة، وذهب غرورهم الذي دلاهم الشيطان به، وصغوا بعد أن استكبروا فنطقوا بالحق الذي أنكروه، وضرعوا إلى الله أن ينجيهم من العذاب الذي نزل بهم، ولات حين منجاة، بل إنهم يذوقونه وبال ما كسبوا، فهو جزاء لَا فرصة معه لتوبة.
الدعوى هنا: الدعاء، كقوله تعالى: (. . . وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
ويصح أن تكون الدعوى هنا بمعنى الإقرار، وفي التعبير عن الإقرار بالدعوى مجاز؛ لأن كليهما في مقام الخصومة، وإذ كانوا قد وضعوا أنفسهم في مقام الخصومة مع الله تعالى بما افتروا من عبادة الأوثان وكذبوا عليه كان التعبير عن الإقرار بالدعوى للإشارة إلى أنهم قد خفضوا من دعاويهم وغطرستهم ولم يبق إلا أن يقروا خانعين، أغراهم الكفر ابتداء، وأذلتهم القارعة انتهاء.
" الفاء " هنا للإفصاح عن شرط مقدر، أي إذا كانت القوية قد نزل بها هذا العذاب الحاسم، ماذا كان جواب أهلها؟ فكان الجواب:
* * *(5/2786)
فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
(فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ ... (5)
* * *
ولتضمن الدعوى معنى الإقرار لم تلحق تاء التأثيث بالفعل " كان " وهنا نفي وإثبات، وذلك يتضمن معنى الاختصاص والقصر، أي أنه لَا جواب لهم إلا الإقرار بالظلم، وإنه كان وصفا اتصفوا به في كل ما قالوا من كذب على الله تعالى. فما كان قولهم: (ظلمنا)، بل كان قولهم: (إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ)، وذلك تأكيد لظلمهم، فقد كان بالجملة الاسمية وبتصدرها بـ " إنا "، و " إنَّ " دالة على التوكيد، وتأكيد القول بـ " كنا " الدالة على الالمعتموار، وبالوصف بالظلم الدائم، اللهم وفقنا للعدل، وجنبنا الظلم.
* * *(5/2786)
(فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
* * *(5/2787)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)
الفاء هنا عاطفة على ما قبلها، وهو إقرارهم بأنهم كانوا ظالمين، والذين أرسل الرسل إليهم هم الذين خوطبوا برسالاتهم، كقوله تعالى في بيان سؤالهِم: (وَيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)، وقوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109).
أكد الله تعالى أنه سيسألهم بنون التوكيد الثقيلة، واللام الممهدة للقسم، أكد - سبحانه وتعالى - أنه سيسألهم، وهو سؤال العارف العالم بما وقع وما كان منهم، وما سيجيبون به، ولكن غاية السؤال أن يقروا بما كان منهم وما يستحقون ولنسألن الرسل الذين أرسل إليهم، وإجابة المرسلين إليهم لتسجيل الحجة عليهم، ولتكون الحجة قائمة عليهم بإقرارهم وقائمة عليهم بشهادة الرسل الذين بعثوا إليهم بأن الحق قد بلغهم (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفسُهُمْ. . .)، والسؤال في هذه الحال نوع من بيان بطلان ما فعلوا، مع عدم قدرتهم على تغيير ما كان، وأنهم لَا سبيل لهم لأن يتداركوا ما فات، فالسؤال لهم يلقي في نفوسهم بالحسرات، وسؤال الرسل يلقي بحسرات أشد، لأنهم قاوموهم ومنعوهم من الحق وآذوا المؤمنين.
وأنهم بذلك يعلمون أنهم إن عذبوا إنما يعذبون باستحقاق جزاء ما ظلموا.
ولقد روي عن عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لن يهلك الناس حتى(5/2787)
يعذروا من أنفسهم " (1) ولقد أكد - سبحانه وتعالى - أنه لَا سبيل لإنكارهم لأن الله تعالى يعلم غيب أمرهم إن أخفوه، فقال:
________
(1) رواه أحمد: باقي مسند الأنصار (22000)، وأبو داود: الملاحم - الأمر والنهي (4347).(5/2788)
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ).
الفاء عاطفة ما قبلها على ما بعدها، واللام لام القسم دالة هي والنون والقاف على التوكيد. و " نقص ": معناها نخبر خبر من يتقصى ويتتبع لَا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، والضمير في " عليهم " يعود على من أرسل إليهم، ويحتمل أن يعود إليهم وإلى المرسلين معا، فيعلم المرسلون من الله ما كان يقع عليهم ويدركون أن الله كان عليما بالعنت الذي أعنتوه، يعلمون ذلك عند الحساب، كما علموه في الدنيا بإطلاع الله تعالى عليه، فعلمهم في الدنيا بالحساب والعقاب، كان علم إيمان بالغيب، ويقين من خبر الله، وعلمهم الآن بالحساب والعقاب والثواب علم معاينة. أما الكفار الذين أرسل إليهم فعلمهم يقيني بما أنكروا من قبل وهو علم بما جهلوا علم معاينة أو علم عقاب أنكروه، وبعث ونشر، وقد كابروا فيه.
وأكد الله تعالى قصصه الحق المتتبع بأمرين:
أولهما: قوله تعالى: (بِعِلْمٍ)، أي أنه قصص لأعمالهم وأعمال رسلهم بعلم صادق ليس فيه حدس وتخمين. كما كانوا يدعون من علم من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهو يعلم الظاهر والباطن والأول والآخر.
ثانيهما: أنه علم من عاين وشاهد، وإذا قال تعالى: (وَمَا كنَّا غَائِبِينَ) أي كنا حاضرين حضورا مستمرا ما كنا غائبين فأخبرنا، ولكن كنا شاهدين، فعاينا، وليس علم الخبر، كعلم المعاينة والمشاهدة في الصدق واليقين.(5/2788)
وإن هذا العلم الذي ثبت بالعيان والشهادة هو الذي يبنى عليه الحساب والعقاب؛ ولذا قال تعالى:
* * *(5/2789)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)
* * *
(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ)، أي يكون الوزن للأعمال وزنا حقا ثابتا لَا يميل إلى باطل، ولا يكون مبنيا إلا على الحق، و " الوزن " مبتدأ و " الحق " خبره، وتعريف الطرفين يكون دالا على القصر، أي أن الوزن يكون مقصورا على الحق لَا يأتي بباطل، فهو مقياس دقيق يميز خير الأعمال من شرها، (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ)، موازينه جمع ميزان، أي من رجحت كفة موازينه بأن كانت أعماله في كفة الميزان كبيرة ثقيلة، (فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون، أي أنهم المفلحون وحدهم لا يفلح غيرهم، وذلك لتعريف الطرفين، والإشارة إلى من ثقلت موازينه، وهنا يقال: أن الميزان واحد، فلماذا كان التعبير بالجمع بكلمة (موازينه)؟ فنقول في الإجابة عن ذلك، إنه لتعدد الأعمال الوزونة يكون كل صنف منها قد ثقل فيها ميزانه، فيكون قد ئقلت موازينه.
وكذلك يقال فيمن خفت موازينه، وقد قال تعالى فيمن خفت موازينه:
* * *(5/2789)
وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
(وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
* * *
قوله تعالى: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) أي علت كفة أعمالهم لخفتها، فأولئك بسبب هذا خسروا أنفسهم، والتعبيص هنا بقوله تعالى: (خَسِرُوا أَنفُسَهُم) وهي كناية عن أن العذاب ينزل ولا يخفف عنهم، وخسران نفوسهم في هذا يشير إلى معان ثلاثة:
أولها - أنهم هم الذين كانوا بأعمالهم في الدنيا عاملين على خسارتها، فلم تكن الخسارة لاحقة بهم من غيرهم.(5/2789)
ثانيها - أن العذاب خسحارة للنفس أي خسارة، وأنهم هم الذين جلبوا لها هذه الخسارة الخالدة.
ثالثها - أنهم كانوا يحسبون في ضلالهم في الدنيا أنهم يكسبون بغطرستهم وكبريائهم واغترارهم بمظاهر القوة فبين الله تعالى أنهم الأخسرون أعمالا، وذلك عند ميزان الأعمال بميزان الخير والشر، لَا بميزان الغرور والاستكبار.
وقوله تعالى: (بِمَا كانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)، أي أن هذه الخسارة التي خسروا بها أنفسهم بسبب أنهم كانوا مستمرين طول حياتهم الدنيوية مكذبين بآياتنا الدالة على وحدانية الله - سبحانه وتعالى - وأضاف - سبحانه وتعالى - الآيات إليه للإشارة إلى عظم تكذيبهم، لأنهم يكذبون الآيات المنسوبة إليه - سبحانه وتعالى - فتكذيب أكبر من في الوجود، ومنشئ الوجود، أكبر تكذيب وأكبر ظلم.
وقدَّم قوله تعالى: (بِآيَاتِنَا) على (يَظْلِمُونَ)؛ لأن آيات الله هي محور الحق وميزانه وبرهانه، ونلاحظ هنا أن ظلم ويظلم تتعدى بنفسها من غير باء، وهنا تعدت بالباء، ونقول في ذلك: إن ظلمهم كان لتكذيبهم بالآيات وكفرهم بها، فكان التعبير بقوله تعالى: (بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ) تضمن معنى التكذيب والكفر والظلم وذلك ضلال كبير؛ ولذا تعدى بالباء.
وهنا موضوع يجب أن نذكره وهو يتعلق بقوله تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئذٍ الْحَقُّ) وقوله تعالى: (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) أيكون يوم القيامة وزن حقيقي حسي وموازين حقيقية حسية؟ أم هذه كناية عن إحقاق الحق وأن يعطى كل امرئٍ حقه، فلا يضيع لمحسن حسنة، ولا يحمل مسيء فوق إساءته.
نقول في الجواب عن ذلك: إننا نؤمن الإيمان كله بأن يوم القيامة ونعيم الجنة وعذاب جهنم وغيرها من أحوال اليوم الآخر كلها حسي، ولكن نميل إلى قول ابن عباس إلى أن المذكور في القرآن عن نعيم وطعام الذين كتبها الله تعالى(5/2790)
لهم مجازي مقرب، فإذا كان فيها فاكهة ورمان وخمر لذة للشاربين وعسل مصفًّى، وغير ذلك فإن ذلك مجاز مقرب وليس كطعامنا في الدنيا، إنما هي فاكهة أعلى من فاكهتنا، وليس لها لغة إلا ما تقربه لغتنا؛ ولذا قال - عليه الصلاة والسلام -: " فيها ما لَا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " (1).
بعد هذا نقول: إن قوله تعالى: (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ) أهو وزن محسوس بميزان محسوس يوم القيامة؟ فنقول مقلدين بعض المفسرين أن ذلك مجاز عن أن كل ذي حق يأخذ حقه بالحق لَا ينقص ولا يزاد عليه شيء إلا أن يكون ذلك من رحمته تعالى وغفرانه.
