إن تفسير عابر السبيل بالمسافر هو على منهاج من يفسر (لا تَقْرَبوا الصَّلاةَ) بقربها هي. وأما من قال إن المراد من قرب الصلاة قرب موضعها، المتضمن النهي عنها، فإنه يكون معنى عابر السبيل الذي يمر من المسجد لحاجة، فإن الجنب محرم عليه دخول المسجد إلا أن يكون عابر طريق فيه لحاجة، ولا يمكنه الوصول إلى حاجته إلا إذا مر من المسجد. وقد مر أن النهي عن قرب مكان الصلاة وهو جنب نهي ضمني عن الصلاة ذاتها، ولذا أشرنا باختياره، ولقد روي أن عائشة رضي الله عنها قالت: " جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: " وجهوا هذه البيوت عن المسجد " (1)، فقبل توجيه البيوت كان بعض الذين بيوتهم تجاور المسجد لَا ينفذون إلى الطريق إلا منه، وبعض فقراء الصحابة كانوا يقيمون في المسجد، ولهذا استثنى عابر السبيل منه لحاجته، لكيلا يكون على المؤمن حرج.
وقوله تعالى: (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) بيان لغاية المنع بالنسبة للجنب، فكما أن المخ بالنسبة لمن هو في حال سكر هو أن يعلم ما يقول، فكذلك النهي لمن هو في حال جنابة نهايته هو الاغتسال. والاغتسال تعميم الجسم كله بالماء، وإن الاغتسال بعد الجنابة طهارة حسية، ونفسية، وتعويض بدني، وإنعاش للأعصاب بعد أن أنهكت أو أجهدت. وإن الطهارة النفسية بالاغتسال لما في الاغتسال والاستعداد به للصلاة من تذكر لله تعالى وقت أن استحكمت الشهوة وتحكمت ونفذت، فتخلص نفسه من المادية التي كانت فيها وسيطرت عليها، وإذا تذكر الله طلب الولد والنسل والذرية الطيبة من زوجه الطاهرة. وأما الإنعاش للأعصاب، والتعويض البدني، فإن هذين الأمرين يؤيدهما الحس والتجربة، ولا ينكرهما الطب.
وإن بعض الناس يكون مريضا يشق عليه استعمال الماء، أو يكون على سفر يشق عليه الحصول على الماء، ولذلك شرع له التيمم، وهو طهارة روحية فقط، إذا عجز عن الطهارة الحسية بالماء، ولذا قال سبحانه:
________
(1) روأه أبو داود (232)، والبيهقي في السنن الكبرى (4356)، وفي صحيح ابن خزيمة (1327)، وفى مسند إسحاق بن راهويه (1780) عن عائشة رضي الله عنها.(4/1693)
(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) هذا النص اشتمل على الأعذار التي تسوغ التيمم، وأول هذه الأعذار المرض، وهو الذي يضر معه استعمال الماء، أو يزيده الماء، أو يبطئ برءه، فإن الله يرخص لهذا المريض أن يتيمم بدل أن يتوضأ، أو يغتسل إذا كان الموجب لاستعمال الماء هو الجنابة. وثاني هذه الأعذار السفر، والسفر عادة يقل فيه الماء، فإذا لم يجده أصلا، أو كان ما معه من ماء يبقيه ليتقى به العطش في مجاهل الأرض، فإنه يكون له أن يتيمم بدل الوضوء والاغتسال، كل في موضعه وعند تحقق سببه. والثالث عدم وجود الماء في الحضر من غير سفر، فإنه يسوغ التيمم. . ومثل حال المرض ما إذا كان الماء باردا بردا شديدا، ولا يوجد معه ما يدفئ به الماء، ليتقى ضرره، فإنه يسوغ التيمم، وقد أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فقد كان عمرو بن العاص على سفر في غزوة، فأصابهم ما أوجب الاغتسال، وكان البرد شديدا، والماء شديد البرد، فتيمم خشية من استعمال الماء الشديد البرودة، وأبلغ ذلك للنبي فأقره (1) وإنه إذا كان المرض يجيز التيمم فتوقعه المؤكد أو الذي يغلب على الظن يبيح التيمم أيضا.
وبيَّن سبحانه بالإشارة أسباب الوضوء أو التيمم فقال: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُم النِّسَاءَ)، والغائط من الغيط، الأصل في معناه ما انخفض من الأرض، والجمع غيطان وأغواط، ولما كان ما يلفظ من باطن الإنسان عن طريقه
________
(1) عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السُّلَاسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟» فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ وَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا. [رواه أبو داود: الطهارة - إذا خاف الجنب البرد أيتيمم، وأحمد: مسند الشاميين (17356) وذكره البخاري تعليقا: كتاب التيمم، فقال: بَاب إِذَا خَافَ الجُنُبً عَلَى نَفْسِه الْمَرَضَ أوْ الْمَوْتَ أوْ خَافَ الْعَطَشَ تَيَممَ، وَيُذْكَرُ أن عَمرو بْنَ الْعَاصِ أجْنَبَ فِى لَيْلَةِ بَارِدَة فَتَيَممَ وَتَلا: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) فَذَكَرَ لِلنًبِي - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعنفْ.(4/1694)
الطبيعي يكون في غوط الأرض عند الكثيرين من أهل البادية أطلق عليه ذلك الاسم، من قبيل إطلاق اسم المكان على ما يحل فيه، وهذا مجاز عربي اشتهر حتى صار حقيقة عرفية، والمجاز إذا اشتهر صار كالحقيقة لَا يبحث له عن أصل، ولا عن علاقة، فصار يطلق ولو كان ذلك الملفوظ لَا يلقى في غوط الأرض أو منخفضها.
وقوله تعالى: (أَوْ لامَسْتمُ)، في قراءة: (أوْ لامَسْتم النِّسَاءَ) (1) كناية عن الدخول بهن، فهو لَا يعبر عن هذا المعنى إلا بهذه الكناية الظاهرة، ومثله المس يعبر به عن الدخول، فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا). وقال تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً)، ففي هذه العبارات السامية وأمثالها، يكون المس المراد به الدخول. وقد جوز الشافعي الجمع بين الحقيقة والمجاز، فلم يمنع أن يراد باللمس معناه الحقيقي وهو مس بشرة الجسم، ومعناه المجازي أو الكنائي، وهو الدخول بالمرأة، ولذا نقض الوضوء عنده بمطلق لمس امرأة ليست ذات رحم محرم ما دامت قد بلغت البلوغ الطبيعي.
و (أو) في قوله تعالى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكُم مِّنَ الْغَائِطِ) قال بعض العلماء إنها بمعنى الواو، والمعنى على ذلك: وإن كنتم مرضى، أو على سفر، وجاء أحد منكم من الغائط، أو جامعتم النساء، فتيمموا صعيدا طيبا. والأولى أن تكون على معناها، ويكون الكلام على تقدير محذوف دل عليه ما بعده، وتأويل القول هكذا: وإن كنتم مرضى أو على سفر، وأصابتكم جنابة، أو ما ينقض الوضوء، فتيمموا. أو أصابكم ما ينقض الوضوء أو ما يحدث جنابة فلم تجدوا ماء فتيمموا.
ويكون في الكلام تقسيم حسن أوله التيمم لأجل المرض أو السفر وشح الماء،
________
(1) قرأها (لمستم) بغير ألف: حمزة والكسائي وخلف، والمفضل عن عاصم، وقرأ الباقون " لامستم ". غاية الاختصار - ج 2، ص 464. تحقيق د. أشرف محمد فؤاد طلعت. التوعية الإسلامية.(4/1695)
والثاني التيمم في حال الإقامة إذا لم يوجد الماء، ويكون قوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) متصلا بحال السلامة والإقامة، وهو معقول، إذ المرض يسوغ التيمم، ولو كان ماء، والمسافر قد يجد الماء ولكن يحتاج إليه للشرب، والإقامة التي لَا يكون فيها الماء، ويكون فقده هو المبرر وحده.
(فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) التيمم معناه في اللغة القصد، وأطلق شرعا على القصد إلى التراب لمسح الوجه واليدين به، ولذا قال: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا)، أي اقصدوا ترابا على ظاهر الأرض طاهرا. فالصعيد هو سطح الأرض، والتيمم من التراب الثابت فيه، ومعنى الطيب الطاهر، فمادة التيمم تراب طاهر، والتيمم عبادة يتقدم بها إلى الصلاة، والأمر فيها تعبدي، لَا يبحث عن علته، ولكن الطاعة فيه تدل على قوة الإيمان، وهو كيفما كان رمز لخلوص القلب وصفاء النفس بالاتجاه إلى الله تعالى. وينقض التيمم ما ينقض الوضوء، كما ينقضه وجود الماء والقدرة على استعماله قبل انتهاء وقت الصلاة أو قبل أدائها به، فإجماع العلماء أن على من وجد الماء أو قدر على استعماله قبل أداء الصلاة - نقض تيممه ووجب عليه الوضوء.
وقد بين سبحانه وتعالى أركان التيمم فقال: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) أي امسحوا وجوهكم وأيديكم بالتراب. وقد اتفقوا على ضرورة مسح الوجه كله كالوضوء، والأكثرون على أن مسح اليدين إلى المرفقين، وهو المنصوص عليه في القرآن بالنسبة للوضوء، فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ)، والأكثرون بالنسبة للتيمم على أنه من ضربتين: إحداهما للوجه، والأخرى لليدين، ومسح اليدين يكون ظهرا وبطنا، ليعم المسح أجزاءهما.
(إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا) ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بهذا النص الكريم لبيان أن الله تعالى متصف بالعفو، فلا يختار لعباده إلا السهل اليسير الذي يسهل عليهم أداؤه من غير مشقة مرهقة، ويعفو عن التقصير في الواجبات الأصلية(4/1696)
للأعذار، ويفتح باب الرخص، ويجب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه، ويجعل كل ما هو شاق مرهق في مرتبة العفو دائما، وهو الغفار كثير المغفرة لمن يتوب إليه، وقد أكد سبحانه هذين الوصفين بثلاثة أمور: أولا: (إنَّ) فهي من أقوى ألفاظ التوكيد، و (كان) فهي تدل على استمرار عفوه ومغفرته سبحانه، وبالجملة الاسمية فلها فضل توكيد في المعنى الذي اشتملت عليه. اللهم اعف عنا واغفر لنا وارحمنا وأنت أرحم الراحمين.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
* * *
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى وجوب الإخلاص لله سبحانه وتعالى فيما يؤدي العبد من فرائض، وما يقوم به من صدقات، وأشار إلى أن الرياء يمحق فعل الخير، ويقرب العبد من الشرك، بل إن الرياء في العبادات هو الشرك الخفي، ثم بين سبحانه وتعالى مقام أهل الإيمان ممن سبقوهم، ومقام صاحب الرسالة في الشهادة على كل من سبقوه، فرسالته هي الحق، وأنه لَا يصح لمؤمن أن يستمع لما يكذب به الضالون من أهل الكتاب، وقال سبحانه في ذلك:(4/1697)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ)
(أَلَمْ تَرَ) هذا تعبير قرآني قد تكرر في كثير من آي القرآن الكريم، وأصل الصيغة للاستفهام، وهو موجه إلى عدم الرؤية، والاستفهام إنكاري لنفي وقوع ما دخل عليه، فإذا قال القائل: أفعلَ فلان كذا. .؟! يستنكر نسبة الفعل إليه، فمعناه نفي الفعل مع توبيخ من نسب إليه ذلك، أو تنبيه السامع إلى النفي؛ لأن معناه حينئذ: ما وقع من فلان هذا الفعل، وما كان يُعقل أن يقع منه. والاستفهام هنا متجه إلى أمر منفي، ويقول العلماء إن نفي النفي إثبات، فيكون معنى النص: قد رأيت ونظرت ببصيرتك وبصرك إلى عمل الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، وفي هذا التعبير تنبيه إلى تأكد العلم بحال هؤلاء الذين تراهم من أهل الكتاب، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم أوتوا نصيبا أي مقدارا من الكتاب ولم يؤتوا الكتاب كله؛ لأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، ولأن الأحداث التي توالت عليهم من غارات التتار ومظالم الرومان، قد جعلت أجزاء من كتبهم تتقطع سلسلة سندها، ويذهب عنهم علمها، وهم فوق ذلك لم يعملوا بأحكام ما وصل إليهم، فهم قد وصل إليهم بعض الكتاب، وحرفوا ذلك الذي وصل إليهم، وأوَّلوه على غير معناه، وأهملوا العمل بأكثره، فهم لم يؤتوا علما وتفسيرا وعملا إلا أقله!.
وموضع التنبيه والغرابة ليس هو وصفهم، وإن كان في ذاته أمرا أعجبا، إنما موضعه أنهم يبتغون الضلالة ويطلبونها ولو دفعوا فيها أغلى الأثمان، وهو الهُدى، ولا يطلبونها لأنفسهم، بل يريدون أن يكون غيرهم مثلهم في ضلالهم، ولذا قال سبحانه وتعالى: (يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ) أي تبعدوا عن الطريق المستقيم الذي هو صراط الله تعالى الذي قال فيه تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَبِعُوهُ وَلا تَتَبِعوا السُّبُلَ فَتَفَرقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ).
وهنا يرد بحثان لغويان: أحدهما أنه ذكر هنا المطلوب وهو الضلالة، ولم يذكر المتروك كما في بعض الآيات الكريمة: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى)، والجواب عن ذلك أن ذكر المطلوب وهو الضلالة من غير ذكر(4/1698)
المتروك وهو الهدى، أو ذكر المبيع من غير ذكر الثمن، فيه ما يدل على أنهم يطلبون الضلالة في ذاتها، فالبعد عن الحق مطلب لهم وغاية، لأنهم مَرَدُوا على الباطل لَا يستمرئون غيره ولا يبتغون سواه!! ويدل على هذا أن هناك قراءة بالياء (1) في (أن تضلوا) وتكون الآية على هذه القراءة: (ويريدون أن يضلوا) أي أنهم يبتغون الباطل ويريدونه ولا يقعون فيه عن جهل وعماية، بل عن قصد وإرادة، وذلك شر ما تبتلى به النفس.
البحث اللغوي الثاني: أن " ال " في السبيل للعهد، لَا للاستغراق، والسبيل الحق معروف بيِّن لَا عوج فيه، وهو وحده الموصل إلى الحق، لأنه الطريق المستقيم، ولأنه صراط العزيز الحميد.
وإن هؤلاء هم أعداء أهل الإبمان حقا وصدقا؛ لأنهم يبتغون الضلالة لأنفسهم، ويبتغون الضلالة لغيرهم من المؤمنين، ولقد قال سبحانه مقررا عداوتهم:
* * *
________
(1) ليست في العشر المتواترة.(4/1699)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
(وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
* * *
في هذا النص السادس تحذير للمؤمنين من هؤلاء الذين أُوتوا حظا من الكتاب، وهم يطلبون الضلالة ويبتغونها لأنفسهم وللمؤمنين، لأنهم يحسدونهم، ولأنهم يريدون لهم الخذلان والضلال وأن يكونوا قوما بورا،! وقد أشار بالنص الكريم إلى أنهم أعداء المؤمنين، وإن كانوا يخفون ما لَا يبدون، ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ) أي أن الله جلّت قدرته أعلم منكم بأعدائكم، لأنكم تعلمون ما يبدو من أفعالهم وما يظهر على ألسننهم، والله سبحانه وتعالى يعلم ما تخفي الصدور، وقد قال تعالى في آية أخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ(4/1699)
مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120).
ومع أن هؤلاء أعداؤكم فلا تخافوهم ولكن احذروهم، ولا تتخذوا منهم أولياء توالونهم، بأن تتخذوا ولايتهم ولاية لكم بأن تنضووا تحتها، ولا تستنصروا بهم لأنهم يريدون لكم الخذلان لَا النصر، ومن اعتز بغير الله ذل، ومن استنصر بعدوه خذل، وقال سبحانه: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا) ويكفي المؤمن في الاعتزاز أن يكون الله وليّه، لَا ينضوي إلا تحت لواء أهل دينه، ولا يدخل في ولاية غير ولايتهم، كما قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا). وكما أنه يكفي المؤمن أن يكون الله وليّه، فإنه يكفيه أيضا أن يكون الله تعالى ناصره: (إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالبَ لَكُمْ وَإِدْ يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنونَ).
وهنا بحثان لغويان: أولهما: أن النحويين يقررون أن الباء في قوله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ) زائدة في الإعراب، ولكن ليست زائدة في المعنى؛ إذ هي تشير إلى تضمن الاكتفاء بولاية الله وعونه ونصرته، وكان المعنى: اكتفوا بولاية الله ونصرته، وكفاكم الله الولاية والنصرة والمعونة.
والبحث الثاني: تكرار كلمة (وَكَفَى بِاللَّهِ) وذلك لإلقاء الاطمئنان في قلوب المؤمنين، فإن التكرار فيه توكيد، وفيه الإشعار بعظمة الله جل جلاله الذي يتولى ولايتهم ونصرتهم.
* * *(4/1700)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
(مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ... (46)
* * *
هذه طائفة من أعمال اليهود في استماعهم لدعوة النبي إلى الحق، وإلى صراط الله المستقيم، وقد ذكر سبحانه أن منهم فريقا يحرفون الكلم عن مواضعه، فقوله تعالى: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُون) فيه مبتدأ محذوف يقدر بفريق، والتحريف معناه الإمالة وجعل الكلام محتملا غير معناه.(4/1700)
جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: تحريف الكلام أن جعله على حرف من الاحتمال يمكن حمله على الوجهين. قال عز وجل: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) ومن بعد مواضعه: (. . . وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ منْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
وهذا الفريق ليس تحريفه هو التحريف العام الذي وقع من اليهود في تأويل كتبهم وإهمال كثير منها، وإخفائهم التبشير بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، إنما تحريفهم هو حمل كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - على غير وجهه، وجعله يحتمل ما لَا يراد به، كما سنبين، هذا الفريق هو الذي قال الله تعالى فيه: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ منْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
فهذا الفريق لَا يكتفي بما فعله أسلافه وما يتحمل وزره الذين يعلمون الكتاب المنزل من قبل ويكتمونه، بل إنه يجعل كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - منحرفا في أذهانهم الملتوية عن حقيقة معناه، ويتهكمون عليه، ويحمَّلونه بأغراضهم الفاسدة ما لا يحتمل من المعاني، ولا يكتفون بذلك التحريف، بل يجمعون معه النطق بالعصيان عند السماع، وقد قال الله سبحانه عن تلقيهم لأحكام الشرع التي يبينها النبي - صلى الله عليه وسلم -:
(وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعِ) وإن حال هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، كما حرف أسلافهم كتبهم، إنهم إذا سمعوا ما أنزل على الرسول لَا يستمعون ليتبعوا الحق إن ظهرت بيناته، بل يستمعون على نية الرد، والاستمرار في العناد، وسد كل أبواب الهداية لكيلا تصل إلى قلوبهم، فإذا سمعوا الرسول يدعو إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، جمجموا في أنفسهم (1) أو غمزوا به فيما بينهم قائلين: (سَمِعْنَا وَعَصيْنَا) أي سمعنا قولك ووعيناه، وعصينا ما تدعونا إليه، وإن كان الحق الذي لَا مِرْيةَ فيه، ولا توجد نفس أوغلت في
________
(1) والجَمْجَمَةُ: ان لَا يُبَينَ كلامَه من غير عِيَ، وفي التهذيب: ألا تُبين كلامك من عِيَ.(4/1701)
العناد بأكثر من ذلك وإنهم يردفون ذلك القول العاصي الذي يرددونه فيما بينهم بكلام من جنسه فيقولون: (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمعٍ)، وقولهم (وَاسْمَعْ) المراد به اسمع صدى دعوتك لنا وردنا عليها، وقد ذكر الزمخشري أن كلمة (غَيْرَ مسْمعٍ) تحتمل ثلاثة وجوه: أولها: أن يكون المعنى الدعاء على النبي الكريم بأن يصاب بالصمم فلا يسمع، أو لَا يسمع خيرا قط. والوجه الثاني: أن يكون المعنى غير مُسْمَع كلامُك فلا يجاب ولا يقبل. والوجه الثالث: ما ذكره بقوله رضي الله عنه: " ويجوز أن يكون غير مسمع مفعول اسمع أي اسمع كلاما غير مسمع إياك؛ لأن أذنيك لَا تعيه نبوا عنه "، وإنّا نختار ما عليه أكثر المفسرين، وهو أن يكون مرادهم لعنهم الله الدعوة عليه، عليه الصلاة والسلام بعدم السماع، وذلك هو الذي يتفق مع ما عرف عنهم من حقد وحسد للناس على ما آتاهم الله من فضل، وما أُودعت نفوسهم من بغض للناس وكره لهم، لحسبانهم أنهم المستحقون للتكريم والرفعة وحدهم بزعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، زادهم الله خزيًا في الدنيا، وعذابا في الآخرة، وزاد الله محمدأ - صلى الله عليه وسلم - وشريعته رفعة وتكريما وإعزازا. وإن هؤلاء لعنهم الله يلوون ألسنتهم طعنا في الدين، ولذلك حكى الله عنهم ذلك فقال:
(وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) بدل أن يعبروا في خطابهم بقولهم: " انظرنا " نظرة رعاية ومحبة طالبين منه الإقبال عليهم، وإن كان ذلك موجودا، يقولون (وَرَاعِنَا) يفتلون بها ألسنتهم ويحولونها عن المعنى الظاهر لها إلى معنى غير قويم ولا مستقيم، وهو رمى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرعونة والسفه، ويطعنون بذلك في الدين الذي يدعو إليه، والحق الذي ينفذه. وقد جاء في مفردات الراغب في تفسير قولهم: (وَرَاعنَا): قال الله تعالى: (. . . لَا تَقُولُوا رَاعنَا. . .)، (وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) كان ذلك قولاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - على سبيل التهكم يقصدون رميه بالرعونة، ويوهمون أنهم يقولون: (راعنا) أي (احفظنا) فهم ينطقون بالكلمة على أن النون من بنية الكلمة، وليس ضمير المتكلمين، وذلك لَيُّ اللسان وفتله، والطعن في الدين.(4/1702)
(وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَّهمْ وَأَقْوَمَ) هذا بيان لما كان ينبغي، والمعنى: لو ثبت لهم أنهم قالوا سمعنا الحق واتبعناه، وكلام الرسول وأطعناه، ولو قالوا للرسول اسمع إجابتنا دعوة الحق، وانظر إلينا نظرة إقبال وعطف ورعاية من غير أن يلووا السنتهم، ويحرِّفوا القول عن موضعه، وما يدل عليه بظاهره، لكان ذلك خيرا لهم؛ إذ يفتح باب الهداية في قلوبهم ولا يطمس عليها، ولا يكون ذلك الخزي والذل في الدنيا، أدامه الله تعالى عليهم وبدلهم من أمنهم خوفا، إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً، ولكان ذلك خيرا لهم (وَأَقْوَمَ) أي كان هذا هو الأمر القويم الذي يجب أن يسلكه العقلاء طلاب الهداية. وأفعل التفضيل ليس على بابه، ومعناه أن يكونوا بلغوا من الاستقامة أقصاه، ولكنهم ضلوا ضلالا بعيدا، ولذلك قال سبحانه:
(وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) استدراك مما كان ينبغي لهم، أي أنهم لم يفعلوا ما ينبغي؛ لأن الله تعالى لعنهم بأن طردهم من رحمته، فبعدوا عن الهداية بسبب إصرارهم على الكفر، وهم بذلك دخلوا في الكفر بإرادتهم، وأوغلوا فيه حتى صار الكفر بالنبوات ديدنهم، فغلقت أبواب الحق عليهم وطمس الله على بصائرهم، فلم تر الحق ولم تذعن له، فلا يؤمنون، أي ليس الإيمان من شأنهم بعد أن كان منهم ما كان، ولكن الله تعالى بعدله وحكمته لَا ينفي الإيمان عنهم نفيا مطلقا، بل يقرر أن منهم من يؤمن، ولكنه عدد قليل، ولذا قال سبحانه وتعالى: (فَلا يُؤْمنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) أي إلا عددا قليلا لَا يدخل في عموم اللعنة التي كتبها الله تعالى عَليهم في جملتهم، وهذا كقوله في آية: (مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) - هدانا الله تعالى إلى الحق.
* * *(4/1703)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
* * *
يقرن الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم طلب التوبة والإيمان بحال المذنبين ولو كانوا قد أسرفوا على أنفسهم، كما قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا)، فباب الإيمان والتوبة مفتوح للعصاة والكافرين، وإن يَنتهوا يُغفر لهم ما قد سلف. وإن أولئك اليهود الذين كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يزالون على عهدهم، قد أسرفوا في عصيانهم، ولجوا حتى لقد كان قائلهم يقول إذا سمع دعوة الحق: (. . . سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا. . .)، ويلوون ألسنتهم استهزاءً عند سماع الهدى النبوي!! ولا لجاجة في الكفر أكثر من الاستهزاء بالداعي إلى الإيمان! ومع هذه الحال فيهم وجه الله سبحانه وتعالى الدعوة إلى الإيمان منذرا لمن لَا يجيب، ومرغبا من يجد باب الهداية مفتوحا في قلبه، فقال:(4/1704)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم) النداء لأهل الكتاب كما ترى، والتعبير بالموصول للإشارة إلى أن إعطاء علم الكتاب لهم كان يوجب أن يؤمنوا، لَا أن يعرضوا ويعاندوا ويلجوا في العناد. وفي النص الكريم تحريض على الإيمان بثلاثة أمور:(4/1704)
أولها: أنهم أوتوا علم الكتاب وعلم النبوات، وأنهم يعلمون الوحي الإلهي، والكتاب الذي نزل على نبيهم، والأنبياء قبله، وإن ذلك كله يوجب المسارعة إلى تلبية داعي الحق إذا دعوا، وألا تأخذهم العصبية الدينية، كما تأخذ أهل الشرك العصبية الجاهلية.
وثانيها: أن هذا الإيمان هو التصديق بما نزل الله تعالى على نبيه، والله هو الذي أنزل على نبيكم أو أنبيائكم شرائعه، وهو الذي نزل الشريعة التي تدعوكم إلى الإيمان، ووحدة المنزل توجب الإيمان بكل ما أنزل، وإلا كنتم تؤمنون ببعض وتكفرون ببعض.
وثالثها: أن هذا الذي يدعوكم رب العالمين إلى الإيمان به، هو يصدق ما معكم من الحق؛ لأن البشارة برسوله عندكم، وقد كنتم تستفتحون به على الذين كفروا، ولأن الفضائل الدينية والاجتماعية قد اتفقت فيما يدعو إليه النبي مع ما دعا إليه أنبياؤكم من قبل، فالوحدة الدينية قائمة بوحدة المُنزل، وبوحدة الحق الذي يدعوكم إليه رب العالمين.
وقد يقول قائل: في الآيات السابقة، ذكر سبحانه في غير هذا المقام أنهم أُوتوا نصيبا من الكتاب، وأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، وفي هذه الآية يناديهم بأنهم " أوتوا الكتاب "؛ ونقول في الإجابة عن ذلك: إن نسيانهم حظا مما ذكروا به، وتركهم نصيبا منه، لَا يمنع الحكم بأنهم أوتوا الكتاب؛ لأنه نزل على أنبيائهم السابقين كاملا غير منقوص، فهم أعطوه ثم نقصوه، والخطاب لهم على أساس ما أوتوه، لَا ما حرفوه، ولعله كان من أحبارهم من يعلم علم الكتاب كله، بل إن ذلك يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160).(4/1705)
وقد يكون معنى الكتاب هنا جنسه، وهو يشمل ما بقي عندهم معلنا معرفا، وإن كان ناقصا محرفا.
(من قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ) هذا إنذار بسوء العاقبة في الدنيا والآخرة إن لم يؤمنوا، وقد جاء في مفردات الأصفهاني في معنى الطمس ما نصه: (الطمس إزالة الأثر بالمحو، قال تعالى: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ. . .)، أي أزل صورتها، (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ. . .)، أي أزلنا ضوءها وصورتها كما يطمس الأثر. وقوله تعالى: (مِّن قَبْلِ أَن نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ)، منهم من قال عنى ذلك في الدنيا، وهو أن يصير على وجوههم الشعر، فتصير صورهم كصور القردة والكلاب، ومنهم من قال ذلك هو في الآخرة إشارة إلى ما قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ)، وهو أن تصير عيونهم في قفاهم. وقيل معناه يردهم عن الهداية إلى الضلال، كقوله تعالى: (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ).
وقيل عنى بالوجوه الأعيان والرؤساء، ومعناه نجعل رؤساءهم أذنابا وذلك أعظم البوار!.
هذا هو التفسير اللغوي لمعنى الطمس، وقد حاول الأصفهاني تخريج الآية التي نتكلم في معناها على ما ارتأى من وجوه، فصرنا حيارى في أيها نختار، لو اقتصرنا على ما قال، وقبل أن نبين ما نراه معنى للنص الكريم نبين معنى الأدبار وردها: الأدبار جمع مفرده " دُبُر "، هو الخلف، أو ما اشتملت عليه أجزاء الجسم الخلفية، والارتداد على الأدبار يكون في القتال يوم الزحف يجعل الوجوه في موضع الأدبار فرارا أو جبنا، بمعنى أنه كان يجب أن يستقبل المقاتلين بوجهه فينقلب إلى جهة دبره. وقد يكون الارتداد على الأدبار معنويا كقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ).(4/1706)
وإن الذي يبدو لنا من ظاهر النص أنه يراد به سحقهم في القتال، وحملهم على أن يولوا الأدبار، فتكون وجوههم غير بادية بصورها، بعد أن كانوا مقبلين بها، فأزالها السيف والخوف، وجعل صورتها مختفية، وأقفيتهم هي البادية الواضحة، فكأن صورة الوجوه قد زالت وحلت محلها صورة الأدبار.
وعلى ذلك يكون المعنى أنكم استرسلتم في غيكم وضلالكم، ومع ذلك نطالبكم بالهداية والإيمان قبل أن ينزل الله سبحانه وتعالى غضبه عليكم في الدنيا إذ تماديتم، وذلك بتسليط المؤمنين بالحق عليكم، فيذيقونكم بأس القتال فتفرون، وتختفي وجوهكم، وترد إلى مواضع الأدبار، فلا ترى إلا أدباركم. وإذا لم يكتب الله سحقكم وحملكم على تولى الأدبار، فإنكم ستلعنون كما لعن أصحاب السبت، وتطردون من رحمته، ويكتب عليكم الذل إلى يوم القيامة.
(أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) اللعن الطرد من الرحمة وإنزال العذاب، وقد كان في شريعة بني إسرائيل ألا يعملوا في يوم السبت ليستريحوا وينصرفوا للعبادة، والتعاون الاجتماعي، ولكن رغبتهم في المال وشرههم إليه كان يحمل بعضهم على العمل، فإنه كانت قرية كبيرة تطل على البحر، قد اختبرها الله تعالى، فكانت في يوم السبت تأتيهم الحيتان ظاهرة في هذا اليوم الذي ينقطعون فيه عن العمل، ولا تأتيهم في اليوم الذي يعملون فيه، ليحملهم الله تعالى على الطاعة للأوامر الإلهية، وليدركوا سر الله في خلق الكون، وأنه فعال لما يريد، وهذا قوله تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163):
وقال سبحانه: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، فالله سبحانه عاقب الذين اعتدوا في السبت بأن سلط عليهم نزوات أهوائهم وشهواتهم، وبها ضربت عليهم الذلة، ولعنهم الله تعالى، فكذلك هؤلاء الذين عاندوا وكفروا. وذلك أمر قدره الله عليهم فهم ملعونون في كل الأجيال(4/1707)
والأزمان، ولذا قال سبحانه: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعولًا) أي قد ثبت وتقرر أن أمر الله تعالى فيما يخبر به، مقدر واقع لَا محالة، فلا مناص منه، فهؤلاء الذين عاندوا النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم أحد العذابين: إما سحقُهم بالقتال الذي يولون فيه الأدبار، وإما ضرب الذلة عليهم ولعنهم من الناس أجمعين. وإن ذلك محقق بعون الله، وقد قال الزمخشري في هذا المقام: قد حصل اللعن، فهم ملعونون بكل لسان! والظاهر اللعن المتعارف دون المسخ، ألا ترى إلى قوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ).
* * *(4/1708)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ... (48)
* * *
اشتملت الآية السابقة على دعوة أهل الكتاب، وأنه إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف، وعلى إنذار شديد في الدنيا بإجلائهم وقتلهم، أو لعنهم من الناس أجمعين، وفي هذا النص الكريم فتح لباب المغفرة التي كتبها الله على نفسه لعباده؛ لأنه كتب على نفسه الرحمة، ومعنى النص: إن الله تعالى ليس من شأنه أن يغفر لمن يشرك به في العبادة أو في الربوبية؛ لأن الشرك انحراف شديد لَا يقبل الغفران، إلا أن يعود إلى التوحيد المطلق بعد الإشراك. والإشراك نوعان: إشراك في الإنشاء والتكوين أو العبادة، كأولئك الذين يعتقدون أن الكواكب لها دخل في الإنشاء، وكأولئك الذين يعبدون غير - الله، وإن كانوا يعتقدون أن الله تعالى وحده هو الذي خلق وأنشأ وكوَّن، ويعبدون الأوثان لأنها في زعمهم تقربهم إلى الله زلفى. والنوع الثاني من الإشراك أن يتركوا كتب الله تعالى، ويعرضوا عنها، ويتخذوا دينهم من الأحبار، ولو غيروا فيه وبدلوا، زاعمين أنهم لَا يتكلمون إلا عن الله تعالى، وإن كان الكتاب يخالف قولهم، ومن هؤلاء من أشار الله تعالى إليهم بقوله تعالى: (اتَّخَذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكونَ).(4/1708)
فهذا نوع من الإشراك لَا يقل خطرا عن الشرك في العبادة؛ لأن الله وحده هو الذي أنشأ الكون، وهو وحده الذي يشرع لعباده، وبين لهم أوامره ونواهيه، وليس لأحد أن يتكلم عنه إلا أن يكون رسولا منه إلى العالمين، فمن اتخذ غير الرسول طريقا لمعرفة شرع الله من غير كتاب الرسول وكلامه فقد أشرك بالله.
وقد ذكر سبحانه أنه لَا يغفر ذلك، وأكد عدم الغفران لهذه الحال بـ (إنَّ) التي تفيد التوكيد، فلا يرجو مشرك غفرانا، أيا كان نوع الشرك، إلا أن يقلع عنه، فإن الله تعالى غفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا.
وقد ذكر سبحانه أنه يغفر ما دون الشرك لمن يشاء، وما دون الشرك يكون من مرتكب الكبيرة أو الصغيرة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن آمن بالأنبياء السابقين قبل أن تنسخ شريعتهم بالشريعة المحمدية، فإن هؤلاء قد وعد سبحانه وتعالى فضلا منه ومنَّة على عباده أن يغفر لهم ما يشاء لمن يشاء من عباده. ذلك أن من يرتكب الكبيرة إن تاب عنها غفرها الله تعالى، وإن لم يتب ولم تحط الخطايا بنفسه، وله حسنات، فإن الحسنات يذهبن السيئات. وفي ميزان الله تعالى العادل يوم القيامة توزن الحسنات والسيئات، فمن ثقلت كفة حسناته فأولئك هم المفلحون.
ومشيئة الله تعالى هي مشيئة الحكيم الخبير، الذي يضع كل أمر في موضعه، ولا يظلم ربك أحدًا.
(وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) الافتراء هنا معناه الكذب الشديد الذي يؤدي إلى الفساد. جاء في مفردات الراغب: الفرى قطع الجلد للخرز والإصلاح، والإفراء للإفساد، والافتراء فيهما، وفي الإفساد أكثر، وكذلك استعمل في القرآن في الكذب والشرك والظلم نحو: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) فمعنى (فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) فقد كذب كذبا فيه ظلم وفيه إفساد وضلال، وكان ذلك كله إثما عظيما.(4/1709)
فالشرك يتضمن الكذب على الله تعالى بادعاء شريك له تعالى، ويتضمن ظلما؛ لأنه اعتداء على المستحق للعبادة وحده، وهو فساد في النفوس. و (افترى) هنا تضمن قولا كذبا، وفعلا ظالما، وتضمن أعظم ذنب في الوجود؛ لأنه اعتداء على رب العالمين. وقد يقول قائل إن الافتراء أكثر ما يكون باللسان، فكيف يقال " فقد افترى إثما عظيما "؟ والجواب عن ذلك أن الافتراء بالنسبة للشرك لما تضمنه من أفعال، اعتبر في ذاته ارتكابا لأعظم ذنب في الوجود. اللهم جنبنا الشرك ما ظهر منه وما خفي، واجعلنا من عبادك المخلصين.
* * *
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
* * *
كانت الآيات السابقة تدعو أهل الكتاب إلى الإيمان، وتذكرهم بعاقبة الكفر، وهي الذل في الدنيا والخزي في الآخرة، واللعن من الرحمن، والهوان.
وبين سبحانه وتعالى لهم ولغيرهم أن باب التوبة والمغفرة مفتوح لكل من يذعن لرسالة الله تعالى، ولا يكفر بها، وذلك لكيلا يسرفوا على أنفسهم، ويوغلوا في معاصيهم. وفي هذه الآيات يبين سببا من أسباب ضلال اليهود ومن على شاكلتهم، فقال تعالى:(4/1710)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ).(4/1710)
(أَلَمْ تَرَ)، هذا تعبير قرآني فيه استفهام دخل على النفي، وهو استفهام إنكاري يتضمن معنى النفي، فهو نفي داخل نفي. ومؤدى الكلام: قد نظرت إلى الذين يزكون أنفسهم متعجبا من حالهم مستغربا أمرهم. ورأى هنا معناه نظر، ولذلك تعدت بـ " إلى ". وتزكية النفس تطلق بمعنى تطهيرها وإبعادها عن دنس المعصية، وقد تطلق على الفعل المحمود. والمراد هنا أنهم يصفون أنفسهم بالأفعال الحسنة، وليسوا بمستحقيها، وقد يدعون أنهم يطهرون أنفسهم، ويبعدونها عن الدنس في نظرهم، وليسوا كذلك. وأصل التزكية كما ترى من زكاء النفس جاء في مفردات الراغب: (زكاء النفس طهارتها، يصير الإنسان بحيث يستحق في الدنيا الأوصاف المحمودة، وفي الآخرة الأجر والمثوبة، وهو بأن يتحرى الإنسان ما فيه تطهيره، وذلك ينسب تارة إلى العبد لكونه مكتسبا لذلك، نحو (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا)، وتارة ينسب إليه تعالى لكونه فاعلا لذلك في الحقيقة نحو (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ).