وإنه يكون ثمة استعارة أو تشبيه، شبهت عدالة الله تعالى يوم القيامة، وهو لا يظلم شيئا بالميزان الذي توزن به الأشياء التي تخف الكفة فيها وتثقل؛ وذلك لدقة الحكم، ونسب ذلك القول إلى مجاهد والأعمش والضحاك، وقد قال هذا أبو السعود في تفسيره وذكره الغزالي في كتابه: (المضنون به على غير أهله) إذ قال رضي الله تعالى عنه: " تعلق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور، وبالموت ينكشف الغطاء " كما قال تعالى: (. . . فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرك الْيَوْمَ حَدِيدٌ)، ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده وهي مقادير تلك الآثار، وإن بعضها أشد تأثيرا من البعض، ولا يمتنع في قدرة الله أن يجعل سببا يعرف الخلق في لحظة مقادير الأعمال بالإضافة إلى تأثيرها في التقريب والتبعيد، فهذا الميزان المعروف، ومنه القبان للأقطان والإصطرلاب لحركات الفلك والأوقات، والمسطرة للمقادير والخطوط، والعروض لمقادير حركات الأصوات، فالميزان الحقيقي إذا مثله الله تعالى للحواس مثله بما شاء من هذه الأمثلة، فحقيقة الميزان موجودة في جميع ذلك، وهو ما يعرف به الزيادة والنقص وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل، وللخيال عند التمثيل، والله
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: بدء الخلق - ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (3244)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها - باب (2824).(5/2791)
أعلم بما يقدره من صنوف التشكيلات، والتصديق بجميع ذلك واجب " من تفسير القاسمي ". وفي مقابل ذلك الرأي المجازي الذي قاله من السلف مجاهد والأعمش والضحاك، وقاله الغزالي وأبو السعود، ونميل إليه، قول آخر، وهو أن كل ما ذكر عن اليوم الآخر من الميزان والصراط وغير ذلك حسي حقيقي يجري على ظاهره؛ لأن المجاز حيث تتعذر الحقيقة، ولا تتعذر الحقيقة هنا، فلا مسوغ للتأويل، وعلى ذلك الأكثرون.
وهنا سؤال يعرض: كيف يكون الوزن، سواء أكان معنويا مجازيا أم كان حسيا، والله تعالى يعلم كل شيء.
وقيل في الجواب عن ذلك: إن ذلك لإقامة العدل ولبيان حقيقة الأفعال، وليقروا بما كان منهم، والله عليم خبير قد أحاط بكل شيء علما.
* * *(5/2792)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
* * *
بين الله - تعالى - ما أنعم به على الناس أجمعين وثنيين ومؤمنين، طائعين وعاصين، فنعم الله تعالى الدنيوية تعم ولا تخص (. . . وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).
وقوله: (مَكَّنَّاكُمْ)، أي جعلناكم ممكنين منها تفترشونها، وقد مهدها لكم تمهيدا وجعلها لكم مستقرا ومقاما تنتفعون بها، وجعل لكم من زروعها وثمارها ومعادنها، وما أودع أرضها من فلزات ما تتمتعون، وجعل - سبحانه وتعالى - لكم فيها معايش وهي جمع معيشة، والمراد ما تتعيشون مما أخرجت الأرض، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22).
وإن المعايش التي جعلها لنا في الأرض قد ذكر بعضها، من ذلك قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرع مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ(5/2792)
وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142).
هذه بعض النعم التي اتخذ الإنسان منها معايش له.
وإن قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ) فيه توكيد من الله تعالى بهذا التمكين وذلك الاستقرار وذلك التأكيد اللفظي باللام وقد، وهو تأكيد للفعلين اللذين جاءا بعد ذلك.
وكان هذا التأكيد لتذكير الذين لَا يؤمنون بفضل هذه النعم وحق شكرها ولكن الشاكرين قليلون في عددهم بالنسبة للكافرين بها للذين لم يؤدوا حقها.
ولذا قال تعالى: (قَلِيلًا مَّا تَشْكرونَ)، " قليلا " نائب عن المفعول المطلق لـ " تشكرون ". و " ما " ليقوي معنى القلة، والمعنى تشكرون شكرا قليلا، أيَّ قلة بالنسبة لهذه النعم، إنه مهما يكن شكر المؤمنين فهو قليل بالنسبة لنعم الله تعالى، وهو ولي النعم.
* * *
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
* * *(5/2793)
ذكر - سبحانه وتعالى - في هذه الآيات وما يليها قصة خلق آدم ومعاندة إبليس، وقد سبق ذكرها في سورة البقرة وليس ذكرها هنا تكرارا لما ذكر هناك أولا، فإنه إذا كررت بعض الوقائع، فإنه قد زيد هنا الفتنة التي فتن به الشيطان النفس البشرية فعلا، وهي تشابه مع ما أدى إليه الاندفاع وراء إبليس من بدء السورة، وأن آدم وحواء قد بدآ يخصفان عليهما من ورق الجنة، فقد فتن المشركين، حتى جعلهم يطوفون عراة كما أدت وسوسته لآدم وحواء إلى أن بدت لهما سوءاتهما.(5/2794)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
(وَلَقَدْ خَلَقْنَاكمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ).
الخلق الإنشاء، والتقدير خلق الله تعالى الناس من الطين، فقال له كن فكان إنسانا، ثم صوره على هذا الشكل الإنساني الذي جعله في أحسن تقويم، و (ثُمَّ) هنا ليست للتراخي الزمني، فإن ذلك إنما يكون بالنسبة للحوادث، أما بالنسبة لله تعالى فلا تفاوت ولا تراخي؛ لأن الزمن لَا يكون بالنسبة لله تعالى، إنما هو التفاوت بين حالي الخلق، وإن كان كلاهما يتم بقوله تعالى: (. . . كُن فَيَكُونُ).
بعد أن تم خلق الإنسان الأول وهو آدم، كرمه الله تعالى بأن أمر الملائكة بأن يسجدوا، لعلمه بالأشياء، إذ علمه الله تعالى الأسماء كلها، وهذا قد ذكر في سورة البقرة، ولم يذكره هنا، وعلى ذلك لم يكن تكرارا.
وقوله تعالى: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) (ثُمَّ): هنا للتفاوت بين تقويم الخلق والتكوين والأمر بالسجود.
واستثنى من إطاعة الأمر فتي السجود - إبليس، والاستثناء لأنه لم يسجد، سواء أكان الاستثناء متصلا؛ لأنه من جملة من كان مع الملائكة أم كان منقطعا، فإنه لم يسجد، مع أن الأمر بالسجود يشمله، فلم يكن منه سجود، سأله الله تعالى عما منعه من أن يسجد قائلا له تعالت كلماته:(5/2794)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
(مَا مَنَعَكَ أَلَّاتَسْجُدَ إِذْ(5/2794)
أَمَرْتُكَ) وسياق النص أن يكون: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك، قال بعض المفسرين أن " لا " زائدة ونحن لَا نرى أن في القرآن حرفا زائدًا، ومن يقول ذلك يسرف في قوله، ونقول في ذلك أن: " منع فلانا من أن يؤذى " أي حماه، ويقال: " فلان في منَعَة "، أي في قوة حامية، سواء أكانت نفسية أم من جماعة، والمعنى على ذلك، ما منعك حاميا لك ألا تسجد إذ أمرتك، أي أنه وجد المقتضي للسجود، وهو أمر الله تعالى، وأمر الله واجب النفاذ للملائكة، ومن يكون معهم.
فكان جوابه: (أَنَا خَيْرٌ منْهُ) وذكر سبب الخيرية التي ادعاها، فقال: (خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) وهو في هذا غافل، ومدع ما لَا دليل فيه على دعواه، أما غفلته، فهو أن الله تعالى خالق النار وخالق الطين وما في خلقه تفاوت، فهما خلق الله تعالى، وهو الذي اختار النار له، واختار الطين لآدم، واختار أن يسجد إبليس الناري لآدم الذي هو من طين، فكيف يعترض عليه بخلقه، وإن هذا ضلال في الفهم، وغفلة في الإدراك، ولذا قال بعض العلماء: أشد العالمين غفلة إبليس. ودعواه أن الطين خير من النار، وأنه بذلك خير من آدم هذه دعوى لَا دليل عليها، بل الدليل يناقضها، لأن الطين خلق الله منه الخصب، وكان من الخصب الزروع والثمار والأشجار والنخيل، وكل طعام أهل الأرض، والماء ينزل عليه غيثا فيكون منه ثمر كل شيء، وطعام الإنسان، والحيوان، والنار تدمر وتحرق، فإذا كان من الطين العمران، فمن النار الدمار، وكل خلق الله تعالى.
ولأن الباعث على قوله هذا التكبر، وليس الدليل؛ لذلك قال الله تعالى له:
* * *(5/2795)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)
(قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا ... (13)
* * *
والهبوط هنا هبوط معنوي، إذ يخرج من الجنة إلى الابتلاء والاختبار، يمد الله تعالى له، ويختبر به الناس، فتكون العداوة، كما قال تعالى في قصة سورة البقرة: (. . . وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ. . .) وقد ذكر - سبحانه - أنه(5/2795)
تكبر في غير موضع تكبر، وكذلك شأن المتكبرين دائما، فقال: (فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا) أي في الجنة، فليس من شأن هذا المكان الطاهر أن يكون فيه تكبر من مخلوق على مخلوق، ولذا قال (فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) الصاغر هو الذليل، أو الأذل، من الإذلال، وهذه معاملة له بعكس ما يريد يبتغي لنفسه ابتغى الكبر فعاقبه الله تعالى بالإذلال، وشأن المتكبرين دائما أنهم يستعلون، فيذلهم الله، و " الفاء " في قوله تعالى: (فَاخْرُجْ) تشير إلى أن سبب الأمر بالهبوط هو التكبر، والمعنى إذا كنت تتكبر ذلك التكبر فالأولى لنفسك أن تهبط فتكون من الصاغرين.
ولكن إبليس اللَّجوج لم يرد أن يترك جهلا محادته لله - سبحانه وتعالى -
* * *(5/2796)
قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
(قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
* * *
أي أمهلني فلا تعجل بموتي إلى يوم يبعثون، وقد ذكر من بعد ما يريد عمله من ذلك الإمهال وهو إضلال الناس، فأجابه الله تعالى - وهو العزيز الحكيم - إلى مطلبه ليتحقق اختيار الإنسان، وسلطان إبليس عليه أو على الأشقياء من خلقه.
* * *(5/2796)
قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
(قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
* * *
وإبليس الذي كان في غفلة قال من بعد ذلك مبينا لماذا كانت المهلة التي طلبها، قال إبليس:
* * *(5/2796)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)
* * *
الإغواء إيفاع الغي في القلب، وهنا نجد أن إبليس يعترف بسلطان الله تعالى الكامل على العقول والنفوس، وأن الغفلة التي سترت مداركه، وأضلت تفكيره هي بإرادة الله تعالى وبعمل منه، وقوله تعالى عن إبليس: (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) اللام لام القسم، و " أقعدن ": تأكيد لقصده الآثم (صرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) ظرف مكان أي لـ أقعدن لهم في صراطك المستقيم، وأضلهم، حتى لا يسيروا، في هدى، بل يسيرون في مسارات مختلفة يضلون فلا يهتدون سبيلا.