وتزكية اليهود والنصارى لأنفسهم تحتمل أمرين: أولهما: أنهم يصفون أنفسهم بالطهارة والتقوى، وتحري ما يربي التقوى في النفس، ويستطيلون على الناس بذلك. والأمر الثاني: أن يدَّعوا أنهم بأعمالهم واتخاذهم ما هم عليه مذهبا يطهر النفس، أي يدعون أنهم يسلكون سبيل الهداية وتطهير النفس. والأمر الأول هو الذي عليه جمهور المفسرين، وهو أوضح ويتفق مع المأثور من أسباب النزول، فقد تضافرت المرويات عن التابعين على أنهم كانوا يدعون أنهم المغفور لهم دائما. وقال الضحاك والسُّدِّي إنهم كانوا يقولون: (لا ذنوب لنا، وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا. وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا، ونحن كالأطفال). وقد رد الله تعالى ذلك بقوله: (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا).
على تفسير تزكيتهم أنفسهم بمعنى أنهم يدعون أنهم بأفعالهم يطهرونها، يكون المعنى أن الله تعالى رد عليهم ادعاءهم أن ما هم عليه تطهير لأنفسهم. فبين أن الله تعالى هو الذي يطهر النفوس ويزكيها، لأنه هو الذي يبين طريق الهداية،(4/1711)
وقد بين، فما أنتم عليه ضلال في ضلال. وعلى الاحتمال الراجح، وهو أنهم يصفون أنفسهم بالأوصاف الحميدة، وأنهم أهل المغفرة، (وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى. . .)، وقولهم: (. . . نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)، على هذا الاحتمال يكون المعنى أن الله تعالى هو وحده الذي يصف أفعال عباده بالخير أو الشر، لأنه وحده الذي رسم طريق الخير وطريق الشر. وإن تزكيته سبحانه تقتضي رحمته وغفرانه، وأن يجزى الجزاء الأوفى. فليصفوا أنفسهم بما شاءوا، وليمنوا أنفسهم الأماني بأنهم لَا ذنوب لهم، أو أنها تمحى فور ارتكابها، فكل ذلك من مزاعمهم، والله وحده هو الذي يصف الأفعال المحمودة والأفعال المذمومة، ويعطي عليها الثواب أو العقاب، ولذلك قال سبحانه من بعد ذلك (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا)، أي لَا ينقصون أي قدر مهما ضؤل ولو كان بقدر الفتيل، وهو الخيط الذي يكون في شق نواة التمر، وقيل القشرة التي تكون حول النواة ويطلق على ما يفتل من خيوط دقيقة، والمعنى: لَا ينقصون أي قدر من أعمالهم، ولو كان كأصغر الأشياء التي لَا يلتفت إليها، ولا يتجه النظر نحوها، ولكن الله تعالى عليم بكل شيء وكل شيء في كتاب (. . . لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا. . .)، (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8).
* * *(4/1712)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
(انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ... (50)
* * *
انظر أيها الرسول أنت ومن معك كيف تطوع لهم نفوسهم أن يدعوا أنهم بأعمالهم القبيحة، وتكذيبهم للرسل، يزكون أنفسهم ويطهرونها، وأنهم بذلك ممدوحون أمام الله تعالى، وأنهم محبوبون منه، وأنه يغفر لهم كل ما يفعلون! انظر إلى هذه الحال وتعجب! وإنهم بهذا يكذبون على الله تعالى قاطعين في هذا الكذب فيحسبون أنهم مقبولون عند الله محبوبون، وهم يعاندون رسوله، ويبالغون ويكيدون له، فهم يفترون الكذب على الله ورسوله والمؤمنين.(4/1712)
(وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا) أي كفاهم هذا العمل أن يكون إثما بينا واضحا.
والإثم والآثام الأفعال المبطئة عن الخيرات التي يثاب عليها، وهؤلاء قد ارتكبوا بتزكيتهم أنفسهم بغير الحق الأمر البين الذي يبطئهم عن فعل الخيرات ويوقعهم في السوء؛ ذلك أن هؤلاء ضلوا وحسبوا ضلالهم هو الخير، ومن كان شأنه كذلك فإنه لَا يتجه إلى الخير؛ لأن الذين يرتكبون الشر ثلاث مراتب: أدناها أنه يقع فيه عن جهل وسفه وحمق، وهذا قريب التوبة والرجوع إلى الحق، وهو من الذين قال الله تعالى فيهم (إِنَّمَا التَّوْبَة عَلَى اللَّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبونَ مِن قَرِيبٍ. . .). والثانية: أنَ يرتكب السيئات ويوغل فيها، ولكنه يعلم أنها سيئات لَا يمدح فاعلها، بل يذم، وأنها لَا تستحق التزكية، بل تستحق اللوم، وهذا ترجى توبته وعودته إلى الله. والثالثة: أن يزين له سوء أعماله، فيفعل الشر، ويفخر به، وهذا يكون في مرتبة تبطئه أو تبعده إبعادا كليا عن الاتجاه إلى الحق وطلبه.
* * *(4/1713)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ... (51)
* * *
قد رأيت أيها النبي الأمين متعجبا مستغربا حال الذين أوتوا حظا من الكتاب، وعلموا بعض علم الرسالات الإلهية، يؤمنون بأردأ العقائد والأخلاق، وبالطغيان والظلم والاندفاع نحو الشر. فالجبت هنا هو الرديء من الأفكار، أصله الجبس قلبت السين تاء، وهو الرديء من الأشياء، فهؤلاء يؤمنون باردأ الأوهام، ويؤمنون مع ذلك بالطغيان والسيطرة الظالمة، ولذلك يخنعون لكل ذي سلطان، ويضعون ظهورهم لكل رأب، ويطغون على كل عادل لَا يُذل ولا يؤذى!! وعبر هنا بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، وفي مقام آخر خاطبهم بقوله: (يَا أَيهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم. . .)، وذلك لأنهم أنزلت عليهم كتب الرسالة الأولى لنبيهم، فبمقتضاها يدعوهم إلى الإيمان، ولذا عبر بالكتاب كله لَا ببعضه، فهم في هذا المقام يخاطبون بمقتضى الكتاب الذي نزل على رسولهم. أما هنا فيذكر حقيقة أمرهم، وهو أنهم نسوا حظا مما ذكروا به.(4/1713)
ومن جهة أخرى فإن نيلهم أقل قدر من علم الكتاب يتنافى مع إيمانهم بأتفه الأوهام، وإيمانهم بالظلم والطغيان، واعتبارهما سبيلا للعيش في الحياة، فهم ظالمون يرضون بالظلم يقع عليهم، ويتنافى علم الكتاب مع ممالأتهم لعبدة الأوثان على أهل التوحيد، فيقولون في المشركين هؤلاء أهدى طريقا من المؤمنين، وهذا قول الله تعالى:
(وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) والذين كفروا هنا هم المشركون، أي أنهم يقولون لأجل إرضاء الذين كفروا وأشركوا وعبدوا الأوثان: هؤلاء في شركهم وعبادتهم غير الله تعالى أرشد طريقا، وسبيلهم هو سبيل الهداية، أما سبيل الذين آمنوا بالله وحده، ولم يشركوا به غيره، وأذعنوا لأحكام الله تعالى في أوامره ونواهيه، فليس هو سبيل الرشاد.
ويروى أن اليهود عندما بلغ بهم حسدهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - أقصى مداه، ذهب فريق منهم إلى أهل مكة يحالفونهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال لهم المشركون: أنتم أهل كتاب، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا، فلا نأمن مكركم، فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم، ففعلوا. وقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمد؟ فقال التحدث باسم اليهود: ماذا يقول محمد؟ قالوا: يأمر بعبادة الله وحده وينهى عن الشرك، وقال: ما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت ونسقي الحجيج، ونقري الضيف ونفك المعاني، قال: أنتم أهدى سبيلا.
هذا شأن أولئك اليهود العجب، وهم قد أوتوا بعض علم الكتاب، يدفعهم الهوى والتعصب وفساد النفس إلى أن يجعلوا عبدة الأوثان أهدى من عبدة الديان!.
* * *(4/1714)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
* * *
أولئك الذين غلب عليهم الهوى، ودفعهم تعصبهم الأعمى إلى أن يحالفوا أولياء الشيطان على أولياء الرحمن ويمالئوهم في القول والعمل، فيسجدوا لأصنامهم، ويزكوا أفعالهم،(4/1714)
ويقولوا إن طريقهم هو طريق الهداية، وطريق أهل التوحيد لَا هداية فيه! بسبب هذا لعنهم الله تعالى بأن طردهم من رحمته، فكتب عليهم بُغض الناس في الدنيا، والذل والمقت فيها، وعذاب الله تعالى في الآخرة. والإشارة في قوله تعالى " أولئك " إشارة إليهم موصوفين بالصفات التي وصفهم الله بها من نفاق، وخداع، وكذب، وتعصب وسيطر؛ الهوى على نفوسهم، وضياع الحقوق بينهم، وهذه الصفات هي سبب الطرد من رحمة الله تعالى. وإذا كانوا مطرودين من رحمة الله قد كتب الله تعالى غضبه عليهم، فلن ينصرهم أحد من أهل الأرض (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)، فإذا كانوا قد ذهبوا إلى أهل مكة يستنصرون بهم فلن ينصروهم، ولن يثقوا بِهم، ولذلك قال تعالى: (فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا) أي فلن تجد للملعون الذي طرده الله تعالى من رحمته نصيرا ينصره من الناس، و " لن " هنا لتأكيد النفي، ويقول الزمخشري (إن لن تفيد تأكيد النفي أبدا)، أي أنهم لم ينصرهم الله ولن يجدوا أبداً نصيرا من الناس تستمر نصرته، وإذا استطاعوا أن يستنصروا بأمثالهم في هذه الأيام، فإن الخذلان وراءهم إن شاء الله تعالى، وهم أشد مقتا عند الله وعند الناس في هذه الأيام كما كانوا في كل ماضيهم، والله المنتقم الجبار. وقد أخبر الله تعالى نبيه بأنهم إذا كان لهم أحيانا نصيب من الملك غير مستقر ولا دائم، فسيكون ظلما كبيرا ولا يرضي الله لعباده أن يستمر فيهم ظلم.
* * *(4/1715)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
(أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ... (53)
* * *
(أم) هنا تفيد الانتقال في القول من التعجب من حالهم في ممالأة المشركين إلى بيان حالهم العجيب إذا أُوتوا أي حظ من السلطان والحكم؛ والمعنى: أثَبتَ أنهم إذا كان لهم حظ من الملك والسلطان ولو كان ضئيلا يحكمون بالعدل، ويقومون بالقسطاس المستقيم؛ والاستفهام لنفي الوقوع، وهو نفي لوقوع العدل منهم إذا أعطوا أي حظ من الحكم؛ ذلك لأن المنافق لَا يمكن أن يكون عادلا؛ لأن العدل والالتواء نقيضان لَا يجتمعان، ولأنهم أهل هوى، ولا عدل مع سيطرة الهوى، ولأنهم غلبت عليهم عصبية دينية جامحة، وكل حكم(4/1715)
يصدر من التعصب لَا يكون عدلا بالنسبة لمن تعصب عليه. ولذا قال سبحانه فيهم إذا حكموا:
(فَإِذًا لَا ئؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) النقير العلامة السوداء الصغيرة التي تكون في ظهر النواة، وهي الثقبة التي تنبت منها النخلة، ويضرب به المثل في الشيء الصغير البالغ أقصى حدود الصغر. والمعنى: إذا تولى هؤلاء نصيبا من الملك والسلطان، فإنهم لَا يعطون الناس أي قدر من حقوقهم عليهم، ولو كان ضئيلا بالغا أقصى حدود الضآلة؛ ذلك لأن العادل يكون حكمه لمصلحة المحكومين، لا لمصلحته. وهؤلاء لَا ينظرون إلا إلى منافعهم الذاتية. ولأن العادل يحس بأنه من الناس له ما لهم وعليه ما عليهم، وهؤلاء يظنون أنهم صنف في الخليقة ممتاز، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، والناس جميعاً دونهم. ولأنهم يبغضون الناس جميعا؛ لأنهم يظنون أنهم سلبوهم حقوقهم، بمقتضى ما لهم من امتياز بمقتضى التكوين. فهم بهذه الأهواء الواهمة عادوا الناس وأبغضوهم، ويحسبون أنفسهم في حرب مستمرة من البشر! أنقذ الله أهل الإسلام من شرهم، وأرْدَاهم هم ومن يعاونونهم على الغَي والظلم والفساد، وَاللهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ.
* * *
(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ(4/1716)
كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
* * *
الآية موصولة بما قبلها، فالحديث في اليهود الذين ذهب بهم حقدهم على النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين، أن يقولوا وهم أهل كتاب نزل عليهم من السماء وإن حرفوه، إن المشركين أهدى إلى الحق وإلى الصراط المستقيم من المؤمنين الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين من بعده. وفي هذه الآية يبين سبب انحرافهم، وجزاء الضالين يوم القيامة، ثم جزاء المهتدين. والسبب الباعث على ضلالهم أنهم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، ولذا قال سبحانه:(4/1717)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) الحسد هو الألم الشديد لما يصيب الناس من خير، وتمنى زواله، ثم العمل على زواله، فهو يبتدئ بألم شديد يحز بالنفس الحاسدة، ثم يصحبه تمنى الزوال، ثم يكون بعد ذلك بخس المحسود حظه وحقه، والنيل منه! والفرق بينه وبين الغبطة أن الغبطة السرور بما ينال الغير من خير، وذلك وصف أهل الإيمان، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن يغبط والمنافق يحسد " (1)! والحسد يذيب النفس ويذهب بفضائلها، ولقد قال الحسن البصري: " ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد "! وإن من يحسد إنما يعادي الله ويعادي نعمه؛ لأنه كلما آتى الله أحدا نعمة نقمها على صاحبها، فكأنما يعادي الله الذي أعطاها، ويعاديها، ولقد قال عبد الله بن مسعود: (لا تعادوا نعم الله!
________
(1) المؤمن يغبط والمنافق يحسد. من كلام الفضيل بن عياض كما في كشف الخفا للعجلوني (2694).
وفى سير أعلام النبلاء (ج 5، ص 483): " وعن الفضيل قال: المؤمن يَغْبِطُ ولا يحسدُ، الغبطة من الإِيمان، والحسدُ من النفاق.(4/1717)
قيل له ومن يعادي نعم الله؟ قال الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله).
والناس هنا في النص الكريم، قيل العرب، وعندي أنهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، إن أريد التخصيص، وإن كان التعميم فهي على عمومها. وأولئك اليهود قد أسكن الله تعالى قلوبهم حسدا على الناس، فهم إذا حسدوا النبي والمؤمنين، فلأنهم ناس آتاهم الله تعالى جزءا من فضله، فإن فضله عظيم، فـ " مِن " هنا للبعضية، أو نقول إنها بيانية، فقد كان الإيتاء صادرا عن فضله ومجرد تكرمه. وفي هذا إشارة إلى أن الذين يحسدون من يتكرم عليه الله، فإنما يعاندون الله تعالى. وسبب هذا الحسد الدائم فيهم أنهم يعتقدون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم اختصوا بالنبوة دون غيرهم من الناس، وقد بيَّن اللهُ سبحانه أن ذلك وهم، فقال تعالت كلماته:
(فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) أي إذا كنتم تحسدون الناس لما توهمتم أن النبوة فيكم، وأنكم أهل الوحي دون غيركم، فقد كذبتم على أنفسكم، فإن الله تعالى قد أعطى آل إبراهيم، أي قرابته القريبة من ذريته من إسماعيل وإسحاق الكتاب، أي بعث فيهم النبيين بالكتب من غير تفرقة. والحكمة، أي العلم النافع الذي يصحبه عمل نافع وإصلاح بين الناس، وأعطاهم مع علم النبوة ومع نشر أحكامها ملكا عظيما، أي سلطانا وبسطة في الأرض فلستم مختصين بالنبوة، ولستم مختصين بإبراهيم، فله قرابة غيركم كانوا في العرب، ولم يكن تلقي الناس لذلك الهدى ولهذا السلطان واحدا:(4/1718)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
(فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) أي فمن قرابة إبراهيم وذريته وأوليائه الذين جاءوا، من آمن بما جاء به من هدى، وسار على مقتضاه، وانتفع به انتفاعا كليا، أو نهل من موارده العذبة، أو أخذ بقدر ما تقوى عليه نفسه، وهو في ضمن الهديين، ومنهم من أعرض عنه، وإن ذلك المعرض له جزاؤه، وهو جهنم التي تلتهب نارها، وتستعر، فلم يكن من آل إبراهيم وذريته(4/1718)
مقتضيا أن يصدقوا بالرسائل الإلهية التي نزلت بين ربوعهم وفي أوساطهم، فمن العرب وهم من آل إبراهيم من أشرك بالله وعبد الأوثان، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو من آل إبراهيم بعث فيهم رحمة للعالمين، وأنتم معشر اليهود كفرتم وكذبتم الرسل من آل إبراهيم وقتلتم بعضهم، ولم ينفعكم أنكم من ذرية إسحاق بن إبراهيم، فلا عبرة بالأنساب، إنما العبرة بالاستجابة للحق، والإيمان به والإذعان لحقائقه.
وهنا بحثان لفظيان: أحدهما - أن (صَدَّ) تستعمل لازمة متعدية، وإذا كانت لازمة فمصدرها الصدود ومعناه الإعراض، وإن كانت متعدية فمصدرها الصد، ومن ذلك قوله تعالى: (. . . وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ. . .)، والنص هنا معناه الإعراض عن الهداية التي جاءت إليهم، فهو من اللازم.
والثاني: قوله تعالى: (وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا) لم يذكر فيها من كانت جهنم كفاية لهم، وهو مفهوم من فحوى الكلام، والمعنى كفاهم أن تكون جهنم بسعيرها ولهيبها مصيرا لهم.
وإن هذا مصير كل كافر سواء أكان من اليهود أم كان من غيرهم، ولذا قال سبحانه وتعالى:
* * *(4/1719)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56)
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا ... (56)
* * *
الصَّلى معناه إيقاد النار، وصَلِيَ وقع في النار، وأصليناهم نارا: ابتليناهم وعذبناهم بنار، فالتمييز هنا فيه تأكيد لمعنى العذاب بالنار والإيقاع فيها، وإن هذا العذاب الشديد الذي يستقبلهم يوم القيامة يستحقه الكافرون بسبب كفرهم، من غير تفرقة بين ذرية إسحاق وإسماعيل وغيرهم، ولذلك عبر بالموصول، إذ التعبير بالموصول يشعر بأن الصلة سبب الحكم، فهؤلاء حكم عليهم بالعذاب، لأنهم كفروا، ومتى تحقق السبب تحقق الحكم بلا فرق بين قبيل وقبيل، وأن عذاب الكفار دائم، وآلامه مستمرة، وقد أكد وجود العذاب بقوله سبحانه: (سَوْفَ نصْلِيهِمْ نَارًا) فسوف هنا كما قال سيبويه(4/1719)
للتهديد، فهي لتأكيد العذاب المقبل ولو بتراخ، وتراخي العذاب مع تأكيده يجعل النفس في فزع حتى يقع.
(كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقوا الْعَذَابَ) فعذاب هؤلاء الكفار دائم لَا مناص لهم من الاستمرار فيه. فكلما أصاب العذاب موضع الإحساس من الجسم أعاد الله تعالى ذلك الإحساس إليه، وذلك أن موضع الإحساس في الجسم هو الطبقة التي تلاصق اللحم من الجلد، فإذا فسدت هذه الطبقة ذهب الإحساس بالألم، ولقد عبر الله تعالى عن موت الإحساس ثم إعادته بقوله تعالى: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا)، فشبه سبحانه وتعالى حالهم في تعذيبهم بالنار بحال قطع من اللحم تلقى في النار، فإذا تهدأت الجلود من شدة النار حتى صارت لَا تحس بدَّل الله تعالى هذه الجلود بأخرى، فيكون العذاب وآلامه في استمرار دائم! ولا موضع إذن لاعتراض الذين يقولون: كيف يعذب جلد لم يعص لجريمة جلد قد عصى؛ لأن الجسم المعذب واحد، ولكن الكلام تصويري لبيان استمرار الإحساس بآلام العذاب، فلا ينقلبون كقطعة فحم، بل يستمر الإحساس بالألم الدائم، وهذا يتلاقى مع ما روي عن الفضيل في تفسير هذا النص: " يجعل النضج غير نضيج " أي يجعل الجلد مع إصابة موضع الإحساس منه بما يميته لَا يموت، بل يستمر! ومن العلماء من قال: إن الجلد لا يتغير ذاته بل يتغير وصفه، فيخلق فيه هذا الإحساس بعد أن يبلى موضع الإحساس بالنار.
والغاية أن يذوقوا العذاب، أي أن يستمروا في ذوقه والإحساس به، وقد شبه الإحساس بالذوق، للإشارة إلى عظيم الألم، لأنهم يحسون به كمن يحس بذوق المرير من الطعام أو بمن يذوق النار ليأكلهما، واللسان أشد أعضاء الجسم حساسية، فإذا كان العذاب يذاق، فهذا دليل على شدة الإحساس، وحيث اشتد الإحساس كان الألم، وحيث مات الإحساس فلا ألم، وليس لجرح بميت إيلام! وقد ختم الله تعالى الآية بما يبين عظم سلطان الله:(4/1720)
(إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) هذا تذييل بلاغي يؤكد التهديد الذي اشتمل عليه، فإن منزل العذاب قوي غالب، هو المسيطر على كل شيء، ولا يسيطر سواه، وليس فوقه أحد، ولا ناصر لأحد من أمره، وهو حكيم يضع الأمور في مواضعها، فلا يعذب محسنا ولا يثيب كافرا وإن كان يعفو عن كثير من دون الكفر.
وقد أكد سبحانه عزته وحكمته بـ " إن "، وبـ " كان " التي تدل على الاستمرار، وإن من مقتضى حكمته أن يثيب الأبرار كما يعاقب الكفار.
* * *(4/1721)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ... (57)
* * *
وفي مقابل العذاب الذي نزل بالكافرين كان الثواب للمؤمنين.
وإذا كان الكفر هو السبب في العقاب، فإن الإيمان والعمل الصالح هو سبب الثواب، وقد عبر سبحانه وتعالى بالموصول للإشارة إلى أن العلة التي أثبتت الثواب الذي يتفضل الله تعالى به على عباده المؤمنين، هو الإيمان والعمل الصالح، ولا شك أن الإيمان هو الأساس في الجزاء، والعمل الصالح ثمرته، ولا إيمان من غير عمل صالح إلا أن يكون غير مثمر لأعظم ثمراته. ولقد قرر سبحانه وتعالى في وعده أنه سيدخل هؤلاء المؤمنين العاملين جنات تكمل فيها أسباب النعيم، فالأنهار تجري من تحت أشجارها، وهي ليست نعيما وقتيا، بل هي نعيم خالد، وقد أكد الخلود بالتأييد، فكأن الخلود ثابت ثبوتا مؤكدا لَا شبهة فيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. ويلاحظ هنا أنه في التعبير عن المستقبل عبر بقوله (سندخلهم) أتى بالسين دون سوف، وكلاهما يفيد تأكيد القول في المستقبل، واختيار السين هنا يؤيد سيبويه فيما قاله من أن سوف
قد تكون للتهديد، ويظهر على هذا أن السين عكسها.
وأن كل ما يتصور من نعيم الدنيا يوجد مثله على صورة أعظم وأكمل، ومن أكمل متع الحياة الدنيا الحياة الزوجية:(4/1721)
(لَّهُمْا فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ) من أعظم نعم الدنيا الزواج، فهو ظل المرأة، ومأوى الرجل، ومستقر حياته، ومطمانها ونعيمها، فيه مكاشفة النفس، وفيه الازدواج الروحي والمادي، وفيه المعاونة الإنسانية على أعلى صورها، وإن نعيم الجنة أكمل من نعيم الدنيا، فيه ما فيها من نعيم، ولكن على صورة أعلى وأكمل، والفرق بينهما كبير شاسع، يجتمعان في الاسم ويختلفان في الحقيقة. ولذلك كان في الجنة أزواج، فللنساء أزواج وللرجال أزواج مثلهم، وأزواج الجنة مطهرون من الرجس المادي والرجس المعنوي، فلا حيض، ولا نفاس، ولا أخلاق ذميمة؛ لأنه لا يدخل الجنة وفيه خلق ناقص، من أخلاق أهل الدنيا. وقد تكلم الناس في نوع العلاقة بين الزوجين في الجنة، ولكن القرآن لم يفصل ذلك الجزء، فنتركه على ما تركه الله تعالى:
(وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) الظل هو ما يحجب الشمس وحرارتها، ويقال ظل الليل وظل الجنة، وقد قال الأصفهاني أنه يعبر عن الظل بالعز والمنعة، وقد قال في ذلك: " ويعبر بالظل عن العز والمنعة وعن الرفاهة، قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ. . .)، أي في عزة ومتاع. قال تعالى: (. . . أكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا. . .)، (هُمْ وَأَزْوَاجُهمْ فِي ظِلال. . .).
وعلى ذلك نقول إن هذا النص السامي: (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا)، إما أن يراد به الظل الحسي، ومعنى ظليل أنه عميق ساتر لَا يتخلله أي شيء مما يؤذي، ويقول الزمخشري في تعريف الظل الظليل: (هو ما كان فينانا لَا جدب فيه، ودائما لَا تنسخه شمس، وسجسجا لَا حر فيه ولا برد، وليس ذلك إلا ظل الجنة) ويصح أن يراد بالظل المنعة والعزة، ويكون المعنى ندخلهم في عزة ومنعة ورحمة ورعاية كريمة من الله تعالى. اللهم ارزقنا نعمة رضاك ووفقنا للعمل الصالح.
* * *(4/1722)
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
* * *
ضاع اليهوِد بأمرين: أولهما أنهم كانوا لَا يؤدون الأمانات، كما قال تعالى في أكثرهم: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ. . .).
الأمر الثاني الذي أضاع بني إسرائيل في الماضي، أنهم لا يقيمون العدل إذا حكموا كما قال سبحانه: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ منَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتونَ النَّاس نَقِيرًا)، فبالظلم ذهب ملكهم في الماضي، وسيذهب في الحاضر إن شاء الله تعالى. وإذا كانت الخيانة قد أفسدت أمرهم، والظلم قد أذهب سلطانهم، فعلى المؤمنين أن يقيموا علاقاتهم على دعائم الأمانة والعدالة؛ ولذا قال سبحانه:(4/1723)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
(إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) هذا أمر عام للمؤمنين جميعا، لا يختص به راع دون الرعية، ولا قوي دون ضعيف، ولا غني دون فقير.
وقد أسند الأمر إلى الله تعالى بقوله تعالت كلماته مؤكدا أمره (إِنَّ اللَّهَ يَأمرُكُمْ)، وذلك لتأكيد الأداء فضل تأكيد بهذا التصريح، وذلك أن الأمر من قبل الله سبحانه مضافا إليه أمر مؤكد، كما يقال لتأكيد الأمر للعبد بالطاعة: سيدك(4/1723)
يأمرك بكذا، ولله المثل الأعلى في أوامره ونواهيه، وذلك فوق التأكيد بـ (إنَّ) في صدر النص الكريم.
والأمانة مصدر بمعنى المفعول، فالمراد بالأمانة ما يؤتمن الإنسان عليه، وقد جمعها سبحانه بقوله تعالى (الأَمَانَاتِ) لتشمل كل ما يؤتمن الإنسان عليه من علم، ومال، وودائع، وأسرار، وغير ذلك مما يقع في دائرة الائتمان وتنبغي المحافظة عليه. ومعنى أدائها إلى أهلها توصيلها إلى ذويها كما هي، من غير بخس ولا تطفيف. فالعالم يؤدي أمانة العلم من غير تزيّد عليها، ولا تحريف لها؛ لأن التزيّد طمس لمعالم العلم، والتحريف تبديل للحق. فمن أوتي علما بالقرآن لا يؤوله لهوى في نفسه، بل يقدمه للناس من غير تحريف للكلم عن مواضعه.
والحكم أمانة في أعناق الحكام، عليهم أن يؤدوا الأمانة فيه بإقامة العدل، وتوخي المصلحة، وتجنب الفساد، سواء أكان فسادا معنويا، أم كان فسادا ماديا، والأول أعلى أنواع الفساد، والثاني أدناها. ومن أمانة الحكم ألا يشقوا على الرعية، وألا يفسدوا ضمائرهم، ولا يزعجوهم بالتظنن والتتبع ما داموا مؤمنين مذعنين، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا. . .). وإذا كانت رعاية الأمانات وأداؤها واجبا مفروضا على الأمة كلها، حاكمها ومحكومها، وأنها متفاوتة المراتب، فإن الحاكم قد اختص بواجب آخر هو العدل، وهو من نوع الأمانة التي اختص بها، ولذا قال سبحانه بعد الأمر بأداء الأمانات:
(وِإذَا حَكَمْتم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) قال بعض العلماء: إن الخطاب في هذا النص موجه إلى الذين يحكمون، وهم الحكام من ولاة وقضاة وغيرهم ممن يلون الحاكم، ولا مانع عندنا من أن يكون الخطاب موجها للأمة كلها؛ لأن الأمة العزيزة غير الذليلة التي تتولى أمور نفسها من غير تحكم من ملك أو طاغ قاهر، هي محكومة ومُحكَّمة، فهي التي تختار حاكمها، وهي في هذا محكّمة،(4/1724)
مطلوب منها العدل، فلا تختار لهوى، أو لعطاء، أو لمصلحة شخصية أيا كان نوعها. وهي محكّمة في حاكمها فلا تقول فيه إلا حقا، ولا تطالبه إلا بما هو حق لا جور فيه، ولا تشتط في نقده، ولا تسكت عن نصيحته. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " (1).
والعدل معناه في أصل اللغة المثيل، وأطلق في مقام الحكم بمعنى أن يكون الحكم مساويا لما يستوجبه، فماذا ارتكب شخص جرما كان الحكم النازل مساويا للجرم المرتكب، وإذا كان الحكم بدين وجب أن يكون مساويا لما أخذ من غير زيادة، وهكذا. وإن العدل أنواع مختلفة، وله وسائل متباينة، وإذا كان مطلوبا في ذاته فوسائله يجب أن تتحقق فيها العدالة أيضا، وأخص أنواع العدالة عدالة القاضي في حكمه، وهي تتطلب أمورا أربعة: أولها: معرفة حكم الشرع والقانون فيما يقضى فيه. ثانيها؛ معرفة موضوع القضية معرفة متقصٍّ لأطرافها مستوعب لكل أجزائها. وثالثها: أن يبعد الهوى من نفسه، وأن ينظر دائما نظرا غير متحيز.
ورابعها: أن يسوي بين الخصمين في كل شيء، وقد جاء في تفسير فخر الدين الرازي عن الشافعي ما يأتي: " قال الشافعي - رضي الله عنه -: ينبغي للقاضي أن يسوي بين الخصمين في خمسة أشياء: في الدخول عليه، والجلوس بين يديه، والإقبال عليهما، والاستماع منهما، والحكم عليهما. . ولا ينبغي أن يلقن واحدا منهما حجته، ولا شاهدا شهادته؛ لأن ذلك يضر بأحد الخصمين. ولا يلقن المدعي الدعوى والاستخلاف، ولا يلقن المدعَى عليه الإنكار والإقرار، ولا يلقن الشهود أن يشهدوا أو لَا يشهدوا.
وعدالة الحاكم الأكبر تقتضي الرفق بالرعية، وألا يعمل إلا ما فيه مصلحة، وأن يمنع الرشوة، وألا يولي أحدا ممن دونه لهوى أو غرض! فلا يوسّد الحكم لمن
________
(1) سبق تخريجه من رواية مسلم وغيره عن تميم الداري، وذكره البخاري في ترجمة الباب.(4/1725)
دونه إلا لمن هو أهل له، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا وُسِّد الأمر " لغير أهله فانتظروا الساعة " (1)
والأمانة واجبة سواء أكان من ائتمنك عادلا أم كان جائرا، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " أدِّ الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك " (2). ومن المقررات في الفقه الإسلامي أن الظالم لَا يُظلم.
والعدل مطلوب في ذاته، يستوي في ذلك المسلم وغير المسلم، فقد قال تعالى (. . . وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى. . .).
(إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) الوعظ معناه التذكير بالخير والتحذير من الشر، بما يرق له القلب، ويخضع له الوجدان. و (ما) هنا إما نكرة بمعنى شيء، أو موصول، والمعنى واحد، وإن اختلف التخريج النحوي. ومؤدى النص أن الله جلت حكمته وهو العليم بكل شيء يأمركم بالأمانة والعدالة وَلَنِعْمَ هما شيئا خطيرا جليلا ذا أثر عظيم، في حياتكم العامة والخاصة، يذكركم به ويدعوكم إليه، فأداء الأمانات وإقامة العدالة، بهما تقوم الأمم، وعليهما تبنى دعائم العزة والكرامة الإنسانية، فهما ممدوحان دائما، ولا ينتج عنهما إلا خير، ولا ينتج عن تركهما إلا شر.
________
(1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ القَوْمَ، جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَمَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ، فَقَالَ بَعْضُ القَوْمِ: سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ لَمْ يَسْمَعْ، حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: «أَيْنَ - أُرَاهُ - السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ» قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ»، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: «إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ ". رواه البخاري: العلم - من سئل علما وهو مشتغل بحديثه فأتم (59)، ورواه أحمد: باقي مسند المكثرين (8512) بلفظ: " إذا توسد ". ومعنى وُسِّد: أُسنِد.
(2) رواه الترمذي: البيوع - النهي للمسلم أن يدفع إلى الذمي الخمر (1264). ورواه أبو داود: البيوع - في الرجل يأخذ حقه من تحت يده (3535).(4/1726)
وإن الله تعالى إذ يأمركم بذلك الخير العميم نَفْعُه يراقبكم في تنفيذه، وإنه لن يترككم ولن يخليكم من العقاب إن لم تقوموا به، ولذلك ذيل الآية الكريمة بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)، أي إن الله تعالى يعلم أحوالكم علم من يسمع، فهو يسمع خطرات نفوسكم وحركات قلوبكم، وعلم من يبصر، فهو يرى أعمالكم. هو إذن يسمع كلمة الحق نطق بها القاضي، وكلمة الرعية يختارون بها راعيهم، بالأمانة والصدق والإخلاص، ويرى عمل الوالي إذا عدل، فيجزيه بالحسنى، وعمله إذا ظلم أو شق على رعيته أو أرهقها من أمرها عسرا، فيأخذه سبحانه بظلمه إن ظلم. ويرى سبحانه الأمة وهي تقصر في حقوقها، ولا ترعى واجب الأمانة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع الظالم من ظلمه، فيفسد أمرها، ويتحقق فيها قول النبي الأمين: " لَتَأْمُرُن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذنَّ على يدي الظالم ولتأطُرُنَّه على الحق أطرا أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض ثم تدعون فلا يستجاب لكم " (1)!.
وإذ كان العَدْل، وجبت الطاعة لولي الأمر مقرونة بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله؛ لأبها مشتقة من طاعتهما، ولذا قال تعالى:
* * *
________
(1) سبق تخريجه من رواية أبي داود: الفتن والملاحم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(4/1727)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ... (59)
* * *
طاعة الله وطاعة رسوله متلازمتان، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله، فإطاعة الرسول إطاعة لله، وإطاعة الله إطاعة للرسول أو تقتضيها، فقد قال الله تعالى: (. . . وَمَا آتَاكمُ الرَّسُولُ فَخُذوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهوا. . .). وأولو الأمر هم الذين بيدهم الْحَلِّ والعَقْدِ وبيدهم مقاليد الأمة التي يقومون على رعاية مصالحها وشئونها وإرشادها وتوجيهها. وقد قال بعض الحكام إنهم الفقهاء والذين يستطيعون استنباط الأحكام، ولكن الأكثرين على أن ولاة الأمر هم الحكام وأهل الْحَلِّ والعَقْدِ.(4/1727)
ونلاحظ هنا أمرين:
أحدهما - أن القرآن الكريم يصرح بأن ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم يجب أن يكونوا من المؤمنين، ولذلك يقول سبحانه " منكم "، فلا طاعة مطلقا لمن يغلبون على شئون المسلمين ممن ليسوا من أهل الإيمان، فأُولئك المنحرفون من بعض أهل الهوى الذين يزعمون أنهم مسلمون، ويزعمون أن الإنجليز أيام حكمهم كانوا من ولاة الأمور الذين يوجب النص طاعتهم - قد ضلوا ضلالا بعيدا، وهم بهذا وبغيره خارجون عن حكم الإسلام.
ثانيهما - أن الله قرن طاعة أولي الأمر بطاعة الله ورسوله، فوجب أن تكون طاعتهما من جنس طاعة الله تعالى ورسوله، بأن تكون في سبيل العدل، ولا تخرج عن حدوده. وإنه باقتران هذه الآية بالآية السابقة يستبين أن ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم هم العادلون؛ لأن الأولى أوجبت العدل، والثانية أمرت بالطاعة، فلو كانوا غير عدول لكانت الطاعة مسايرة لهم على الظلم. وقد نهينا عنه. ولقد قال الزمخشري في هذا المقام ما نصه:
" المراد بأولي الأمر منكم أمراء الحق، لأن أمراء الجور - الله ورسوله بريئان منهم - فلا يُعطفون على الله ورسوله في وجوب الطاعة لهم، وإنما يجمع بين الله ورسوله والأمراء الموافقين لهما في إيثار العدل، واختيار الحق، والأمر بهما، والنهي عن أضدادهما، كالخلفاء الراشدين. وكان الخلفاء يقولون: أطيعوني ما عدلت فيكم، فإن خالفت فلا طاعة لي عليكم.
وعن أبي حازم أن سلمة بن عبد الملك قال: ألستم أُمرتم بطاعتنا في قوله تعالى: (وَأولِي الأَمْرِ مِنكمْ) قال: أليس قد نُزِعَتْ عنكم إذا خالفتم الحق بقوله: (فَإِن تَنَازَعْتمْ فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسولِ). وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(4/1728)
" من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني " (1).
ولكي تكون طاعة أولياء الأمر في سبيل الحق والعدل، ومقترنة بطاعة الله ورسوله، وجب الرجوع عند الاختلاف إلى الكتاب والسُّنة، ولذا قال سبحانه: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) لقد ثبت بإجماع العلماء الذي لَا مماراة فيه أن طاعة أولياء الأمر إنما تكون فيما فيه طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله الأمين كما نوهنا، وأنه ليس لوليِّ الأمر طاعة في معصية، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " (2)، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الطاعة في المعروف " (3)، والمعصية منكر لَا طاعة فيه، ولقوله عليه الصلاة والسلام: " على المرء المسلم السمع والطاعة، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة " (4)، ولِمَا قررنا من أن طاعة أولي الأمر مقرونة بطاعة الله ورسوله، وأنه
_________
(1) رواه البخاري: الأحكام - قول الله تعالى: (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (3137)، ومسلم: الإمارة - وجوب طاعة الأمراء في المعصية وتحريمها في المعصية (835 1) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) رواه القضاعي في مسند الشهاب ج 2، ص 55 (873) عن عمران بن حصين رضي الله عنه، والبغوي في شرح السنة عن النواس بن سمعان، كما في مشكاة المصابيح ج 4، ص 238. كما رواه أحمد في مسنده وعن الحكم بن عمرو الغفارى وعمران بن حصين (20130)، وعن علي رضي الله عنه (1098)، ولفظه عَنْ عَلِى عَنْ النَبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوق فِى مَعْصِيَةِ اللهِ عَز وَجَل ". وهو عند البخاري بسنده عن علي.
(3) متفق عليه. وراجع التخريج السابق.
(4) متفق عليه رواه البخاري: الأحكام - السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية (7144)، ومسلم: الإمارة - وجوب طاعة الأمراء في غير معصية (1839) ولفظه عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ " ولفظ البخاري عن نَافِع عَن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أي ابن عمر حيث الرواية عن نافع) عَنْ النَبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " السمْعُ وَالطاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِم فِيمَا أحَبَ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةِ فَإِذَا أمِرَ بِمَعصِيَةٍ فَلا سَمع وَلا طَاعَةَ ".(4/1729)
ليس من المعقول أن يفهم من الآية أن ولي الأمر يطاع حيث يعصى الله ورسوله، وهما مقترنتان، وولي الأمر منَّا حقا وصدقا لَا يخالف الله ورسوله، وإلا كان متغلبا طاغيا.
وإذا كانت طاعة ولي الأمر لَا تكون إلا في دائرة الكتاب والسنة، فلا بد أن يكونا هما المرجع في الوفاق والخلاف معا، فإن اتفق أهل الحَل والعقد على أمر مشتق من كتاب الله وسنة رسوله، وغير خارج عنهما ولا عن أصولهما المقررة، فهو الحجة الواضحة، كما كان يفعل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فقد كانا يعرضان الأمر الذي لَا يعرفان له حكما من كتاب ولا سنة على الصحابة، وأحيانا على كل أهل المدينة، فما يثبت أنه ورد فيه قرآن أو سنة خضع الجميع له، وإلا فإنهم ينظرون مجتهدين فيما يكون من جنس ما يأمر به الكتاب أو السُّنَّة، فإن اتفقوا عليه نفذوه. وإذا كان اختلاف، فإنه لَا حكَم في الاختلاف إلا الكتاب والسُّنة أيضا، وهذا موضع قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتمْ) وليس التنازع هو المحاربة، إنما التنازع هو الاختلاف في طلب الحق في الأمر، وقد جاء في تفسير معنى التنازع في مفردات الراغب: " نزع الشيء جذبه. . والتنازع والمنازعة المجاذبة، ويعبر بهما عن المخالفة والمجادلة ". وكأن كل واحد من المختلفين يجذب من الآخر الحجة لدليله، ويجعل الحق في جانبه بجذب الحجة على مخالفه، ومن هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما لي أنَازعُ القرآن " (1)! وذلك أن بعض المأمومين جهر
________
(1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْصَرَفَ مِنْ صَلَاةٍ جَهَرَ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: «هَلْ قَرَأَ مَعِيَ أَحَدٌ مِنْكُمْ آنِفًا؟»، فَقَالَ رَجُلٌ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «إِنِّي أَقُولُ مَالِي أُنَازَعُ الْقُرْآنَ؟»، قَالَ: فَانْتَهَى النَّاسُ عَنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِرَاءَةِ مِنَ الصَّلَوَاتِ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " َ [رواه الترمذي: الصلاة - ترك القراءة خلف الإمام إذا جهر الإمام (312)، والنسائي: الافتتاح - ترك القراءة خلف الإمام فيما جهر به (919)، وأبو داود: الصلاة - من كره القراءة بفاتحة الكتاب إذا جهر الإمام (826)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها - إذا قرأ الإمام فأنصتوا (849)، وأحمد: مسند المكثرين (7228).(4/1730)
خلفه، فنازعه القراءة فشغله، فنهى - عليه الصلاة والسلام - عن الجهر بالقراءة خلفه في الصلاة.
ويجب بهذا النص عند التنازع الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله، وذلك بالتماس ما يكون من الأحكام متفقا مع المقاصد والغايات التي جاء بها الكتاب والسُّنة، وإن لعلماء الإسلام في ذلك منهاجين: أحدهما: أن يبحث في الأصلين عن حكم منصوص عليه يشبه في سبب الحكم الحادثة التي لَا يجدون فيها نصا، وهذا يسمى القياس الفقهي، وهو ما تسير عليه الكثرة الكبرى من الفقهاء. والمنهاج الثاني. أن ينظر إلى المقاصد العامة للشريعة، وهي مصالح الناس، الثابت الأخذ بها من مجموع النصوص لَا من نص بعينه، فإذا كان في الأمر المتنازع فيه مصلحة ملائمة لمقاصد الشارع، من غير مخالفة أي نص، أخذ بها، وهذا المنهاج أخذ به الإمام مالك، وأحمد، وزَيْد.
ولكن يرد هنا سؤالان: من الذين يجري بينهم التنازع؛ ومن الذين يتولون رد الأمر إلى الكتاب والسُّنَّة؟.
والجواب عن السؤال الأول: أن الذين يجري بينهم الخلاف هم أهل الحَل والعقد، وذلك يقتضي أن تكون هناك جماعة مصطفاة مختارة تتولى سن النظم ووضع القوانين المشتقة من كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وهم رجال الشورى الذين ترتضيهم الأمة.
والجواب عن السؤال الثاني - أن الذين يردون الأمر المختلف فيه، يجب أن يكونوا على علم بالكتاب والسنة ومقاصد الشريعة وغاياتها، وهم علماء الإسلام المتفقهون في أحكامه. ولذلك يجب أن يكون في أهل الحَل والعقد، أو بجوارهم يعملون معهم، رجال من فقهاء الإسلام المخلصين المؤمنين بحقائقه، الذين لا يغلب عليهم الهوى، ولا يخضعون لهوى الحكام، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه.(4/1731)
وإن الله تعالى يقرر - تعالت كلماته - أن ذلك وهو الرد إلى الكتاب شأن أهل الإيمان بالله حقا وصدقا، والذين لَا تغلبهم الدنيا ومتعها العاجلة، ولذلك يقول (إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) أي إن كنتم تذعنون للحق الذي شرعه الله تعالى لكم وتصدقون وتؤمنون بالآخرة وما فيها من حساب وعقاب، ولم تستول عليكم الدنيا بأهوائها وشهواتها، فإنكم بلا ريب سترجعون إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ذلك أن المؤمن حقا ومصدقا بالله واليوم الآخر لا تستهويه شهوات الدنيا، فيظنها مصالح، بل يذعن لحكم الله دائما، ولا يكون كأولئك الذين قال الله تعالى فيهم: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50).
وإن اتباع القرآن والسُّنَّة في الحكم فيه الخير وحسن المآب، ولذا قال سبحانه:
(ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَاوِيلًا) إن ذلك الرجوع إلى الكتاب والسُّنة، في الفرقان والافتراق، خير لكم في الدنيا؛ لأن فيه مصلحتكم الحقيقية، وفيه بعد عن الهوى، وفيه خضوع لله تعالى. وأحسن تأويلا أي مآلا ونهاية، وفهمًا لأمور هذه الحياة، فإن شئون الحياة معقدة، تختلط فيها الشهوات بالمصالح، فلا يمكن فهمها على حقيقتها إذا تشبابكت إلا بالرجوع إلى شرع الله، ففيه الفهم الصحيح، وفيه الغاية السامية، وفيه المآل الذي لَا شر فيه. فاللهم وفق أمتك للأخذ بِشرعَتِك واجعلنا من الذين لَا يحرِّفون الكلم عن مواضعه، إنك سميع الدعاء.
* * *(4/1732)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
* * *
دعت الآيتان السابقتان المؤمنين إلى أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن يحكموا بالعدل. وقد ذكرت الآية الثانية أن طاعة الله ورسوله واجبة، وأن طاعة أولي الأمر لازمة ما استقاموا على الحق من غير عوج، وأن ذلك سبيل الحق والعدل، واستقرارهما. وفي هذه الآيات يبيّن سبحانه وتعالى حال بعض أهل الكتاب الذين يتركون الأحكام المقررة في الشرائع السماوية، ويستبدلون بها الظلم وحكم الطغيان، ولذا قال سبحانه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أئزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ)(4/1733)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
(أَلَمْ تَرَ) هذا التعبير قرآني، وهو استفهام سيق للتعجب والإنكار، فيه التعجبُ وتوبيخ الذين وقع منهم هذا الفعل. وأداة الاستفهام دخلت على النفي، ونفي النفي إثبات. والمعنى: قد رأيت الأمر العجب المستنكر الذي وقع من أولئك الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. والزعم يكون فيمن يقول قولا لَا يوجد ما يدل على صدقه، والمعنى: قد رأيت حال أولئك الذين يدعون كذبا أنهم يعتقدون وَيُذْعِنُونَ للذي أنزل إليك من شريعة عادلة وحاكمة بين الناس بالعدل، وأنهم يؤمنون بالكتب المنزلة وما اشتملت عليها، ومع ذلك يتركون الحق الواضح البين الذي لَا شبهة فيه، الذي اشتملت عليه شريعتك وما قبلها، ويتحاكمون إلى الطاغوت، وهو الطغيان الكثير، ولعل المراد به هنا الحكْمُ الذي لا يبنى على الحق، ولا يقوم على أساسه، وليس له نظام وقانون مقرر ثابت، يعرف فيه كل واحد من الخصمين ما له من حقوق وما عليه من التزامات.
وواضح من النص الكريم أن هؤلاء متصفون بصفتين: أولاهما - أنهم يدعون الإيمان وليسوا بمؤمنين، إذ قال سبحانه: (يَزْعُمُونَ أَنَّهمْ آمَنُوا).
وثانيتهما - أنهم في الأصل من أهل الكتاب الذين يدعون أنهم آمنوا بما أنزل على موسى والأنبياء قبله. وبهذا النص الكريم يتعين أن يكون أولئك من المنافقين من اليهود الذين كانوا يظهرون الإيمان، وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون، أو من الضعفاء الذين ليس عندهم من قوة الإيمان ما يحملهم على الخضوع لأحكام الله تعالى.
وإن المفسرين قد تكلموا في سبب نزول هذه الآيات، ورووا في ذلك روايات مختلفة، وأقربها إلى معنى الآية أن منافقا اختلف مع يهودي، فأراد اليهودي أن يكون الحكم هو النبي لما يعرف عنه من عدالة وامتناع عن رشوة، ولأنه يحكم بقانون ثابت لَا عوج فيه ولا انحراف، وأراد المنافق أن يتحاكما إلى غير النبي - قيل إلى كاهن، وقيل إلى أحد كبار اليهود - وكلا الحكمين لَا يمكن(4/1734)
أن يكون بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلا ظالما، حكمه فيه طغيان كثير؛ لأنه لَا يعتمد على قانون منظم للحقوق والالتزامات.
(وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا) وإذا كان الله تعالى قد أمرهم أن يكفروا بحكم الهوى والغرض والظلم وبحكم الأوهام والكهنة، واختاروا هم الاحتكام إلى طاغية من طغاتهم، أو كاهن من الكهان، فقد كان ذلك بوسوسة الشيطان المضل في نفوسهم، وهو لَا يريد لهم إلا العدول عن الخط المستقيم.
فالضلال هو العدول عن الخط المستقيم، سواء أكان ذلك في المعنويات أم كان في السير الحسي. ومن عدل عن الطريق المستقيم واستمر في غيره، فهو كمن بعُد عن الطريق السوي، وسار في متاهات، كلما أمعن بعد. وهؤلاء قد ابتدأوا بالنفاق، فكلما وسوس لهم شيطانهم بالباطل أبعدهم عن الحق وعن طريقه. فمعنى يضلهم ضلالا بعيدًا يبعدهم عن الحق الذي ابتدأوا باجتنابه، فصاروا كمن يوغلون في متاهات من الأرض، كلما أوغلوا زادوا بعدا عن الطريق المستقيم.
وإن هذا النص يومئ إلى أنه لَا يتفق مع الإيمان الصادق أن يتحاكم المؤمن إلى غير النظام الذي يقرره القرآن والسُّنَّة. ويومئ النص أيضا إلى أن كل تحاكم لغير شريعة الله تعالى وما تقرره من أحكام، هو تحاكم إلى طغيان كبير لَا يقوم الحكم فيه إلا على الهوى. ألم تر كل النظم التي تحكم بغير القرآن لَا تعاقب الزاني، ولا تعتبر فعله جريمة إلا إذا كان فيه اعتداء على الزوجية أو اغتصاب، أو زنى بقاصرة! وأي طغيان وهوى أعظم من ذلك جرما؟!
ويومئ النص كذلك إلى أن من يرفض حكم القرآن يخضع لحكم الشيطان، ويضل به ضلالا، كلما سار فيه بعد عن الحق المبين:
* * *(4/1735)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
* * *
إذا قيل لهؤلاء الذين ضعف إيمانهم فلم يذعنوا للحق، ولم يخضعوا لحكم الله: تعالوا وأقبلوا على الخضوع لله تعالى ولحكمه - رأيت الذين اتسموا بالنفاق منهم يعرضون عنك إعراضا شديدا، وذلك لأنهم لمرض النفاق في قلوبهم(4/1735)
ينفرون من العدل والحق نفورهم من الإيمان الصريح الذي لَا دَخَلَ فيه (1)، ومن الطريق المستقيم الخالي من العوج.
وفى الآية الكريمة إشارتان بيانيتان:
إحداهما - التعبير بقوله تعالى: (إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ) فإن هذا يبين لهم أنهم يتركون الحكم المنزل من السماء من عند الله إلى حكم الأرض وأهواء أهلها، ويبين لهم أن الرجوع في الحكم إلى الرسول هو رجوع إلى حكم الله الذي ينطق به رسوله الأمين، وأن امتناعهم عن ذلك إنكار للرسالات الإلهية مع أنهم من أهل الكتاب، الذين يعتزون على العرب بأنهم يؤمنون بشرائع السماء ويخرهم أميون!! ثم يبين ذلك أن الخضوع لحكم الرسول خضوع لحكم الله تعالى وما أنزله الله، فالمعترض على حكم الرسول معترض على الله سبحانه وتعالى.
الثانية - في قوله تعالى: (رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) فإنه يشير إلى أن الذين يعرضون عن حكم الله تعالى وينفرون منه هم المنافقون الذين يسرون ما لَا يظهرون ويخفون ما لَا يبدون، فالإعراض عن حكم الله تعالى سمة من سمات النفاق أو بالأحرى أوضحها وأبينها.
والنص يشير مع هذا إلى أن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت فريقان: فريق ضعيف الإيمان، وفريق منافق، وأن المنافقين من بينهم شديدو النفرة والإعراض. اللهم إلا أن يقال إن ذلك إظهار في موضع الإضمار، أي أن الذين يزعمون أنهم آمنوا بالله وبالرسول، الذين يرتضون حكم الطاغوت هم منافقون، وهم بسبب نفاقهم يعرضون عن حكم الله إعراضا شديدا، فهم طائفة واحدة!
________
(1) والدَّخَل: ما داخَل الإِنسانَ من فساد في عقل أو جسم، وقد دَخِلَ دَخَلا ودُخِلَ دَخْلاً، فهو مَدْخُول أي في عقله دَخَل. وفي حديث قتادة بن النعمان: وكنت أرى إِسْلامه مَدْخُولا، الدَّخَل، بالتحريك: العيب والغِش والفَساد، يعني أن إِيمانه كان فيه نِفَاق.(4/1736)
وأظهر وصفهم ليعلم أنه علة إعراضهم، وهذا ما نرتضيه، ويتفق مع قوله تعالى من قبل (يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنوا).
* * *(4/1737)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
(فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
* * *
إذا كان أولئك المنافقون يصدون ذلك الصدود، ويعرضون هذا الإعراض، فلينظروا إلى حالهم عندما تصيبهم مصيبة بسبب تركهم التحاكم إلى القانون العادل والحاكم العادل، كيف تكون حالهم عندما تنزل بهم مصيبة الظلم وعدم الخضوع لقانون عادل يرد الحق إلى نصابه! وذلك أن الذي يترك القانون الذي لا يخضع لهوى، والقاضي الذي لَا يخضع لغرض، ولا ينحرف عن الحق لأي غرض من أغراض الدنيا - تنزل به مصيبته لَا محالة، وهي الاضطراب، وعدم الاطمئنان إلى حكم حاكم! والجماعة التي تترك الحكم المستقيم إلى الحكم المعوج الذي يستمد من الطغيان والظلم، لَا بد أن تنزل بها مصيبة التفرق والانقسام، وعدم التواصي بالحق. فالقرآن يشير للمنافقين بهذه النتيجة، بل ينبئهم فيقول لهم: كيف تكون حالكم إذ تصيبكم مصيبة التظالم، وأكل بعضكم مال بعض، ونفرة الرسول منكم، وظهور أمركم وانكشاف حالكم، وذلك بما قدمته أيديكم من ترك للحق وعدم خضوع له! والتعبير " بما قدمت أيديكم " يبين ما سبق من أمرهم، وإن لم يكن باليد؛ لأن اليد مظهر العمل، فهي كناية عن عمل الإنسان، وإن كان باللسان أو القلب.
ثم إنهم بعد أن تصيبهم مصيبة الباطل وانكشاف أمرهم، ونفرتك منهم - جاءوك يعتذرون إليك ويوثقون اعتذارهم بالحلف بالله تعالى قائلين: ما أردنا بالمخاصمة لغيرك إلا إحسان المعاملة والتوفيق بين الخصوم.
والمعنى الجلي للنص السامي: كيف تكون حالهم إذا نزلت بهم النازلة التي تترتب على تركهم حكم الله إلى حكم الطغيان، ثم جاءوا إليك معتذرين عما سبق منهم، قائلين حالفين بالله أنهم ما قصدوا الإعراض، بل أرادوا التوفيق، والمعاملة الحسنة!!.(4/1737)
والتعبير بـ " ثم " في هذا المقام، يشير إلى التباين بين حالهم في الإعراض والصدود، وإقبالهم بالاعتذار والحلف والازدلاف.
* * *(4/1738)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ... (63)
* * *
أولئك النافرون عن حكم الله إلى حكم الطغيان والهوى والشيطان، وهم يزعمون أنهم من أهل الإيمان يعلم الله تعالى ما يستكن في قلوبهم، وما يدفعهم إلى أعمالهم وخروجهم عن حكم الحق إلى حكم الهوى. والإبهام في قوله تعالى (يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) للإشارة إلى خفائه إذ يخفونه ويبدون غيره، وإلى أنه شيء كثير من الفساد والانحراف النفسي يحكمون إخفاءه، وإلى تنوعه من رغبة في الكيد والأذى، والتفريق بين المؤمنين، وممالأة المشركين، وغير ذلك.
وإذا كان الله يعلم ما في نفوسهم علما دقيقا، لَا يغيب عنه شيء؛ لأنه وحده العليم بذات الصدور الذي لَا يخفى عليه شيء في السماء والأرض، فإنه سبحانه وتعالى مجازيهم في الآخرة بأعمالهم ودوافعها المكنونة في قلوبهم، إن استمروا على حالهم ولكن عليك أنت أيها الرسول أن تبلغهم الحق، وتدعو إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة.
(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) أي: إذا كانوا كذلك من السوء فأعرض عنهم. وفي هذا النص بيان لطرق علاج المنحرفين في نفوسهم إذا كانوا صالحين للعلاج، وهذه الطرق ثلاث مراحل متداخلة: أولاها - الإعراض عنهم بألا يقبل عليهم ليشعروا باستنكاره لأعمالهم، وأنه غير راض عنهم، وذلك في غير جفوة؛ لأنه إن كانت الجفوة كان العناد، فلا يمكن أن يصل إلى المرحلة الثانية. وهذه المرحلة الأولى هي التي عبر عنها سبحانه بقوله تعالى: (فَأعْرِضْ عَنْهُمْ).
الثانية - الوعظ، وهو الزجر مع التخويف بسوء العاقبة والمآل ونتائج أعمالهم، فإن ذلك قد يدفعهم إلى التفكير، ومع التفكير في العاقبة ينفتح باب الهداية وسلوك الطريق المستقيم.(4/1738)
الثالثة - الاتجاه إلى جذبهم بقول بليغ يصل إلى قلوبهم، بأن يبين لهم العاقبة الحسنى في العمل بالحق، والخضوع لحكم القرآن المشتمل على شريعة الرحمن. ومعنى قوله تعالى: (قَوْلًا بَلِيغًا) أنه يبلغ إلى كنه ما في قلوبهم، فيصل إلى أعماقها ويوجههم توجيها حسنا إلى ما فيه صلاح في الدنيا والآخرة، وذلك بأن يورد النبي - صلى الله عليه وسلم - القول على طريقة تجعلهم يقبلون قوله ولا ينفرون، فيقربهم ويدنيهم، ويأتيهم من قِبَل ما يألفون إن كان حقا.
وإن القول البليغ الذي يصل إلى كنه القلوب، يجب أن تتحقق فيه ثلاثة أوصاف: أولها، أن يكون المطلوب حقا، والثاني، أن يكون اللفظ مستقيما، والمعنى سليما، فلا يصل إلى الحق إلا بالحق، والثالث، أن يكون القول منبعثا من النفس، بحيث يؤمن القائل بصواب ما يقول، فإنه لَا يؤثر إلا المتأثر.
هذه طرق الدعوة إلى الحق، هدانا الله إلى الطيب من القول وهدانا إلى صراط الحميد.
* * *
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
* * *
ما قبل هذا النص الكريم كان في وجوب إطاعة الله تعالى ورسوله، ووجوب إطاعة أولي الأمر الذين ينفذون حكم الله تعالى ويقومون على رعاية(4/1739)
شرعه، ويرجعون إليه في وفاقهم وفي اختلافهم. وكان فيما سبق أيضا بيان أن من يتركون حكم الله ورسوله، إنما يتحاكمون عند تركه إلى الظلم والطغيان؛ لأن ما جاء به الشرع هو الحق الذي لَا شك فيه، وماذا بعد الحق إلا الضلال، وماذا بعد ترك حكم الله إلا حكم الطغيان!!
وفى الآيات التالية يبين سبحانه أن الالتجاء إلى حكم الله تعالى، عندما يكون الخلاف، هو من الإيمان، فمن ترك حكم الله إلى غيره عامدا مستهينا بحكم الله، أو منكرا عدالته وصلاحيته، لَا يعد مؤمنا ولا يعد آخذا بحكم الرسالة، ولذا قال سبحانه وتعالى:(4/1740)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسول إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) ومعنى النص السامي: لا نرسل أي رسول في أي أمة، إلا كان من شأنه أن يطاع، وهذه الطاعة اللازمة على من أرسل إليهم هي بإذن الله بطاعته، فالله تعالى هو الذي بأمر بطاعته، ومن عصاه فإنما يعصى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله: (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ. . .). وفي الأثر الصحيح: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني " (1) أي أن من يعصي الأمير المعين من قبل الرسول، أو الذي عين على مقتضى أحكام شريعته، فقد عصى الله، فليس كل أمير يعد أميرا للرسول.
وقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ) يدل على أبلغ عموم وأبلغ استغراق، إذ تأكد الاستغراق بالتنكير وبحرف (من) وبالنفي والإثبات، وإن هذا يدل على أن الطاعة هي مقتضى الرسالة، فأساس الإيمان بالرسالة الإيمان بأن ما يبلغ إنما يبلغ عن الله تعالى، ولقد أيد سبحانه وتعالى هذا المعنى وهو التبليغ عن الله تعالى بقوله: (بِإِذْنِ اللَّهِ)، فكل أمر يأمر به هو من الله تعالى، وكل ما
________
(1) سبق تخريجه قريبا.(4/1740)
ينهى عنه هو من الله تعالى، كما قل تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى). ويجرنا الكلام في هذا إلى الكلام في اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل طاعته واجبة فيه بإذن من الله، وبعبارة أخرى: أهو لَا يخطئ فتجب الطاعة، ويكون ما ينتهي إليه في الاجتهاد هو كالموحَى به؟ والجواب عن ذلك أنه يجوز الخطأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الاجتهاد في بيان بعض الأحكام، ويجوز الخطأ عليه في القضاء إذا لبَّس الخصوم. والخطأ الأول قد وقع فقد اجتهد مع أصحابه في معاملة الأسرى، وخطأهم الله في اجتهادهم في ذلك الموضع (1). وقد فرض عليه الصلاة والسلام جواز الخطأ في القضاء، فقد قال عليه الصلاة والسلام: " إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من البعض الآخر، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقتطع له قطعة من النار " (2). ولكن الخطأ في الأحكام لَا يمكن أن يقره الله تعالى عليه، بل يبينه، لسلامة النقل عن الله تعالى، وليكون كل ما يأمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - حقا، وليتحقق معنى قوله عليه الصلاة والسلام: " ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " (3). وكذلك لَا يجتهد النبي - صلى الله عليه وسلم - في قضائه
_________
(1) أومأ إمامنا إلى قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). قال القرطبي: هذه الآية نزلت يوم بدر، عتابا من الله عر وجل لأصحاب نبيه - صلى الله عليه وسلم -. والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب؛ فالتوبيخ والعتاب إنما كان متوجها بسبب من أشار على النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخذ الفِدية.
(2) متفق عليه؛ رواه البخاري: الشهادات - من أقام البينة بعد اليمين (2680)، ومسلم: الأقضية - الحكم الظاهر واللحن بالحجة (1713).
(3) رواه ابن ماجه: المقدمة - اتباع سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - (1) ولفظه: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ". وهو في الصحيحين؛ (1337) البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة (7288)، ومسلم في الفضائل: ولفظه عند البخاري: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا [ص:95] أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ".(4/1741)
ويكون باطلا؛ لأنه يكون ظلما، ولا يقع امنه عليها الصلاة والسلام، وقوله السابق في هذا من قبيل فرض التقصير في نفسه، كما فرض التقصير في كثير من أمره تنزها عن الغرور، وتوجيها لنا. ولعل قوله عليه الصلاة والسلام لتعليم الناس قول الحق في مجلس القضاء، وليبين لهم أن إثم خطأ القاضي يقع عليهم، والقضاء لا يبرر الباطل ولا يغمط الحق، فإن أخطأ لَا يحل دينا لمن كان الخطأ لمصلحته أن جمل مال أخيه، أو يغمط حقه.
ولقد ذهبت الجرأة ببعض الذين يتكلمون في الفقه إلى أن ما يكون باجتهاد من النبي - صلى الله عليه وسلم - لَا يكون حجة. كأن النبي يمكن أن يقر على الخطأ في اجتهاده! وذلك كلام باطل لَا يكون إلا من مستهين بمقام النبوة، وتبليغ الرسالة! ولقد قال بعض المالكية وقولهم الحق: إن كل من لم يرض بحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - وطعن فيه وردّه، فهي ردّة يستتاب فاعلها. فأولى بهؤلاء أن يصمتوا ولا يتكلموا، فكلامهم تلبيس وأوهام لَا تصدر عن عالم في الدين يفهم حقائقه، ويدرك معانيه!.
طاعة الرسول إذن واجبة في كل ما يأمر به على أنه دين واجب الأخذ به، وكل من يعاند الرسول في حكمه يكون ظالما لنفسه؛ لأنه تمرد على أمر ربه، ولأنه اختار الباطل بدل الحق، ويجب عليه التوبة والاستغفار. ولذا قال تعالى في أولئك الذين يتمردون على أحكام الرسول وقضائه.
(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) أي: لو ثبت أن أولئك الذين تحاكموا إلى الطغيان والظلم، من اليهود أو المنافقين، وظلموا أنفسهم بخروجهم عن جادة الحق وردهم الحق الثابت، جاءوا إليك تائبين راجعين، فطلبوا غفران الله تعالى، وطلبت لهم ذلك، لعلموا علم اليقين أن الله كثير القبول للتوبة، رحيم بعباده، يفتح باب المغفرة ليدخلوه آمنين مطمئنين إليه، وما سلكوه من طريق الضلال يغفر لهم سلوكه؛ لأن الله تعالى يحب قبول التوبة ويحب المغفرة. وإن مثلهم كمثل الناقة(4/1742)
الشاردة التي يراها صاحبها، يضع لها أسباب التقريب، فإذا عادت إليه فرح بعودتها، بيد أن أحدا من عباد الله لَا ينفعه!.
وهنا إشارات بيانية يجب التنبيه إليها:
أولاها - أن الله تعالى سمى الذين تحاكموا إلى غير الشرع ظالمين لأنفسهم، يستوي في ذلك من حكم له ومن حكم عليه؛ لأن تحكيم الطاغي الظالم هو بث للظلم ونشر له، وإذا شاع الظلم وكثر شاع معه الفساد والاضطراب، ومن فعل ما يؤدي إلى ذلك هو ظالم لنفسه، وظالم لجماعته التي يعيش فيها.
وثانيتها - أن الله تعالى قرن الاستغفار من الرسول بالاستغفار له، ليشير بهذا إلى أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لَا يقول من عند نفسه، بل يقول عن الله تعالى، ولتكريم مقام الرسالة ومقام الحاكم العادل، فإن الإعراض عنه استهانة به، والاستهانة بالحاكم العادل تؤدي إلى الفوضى وعدم استقرار الأحكام.
والثالثة - أن قوله تعالى: (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، ويقول الزمخشري في ذلك " لم يقل: (واستغفرت لهم) وعدل عنه إلى طريقة الالتفات، تفخيما لشأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وتعظيما لاستغفاره. وتنبيها على أن شفاعة من اسمه رسول من الله بمكان ". فالالتفات كما نرى للتنبيه إلى مكانة الرسالة، وتفخيمها، ولبيان أن شفاعة الرسول بمقتضى كونه رسولا، لها مقامها من الله تعالى، وفوق ذلك أن الالتفات يؤدي إلى أن يكون الاستغفار للرسول بوصف أنه رسول، فالباعث على وجوب الاستغفار له هو أنه يبلغ رسالة الله، فترك حكمه استهانة بحكم الله، وهو رسول الله، ورسول الله له حق الكرامة الكاملة.
* * *(4/1743)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
(فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... (65)
* * *
(شَجَرَ بَيْنَهُمْ) معناها تنازعوا فيما بينهم، واختلط الحق بالباطل، وتشابكت الأمور كما تتشابك غصون الأشجار، وإن التحاكم يكون في مثل هذه الأمور التي(4/1743)
تتشابك فيها عناصر الحق والباطل، ويلتبس بعضها ببعض، ولا يعرف الحق الصريح الواضح من بينها، ويميزه الحاكم العادل الفاحص، الذي ينظر إلى الأمور بعمق، وتدبر، وقوة فراسة، وعزمة على الحق، وطلبه بإخلاص لَا هوى.
(فَلا وَرَبِّكَ) أيها النبي الكريم، لَا يؤمنون، ولا يعدون في عداد المؤمنين، حتى يحكموك فيما يكون بينهم من خلاف، فإن من أول مظاهر الإيمان والإذعان للحق الرضا بتحكيم الشرع في الخلاف.
وهنا ثلاثة بحوث لفظية:
أولها: (الفاء) في قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ) ونقول إنها فاء الإفصاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، ومعنى الكلام: إذا كانت طاعة الرسول واجبة بحكم أنه رسول من عند الله، فإنهم لايؤمنون برسالته حتى يرتضوا التحاكم إليه. ثانيها: (لا) في قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ) قال الزمخشري إنها زائدة لتقوية الكلام، فيكون النص كقوله تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْألَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)، وقد قال الطبري إن " لا " ليست زائدة، وإنما هي رد على ما تقدم ذكره من تحاكمهم إلى الطاغوت وتركهم حكم الشرع، وقد قال في ذلك: " قوله (فَلا) رد على ما تقدم ذكره، تقديره: فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك ثم استأنف القسم بقوله (وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنونَ).
ثالثها: أن الله سبحانه وتعالى أقسم بذاته العلية، ولكنه أضاف الربوبية إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (وَرَبِّكَ) يَا أيُّهَا النبي، تكريما لذات النبي)، وإعالأً لشانه، وجواب القسم هو قوله تعالى: (لا يُؤْمِنُونَ).
ومن هذا النص السامي يتبين أن أول مظهر من مظاهر الإيمان الرضا بحكم الشرع، ولكن الرضا وحده ليس كافيا بل لَا بد من أمرين آخرين، وهما أن يكون الرضا عن طيب نفس من غير حرج ولا ضيق، وثانيهما التسليم والخضوع لحكم الشرع. وقد قال سبحانه وتعالى في ذلك:(4/1744)
(ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ) الحرج الضيق والتململ من الحكم أو الشك في صحته، والمعنى: أن من مظاهر الإيمان أن يقبلوا التحاكم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء، وإذا صدر الحكم لَا يشكون في صحته، ولا يضيقون ويتبرمون به، بل يتقبلونه بقبول حسن؛ لأن قبول الأحكام على أنها من عند الله ينهي الخصومات، ويلقي بالسلام بعدها؛ لأنهم تحاكموا إلى ذي الجلال والإكرام. وقد تكلم العلماء في العطف بـ " ثَمَّ " بدل الفاء أو الواو، فقال إن " ثُمَّ " تدل على التراخي، وكأن الله يغفر لهم الإثم الذي يصيبهم عند صدمة الحكم لهم بالنطق به، ولكن عليهم أن يروضوا أنفسهم على القبول والإذعان، من غير ضيق ولا تململ، لكي يكون الحكم حاسما للخلاف قاطعا للنزاع.
(وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) هذا هو الوصف الثالث لأهل الإيمان بالنسبة لأحكام الشرع الشريف. والتسليم معناه الانقياد والإذعان التام في المظهر والحس. وإذا كان الوصف الثاني لبيان الخضوع النفسي، فهذا الوصف الثالث لبيان الخضوع الحسي الظاهر. وقد أكد سبحانه وتعالى التسليم بالمصدر فقال " تَسْليما " للإشارة إلى وجوب الإذعان المطلق من غير أن يثيروا أي شبهة حول الحكم، ولا أن يماروا فيه مراءً ظاهرا، فإن المراء قد يثير نزاعا جديدا، والقضاء يجب أن يكون حاسما قاطعا.
وأصل التسليم هو تقديم النفس، وجعلها خالصة لمن يسلم إليه. يقال: سلَّم لأمر الله وأسلم له. إذا جعل نفسه خالصة لله تعالى، ثم أطلق التسليم على الانقياد الظاهري، وعدم المماراة فيما يقرره الشرع من حقوق وواجبات.
ويجب التنبيه إلى أن التحاكم إلى النبي بعد وفاته هو التحاكم إلى كتاب الله تعالى وسنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيجب أن يعلم كل من يُسمى نفسه مسلما أن الله تعالى يقرر أنه لَا يؤمن من لَا يتحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، ثم لَا يجد ضيقا في حكم الشرع، بل يرضى به، وينقاد له انقيادا ظاهرا وباطنا. وإذا كان ذلك ما يقره الشرع، فليعلم المسلمون اليوم مكانهم من الإيمان، وقد ارتضوا حكم القوانين(4/1745)
الأوروبية بدل كتاب الله " وسنة رسوله وإذا دعوا إلى حكم الله ضاقت صدورهم حرجا، وتململوا ولم يسلموا، بل يناوئون ويعاندون؛ إذ هم يؤمنون بما عند الأوروبيين أكثر من إيمانهم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله! ولا حول ولا قوة إلا
بالله.
* * *
(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
* * *
الآيات السابقة بينت أحوال المنافقين وصفات الإيمان، وأن مظهر قوة الإيمان إطاعة الله ورسوله، والرجوع إلى الكتاب والسُّنة عند الاختلاف، وتحكيمهما في كل أمور الحياة التي تحتاج إلى حكم وفصل. وأقسم الله بذاته العلية التي خلقت كل ما في الوجود، وقامت عليه بالحفظ، ألا يكون الإيمان الكامل إلا لمن يُحكِّم الله ورسوله في كل الخصومات، ويذعن للحكم من غير تململ، ولا تردد. وفي هذه الآيات يبين أن الذين يذعنون لأمر الله ونهيه، حتى في النفس وترك الأهل، قليلون، وليسوا كثيرين، وهم الذين تقوم عليهم قوة الأمة، ولذا قال سبحانه:(4/1746)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) معنى قتل النفس تعريضها للتلف من غير أمل في النجاة، ويكون في ذلك إعلاء للحق، ونصر للفضيلة ورفع شأنها، كهذا الذي ينطق بكلمة الحق أمام سلطان جائر ويتأكد أنه سيقتله إن قالها! ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قال كلمة حق أمام سلطان جائر فقتله " (1)! ومن هذا أيضا أن يحمل على النطق بالكفر، فيمتنع فيقتل! نعم إن الله سبحانه وتعالى قال: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِن بِالإِيمَانِ)، فرخص له بالنطق بكلمة الكفر، ولكن الأفضل ألا يقول، وهو مثوب إذا أصر ولم يقل، ففي هذه الأحوال يكون التعرض للقتل فضيلة مشكورة، لأنه إعلان للناس بأن للحق أنصارا يفتدونه بأنفسهم، وفي ذلك تحريض على تأييده وهو دعوة صارخة له. ومعنى الخروج من الديار: الهجرة من البلد منصرفين للجهاد في سبيل الله تعالى، وذلك إذا لم يكونوا مستضعفين في الأرض، محكومين بغير المسلمين.
ومعنى النص الكريم: لو ثبت أننا فرضنا عليهم أن يعرضوا أنفسهم للتلف من غير أمل في النجاة، أو يخرجوا من موضع استقرارهم وأمنهم في ديارهم، إلى حيث المشقة الشديدة والعمل الكادح، ما استجاب لهذه الفريضة إلا عدد قليل من الناس، وهذا يشير إلى أمرين:
أولهما: أن التكليفات الشرعية لَا تكون إلا فيما يطاق من غير مشقة
مجهدة، لأن الله - تعالى - يقول: (لا يُكَلِّف اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا. . .)، والتعبير بـ (لو) يدل على أن التكليف لَا يقع على هذا؛ لأن (لوْ) كما يقول العلماء تدل على امتناع الشرط لامتناع الجواب، فالله تعالى لو يكلف ذلك التكليف لثقل التكليف إلا على عدد قليل منهم.
الثاني: أن في كل طائفة عددا يقوم بذلك الأمر الشاق، فهؤلاء المؤمنون الأولون قد صبروا على أذى المشركين في مكة من غير وهن ولا ضعف، ومنهم
________
(1) سبق تخريجه.(4/1747)
من مات تحت حرّ العذاب الشاق، ثم هاجروا وخرجوا من ديارهم، وهؤلاء أصحاب الأخدود الذين آذوا المؤمنين، فصبروا، وهم يلقون في النيران وقد قال سبحانه وتعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8).