وبين إبليس أنه يحيط بالأشرار فلا يفلتون منه، فيقول:
* * *(5/2796)
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
(ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
* * *(5/2796)
ومعنى ذلك أنه يحيط بهم بأعوانه، فيحيط بهم إحاطة الدائرة بقطرها، لا يفلتون منه، وهذا التصوير الحسي كناية عن الإحاطة النفسية التي لَا يخرجون عن دائرتها، وينتهي من قوله بأنه سيضل الأكثرين، ولذا يقول: (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُم شَاكِرِينَ). وإذا كان قد استعلى واستكبر أولا فقد دفعه الاستعلاء إلى أن يضل باستمرار ويتحدى رب العالين في حماقة منه، ولذا قال الله تعالى طاردا له من رحمته:
* * *(5/2797)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
(قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
* * *
المذءوم المذموم المعيب المشنوء المبغض، والمدحور: المطرود الهالك، و " اللام " في قوله تعالى: (لَّمَن تَبِعَكَ) لام القسم، وهي لتأكيد العذاب النازل بهم، وتمتلئ جهنم منهم أجمعين، من إبليس ومن معه.
* * *
(وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
* * *(5/2797)
كشف الله - سبحانه وتعالى - ما في إبليس من خبث في ذاته وإرادة الشر، وقصد إلى إغواء آدم وذريته.
اتجه - سبحانه وتعالى - إلى آدم يحذره، ويبين له ما بوأ له في الجنة، قال سبحانه:(5/2798)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
(وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19).
نادى الله - تعالى - آدم باسمه تكريما له، أباح له ليسكن هو وزوجه حواء الجنة، وأن يأكلا منها من حيث شاءا من ثمارها في أي ناحية شاءا منها، ولكن حرم عليهما شجرة معينة، اختبارا لقوة أنفسهما، وإرادتهما، وردهما إغواء إبليس لهما، حيثما أراد، وبين أنهما إذا أكلا منها كانا من الظالمين لعصيان أمر ربهما ولضعف إرادتهما، وأول الظلم ضعف إرادة الظالم، وكان نهى الله تعالى لهما ألا يقربا هذه الشجرة، والنهي عن القرب نهي عن الأكل بالأولى، ولا نعلم ما هذه الشجرة فلا نحاول تعرفها ما دام الله تعالى لم يسمها، ولكن إبليس وجد الباب الذي يدخل منه ليوسوس لهما، فكان في ذلك قوله تعالى:
* * *(5/2798)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)
(فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْءَاتِهِمَا ... (20)
* * *
فوسوس الشيطان وهو إبليس اللعين، وعبر عنه هنا بالشيطان لفساده وحركاته الفاسدة، والوسوسة: الصوت الخفي، وتطلق الوسوسة على حديث النفس، فيقال: وسوست إليه نفسه، أي حدثته بفعل معين. تحدث إليهما موسوسا بأن يأكلا من الشجرة، وكانت النتيجة أن بدت لهما سوءاتهما، وهي العورة التي يسوء النظر إليها، وكانت هذه نتيجة الوسوسة، ولأنها نتيجة تأكد وقوعها، جعلت كأنها الباعث على هذه الوسوسة إذ جاء باللام في قوله: (لِيُبدِيَ لَهُمَا) وكيف كانت الوسوسة؟ ذكرها الله تعالى متحدثا عنه مبينا: (وَقَالَ مَا نَهَاكمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ).(5/2798)
إنه يؤتى الإنسان من رغبة العلو والبقاء، وقد أتاهما الشيطان من هذه الناحية التي يبتغيها الإنسان بفطرته فقال كاذبا: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ) أي إلا لمنع أن تكونا ملكين (أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخالِدِينَ) ويكون تقدير الكلام إلا كراهية أن تكونا ملكين والنفس الإنسانية طامحة إلى العلو وحب البقاء فكان ذلك السبيل لإغوائهما إلى الأكل وقد غرَّهما، ثم أراد أن يثبت لهما أنه ناصح لهما فأقسم بأنه لهما من الناصحين.
* * *(5/2799)
وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
(وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
* * *
والمعنى وأقسم لهما أنه من الناصحين، وذكر القسم بلفظ المفاعلة؛ لأنه أقسم لهما وأوقع في أنفسهما أنه صادق في قسمة وأكده بكل مؤكد حتى كأنهما صدقاه وبادلاه القسم، وأكد أنه من الناصحين وذلك بعدة مؤكدات، أولا: بالقسم الذي شدد فيه حتى وقع في أنفسهما صدقه، كأنهما أقسما معه، وثانيا: بـ " إنَّ " المؤكدة، والجملة الاسمية، وإدخاله في زمرة الناصحين حتى وقعا في مغبة تغريره؛ ولذا قال تعالى في أثر هذه اليمين الفاجرة التي أقسمها.
* * *(5/2799)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)
(فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ... (22)
* * *
الغرور هو ظن الضار مصلحة، والباطل حقا. ودلاه من التدلية، وهي إلقاء الدلو في البئر، وهي هنا إلقاء النفس في الغرور، والمعاصي، والمعنى دلاهما في المعاصي بالغرور الذي أوجده فيهما، فذاقا الشجرة التي نهاهما عن القرب منها، فلما ذاقاها بدت عوراتهما التي يسوء منظوها، ولما بدت أردا أن يستراها فطفقا، أي أخذا يخصفان أي يقطفان من ورق الجنة ما يستر عوراتهما، وقد بدت لهما، وكانت من قبل مستورة عنهما، وبذلك ظهو لهما بينا ألم المعصية وأثرها، وناداهما ربهما وهما في هذه الحال مذكرا بالنهي، فقال تعالى:
(وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ).
ناداهما نداء منبها قويا قائلا لهما وربهما الذي خلقهما، فسوى، وهو يعرف ما تخفي نفوسهما يلومهما في أمرين:(5/2799)
أولهما - أنه نهاهما ولم ينتهيا وقال لهما: (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) أي لقد نهيتكما عن تلكما الشجرة نهيا مؤكدا، ولكن أكلتما كما قال في آية أخرى: (. . . وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى).
الأمر الثاني - أنهما أطاعا الشيطان في تغريره، وحسبا أنه ناصح، وقد بين الله تعالى أنه عدو واضح العداوة، ولذا قال: (وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَان لَكُمَا عَدُو مُّبِينٌ) أي لقد قلت مؤكدا القول: إنه عدو واضح العداوة فما كان لكما أن تغترا به، أحس آدم بغرور الشيطان الذي ظهر في أثر العصيان، وأنهما بالعصيان ما صارا ملكين ولا صارا في الخالدين.
فقالا نادمَيْن:
* * *(5/2800)
قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
(قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
* * *
اتجهوا معترفين بذنوبهم مقرين بخطئهما وقد أحسوا بأن مغبة العصيان وقعت فنادوا ربهم (رَبَّنَا).
وهنا حرف نداء محذوف، وهو نداء ضراعة وخشية: أي يا ربنا ظلمنا أنفسنا، وظلمهما لأنفسهما كان باديا لعيانهما عندما ذاقا الشجرة فقد بدت لهما سوءاتهما وأخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وظلما أنفسهم بعصيان الله وذلك ظلم مبين، وظلمهما أنفسهما باغترارهما بالشيطان وقد قال لهما ربهما: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُو مُّبِينٌ) واضح العدوان.
كان هذا الإحساس العميق بظلم أنفسهما مصحوبا بضراعة إلى الله تعالى أن يغفر لهما ويرحمهما، ولذا قالا: (وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) يطلبان المغفرة من الله تعالى ولا يكتفيان بها، بل يطلبان مع المغفرة أن يتغمدهما الله برحمته، ولئن لم تكن المغفرة والرحمة ليكونن من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم بظلمهم لها وخسروا غفران الله تعالى ورحمته، وذلك هو الخسران المبين.
ولذا قال الله تعالى:
* * *(5/2800)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
(قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24)
* * *(5/2800)
ليست الجنة دار ابتلاء، إنما الأرض هي دار الابتلاء التي يتنازع فيها الخير والشر، والحق والباطل، والبر الفاجر، وهي دار الابتلاء فيها تتجلى عداوة إبليس ومن معه لابن آدم وذريته؛ ولذا أخرج آدم من الجنة ومعه زوجه، وأخرج إبليس مذءوما مدحورا قال الله تعالى: (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُو) اهبطوا جميعا بعضكم لبعض عدو، فإبليس عدو لآدم وزوجه وذريتهما من بعدهما، ويكون بعض هذه الذرية لبعضهم عدوا لإغواء الشياطين، فالشيطان عدو لبني آدم، وبإغوائه يكون بنو آدم بعضهم لبعض عدو.
ولكم أيها المذنبون وذريتكم فيها مستقر أي موضع استقرار ومتاع، تنتفعون بخيراتها وكل ما فيها أو ينتفع بعضكم، وكل ذلك إلى حين أي زمن محدود.
ثم بين الله تعالى حال الناس في الدنيا فقال تعالت كلماته:
* * *(6/2801)
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
(فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
* * *
والمعنى فيها تعاقب الأحياء بعضهم من ذرية بعض، والأحياء يموتون ويخلفهم أحياء من بعدهم، والأموات يبعثون من قبورهم ثم تكون القيامة، ويجازى المحسن إحسانا والمسيء الذي أطاع الشيطان، يناله عذاب أليم، والله ولي المؤمنين الصادقين.
ما بين قصة خلق الإنسان في سورة البقرة وقصته هنا يبدو بادي النظر وظاهره، أن القصة هنا هي بحذافيرها المذكورة أولا في البقرة، وأن ذلك تكرار في القرآن. ونحن نرى أن كون الله خلق آدم، وأمر الله الملائكة أن يسجدوا، وامتناع إبليس عن السجود وطرده وهبوطه هو وآدم وزوجه من الجنة، مذكور في القصتين، ولكن كان الاختلاف فيما وراء ذلك فذكر في إحداهما ما لم يذكر في الأخرى ومجموعهما يأتي بالقصة متكاملة الأجزاء، فيما تعرضت السورتان له، الثمرة من ذكر القصة مختلف في كل واحدة عن الأخرى.
أولا - أن قررت أن ثمرتها عداوة إبليس لآدم من أصل التكوين، وحذرت الإنسان من أثر هذه العداوة، وبينت الآية الكريمة ما يترتب على هذه العداوة،(6/2801)
وذكرت بني إسرائيل، وما وسوس به الشيطان في نفوسهم، وكانوا أوضح مثل في البشرية لتحكم إبليس فيهم، حتى كأنه هو - أي إبليس - وَهُم شيء واحد، لولا أنه من الجن، وهم من الإنس، وهم مع ذلك صورته الحية الواضحة، جعلهم الله تعالى عبرة المعتبرين من أهل الفضيلة.
والثمرة هنا في هذه الآية هو تحكم إبليس في العرب حتى جعلهم يطوفون عراة رجالا ونساء، كما حمل إبليس أبوى الإنسان على أن يأكلا من الشجرة، فبدت لهما سوءاتهما.
ثانيا - أن قصة البقرة فيها تعليم الله تعالى لآدم، وبيان استعداده لأن يعلم الأشياء كلها، واختبار الله تعالى للملائكة، ثم كان الأمر بالسجود نتيجة لأن آدم أنبأهم بأسماء ما جهل الملائكة أسماءهم، ولم يذكر ذلك في هذه القصة، بل طوى وكان الأمر بالسجود فحذف من هنا ما ذكر هنالك مفصلا.
وفى قصة التكوين في سورة الأعراف التي تتكلم في معانيها، ذكرت الطريقة التي أزل بها إبليس الزوجين الكريمين، إذ قال لهما: (مَا نَهَاكُمَا رَبُكمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ)
ثالثا - وفي سورة البقرة بينت أنه أزلهما ولم تبين الطريقة التي أزلهما بها، فكانت القصة هنا موضحة لذلك، فهي متممة لها، وليست مكررة معها.
رابعا - في هذه السورة ذكر ما ترتب على الأكل من الشجرة، من أن بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، فإن ذلك لم يذكر في سورة البقرة وذكر هنا، وهو تتميم لما ذكر.
وما ذكر هنا فيه بيان مشابهة ما دعا إليه الله تعالى من النهي عن عري العرب في مكة بإغواء إبليس، فتشابه عمله مع ذرية آدم بما عمله مع آدم وزوجه.
خامسا - في قصة التكوين في الأعراف، أن آدم وزوجه قد أحسا بما صنعا، (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ولم يذكر(6/2802)
ذلك في سورة البقرة إلا قوله تعالى: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ. . .)، فكانت الآية متممة أو موضحة لما جاء في سورة البقرة ولم يذكر في سورة البقرة نداء الله تعالى للزوجين قالا: (أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ)، وهكذا كان ما هنا متمما لما هناك.
سادسا - ذكر في سورة البقرِة إرادة الله تعالت حكمته أن يجعل خليفة وما قاله الملائكة في هذا: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ثم بيان الله بتعليمه الأسماء كلها وبيان أنه أحق بخلافة الأرض منهم، ولم يذكر هذا هنا في الأعراف.
وذكر هنا إغواء إبليس، وطريقته في إغوائه وأنه يحيط بهم دائما من عن أيمانهم وعن شمائلهم، ولم يذكر هنالك في سورة البقرة، وأنه بهذه الموازنة بين ما اشتملت عليه القصة في السورتين يتبين أمران:
أولهما - أنه لَا تكرار، بل كل قصة تكمل الأخرى، وتتكون قصة كاملة لا تتضارب الأجزاء فيها.
ثانيهما - أن الثمرة في كل جزء مختلفة، وأن القرآن مَعِين المعرفة لَا يغيض أبدًا.
* * *
(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ(6/2803)
لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
* * *
ذكر الله - سبحانه وتعالى - ما كان في خلق آدم وزوجه، وما وقع لهما مع إبليس، وكيف وسوس لهما، حتى ذاقا الشجرة فبدت لهما سوءاتهما.
ويبين في هذه الآية أن الثياب نعمة أنعمها الله على عباده، ويقول الزمخشري: إن هذه الآية استطراد لما جاء في أصل التكوين، أي أنها في معنى البيان والتفسير لكونهما أخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة، والمعنى أن ذلك أمر فطري، وقد قوى الله تعالى المعنى الفطري، بأنه أنعم على الناس باللباس اسجابة للفطرة وذلك صيانة للحياة.
ولا نحسب آن الآية استطرادية، بل الآيات تمهيد لبيان أن ما كان يفعله بعض العرب من الطواف عرايا، هو خروج على الفطرة، وهو خروج على الحياء الإنساني، الذي جعل آدم وحواء يخسفان عليهما من ورق الجنة:(6/2804)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
(يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا).
النداء لبني آدم جميعا؛ لأنه مجاوبة للفطرة الإنسانية التي جعلت أبوي البشر يخصفان عليهما من ورق الجنة؛ ولذا كان النداء إلى أولاد آدم، وفيه إشارة إلى تلك الفطرة السليمة، وإلى ذلك الحياء الفطري الذي هو سمة الإنسانية الرفيعة، لا إلى تلك الإنسانية المسيخة، التي تظهر في العرى الفاحش الذي يقره بعض الذين تبلدت مشاعرهم وأحاسيسهم.
(قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ) وذلك بإِنزال المطر الذي ينبت منه النبات، وتأكل منه الأنعام، ويحيا به كل شيء حي في هذه الأرض، ثم يكون من(6/2804)
النبات القطن والكتان، ويكون من الأنعام الأصواف والأوبار والأشعار، مما يتخذ لباسا تستر به العورة.
فالله - سبحانه - يعبر بالسبب، وهو نزول الماء الذي يكون منه النبات وغذاء الجسم، ويكون من ذلك اللباس الذي يواري السوءة، وهي العورة، وقد بينا أن السوءة وهي العورة، وقد بينا أن السوءة ما يسوء النظر إليه، ولا تقره الفطرة السليمة.
وأقول: إن تفسير قوله تعالى: (قَدْ أَنزَلْنَا) بالمطر الذي يكون منه اللباس تفسير سليم، ولكن كلمة " أنزل "، كما تدل على نزول الماء كما في قوله تعالى:
(. . . وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً. . .)، كما في قوله تعالى: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السمَاءِ مَاءً. . .)، فإننى أرى أنها كما تدل على ذلك، تدل أيضا على الأنعام، فهو سبحانه أنعم بهذا اللباس الذي يواري السوءة، فهو الذي أنزل علينا نعمه ظاهرة وباطنة.
ويقول سبحانه وتعالى: (وَرِيشًا) الريش والرياش لباس الزينة، وما تزين به البيوت من فراش، وأطلق الريش على لباس الزينة، على أنه من قبيل التشبيه بريش الطير الذي يتزين به، وتصيبه الحسرة إن خلع منه.
والمعنى أن الله تعالى أنزل لبني آدم، اللباس الذي يواري السوءة، ولباس الزينة.
(وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْر).
إن اللباس الضروري هو الذي يواري السوءة، والريش هو الزينة، وهو الرياش في البيوت، وكل ذلك في الأجسام، وما يتصل بها من المسكن والمأوى، فللقلوب لباس يكسو باطن الإنسان، وهو التقوى؛ ولذا قال تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى) وقد شبه في هذه الحال، ما يملأ النفس من تقوى سابقة وإيمان قوي، وباللباس الذي يلازم الجسم ويستره ويتزين به، فإن التقوى ستر لعيوب النفس،(6/2805)
ووقاية لها من غضب الله تعالى، وهي زينة القلوب ونورها المشرق، ولذلك قال فيها: (ذَلِكَ خَيْرٌ) في ذاته، وخير عما سواه من زينة الناس، فإن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
وفسر بعض العلماء لباس التقوى، بأنه لباس الجهاد من لأمة (1) الحرب، واتخاذ الترس والدرع، وغير ذلك مما يدرع به المقاتل مجاهدا مدرعا، فإن هذا لباس تقوى من جهة أنه لَا يكون إلا ممن امتلأت قلوبهم بتقوى الله، وباعوا أنفسهم له سبحانه وتعالى، وذلك أعلى درجات التقوى، لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ. . .).
وذلك لَا شك تحتمله الآية، ولكنه ليس الظاهر المتبادر منها، ونحن في منهاجنا نتجه إلى الظاهر المتبادر وقد يصح لنا أن نقول: إن الآية تعم الأمرين والله تعالى أعلم.
وإن الله تعالى، إذ خلق لنا نعمة الكساء: ما يكون منه ساترا، وما يكون منه زينة، فإنه آية من آيات الله ونعمه يجب أن نتذكرها، ونعتبر بها في كل تصرفاتنا، وخصوصا في الحج، الذي هو منسك إبراهيم - عليه السلام - باني الكعبة، وأبي العرب، ولذا قال تعالى في ختام الآية: (ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّه لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).
والإشارة بـ " ذلك " إلى نعمة الله تعالى في إنزال الأمطار التي يكون منها الزرع والحرث والنسل ثم يكون منها للناس والرياش.
لقد حكم - سبحانه وتعالى - أنه من آيات الله في إنزال المطر الذي كان منه كل شيء حي، والذي به أنشأ الله جنات معروشات وغير معروشات، فهذا كله من آيات الله تعالى ونعمه، التي توجب الشكر وتمنع الكفر، وهي مع ذلك، دالة على وحدانيته.
________
(1) اللأمة: لباس الحرب.(6/2806)
وختم الله سبحانه قوله العزيز بقوله: (لَعَلَّهمْ يَذَّكَّرونَ)، الضميران يعودان إلى المشركين الذين كفروا بالله والذين يكفرون بنعمة الله، ويطوفون بالبيت الحرام عراة، وقد أنزل عليهم لباسا يواري سوءاتهم وريشا يتزينون به، فلعلهم يتذكرون فينخلعوا عن هذه العادات انخلاعا.
والرجاء هنا منهم لَا من الله تعالى، وقد مهد الله تعالى لهم من الأسباب، وذكر لهم من الآيات ما به يتذكرون.
* * *(6/2807)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
(يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا ... (27)
* * *
النداء للناس أجمعين، وكان النداء بقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ) لهذا العموم، ولتذكير الأبناء بما كان للآباء من عداوة إبليس، وتهديده بإغوائهم، وأنه يقعد لهم الصراط المستقيم، وأنه وسوس لأبوي الآدميين.
قال الله تعالى ناهيا: (لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ) النهي للآدميين، والفاتن هو الشيطان ولم يوجه النهي إليه؛ لأنه تمرد على أمر ربه، وخرج مذءوما مدحورا، وكان النهي لبني آدم مع أن الفاعل غيرهم؛ لأن معنى النهي حينئذ ألا يمكنوه منهم، وذلك بطاعة الله تعالى وحده ورد الأوهام والأهواء، فإنها باب الشيطان فإن سُدَّ باب الوهم والهوى، فقد سُدَّت مسالك الشيطان، واستقام في النفس أمر الرحمن، فالحصن الذي يقي المؤمن فتنه الشيطان، هو الطاعة لأوامر الله تعالى، وتقوية العزيمة. . والإرادة وأن يكون للرحمن وليا ويتقي ولاية غير الله تعالى.
والفتنة معناها في أصل اللغة: فتن الفلزات من الذهب والفضة والحديد والنحاس، لإخراج ما يكون فيها من مادة ليست من جوهرها. ثم أطلقت على كل شدة يتميز بها الخبيث من الطيب، وتختبر فيها الإرادات ويتميز فيها ذوو العزائم، ثم كانت للنتيجة وهي محاولة خداع النفوس بالإتيان بما يهد العزيمة(6/2807)
ويضعف الإرادة، بخداع النفس، وإرهاق الإرادة والطغيان على حكم العقل وإضعاف سلطانه.
وهي هنا من هذا القبيل، فالله تعالى ينهانا عن أن ننخدع بالشيطان، وله ماض في إيذائنا وخدع أبوينا: آدم وزوجه حواء، اللذين كان منهما التناسل الإنساني الدائم، إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها.
وقد عزز الله تعالى النهي عن الانخداع بإبليس، بماضيه، إذ خدع آدم وحواء، فأتى نفوسهما من جهة ما هو في فطرة الإنسان، من حب العلو والخلود، فقال لهما مُقْسِما لهما: (مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ) ومن هذا الباب دخل إلى أنفسهما وأتباعه من بعده، يسلكون هذا الطريق ذاته فهم يأتون النفوس من قبل ما تحب وتشتهي، فالأهواء والشهوات الباب الذي يدخل منه الشيطان إلى النفوس، والسلطان والطغيان بابان مفتوحان من أبواب الشيطان.