(وَلَوْ أَنَهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) وإذا كان الله سبحانه لَا يكلف ما يشق أداؤه، ولا يمكن احتماله، إلا لعدد من الأقوياء جعلوا منار الهدى أمام الناس في كل العصور، فإنه سبحانه يكلف الناس ما فيه خيرهم وتثبيتهم على الحق.
ومعنى النص السامي (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ): لو ثبت أنهم فعلوا ما يكلفونه من تكليفات محتملة بينت لهم فيها نتائجها وثمراتها، لكان فيها الخير لهم في الدنيا والآخرة، ففي الآخرة يكون الثواب العظيم والنعيم المقيم، وفي الدنيا يكون العدل والفضيلة، والمصلحة الحقيقية، وهذه الأمور هي خير الدنيا. فالشرع الإسلامي بني على هذه الأمور الثلاثة: الأول الفضيلة المهذبة للنفس، الموجهة إلى توثيق العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، والعبد وربه، والسعي نحو الكمال الإنساني، والمنزلة الرفيعة. والثاني العدالة التي هي الميزان في العلائق الإنسانية التي ينتظم بها معاشهم ومعادهم، والثالث المصلحة الحقيقية، فما من مصلحة حقيقية ليست هوى ملحا ولا شهوة جامحة - إلا دعا إليها الإسلام، وما من حكم جاء به التكليف الإلهي إلا طويت فيه المصلحة، وكانت نتيجة وثمرة للأخذ به.
ومعنى قوله تعالى: (وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) أي يكون في الأخذ بالتكليف الذي يطاق تثبيت على الحق، هو أشد تثبيت وأقواه. وكان في التكليف الذي يطاق تثبيت للحق، لأنه يمكن الاستمرار عليه، والاستمرار على فعل ما هو حق يثبته ويقرب الغاية منه، ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى المداومة على الخير ولو كان(4/1748)
قليلا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ " (1). وإن الاستمرار على طاعة الله يؤدي إلى مثلها، وإن الاستمرار على السهل يجعل المكلف قادرا على الصعب، ثم على الأصعب، وهكذا حتى يصل إلى أعلى درجات التكليف مشقة، فيكون بعد هذه الخطوات أمرا مستطاعا. وإذا وصل إلى ذلك يكون الأجر العظيم، لذا قال سبحانه:
* * *
________
(1) سبق تخريجه.(4/1749)
وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)
(وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67)
* * *
وإنما قام المكلفون بما كلفوا، وأدوا حق الله تعالى، وقد زاد ثباتهم على الحق، ونالوا الخير، فإن لهم مع ذلك جزاء عظيما، لَا حدود لعظمته. وقد تأكدت عظمة الجزاء بأمور ثلاثة: أولها - تنكيره، فهذا التنكير يشير إلى أنه غير محدود بحدود، فهي عظمة أقصى ما يصل إليه الخيال. ثانيها - أنه قال إن ذلك من لدن الله تعالى، وهذا شرف إضافي لهذا الجزاء، وهو جزاء يعلو على كل جزاء من الناس، ثم إنه جزاء يستهان في سبيله كل أذى. وثالثها - الوصف بالعظمة، والذي وصفه بذلك هو الحكيم الخبير، والخلاق العظيم.
* * *(4/1749)
وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
(وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
* * *
الصراط هو الطريق، والمستقيم هو الذي يوصل إلى غايته أو هدفه، ويقول علماء الهندسة: إن الخط المستقيم هو أقرب خط بين نقطتين، فالصراط المستقيم هو أقرب طريق يوصل إلى الحق، والهداية هنا هي التوفيق لأقرب طريق موصل إلى الله تعالى. ومعنى النص الكريم: من أجاب داعي الحق، وقام بالأوامر والنواهي على وجهها الأكمل، وفقه الله تعالى إلى طريقه المستقيم الذي لَا اعوجاج فيه، ويصل بذلك إلى القرب من الله تعالى، فإن الذي يتقرب إلى الله تعالى بالطاعات يصل إلى إدراك نوراني لحقائق العبودية.
ولقد قال البيضاوي في تفسير هذه الآية: (يصلون بسلوكه جناب القدس، ويفتح عليهم أبواب الغيب، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم(4/1749)
يعلم " (1)، وإنه قد ورد أن العبد يتقرب إلى الله تعالى بنوافل الطاعات حتي يصير الله تعالى بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به).
وإن الأساس في الارتفاع إلى هذه المقامات العليا هو طاعة الله وطاعة رسوله، ولذا قال سبحانه:
* * *
________
(1) أبو نعيم في (الحلية) من حديث أنس بهذا اللفظ. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس مرفوعا: " مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا فَعَمِلَ بِهِ كَانَ حَقا عَلَى الله أنْ يُعَلِّمَهُ مَا لَمْ يكنْ يَعْلَمُ ". وفي كتاب (رواية الكبار عن الصغار) لأبي يعقوب البغدادي عن سفيان: " مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعلَمُ وُفَقَ لِمَا لاً يَعْلَمُ ". الدرر المنتثرة ج 1، ص 793 برقم (422).(4/1750)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)
(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ... (69)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة فضل الطاعة وجزاءها، وهو أجر عظيم، وهداية إلى الطريق الذي يوصل إلى القدسية ومرتبة المشاهدة لله تعالى، وعظمته التي ذكرها النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: " اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (2) وفي هذه الآية الكريمة يذكر لهم جزاءً آخر، وهو كرم الصحبة في الدنيا والآخرة، فهم إذ يسيرون في الصراط المستقيم الموصل إلى الله يكونون في قافلة الأطهار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وما أحسنها رفقة طاهرة كريمة طيبة!!.
والإشارة في قوله تعالى: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم) إلى أولئك السابقين الذين أعطاهم الله سبحانه الأجر العظيم، وهداهم للوصول إلى مرتبة السُّمُو، ومشاهدة المعاني القدسية، وكرر ذكر الطاعة فقال: (وَمَن يُطِع اللَّهَ وَالرَّسُولَ)، لأن هذه الطاعة هي الأساس في هذه الأجْزِية المجزية، الرافعة السامية الهادية، وفي تكرارها تحريض عليها، ودعوة إليها.
وقد ذكر سبحانه أن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين قد أنعم عليهم، وإن ذلك هو الحق الذي لَا ريب فيه، ففيهم جميعا نعم ثلاث قد اختصوا
________
(2) سبق تخريجه.(4/1750)
بها: أولاها - نعمة الهداية والتوفيق، وتلك هي الأساس. والثانية - نعمة إدراك معاني الربوبية والعبودية، فهم يحسون بعظمة الخالق المنشئ، كما يحسون بعظمة المعبود، ويذوقون طعم الخضوع لله الواحد الأحد الذي ليس بوالد ولا ولد.
والثالثة - نعمة العمل الصالح. وتلك النعم هي معاني الإنسانية العالية التي تسمو عن كل مظاهر الحيوانية، وما بقي منها فإنه تقوى به هذه المعاني العالية، وتلك النعم السامية.
ومن هم أولئك الرفقاء الأطهار؛ إنهم مراتب ودرجات، وهم أربعة: أولهم: النبيون، وهم الذين أنبأهم الله، واختارهم ليخبروا عنه سبحانه، ويبلغوا الناس شرعه ويفسروه، وإن من يبالغ في محبتهم وطاعتهم يكون معهم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " المرء مع من أحب " (1).
وقد روى ابن جرير الطبري عن سعيد بن جبير أنه قال: " جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو محزون فقال: يا رسول الله، شيء فكرت فيه! فقال الرسول: " ما هو "؟ قال: نحن نغدو إليك ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك! فنزل قوله تعالى: (وَمن يُطِع اللَّهَ وَالرَّسولَ فَأوْلَئكَ مَعَ الَّذينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم. . .) الآية. وروي عن عائشة - رضي الله عنها - أَنها قالت: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: " إنك لأحب إليَّ من نفسي، وأحب إليَّ من أهلي، وأحب إليَّ من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك، فما أصبر حتى آتي، فانظر إليك، وإذا ذكرت موتي عرفت أنك إن دخلت الجنة رفعت مع النبيين فخشيت ألا أراك. فنزلت الآية الكريمة " (2).
والذي يعنينا في هذا أن من يحب الله ورسوله يكون مع حبيب الله محمد - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأنبياء الأطهار.
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: الأدب - علامة حب الله عز وجل (6168)، ومسلم: البر والصلة - المرء مع من أحب (2641). عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(2) رواه الطبراني في الصغير والأوسط ورجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة. عن عائشة رضي الله عنها. مجمع الزوائد (73901).(4/1751)
والفريق الثاني من قافلة الأبرار، الصديقون، ومرتبتهم تلي مرتبة النبيين، والصديقون جمع صدِّيق، وقد فسر العلماء الصديق بأنه الصادق الذي لَا يكذب، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: الصدِّيق من كثر منه الصدق، وقيل: يقال لمن لَا يكذب قط، وقيل: لمن لَا يتأتي منه الكذب لتعوده الصدق، وقيل: بل لمن صدق بقوله واعتقاده، وحقق صدقه بعمله. قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّه كَانَ صِدّيقًا نَّبيًّا)، وقال: (وَأمُّه صِدِّيقَة. . .)، وقال: (مِّنَ النَّبِيَّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ).
وان هذه المعاني متلازمة، فمن صدق في قوله لَا يكذب قط؛ إذ يصير الصدق عادة نفسية له، فلا يتأتي منه الكذب، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا " (1).
وإن الصدق في القول إذا صار عادة نفسية زكت النفس وطهرت، واستقام الفكر والعمل، وصار يدرك الحق لذات الحق، ويتجه إلى طلبه من غير التواء، فيدركه من غير طلب حجة ولا برهان؛ لأن أمارات الحق تلوح له، ويدركها بنور قلبه. وكذلك كان صدِّيق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه، وقد روى ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له نظرة، غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم " (2).
________
(1) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الصِّدْقَ بِرٌّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ، حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ فُجُورٌ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ، حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا ". رواه مسلم: البر والصلة والآداب - قبح الكذب وحسن الصدق وفضله (2607)، كما رواه البخاري بلفظ مقارب. الأدب - قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (6094)].
(2) رواه الديلمي عن ابن مسعود. كما في كنز العمال (32612).(4/1752)
وإن زكاء النفس بمداومة الصدق يؤدي إلى سلامة الاعتقاد، وصحة العمل، وإلى المداومة على تعرف عيوبها، فيكون الصدوق سليم النظر في كل شيء لم يلبس بباطل، وبذلك يكون الصذيق لَا يتأتي منه الكذب، ويسلم قلبه كما سلم لسانه، ويصح اعتقاده كما يصلح عمله.
والفريق الثالث من قافلة البر، هم الشهداء، وهم الذين شهدوا الحق وعلموه علما كعلم المعاينة والمشاهدة، فهؤلاء يشهدون بالحق، ويعلنونه ويدعون إليه، فهم الذين قال الله تعالى في أمثالهم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)، فهم حضور الحق والشاهدون به والداعون إليه، وإن من أولئك بلا ريب الذين يقتلون في الجهاد في سبيل الله تعالى لإعلاء كلمة الحق، قاصدين وجه الله بقتالهم؛ لأنهم شهدوا الحق وأعلنوه، وضربوا الأمثال على افتدائه بأنفسهم، وشهد الله تعالى لهم بالجنة.
والفريق الرابع الصالحون، وهم من صلحت نفوسهم وأعمالهم، فهم صالحون في الباطن والظاهر.
هذه القافلة المكونة من هذه الطوائف الأربع، هم أهل الإيمان حقا وصدقا، وهم رفقاء الخير، ورفقتهم أحسن النعم، ولذا قال سبحانه:
(وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا) الرفيق هو الصاحب الذي يلازمك في عمل أو سفر، وسمي رفيقا لأنك ترتفق به وتستعين، ويعاون كل منكما صاحبه، ويأتنس به في العمل والسفر والملازمة بشكل عام. والرفيق هنا ذكر مفردا واستعمل في معنى الجمع، فالمعنى: وحسن أولئك رفقاء! وإنما أفرد لأن الحسن في ذات الرفقة، ولأن المصاحبة إفرادية، فكل واحد يصاحب الأحاد والجميع، فهم جميعا في معنى رفيق واحد، لتشاكل النفوس وتوافقها. وقال الزمخشري: إن (حَسُن) في معنى فعل التعجب، فالمعنى: ما أحسن وأطيب رفقة هؤلاء! ولذلك كانت نعمة أنعم الله بها على عباده المخلصين. وهي من فضله.
* * *(4/1753)
ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
(ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
* * *
الإشارة إلى كل ما ذكر من جزاء على طاعة الله وطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، من أجر عظيم، وهداية إلى الصراط المستقيم، ورفقته مع الأخيار الأبرار من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، هذا كله فضل من الله تعالى العلي الكبير، وعطاء منه، ورحمة يرحم بها المتقين -، وهو العليم بكل ما يعملون من خير، لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع البصير. فقوله تعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا) فيه بيان أنه يعلم سبحانه من يستحق فضله وعطاءه ومن لَا يستحق، وفيه إشارة إلى أن الطاعة هي طاعة العالم بكل شيء، فالطاعة فيها مصلحة للعباد؛ وكون الجزاء بفضل الله فيه إشارة إلى أن العمل وحده لَا يستوجب العطاء، إنما هو من فضل الله تعالى. ولقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لن يُنَجِّي أحدا منكم عمله "، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: " ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته. سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة (أي من قيام الليل) والقصد القصد تبلغوا " (1). اللهم اختم لنا بخير ما نعمل، ونجنا بفضل رحمتك من سوء أعمالنا، إنك ذو الفضل العظيم.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ
________
(1) رواه البخاري: الرقاق - القصد والمداومة على العمل (6463)، ومسلم بنحوه: صفة القيامة والجنة والنار - لن يدخل أحد الجنة بعمله (2816). عن أبي هريرة رضي الله عنه.(4/1754)
فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
* * *
في الآيات السابقات بين الله سبحانه وتعالى دعائم الحكومة الإسلامية الوثيقة الأركان، فذكر لها ثلاثة أوصاف:
أولها - أن تسودها الأمانة في القول والعمل والمال، فلا تقوم حكومة قويمة إلا إذا كانت الأمانة هي السائدة بين الحكام والسائدة بين الشعب، والسائدة في العلاقات بين الشعب والحكومة. فإذا لم تكن الأمانة فسد أمر الحاكم والمحكوم، وضاعت الأمة.
وثانيها - العدل، فهو ميزان الجماعة وميزان الحكم. ولقد كان العدل شعار الإسلام وسيماه ومعناه، فإذا كان لكل دين سمة واضحة فيه، فسمة الإسلام العدل من العدو والولي على سواء. ولا تقوم أمة إذا لم يقم بينها العدل، واحترام الحقوق التي قررها الله تعالى، ومنحها لعباده.
وثالثها - الرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، واتخاذهما الحكم المرضي للحكومة دائما، لَا يأخذ أحد منهما ما يحب ويدع ما لا وإنه يجب أن يكون للأمة مجلس للحل والعقد يستشيره الحاكم ويشير عليه، فإن اختلف أهل الْحَلِّ والعَقْدِ، احتكموا إلى كتاب الله تعالى، يشير إلى ذلك قوله تعالى: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ).(4/1755)
وفى الآيات السابقة أكد الأمر بطاعة الله تعالى، وبين أن أعلى الدرجات أن يطيع المؤمن الله ورسوله، ولو أمره بأن يتقدم لإعلان الحق والنطق به، وهو يعلم أنه سيقتل.
وإذا تكونت الأمة ذلك التكوين العادل الأمين، تقدمت للدفاع عن نفسها، ولذلك جاء بعده أخذ الأهبة للقتال، فقد قال سبحانه وتعالى:(4/1756)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا) يا أيها الذين أذعنوا للحق، واستجابوا لله ولرسوله، خذوا الأهبة بالحذر واتقاء أذى الأعداء، وكونوا متاهبين للقاء دائما، ولا يكن أخذ الحذر والاحتراس بالقعود في الديار، بل بالنفرة والاستعداد لمواجهة الأعداء في الميدان. فعلى المؤمنين أن ينفروا للحرب، جماعة بعد جماعة، تمر بالثغور التي تواجه الأعداء، أو تلاقى من تستطيع لقاءه منهم. أو إذا تكاثف العدو في مكان، وأصبحت لَا تكفيه جماعة الجند العامل، فلينفر الجند كله، وليتقدم للميدان بكلكله (1)، وهذا معنى النص الكريم بالإجمال ولنتجه إلى تحليل بعض العبارات من ناحية اللفظ والمعنى.
وأولى هذه العبارات قوله تعالى: (خُذُوا حِذْرَكمْ)، فقد قال الزمخشري: " إن الحِذْرَ والحَذَرَ معناهما واحد، ويقال: أخذ حذره إذا تيقظ واحترس. ومعنى خذوا حِذركم، أي خذوا ما فيه الاحتياط لكم، ودفع كل مخوف عنكم "، وقد ذكر الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: " أن مِنْ أخذ الحذر تعرف حال البلاد الإسلامية، وترف حال بلاد الأعداء، أو من يتوقع منهم الاعتداء، وتعرف بلاد المعاهدين وغيرهم، بحيث إذا اضطروا إلى الحرب كانوا عالمين بمواطن قوتها وأماكن ضعفها ". وذكر رضي الله عنه " أنه يدخل في الاستعداد وأخذ الحذر، واتقاء كل مخوف معرفة الأسلحة واستعمالها فإذا كان ذلك يتوقف على معرفة الهندسة والكيمياء والطبيعة وجر الأثقال، فإنه يجب تحصيل ذلك ". ولقد قال الإمام هذا في أول هذا القرن الذي يعيش فيه، وهو ألزم في هذا العصر الذي
________
(1) الكلكل: الصدر من كل شيء. لسان العرب.(4/1756)
كشف ابن الأرض فيه الفضاء، وصارت الحرب لَا تكون بشجاعة الشجعان، بل تكون بالأدوات وغيرها. . ولقد قال أبو بكر لخالد بن الوليد يوم حرب اليمامة: " حاربهم بمثل ما يحاربونك به "! فعلينا أن نعد العدة بمثل ما يعدون، وقد ابتكروا ما يخرب الديار، فعلينا أن نعمل بهذا الابتكار، فإن الشر لَا يدفع إلا بمثله. والله من ورائهم محيط.
والثانية في قوله تعالى: (فَانفِرُوا ثُبَات أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا)، فمعنى انفروا: اخرجوا إلى ميدان القتال أو الحراسة. وقالوا: إن نفر يتفر معناه انزعج وخرج إلى عمل من الأعمال، ومنه قوله تعالى: (فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ منْهُمْ طَائِفةٌ ليَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ)، ومصدره النفر أو النفار أو النفير، والأخير قد يطلق بمعنى الجماعة النافرة. وقالوا إنَّ نَفَرَ يَنْفُر - معناها انزعج عن الشيء، ومنه النفور من الأمور ونفور الدابة. (وثُبَات) جمع ثُبَة، وهي في الأصل ثُبَيَّة، حذفت الياء، ووزنها فعة، ويقال: ثيبت الجيش، جعلته ثبة ثبة، أي جعلته جماعة متفرقة، كل واحدة لها مقصد خاص، وعمل تقوم به، اقتضاه توزيع القوى.
والنفير جماعة جماعة، هو الحال الدائمة المستمرة، فيجب أن تكون حراسة مستمرة للحدود والثغور، وهي المرابطة، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
وأما النفير العام فإنما يكون عند قيام الحرب التي لَا تكفي فيها كتيبة، أو كتيبتان، أو كالتعبير التاريخي في الإسلام: سرية أو سريتان أو أكثر، بل لَا بد من الجيش المحارب كله والأمة من ورائه تؤيده وتؤازره.
ولكن ما المراد من النفير جميعا؛ أهو الجيش المحارب كله، أم نفير الأمة كلها؟ لَا شك أنه إذا لم تغن السرية وجب أن يتقدم الجيش كله، وتقدم الجيش كله هو في معنى نفير الأمة كلها؛ لأن الأمة عليها أن تكوِّن الجيش المقاتل، تؤازره وتؤيده بالمال والقول والعمل، وتكون من وراء ظهره تدفعه إلى العمل وتحميه من(4/1757)
كل خيانة. فإن تكوين جيش مسلح كاف فرض كفاية على كل المسلمين، تأثم الأمة كلها إذا تركت تكوينه. ثم إذا دخل العدو الديار صار الواجب أن ينفر كل قادر من الأمة، وإلا كانت كلها مقصرة، ويكون الخروج فرض عين، وحين ذلك تنفر الأمة كلها حقيقة لا حكما.
إن هذا واجب المخلصين في الأمة، وفي كل أمة معوِّقون يقولون: هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا! ولذا قال سبحانه:
* * *(4/1758)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
(وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
* * *
وإن ممن يعيشون معكم ويساكنونكم ويرتبطون معكم برحم واصلة، ويعلنون اسم الإيمان لمن يتثاقلون عند الدعوة إلى القتال، فيبطئون ولا يخرجون، يبطئون غيرهم ويثبطونهم. وهؤلاء لَا ينظرون إليكم نظرة الحب الذي يودكم، بل يتوقبون الأمر معكم، فإن أصابتكم هزيمة وقتية، أو استشهد عدد منكم، لا يتألمون، بل يفرحون، ويعتبرون قعودهم نعمة أنعم الله بها عليهم، ويحمدون الله تعالى إذ لم يكونوا حاضرين هذه الحرب!! فمعنى (شَهِيدًا) حاضرا الحرب، يقاتل فَيَقْتُلُ أو يُقْتَلُ.
ومن هم هؤلاء؛ أهم المنافقون، أم ضعاف الإيمان؟ قال أكثر مفسري الرواية: إنهم منافقون، وذلك شأنهم. والتعبير بـ " منكم " يحتاج إلى توفيق بين هذا وقوله تعالى في شأن المنافقين: (مَّا هُم منكُمْ وَلا مِنْهُمْ)، والتوفيق أن يقال هنا إن المراد بقوله منكم، أي من أهلكم وعشيرتكم وتربطكم بهم رحم، فكل منافق كان في قرابته من هو صادق الإيمان، مجاهد في الله حق جهاده. ويزكي هذا قوله تعالى في الآية الآتية: (كَأن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ).
وبعض المفسرين رأى أن المراد ضعاف الإيمان، ومن ليست عندهم عزيمة الجهاد، ذلك موجود في كل جماعة، ففي كل جماعة المؤمن القوي في نفسه ودينه، ومنهم الضعيف في نفسه وهمته ودينه.(4/1758)
والحق أنه يصح أن يشمل التعبير الطائفتين: المنافقين وضعاف الأنفس والإيمان، فكلا الفريقين لَا يهمه إلا نفسه، ولا يندمج إحساسه في إحساس أهل الإيمان، فهو متربص منتظر، فإن وجد هزيمة لَا يألم، بل يسر لأنها لم تصبه؛ إذ لا يعتبر آلام جماعته إيلاما لنفسه، وإن وجد نصرا تألم؛ لأنه لم يكن من الغانمين الذين اشتركوا في المعركة، ونالوا الفوز فيها؛ ولذا قال سبحانه وتعالى في شأن هؤلاء في حال النصر:
* * *(4/1759)
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
(وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
* * *
ولئن نلتم نصرا وغنما بفضل الله تعالى، لَا يفكرون في سروركم ولا يحمدون الله على نصركم، ولكن يفكرون في أمانيهم، ويتمنون أن لو كانوا معكم ليفوزوا الفوز العظيم الذي نلتموه، وهو فوز النصر وفوز الغنيمة، فوز الاطمئنان وأداء الواجب، يفكرون فيما ينالهم من خير يرجونه، أو آلام يتجنبونها، ولا ينظرون إلى آلامكم وسروركم، كان لم يكن بينكم وبينهم أية موفى ة، ولو كانت ضئيلة!! فتنكير المودة لبيان تصغيرها، وهذا شأن الأثر الذي يحب نفسه فقط، ولا يفكر في الجماعة التي يعيش فيها.
وهنا ثلاثة بحوث لفظية ومعنوية:
أولها: التعبير عن هذه الجماعة، المنافقة أو ضعيفة الإيمان، بالمفرد اتباعا للفظ (مَنْ) الذي يجوز عود الضمير عليه مفردا. وفي هذا التعبير إشارة إلى معنى الانفراد في الإحساس الذي اختصوا به، ولم يشاركوا أحدا في إحساسهم بالألم أو السرور.
وثانيها: التعبير بقوله: (أَصَابَكُمْ فَضْلٌ) فإن التعبير بإصابة الخير مع أنهم نالوه، للإشارة إلى أن ذلك إرادة الله تعالى. فإن أصابكم ما يؤلمكم فبإرادته، وإن نلتم من خير فبإرادته وبتفضله.
وثالثها: إن قوله تعالى: (كَأن لَّمْ تَكن بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ) جملة معترضة بين القول ومقوله، للإشارة إلى فقدهم الإحساس الاجتماعي فقدًا تاما، الذي(4/1759)
يجعل مودة أيا كان مقدارها بين المتعاشرين أو المتجاورين أو المتجانسين! لقد فقدوا هذا فقدا تاما، وهذا شأن كل من ينفصل عن جماعته بالإحساس والأنانية الخسيسة!!
وفى قوله تعالى: (فَوْزًا عَظِيمًا) إشارة إلى استعظام الخير الذي ينال المؤمنين، شأن الحسود غير المحب.
وإن هؤلاء الذين يعيشون مع جماعة المؤمنين، ولا يحسون بإحساسهم، لا يخرجون إلى قتال، وإنما يخرج للقتال أولئك الذين يؤثرون على أنفسهم، ويقدمونها لله تعالى رجاء ما عنده، فهؤلاء هم القوة، وهم العماد في الحروب والشدائد، ولذا قال سبحانه:
* * *(4/1760)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
(فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ... (74)
* * *
إذا كان المخذلّون يتربصون بالمجاهدين، فإنه يجب أن يكون الجهاد للمخلصين، وأن يبعدوا عنهم المعوقين، فإنهم لَا يزيدونهم إلا خبالا واضطرابا! فليتقدم للقتال الذين لَا ينظرون إلى مغنم يبتغونه، ولا مال يريدونه، إنما يبيعون الحياة الدنيا ومتعها وشهواتها، ويطلبون ثمنا هو الآخرة وما فيها من جنات وعيون، ونعيمها ثابت دائم، ومعها رضوان الله تعالى. وسبيل الله التي يجب القتال فيها هي سبيل الحق، وإعلاء دينه، وجعل كلمة الله هي العليا.
و" يَشْرُونَ " هنا معناها يبيعون أنفسهم، وذلك مثل قوله تعالى: (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ)، وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ)، وقوله تعالى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَن بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدودَة)، أي باعوه. وإن الذي يبيع نفسه لله، ليفتدى الحق وأهله، له جزاؤه وأجره العظيم، ولذا قال سبحانه: (وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).(4/1760)
ومن يتقدم للقتال في سبيل الحق، طالبا رضاه سبحانه، فإن قتل واستشهد في سبيله سبحانه، أو غلب وانتصر بتأييد الله تعالى، ونال السلطان من الله بالغلب، فهو في كلتا حاليه سينال جزاء عظيما. و " سوف " هنا لتأكيد نيل الجزاء في المستقبل، وأكثر استعمالاتها في القرآن هي لتأكيد الوقوع في القابل، ولذا لا تدخل على النفي. وقد وصف الجزاء بالعظم للدلالة على مقداره، ونكِّر للدلالة على أنه لَا يحده تعيين، ولا يبينه تعريف، مهما يكن دقيقا.
وإنما ينال ذلك الجزاء من خرج مجاهدا في سبيل الحق، لَا يبتغي غير رضاء الله، ولا يبغي علوا في الأرض ولا تفاخرا. ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " تَضَمَّن الله لمن خرج في سبيله لَا يخرج إلا جهادا في سبيلي، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي، فهو عليَّ ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة " (1).
اللهم هب أمتك روح الجهاد في سبيل الحق، وهبنا رحمة من عندك، إنك أنت الوهاب.
* * *
(وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
* * *
________
(1) رواه مسلم: الإمارة - فضل الجهاد والخروج في سبيل الله (1876)، والبخاري بلفظ: " تكفل الله ": فرض الخمس - أحلت لي الغنائم (2123) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(4/1761)
هذه الآيات، وما يليها من آيات كريمات، للحض على الجهاد في سبيل الله وقد ابتدأ بدعوة المؤمنين لأخذ الأهبة، والنَّفْرَةِ للجهاد في سبيل الله وإعلاء الحق، والحفاظ على جماعتهم، وحماية أنفسهم، وأخذ الحذر لكيلا ينقض عليهم أعداؤهم.
وإنه في سبيل الاستعداد أن يبعدوا عن حسابهم أولئك الذين يثبطون عن القتال ولا يحتسبوا في عدادهم إلا أولئك الذين باعوا أنفسهم لله، وباعوا متع الحياة الدنيا، لينالوا نعيم الآخرة.
وفى هذه الآيات يحض على القتال بتذكيرهم بشرف ما يجاهدون من أجله، وهو رضا الله، وإعلاء كلمة الحق، ويذكرهم بإخوانهم الذين يرهقون بالظلم، ويعيشون مستضعفين أذلاء، لَا يجدون وليا يلي أمرهم، ولا نصيرا ينصرهم ويستنقذهم مما هم فيه من بلاء، ولذلك قال تعالى:(4/1762)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
(وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) أي شيء ثبت لكم، حتى صرتم في حال لَا تقاتلون فيها في طريق الله طريق الحق الصحيح، والدين الذي لَا شك فيه، والهداية التي فيها خير الإنسانية في الدنيا، وحسن المآل في الآخرة، ولا تقاتلون في سبيل أولئك الذين استضعفوا لعدم وجود من ينصرهم، فضعفوا، وهانوا على أولئك الظالمين، وإن لم يهونوا عند الله سبحانه وتعالى، وعندكم أنتم أهل الحق والإيمان.
وأولئك المستضعفون الذين أراد المشركون إضعافهم وإذلالهم، منهم الرجال الذين سلبوا كل حول وقوة، وصاروا أذلاء، ومنهم النساء اللائي لَا قدرة لهن بحكم الأنوثة ومنهم الذرية الضعاف.
وهنا بحوث نحوية وبلاغية، لَا بد من الإشارة إليها.
أولها: موضع (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) من الإعراب، وقد قيل: إن (ما) دخلت على فعل محذوف يتضمن الكلام معناه ويقتضي تقديره، ويكون(4/1762)
المؤدى ما يثبت لكم حال كونكم لَا تقاتلون في سبيل الله، فقوله سبحانه: (لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) استفهام إنكاري، وموضع الاستنكار أنهم لَا يقاتلون في سبيل الله مع توافر دواعي القتال من الإيمان وحماية من تجب حمايتهم بحكم الشرف، والكرامة الإنسانية.
ثانيها: قوله تعالى: (وَالْمُسْتَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ) فإنهم قالوا إن القتال لاستنقاذهم قتال في سبيل الله، فلماذا ذكر بعد القتال في سبيل الله، وهو يشمله؛ وقد أجابوا عن ذلك بأن هذا من قبيل عطف الخاص على العام؛ لأن للخاص مزيد عناية بيانية. ومنهم من قال إن قوله تعالى:
(وَالْمُسْتَضْعَفِينَ) منصوب على الاختصاص، والمعنى: لَا تقاتلون في سبيل الله وخصوصا المستضعفين إلخ. ومهما يكن من التخريج النحوي، فإن المؤدى أن النص على هؤلاء للتحريض على القتال، بحكم الشرف والمروءة، بعد التحريض عليه بحكم الدين والقربى إلى الله سبحانه وتعالى، ذلك أن العربي الكريم المعدن، وإن لم يكن مؤمنا، يرى من المروءة والشرف والنجدة ألا يعتدى على ضعيف، لَا قوة له، وأن من الواجب عليه أن ينصره، وأن يغيثه.
ثالثها: أن النص على النساء والولدان الصغار فيه تحريض أقوى تحريض؛ لأن هؤلاء يعيرون إذا تركوهم في أيدي الأعداء. وذكر الأولاد بالذات، وهم لم يجنوا أي جناية، فيه حث بذاته على القتال، فإذا كان المشركون قد أفحشوا في الاعتداء، فليس للمسلمين أن يخذلوا هؤلاء الضعفاء.
وإن هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والذرية ليسوا مستسلمين للظلم، ولكنهم يريدون دفعه، ويتجهون إلى اللَّه تعالى أن يخرجهم منه، إذ يقولون كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم:
(رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِم أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) لَا يجدون لهم قوة إلا الدعاء والضراعة إلى الله سبحانه وتعالى يطلبون معونته وإمدادهم، فيقولون مقرين بأن لله وحده حق الربوبية، وبأنه هو(4/1763)
الذي يحوطهم ويكلؤهم، وأنه وحده الذي يملك أمرهم أخرجنا من هذه المدينة الكبيرة، وهي مكة، التي يظلمنا أهلها، والظلم شأن من شئونهم، ويضرعون إليه سبحانه أن يجعل لهم وليا ينتمون إليه، وولاية قوية يشعرون تحت سلطانها بالعزة والكرامة، ويبتعدون عن ولاية الكافرين الظالمة العاتية الباغية، وأن يجعل لهم من ينصرهم، ويخرجهم من نير أهل الكفر، فهاهنا ثلاثة مطالب متلاحقة لهم توجهوا بها إلى ربهم:
أولها: الإخراج من نير الظلم، وحكم الظالمين.
وثانيها: أن يكونوا تابعين لولاية دولة الله، وهي الدولة الإسلامية، فلا يخرجون مشردين لَا دولة تحميهم، ولا ديار تؤويهم.
وثالثها: أن يكون لهم من الله نصير دائم ينصرهم، فلا يتمكن الأعداء وهنا بحوث بلاغية:
أولها - أن المراد من القرية مكة، وقد وصف أهلها بأنهم ظالمون، ولم توصف هي بأنها ظالمة، كما وصف غيرها من القرى مثل قوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)، وذلك تكريم لمكة، إذ هي حرم الله الآمن، ولم يمكن أن يوصف حرم الله الآمن بالظلم، ولو على سبيل المجاز والتقدير. وقد قال ناصر الدين السكندري في كتابه " الانتصاف " في هذه الآية ما نصه: (ووقفت على نكتة في هذه الآية حسنة، وهي أن كل قرية ذكرت في الكتاب العزيز، فالظلم إليها ينسب بطريق المجاز، كقوله تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَة كَانَتْ آمِنَةً مطْمَئِنَّةً)، إلى قوله تعالى: (فكفرت بأنعم الله)، وقوله تعالى: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَة بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)، وأما هذه القرية في سورة النساء، فينسب الظلم إلى أهلها على الحقيقة، لأن المراد بها مكة، فوُقِّرت عن نسبة الظلم إليها، تشريفا لها، شرفها الله تعالى).(4/1764)
ثانيها - أن النص يفيد أنهم يحسون بأن النصرة لَا تكون إلا من الله، وأن الولاية لَا تكون إلا منه فهم بذلك معتزون مطمئنون، ولو كانوا مستضعفين لا حول لهم ولا طول؛ لأن من التجأ إلى الله تعالى عزيز، ولو كان في أرض الذل.
ثالثها - في التعبير (لَدنكَ) وهي بمعنى (عند)، ولا تكاد تستعمل في القرآن إلا مضافة إلى لفظ الجلالة، وعلى أي حال هي تفترق عن عند بأن (عند) تستعمل للعلو، والانخفاض في العندية، كما تستعمل في التساوي، فيقال فلان عند فلان إذا كانا متساويين في الرتبة أو أحدهما دون الآخر، أما (لدنك) فإنها لا تستعمل إلا إذا كان المضاف إليه عاليا، والمضاف دونه، فهذا التعبير يشير إلى أن أولئك الضعفاء قد لَجأوا إلى الجانب الأعلى الذي لَا يدانيه علو في الأرض ولا في السماء، وإذا كانوا قد لجأوا إلى الله، فإن الله ناصرهم.
* * *(4/1765)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ... (76)
* * *
سبيل الله تعالى هي سبيل الحق الثابت الذي لَا يكون فيه العدل، ولا يكون بغي ولا فحشاء ولا أذى، وفيه قيام المصالح ودفع المفاسد. والطاغوت هو فَعَلُوت من طغى، وهو مجاوزة الحد، والبغي الشديد، وترك الخير، وفعل الشر، والسعي في الأرض بالفساد.
وهنا مقابلة بين قتال أهل الإيمان، وقتال أهل الكفر - بالغاية منهما - فغاية المؤمنين نصرة الحق ودفع الفساد، وغاية الكافرين نشر الظلم والفساد في الأرض، ولو ترك الظالمون من غير أن يقاومهم أهل الحق، لعم الفساد، وذهب الخير، وهدم الحق، كما قال سبحانه: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنً اللَّهُ ذُو فَضلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ). (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40).(4/1765)
وإن السبب في أن يجاهد المؤمنون في سبيل الله، وهي سبيل الحق ورفع الإنسانية، والمحافظة على كرامة الإنسان، هو إيمانهم، فالإيمان يدفع إلى أسمى الغايات والدفاع عنها، وذلك السمو هو سبيل الله تعالى، والكافرون لعدم إيمانهم بالمثل العليا الإنسانية يقاتلون في سبيل الطغيان والسيطرة الظالمة على الأرض.
وإن هذه ظاهرة ثابتة، فالقتال في ظل الدين، والتمسك بمثله العليا، رفعة للإنسانية، ومنع الفساد، ومنع لتحكم الرذيلة في الفضيلة. والماضي ينبئ عن ذلك، فقتال النبي والصحابة من بعده كان فيه حد من طغيان الملوك، وظلم الظالمين، ونشر للواء العدل، ومنع للفتنة في الدين، وتحكم الإنسان في أخيه الإنسان. وقد وصف الله المؤمنين إذا انتصروا، فقال سبحانه وتعالى في أحوالهم: (الَذينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ)، أي أنهم إذا انتصروا رفعوا لواء العدل، وأقاموا مجتمعا فاضلا على أساس من الفضيلة ودفع الرذيلة.