وقد كان لوسوسة إبليس لأبوي الخليقة، أثران: ذكرهما الحق - سبحانه - في كريم آياته الأولى:
أولهما: إخراجهما من الجنة. فقال فيها: (كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ) وهو - كما أخرجهما من جنة الله تعالى - يخرجكم يا بني آدم، من جنة الطاعة وعزتها، إلى ذلة المعصية وغوايتها.
ثانيتهما: أنه ترتب على ذلك أن بدت لهما سوءاتهما، وصارا تحصنان عليها من ورق الجنة، كما قال تعالى: (يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا).
كذلك الشيطان ينزع عن المؤمن كل ما استكن في قلبه من خير، ويكشف عورات الناس، وسوءات المجتمع الإنساني.(6/2808)
وإن في ذلك لإشارة واضحة إلى أن الشيطان الذي نزع لباس آدم وحواء هو الذي ينزع عن العرب لباسهم في الطواف حول أقدس بيت الله في الأرض، أول بيت وضع لعبادة الناس وهو البيت الحرام.
وإذا كان إبليس قد تراءى في الجنة الأولى لآدم وحواء فدلاهما بغرور، فإن أتباعه لَا يظهرون، ولكن يوسوسون؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّه يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهمْ).
إن إبليس يختفي ولكن له سلطان قوي على النفوس والقوة الخفية له هو وقبيله أي جماعته التي يجمعها، هذه القوة تبعث في النفس بقدر لَا يقل عن القوة الظاهرة التي كانت لأبوي الخليقة آدم وزوجه، وهذه القوة يؤثر بها في نفوس الكبراء بإغرائهم بالسلطان وتسليطهم على الضعفاء فيكون على الضعفاء قوتان تسيطران على أنفسهم: قوة أصحاب السلطان الظالم، وقوة الشيطان والاستخذاء له في نفوسهم. والمؤمن القوي يدفع الإغراءين ولا يستمع إلا لله سبحانه وتعالى، فإذا كانت هذه تسيطر، فقوة الحق عند أهل الحق أقوى، ولو كانوا عبيدا أو ضعفاء، لأنهم مؤمنون بالله - سبحانه وتعالى - وقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في تأثير الشياطين الخفية وتأثير الملائكة " أن للملك لمة وللشيطان لمة، فأما لمة الملك فوعد بالخير وتصديق بالحق، وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق " (1).
واللمة ما يلم بالقلب ويتصرف القلب والنفس بمقتضاه، قالقلب تتنازعه قوة الحق وهي من الله أو من الملك، وقوة الشر، وهي من الشيطان، وهو يرهب من الحق، ونتائجه، ويغري بالهوى والشهوة.
وإن قوة الإيمان تدفع إغراء الشيطان، فالإيمان والتقوى حصنان للحق، والكفر والهوى حظيرة الشيطان؛ ولذا قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنونَ).
________
(1) رواه بنحوه الترمذي: التفسير - ومن سورة البقرة (2988) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(6/2809)
إنه إذا كانت التقوى قوية، تكون إرادتها للحق، وعزيمتها في الخير عزيمة صادقة، لَا يقوى الشيطان على قهرها، أما النفوس المضطربة بالباطل التي فسدت فطرتها، فإن الشيطان يجد السبيل لبث شروره وإغرائه وفتنته وخديعته فيها؛ فإنها لفساد فطرتها واضطراب فكرهم - تجد فيها الشياطين داعيتهم، وهذا معنى جعلهم أولياء للشياطين، فمعنى قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ).
أي أنهم لإفساد فطرتهم المستقيمة وجعلها معوجة، والاعوجاع دائما، يفتح ثغرات لهذا الشر، وتلك الوسوسة التي بها يكون الشياطين أولياءهم، وإنما جعل الله تعالى الولاية ليست في النفوس الإنسانية، وإنما جعلها للشياطين أنفسهم، فقال سبحانه: (إِنَّا جَعَلْنَا الشيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)؛ لأن الشياطين يفعلون والنفوس الإنسانية تتقبل، واعوجاجها يسهل دخول الشر فيها، والولي هنا هو الموالي والنصير المتصل، فالله - سبحانه - جعل الشياطين موالى وأحباء وأصدقاء للذين لَا يؤمنون، الذينِ ليست قلوبهم مؤمنة مذعنة للحق؛ ولذا ذكر الفعل المضارع بقوله: (لِلَّذِين لَا يُؤْمِنُونَ)، أي لمن ليس من شأنهم الإيمان والإذعان للحق، فالكافرون أولياؤهم الشياطين والطاغوت.
وإن من إغواء الشياطين لبني آدم، أن ينسبوا أفعالهم إلى الله، وإلى أتباع آبائهم؛ ولذا قال تعالى:
* * *(6/2810)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)
(وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ... (28)
* * *
أشرنا إلى ما كان يفعله المشركون في الحج، وما كانوا في هذا إلا متبعين لما كان عليه آباؤهم، وفي هذا يتبين ما جاء عن مفسري التابعين في هذا الموضوع.
الفاحشة: الأمر الزائد عما تقبله العقول المستقيمة، والاحتشام الإنساني والحياء الخلقي، ولا شك أنهم بطوافهم عراة، يرتكبون أفحش الأعمال الخارجة عن حدود العقل، والاتزان، والحياء الفطري.
ولقد روى مجاهد في ذلك، أن المشركين كانوا يطوفون بالبيت عراة، فكانوا يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا، وكانت المرأة تضع على قُبُلها شيئا تستره به،(6/2810)
فأنزل الله تعالى: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا) وقد قال الحافظ ابن كثير في ذلك: وكانت العرب ما عدا قريشا، لَا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لَا يطوفون في ثياب عصوا الله تعالى فيها، وكانت قريش، وهم الحمس (جمع أحمس) يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسي ثوبا طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه لئلا يتملكه أحد، ومن لم يجد ثوبا جديدا، ولا أعاره أحمسي ثوبا طاف عريانا، وربما كانت امرأة فتطوف عريانة فتجعل على فرجها شيئا يستره بعض الستر فتقول:
اليوم يبدون بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
" وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل، وكان هذا شيئا ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ".
وإن هذا الكلام يدل على أمرين خطيرين:
أولهما - أن ذلك كان يحدث من العرب مخالفا كل عرف، ومخالفا لكل تفكير سليم فما كان ليرضى أحدًا مثل هذا، وهو أشد أحوال الفحش في الأفعال! ثانيهما - ما يزعمون من أنهم لَا يطوفون بثياب ارتكبت فيها معاص لهم.
وكأن قريشًا لَا معاصي لهم، مع أن بعضهم ما كان يتحاشى المفاخرة بالمعاصي، فقد كان منهم من هو رجس في رجس. وإذا كان منهم من كان يمتنع من التدلي فيما يخدش مروءته كعبد المطلب، وأبي طالب، والعباس، فقد كان منهم أيضا من لَا يمتنعون عن بعض المعاصي، كالربا ونحوه.
وإنهم إذ يفعلون هذه الفاحشة يبررونها بأمرين:
أولهما - أمر يتفق مع العقل الجاهلي، وهو أنهم يقولون: (وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا)، ولو كانت فحشا، ولو كان آباؤهم لَا يعقلون شيئا ولا يهتدون.(6/2811)
الأمر الثاني - أنهم يفترون على الله، ويقولون: (وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا) ويتأولون ذلك بأنه ما دام لم ينهنا عنها فقد أمرنا بها.
وهذا تفكير جاهلي، يقولون أمر الله بالشرك وبتحريم بعض الذبائِح، وِتحريم بعض ما تخرجه الأرض، ويقولون: (. . . لَوْ شَاءَ اللَّه مَا أَشْرَكنَا وَلا آباؤنَا ولا حرَّمْنَا مِن شَيْء. . .)، وهذا ما يبرر به المعاصي بعض الجاهلين في هذا الزمان، وقد رد الله كلامهم بقوله تعالى: (قلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمر بالْفَحْشَاء أَتَقولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
أمر الله تعالى نبيه بأن يواجههم بافترائهم على الله تعالى، ببيان أنه يستحيل على الله ما يفترون عليه؛ لأن الله تعالى له الكمال المطلق، ومن له الكمال المطلق لا يأمر بالفحشاء؛ لأنه لَا يصدر عنه إلا ما هو كمال في ذاته، ولا يتنافى مع عقل عاقل ويرضاه ذو ذوق سليم، وقال تعالى: (لا يَأمر بِالْفَحْشَاءِ) ولم يقل " ما أمر بذلك "، أو ما أمر بالفحشاء، بل قال نافيا الأمر بالفعل المضارع: (لا يَأْمُر بِالْفَحْشَاءِ) فلا يمكن أن يأمر بذلك لَا في الماضي ولا في المستقبل، وليس من شأنه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وكان النفي بالمضارِع؛ لأنه نفي لشأن الله ثم قال تعالى، كما أمر نبيه أن يستنكر قولهم: (أَتَقولُون عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ)؟! الاستفهام هنا إنكاري لإنكار الواقع، أي لتوبيخهم على ما وقع منهم؛ لأنهم فعلا افتروا على الله افتراء، فقالوا ما لَا يعلمون صدقه، ولم يصل إليهم عن الله تعالى أمره فيه وحكمه.
وإن ذلك فوق أنه توبيخ لهم، واستنكار لفعلهم - فيه توجيه لهم لئلا يتكلموا إلا بعلم، وأن الشيطان لينفذ إلى ما يحكمون به بأوهامهم وأهوائهم.
وتقديم قوله تعالى: (عَلَى اللَّهِ) لبيان وجه الاستنكار الشديد، وهو أنهم يقولون على الله جل جلاله، فكان قولهم هذا أشد الافتراء.
ثم بين سبحانه فقال بعد أن نفي أنه يأمر بالفحشاء:
* * *(6/2812)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
(قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
* * *(6/2812)
ذكر الله تعالى في الآية السابقة أن الله تعالى لَا يأمر بالفحشاء، أي لَا يأمر بالأمر الذي يفحش، فلا تستطيع العقول المستقيمة المدركة أن ترضى به، وهنا يبين ما يأمر به سبحانه، فيقول: (قلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ)، وإن السياق يقتضي أن يكون ما أمر الله به نقيض الفحشاء، فالقسط هنا يفسر بأنه العدل، والعدل كل أمر في ذاته مستقيم تقره العقول ولا ينكره الذوق السليم، فالعدل يشمل العدل في الحكم، والعدل في الأقوال والأفعال، والاعتدال في كل ما يختار في الأمور، فلا يمتد إلى الحرمان، ولا إلى الاعتداء، بله الإفحاش؛ ولذلك قال بعض المفسرين: إنه يشمل كل ما أمر الله به، فما يأمر إلا بما هو عدل، وما نهى إلا عما هو ظلم. وقال أبو مسلم في تفسيره: إنه الطاعات كلها، والتعبير بالماضي في " أمر " فيه تكذيب لافترائهما وأنه لم يأمر به الله سبحانه، فالله - سبحانه وتعالى - ما أمر بالفحشاء، بل أمر بالقسط، وما به تستقيم الأمور في العقول.
ولقد صرح - سبحانه - بما يجب للمساجد، من تعظيم، لَا أن يطَّوَّفوا عراة بالمسجد الأعظم، الذي كرمه الله تعالى، وتشد إليه الرحال؛ ولذا قال تعالى: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كلِّ مَسْجِدٍ).
هذا أمر معطوف على خبر في الظاهر، ولكن قالوا إن قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكمْ) " أن " مطوية في الكلام ومقصودة والسياق هكذا: " أمر ربي بالقسط وبأن أقيموا وجوهكم عند كل مسجد ". وأقول إن: " أقيموا " معطوف على " أمر؛ لأن " أمر " يتضمن معنى الطلب، فهو عطف طلب على طلب.
وإقامة الوجه عند كل مسجد، هي الاتجاه إلى الله تعالى، مثل قوله تعالى: (فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا. . .)، والوجوه هي الذوات، أي اتجهوا إلى الله تعالى بكل أنفسكم عند كل مسجد، وكذلك ما يطلبه الله تعالى عند كل مسجد، مع توقير المساجد، وإعطائها حقها في الاحترام والإجلال، فلا يصح أن يكون فيها عرى أو ما يكون رذيلة في ذاته، أو ما يبعث على الرذيلة، وأن يكون(6/2813)
الاحتشام هو الزي الأكمل، وإقامة الذات لله تعالى أن تكون خالصة له سبحانه، ومستشعرة خشيته، وجلاله، وقرن هنا بالمسجد، لكرامة المسجد كما ذكرنا؛ ولأنه رمز الصلاة، فإقامة الوجه في الصلاة بأن تكون مقومة فيها استحضار عظمة الله سبحانه في قراءتها وأدعيتها وكل حركاتها، لَا يعمر القلب فيها غير الله تعالى.
وقرن - سبحانه وتعالى - الأمر بإقامة الوجوه لله بالأمر بالدعاء مخلصين له الدين، فقال تعالى: (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، الأمر بالدعاء هو الأمر بالعبادة، لأن العبادة دعاء، والدعاء في ذاته اتجاه إلى الله بضراعة وخشوع وخضوع، فقد أمر الله تعالى بمعاملة الناس بالقسط بين الناس، ثم أمر من بعد بإقامة الوجه لله تعالى بالانصراف إليها بذواتنا، بأن نجعل كل مشاعرنا، وخلجات قلوبنا لله تعالى، بحيث لَا نحب إلا لله، ولا نبغض إلا لله، وأن نكون ربانيين في أنفسنا، وعقولنا، وقلوبنا، ثم أمرنا من بعد أن نعبده وحده، قد خلصت قلوبنا له؛ ولذا قال: (مُخْلِصينَ لَهُ الدِّينَ) والدين هنا الطاعة، وكل العبادات.
مخلصين له كل هذا، بحيث لَا نشرك في عبادته أحدا، فلا نعبد أحدا سواه، ولا نرائي في عبادته، فالرياء في العبادة هو الشرك الخفي، ولذا ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك " (1).
وقد قرن - سبحانه وتعالى - هذه الأوامر بالتحذير من عصيانه، والتذكير بالبعث، وأنه وراء البعث القيامة والحساب والثواب أو العقاب، ولذا قال تعالى: (كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).
وفى هذا النص دعوة إلى الإيمان بالبعث، وتذكير به، وهذا التذكير يحمل في نفسه دليله، و " الكاف " دالة على التشبيه، والمعنى بهذا البدء بالخلق والتكون تعودون، أي يعيدكم كما بدأكم، ففي الآية ذكر للبعث، ودعوة إلى الإيمان به، والدليل عليه بقياس الإعادة على الإنشاء، وأنه أهون، والله على كل شيء قدير،
________
(1) سبق تخريجه(6/2814)
وأنه يكون من بعده الجزاء، فمن اهتدى فله الثواب، ومن ضل نزل به العقاب، ولذا قال تعالى:
* * *(6/2815)
فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
(فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
* * *
يبين الله - سبحانه وتعالى - أن الناس عند عودتهم إلى فريقان: فريق هداه الله تعالى في الدنيا وفريق كان من أولياء المثحياطين، وحق عليه الضلالة.
و (فَرِيقًا هدَى) حال من (تعودون) في الآية، أي يعودون فريقا هداه الله تعالى، وفريقا حقت أي ثبتت عليه الضلالة، والفريق الذي هداه الله قد اتخذ الطريق المستقيم سبيلا، ولم يتخذ طريقا عوجا، فإنه يُضل، والفريق الذي ثبتت وتقررت عليه الضلالة، هو الذي اتخذ الشياطين أولياء له يودهم ويحبهم؛ لأنه اتجه إلى المعاصي يشتار عسلها، وجعل قلبه موطنا للشيطان يسكنه، ويغويه ليحقق قسمه لله تعالى بقوله: (. . . لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ).
ولقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث عدة أن الناس يولدون على الفطرة، والفطرة التي فطر الله الناس عليها مستقيمة دائما لَا تخرج عن سنن الحق بمقتضى العهد الفطري الذي أخذه على بني آدم من ظهورهم وذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا، وإن الشياطين هي التي تحولهم عن الفطرة إلى الضلالة، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: دزكل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصرانه، أو يمجِّسانه) ((1)، وروى مسلم في حديث قدسي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إني خلقت عبادي حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم " (2)، فالله سبحانه خلق الخلق، وهم يدركون بفطرهم أن لهذا الكون خالقا، وأنه وحده الذي انفرد بالخلق والتكوين، وذلك بمقتضى الميثاق الذي أخذ عليهم بمقتضى الفطرة والغريزة، كما أشرنا.
________
(1) سبق تخريجه.
(2) جزء من حديث رواه مسلم: (5109) من حديث عياض المجاشعي رض الله عنه. ورواه أحمد (17030) بلفظ (فأضلتهم عن دينهم).(6/2815)
وإن من يسلك طريق السعادة يتجنب الاستجابة للشيطان، ويستيقظ لفِتَنِه، فلا يمكنها من أن تسيطر عليه، وتستمكن من منازعه، وحتى مكن للشيطان من أَن يصل إلى توجيه فكره، ونفسه، وإرادته، فقد اتخذه من دون الله وليا، وقد روي في الصحيحين " من كان من أهل السعادة فيُيَسَّر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فيُيَسَّر لعمل أهل الشقاوة " (1).
والآية الكريمة تقول: (فَرِيقًا هَدَى) ولم يذكر الفاعل وهو الله تعالى، تكرما من الله تعالى، يشير إلى أن الهداية ابتداء باتجاه من الذي هداه الله تعالى، كما أن أهل الضلالة قد حقت وثبتت عليه الضلالة بعمل ممن ضل وغوى، وقال سبحانه في أهل الغواية: (اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ) أي أنهم فتحوا قلوبهم وسخروا عقولهم وإراداتهم للشيطان، فكان لهم وليا من دون الله؛ لأنهم هجروا فطرتهم، وهجروا أوامر الله تعالى ونواهيه، ومعنى (مِن دونِ اللَّهِ) تعالى، أي من غير إطاعة الله.
ولقد قال تعالى في الآية السابقة: (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ)، وفي هذه الآية يقرر الله تعالى أن أهل الضلالة اتخذوا الشياطين أولياء، فالولاية ئبتت من الجانبين: الشياطين أرادوها للإغواء، وأهل الضلالة فُتِنوا بالإغواء، فاتخذوهم أولياء، وإنه لاتخاذهم الشياطين أولياء كان منهم ضلال فكري، بهذا الاتخاذ؛ ولذا قال تعالى: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهم مُّهْتَدُونَ) الضمير يعود على فريق الضلالة الذين حقت عليهم و (وَيَحْسَبُونَ) معناها يظنون متوهمين أنهم مهتدون، أي أنهم بسبب عملهم الإيجابي في اتخاذهم الشيطان أولياء من دون الله تعالى انقلبت أفهامهم، وأركس إدراكهم، فزين لهم سوء أعمالهم فحسبوه حسنا، فظنوا بأوهامهم أنهم مهتدون، وهذا شر أنواع الضلال، بأن يسير المرء في طريق الباطل، وهو يحسب أنه الحق والهداية.
________
(1) متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية علي رضي الله عنه.(6/2816)
وإن هؤلاء في حسبانهم الغواية - محاسبون على ذلك؛ لأن الله بين الحق فأعرضوا، وعاندوا واستكبروا، فلم يطيعوه عنادا واستكبارا، حتى فسدت مداركهم، وضلت أفهامهم، فحسبوا الباطل حقا، والضلالة هداية ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* * *
(يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
* * *
هذه الآيات الكريمة تبين ما أحل الله تعالى وما حرم، وأن ما أحله الله تعالى طيب فإنه تعالى طيب لَا يحل إلا طيبا، وما حرمه هو خبيث في ذاته من أفعال وأشياء، وقد ابتدأ - سبحانه وتعالى - بإحلال ما كان العرب يحرمونه من ستر أنفسهم في الحج عند الطواف بالبيت الحرام، فقال تعالى:(6/2817)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
(يَا بَنِي آدَمَ خذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) كان بعض العرب يطوفون عراة، كما بينا في ذكر معاني الآيات السابقة، وإن الله تعالى قد أنعم علينا باللباس الذي يواري سوءاتنا والريش من الثياب الذي نتزين به، لنبدو في أقوم صورة، أو في صورة لَا تشنأها الأنظار، فقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن الله جميل يحب الجمال " (1)؛ ولذا قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا
________
(1) رواه مسلم: الأيمان (131) باب: تحريم الكبر وبيانه، وأحمد: مسند المكثرين من الصحابة (2600) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(6/2817)
زِينَتَكُمْ عِندَ كلِّ مَسْجِد) النداء لبني آدم يشمل الناس أجمعين لقوله تعالى (يَا بَنِي آدَمَ)، فلماذا اختص النداء هنا بقوله تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ) ونقول في الجواب عن ذلك الاستفهام المفروض أن ذلك للتذكير بحال آدم وزوجه عند إخراجهما من الجنة، وبدت سوءاتهما وأخذا يخصفان عليهما من ورق الجنة.
وقوله تعالى: (خُذوا زِينَتَكمْ عندَ كلِّ مَسْجد)، معناه البسوا لباسا يكون فيه زينة وتجمل لكم، وقال تعالى: (خذوا زِينَتَكمْ) شاه تحروا أن تأخذوا بأسكم متزينين متجملين بها، عندما تدخلون أي مسجد، وإن ذلك لتكون المساجد نظيفة دائما، ويحسن فيها الطيب ليكون فيها أريج تطيب له الأنفس وتقبل عليه جموع المصلين، وإن ذلك يوجب أمرين.
أحدهما - لستر العورة باللباس السابغ الطيب الذي هو زينة في ذاته، والعرى فيه ظهور للعورات، والعورات سوءات يسوء النظر إليها.
ثانيهما - أن يكون ثمة تجميل، وقد حسَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - التجمل عند دخول المساجد، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتجمل في ثيابه، ولا يتبذل فيها، وخصوصا في المسجد، وعند استقبال الوفود.