وأما الذين لَا يذعنون للحق، ولا يؤمنون به، ولا يقيمون للفضيلة وزنا، فإن قتالهم في سبيل الغلب، والسلطان الغاشم، والتحكم والسيطرة، وإن الماضي والحاضر يشهدان بصدق ذلك، وإن العيان ليؤيد هذه الشهادة الصادقة. ألم تر إلى أولئك الذين يتحكمون الآن في مصاير العالم، لَا يفكرون إلا في الغلب على قطعة من الأرض يستولون عليها، أو يبسطون نفوذهم فيها، وما ذلك إلا طغيان المتحكمين المسيطرين في بلادهم! وانظر نظرة عميقة إلى أولئك الذين وضعوا أيديهم على أدوات الحرب المخربة، التي إن ألقيت لَا تبقي ولا تذر، وتأكل الأخضر واليابس، فإنهم يتغالبون على النفوذ، ولو استشيرت أمَمُهم فردا فردا، لاستنكروا ما هم مقدمون عليه أو يكادون! فالحروب التي يثيرها الكافرون في هذا الزمان لَا يدفعها إلا طغيان أفراد معدودين، يتحكمون في الشعوب ومصايرها، بطريقة أقسى مما كان يتحكم الملوك من قبل!.(4/1766)
(فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) إذا كان الكافرون يقاتلون في سبيل الطغيان، والظلم والسيطرة والفتنة في الدين، وإكراه الناس، حتى لَا يستمروا على إيمانهم، فإن على المؤمنين أن يقاتلوهم؛ لأنهم نصراء الشيطان، أو الذين دخلوا في ولايته. ومعنى النص السامي: قاتلوا أيها المؤمنون الذين ارتضيتم سبيل الله طريقا، ونصرة الحق منهاجا، الكافرين الذين اتخذوا الشيطان لهم وليا يوالونه، ونصيرا لهم ينصرهم في زعمهم؛ وذلك لأنكم تُعلون الحق، وتدفعون الأذى، وتمنعون الشر والفتنة في الدين، وتحاربون الفساد. ولا تخافوا من هؤلاء الذين يوالون الشيطان، ويزعمون أنه ينصرهم، فإنهم يتبعون تدبير الشيطان لهم، أي يتبعون وساوس أنفسهم، وأهواءها التي يتحكم فيها الشيطان ويسيّرها. وتدبير الشيطان مهما يكن، لَا يكون قويا ينتصر به أهل الكفر والفساد على أهل الحق. وضعف ذلك الكيد والتدبير الذي يدبره الكافرون وإبليس معهم، سببه أنهم تسيطر عليهم الأهواء، والأهواء تفسد الفكر وتفسد الأعمال، وتوجد الشحناء. وأهل الحق لو اتخذوا كل أسباب القوة، واعتزموا أمورهم ودبروا تدبيرهم، وقد جانبوا الهوى والشهوات، هم غالبون لَا محالة، وما يغلب أهل الباطل إلا لعدم اتخاذ أهل الإيمان الأسباب.
وسمى الله سبحانه تدبير الكافرين مع شيطانهم (كَيْدَ)، لأنهم لا يقصدون بالتدبير رفع حق أو خفض باطل، بل الكيد والأذى لأهل الحق.
اللهم اهد المؤمنين إلى أسباب القوة، وأخذ الأهبة، وإعداد العدة للجهاد في سبيلك، سبيل الحق والكرامة والسمّو والعلو.
* * *(4/1767)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
* * *
الآيات السابقة في الحض على القتال، وبيان أن القتال دفاع عن العجزة، والنساء، والأطفال، الذين لَا يجدون حيلة للخروج من الهوان والاستكانة للظالمين، ولا يجدون سبيلا لأن يخرجوا من ديار الذل أو يدفعوا عن أنفسهم أوْضَاره وآلامه، ففي القتال دفاع عن هؤلاء، وإخراج لهم. ولكن المسلمين لم يكونوا سواء في تلقي شدائد القتال: فمنهم من يتقدم للميدان لَا يهمه أن يقع على الموت أو يقع عليه، كعلي بن أبي طالب، وغيره من صناديد المؤمنين، ومنهم من يخشاه ويخافه، وهذا الصنف في كل جماعة، ولقد قال الله تعالى فيه:(4/1768)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتوا الزَّكاةَ) تكاثر جمع المؤمنين نسبيا في مكة، وخرجوا مهاجرين، ليقيموا دولة الفضيلة في المدينة، وسكنها النبي - صلى الله عليه وسلم - واستقر بها، وأخذ يعقد العقود، وينسق العلاقات بين المقيمين بها وحولها، حتى يكون الاطمئان. ولقد أراد المؤمنون أن يتقدموا لقتال(4/1768)
المشركين، حتى إن النسائي يروى أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: يا نبي الله، كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا في ذل!! يريدون أن يأمرهم بقتال المشركين. وسواء أكان الطلب وهم بمكة، أم كان وهم بالمدينة، قبل أن يتقدم النبي - صلى الله عليه وسلم - لدفع أذى المشركين بالسيف بعد أن استمادوا وطغوا في الأرض، وأكثروا فيها الفساد. فإن النبي بحكم الله أمرهم بأن يكفوا عن القتال وقتا ينظم فيه الأمر بتقوية أرواحهم، وتوجيهها إلى الله تعالى لتخلص لله وحده، وذلك بإقامة الصلاة، فإن الصلاة فيها تخليص النفس من أدران الماثم، والاتجاه بها إلى الله وحده، وهي إذا أديت على وجهها تنهى عن الفحشاء والمنكر، كما أمرهم أن يتجهوا في هذه الفترة أيضا إلى تقوية أنفسهم، والربط بين آحادهم بصلات المودة والتعاون، وإزالة ضعف الضعفاء، وذلك بإعطاء الفقراء الزكوات التي كانت مفروضة في أول الإسلام. وإن تقوية الضعفاء سبيل قوة الدولة، كما قال عيم: " ابغوني في ضعفائكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم " (1). . . حتى إذا استقام أمر الجماعة الإسلامية كتب الله تعالى القتال الذي طلبه من قبل أقوياء الإيمان، ولم يعارضه غيرهم، فكان الطلب من الجميع، كتبه الله تعالى دفاعا عن أهل الإيمان الذين يستذلهم المشركون، ومنعا للفتنة في الدين، وإعلاء لكلمة الحق، ولكي يتقدم للإيمان كل مريد للحق طالب له، غير خائف من صولة الشرك. ولما كتب القتال كان الصادقون الأقوياء آخذين الأهبة، ومستعدين للإقدام، وكان الضعفاء في وجل، ولذا قال سبحانه:
(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً) الخشية الخوف الشديد مع مهابة الضعيف لمن يخافه، وهذا الفريق الذي خاف القتال مع الهيبة من الأعداء هو من الضعفاء الذين لَا يعلون بإيمانهم.
والتعبير بقوله تعالى في أوصاف هذه الخشية: (يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً)، فيه بعض إشارات بيانية.
________
(1) سبق تخريجه من رواية الترمذي وأبى داود والنسائي.(4/1769)
أولاها - أنه عبر عن الأعْدَاء بقوله (النَّاسَ)، وهو توبيخ أبلغ توبيخ، ذلك لأنهم أناس مثلهم، وليسوا في الفضل مثلهم، وفوق ذلك مع أنهم أناس مثلهم، يجعلون خشيتهم في مقابل خشية الله تعالى ذي الجلال والإكرام القاهر فوق عباده.
الثانية - التعبير بلفظ الجلالة فيه إشارة إلى بيان خورهم وفساد تفكيرهم؛ إذ يجعلون خشية الله - جل جلاله -، في مقابل الخشية من الناس، والله تعالى إذا كان معهم وقاموا بحق الجهاد، فلن يخذلوا أبدا.
الثالثة - في الترديد بين أن تكون خشيتهم من الله بمقدار خشيتهم من الناس، أو أكثر، فيه بيان لحال ضعفهم، واستمكان الضعف، وهو ترق في التوضيح، إذ إنه من المقرر أن المؤمن لَا يليق به أن يخاف الناس، كما يخاف الله، فكيف إذا كان يخاف الناس أكثر من الله؟! ولا شك أن فريقا من أولئك الضعفاء أو المنافقين كان على هذه الحال.
وأولئك الجبناء لَا يكتفون بالخوف والفزع، بل يصل بهم الأمر إلى درجة أن يعترضوا على فرضية القتال.
(وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخرْتَنَا إِلَى أَجَل قَرِيب) قد قالوا لفزعهم: ربنا الذي خلقنا ونمانا وربانا، لأي شيء كتبت علينا القتال وفرضته وألزمتنا به، وهو أمر مخوف مرهوب؟! فمن فرط ذهولهم وجبنهم ينسون العزة والكرامة، وأنهما مطلبان لَا ينالان إلا بالحرب والجهاد؛ وينسون إذلال الكافرين للمؤمنين، والفتنة في الدين، ويسألون عن أسباب القتال!. نعم إن القتال أمر تكرهه النفوس، ولكن إن كان دفعا للذل يصير واجبا، كما قال تعالى: (كتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَن تَكرَفوا شَيئًا وَهُوَ خَيْرٌ لكُمْ).
فيصير القتال أمرا مستمرا لشرف الغاية التي تدعو إليه.
وإذا ذُكر أولئك الضعفاء بالباعث على شرعية القتال لَا يذهب فزعهم، بل يقولون وجلين هلعين: (لَوْلا أَخَّرتَنَا إِلَى أَجَل قَرِيب)، أي: هلا أخرتنا في إجابة(4/1770)
داعي القتال إلى زمن مؤجل قويب؛ فهم بعد أن يعود إليهم رشدهم يطلبون أن يُؤَخروا هم، لَا أن تؤخر الفرضية!. لقد كان كلامهم الأول في شأن الفرضية، ولما أدركوا سوء قولهم، كان كلامهم عن مطالبتهم بتأخير ذهابهم إلى القتال، وذلك ما يدل عليه تعبير الله عنهم بقوله: (لَوْلا أَخَّرْتَنَا)، فهذا الفريق الضعيف الإيمان يريد أن يذهب المجاهدون الأبرار، ويقعدوا هم مع القاعدين!! وقد قال في ذلك القرطبي: (معاذ الله أن يصدر هذا القول من صحابي كريم، يعلم أن الآجال محدودة، والأرزاق مقسومة، بل كانوا لأوامر الله ممتثلين، سامعين طائعين، يريدون الوصول إلى الدار الآجلة خيرا من المقام في الدار العاجلة، على ما هو معروف من سيرتهم، اللهم إلا أن يكون قائله ممن لم يرسخ في الإيمان قدمه، ولا انشرح بالإسلام جنانه، فإن أهل الإيمان متفاضلون؛ فمنهم الكامل، ومنهم الناقص، وهو الذي تنفر نفسه عما يؤمر به، فيما تلحقه فيه المشقة، وتدركه الشدة).
(قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيل وَالآخِرَةُ خَيْر لِّمَنِ اتَّقَى) إن الحرص على الدنيا والتعلق بها، يدفع إلى الرغبة في البقاء على أية صورة كان البقاء، سواء أكان البقاء في عزة أم كان في ذلة. فمطامع المال ومتاع الدنيا تجعل النفس ترضى بالحياة بكل صورها، وقديما قال العرب: (أذل الحرصُ أعناقَ الرجال). فكان لابد لتربية روح الجهاد من تعريف المسلم بقيمة هذه الحياة، ووزنها بالنسبة لما بعدها، ولذلك أمر الله نبيه أن يقول لهؤلاء الذين كانت خشيتهم للناس كخشية الله أو أشد، واضطربوا عندما أمروا بالقتال: إن كل منافع الدنيا ولذاتها قليلة، مهما كبرت في نظركم، فكثيرها قليل إذا كانت في ذلة، ولا يبقى الانتفاع إذا تحكم فيكم الأعداء، وهي فانية لَا تبقى، وكل ما يكون مآله الزوال ضئيل مهما تكاثر في العدد، وإذا وزن متاع الدنيا بمتاع الآخرة الباقي الخالد الدائم، فإنه لَا يكون شيئا مذكورا!! ولذا جاء قول النبي بأمر الله تعالى: (مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْر لِّمَنِ اتَّقَى) والآخرة بما فيها من متاع دائم خير من الدنيا بكل حذافيرها؛ لأنه لَا نزاع(4/1771)
فيها، ولا شر يتحكم ولا مغالبة، بل اطمئنان وهدوء، وسرور مستمر، لمن ينالون جنتها ويبعدهم الله تعالى عن جحيمها، وهي مع ذلك أكلها دائم، ونعيم مقيم، ورضوان من الله أكبر، وإن أعمال الخير في الدنيا، والجهاد في سبيل الحق، هي السبيل لنيل ما في الآخرة من خير وجنات تجري من تحتها الأنهار، ومن عمل عملا صالحا نال جزاءه موفورا، ولذا قال سبحانه وتعالى:
(وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا) الفتيل: هو الخيط الدقيق الذي يكون في شق نواة التمر، وهو يضرب مثلا للقلة والتفاهة. والمعنى: إنه إذا كانت الآخرة خيرا من الدنيا وأبقى من متاعها، فإن طريق الآخرة هو الجهاد في سبيل الله، والقيام بطاعته، وإنكم ستنالون الجزاء الأوفى، ولا ينقص من أحد منكم أي قدر من جزائه، ولو كان قدرا ضئيلا لَا تأبهون له في دنياكم، فإذا كان حرصكم هو الذي جعلكم تخشون القتال، وترجئونه، فإنه يجب أن يكون حرصكم كبيرا على ما هو أغلى وأعظم، وما هو مؤكد لَا احتمال فيه، ولقد كان حرصهم وخوفهم من القتال؛ لأنهم يريدون الحياة ويخافون الموت، فبين لهم سبحانه أن الموت آت لا محالة، وأنه لاحق بهم أينما يكونوا:
* * *(4/1772)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
(أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ... (78)
* * *
البروج جمع برج، وهو يطلق على الحصن المنيع، ويطلق على القصر العالي الذي لَا يصل إليه أحد، ويبنى للملوك والكبراء لكيلا تصل إليهم الرعايا. مشيدة: أحكم بناؤها، وارتفعت، أو بنيت بالشيد، وهو الملاط القوي الذي تربط به اللبنات بعضها ببعض. ولقد قال طرفة بن العبد:
كأنها برج رومي تكنَّفها ... بانٍ بشيد وآجرّ وأحجار
ومعنى النص: إن كنتم تريدون بقعودكم عن الجهاد وطلب إرجائه أن ترجئوا الموت أو تطيلوا الحياة، فقد أخطأتم، فإنه حيثما كنتم يدرككم الموت ولو كنتم في أقوى الحصون، وأمنعها، وأحكمها بناء.(4/1772)
وفى التعبير بكلمة " يدرككم " إشارة إلى أن الموت كأنه يطلب الإنسان ويتبعه حيثما كان، وفي أي وقت كان، فهو طالب لَا بد أن يدرك ولا بد أن يصل؛ لأنه حفيقة محتومة فإن فررتم منه فإنه ملاقيكم، فلا تفروا منه واطلبوا الحق ولو أدى إليه، وما أحسن ما قاله زهير بن أبي سلمى:
ومن هاب أسباب المنايا ينلْنه ... وإن يَرْقَ أسباب السماء بسلَّم
وإن هؤلاء الذين ضعفت نفوسهم قد يدفعهم اضطرابهم إلى أن تسيطر عليهم الأوهام، فمنهم من يقول كلاما يثير الظنون ويسكت عنه الباقون منهم فكأنهم قالوه، ولذا حكى - سبحانه - القول عن هذا الفريق فقال:
(وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) أي إن تصبهم حال حسنة تحسن عندهم، من رخاء أو خصب أو ظفر أو غنيمة أو سعة في الرزق، يقولوا: هذه الحال من عند الله تعالى، فإن كان النصر قالوا: من عند الله. وإن يصبهم أمر يسيئهم، كالهزيمة، قالوا: ذلك من محمد، كأنهم ينسبونه إلى سوء تدبيره - عليه الصلاة والسلام -، أو يتشاءمون به، ويهبطون بذلك هبوطا شديدا! فالحسنة ما يحسن عندهم، والسيئة ما يسوؤهم. وذلك التفكير الذين يفكرونه ناشئ من ضعفهم النفسي، وضعفهم الإيماني، وسوء ظنهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك شأن أهل النفاق ومن يستمعون إليهم من ضعفاء أهل الإسلام:
(قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) أي إذا كنتم تنظرون إلى ما قدره الله تعالى في علمه المكنون، وما يوفق إليه عباده، وما يمدهم به من عون، فإن كل شيء من عند الله، فالشدة والرخاء من عند الله، والغنيمة والهزيمة بتقدير الله عند اتخاذ الأسباب، فلا ينصر الله متخاذلا، ولا يخذل من يريد ما عند الله، ويتجه إلى الجهاد مستعدا بقلبه وعدته وتنظيمه، وبهذا يرد عليهم ما توهموه، أو قالوه.(4/1773)
وقد بين سبحانه أن كلام هؤلاء كلام من لَا يفقه الأمور على وجهها، ولا يدرك معاني الأقوال والأفعال. ولذا قال سبحانه: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) والمعنى: أن الأمر ثبت لهؤلاء الذين لم يدركوا الأمور حتى كادوا لا يدركون إدراكا حقيقيا أي حديث يتحدثون به، أو أي حديث يلقى إليهم، فلا يعلمون أن الله هو القابض الباسط القادر على كل شيء!. وإنهم لو فهموا ما يتلى عليهم من كتاب الله والحكمة لاهتدوا، وهذا الاستفهام توبيخ لهم وبيان لوصفهم الحقيقي، وهو أنهم لَا يكادون يفهمون معنى ما يسمعون وما يقولون! اللهم اهدنا إلى الطيب من القول، واهدنا إلى الصراط الحميد.
* * *
(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
* * *
هذه الآيات تتميم للمعاني التي اشتملت عليها الآيات السابقة، فإن هؤلاء المنافقين وضعاف الإيمان، كانوا يُحمِّلون النبي - صلى الله عليه وسلم - تَبِعة الهزيمة إن كانت!. وإن كان ما يحسن في نظرهم قالوا: هذا بفضل الله، ونسوا أن كل شيء بتقدير الله سبحانه وتعالى وتوفيقه، فقد قدر النصر والفوز، كما قدر الضرر والأذى، وكلٌّ من عند الله سبحانه وتعالى. وقد حسب أولئك المنافقون والضعفاء أن البعد عن(4/1774)
القتال يُنجيهم من الموت، فبين الله سبحانه أنه لَا نجاة من الموت، وأنه حيثما كان الشخص فالموت مدركه ولاحِقه.
وفى هذه الآيات يبين سبحانه أن ما يصيبك من أمر يحسن عندك، فإنه بفضل الله تعالى؛ إذ وفقك إلى سببه، وجعل السبب منتهيا بالنتيجة وما أصابك من أمر يسوؤك فبسببك وعمل منك، وأن الرسول لَا يحمل أوزاركم، وأن طاعته واجبة في المنشط والمكره، وأن الذين يظهرون الطاعة بألسنتهم أمامه، ويبيتون العصيان من ورائه، الله بهم عليم، ولذا قال سبحانه:(4/1775)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
(مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَة فَمِن نفْسِكَ) في هذا النص الكريم تخريجان: أحدهما - أن هذا من كلام الله تعالى، والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو من بعد ذلك خطاب لكل مكلف مطالب بالعمل بالشرع الشريف.
والمراد بالحسنة ما يكون فيه ما يسر وما يحسن في نظر الإنسان، والسيئة ما يسوء في نظر الإنسان. والمعنى على هذا التخريج: ما أصابكم من أمور حسنة فبتوفيق الله تعالى لكم، وجعل النتائج مترتبة على أعمالكم التي اتخذتم فيها الأسباب، ولم تتقاصروا عن الاتجاه فيها إلى أسباب الظفر. وما يصيبكم مما يسوؤكم وينزل بكم من غم، فلتجنبكم الأسباب الموصلة إلى الغاية، ومخالفتكم أوامر الله ورؤسائكم، كما كان الشأن في أحد، فما كان الأمر الذي ساء إلا من المحاربين الذين امروا فخالفوا، وما كان النصر في بدر إلا من الله، وإطاعتهم الأوامر.
والتوفيق بين النص الكريم، وقوله من قبل: (قُلْ كُل مِّنْ عِندِ اللَّهِ)، هو أن النص الأول كان موضوعه الكلام في تقدير الله، فهم إن انتصر المؤمنون لَا ينسبون للنبي - صلى الله عليه وسلم - أي فضل، بل يجردونه من الفضل، ويقولون هو من عند الله!! وما قصدوا التفويض والإيمان بالقدر، بل قصدوا الغض من مقام النبوة!! وإن كان ما يسوء نسبوه إلى النبي إيذاءً وتمردا، فالله قال لهم: كل ذلك بتقدير الله وإرادته. أما هذا النص: (مَا أَصَابَكَ)، فموضوعه اتخاذ الأسباب، ومعناه أن من أخذ الأسباب وتوكل على الله، فالله تعالى يعطيه النتائج، ومن(4/1775)
لا يتخذ الأسباب أو يخالف المنهاج السليم الموصل إلى الثمرة، أو لَا يتوكل على الله تعالى ولا يفوض إليه، فإنه سيناله ما يسوؤه، وبسبب منه، فالأول إيان القَدَر، والثاني لبيان العمل.
وهذا هو التخريج الأول، والتخريج الثاني أن يكون: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسكَ)، من حكاية قول المنافقين والضعفاء في إيمانهم، لأن آخر الآية السابقة: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا)، ثم ذكر سبحانه حديثهم الذي لم يفقهوه، وهو قولهم: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) إلخ، ويكون الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فهم يقولون: ليس لك من فضل في النصر الذي تناله، فإن ما أصابك من ظفر فمن الله، وما أصابك من هزيمة فمن نفسك! وقد ذكر هذا التخريج القرطبي، وقال: " والمعنى: فمال هؤلاء القوم لَا يكادون يفقهون حديثا، حتى يقولوا: ما أصابك الله من حسنة فمن الله! ".
ويكون ذلك الكلام على هذا التخريج ترديدا لقولهم: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)، ويكون في الأول الحديث عن أنفسهم، وفي الثاني الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي الأول معنى التطير والتشاؤم، وفي الثاني تجريد النبي - صلى الله عليه وسلم - من كل فضل!.
وهم في الأمرين خارجون عن الطاعة متمردون، وقد رد الله تعالى كلامهم بقوله سبحانه:
(وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) وإنا أيها النبي قد شرفناك برسالتنا، فأرسلناك رسولا فقط، لَا تتكفل بالأرزاق، ولا تهب النصر، ولا تمسك مقاليد الكون، ولست تملك من أمر نفسك شيئا، إنما أنت مكلف بالتبليغ فقط، فإن بلغت فما عليك شيء، وإن اتخذت الأسباب في الحروب للظفر، وتوكلت على الله، فإن الله مانحك النصر، ومعطيك الغلب، وإن خالف من معك ما سننت لهم من منهاج للظفر، فإن الهزيمة واقعة بهم، ولست مسئولا عما يصيبهم(4/1776)
القدر به من أمر يسرهم، ولا أمر يسوؤهم. وفي قوله تعالى: (وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسولًا) يذكر سبحانه كلمة (رَسولًا) تأكيدا لوصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسالة، ولبيان أن عمل الرسول ليس هو التحكم في القدر، إنما عمله التبليغ فقط، فإذا بلغ فما عليه من شيء.
وإذا كانوا قد اتهموك وقالوا ما قالوا، فكفاك شهادة الله لك بأنك بلغت وجاهدت، وأن ما يرمونك به باطل، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
وإن تصرف أولئك المنافقين ولضعفاء فيه إخلال بواجب الطاعة، وإن الرسالة التي حمل عبئها محمد - صلى الله عليه وسلم - توجب عليهم طاعته من غير تمرد، بل مع الإذعان والخضوع لما يطلبه باسم الله، وأن يعلموا أن طاعته فيها طاعة الله، فإن تمردوا عليه أو تشاءموا به، فليعلموا أن ذلك تمرد على الله، ولذا قال سبحانه:
* * *(4/1777)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
(مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ... (80)
* * *
إن هؤلاء كانوا ينتقصون فضل النبي بنسبة الظفر إلى الله والهزيمة إلى النبي، وقد بين الله تعالى أنه رسوله، فإن تنقصتموه فإنما تتنقصون من أرسله، وإن تمردتم عليه فإنما تتمردون على من أرسله: (مَن يطِعِ الرَّسُولَ). فيما يأمر به، وينهى عنه، وفي دعوته إلى الجهاد، فإنما يطيع الله تعالى، لأنه إنما يتكلم عن الله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)، ولقد روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أحبني فقد أحب الله، ومن أطاعني فقد أطاع الله "، فقال الذين يشككون في الإسلام من المنافقين: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل. لقد قارف الشرك، وهو ينهى أن يعبد غير الله! ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه رتا كما اتخذت النصارى، فنزلت هذه الآية: (مَن يطِع الرَّسُولَ) (1) وعندي أن الآية لَا تحتاج إلى سبب نزول في بيانها لأنها واضحة بينة، يشهد لمعناها سابقها ولاحقها، وإن الحديث في ذاته صحيح المعنى، وروى مسلم مثله عن أبي هريرة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: " من
________
(1) ذكره جماعة من مفسري السلف منهم القرطبي والرازي وأبو السعود والألوسي والبيضاوي والسمرقندي عن قتادة (من التابعين).(4/1777)
أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع أميري فقد أطاعني، ومن يعص أميري فقد عصاني " (1)، ومن نال فضل طاعة الله ورسوله، فقد نال حظ الدنيا والآخرة، ومن أعرض عن ذلك فعليه تبعة عمله.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أدى واجبه في التبليغ، ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) ومن عصى أمرك ولم يطعك، وأعرض عن الحق الذي أمرك الله تعالى بتبليغه، فإنه وحده الذي يتحمل تبعة إعراضه عن دين الله، ولا تبعة عليك، إنما عليك التبليغ فقط، وعلى الله تعالى حسابهم يوم الحساب، فلا تكلف نفسك ما لست مكلفه، فما أرسلك الله تعالى إلا مبشرا ونذيرا، وليس عليك أن تحمل الناس على الإيمان، ثم ما أنت مكلف بالمحافظة عليهم ومراقبتهم وتتبعهم حتى يكونوا مهتدين: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ. . .)، وما أنت بمهيمن عليهم حتى تحاسبهم على الإيمان، إنما الحساب عند الله. . .
وإن هؤلاء المنافقين يظهرون الطاعة، ويبطنون المخالفة، ولذا قال سبحانه:
* * *
________
(1) متفق عليه، وقد سبق تخريجه.(4/1778)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
(وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ... (81)
* * *
إنما يقول المسلمون جميعا: أمرُنا معك طاعة وخضوع لما تطلب، فليس لنا إلا أن نطيعك، ولا يجوز أن نخالفك؛ لأن طاعتك هي طاعة الله، فانت فينا المطاع دائما، وقد قصرنا أحوالنا على طاعتك.
هذا قول المسلمين عامة، ولكن المؤمنين يقولون ويذعنون ظاهرا وباطنا، وسرا وإعلانا، والمنافقون يقولون ذلك بظاهر من القول، وهم ينوون المخالفة ويصرون عليها ولا يتركونها، وهم الذين يقول الله تعالى فيهم: (فَإذَا بَرَزُوا مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ منْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ)، أي فإذا خرجوا من عندك بارزين ظاهرين غير مستخفيت، أخذوا يتدبرون فيما بينهم الأمر الذي يكون مخالفا للطاعة!(4/1778)
والتعبير عن الخروج بالبروز للإشارة إلى تفاوت ما بين أحوالهم! وتضارب مظهرهم مع خبيئتهم. ويقول الزمخشري في المعنى اللغوي للتبييت: (والتبييت إما من البيتوتة؛ لأنه قضاء الأمر وتدبيره بالليل، ويقال: " هذا أمر بُيِّتَ بليل ". وإما من أبيات الشعر؛ لأن الشاعر يدبرها، ويسويها)، وعندي أن هذا المعنى غريب، ولكن الأولى هو الأول مضافا إليه معنى التزوير والتحسين، لأن (بيّت) تتضمن معنى التزوير والتمويه. والمعنى على أي حال أن هذه الطائفة، بعد خروجها من عندك، تدبر أمر مخالفتلث، وتحسن هذه المخالفة وتزينها لنفسها في خفاء، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون، ولذا قال:
(وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) والله سبحانه وتعالى يعلم ما يبيتون، فلم يكن خافيا قبل أن يقع، ولم يزدد به علما بعد الوقوع، فهو يعلم ما كان وما يكون إلى يوم الدين. وفي هذه الجملة تهديد لهم وتطمين للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله تعالى يبين أن تبييتهم وإخفاء نياتهم لَا يخفى على الله، بل إن علمه به علم ما يكتب وما يسجل عليهم، ليكون مرئيا لهم في صحائف أعمالهم يوم القيامة، وليعلم نبيه بتدبيرهم السيئ ونيتهم، ليتقى شرهم، ويحفظه من أذاهم، فإنه هو ناصره وكافله. وإذا كان الله تعالى يكتب عليهم ما يخفونه، فليس للنبي أن يأبه لهم والله حافظه وكالئه، ولذلك أمره بألا يلتفت إليهم، ولا يأخذه هئم في شأنهم، وليعتمد على الله، وليكل إليه أموره، ولا يكل أموره إلى غيره، وإنه إن توكل على الله حق التوكل، حفظه، وكفاه شرهم، ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا).
والمعنى: يكفيك أن الله تعالى هو الموكل بأمرك، وهو حافظك وكالئك وحاميك، ومن كان الله تعالى وكيله والموكل بأموره، فلن يضيع أبدا.
اللهم هيئ للمسلمين أسباب العزّة، ووفقهم للعمل الصالح، واجعلهم يكلون مآل أمورهم إليك، إنك نعم المولى ونعم النصير.
* * *(4/1779)
(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
* * *
في الآيات السابقة بيَّن الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أحوال المنافقين، وما هم عليه من لؤم الطبع والمكر والخداع، ثم أمره - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عنهم، فهم لن يضروه شيئا مهما كان لؤمهم وخداعهم، وما عليه إلا أن يتوكل على الله، فهو حسبه، وسيكفيه شرهم، ولن يبلغوا منه شيئا.(4/1780)
وفى هذه الآيات لَا يزال الكلام عن المنافقين متصلا، فالله سبحانه وتعالى يعيب عليهم حالهم في عدم تدبر القرآن الكريم والتفكر في معانيه؛ لأن التدبر في القرآن يجعلهم يفكرون في عاقبة أمرهم، ويستيقظون من سباتهم الذي يملك عليهم نفوسهم، ويتجسد أمام بصائرهم ما سوف ينالهم من جزاء يوم القيامة.
وهم لو تدبروا القرآن لرأوا فيه العجب العجاب، ولتبين لهم أن هذا الكتاب منزل من الله رب العالمين، وأن محمدا عبد الله ورسوله.(4/1781)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
فالقرآن الكريم يحمل بين جنباته دلائل صدقه، وبراهين أنه من لدن حكيم حميد، إذ لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه تناقضا في القضايا، واختلافا في الألفاظ، وتضاربا في المعاني، ولضربت الآيات بعضها بعضا؛ لأن الإنسان من البشر إذا تكلم بكلام كثير، لابد أن يوجد في كلامه اختلاف، لاختلاف مزاجه بين الحين والحين، ولما يعتوره من الصحة والمرض، ولاختلاف مواقفه في الزمان والمكان، فيظهر ذلك كله في صورة تناقض في اللفظ أو الوصف، أو في المعاني، أو الصدق والكذب إلى غير ذلك من صور الاختلاف.
ولكن القرآن الكريم بين أيديهم، فليتدبروه حق التدبر، فلن يجدوا فيه اختلافا في وصف، ولا ردا في معنى، ولا تناقضا في قضاياه، ولا كذبا فيما يخبر به من أمور الغيب، ولكنهم بإعراضهم عن التدبر، يظلون كالأنعام بل هم أضل، قد أغلقوا قلوبهم عن الهدى، وأصموا آذانهم عن صوت البشير النذير، فما لهم لَا يعقلون، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا)، فهم لَا يفقهون.
* * *(4/1781)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
* * *
عجبا لأمر هؤلاء المنافقين، إنهم يسارعون في الفتنة، ويتحينون الفرص ليزرعوا الشكوك والظنون في صدور المؤمنين، ويشيعون الأخبار على غير حقيقتها، فإذا سمعوا خبرا عن أمن المسلمين أو انتصارهم، أو عن الخوف عليهم(4/1781)
والإشفاق من تحركاتهم، أسرع هؤلاء المنافقون لإذاعة الشائعات، وأظهروها وتحدثوا بها قبل أن يقفوا على حقيقتها، وقد يكون في ذلك ضرر بالإسلام والمسلمين، ولكنهم لَا يبالون، بل ربما كان ذلك هو ما يبتغون.
وقال بعض المفسرين إن ضعاف المسلمين كانوا يفعلون ذلك أيضا، فقد كان بعضهم يفشي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، دون إذن في ذلك، ويحسبون أنهم لَا يخطئون فيما يفعلون، ويسيئون ويحسبون أنهم يحسنون.
وسواء أكان ذلك من المنافقين أم من ضعاف المسلمين فهو خطأ لَا يجوز أن يحدث، لذلك يجيء الأمر من الله تعالى بألا يسرع المسلم في الحديث بأخبار لم يتحقق منها، ولم يتبين له صدقها من كذبها، ولم يميز من أمرها بين النفع والضرر، بل يجب على هؤلاء وأولئك أن يردوا الأمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وينتظروا حتى يكون عليه الصلاة والسلام، هو الذي يتحدث به ويكشف عن صدقه، ويبين نفعه للمسلمين أو ضرره، وهذا الحكم ماضٍ في كل زمان ومكان، فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد انتقل إلى الرفيق الأعلى، فإنه قد ورَّث العلم لطائفة من أمته هم أولو العلم وأولو الأمر، وأهل الفقه في الدين، فيجب على المسلمين أن يردوا مثل هذه الأمور إليهم، لأنهم إذا ردوا الأمر إليهم (لَعَلِمَة الَّذِينَ يَسْتَنيِطُونَهُ مِنْهُم) أي يستخرجون معثاه، ويبينون فحواه، فإذا الأمر معلوم، والحق واضح لَا شبهة فيه، ولا غموض.
والاستنباط هو استخراج الماء من البئر، فشبهت الأفكار التي تدور في خَلَد الإنسان بالماء الذي في البئر، والعلماء يستخرجون هذه الأفكار ويكشفون عن معناها، فيعلمون ما ينبغي أن يقال وما يجب أن يستر ويكتم فلا يشيع بين الناس.
وفى تلك الجملة دليل على جواز اجتهاد العلماء في الأمور الفقهية عن طريق القياس، والحكم بما يبينه ذلك القياس، ما لم يكن هناك نص من القرآن أو السنة، وما لم يكن هناك إجماع.(4/1782)
(وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) لقد أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، وبين طريق الحق من الباطل، والهدى من الضلالة، والرشاد من الغواية، وهذا فضل من الله ورحمة، ولولا هدايتكم للعمل بما جاءت به الرسل، وأنزلت به الكتب، لاتبعتم الشيطان، ولبقيتم على الكفر سائرين في طريق الضلال، إلا قليلا منكم كانوا هم المهتدين، أو لاتبعتم الشيطان في غالب أعمالكم، وكان اتباعكم للرسول وللكتاب اتباعا قليلا، ولغلبت سيئاتكم حسناتكم، وفي ذلك ما فيه من الخسران، والعياذ بالله تعالى.
* * *(4/1783)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
(فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... (84)
* * *
حتى ولو تركوك وحدك منفردا لَا أحد معك، فإن معية الله خير وأبقى، فهو الذي أمرك بالقتال، وهو الذي تكفل بنصرك (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51). في الآية أمر من الله تعالى لرسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، بألا يترك جهاد العدو، حتى ولو كان وحده، لأن الله ضمن له النصر، وهناك من يقولون أن الخطاب للأمة كلها، إذ قال ابن عطية في تفسيره: " هذا ظاهر اللفظ، إلا أنه لم يجئ في خبر قط أن القتال قد فرض عليه وحده دون الأمة مدة ما، فالمعنى، والله أعلم، أنه خطاب له في اللفظ، وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه، أي أنت يا محمد، وكل واحد من أمتك، هذا الخطاب موجه إليه، وكل إنسان ليس مكلفا إلا عن نفسه، فإن تقدم نفسك للجهاد فإن الله هو ناصرك، وليس الجنود، فإن شاء نصرك وحدك كما ينصرك وحولك الألوف من الجند، فالنصر أولا وأخيرا من عند الله.
وقيل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الناس إلى الخروج للقاء المشركين في معركة بدر الصغرى، وكان أبو سفيان قد واعد الرسول على أن يتلاقوا فيها، فكره بعض الناس أن يخرجوا، فنزلت الآية، وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس معه إلا سبعون، ولو لم يخرج معه أحد لخرج وحده، فكان الله سبحانه وتعالى يقول له: يا محمد، إنك لا تكلف إلا نفسك وحدها، فاخرج (وَحَرِّضِ الْمُؤْمنينَ) إذ ليس عليك بالنسبة لهم إلا التحريض، وأمرهم دون تعنيف (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا)(4/1783)
وقد كان، فكف الله بأس الذين كفروا، وهم قريش، الذين تواعدوا مع النبي على اللقاء، فقد غير أبو سفيان رأيه، وخشي عاقبة المعركة، فقال لقومه: إن هذا عام مجدب، لن تقدروا فيه على لقاء محمد وأصحابه، فانتظروا عاما مخصبا، كما تعودتم، لتلاقوا فيه محمدا ومن معه، ووقتها سيكون بأسكم شديدا، وتنكيلكم بمحمد وأصحابه شديدا، ألم يعلموا أن العزة لله جميعا (وَاللَّهُ أَشَدُّ بَاسًا) من قريش (وَأَشَدُّ تَنكِيلًا) من كل أعدائكم. و (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ)، فهو أعظم سلطانا، وأقدر على ما يريد.
* * *(4/1784)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
(مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
* * *
أصل الشفاعة والشفعة ونحوها، من الشفع، وهو الزوج في العدد، ومنه الشفيع لأنه يصير مع صاحب الحاجة شفعا، فالشفاعة إذن هي ضم غيرك إلى جاهك ووسيلتك، للوصول إلى مصلحة ترغبانها، فهي على التحقيق إظهار لمنزلة الشفيع عند المشفع، وإيصال المنفعة إلى المشفوع له، والشفاعة الحسنة هي ما تكون في البر والطاعة، والشفاعة السيئة هي ما تكون في المعاصي، فمن شفع شفاعة حسنة ليصلح بين اثنين استوجب الأجر، ومن سعى في غير طاعة، فقد أثم واستوجب العقاب.
يقول الزمخشري في " حقائق التنزيل ": الشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق مسلم، ودُفع بها عنه شر، وابتُغي بها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز، وليست في حد من حدود الله ولا في حق من الحقوق، ولكل منها نصيب من الأجر، بقدر ما فيه من طاعة أو معصية.
وقد حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على الشفاعة لقضاء الحوائج، والتعاون على البر والتقوى، إذ يقول عليه الصلاة والسلام: " اشفعوا فلتؤجروا، وليقض الله على لسان نبيه ما أحب " (1).