ويقول تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، هذا أمر بالأكل وهو في معنى الإباحة بالجزاء بأكل أي جزء، أو أي نوع فيأكل بُرا أو تمرا، أو شعيرا أو أرزا. ويجب بالكل، فلا يصح أن يحرم نفسه من الطعام، وإلا أودى بنفسه إلى الهلاك ولا يحرم على نفسه نوعا من الطعام دون نوع، كالذين يحرمون على أنفسهم أكل اللحوم فإنه يجب عليهِم أن يتناولوها، حتى لَا يقعوا في النهي في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تُحرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكمْ. . .).
ولقد روى الإمام أحمد بن حنبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة "، والإسراف يكون في ناحيتين:(6/2818)
إحداهما - أن ينفق مبذرا فوق طاقته، بأن يكثر من الضيفان فوق طاقته فإن ذلك تبذير منهي عنه، وقد قال تعالى: (إِنَّ الْمبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ. . .).
والثانية - أن ينال من الطعام ما يثقل معدته وأمعاءه، وجسمه، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه النسائي والإمام أحمد: " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنٍ؛ حسب ابن آدم أُكلات يُقِمْن صُلبَه فإن كان لَا محالة، فثلث طعامٍ وثلث شراب وثلث لنفسه " (1).
وإن الإسراف في الطعام يختلف مقداره ونوعه باختلاف حال الطعام، وإن كان مريضا، فما يؤدي إلى زيادة مرضه إسراف، وإن كان قويا معافى فلا يتناول ما يؤدي إلى إتخامه، فإن زاد فقد أسرف، وقد قال تعالى في صفات المؤمنين: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا).
وقد بغض الله تعالى الإسراف للناس ببيان أنه سبحانه لَا يحبه ولا يرضاه لعباده فقال تعالى: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) لأن الإسراف يؤدي إلى إضرار أبدانهم، وحرمان لغيرهم، وضياع لذوي الحاجة في الجماعة الإسلامية كما قال ابن عباس: ما من مسرف إلا ووراءه حق مضيع. وقد أكد - سبحانه وتعالى - بغضه للإسراف بنفي المحبة، ومحبة الله مطلب المؤمنين، ولقد كان من العرب من حرم زينة الله وأوجب العري عند الطواف فاستنكر الله تعالى فعلهم، وقال:
* * *
________
(1) رواه أحمد: مسند الشاميين - حديث المقداد بن معدي كرب (16735)، والترمذي بلفظ مقارب: الزهد - ما جاء في كراهية كثرة الأكل (2380)، وابن ماجه: الأطعمة - الاقتصاد في الأكل وكراهة الشبع (3349).(6/2819)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ... (32)
* * *
أمر الله تعالى نبيه الكريم بأن يستفكر ما كان من الذين حرموا زينة اللباس افتراء على الله تعالى كما كان يفعل المشركون، أو تزهُّدا كما فعل جهلة المتعبدين(6/2819)
فقال: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) الاستفهام إنكاري لنفي الواقع لا لنفي الوقوع؛ لأنه وقع من المشركين، وإنكار الواقع توبيخ لهم على ما وقع.
وقد وقع في هذا بعض العرب، فطافوا عراة في المسجد الحرام، كما ذكرنا، وقد كان الأمر في الآية السابقة يأخذ الزينة في المسجد الحرام وعند كل مسجد، وفى هذه الآية يستنكر تحريم الزينة في المساجد وغيرها، وهي آمرة باتخاذ الزينة أمْر إباحة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحمل في ثيابه، وإن كان يرقعها أحيانا (1)، وكان يحث أصحابه على أن يتخذوا أحسن الثياب حتى إذا أوشكت على البلى تصدقوا بها، وكان السلف من الصحابة والتابعين يعنون بثيابهم، وإذا كان قد روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه في مدة خلافته كان يلبس أحيانا ثوبا تعد رقعاته، فما ذلك لتحريم التجمل على نفسه، بل لمعنى في الحكم الآمر نفسه، فهو يقول: لا أكون أمير المؤمنين إن لم أعش كأضعف المؤمنين.
وكان علي بن أبي طالب إمام الهدى يعنى بثيابه ويتجمل بها، فلما ولي أمر المؤمنين كانت أول كلمة قالها: سأرفع من ثوبي ما كنت أجر.
وقوله تعالى: (الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ)، أي أنه - سبحانه وتعالى - مكن عباده من إخراجها ونسجها، وأنشأ لهم مصدر وجودها، فهو - سبحانه وتعالى - هو الذي أنزل المطر بالماء العذب من السماء فكان النبات، وعاش بالنبات الحيوان، وكان من النبات القطن والكتان، وكان من الحيوان الصوف والوبر والشعر، وكان من كل ذلك اللباس والرياش، وما خلق ذلك عبثا، بل كان وفق ما سنه - سبحانه وتعالى - ولا يليق بمؤمن أن يرد إنعام الله، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده " (2). وكما استنكر القرآن الكريم الذي أنزله رب العالمين تحريم الزينة استنكر أيضا تحريم الطيبات، والطيبات هي الأطعمة التي تستلذ وتستطاب ما دامت لَا تضر الأجسام، وهي ضد الخبائث كما قال تعالى: (. . . وَيُحِلُّ لَهُمُ
________
(1) وذلك كما رواه أحمد: باقي مسند الأنصار - باقي المسند السابق (25527).
(2) رواه الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال: هذا حديث حسن. سنن الترمذي: الأدب - ما جاء في أن الله يحب أن يرى أثر نعمته (2819).(6/2820)
الطَّيِّبَاتِ وَيحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ. . .) فهي الطعام الطيب الهنيء المريء الذي تقبل عليه النفس وتهنأ به وهو لَا يعقبه ضرر: من لحم طري، وسمك شهي، وغير ذلك مما يستطيبه الإنسان.
ولا يتم الطعام الطيب ويكمل إلا إذا كان طيبا في طريق كسبه، فلا يكون قد أحذ من حرام لقوله عليه الصلاة والسلام " من نبت لحمه من حرام فالنار أولى به" (1).
فالطيب من الطعام له خاصتان أولاهما - أن يكون مستطابا في ذاته مريئا في عاقبته، والثانية أن يكون من كسب حلال.
وإنه من المقررات العلمية أن يكون من غير إسراف كما ذكر الله تعالى في الآية السابقة، ويجب أن يعالج العاقل نفسه، حتى لَا تندفع إلى الإسراف؛ ولذلك يحسن ألا يأكل كل ما يشتهي ولو كان حلالا، بل يفطم النفس في بعض الأحيان أو كلها لأمرين:
أولهما - أن ذلك تقوية للإرادة فلا يكون عبدا لبطنه، فلا يقع في الإسراف المنهي عنه.
ثانيهما - أن التمكن من أكل الحلال أمر كله لَا يدوم، فقد يصاب بالحرمان فيستعد له قبل الابتلاء به، فيكون قادرا على الصبر، وإن الله تعالى مكن الذين آمنوا من هذه الطيبات في الدنيا فقال تعالى: (قلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَئوا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
أي أنها مباحة في الحياة الدنيا للذين يستمتعون بحلالها من غير إسراف، ولا تقتير وقوله تعالى: (خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، يحتمل أن يكون المعنى أن هذه المتع يشترك في الدنيا معهم فيها غير المؤمنين، أما يوم القيامة وفي الآخرة فتكون خالصة للمؤمنين؛ لأنها تكون جزاء وفاقا لما قدموا في الدنيا،
________
(1) سبق تخريجه.(6/2821)
ويحتمل أن المعنى أنها تكون في الدنيا صادرة عن نفوس طيبة مؤمنة، وتكون خالصة لله تعالى، وخالصة من كل إثم، أما غير المؤمنين فإن تناولهم لهذه الطيبات قد يكون إثم مبطئ من الخير، فحبطت أعمالهم، والاحتمالان جائز جميعهما، فيكون المعنى خالصة يوم القيامة لهم، وخالصة من الآثام في الدنيا، وختم الله - سبحانه وتعالى - الآية بقوله تعالت كلماته:
(كَذَلِكَ نُفَصَلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)، أي كهذا البيان الذي بينه تعالى في هذا الشأن يفصل، أي يبين الآيات القرآنية والكونية لقوم من شأنهم أن يعلموا، فلا تغطي غواشي الأوهام والأهواء قلوبهم، فيدركون الحق ويعلمون بنور بصائرهم، ومن شأنهم أن يعلموا؛ ولذا عبر بالفعل المضارع والله تعالى أعلم.
* * *(6/2822)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
* * *
حرم أركون أو بعضهم اللبس في الطواف، وحرموا بعض الأطعمة، وأباح الله تعالى ذلك للمسلمين في غير إسراف ولا لتفاخر، بل بتجمل وتستر، بعد ذلك بين الله ما حرمه على الناس، وتحريمه مستمد من الفطرة؛ ولذا أمر الله تعالى نبيه أن يبين لهم ما حرم والفطرة تحرمه. قال عز من قائل: (قلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله (قلْ)؛ لأنه مبين شريعة القرآن، والمبلغ لها، وبين لهم قصر التحريم على الفواحش والإثم والبغي، والشرك والكذب على الله.
و (إِنَّمَا): للقصر، أي أن التحريم مقصور على هذه المحرمات كلها، وأهل الشرك ما كانوا يتحرجون عنها بل ارتكبوها كلها، وقال سبحانه: (حَرَّمَ رَبِّيَ) للإشارة إلى أن المحرِّم هو رب الوجود ورب الإنسان الذي يعلم الفطرة، وفى ذلك إشارة إلى أن الذي حرم هذا، إنما حرمه متسقا مع الفطرة التي فطر الناس عليها، وهو رب كل شيء، والفواحش هي الأمور التي تفحش وتزيد على(6/2822)
الفطرة، وهي تشمل كل المعاصي، وخصوصا كبائر الذنوب فتشمل كل الموبقات المفسدة للنفوس والجماعات، وبذلك كل ما يجيء من إثم وبغي يدخل في عمومها، ويكون ذكر الإثم والبغي، تخصيص بعد تعميم، فيكون العطف عليها من عطف الخاص على العام.
وقد نقول: إذا اجتمعنا خصص كل واحد بمعنى، فتخصص الفواحش بالمعاصي الصارخة التي تفسد النفس والمجتمع كالزنى، والخمر، والربا، وغير ذلك، وبعضهم خصصها بالزنى وما يتصل به من قذف للمحصنات وغير ذلك والفواحش على معناها العام والخاص يحرم ما ظهر منها وما بطن، وما يظهر منها وما يعلن، وجريمته جريمتان جريمة الفعل، وجريمة الإعلان، وما بطن ما استتر كاتخاذ الأخدان، ويشمل ما بطن فسق القلوب وذلك بالعزم على فعل هو شر في ذاته، ولكن يحول دون تنفيذه أمر فوق إرادته فهذا يكون معصية، ولا يدخل في ضمن حديث النفس الذي تجاوزه الله عن أمة محمد؛ لأنه حدث ونوى واعتزم التنفيذ ولكن حيل بينه وبينه بغير إرادته وعلى رغمه، وقد تكلمنا في ذلك فيما مضى والإثم ذنب لَا يتجاوز أذاه فاعله، فهو يبطئه عن فعل الخير، وآثامه على نفسه كشرب الخمر، وتناول الآفات التي تضر نفسه، ولا تتعدى إلى غيره، وإن كانت التفرقة بينهما في بعض المجتمعات عسيرة، والبغي هو المعصية التي تتعدى إلى غيره، ووصفه سبحانه بقوله: (وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ولا يكون البغي إلا بغير الحق، وهو تنبيه إلى ما يتضمنه البغي فهو يتضمن إثم التعدي، وإثم أنه فعل غير الحق فهو تصريح بما هو قبيح في ذاته.