________
(1) متفق عليه؛ رواه مسلم: البر والصلة والآداب - استحباب الشفاعة فيما ليس بحرام (2627)، والبخاري بلفظ مقارب: الزكاة - التحريض على الصدقة والشفاعة فيها (1432) عن أبي موسى الأشعري عن أبيه، وأبوه هو عبد الله بن قيس بن سلا بن حضار. رضي الله عنهما.(4/1784)
(وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كلِّ شَيْء مُّقِيتًا) المقيت هو الحافظ المقتدر، الذي يعطي كل إنسان قُوتَهُ وقوتهُ، فهو يجازي كل إنسان بقدر ما حفظ له من عمل، وهو يُقيت الجائع، ويعين من استعان به، فالرزق الذي هو القوت من عنده، والعافية التي هي القوة بسلطانه وبامره، وكل شيء عنده بمقدار.
* * *(4/1785)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
(وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
* * *
التحية هي السلام، وأصل التحية الدعاء بالحياة، والتحيات لله هي السلام من الآفات، وإنما يقال " التحيات لله " بصيغة الجمع، ولم يقُل " التحية " بصيغة الإفراد، لأنه كان في الأرض ملوك تؤدي لهم تحيات مختلفات، فيقال لبعضهم: " أبيت اللعن "، ويقال لبعضهم: " اسلم وانعم " فقيل لنا نحن المسلمين، قولوا: " التحيات لله " أي كل الألفاظ التي تدل على تحيات الملوك وتؤدي معانيها، هي الله.
والعلاقة بين هذه الآية وما قبلها أن الله تعالى يقول، إذا خرجتم للجهاد، كما سبق الأمر، فحياكم إنسان بتحية الإسلام، فلا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا، بل ردوا جواب السلام، فإن الأحكام تجري عليهم، وقد أجمع الفقهاء على أن الابتداء بالسلام سنة مرغَّب فيها، ورده فريضة، لقوله تعالى (فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) أو قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا)، فقد قال المفسرون عن ذلك، إن هذه الصفة " الحسيب " حسنت هنا، لأن معنى الآية في أن يزيد الإنسان أو ينقص، أو يوفَّى قدر ما يجيء به، والله سبحانه وتعالى يجازي الإنسان بقدر ما فعله، حتى في لفظ التحية والسلام.
روى النسائي عن عمران بن حصين قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رجل فسلم فقال: السلام عليكم، فرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: " عشر " ثم جلس، ثم جاء آخر فسلم، فقال: السلام عليكم ورحمة الله. فرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،(4/1785)
وقال " عشرون ". ثم جلس. وجاء آخر فقال: " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " فرد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: " ثلاثون، (1).
وهذا الخبر يعطي تفسيرا بأن من قال لأخيه المسلم " السلام عليكم " كتب له عشر حسنات، فإن قال: " السلام عليكم ورحمة الله " كتبت له عشرون حسنة، فإن قال: " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " كتبت له ثلاثون حسنة، وكذلك من رد التحية له مثل ذلك الأجر.
وللتحية وردها آداب يجب أن يتعلمها المسلم، ويتخذها منهجا وسلوكا، فمنها أن يسلم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير، وفي المسألة مسائل فقهية متشعبة، على المسلم أن يتعرف عليها من مظانها، ولا يغفل عنها؛ لأن التحية وإفشاء السلام من الأسباب التي تصل القلوب بعضها ببعض، فتأتلف الأرواح، وتتحاب النفوس، تصديقا لقوله عليه الصلاة والسلام " لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم " (2).
ثم عليكم أن تتذكروا في كل شئونكم أنه جل ذكره:
* * *
________
(1) رواه الترمذي: الاسنئذان والآداب - ما ذكر في فضل السلام (2689)، وأبو داود: الأدب - كيف رد السلام (5195)، وأحمد: أول مسند البصريين (19446)، والدارمي: السلام - فضل التسليم ورده (2640). عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
(2) رواه مسلم: الإيمان - بيان أنه لَا يدخل الجنة إلا المؤمنون (54)، والترمذي: الاستئذان والآداب - ما جاء في إفشاء السلام (2688)، وأبو داود: الأدب - في إفشاء السلام (5193)، وابن ماجه: المقدمة - في الإيمان (68). عن أبي هريرة رضي الله عنه.(4/1786)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
(اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
* * *
وقد نزلت هذه الآية في شأن هؤلاء المكذبين الذين يشكون في البعث والحساب، فأقسم الله تعالى لهم بنفسه، والدليل على ذلك القسم هو وجود اللام المتصلة بكلمة ليجمعنكم، ثم نون التوكيد المشددة بعدها، يقول النحاة أن اللام(4/1786)
واقعة في جواب قسم، والتقدير، والله أعلم، أن الله يقسم ليجمعنكم، فهو قسم، يلقيه إلينا رب العزة، بأنه سيجمع الناس وهم أموات تحت الأرض، فكل من يموت سيجمع إلى من سبقوه تحت التراب، وسيظل جمعهم هذا إلى يوم القيامة ثم يبعثون.
وفى رأي آخر أن حرف الجر " إلى " صلة في الكلام، معناه: ليجمعنكم يوم القيامة، وسميت القيامة قيامة؛ لأن الناس يقومون في هذا اليوم لله رب العالمين. قال جل شأنه: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6).
(وَمَنْ أَصْدَق مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا)، استفهام تقريري، هل هناك من هو أصدق من الله؟ فيكون الجواب تقريرا للحقيقة التي لَا يشك فيها مؤمن: لَا، لَا أحد أصدق من الله، فهو سبحانه، يخاطبنا بما كان، وما سيكون، وكل ما جاء من عنده صدق لَا ريب فيه، فهو جل شأنه لَا يجوز عليه الكذب، لأن الكذب إخبار عن الشيء بغير ما هو عليه، والكاذب لَا يكذب إلا أنه في حاجة للكذب، لكي يستفيد منفعة، أو يدفع مضرة، والله سبحانه وتعالى حكيم غني لَا يجوز عليه الاحتياج، فهو عالم بكل معلوم، منزه عن الكذب، كما هو منزه عن سائر النقائص والقبائح. سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا.
* * *(4/1787)
(فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
* * *
كان المنافقون في الحروب عنصر فتنة مستمرة، وكانوا في السلم مثيري النزاع والخصام، فهم في الحرب إن رأوا ضعفا استغلوه، وإن لم يجدوا ضعفا ظاهرا أثاروه، ولم يكن النفاق في داخل المدينة فقط، بل كان يمتد كلما قوى المؤمنون في البلاد. ففي أول إقامة الدولة الإسلامية بالمدينة، وانتصار المؤمنين في بدر،(4/1788)
ظهر النفاق فيها خوفا من قوة المؤمنين، وأخذ ينفث سمومه في قوتهم! وكلما عم سلطان الدولة الإسلامية واتسع، ظهر منافقون، فظهر في الأعراب نفاق كما قال تعالى: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، وظهر نفاق بين مشركي مكة، فكان ناس إذا أرادوا تجارة، وأرادوا أن يأمنوا غارات المؤمنين في الطريق عليهم، أعلنوا أنهم يصدقون بما جاء به محمد، وناقلوه بين الركب وبين الناس، فكان المؤمنون يختلفون في شأنهم، فمنهم من يراهم مؤمنين لَا يقاتلون ولا يغار عليهم، ومنهم من يراهم كفارا منافقين يريدون أن ينجوا بأموالهم، فنزل قوله تعالى:(4/1789)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
(فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا) إذا كان المنافقون على ما ترون، من أنهم ينطقون باللسان خشية القوة، وابتغاء الفتنة، ولا يريدون إلا دفع الأذى عن أنفسهم، وإنزاله بكم، فما الذي يسوغ لكم أن تختلفوا في شأنهم فئتين أي طائفتين، إحداهما ترجو الخير فيهم، والثانية ترى الشر يستحكم في قلوبهم، ويبدو في لحن أقوالهم؛ وأنتم ترون أيها المختلفون ضلالهم، ووقوعهم في الفساد، وأنهم لَا يبدو من أعمالهم ما يدل على إيمانهم، بل هم يعملون بالكفر، وينطقون بالإسلام.
والإركاس معناه قلب الشيء على رأسه، ورد مقدمه إلى مؤخره. جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: " الركس قلب الشيء على رأسه، ورد أوله إلى آخره، يقال أركسته فركس وارتكس في أمره ".
والمعنى على هذا أن الله سبحانه وتعالى أوقعهم في الضلال فقلب مداركهم، ورد الأول على الآخر في تفكيرهم، بحيث صاروا لَا يستطيعون ترتيب المقدمات الفكرية ونتائجها، وذلك بما كسبوا من الإيغال في الشر بعد ابتغائه وطلبه، فلما ساروا فيه خطوة امتد بهم السير خطوات حتى أوغلوا فيه، وأصبحوا لا يستطيعون الحكم في قول.(4/1789)
ومن هم أولئك المنافقون الذين أركسهم الله تعالى ذلك الإركاس؛ قيل: هم منافقو المدينة، أتباع عبد الله بن أبيّ، ومن معه. وقيل: قوم أقاموا بالمدينة مؤمنين، ثم خرجوا منها منحرفين في اعتقادهم، وأظهروا أن جوها لم يطب لهم! وقيل، كما روي عن ابن عباس: إنهم قوم آمنوا بمكة، وقالوا إن ظهر محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد عرفنا، وإن ظهر قومنا، فهو أحب إلينا. وعندي أن المنافقين هنا تشمل من اتصفوا بذلك، وتخص الأعراب ومن على شاكلتهم من الذين كانوا يسلمون في قبائلهم، ويعلنون ذلك من غير أن يهاجروا إلى المدينة مناصرين للمؤمنين، ولم يكن من أعمالهم ما يدل على انتمائهم للدولة الإسلامية، وإعلان ولايتها عليهم. والحقيقة أن هؤلاء كانوا يتذرعون بكلمة الإسلام، لكيلا يحكم السيف الإسلامي فيهم. ولذلك ذكرت الآية أن الأمارة القاطعة الدالة على إيمانهم هي أن يهاجروا.
(أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) أيها المؤمنون المختلفون أتريدون أن تحملوا على الإيمان من أضله الله، أي من كتب عليه الضلالة، بسبب أنه سار في طريقها، وانحرف عن جادة الحق وسبيل المؤمنين، فإن من يسير في طريق لَا بد أن ينتهي إلى نهايته، ما دام لم يرجع ولم يعد. ومن يضلل الله، أي من يكتب عليه في لوحه المحفوظ، وقدره المحتوم، أن يكون ضالا، فلن يجد أحد سبيلا إلى هدايته؛ لأن قَدَر الله تعالى لَا يتغير، وقضاءه لَا يتبدل، وحكمه لَا يتخلف، فمن حاول هداية المنافقين الذين حكم عليهم بالضلال، فكانما يحارب قدر الله سبحانه وتعالى.
وإن المؤمنين يحاولون هداية المنافقين، أو الحكم لهم بالإيمان، بينما المنافقون يودون للمؤمنين عكس ذلك.
* * *(4/1790)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
(وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ... (89)
* * *
وإن هؤلاء الذين تتمنون هدايتهم أو تحكمون بها عليهم، أو ترجونها لهم، يتمنون أن تكفروا كما كفروا، بحيث تكونون أنتم وهم على سواء؛ ومن تكون هذه حاله لَا يعد مسلما،(4/1790)
ولا يحكم عليه بأن نور الإسلام دخل قلبه، فهو لَا يريد أن تجتمعوا معه على هدى، بل يريد أن تكونوا معه على ضلالة! فإذا كانوا يريدون الاتصال بكم اتصال مودة، فعلى أساس الكفر لَا على أساس الإيمان، وإذا كانوا كذلك، فلا يصح أن تتخذوا منهم أنصارا، أو ترتبطوا معهم بمودة أو صلة، ولذا قال سبحانه وتعالى بعد ذلك: (فَلا تَتخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتي يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الولي يطلق بمعنى المناصر، ويطلق بمعنى المحب الودود، والنهي منصب على الاثنين، فمانه لَا يصح للمؤمنين أن يتخذوا أولياء من هؤلاء المنافقين، الذين يظهرون الإسلام وهم مقيمون في ديار الأعداء يناصرونهم، وقوتهم لهم على المسلمين، فكيف يكونون مع هذه الحال نصراء أهل الإيمان!! وإذا كان لَا يصح أن يتخذوا منهم نصراء، فإنه لَا يصح أن يقال إنهم منتمون للدولة الإسلامية، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، ولا يجوز لهذا أن يضموا إليها.
وإنه لَا يصح أن يربط بعض المؤمنين معهم مودة؛ لأنهم ببقائهم في ظل الكفر، وقوتهم له، يكونون في ضمن من يحادون الله ورسوله، والله تعالى يقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ). وإن أمر القلوب بيد الله سبحانه وتعالى، فلا يصح أن تحكموا عليهم بالإيمان حتى تظهر أماراته، وتبدو معالمه. وإن مظهره الحقيقي في هذا النوع من الناس هو أن ينضموا إلى جماعة المؤمنين بالهجرة إليهم، لتكون قوتهم للمؤمنين لا عليهم، ولذا قيد سبحانه وتعالى ترك ولايتهم بغاية، وهي الهجرة، فقال: (حَتَى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) بأن يخرجوا في سبيل الله تعالى مجاهدين مع المؤمنين ومناصرين ومؤيدين لهم.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) أي فإن أعرضوا عن الهجرة، وهي واجبة، فلا تعتبروا إسلامهم؛ لأنهم
لايزالون قوة عليكم، وخذوهم من نواصيهم بالأسر، والترصد لمتاجرهم(4/1791)
وأموالهم، حتى لَا يتخذوا من ذلك ذريعة لتقوية أقوامهم، واقتلوهم حيث وجدتموهم؛ لأنهم أعداء بمعاونتهم أعداء المؤمنين. وإذا كانوا يستطيعون الخروج بمتاجرتهم وغيرها، فإنهم يستطيعون الهجرة إليكم ليكونوا قوة لكم، والهجرة واجبة، وإذا كانوا معكم في حال قتال كمن ينتمون إليهم، فلا تقبلوهم في ولايتكم، ولا توادوهم، ولا تتخذوا منهم نصراء؛ لأن النصير هو الذي يعاونك ويكون معك على أعدائك، وليس هؤلاء منهم، فقوله تعالى: (وَلا تَتَّخِذوا مِنْهمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا)، يدل على النهي عن أمور ثلاثة: أولها - ألا يعتبروهم منهم بالولاية والانتماء، لأنهم لم يعملوا على الانضمام لجماعة المؤمنين. وثانيها - ألا يوادوهم، لأنهم يحادونهم إذ يحادون الله ورسوله، وهم بهذا من حزب الشيطان، لَا من حزب الله تعالى وثالثها ألا يتخذوا منهم نصراء، لأنهم سيخادعون، ومن كانت هذه حالهم لَا يؤتمنون، فنصرهم خذلان، والاستعانة بهم استعانة بغير أهل الإيمان.
وإن السياق يدل على أن المنافقين الذين تتحدث عنهم الآية - وإن كان اللفظ عاما - هم من الذين يظهرون الإسلام في قبائلهم، ولا يخرجون إلى المسلمين ليكونوا معهم، فإن زمان إنشاء الدولة الإسلامية يحتاج إلى التجمع، ليكون المؤمنون قوةً واحدة، كما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4).
والخلاصة أن أولئك المنافقين يعاملون معاملة الذين ينتمون إلى دولة أخرى، فإذا كانت دولتهم تقاتل المؤمنين قوتلوا وقتلوا، وإن كانت دولتهم تسالم المؤمنين بميثاق، فلا يقاتلون احتراما للعهد والميثاق، ولذا قال تعالى:
* * *(4/1792)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ... (90)
* * *
الاستثناء هنا منفصل بمعنى " لكن "، وهو من الأمر بالأخذ بالنواصي، والقتل حيثما وجدوا. والمعنى: لكن لا تأخذوا ولا تقتلوا أحدا من هؤلاء الذين يصلون بالانتماء أو الرعوية إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد موثق، لَا يصح النكث فيه، ولا الخروج على أحكامه، أو(4/1792)
التمرد على مقتضاه، فهؤلاء يعاملون كالدولة التي ينتمون إليها، والأقوام الذين يصلون أمورهم بهم، ولا يصح أن يقتلوا أو يؤسروا؛ لأن قتلهم أو أسوهم نقف للعهد الذي وثق وأكد، والله تعالى يقول: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهدَ كَانَ مَسْئُولًا)، ويقول: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91).
وإن قوله تعالى: (يَصِلُونَ إلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ)، يدخل في مضمونه طائفتان:
أولاهما - طائفة تكون رعية لدولة بينكم وبينهم عهد وميثاق، فإنه لا يشترط لنجاتهم أن يخرجوا إليكم مهاجرين، فإنهم آمنون بمقتضى العهد والميثاق، فإن أعلنوا الإسلام، لَا يستراب في أمرهم.
والثانية - من يتصلون بعهد أو ميثاق أو ولاء ممن كان بينكم وبينهم عهد، فإن لهم حكم من يكونون رعية لمعاهديكم. وإن هذا الصنف يصح أن ينطبق على من لَا يظهرون الإسلام ولكن يعلنون السلام.
وهناك صنف لَا ينتمي لقوم ذوي عهد، ولكنه لَا يقاتل قومه لعذر عنده، ويخرج إلى المؤمنين مخلصا لله الدين أو ملقيا بالسلام، وهم الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم:
(أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُذورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكئم أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ) هذا فريق آخر ممن يعلنون الإسلام في وسط أقوامهم أو لايعلنونه ولا يقاتلون مع المؤمنين، وهؤلاء ينتمون إلى قوم يقاتلون المؤمنين، وهم في حال حرب، فهؤلاء يعلنون إسلامهم ويجيئون إلى المسلمين معلنين الإسلام، ولكنهم يكونون في ضيق وحرج، فلا يستطيعون قتال أقوامهم، خشية على ذرياتهم أو ذوي أرحامهم أو أموالهم، ويريدون أن يتذرّعوا بالامتناع عن قتال قومهم، فإنه يقبل منهم الاعتزال. ومعنى (حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) ضاقت. وقد قال الراغب: (الحصر التضييق. قال الله عز وجل: (فخذوهُم واحصروهُم) أي ضيقوا عليهم، وقال(4/1793)
تعالى: (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا)، وقوله تعالى: (أَوْ جَاءُوكُمْ حصِرَتْ صُدُورُهُمْ) أي ضاقت).
ويظهر أن مادة (حصر) تكون من باب نصر ومن باب فرح، وإذا كانت من باب نصر تكون دالة على التضييق على الغير تضييقا حسيا، وإن كانت من باب فرح تكون لازمة ودالة على ضيق النفس. والمعنى على هذا أن هؤلاء ضاقت نفوسهم، وصاروا في حرج لَا يستطيعون قتال المسلمين، ولا يستطيعون قتال أقوامهم، فهؤلاء مسالمون، لأن الله كفى المؤمنين أمرهم، ولأنهم لَا يعدون منافقين، ولقد حرض الله سبحانه المؤمنين على مسالمتهم رغبة في السلام، فقال سبحانه:
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ) أي أنه من رحمة الله بكم أن قلل أعداءكم، وأضعف شأن الذين يقاتلونكم، بأن يخرج من بين صفوفهم من يسالمونكم، وإن الله ناصركم في هذا بأمرين: بتقوية جمعكم، وإضعاف شأن عدوكم، ولو شاء سبحانه أن يكونوا جميعا عليكم ولا يخرج منهم من يسالمكم، وجعل أولئك الذين يمدون يد السلام مسلطين عليكم بالقتل والقتال، لكان ذلك، وليس في مصلحتكم، فاختاروا ما أمركم الله به، وهو مسالمة أولئك الذين يسالمونكم، وقد خرجوا من بين أقوامهم.
ولقد أكد سبحانه هذا المعنى بقوله تعالى:
(فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) أي فاقبلوا من هؤلاء المسالمة، إن اعتزلوا قتالكم، ولم يكونوا مع أعداثكم عليكم، ولم يريدوا أيضا أن يكونوا معكم على أقوامهم، وألقوا إليكم السلام غير معاندين، ولا مخالفين، فاقبلوا ذلك منهم، ولا تحاربوهم، لأنهم لا يقاتلونكم ولا يؤلبون عليكم، ولا يعتدون، والله تعالى يقول: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحبُّ الْمُعْتَدِينَ)،، وما داموا لا يقاتلون لَا يحل قتالهم، وإلا كنا معتدين. والقتال في الإسلام شرع(4/1794)
لدفع الاعتداء، فإذا كانوا كذلك فما جعل الله لكم في شرعه وأحكامه سبيلا لقتالهم.
وفى النص الكريم إشارتان لفظيتان: أولاهما - قوله سبحانه: (فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا)، إذ التعبير بـ " عليهم " يومئ إلى أن قتالهم اعتداء عليهم، وما جعل الله لكم حق الاعتداء، فالمعنى: ما جعل الله سبحانه لكم سبيلا للاعتداء بـ " عليهم ". الثانية - التعبير بلفظ السلم بدل السلام للإشارة إلى معنى التسليم، لَا مجرد الأمن والسلام؛ لأن السلم يفيد معنى التسليم، فهم ألقوا إليكم الأمن وتسليم القيادة لكم.
وهناك صنف آخر غير هؤلاء المسالمين، وهم قوم يخادعون، لَا يكفون عن القتال، وقد قال سبحانه فيهم:
* * *(4/1795)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا ... (91)
* * *
هذا صنف أخير يتجه إلى أن يأمن قومه، فلا يقاتلهم، ويأمن المؤمنين حتى لَا يقتلوه، ولكنه لَا يمدّ يد الأمان، ولا يسلم القياد، وهؤلاء إذا دعوا إلى القتال، ولم يعترضوا منفردين لأذى المؤمنين، استجابوا للقتال في صفوف المشركين، فهم يظهرون الأمان، أو يظهرون الإسلام، ليأمنوا جانب المؤمنين، فإن لاحت لهم فرصة الانضمام لأعداء الله قاتلوا معهم، وهذا مرمى قوله تعالى: (كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا)، أي كلما ردوا إلى قومهم مفتونين بعصبيتهم وكفرهم، قلبت نفواسهم أقبح قلب، فأركسوا في فتنة الكفر والحصبية، وهؤلاء أوجب الإسلام قتالهم إذا لم يعتزلوا أقوامهم ويكفوا أيديهم عن قتال المسلمين، ولذا قال سبحانه:
(فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) أي إن لم يعتزلوا قتالكم،
ويمتنعوا عن حربكم، ويلقوا إليكم بالأمان مع تسليم أنفسهم منقادين، ويكفوا أيديهم عن القتال، فقد حل دمهم، وزالت عصمتهم، فخذوهم بالنواصي أسرى،(4/1795)
واقتلوهم حيث وجدتموهم، فمعنى (ثَقِفْتُمُوهُمْ) وجدتموهم. وعبر عن الامتناع عن القتال بقوله (وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ)، لأن اليد هي الأداة الأولى للقتال؛ وإن الله بهذا قد جعل للمسلمين سلطانا أي سيطرة تمكنهم من قتالهم، وهذا معنى قوله: (وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) أي أولئك بأوصافهم من الغدر، وقتالهم للمؤمنين، وفتنتهم، جعل الله لكم كليهم سلطانا مسوّغا لقتالهم، واضحا بينا لا شك فيه، فقاتلوهم من غير استرابة ولا شك ولا تلكؤ. اللهم أعز الإسلام وانصرنا على القوم الكافرين.
* * *(4/1796)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
* * *
كان الكلام في الآيات السابقة في المنافقين الذين يعملون على نقض بناء الدولة الإسلامية، ويعملون على إلقاء الريب في قلوب أهل الايمان، وفي وجوب قتل الكافرين الذين ينقضون العهد والميثاق، والذين يظهرون الإيمان بين قبائلهم، ولا يعملون عملا للإسلام، فإنهم منافقون يريدون أن يتخذوا من مظهر الإيمان(4/1796)
وقاية لهم، إن اشتدت الشديدة على أقوامهم! وإنه لَا يحمى دم هؤلاء في القتال إلا إذا كانوا قد ألقوا السلام، واعتزلوا القتال مع أقوامهم، أو كانوا يصلون إلى قوم قد ارتبط المسلمون معهم بميثاق عدم اعتداء، وإن التفرقة بين هذه العناصر قد يقع معها الخطأ، ولذا ذكر القرآن الكريم الخطأ في هذه الأحوال الثلاث: وهي قتل المؤمن الخطأ لمؤمن قائم مع المؤمنين، وقتل الخطأ لمؤمن من قوم أعداء، وقتل الخطأ من قوم لهم ميثاق، حتى إذا وقع الخطأ كان الحكم بيّنا، ولذا قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقتلَ مؤْمِنًا إِلَّا خَطَئًا) " ما كان " النفي هنا ليس لنفي الوقوع، أي نفي أن يقع قتل خطأ، وإلا ما وقع ذلك أبدا، لكنه يقع، بل النفي بمعنى عدم الجواز والنهي عنه، مثل قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا)، ومثل قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36).
والمعنى على ذلك ما ساغ ولا جاز ولا أبيح أن يقتل مؤمن مؤمنا قط، فإن ذلك أمر محرم تحريما قاطعا، لكن إن كان خطأ، فإن ذلك قد يكون معذرة يعتذر بها؛ لأن الله تعالى رمع عن أمة محمد إثم الخطأ، إذ قال عليه الصلاة والسلام: " رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (1)، وليس على المؤمن إثم القتل إن قتل خطأ، وإن كان يجب الاحتراز من الخطأ. وإن التقصير لَا يخلو من مؤاخذة، ولذلك قال الزيلعي من فقهاء الحنفية: " وبهذا النوع من القتل (أي الخطأ) لَا يأثم إثم القتل، وإنما يأثم إثم ترك التحرز، والمبالغة في التثبت؛ لأن الأفعال المباحة لَا تجوز مباشرتها إلا بشرط ألا تؤذي أحدا، فإذا آذى أحدا فقد تحقق ترك التحرز ".
والقتل الخطأ يتصور في ثلاث صور: أولاها - أن يرمي هدفا، فيصيب إنسانا معصوم الدم، بأن تنحرف الرمية.
________
(1) رواه بهذا اللفظ الطبراني عن ثوبان رضي الله عنه، كما في الفتح الكبيرج 2، ص 121، برقم (6619)، والجامع للسيوطي جـ 4، ص 401 برقم (1256).(4/1797)
والثانية - أن يقصد هدفا معينا، على أنه حيوان مفترس مثلا، فيتبين أنه إنسان معصوم الدم. والثالثة - أن يقتل إنسانا على أنه من الأعداء، فيتبين أنه معصوم الدم، تحت هذه الصور صور كثيرة: منها أن يقتل من قال: لَا إله إلا الله، زاعما أنه قالها تحت حد السيف، وغير ذلك من أخطاء القتال.
وقد ذكر الزمخشري في سبب نزول هذه الآية أنه " روى أن عياش بن أبي ربيعة، وكان أخا أبي جهل لأمه، أسلم وهاجر خوفا من قومه إلى المدينة، وذلك قبل هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فأقسمت أمه ألا تأكل ولا تشرب، ولا يؤويها سقف حتى يرجع، فخرج أبو جهل ومعه الحارث بن زيد، فقال أبو جهل: أليس محمد يحثك على صلة الرحم؛ انصرف وبرّ أمّك وأنت على دينك! حتى نزل وذهب معهما، وقدما به على أمه، فلما أبعدا عن المدينة كتفاه، وجلده كل واحد مائة جلدة، فقال عياش للحارث: هذا أخي، فمن أنت يا حارث، لله عليَّ إن وجدتك خاليا أن أقتلك، وقدما به على أمه، فحلفت لَا يحل كتافه أو يرتد، ففعل، ثم هاجر بعد ذلك وأسلم الحارث، وهاجر، فلقيه عياش بظهر قباء ولم يشعر بإسلامه، وأنحى عليه وقتله، ثم أخبر بإِسلامه فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: قتلته، ولم أشعر بإسلامه، فنزلت الآية ".
وسواء أصح هذا سببا للنزول أم لم يصح، فإن الآية عامة تعم كل قتل خطأ. والقتل الخطأ يوجب كفارة، ويوجب دية تسلم إلى أهله، أي أنه يجب تعويض أهل الإيمان، إن أمكن، ويجب تعويض أسرة القتيل. وتعويض أهل الإيمان يكون بإعتاق رقبة مؤمنة، وتعويض أسرة القتيل. إن كانت غير منتمية لقوم عدو للمؤمنين يكون بالدية. وقد ذكرت أحوال ثلاثة للدية، تجب في حالين، ولا تجب في حال أخرى: أما الحالان اللتان تجب فيهما، فهما إذا كان القتل حدث على رجل مؤمن يعيش بين المؤمنين، والثانية إذا كان المقتول من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق عدم اعتداء، وقد ذكر سبحانه الحال الأولى في قوله تعالت كلماته:(4/1798)
(وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِير رَقَبَةٍ مؤْمِنَة وَدِيَةٌ مسَلَمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا) التحرير جعله حرا طليقا لوجه الله تعالى، بعد أن كان عبدا رقيقا، والتعبير عن العتق بالتحرير، للإشارة إلى أن الحرية مقصد من مقاصد الشارع الإسلامي، وأن العقوبة ليس المقصود بها إيذاء القاتل، إنما المقصود بها نفع العبد، وكذلك كل عقوبة تكون بعتق رقبة لَا يقصد بها الإيلام، إنما يقصد بها تحرير الرقاب، وقد أخطأ بعض الفقهاء فأشار على ملك من ملوك المسلمين قد جامع في رمضان بأن يصوم شهرين متتابعين، مع أن النص يقرر أن الصيام إنما هو بالنسبة لمن لَا يملك رقابا، وكان خطؤه من ناحيتين: إحداهما - أنه أعمل الرأي في موضع النص، وذلك لَا يجوز، والثانية أنه لم يفهم مقصود الشارع ابتداء، وهو نفع العبيد بالإعتاق.
وعبر عن نفس الحر بكلمة الرقبة، للإشارة إلى أن الرق غل معنوي في الرقاب، وأن المؤمن الصادق لَا يجوز له أن يَغُلَّ رقاب العباد، إلا لضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، ولذلك عبر سبحانه وتعالى عن العتق بفك الرقبة في آية أخرى، فقال سبحانه وجلت كلماته: (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13).
والدية التي قدرها النبي - صلى الله عليه وسلم - هي مائة من الإبل لمن يملك إبلا، وألف دينار من الذهب لمن لَا يملك إبلا، وعشرة ألاف درهم لمن يملك فضة، وقيل اثنا عشر ألف درهم: وقال الشافعي: إن الدية في الأصل مائة من الإبل، ومن لَا يجد مائة من الإبل تكون عليه قيمتها من الذهب أو الفضة، بالغة ما بلغت، قليلة كانت أو كبيرة.
وإن الدية تسلم إلى ورثة المقتول، وقد كان رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: لَا تسلم الدية إلا إلى عصبته، فلا يسلم جزء منها لزوجته مع أنها وارثة، فيروى أنه قضى بدية المقتول، فجاءت امرأته تطلب ميراثها، فقال: لا أعلم لك شيئا إنما الدية للعصبة، فقام الضحاك بن سفيان الكلابي وقال: " كتب(4/1799)
إليَّ رشول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل (أي دية) زوجها أشيم " فورَّثها عمر بعد أن علم بقضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا، وما كان له أن يخالفه (1).
والدية عند الأكثرين تجب على عصبة القاتل، ليكون ذلك دليلا على تضافر الأسرة كلها، وإذا كان فقيرا وأسرته فقيرة، فإن دية المقتول تكون على بيت مال المسلمين؛ لأنه وارث من لَا وارث له، فيجب عليه ما كان يجب على الوارث؛ ولأنه لَا يطل دم في الإسلام، ولأنه إذا كانت الأسرة الصغرى قد عجزت عن دفع الدية، فإنها تجب على أسرته الكبرى، وهي الأمة. وهنا بحثان لفظيان: أولهما: التعبير عن أداء الدية بقوله: (مُسَلَّمَة إِلَى أَهْلِهِ). فإن هذا التعبير يومئ إلى وجوب حسن الأداء، بألا يكلفوا أسرة المقتول شطط التقاضي والمطالبة، فيجمعوا عليها ألم الفقد، ومضاضة الشكوى والتظلم، وهذا مثل قوله تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ).
والبحث الثاني: قوله تعالى (إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا)، أي إلا أن يتبرع أهل القتيل، وفي التعبير بكلمة " يصدقُوا " إشارة إلى أن ذلك أمر مرغوب فيه محبب، وأنه صدقة لها ثوابها، إذا كان أولياء القاتل وعصبته يرهقون بأدائها، أو كان العطاء من بيت المال فيتركونها صدقة لجماعة المسلمين، وإن ذلك يكون إذا كانوا هم في ثروة لَا يحتاجون معها إلى هذه الدية، وفي الجملة يكون لها كل أحكام الصدقة، ولا صدقة إلا عن ظهر غنى.
بقي أن نبين الحكمة في هذه العقوبة: لماذا كانت العقوبة أولاً؟ ولماذا كانت بهذا الشكل؟! أما عن شرعية العقوبة، فحكمتها واضحة وهي تربية الناس على
________
(1) رواه الترمذي وصححه: الديات - في المرأة هل ترث من دية زوجها (1415)، وأبو داود: الفرائض (2927)، وابن ماجه: الديات (2642)، وأحمد: مسند المكيين - مسند الضحاك بن سفيان رضي الله عنه (15318) عن سعيد بن المسيب والضحاك بن سفيان الكلابي رضي الله عنهما.(4/1800)
الاحتراز وصيانة الأنفس، وحسبك مثلا في عصرنا أننا نرى استهانة سائقي السيارات بالأنفس لنقص العقوبة على جريمة القتل الخطأ، فكان التقصير في تحرزهم واضحا، ولأن من المقررات الشرعية ألا يذهب دم في الأرض الإسلامية هدرا، وقد قال في ذلك الزيلعي من فقهاء الحنفية: الضمان في الخطأ بضرورة صون الدم من الإهدار، ولولا ذلك لتخاطأ كثير من الناس، وأدى إلى التفاني؛ ولأن النفس محترمة، فلا تسقط بعذر التخاطؤ، فيجب المال صيانة لها من الإهدار.
وأما السبب في كون العقوبة على هذا النحو، فقد أشرنا من قبل إلى أنه قد اعتدى على الجماعة بتقصيره في التحرز، فوجب عليه أن يعوض الجماعة الإسلامية عما فقدت، واعتدى على الأسرة فثكلت عائلها أو وليها، فكان لَا بد من تعويضهما، فأما تعويض أماعة فبإعتاق رقبة مؤمنة، لأن تحرير العبد كأنه إحياء له، إذ الحرية هي الحياة، ولأنه أفقد الجماعة عنصرا عاملا فيها، فكان لابد من تعويضها بعنصر عامل لها، والعبد عمله لسيده، أما الحر فعمله لجماعته، واعتداؤه على الأسرة كان تعويضها عنه ذلك المال المدفوع.
هذه حال الاعتداء بالخطأ على المؤمن في دولة الإيمان. أما إذا كان المؤمن ينتمي إلى الأعداء فإن الدية لَا تدفع. قال تعالى:
(وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مؤْمِنَةٍ)
أي أنه إذا كان ينتمي إلى الأعداء، فإن الدية لَا تدفع. لأن أموال الأعداء وأرواحهم غير مصونة، ولأن إرسال الدية إلى قومه تقوية لهم على المؤمنين، فلا تعوض أسرة القتيل، ولكن تعوض الجماعة الإسلامية بالحرية التي تمنح لواحد منها تعويضا عما فقدت.
والحال الثالثة: إذا كان المقتول من قوم بينهم وبين المؤمنين عهد وميثاق، وفى هذا تدفع الدية إلى أهله، ولذا قال سبحانه: (وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهم مِّيثَاقٌ فَدِيَة مّسَلَّمَة إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ)، والذين لهم ميثاق فريقان: فريق(4/1801)
يعيش بين المؤمنين، وفريق يعيش في دولة أخرى بينها وبين المسلمين عهد، فأما الفريق الأول فهم الذين لهم ذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعهده، وهذا أقوى عهد موثق ومؤكد، وبمقتضى حكم الإسلام لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ويسمون ذميين. ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من آذي ذميا فأنا خصمه يوم القيامة، ومن خاصمته خصمته " (1)! ولقد كان الراشدون رضي الله عنهم يعْنَوْن بأمرهم، ويقيمون العدالة فيهم. وأما الفريق الثاني فإنهم أقوام لهم دولة قائمة، وبينهم وبين المسلمين عهد موثق بعدم الاعتداء وإقامة السلم فيما بينهم وبين المسلمين، وقد يكون بينهم وبين المسلمين حلف على التناصر إذا حصل اعتداء.
وهنا إشارة بيانية تؤكد حرص الشرع على دفع الدية لأهل المقتول ولو كانوا غير مسلمين، وهي تقديم الدية على الكفارة؛ لأنها نفيت في حال القاتل الذي ينتمي إلى الأعداء، فكان لابد من توكيدها حتى لَا يتردد القاتل في دفعها إلى غير المسلمين، إن كان بينهم وبين المسلمين ميثاق بمنع الاعتداء.
وقد قال بعض العلماء. إن الدية ذُكرت منكّرة ولم تذكر معرّفة، فلم يقل تعالت كلماته: الدية تسلم لأهله؛ وهي قد ذكرت منكرة في الحالين اللتين وجبت فيهما، واستنبط من هذا أنها لو ذكرت معرفة لكان تقدير النبي - صلى الله عليه وسلم - بيانا لمعناها في القرآن، وما جاز تقديرها بغير تقديره، ولا الاتفاق على غيرها.
ونحن نؤيد هذا الاستنباط بشرط ألا يكون تفاوت في تقدير الدية من حيث الجنس أو اللون، أو القوة والضعف، أو العلم والجهل، أو التحضر والتَّبَدِي، فإن هذا شأن الجاهلية، ولا يقره الإسلام، ولا يصح أن يترك الأمر ليستغل القوي ضعف الضعيف.
وهنا يجب أن نذكر فرعين: أحدهما - إذا قتل المؤمن ذميا أو معاهدا غير مسلم، فهل تجب الدية والكفارة؟ والجواب عن ذلك أن الدية واجبة الأداء باتفاق
________
(1) رواه الخطيب عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعا كما في الفتح الكبير: ج 6، ص 481 برقم (20038).(4/1802)
العلماء، أما الكفارة فهي موضع نظر، وأميل إلى وجوبها، لأن التحرز عن دم الذمي أو المعاهد كالتحرز من دم المسلم، لأنه معصوم الدم كالمؤمن على سواء، وموجبات الأمن لأهل الدولة الواحدة ثابتة، ولأن الكفارة عبادة، وعتق أهل الإيمان أمر مرغوب فيه.
الفرع الثاني: إذا قتل الذمي ذميا، فإن الدية بلا ريب واجبة؛ لأنها تعويض لأسرة القتيل، ولأنها في معنى القصاص من القاتل قتلا خطأ، وأما الكفارة فإنها عبادة، فلا تجب على غير المسلم، وخصوصا أن فيها صوم شهرين متتابعين، والصوم عبادة إسلامية، والأمر فيه بين العبد وربه، والصوم يكون حيث لَا توجد الرقبة.
(فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) أي فمن لم يجد رقبة مؤمنة يعتقها، فالواجب في الكفارة، حيث تجب، صيام شهرين متصلين في أيامهما، لَا يفرق بينها فطر، بحيث لو أفطر يوما فيها استأنف من جديد ابتداء الشهرين، إلا أن يكون إفطار اليوم لعذر كمرض أو سفر مضطر إليه، وخالف في ذلك أبو حنيفة والشافعي، وقررا وجوب الاستئناف من جديد، ولو كان الإفطار لعذر قاهر. والآية تصرح بأن سبب الكفارة هو التوبة والرجوع إلى الله تعالى من تقصير في التقدير. وقد يقال: إذا لم يكن إثم فمن أي شيء تكون التوبة، مع أنه باتفاق العلماء لَا إثم في الخطأ؛ ونقول: إن إثم القتل لَا يتحقق عند الخطأ كما نقلنا من قبل، ولكن التقصير قد يكون ثابتا، والتوبة إنما هي من هذا التقصير، والحمل على الاحتياط والتحرز في المستقبل، والكفارة مذكر مستمر بالتقصير حتى لَا يتكرر من بعد.
وقد ذيل الله تعالى النص الكريم بذكر اتصافه بأنه عليم بكل شيء، عليم بالنفوس وحركاتها ومداها، وعليم بما يقع من الأعمال، ويجول في النفوس والخواطر، وهو المدبر لكل شيء بحكمته، والذي يشرع الأحكام على مقتضى المصلحة الإنسانية العالية.
* * *(4/1803)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
* * *
في الآية السابقة بيَّن - سبحانه وتعالى - حكم القتل الخطأ، وفصل القول فيه تفصيلا؛ فذكر الحكم إذا كان المقتول من قوم أعداء للمؤمنين، والحكم إذا كان من قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق، والحكم إذا كان المقتول من المؤمنين الذين ينتمون إلى الدولة الإسلامية. وفي هاتين الايتيق يبين سبحانه أمريق: أولهما - حكم قتل المؤمن متعمدا، وثانيهما - وجوب تجنب الخطأ عند الجهاد، فإن الجهاد والضرب في الأوض مظنة قتل غير القاتل، أو غير المعتدي، وفي حاق قتل غير المعتدي يكون القتل عمدا، ولكن على أساس وصف من الأوصاف المسوغة للقتال، فوجب الاحتواز منه. ولأن فيه نوعا من القصد والتعمد، جاء بعد حكم القتل المتعمد، الذي بينه سبحانه وتعالى بقوله:
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا) تبين تلك الجيلة السامية عظم الجرم في القتل المتعمد المقصود، سواء أكان بآلة من شأنها أن تقتل كالرصاصة أو السيف أو السكين، أم كان بآلة ليس من شأنها أن تقتل، ولكن قصد بها القتل، وكان الضرب في مقتل، فإن القتل في كلتا الحالين مقصود متعمد، يعلم الله تعمده وقصده. والتفرقة بين ما يكون بآلة تقتل، وأخرى لا تقتل، هي تفرقة في الأحكام الدنيوية. والآية هنا تبين الحكم الأخروي، وهو الدخول في جهنم. أما الحكم الدنيوي، وهو القصاص الذي ثبت بآية القصاص، وقال فيه سبحانه: (وَفِي الْقِصَاصِ حَيَاة)، فهو الذي فرق فيه بعض الفقهاء بين القتل الذي يكون بآلة من شأنها أن تقتل، والقتل بآلة لا(4/1804)
تقتل، ومع ذلك لم يفرق في الحكم مالك إمام دار الهجرة بين الأمرين، ما دام قد ثبت العدوان والقصد إلى القتل.
وإن الجزاء الأخروي صارم قاطع، فهو جهنم والمكث فيها. على الدوام، إن كان قد استباح ذلك، ولم يؤمن بحرمته، ولم يتب عن جريمته، ولا نجد قاتلا يقتل غيره إلا وهو مستحل لدمه مستبيح له! أفلا يستحق بهذا أن يخلد في النار ما لم يتب ويقدم رقبته، أو يعفو عنه أولياء المقتول؛ والمعتزلة الذين يقولون: إن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ويخلد في النار، يستدلون بهذه الآية. ونحن نقول: إن خلوده في النار ليس لمجرد الفعل، بل لاستباحة القتل، وإنكاره التحريم. ولا يوجد قاتل عند ارتكابه تلك الجريمة التي تعد أكبر جريمة في الوجود، لَا يستبيح فعله؛ فكانت العقوبة على الاستباحة، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول فيما يُروى عنه: " لزوال السماوات والأرض أهون عند الله من قتل امرئٍ مسلم بغير حق " (1).
(وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) هاتان عقوبتان معنويتان، وثالثة مادية، أما المعنويتان فهما الطرد من رحمته الذي عبر عنه سبحانه وتعالى بقوله " وَلَعَنَهُ "، وأي عقوبة أعظم من الطرد من رحمة الله تعالى، ونفحاته القدسية، ووادي رحمته المشرق المنير؛ والعقوبة المعنوية الثانية هي غضب الله تعالى، وغضب الله من أشد عقابه، كما أن رضوانه أعظم ثوابه، وكيف لا رب العالمين من يهدم ما بناه سبحانه في خلق الإنسان الذي سواه وعدَّله في أحسن تقويم؟!.
وأما العقوبة المادية، فقد أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله: (وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا)، وهذه إشارة إلى عظم الجريمة، لأن العقوبة العظيمة لَا تكون إلا لجرم عظيم، وأي جرم أعظم من هدم بناء الإنسان الذي سجد له الملائكة، ولعن من
________
(1) رواه بهذا اللفظ الترمذي: الديات - ما جاء في تشديد قتل المؤمن (1395) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه مرفوعا وموقوفا وقال: والموقوف أصح من المرفوع، كما رواه النسائي: تحريم الدم - تعظيم الدم (3987) مرفوعا.(4/1805)
أجله إبليس وطرد من رحمة الله؛ حتي لقد قال بعض العلماء: إن من قتل قتل عمدا لَا تقبل له توبة، ونحن نخالف في ذلك ونقول: تقبل التوبة بحقها، وهي أن يقدم رقبته جزاء جريمته، أو يعفو ولي الدم.
وأما العذاب العظيم، فهو ما قرره سبحانه وتعالى في الدنيا من قصاص، وفى الآخرة من نيران شديدة، وقد يقال: أليس هذا تكرارا لقوله تعالى: (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)؛ ونقول، لَا تكرار؛ لأن هذا الجزاء في مقابل جزاء من قتل خطأ وفي هذا الجزء الأخير بين سبحانه أن هذا الجزاء معد بالفعل يوم القيامة، فبين سبحانه وتعالى العقوبة وتنفيذها، وأنها لَا هوادة فيها، ولا تسامح بالنسبة لمرتكبها.
وإن القتل الخطأ الذي بين القرآن الكريم أحكامه في الآيات السابقة، قد يكون سببه أن يقتل مُحرم الدم، على أساس أنه مباح الدم، كمن يلقى طائفة من الناس في بادية يحسبهم من الأعداء الذين يباح دمهم، لاعتدائهم على المسلمين، فيقتل منهم أحدا، فيكون الخطأ: ولذا نبَّه سبحانه إلى توقِّي المجازفة في القتل، فلا يسارع المؤمن إليه؛ لأن الأصل في الدماء أنها محرمة، ولا تباح إلا عند الاعتداء؛ ولذا قال سبحانه بعد الآية السابقة.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)(4/1806)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
بعد أن بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أحكام القتل الخطأ، نبه سبحانه إلى توقِّي المجازفة في القتل، فلا يسارع المؤمن إليه، لأن الأصل في الدماء أنها محرمة، ولا تباح إلا عند الاعتداء. ولذا قال جل جلاله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتم فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنوا) الضرب في الأرض معناه السير فيها، والضرب في سبيل الله معناه السير مجاهدا في سبيله تعالى، وكل جهاد في الإسلام لَا يعتبر جهادا إلا إذا كان في سبيل الله تعالى، أي لإعلاء كلمة الحق والدين، ورد المعتدين. فسبيل الله هي سبيل الحق، وكل دعوة إلى الخير هي سبيل الله تعالى ومعنى " تبينوا ": تثبتوا، وهناك قراءة نصها: " فَتَثَبَّتوا " (1).
ومعنى النص الكريم: يا أيها الذين أذعنوا للحق وصدقوا به، وخرجوا مجاهدين في سبيل الله، إذا سرتم في جهادكم، فتعرقوا من يحاربكم ومن يعاديكم، ولا تضعوا السيف في موضع البرء والسقم، في المقاتل وغير المقاتل، في المحارب وغير المحارب، ولا تتعجلوا بالقتل عند الشك في أن من تقتلونه عدو أو ولي، أو عند احتمال ألا يكون عدوا؛ فإن الأصل في الدماء التحريم، وكل شك يمنع القتل؛ إذ القتل إنما هو لدفع الاعتداء، فلا يقتل إنسان إلا عند تأكد الاعتداء منه، أو نيته عنده، ومن لم يتثبت، فقد خالف أمر الله واعتدى.
وروى في سبب نزول هذه الآية روايات مختلفة، كلها يتلاقى عند معنى واحد، وهو أن المجاهدين الأطهار قتلوا رجلا نطق بالشهادتين: " لا إله إلا الله، محمد رسول الله "، بعد أن استمكن المسلمون من رقبته، أو قال للمجاهدين: السلام عليكم، فقتلوه، وقد جاء في (أحكام القرآن) للقرطبي: في سنن ابن ماجة عن عمران بن حصين، قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين إلى المشركين بعثا، فقاتلوهم قتالا شديدا، فمنحوهم أكتافهم، فحمل رجل على رجل من المشركين، فلما غشيه قال: أشهد أن لَا إله إلا الله، إني مسلم، فطعنه فقتله،
________
(1) وبها قرأ حمزة والكسائي، وخلف، وقرأ الباقون (فتبينوا). غاية الاختصار، ج 2، ص 466.(4/1807)
فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، هلكت! قال: " وما الذي صنعت، مرة أو مرتين "؛ فأخبره بالذي صنع، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " فهلا شققت عن بطنه، فعلمت ما في قلبه. . . فلا أنت قبلت ما تكلم به ولا أنت تعلم ما في قلبه "!. (1)
ويروى مثل، ذلك بالنسبة لأسامة بن زيد، فقد قتل رجلا نطق بالشهادتين، فلامه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أسامة: لقد قالها تحت حرِّ السيف، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هلَّا شققت عن قلبه " (2)!.
ولعل وقائع قد وقعت من هذا الصنف، والقتال شديد، وقد حمي الوطيس، فجاء الأمر الكريم بالتثبت.
وليس النطق بالشهادتين فقط هو الذي يحقق الدم، بل إعلان السَّلام وحده كاف لمنع القتل، ولذا قال سبحانه:
(وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) السلام معناه الأمن، وقد أطلق على اللفظ الذي يدل عليه، وهو تحية الإسلام: " السلام عليكم ". وأطلق على استسلام العبد لربه. و " ألقى السلام "، معناه: قاله، أو قدمه. والنص الكريم جاء للنهي عن قتل من ألقى السلام وقدمه بالاستسلام، سواء أكان مؤمنا، أم غير
________
(1) سنن ابن ماجه: الفتن - الكف عمن قال لَا إله إلا الله (3930) عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
(2) عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ - وَهَذَا حَدِيثُ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ - قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَقَتَلْتَهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟» فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللهُ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39]؟ فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ ". [رواه مسلم: الإيمان - تحريم قتل الكافر بعد أن قال لَا إله إلا الله (96)، وبنحوه البخاري: الديات (6872)، كما رواه أبو داود: الجهاد - على ما يقاتل المشركون (2643)، وأحمد: مسند الأنصار - حديث أسامة بن زيد (21295).(4/1808)
مؤمن، وسواء أنطق بالشهادتين مع ذلك، أم لم ينطق. والنهي عن قتل بالنهى عن رد الكلام الذي قاله معلنا السلام،؛ ورد الفعل الذي يدل الاستسلام، فمعنى النص الكريم لَا تردوا إلقاء السلام وفعله الذي يدل عليه، قائلين: لست مؤمنا، أي لست مصدقا للشهادتين. إن نطقت بها، أو لست من صقوف المؤمنين حتي يحرم أنفسنا قَتلك. فمعنى (لَسْتَ مُؤْمِنًا) على هذا يشمل أمرين: أحدهما إنكار الإيمان إذا ادعاه، والثاني أن يقال له مع استسلامه، وإن لم يعلن إسلامه: نقتلك لأنك لست من قومنا، أو من صفوفنا!. وبذلك ينهى الإسلام عن القتل ما دام قد منع الاعتداء. ولقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ينهى عن قتل من أعلن الاستسلام ولو بالإشارة، فقد أرسل إلى قائد جيشه الذي كان يفاتل في فارس، ينهى عن أن يقتل أحد أشار بالاستسلام، ويحذر من يقتله بأنه سيقتله به؛ لأنه اعتدى، والإسلام ينهى عن الاعتداء، ولو في القتال، ولذا قال سبحانه: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190).
وإن الذين يقتلون من يطلب الأمان مستسلما، أو من يعلق الإسلام مسلما، يخرج قتالهم عن معنى الجهاد في سبيل الله تعالى إلى معنى آخر يجافيه، وهو أن يبتغوا عرض الدنيا بالمال يطلبونه، أو بإعلان قوتهم، وليس ذلك مقصد الإسلام من القتال، إنما مقصده إعلاء كلمة الله تعالى، وبيان كلمة الحق، ولذلك قال سبحانه:
(تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ) الابتغاء الطلب الشديد، والرغبة الملحة. وعرض الدنيا، جميع متاعها، وسمي متاع الدنيا عَرَضا؛ لأنه مهما يكن زائل غير ثابت، فهو عارض لَا يدوم، ومنه قول - رضي الله عنه: " الدنيا عرض حاضر، يأكل منها البَرُّ والفاجر " (1)! ومنه ما روي في صحيح
________
(1) عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الدُّنْيَا عَرَضٌ حَاضِرٌ يَأْكُلُ مِنْهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، وَإِنَّ الْآخِرَةَ وَعَدٌ صَادِقٌ , يَحْكُمُ فِيهَا مَلِكٌ قَادِرٌ، يُحِقُّ بِهَا الْحَقَّ , وَيُبْطِلُ الْبَاطِلَ ". رواه البيهقي ج 4، ص: 465 (5837)، كما رواه الطبراني في الكبير.(4/1809)
مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " ليس الغِنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس " (1) وقد أخذ بعض العلماء الشعراء هذا المعنى، وضمنه بيتين من الشعر فقال:
تقنع بما يكفيك واسْتعمِل الرضا ... فإنك لَا تدري أتصبحُ أم تمسي
فليس الغِنَى عن كثرةِ المالِ إنما يكونُ الغِنَى والفقر من قِبَل النفس ومعنى النهي في النص السابق مع هذا النص الكريم: لَا تنكروا السلام والأمن على من يلقيه إليكم، مبتغين متاع الدنيا؛ لأنكم خرجتم بذلك عن الجهاد في سبيل الله تعالى إلى طلب المال والدنيا، وما لأجل ذلك كان القتال، بل قاتلوا في سبيل الله بالحق، واطلبوا الله بفعالكم، واطلبوا ما عنده سبحانه، فإنه إذا كان ذلك كانت المغانم الحلال، وإنها لكثيرة، ولذا قال سبحانه بعد ذلك النهي: (فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِم كثِيرَةٌ) والمغانم جمع مغنم، وهو ما يصل إلى الإنسان من طريق حلال، ويطلق في القتال على ما يأخذه المحاربون من أعدائهم، غالبين لهم بهذا الأخذ، فهو يطلق على ما يؤخذ في أثناء القتال، أو في أعقابه، قبل أن تنتهي الحرب، ويتم الصلح أو الغلب النهائي. وهذا وعد من الله تعالى بكثرة المغانم، ولكن وعد الله مشروط بالصدق في القتال، وطلب ما عنده سبحانه.
وقد أكد سبحانه وتعالى النهي عن قتل من أعلن الإسلام أو الاستسلام بقوله سبحانه:
(كذَلكَ كنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا) بهذه الحال التي ترونها في المشركين الآن، من جحود بالحق وكفر به، كنتم من قَبْلُ، حتى هداكم الله تعالى، وإذا كنتم كذلك، فتبينوا حال الذين تقاتلونهم، عسى أن يكونوا قد هدى الله بعضهم كما هداكم، وأن يكون قد مَنَّ عليهم كما مَنَّ عليكم، فلا تستكثروا على مشرك أن يُؤْمِنَ، ولو كان ذلك في حومة الوغى، فنور الهداية مفتوح في كل
________
(1) متفق عليه؛ رواه مسلم: الزكاة - ليس الغنى عن كثرة العرض (1051)، والبخاري: الغنى غنى النفس (6446) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(4/1810)
مكان لَا يغلق باب دونه، والله يهدي من يشاء بإذنه. وفوق ذلك، فإنه كان يتصور منكم من قبل في الوقت الذي كنتم فيه كافرين أن تعتدوا على المؤمنين، وتضطركم حال القتال، إلى أن تستسلموا طالبين الرحمة، فارحموا من وقع في مثل هذه الحال.
وقد كرر الأمر بالتبين؛ لأنه في الأول كان عاما يستدعي التثيت قبل القتال، وفى أثنائه وبعده، فلا يهاجمون إلا من يتأكدون منه الاعتداء، والأمر هنا يتضمن تبين حالهم في الماضي، وحال الكافرين في الحاضر، كما يتضمن التثبت عند الاستسلام، وعند إعلان الإسلام. فالتبين لمعرفة الحال قبل القتال وبعده وفي أثنائه يتضمن الموازنة، ويتضمن التبين عند القتال وبعده فقط فبينهما أمر مشترك، وكلاهما ينفرد بتبين خاص. وفوق ذلك، فإن التبين هنا اقترن بتذكير وإنذار إذا لم يكن، ولذا قال تعالى:
(إِنَّ اللَّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) أي أنَّ الله تعالى متصف بالعلم الدقيق، الذي لَا يغادر صغيرة ولا كبيرة، فالخبرة هي العلم الدقيق بالأشياء. وقد اقترن ذلك الوصف بأعمال المؤمنين المخاطبين بذلك الخطاب لبيان مراقبة الله تعالى الدائمة لأعمالهم، دقيقها وجليلها، ولأحوال نفوسهم ما ظهر منها وما بطن، وأنه لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض. وقدم سبحانه وتعالى لفظ " بما تعملون " على الوصف العام، ليراقبوا أنفسهم، فقد علموا أن الله تعالى يراقبهم، وأنهم إذا لم يراقبوه في تصرفاتهم مع خلقه فهو تعالى يراقبهم. اللهم إنا نضرع إليك ألا تمكننا من ظلم أحد من عبادك، إنك على كل شيء قدير.
* * *(4/1811)
(لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
* * *
في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الجهاد، وتخللت هذه الدعوة آيات في وجوب الحذر من المنافقين،، وفي بعض العلاقات الدولية، وأحكام الخطأ إذا كان المقتول معصوم الدم، ثم جاء في السياق قتل المؤمن عمدا، وعظم الجرم فيه، وإنزال العقاب الشديد بمن يرتكب ذلك الجرم. وكان هذا بمثابة التمهيد لوجوب الاحتراس من قتل المؤمن إذا استعرت الحرب واشتد أوارها، فكان على المؤمنين إذا ضربوا في الأرض ألا يضعوا السيف في موضع البرء والسقم. وفي هذه الآيات الكريمات يبين سبحانه - وجوب الخروج للجهاد إن وجدت دواعيه، وأن الأجر اللذين يخرجون مجاهدين، وأنه لَا يصح أن يقعد مؤمن عن الجهاد، وهو قادر عليه، فقال تعالى:(4/1812)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
(لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) الجهاد مصدر جاهد مجاهدة وجهادا، وهو بذل أقصى الجهد فى مقابلة من يبذلون أقصى الجهد للاعتداء، فهو مبادلة لارتكاب المشاق، وهو في سبيل الله لَا يكون إلا لنصرة الحق وتأييده والدفاع عنه، وأكثر ما يطلق في لغة القرآن والحديث وعرف أحل الإسلام، يكون على القتال في سبيل الدين. والجهاد أعم من القتال، وأخص منه، فبينهما عموم وخصوص من وجه كما يقول المناطقة، فهما يجتمعان في القتال الدفاع عن الحق. والقتال قد يكون في البغي(4/1812)
على الحق، ولا يكون الجهاد بمقتضى العرف الإسلامى إلا ردا للاعتداء. والجهاد لا يكون بالقتال وحده، بل يكون ببذل المال في تأييد الحق، وبالبيان في الدعوة إليه، ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " - جاهدوا المشركين بأنفسكم، وأموالكم، وألسنتكم " (1). ومعنى النص الكريم: لَا يسستوي الذين قعدوا عن الجهاد لإعلاء كلمة الحق، ولم يخرجوا مناصرين له بأنفسهم وأموالهم، مع الذين قعدوا عن ذلك، من غير ضرر ملاؤم لهم، كمرض مزمن أو عمى أو شلل أو عربي، أو الذين لَا يجدون ما ينفقون منه في إعداد العدة، ولا يوجد من يقدم لهم السيف والزاد والراحلة. وقد بين الله سبحانه وتعالى أولي الضرر في آية أخرى، وقال: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92).
ونجد في هذا النص الكريم أن الإخلاص مع الاستعداد وعدم القدرة على التتفيذ قد يغني عن الجهاد، أو علي الأقل يسقط المؤاخذة، ولذا قال تعالى (إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) أي أخلصوا، وبذلوا في سبيل الله ما يستطيعون بذله.
ونجد في النص الكويم إشارة إلى أن الجههاد بالمال جهاد، وإلى أن القعود نوعان: أولهما قعود مادي حسي، بمعنى ألا يخرج من الدار والعدو متأهب لمنازلة أهل الإسلام، أو غزوهم في عقر دارهم، وما غزى قوم في عقر دارهم، إلا ذلوا، كما قال فارس الإسلام عليٌّ - رضي الله عنه -، والثاني. قعود عن
________
(1) رواه أبو داود: الجهاد - كراهية ترك الغزو (2504)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (11837)، والدارمي: الجهاد - جهاد المشركين باللسان واليد، كما رواه النسائي: الجهاد - وجوب الجهاد (3096) ولفظه عند النسائي: " جَاهِدُوا المشركِينَ بِأموَالهُمْ وَأيْدِيكئم وَألسنتكمْ " كلهم عن أنس ابن مالك رضي الله عنه.(4/1813)
البذل والإنفاق في سبيل الحرب، وهذا قعود عن الجهاد بالمال، وهو لَا يقل خطرا عن القعود والعدو قد أخذ الأهبة، ولذلك عَدَّ القرآن الكريم البخل في هذه الحال مؤديا إلى التهلكة، ولذلك قال تعالى: (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
ولا شك أن أكمل الجهاد ما كان بالمال والنفس، كما هو الشأن في جهاد كثير من الصحابة، كأبي بكر وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم من كبار الصحابة الذين كان لهم مال بذلوه، وكان لهم بلاء في ميدان القتال، فقاتلوا في سبيل الله بأنفسهم.
والآية تشير إلى وجوب إعداد الشباب في الأمة للجهاد، بأن يتربوا منذ طفولتهم على أساليب الحرب والنزال، فإنه لَا يسوغ استنفار طائفة إن حملت السلاح لَا تستطيع الضرب، ولذلك وردت الآثار بتعليم الشباب الرماية، والدربة على القتال، ويعدُّ ذلك ضَرُوريا من ضروريات التعليم الديني. وإذا كان الإسلام قد منع العكوف في الصوامع للعبادة وحدها، فقد أمر الأمة كلها بالجهاد في سبيله، أو الاستعداد له، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " رَهبانيةُ أمَّتي الجهاد في سبيل الله " (1).
وإذا كانت المساواة بين القاعد والمجاهد غير سائغة في حكم العقل والشرع، فالفضل في الدرجة للمجاهدين؛ ولذا قال سبحانه:
(فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) وإذا كان التساوي بين المجاهدين والقاعدين من غير ضرر يمنعهم غير مستساغ، فإن الله تعالى فضَّل المجاهدين بالمال والنفس على القاعدين ذوي الضرر، وجعلهم في درجة أعلى من القاعدين لعذر، والمراد بالدرجة أن يكون لهم فضل أعظم، ومكانتهم عند الله أكرم من ذوي الأعذار؛ وذلك لأن جهاد
________
(1) سبق تخريجه.(4/1814)
هؤلاء عملي إيجابي، وموقف ذوي الأضرار سلبي، وهم يعرضون أنفسهم للتلف، وأولئك لم يتعرضوا له، ويقدمون النفيس من المال، وأولئك لم يقدموه، ومع ذلك فإن الله تعالى وعد كلا من الفريقين الحسنى، أي العاقبة الحسنة، حيث لا يكون ثمة عقاب يوم القيامة، بل يكون النعيم المقيم لهما معا. والله تعالى يثيب المرء بمقدار نيته، وقد قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: " إن بالمدينة رجالا ما قطعتم واديا ولا سرتم مسيرا إلا كانوا معكم، أولئك قوم حبسهم العذر " (1)، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقيم عبد الله ابن أم مكتوم على المدينة، وهو أعمى، لكي ينتفع بكل القوى، وليكون لذوي الأعذار فضل العمل.
وإن تفضيل الدرجة على القاعدين ذوي الضرر لكي يسير القادر ولو نسبيا، فلا يقعد لضرر وهمي، أو عذر غير قهري، فكثير من الناس يتوهمون أعذارا، حيث لَا عذر.
هذا فضل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين ذوي الضرر، وقد رحم الله الضعفاء، فجعل لهم الحسنى كالمجاهدين، وإن كانوا دونهم فضلا، أما الذين قعدوا من غير عذر، فقد بين سبحانه فضل المجاهدين عليهم بأنه درجات، فقال سبحانه: (وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا).
كان التفضيل الأول بالدرجة الواحدة، وذلك النص في تفضيل الذين يجاهدون بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير ضرر. فالمجاهدون بأموالهم وأنفسهم مفضلون عليهم بأجر عظيم، وأنَّى يكون من قعد بين أهله آمنا في سربه، كمن ارتكب المشقة وترك الأهل والولد!.
________
(1) رواه البخاري: المغازى - نزول النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجر (4423)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، كما رواه مسلم وغيره عن جابر رضي الله عنه بلفظ مقارب، ولفظ مسلم: الإمارة - ثواب من حبسه عن الغزو مرض أو عذر آخر (1911) عَنْ جَابِرِ قَالَ: كُنا مَعَ النَبِى - صلى الله عليه وسلم - فِى غَزَاةٍ فَقَالَ: " إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، حَبَسَهُمُ الْمَرَضُ) وفي رواية: " إِلاً شَركُوكُمْ فِى الأجْرِ ".(4/1815)
ونجد النص الكريم لم يذكر الذين قعدوا بمذمة صريحة، وفي هذا إشارة إلى أن الغزو والخروج للجهاد فرض كفاية، وليس فرض عين، وذلك إذا لم يكن المسلمون في حاجة إلى كل القادرين. ومهما يكن، فالخارجون للجهاد لهم الفضل الأعظم. وقد بين سحانه عظيم الأجر بأنه يرفع المجاهد درجات عند الله تعالى، فقال سبحانه مبينا ذلك:
* * *(4/1816)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
(دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
* * *
هذا بيان للأجر العظيم الذي يعلو به المجاهد بنفسه وماله عن القاعد كسلا أو تراخيا، أو لأنه سبقه غيره إلى الجهاد. وهذا الأجر مكون من عناصر ثلاثة: أولها: أن الله تعالى يرفعه دوجات، ويقربه إليه سبحانه منازل يوم القيامة، فيكون في مرتبة الصديقين والأنبياء والصالحين؛ إذ إن الشهداء الذين أخلصوا النية في جهادهم، والمجاهدين الذين تعرضوا لشرف الاستشهاد لهم المنازل العليا، والمقامات الكبرى. ونُكِّرت الدرجات لبيان أنها لَا يحدها الحصر، ولا يعيِّنها المقدار، بل هي شرف عظيم لَا يناله إلا المقربون الأبرار.
ثانيها: أن الله تعالى يغفر له ما تقدم من ذنبه، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وأي حسنات أعظم من تقديم النفس والنفيس.
ثالثها: الرحمة تنزل بالمجاهد، فإنه يكون مغمورا برحمة الله تعالى في الدنيا والآخرة: ففي الدنيا براحة الضمير وأداء الواجب، والإحساس بأنه كان سببا للرحمة بالمؤمنين، إذ وقاهم شر العدو، ومنعه من أن يتحكم فيهم، ودفع عنهم الفتنة في دينهم، وجعل الدين خالصا لوجهه الكريم، ومنع الفساد في الأرض.
وفى الآخرة بالثواب العظيم.
وقد ختم الله تعالى النص بأن الغفران والرحمة وصفان دائمان لذاته العلية، لا ينفصلان عنها، وفي ذلك دعوة لكل من يكسل عن الجهاد لأن يعمل، وللعاصي ليتوب، فإن باب المغفرة مفتوح قد فتحه الغفور، وباب الرحمة متسع قد وسَّعه الرحيم. اللهم اكتبنا في عبادك التائبين، واغفر لنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
* * *(4/1816)
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
* * *
في الآيات السابقة ذكر سبحانه خروج المؤمنين مجاهدين، وما يجب أن يكون عليه المجاهد من حذر، فلا يثق بخائن أو منافق، ولا يضع سيفه على من يلقى إليه السلام، وذكر أن الخروج للجهاد واجب، وأن القعود لَا يجوز إلا عند عدم الحاجة أو المعذرة. والتعود قسمان: قعود عن الجهاد، وقعود عن الهجرة.
وإذا كان القعود الأول فيه ملامة إن لم يكن لمعذرة، فالقعود الثاني فيه ذلة، وفيه إثم الرضا بالذلة، ولذا قال تعالى:(4/1817)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) معنى توفَّاهم الملائكة: تتوفاهم فهو فعل ماض أريد به المستقبل لتأكد وقوعه، كقوله تعالى: (أَتَى أَمْر اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)، والمعنى: أن الذين تتوفاهم الملائكة الذين نيط بهم قبض الأرواح، قد توفوا في حال ظلمهم لأنفسهم، بسبب رضاهم بالذل والهوان، باستمرار إقامتهم في أرض لم يستطيعوا إقامة دينهم فيها، أو لم ينضموا إلى أهل الإسلام ليكثر بهم المسلمون، ويعظم جهادهم. وقد روى البخاري أنها نزلت في ناس من المسلمين لم يهاجروا، فكانوا مع المشركين يكثر(4/1817)
بهم سوادهم، وكانوا يخرجونهم معهم في القتال، فيصيبهم المسلمون بسهامهم أو سيوفهم.
ومهما يكن سبب النزول، فالعبرة بعموم اللفظ، لَا بخصوص السبب، فإن كل مؤمن يعيش في أرض يستذل فيها، أو لَا يستطيع إقامة حق دينه فيها، أو يعامل بغير الأحكام الإسلامية يكون من الواجب عليه أن يهاجر إلى الأرض التي يكثر فيها سواد المسلمين. وقد فهم هذا المعنى العام " الزمخشري "، فقد قال في ذلك: (وهذا دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لَا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه كما يجب، لبعض الأسباب، والعوائق عن إقامة الدين لَا تنحصر، أو علم أنه في غير بلده أقوم بحق الله تعالى، وأدوم على العبادة، حقت عليه المهاجرة. وعن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من فر بدينه من أرض إلى أرض، وإن كان شبرا من الأرض، استوجب الجنة، وكان رفيق أبيه إبراهيم، ونبيه محمد " (1)، وقد ذكر الزمخشري أنه فعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - إذ جاور بيت الله الحرام، وقال جار الله الزمخشري داعيا ربه: (اللهم إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني، فاجعلها سببا في خاتمة الخير ودرك المرجو من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصل جواري لك بعكوفي عند بيتك بجوارك في دار كرامتك يا واسع المغفرة) (2).
هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم بالإقامة في دار لَا تحكم بالإسلامِ، ولا يكون فيها قوة لأهل الحق - تسألهم الملائكة يوم القيامة، فيقولون لهم: (فِيم كُنتمْ)، ويقول الزمخشري إن المعنى: في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ والسؤال للتوبيخ، ومؤداه إنكم لم تكونوا مستطيعين إقامة شئون دينكم، فكيف ترضون بذلك؟ وعندي أن معنى النص: (فِيمَ كُنتمْ)؛ في أي حال كنتم؟ أكنتم في عزة أم في ذلة؟ وكيف ترضون لأنفسكم الهوان، ولدينكم الدنية؟. والاستفهام للتوبيخ أيضا كما قرر الزمخشري.
________
(1) أخرجه الثعلبي من طريق الحسن مرسلا، وقد ذكر ذلك الآلوسي ج 5، ص 125.
(2) ذكره الزمخشري ج 1 ص 556 من الكشاف.(4/1818)
وقد أجابوا عن ذلك بما حكاه الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله: (قَالُوا كنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ)، ومعنى مستضعفين أنهم أريد ضعفهم وإذلالهم وعدم تمكينهم من إقامة الحق؛ لأن السين والتاء تدلان على طلب الضعف لهم من غيرهم، فهم يعتذرون بأن أعداء الدين أو المسيطرين عليهم أرادوا بهم هذا الضعف، وألزموهم إياه، فلم يستطيعوا عنه حولا!. وهذا اعتذار غير سليم، لأنهم كانوا في ذات أنفسهم ضعفاء، إذْ رضوا بالذل والهوان، ولذلك قالت لهم الملائكة: (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِروا فِيهَا) والاستفهام هنا إنكاري أيضا، ومعناه: لقد كانت أرض الله تعالى واسعة، فلماذا لم تهاجروا إلى تلك الأرض الواسعة، حيث العزة، وحيث الجهاد، وحيث يكثر سواد المسلمين، ويعتز أهل الإيمان، ويكون المؤمنون بعضهم لبعض، ويكونون في الجهاد كالبنيان المرصوص المتماسك، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضُه بعضا " (1).
وإن هذا النص الكريم يدل على أن المؤمن محاسب إذا رضي بالذل والدعة والعيش الناعم في غير أرض الإسلام، وأنه خير له أن يعيش في ظل الإسلام وفي خشن العيش مع العزة، من أن يعيش في نعيم مع الذلة، ولذا قال تعالى في عقاب هؤلاء المنقطعين عن الإسلام:
(فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) أي إن هؤلاء الذين رضوا بالذل وظلموا أنفسهم، أو رضوا بأن يكونوا في قوة أعداء الإسلام، ولم يكونوا مع المسلمين، مدَّعين أن الضعف هو الذي أقعدهم - إذا كانوا قد ارتضوا الإقامة في مكان الهوان في الدنيا، فإن مأواهم الذي يأوون إليه في الآخرة هو جهنم، وهي مصيرهم الذي يصيرون إليه، ونهايتهم التي ينتهون إليها، وما أسوأ جهنم مآلا ونهاية ومأوى لمن يسيرون في طريقها، فأُولئك جمعوا على أنفسهم هوان الدنيا وعذاب الآخرة!.
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: الصلاة - تشبيك الأصابع (481)، ومسلم: البر والصلة والآداب - تراحم المؤمنين وتعاطفهم (2585). عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.(4/1819)
وإن هذا النص يوجب على المؤمن أن يعيش عزيزا كريما، تكون قوته للمؤمنين، وعليه أن يجاهد في ذلك، وإن لم يفعل فقد جنى على نفسه مرتين: إحداهما بهوان الدنيا، والثانية بعذاب الآخرة.
* * *(4/1820)
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
(إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)
* * *
هذا استثناء من المصير الذي سيئول إليه هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، وهؤلاء هم ضعفاء حقا، فقد استضعفهم الأعداء وأرهقوهم، ولم تكن عندهم قوة تمكنهم من الإفلات من بقائهم في أرضهم وخروجهم إلى أرض الإسلام.
وهؤلاء ثلاثة أصناف:
أولهم: ضعفاء الرجال من الشيوخ الفانين، والمرضى وذوي العاهات، ونحوهم، ومن هؤلاء من كان لَا يرضى بالذلة ولو فني بالطريق! ويروى أنه لما نزلت هذه الآية بعث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مسلمي مكة، فقال ضمرة بن جندب لبنيه: احملوني، فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي إلى الطريق، والله لا أبيت ليلة بمكة!. فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة، وكان شيخا كبيرا، فمات في الطريق!.
والصنف الثاني: النساء اللائي لَا يستطعن الخروج، إما لثقلهن بالأولاد، وإما لخشية أمن الطريق، وإما لعدم وجود زوج يصحبها، ولا ذي رحم محرم يكون معها في الطريق.
والصنف الأخير: الولدان، وقد قال بعض المفسرين: إنهم العبيد ونحوهم، وذلك القول ليس بشيء، والأصح أنهم الصبيان، ويقول الزمخشري: إنهم الذين تجاوزوا الحلم قريبا. ويصح أن يكون المراد هؤلاء والأولاد الذين يتبعون آباءهم، أو الذين ليس لهم آباء يتبعونهم، وهم بهذا الضعف غير مسئولين، واستثناؤهم لعدم تكليفهم أو لأنهم لَا قوة لهم على تفسير الزمخشري، إذ إن ضعف الصبا لا يزال بهم، إذا كانوا قد بلغوا الحلم، ولم يدخلوا في دور الرجولة.(4/1820)
وقد ذكر سبحانه الوصف الذي استوحب استثناءهم، فقال سبحانه: (لا يَستطِيعُونَ حيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سبِيلًا)، والحيلة المواد بها التحول من حالهم التي هم عليها إلى غيرها أي لَا يستطيعون تحولا ولا انتقالا لعجزهم المطلق بمرض أو زمانة أو شيخوخة، أو يستطيعون التحول، ولكن لَا يهتدون إلى الطريق الموصل كالصبيان الفريبي العهد بالبلوغ، بحيث لو خرجوا هلكوا.
* * *(4/1821)
فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
(فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
* * *
إن هؤلاء الذين استضعفوا حقا وصدقا بسبب ضعفهم، عسى أن يعفو الله عنهم، أي يرجى أن يكونوا محل عفو الله تعالى، فلا يؤاخذهم برضاهم بالبقاء في أرض الذل، فالفاء هنا هي فاء السببية، أي أن السبب في أنهم محل عفو الله، ورجاء العفو لهم، هو ضعفهم. وهنا بحثان تشير إليهما الآية الكريمة:
أولهما - أن الهجرة هي الأمر المفروض الذي لَا مناص منه إلا عند العذر الشديد، وإن الأعذار يقدرها أصحابها. ومع وجودها يرجى لهم العفو، ويرجونه، ويقول الزمخشري: إن هذا يدل على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه، حتى إن المضطر البين الاضطرار من حقه أن يقول: عسى الله أن يعفو عني. وهذا كله معناه أن الأصل هو الهجرة "
ثانيهما - أن الأمور التي يرخص بها في مقابل واجب مفروض، لَا تكون مباحة في ذاتها، بل تكون في مرتبة العفو، لأن المباح يكون مطلوبا على وجه التخيير، وهذه لَا طلب فيها، بل رخص بها في الترك، والأصل وجوب الهجرة.