ومن البغي أكل أموال الناس بالباطل في الربا، والرشوة والسحت ومن البغي أكل مال اليتيم، ومن البغي النميمة والغيبة، وأشد البغي الحكم بغير ما أنزل الله، والحكم بين الناس بالباطل ومن أفحش البغي ظلم الحكام للرعية والغلظة عليها، وإرهاقها، وإيذاؤها في حرياتها، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم مَن وَلِيَ من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومَن وَلِيَ من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق(6/2823)
به " (1) هذا هو القسم الأول مما حر مه الله تعالى وهذا القسم الآتي داء الشر، ولذا قال تعالى: (وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا).
هذا أشد المحرمات، وهو محرم بأمر الله، ومحرم ببديهة العقول، حتى لقد قال العلماء: إن وحدانية الله تعالى أمر تصل إليه العقول بالبديهة أو النظر القريب.
قال تعالى: (وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ)، أي أن تجعلوا شريكا لله تعالى في العبادة شيئا، أو جحرا، أو شخصا، لم ينزل الله به سلطانا، ويقول العلماء: إن السلطان هنا الحجة أو الدليل.
وأرى ما رأوا، ولكن في التعبير عن الحجة بـ " سلطان " إشارة إلى معنى أن هذه الأوثان وما شابهها لَا قدرة لها، ولا تثبت أن لها قوة تنفع وتضر، ومهما يكن، فإنهم يعبدونها بالأوهام المسلطة من غير سلطان من حجة أو دليل، ومن غير أن يعرفوا بالعيان أن لها سلطانا في الأفعال أو التوجيه في الكون، إنما هي الأوهام التي تصورها صالحة للعبادة مع الله تعالى لَا شريك له.
إن من الأمور التي حرمها الله تعالى أن نقول على الله مفترين؛ ولذا قال تعالى: (وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ).
هذا ثالث نوع من أنواع المحرمات، وهو الافتراء بأن يقولوا على الله ما لا يعلمون أن الله حكم به وقاله أو شرعه، كتحريم بعض الأحكام، وتحريم لبس اللباس في الطواف، ويقولون أنه من عند الله، وما هو من عند الله. وكما قال الله - تعالى - في الآية السابقة: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّه أَمَرَنَا بِهَا)، فذلك افتراء، وهو من أشد الافتراء (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّه كذِبًا. . .).
* * *
________
(1) رواه مسلم: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (1828)، وأحمد: باقي مسند الأنصار - حديث السيدة عائشة رضي الله عنها (24101).(6/2824)
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
* * *
لقد فعل الناس ما فعلوا في الدنيا منكرين ما أنكروا من بعث ونشور وحساب وعقاب، ومنهم من آمن بالله وبالبعث، وبإرادة الله تعالى الذي يختار ما يشاء، ويبتدئ من بعد ذلك بيان الحقائق لمن آمن واهتدى ولمن ضل وغوى كتابا منشورا ويبتدئ ذلك من البعث، وقد بين الله - سبحانه وتعالى - أن الجميع إلى نهاية ومن بعدها البعث فقال تعالى:(6/2825)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)، هذا بيان نهاية كل إنسان في هذه الحياة الدنيا، فهو يعيش إلى أجل محدود قد عينه الله تعالى له، لَا يتأخر ولا يتقدم، وأجل الإنسان هو نهاية حياته.
وقال - سبحانه وتعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ)، ولم يقل لكل إنسان أجل مع أنه لكل إنسان أجل فعلا فلماذا اختار - جل جلاله - ذكر أجل الأمة تلك حكمة الله تعالى فيما يختار من بيان في الذكر الحكيم، ونتلمس الحكمة في ذلك، نقول: إنه - سبحانه وتعالى - ذكر الأمة، دون الآحاد بآحادها أولا - لأنه إذا كان للأمة بآحدها وجماعاتها أجل فأولى أن يكون للآحاد آجالها، ثانيا - ولأن الأمة(6/2825)
هى الجماعة التي يجمعها عصر وعادات وتقاليد، ويكون فيها توجيه إلى الخير أو إلى الشر، فهي جيل له أحواله، وعليه تبعاته، فالله - سبحانه - أخبرنا أن لكل جيل من الأجيال أجله الذي ينتهي عنده، ويذهب بأثقاله ويجيء من بعده جيل آخر له شأنه.
وقوله تعالى: (لا يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً) والساعة أقل من الزمان، والسين والتاء في (يَسْتَأخِرُونَ) للطلب، والمعنى لَا يتأخرون، والتعبير بالسين والتاء هنا إشارة إلى أنه لَا يتأخر، ولو طلبوا تأخيره، بما يقتضيه حب الحياة بالنسبة للعصاة فإنهم يتمنون الحياة، ولا يتمنون الموت أبدا.
(وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)، " أى لَا يُقَدَّم ولو طلبوا أن يقدموا؛ كأولئك المؤمنين الذين يستعجلون لقاء ربهم لَا طلبا للموت ولكن رغبة في الحياة الآخرة ولقاء ربهم، طمعا في ثوابه، أو رغبة في رضوانه.
والمعنى لكل أجل كتاب والموت بأي سبب من الأسباب هو نهاية الأجل الذي لَا يتأخر ولا يتقدم فالموت بمرض، أو بقتل أو حرق أو غرق، أو استشهاد في سبيل كلمة حق لأجل الله تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ. . .).
وقدم قوله تعالى: (لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً) على (يَسْتَقْدِمُونَ)؛ لأن الرغبة
كثيرة، والرغبة في التقديم قليلة والله يتولى الأنفس وهو بكل شيء عليم.
وإن من بعد انتهاء الآجال يكون البعث، ويكون بعد البعث الحساب على التصديق والتكذيب لما جاء به الرسل، ولذا قال عز من قائل:
* * *(6/2826)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
(يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)
* * *
خاطب الله تعالى بني آدم، وفي ذكر آدم - عليه السلام - نبيه وتذكير بما كان من إبليس لآدم - عليه السلام - وعمله على إغوائه وإغواء ذريته من بعده، وقوله:(6/2826)
(إِمَّا يَأتِيَنَّكُمْ) فيه " إن " الشرطية، و " ما " المؤكدة لمعنى الشرطية، وهذا تأكيد من الله تعالى بأنه سيرسل رسلا مبشرين ومنذرين، كما قال تعالى: (. . . وَإن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، وقولى: (. . . وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسولًا)، ولذا أكد الشرط مع " ما " بالنون. ومؤدى الآيات أن الله تعالى مرسل الرسل لَا محالة ولكن ذلك ليس بواجب عليه تعالى، لَا يجب عليه شيء، ومن الذي يوجب عليه شيئا، (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، فالكمال كله له تعالى.
ورسل: جمع رسول، وقد أشار - سبحانه - إلى عملهم، وهو التبليغ عن الله تعالى بقوله تعالت كلماته: (يَقُصُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) والقصص الإخبار والتكليف، وتوجيه الأنظار إلى الكون قصا وتتبعا، لَا يترك أمرًا واجب البيان ولا يبينه والآيات تشمل لعمومها الآيات المبينة للأحكام التكليفية، والآيات الكونية الدالة على قدرة الله تعالى، وعلى وحدانيته في الخلق والكون، والصفات العلية، وتشمل المعجزات الباهرة التي تدل على الرسالة.
وإن هذا القصص الحكيم، والذكر الذي يهدي ويرشد، هو كالمطر، تتلقاه بعض النفوس فتؤمن به، وتتلقاه أخرى فتكفر به؛ فالغيث ينزل فيأتي بالخصب والخير الكثير للمؤمنين، ولا ينبت نباتا، ولا يسقي حرثا في الأرض الحدباء، قال تعالى: (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يحْزَنُونَ).
الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، والمعنى إذا جاءتهم الرسل بآياتي فمن اتَقى وأصلح. . .، ونسب الله - سبحانه وتعالى - الهدى إليه - سبحانه وتعالى - تعظيما لمعناه، ولبيان أن الرسل يتكلمون عن الله: (مَن يُطِع الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، ولبيان ما يترتب على ذلك، وهو نفي الخوف والحزن، ولذا قال تعالى: فلا خوف عليهم من عذاب، بل هم في أمن وسلام؛ لأن الهداية أمن واطمئنان، ولأن الطاعة لَا عقاب منها بل ثواب فلا خوف من عقاب.(6/2827)
ولا يحزنون، أي لَا يصيبهم حزن، ولا ألم نفسي أو وجداني، ولا تؤثر فيهم زوابع الحياة لأن نفوسهم مطمئنة بإيمانها، راضية بقضاء الله وقدره، كما قال تعالى: (. . . أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، فمن اهتدى فقد حصن نفسه بالأمن والرضا، فلا يخاف ولا يحزن.
وقد بين الله تعالى حال الذين لَا يؤمنون بما جاءت به الرسل من الهدى والبينات فقال:
* * *(6/2828)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
* * *
هنا ذكر للذين يعصون الرسل، ويكفرون بما جاءوا في مقابل الذين اهتدوا بهديهم، وهو هدى الله تعالى، وقد ذكر الله تعالى وصفين لهما هما اللذان أديا بهم إلى عذاب الله تعالى وهما:
الوصف الأول - أنهم كذبوا بآيات الله تعالى كذبوا آيات التكليف فلم يؤمنوا بصدقها عن الله تعالى مع قيام الأدلة على صدقها، والبراهين الدالة على أن الرسل يتكلمون عن الله، فهم إذ يكذبون الرسل يكفرون بمن أرسلهم، ويكذبون بما تدل عليه الآيات الكونية من خلق السماوات والأرض، وما يكون منها من زروع وثمار، وحياة كاملة، وما في السماء من نجوم وبروج إلى آخر ما في الكون من دلالات على أن خالقها واحد أحد هو الفرد الصمد.
الوصف الثاني - أنهم استكبروا عن آيات الله فحسبوا أن اتباع الرسل ينافي عزتهم، وينقص من كبريائهم، فأخذتهم العزة الواهمة بالإثم الحقيقي، وهنا نجد أن الله تعالى يقول: (وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا) فعبر هنا التجاوز وذلك للإشارة إلى المجاوزة للحقيقة، أي أن استكبارهم تجاوز بهم عن فهم الآيات وإدراكها لتضمين استكبروا معنى التجاوز، وإن التعدي بـ (عن)، والسياق هذا مؤداه: استكبروا متجاوزين عنها تاركين لها ولقد ذكر سبحاثه جزاءهم فقال: (أُوْلَئكَ أَصْحَابُ النًارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).(6/2828)