وقد ختم سبحانه وتعالى الآية بأنه كثير العفو عن عباده في الرخص التي يرخص لهم بها، كثير المغفرة لمن تاب وأناب، والله سبحانه وتعالى رحيم بعباده.
* * *(4/1821)
(وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
* * *
في الآيات السابقة كان بيان حال الذين رضوا بالذل والهوان والضيق، وأنهم مؤاخذون لذلك، إلا إذا كانوا عاجزين عن الانتقال. وفي هذه الآيات يرغب سبحانه في الهجرة عند الضيق كما ألزم بها عند الذل، فقال تعالى:(4/1822)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
(وَمَن يهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً) يقال: أرغمه، إذا أوقعه في الرغام، وهو تراب الأرض، ورَغِمَ أنفه إذا نزل إلى التراب، وذلك كناية عن الذل بعد الكبرياء. وأرغم أنفه،، إذا أنزل به. وراغمه، إذا حاول كل واحد منهما أن يرغم الآخر. والمُراغَم مكان المراغمة، وقد أطلق على مواضع طلب المعيشة، والطريق في الأرض، وذلك إذا كان يصل إليه بعد مشقة، أو جهد غير معتاد، وهذا هو الذي يقال في معنى النص الكريم. فالمعنى على هذا: ومن يهاجر ويترك دار إقامته في سبيل الله تعالى طالبا ما عنده يجد طرائق كثيرة في الحياة، وإن كان لَا ينالها إلا ببعض المشقة، فإنها قنطرة للراحة، وكذلك ينال سعة في رزقه وحياته ودينه، فلا يُضَيَّق في دينه عليه، ولا يعيش في ذلة وهوان، أو مقترا عليه في الرزق.
والآية تحث على الهجرة إذا توافرت أسبابها، وتشير إلى أن المهاجر، إن ترك محل العيش الرتيب، فإنه سيجد في النهاية مذاهب مختلفة للرزق، وسعة في الحياة، وعدم ضيق، فهو معوض بلا ريب.(4/1822)
وتكون الهجرة في سبيل الله تعالى: إذا كانت للفرار من الفتنة في الدين، أو لدفع الذل وطلب العزة، أو للخروج من أرض ليست تحت ولاية الإسلام إلى أرض فيها ولاية الإسلام، أو من أرض فيها ظلم سائد واقع على الأبدان أو المال ولو كانت من ولاية الإسلام، أو كانت الهجرة لتكثير سواد المسلمين في إقليم قلَّ فيه عددهم، وهي الانتقال من أرض إسلامية مزدحمة بالسكان قد اكتظت بأهلها إلى أرض إسلامية خالية من السكان، فإنها تكون مظنة أن يأخذها أعداء المسلمين، فتكون قوة لهم على المسلمين. ففي كل هذه الأحوال تكون الهجرة في سبيل الله تعالى:
(وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا
رَحِيمًا) المهاجر في سبيل الله تعالى ينتقل من حمى الناس إلى حمى الله تعالى، فهو مهاجر منتقل إلى جانب الله تعالى ورسوله، فإذا كان يترك بيته وأهله وعشيرته، وجيرانه الذين عاش بينهم وعاشرهم، فهو يتركهم إلى جانب أعظم، ورحاب أوسع، وهو جانب الله تعالى ورسوله ورحابهما. وإن المهاجر إلى الله تعالى في سبيل تحقيق مقصد من مقاصد دينه التي نوهنا عنها سابقا ينال إحدى الحسنيين: إما الظفر بالسعة والعزة، والمال، وإما الظفر بالأجر العظيم، وذلك إذا أدركه الموت، وهو في الطريق الى الله.
وهذا قد قال فيه سبحانه: (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)، أي فقد حق له الأجر العظيم عند الله تعالى. وقد تفضل سبحانه، فاعتبر ذلك الاجر حقا عليه - سبحانه، ولذا عبر بـ " على " في قوله: (عَلَى اللَّهِ) ووقع هنا معناه ثبت وتقرر، وكأنَّه صار وثيقة على الله تعالى وذلك كله تأكيد لتحقق الأجر بهذه الهجرة. وإن ذلك الأجر غفران لما مضى من ذنبه، ورحمة به بالنعيم المقيم في الآخرة، ولذلك قال تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) أي أن الوصف الدائم الثابت لله تعالى في الأزل أنه كثير المغفرة، ومن شأنه الرحمة بعباده، فبمقتضى(4/1823)
رحمته فتح باب الهجرة وحثَّ عليه، وبمقتضى رحمته مكَّن للمهاجر من السعة والعمل في الأرض، وبمقتضى رحمته اعتبر نية الهجرة إذا صاحبها العمل كافية للثواب والأجر العظيم.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وبدلمهم من بعد خَوفهِم أمنا، ومن بعد ضعفهم قوة، واهدهم للعمل بكتابك وسنة نبيك، إنك سميع الدعاء.
وبعد أن ذكر أن الهجرة فيها عزة، وأن المهاجر يجد سعة من الرزق، يذكر سبحانه ما سهله تعالى للمهاجر أو المسافر من عبادة تيسيرا له، وتشجيعا على السفر، فقال سبحانه:
* * *(4/1824)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
(وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ... (101)
* * *
الضرب في الأرض هنا هو السفر، وأطلق الضرب في الأرض على السفر، لأن المسافر يضرب برجله وبراحلته وبمتوكئه على الأرض في حركة مستمرة جزءا من النهار، فكان التعبير عن الضرب في الأرض بالسفر في موضعه، وهو مجاز واضح في علاقته.
ونجد التعبير في هذا النص الكريم يختلف عن قوله تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) في الآية السابقة في أمرين: أحدهما: أنه في الآية السابقة عبر عن السفر بالهجرة: والهجرة تقتضي الانتقال على غير عودة، وعلى نية الإقامة في مكان آخر يتخذه موطنا ومستقرا ومقاما دائما له، وفي هذا النص عبر عن السفر بالضرب في الأرض، أي أنه سفر على نية العودة غالبا، ولا يريد به اتخاذ مكان آخر موطنا له.
والثاني: أن الآية الأولى تنص على الهجرة في سبيل الله تعالى، والخروج من أرض الذل إلى أرض العزة، حيث يمكن أن تكون بالهجرة نصرة للمسلمين، يعد في سبيل الله؛ أما في هذه الآية، فإن السفر عام يشمل ما يكون في سبيل إفامة الدين، وما يكون في طلب الرزق، وزيارة ذوي الأرحام، وغير ذلك مما يعد قربة أو أمرا مباحا.(4/1824)
والنص الكريم يبيح قصر الصلاة، ووردت السنة بأن الصلوات التي عدد ركعاتها أربع ركعات يقصر إلى اثنين، وهي صلاة الظهر والعصر والعشاء، والنص الكريم قد اقترن القصر فيه بشرط مخافة العدو أن يفتن المؤمنين في سفرهم، بأن يكون المؤمنون غير آمنين من أن يدهمهم عدو في سفرهم، فهم يقصرون الصلاة، حتى يكونوا في حال استعداد مستمر، ولا تشغلهم الصلاة عن الحذر منه. وقد قوى هذا بأن الآية الكريمة التي أعقبت هذه الآية كانت خاصة بصلاة الخوف التي تكون في الميدان، فبمقتضى ظاهر النص يكون القصر عند الخوف من العدو، وأن القصر مع صلاة الخوف يكون عند لقاء العدو.
ومعنى الفتنة هنا هو إنزال الأذى بالمؤمنين، بأن يجعلهم في حال شدة، وينزل بهم كارثة بمداهمتهم وقتلهم أو الانقضاض عليهم، وهم ليسوا في حال استعداد للقتال.
وبهذا يكون قد ثبت بالنص القرآني قصر الصلاة، في حال خوف الفتنة من الذين كفروا، وصاروا في عداوة مستمرة للمؤمنين بسب كفرهم. ولكن ثبت بالسنة القصر في الصلوات التي عدد ركعاتها أربع في حال سفر، ولو لم يكن السفر في موضع مخوف، وقد ثبت هذا بالسنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتي أجمعِ الصحابة عليها (1). ويصح أن نقول أن قوله تعالى: (إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِين كَفَروا) لم يكن إلا في بيان القصر في حال خوف الفتنة من الذين كفروا؛ لأن السياق كله كان في الجهاد، ولكن يمنع ذلك الفرض أن النص جاء في مطلق سفر، لَا لأجل الجهاد.
________
(1) من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه: صلاة المسافرين وقصرها (686)، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ، إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فَقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، فَقَالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتُ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ ".(4/1825)
ومهما يكن فقد ثبت النص القرآني في القصر في حال خوف الانقضاض من العدو، وبالسنة القصر في عموم أحوال السفر. ولما كان ذلك هو موضع النص، يل النص الكريم بما يدل على وجوب الحذر دائما من الأعداء الكافرين، فقال:
(إِنْ خِفْتمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَروا) هذا النص لتأكيد الحذر من الكفار دائما؛ لأن عداوتهم مستمكنة في قلوبهم، وقد أكد سبحانه وتعالى هذه العداوة بمؤكدات أربعة: أولها - " إنَّ " الدالة على التوكيد، مع وصف الذين كفروا بالكفر، وجعله شأنا لهم، ومن كان جمود الحقائق شأنه لَا يؤمن على شيء. وثانيها - التعبير بـ " كان " الدالة على الدوام والاستمرار. وثالثها - وصف الكافرين بالعداوة؛ لأن العدو يطلب لعدوه دائما الشر، ويترقب مواضع غفلته لينقض عليه، فلا تنتظر منه رحمة أو حلم، أو نسيان للحقد. ورابعها - وصف العداوة بأنها ظاهرة بينة لا خفاء فيها، فالمغرور من يأمن عواقبه.
وقد تكلم العلماء في السفر المسوغ لقصر الصلاة: ما مقداره؟ وما حكم القصر؟ أهو واجب أم سنة؟ ونوع السفر الذي يجوز فيه القصر؟.
أما بالنسبة لمسافة السفر التي يجوز فيها القصر، فالفقهاء اختلفوا فيها على أقوال ثلاثة:
أولها - قول أهل الظاهر أن القصر يكون في كل ما يسمى سفرا، سواء أكان قصيرا أم كان طويلا، لأنه لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مقدار محدود يمنع القصر فيما عداه، فبقيت كلمة السفر على إطلاقها، من غير تقييد بمدة معلومة ولا مسافة محدودة.
وثانيها - قول الحنفية، أن السفر الذي يُسوِّغ القصر مسيرة ثلاثة أيام بلياليها، بالسير المعتاد، وهو سير الإبل، مع أخذ الراحة الواجبة في السفر، فلا يسير المدة كلها، بل يسير في الزمن الذي يعتاد فيه السفر؛ وذلك لأن عرف العرب أن الرجل كان لَا يعتبر مسافرا إلا إذا تجاوز موطنه بسير نحو ثلاثة أيام.(4/1826)
وثالثها - قول أكثر الأئمة أنه يوم وليلة، وقيل يوم فقط؛ وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم منها " (1)، وروي الحديث مرة يوما وليلة (2)، وروي ثلاثة أيام (3)، ففيه الأوجه الثلاثة. والتوفيق أن كل رواية كانت إجابة لحال خاص، فسئل عليه الصلاة والسلام عن يوم، وعن يوم ليلة، وعن ثلاثة.
وبالنسبة لكون القصر واجبا أو مخيرا فيه، فالمذهب الشافعي أنه مخير فيه، وروى أنه سنة، ومن اختار القصر صلى قصرا بالنية، ومن اختار التمام صلى تماما بالنية، ويكون الفرض في حقه بعد أن ينوي التمام أربعا. وبقية الأئمة تقريبا على أن القصر واجب، وما يصلي فوق القصر يكون نافلة، وحجتهم ما تواتر عن الصحابة من أنهم يقصرون كلما كان سفر، وقدره يوم للإمام عثمان إذ لم يقصر عندما حج، وقال أصحاب هذا الرأي أن الفرض شرع اثنين، ثم بقي في السفر كذلك ثم زيد في الحضر. وحجة الرأي الأول قوله تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُروا مِنَ الصَّلاةِ)، ونفي الإثم يقتضي التخيير. وقد أجاب عن ذلك الزمخشري بأن ذلك للتيسير والتسهيل. وفي الحق أن كلمة " لا جناح " استعملت في السعي بين الصفا والمروة، ومع ذلك كان السعي بينهما واجبا، فالله تعالى يقول: (إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيم).
وبالنسبة لنوع السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فقد أجمع الفقهاء على أن السفر للجهاد أو الحج أو العمرة أو صلة الرحم أو القيام بواجب، يجيز القصر أو يوجبه. والأكثرون على أن السفر للتجارة والأعمال المباحة يكون فيه القصر.
________
(1) رواه مسلم: الحج - سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره (1339) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) من ذلك ما رواه البخاري: الجمعة - في كم يقصر الصلاة (1088).
(3) من ذلك ما رواه البخاري: الجمعة - في كم يقصر الصلاة (1087)، ومسلم: الحج - سفر المرأة (1338).(4/1827)
وروي عن مالك أنه قال: إن خرج للصيد، لَا لمعاشه، أو لمشاهدة بلد متنزها ومتلذذا، لم يقصر. وجمهور العلماء على أنه لَا يقصر للصلاة من سافر في معصية، وروي عن أبي حنيفة والأوزاعي، أنه يقصر؛ لأنه يتحقق فيها معنى السفر، وقد كان القصر في مطلق سفر، وروى مثل ذلك عن مالك - رضي الله عنه.
وفقنا الله تعالى لإقامة الصلاة عمود الدين، وفيها برد المتقين.
* * *
(وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
* * *
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى وجوب الهجرة على المؤمن للجهاد في سبيل الله تعالى، ولطلب الرزق، إن ضاقت أرضه التي نشأ فيها، ثم(4/1828)
ذكر سبحانه وتعالى ما سهَّل به على المسافر من قصر الصلاة. وفي هذا النص الكريم بيَّن سبحانه حال الصلاة إذا كان المسافر في حال جهاد، وهو ما يسمى في عرف الفقهاء بصلاة الخوف، أي الصلاة التي تكون في حال الخوف من العدو، بأن يكونوا في حال حرب معه. فالمراد بالخوف هو الحذر من مباغتة العدو. ولذا قال سبحانه:(4/1829)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
(وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ) هذا النص الكريم فيه بيان الصلاة حال القتال، بأن يجمع المؤمنون بين الصلاة التي بها تطهير القلوب من كل الأدناس والأرجاس وبين الاستعداد للقاء العدو، والحذر منه.
ومعنى النص السامي: إذا كنت أيها الرسول في المؤمنين، فأردت إقامة الصلاة على وجهها في هذا المقام، فلتقم طائفة منهم معك، بأن تبتدئ بالصلاة معها، على أن يكون معها السلاح، وهي في حال الصلاة، حتى يكونوا على أهبة القتال دائما. وحمل السلاح في الصلاة لَا يبطلها، ولا يؤثر في حال الخشوع، وخصوصا إذا كان حمل السلاح لإعلاء كلمة الله تعالى وخفض الباطل، فهو عبادة من أعظم العبادات، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم المؤمنين المجاهدين صفين، صفا يبتدئ بالصلاة معه، فإذا سجدوا للصلاة وقد ألقوا وجوههم على الأرض، لا يرون شيئا ولا يستحضرون إلا عظمة الله تعالى، فإن الصف الثاني يكون من وراء هؤلاء، يدفع عنهم أذى الكفار، والاعتداء على أهل الحق والايمان، وهذا معنى قوله تعالى: (فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ)، أي فليكن الصف الآخر، أو الطائفة الأخرى من ورائكم، حامية لظهوركم، مانعة نزول الأذى بكم، ومن بعد ذلك تجيء الطائفة الحارسة، وتكون من بعد ذلك في محل المصلية، وتذهب الأخرى حارسة، وهذا قوله تعالى: (وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ).(4/1829)
أى إذا صلت الطائفة الأولى، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُنه صلاته، جاءت الأخرى فصلى بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد أمر الله بأن تكون معها أسلحتها، وشدد في الأمر بأن أمرها مع ذلك بأخذ الحذر والاحتراس، وقدم الأمر بأخذ الحذر على أخذ الأسلحة؛ لأن أخذ الأسلحة من الحذر، ولأن الحذر عند انتقال الصفوف واجب، خشية أن يباغتهم العدو، وهم يغيرون صفوفهم؛ لأن هذا يشبه التغيير في الخطط وقت القتال، وهو لَا يخلو من خطورة يجب معها الحذر، ولأن الطائفة الأولى عند سجودها، عسى أن يتنبه العدو لحالها فيطمع، وخصوصا إذا رأى الصفوف تتغير، وتتحرك في داخل الجيش نفسه.
اتفق الفقهاء على أن صلاة الخوف تقتضي أن يصلي النبي - صلى الله عليه وسلم - بطائفة، ثم يصلي بالأخرى التي تكون أمام العدو ابتداءً، وتحل الأولى محلها، ولكن اختلفوا بعد ذلك في كيفية صلاة الخوف تبعا لما فهموا من اختلاف الروايات في صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وها هي ذي الروايات ومن اختاروها:
الرواية الأولى - رواية عبد الله بن مسعود التي أخرجها أبو داود والدارقطني، وخلاصتها أن الصلاة في هذه الحال ركعتان إن كانت رباعية، ويقسم النبي المجاهدين إلى صفين: أحدهما يصلي به ركعة، ثم يقوم، حتى تجيء الطائفة الأخرى فيصلي بها الركعة الثانية، حيث تكون الأولى في مواجهة العدو، ثم يسلم، وتأتي الأولى فتتم صلاتها بغير قراءة، لأنها كما يعبر الحنفية لاحقة، أي كأنها وراء الإمام حكما طول الصلاة، ولا قراءة وراء الإمام، فإذا أتمت جاءت الثانية فصلت بقراءة، لأنها تكون مسبوقة، إذ تكون كمن أدرك آخر صلاة الإمام وفاتته ركعة، فتكون القراءة واجبة. وبهذه الرواية أخذ أبو حنيفة وأصحابه.
الرواية الثانية - هي ما رواه الإمام مالك في موطَّئه، أن صلاة الخوف أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعة ولا يسلم، وتتم هي الصلاة وحدها، فإذا أتمتها جاءت الأخرى، فصلى الإمام معها الركعة الأخرى وسلم، وهم يتمون الركعة، وبذلك تقل الحركات عن الرواية الأولى. وبهذه الرواية أخذ الإمام مالك، وروي(4/1830)
أن الإمام لَا يسلم إلا بعد أن تنتهي الثانية من صلاتها، وبهذا أخذ الشافعي رضي الله عنه، واختاره أحمد، وإن كان يجوز غيره، كما سنبين موقفه من هذه الروايات.
الرواية الثالثة - أن الرسول صلى بالطائفة ركعة، وبها تتم صلاتها، ثم قام حتى تجيء الثانية، فصلى بها الركعة الثانية، وسلم، وبها تتم صلاتها فتكون صلاة الخوف على هذه الرواية ركعة واحدة بالنسبة للمأموم، وركعتين للإمام، وبهذا أخذ بعض الفقهاء.
الرواية الرابعة - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين بالأولى ولم يسلم، وذهبت، وجاءت الثانية فصلى بها اثنتين أخريين، ثم سلم معها. وفي رواية أنه سلم بينهما، فسلم مع الأولى، وسلم مع الثانية. وقد اختار بعض الفقهاء هذه الرواية الأخيرة.
ولقد قال الإمام أحمد بن حنبل، وهو عالم السنة الأول في عصره: " لا أعلم أنه روي في صلاة الخوف إلا حديث ثابت، وهي كلها صحاح ثابتة، فعلى أي حديث صلى منها المصلي صلاة الخوف أجزأه، إن شاء الله ".
وإن كل هذه الروايات تتفق مع النص الكريم، واختلاف الرواية الصحيحة يدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها بكل هذه الوجوه المختلفة، لبيان أنها جائزة بكل وجه من هذه الوجوه.
وبعض العلماء قالوا: إن صلاة الخوف خاصة بما إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المجاهدين، أي أنها خاصة بعصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبشرط أن يكون هو قائد الجند، وحجتهم في ذلك أن الخطاب خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ يقول: (وَإذَا كنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ)، فالكيفية مقيدة بشرط، وهو إقامته فيهم، وليست كل التكليفات التي يوجه فيها الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، على أن يكون موجها لكل الأمة، مشروطا فيها هذا الشرط، فالتكليف مقيد بالشرط، وليس بمطلق، وليس أحد بعده يقوم في الفضل مقامه عليه الصلاة والسلام. وقال الجمهور: أُمرنا باتباعه،(4/1831)
والتأسِّي به في كثير من الأحاديث وَآيات القرآن الكريم، وقال - صلى الله عليه وسلم - " صلوا كما رأيتموني أصلي " (1)، وإن كثيرا من المطالب التكليفية يكون الخطاب فيها للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثم لأمته، وإن الصحابة جميعا فهموا عموم الرخصة في صلاة الخوف، فَعَدَّوْها إلى كل إمام في الجيش، وهو أعلم بمقاصد الإسلام؛ لأنهم تلقوا علمهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الإمام القائم بالجهاد هو خليفة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته، ولأن المعنى في صلاة الخوف لَا يتحقق فقط مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بل يتحقق مع كل أمير جهاد، ولأن صلاة الخوف هي من نوع الحذر، والجمع بين المُضي في القتال، والمُضي في الصلاة التي هي عماد الدين، والحذر مطلوب دائما، وقد بين الله سببها فقال: (وَدَّ الَّذِين كَفَروا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ).
هذا، ولا بد من التنبيه لأمرين: أحدهما - صلاة المغرب، فقد كانت الصلاة التي تكلم فيها الفقهاء هي الصلاة الثنائية بالأصالة، وهي الفجر، أو الثنائية بالقصر، وهي صلاة الظهر والعصر، والعشاء. وأما المغرب فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها روايتان: إحداهما أنه صلى بالطائفة الأولى ثلاثا، وبالثانية مثلها، وبهذه الرواية أخذ الحسن البصري. والرواية الثانية أنه صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية واحدة، وهذا قول أبي حنيفة ومالك. وروى أن الشافعي قال: يصلي بالأولى واحدة، وبالثانية اثنتين.
الأمر الثاني - أنه لَا يلزم الاتجاه إلى القبلة إذا خيف أن يأخذ العدو المؤمنين على غرة، وذلك في حال الالتحام الشديد، وإذا خيف فوات الوقت يصلي متى أمكن له أن يصلي، وبذلك قال مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وقال غيرهم: يصلون بالإيماء، ولا يتركون الوقت.
والسبب في شرعية صلاة الخوف هو الحذر، والخوف من المباغتة، ولذا كرر الله الأمر بأخذ الأسلحة والحذر، وبين ما يوده الكفار فقال: (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً).
________
(1) جزء من حديث سبق تخريجه من رواية البخاري وغيره عن مالك بن الحويرث.(4/1832)
في هذا النص الكريم إشارة إلى السبب في صلاة الخوف، وهو ترقب العدو لحال المسلمين، عساهم يجدون منفذا ينفذون منه إلى صفوفهم، أو ثغرة يدخلون منها، أو غفلة ينتهزونها، فكان الحذر أن تسد عليهم كل المنافذ التي ينفذون منها لتحقيق مآربهم، فلا يصح للمسلمين أن يغفلوا بالعبادة عن الجهاد، ولا يتركوا العبادة.
ومعنى: (وَدَّ الذِينَ كفَرُوا) تمنى الذين كفروا، وهم أعداؤكم الذين نصبوا راية العداوة لكم، أن تأخذكم الغفلة عن أسلحتكم التي بها شوكتكم وقوتكم، وعن أمتعتكم التي فيها زادكم وبها تستمرون على القتال من غير أن يصيبكم جوع أو عُري. وأنهم يريدون هذه الغفلة ليميلوا بقوتهم وَكَلكِلِهم عليكم، فيكونوا ثقلاء الوطأة، ويضربونكم الضربة القاصمة الفاصلة، فيما يتوهمون ويزعمون! وهذا معنى قوله سبحانه: (فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً)، أي يثقلون الوطأة عليكم ويضربونكم الضربة المستأصلة في زعمهم ووهمهم!!.
وفى هذه النصوص كلها نجد الأمر المتكرر بوجوب أخذ الأهبة دائما، وحمل السلاح باستمرار. ولكن قد يتعسر حمل السلاح، وهنا يرخص في عدم حمله، مع أخذ الحذر، بحيث يكون في مكان قريب، كي يعمل عند أول صيحة، ولذا قال سبحانه:
(وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ) لَا إثم عليكم في أن تضَعُوا أسلحتكم في أغْمِدَتِها، إذا كان في الميدان مطرٌ شديد يعوق استعمالها ولقاء الأعداء، فإنها إن لم توضع تعرضت للصدأ، ووراء ذلك تلفها، والاحتياط لسلامتها في الميدان واجب، وكذلك من يكون به مرض يغمد سلاحه حتى يستطيع استعماله، فإن تركه من غير استعمال يفسده، فلا يصلح عند وجوبه، وقوله تعالى: (أَوْ كُنتُم مَرْضَى) الخطاب للجميع، ويراد به البعض من وجه؛ لأنه يبعد أن يكون جميع الجيش مريضا، فالله تعالى يرخص للمريض في أن يدع القتال حتى يشفى، فليس على المريض(4/1833)
حرج، وهو خطاب للجميع من جهة أخرى؛ إذ على الجماعة أن توفر للمريض راحته، فتغنيه عن حمل السلاح وهو مريض، وتحمل هي عنه العبء.
ومع أنه لَا إثم في وضع السلاح عند المطر المعوِّق الذي يعد أذى، ولا يعد غيثا، والترخيص للمريض في غمد سلاحه، فلابد من الحذر، فيترقبون من العدو دائما انتهازه للفرصة، ومن ذلك أن يتقلدوا السيوف (1)، ولو أنها في أغمدتها، ووضع الرقباء، وبث العيون على العدو ليعرفوا حاله، فعسى أنه يحاول الهجوم من ثغرة أو طريق سهلة عليه، وإن ذلك لأن الله تعالى يريد أن تعلو كلمة الإيمان في الدنيا، وتنخفض كلمة الكفر، ولذا قال سبحانه:
(إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) أي إن الله أعد للجاحدين به وبالحق عذابا مذلا لهم في الدنيا والآخرة، ففي الآخرة بالعذاب الشديد الذي لَا نجاة منه، وفى الدنيا بالغلب عليهم، وإذهاب صولتهم، ودولتهم، وذلك يكون بأخذ الأهبة والحذر، والاعتماد على الله تعالى، وقد أكد سبحانه العذاب المهين الذي ينزل بهم في الآخرة بثلاثة مؤكدات: بحرف (إن)، وبأن الله تعالى هو الذي ينزله، وما أراده الله تعالى لابد واقع، وبالتعبير بكلمة (أعَدَّ)، فإنها تفيد أنه هيئ لهم فعلا، وهو يستقبلهم، وهم صائرون إليه لَا محالة.
* * *
________
(1) أو ما في معناها من عدة الحرب.(4/1834)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
(فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ... (103)
* * *
أي إذا أديتم الصلاة على حال الخوف، فإن العبادة لم تنته، بل إن معناها قائم مطلوب منكم، وهو أن تذكروا الله تعالى في كل أحوالكم، قائمين في الميدان، أو غادين ورائحين، أو قاعدين مستريحين، أو نائمين على جنوبكم، فإن ذكر الله تعالى هو العبادة المستمرة التي بها تطمئن القلوب، كما قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنوا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقلُوبُ).(4/1834)
وإن التعبير عن صلاة الخوف بقوله: (فَإِذَا قَضَيْتمُ) في مقابل قوله تعالى عند الاطمئنان: (فَأقِيمُوا الصَّلاةَ) فيه إشارة إلى أنها بدل عن الصلاة الكاملة تؤدي معناها، وإن لم تكن مثلها في الصورة الظاهرة.
(فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) أي إذا ذهب الخوف، وعادت القضب إلى أجفانها (1)، ورجعتم إلى مساكنكم، فأقيموا الصلاة أي أدُّوها كاملة، مستقبلين القبلة، موصولة من غير فاصل بين أجزائها. والكمال هنا كمال الصورة، وإلا فالمعنى يتحقق في صلاة الخوف بمقدار لا يقل عن كماله في الإقامة، إذ إنها عبادة في عبادة، هي عبادة الصلاة في عبادة الجهاد، وهو أشق عبادة، ولا شاغل قد يشغل المصلِّي عن صلاته إلا هذه العبادة العالية، وفي الإقامة قد تشغله بعض أعراض الدنيا. وقد بين سبحانه مكان الصلاة في الإسلام، فقال سبحانه: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا)، أي الصلاة مكتوبة على المؤمنين مؤقتة بأوقاتها، وهذا تأكيد لفرضيتها، وقد أكدت الفرضية بأربعة مؤكدات: أولها " إنَّ " التي للتوكيد. وثانيها " كانت " التي تدل على الدوام والاستمرار في الماضي والمستقبل، وثالثها. التعبير عن فرضية الصلاة بأنها (كتاب) فهو تعبير عن الوصف بالمصدر، وفيه فضل توكيد، ورابعها. التعبير بقوله تعالى: (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، فإن ذلك يفيد الإلزام والحتمية. اللهم وفقنا لإقامة الصلاة، وإقامة الحق، والعمل على إعلاء شأن الإسلام، إنك سميع الدعاء.
* * *
________
(1) أي السيوف إلى أغمادها. وسيفٌ قاضِبٌ وقضيب: قطاع (مقاييس اللغة)، وأجفان السيوف وجفونها أغمادُها، واحدها جَفن. (لسان العرب).(4/1835)
(وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
* * *
في الآيات السابقة كان بيان ما يتبعه المؤمنون من الصلاة عند الخوف، ولقاء العدو، ومن قبل ذلك ذكر الله سبحانه وتعالى ما ينبغي أن يتبعه المؤمنون المغلوبون على أمرهم في دولة غير إسلامية من الهجرة. فالآيات كلها في وجوب الجهاد، وما حول الجهاد، وذلك أكد سبحانه طلبه بقوله تعالى:(4/1836)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
(وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْم) قال بعض العلماء: إن ذلك الأمر المرشد بعد غزوة أحد، ورويت في ذلك روايات إن صحت لم تعين أن يكون هذا النص في موضعها، ولكن الذي يتفق مع السياق، إن هذا النص بعد صلاة الخوف يدل على وجوب الاستمرار في القتال من غير وهَن ولا ضعف، وجوب الاستمرار في طلب مواطن الضعف في الأعداء، ليكون الغلب لكلمة الحق وكلمة الله سبحانه وتعالى، فالسياق على هذا يكون: إنكم إذا أديتم الصلاة، فاتجهوا من بعدها، وقد تسلحتم بذكر الله، إلى القتال.
ومعنى النص الكريم: لَا يصيبكم وهن، أي ضعف في همتكم وعزيمتكم، في ابتغاء العدو وطلبه، وتحرِّي موضع ضعفه والنيل منه، ولا تقعد بكم آلام الحرب عن متابعته، واللحاق به، فإن تكونوا قد أصابتكم جراح فقد أصابته، ولذا قال سبحانه:(4/1836)
(إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) مرمى النص الكريم أنه لَا يصح أن تكون الجراح، وويلات الحرب وآلامها مثبطة لكم عن الاستمرار في طلب المعتدين وملاقاتهم؛ لأنه إن أصابكم من الجراح والآلام ما أصابهم، فهم يجرحون ويألمون من غير رجاء في الآخرة، ولم يوعدوا بالنصر المؤزر الباقي في الدنيا، ولا بالنعيم في الآخرة، فهم يألمون في غير أمل مرجو، وأنتم إن ألمتم، فلرجاء النصر ولرجاء النعيم، فأنتم أحق بالصبر، وأولى بأن تطلبوهم، ولا تهنوا وتضعفوا في طلبهم.
ويسوق الزمخشري النص الكريم مساقا فيه شبه لوم للمؤمنين، فيقول في تفسير قوله تعالى: (إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ): (أي ليس ما تكابدون من الألم بالجرح والقتل مختصا بكم، إنما هو أمر مشترك بينكم وبينهم، يصيبهم كما يصيبكم، ثم إنهم يصبرون عليه، ويتشجعون، فما لكم لَا تصبرون مثل صبرهم؛ لأنكم ترجون من الله ما لَا يرجون من إظهار دينكم على سائر الأديان، ومن الثواب العظيم في الآخرة).
ونحن نرى أن النص فيه تحريض على الصبر، ولا لوم فيه ولا شبه لوم، فما كان عند المشركين صبر كصبر المؤمنين، حتى يوازَنوا بهم ويحرصوا على مثل ما هم عليه.
وفى جعل رجاء المؤمنين من الله، في قوله تعالى: (وَتَرْجونَ مِنَ اللَّهِ)، إشعار للمؤمنين بأنهم في جانب الله تعالى، وأن رجاءهم عنده، وهو يجيب رجاء المؤمن ودعاءه، ويؤيده بنصره: (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِن عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم)، وليس للمشركين من يرجون إلا أن يكون أصناما لَا تضر ولا تنفع!.
وإذا كان الرجاء من الله، فهو رجاء من العليم بكل شيء، الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها، وينصر من ينصره بحكمته، ولذا قال سبحانه: (وَكَانَ اللَّه عَلِيمًا حَكِيمًا) أي ثبت وتقرر أن العلم والحكمة من أسماء الله تعالى الحسنى،(4/1837)
جلت قدرته، وإذا كان الله سبحانه وتعالى عليما حكيما، فإنه يعلم جهاد المؤمنين للحق، واعتداد المشركين بالباطل، وبمقتضى حكمته، لَا يستوي الصالح والمفسد، والمحق والمبطل، ولا يستوي عنده الذين يعلمون والذين لَا يعلمون، فالمؤِمنون إذ يرجون ما عنده، ويطلبون رضاه، يجدون العليم الحكيم: (واللَّهُ يؤَيِّدُ بِنصْرِه مَن يَشَاءُ. . .)، (كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا ورسُلِي. . .).
وإن العليم الحكيم هو الذي أنزل القرآن مشتملا على شريعته، ليكون القسطاس المستقيم، والحكم العدل، ولذا قال سبحانه:
* * *(4/1838)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ... (105)
* * *
يذكر العلماء في سبب نزول هذه الآية ما رواه الترمذي والحاكم وغيرهما عن قتادة بن النعمان، قال: كان أهل بيت منا، يقال لهم بنو أبيرق، ثلاثة: بشر وبشير ومبشر، وكان بشير منافقا، وقد كان طعام وسلاح لعمي رفاعة، كان قد ابتاعه فسُرِق منه، فقال: يا ابن أخي، قد عُدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مَشْربتنا (أي غرفتنا) وذهب بطعامنا وسلاحنا، فتحسسنا وسألنا، فقيل لنا: إن بني أبيرَق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نراهم إلا على بعض طعامكم. . ويسترسل قتادة في القصة، فيذكر أن بني أبيرق اتهموا رجلا له صلاح وإسلام، وهو لبيد بن سهل، فغضب وهدد بالسيف. . . فذهب قتادة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " سأنظر في ذلك "، فلما سمع بنو أبيرق، أتوا رجلا يقال له أسيد بن عروة، فكلموه في ذلك، فاجتمع بأناس، فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا، أهل إسلام وصلاح، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت، ويقول قتادة: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: " عمدت إلى أهل بيت إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير ثبت وبينة "!. فرجعت فأخبرت عمي، فلم يلبث أن نزل القرآن: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا)، وقد كشف أمر بشير فلحق بالمشركين مرتدا! (1).
________
(1) رواه الترمذي: تفسير القرآن - ومن سورة النساء (3036) عن قتادة بن النعمان.(4/1838)
وسواء أصح ذلك الخبر سببا للنزول أم لم يصح، فإن الآية لها صفة العموم، وتفسر بعمومها، لَا بخصوص سببها، ومعنى النص الكريم على ذلك: إن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن الكريم المكتوب المسجل ليحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما توجبه نصوصه، وبما يريه الله تعالى وينير قلبه لإدراك الحق.
وهنا ثلاث إشارات بيانية:
الأولى - أن الله تعالى عبر عن القرآن بـ " الكتاب " للإشارة إلى أنه مكتوب مسجل مدون، باق إلى يوم القيامة.
الثانية - كلمة " بالحق "، والباء تدل على الملابسة والاتصال والمعية، فهو مع الحق، وبالحق، وناطق بالحق، ومشتمل عليه، ولا شيء في هذا الكتاب إلا ما هو حق، ولا يخالفه إلا ما هو باطل.
الثالثة - قوله تعالى (بمَا أَرَاكَ اللَّهُ)، فإنها مقابلة لقوله تعالى: (إِنَّا أنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ)، وهذه المقابلة تقتضي أن تكون كلمة (بِمَا أَرَاكَ اللَّه) لها معنى خاص، وهو النظر بنور الله تعالى في الأقضية التي يقضى فيها، فالقاضي لكي يكون قضاؤه عدلا لابد من أمرين: أحدهما - قانون عادل هو الحق من كل نواحيه، وهو هنا الكتاب الكريم، الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - والثاني - أن يكون فحصه للقضية ببصيرة نيرة نافذة، وقلب مشرق مدرك، وهذا يكون بنور الله، وهو للنبي ما عبر عنه بقوله تعالى: (بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ).
ولكن نور الحق لَا يكون إلا إذا نظر القاضي فيما يعرض عليه نظرة غير متحيزة، ولا منحرفة، وهذا هو ما نهى الله عنه نبيه، والنهي لعموم أمته، ولذا قال تعالى:
(وَلا تَكُن للْخَائنينَ خَصيمًا) تبادر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في القصة السابقة أن من فيه صلاح وإسلام يكون علي الحق، فانحاز فكره ككل البشر، فالله سبحانه وتعالى نبهه، تعليما لأمته، ولكل قاض من بعده، إلى أنه لَا يجوز أن ينحاز فكره إلى أحد الخصمين، فعسى أن يكون هو الخائن، وغيره هو البريء، ولابد أن يسمع البينات، ويجعلها هي الحاكمة. والخصيم بمعنى المخاصم، كالجليس بمعنى(4/1839)
المجالس، والمعنى على هذا: ولا تكن أيها الرسول الأمين مخاصما لأجل الخائنين، بأن تجعل فكرك ينحاز إليهم قبل سماع البينات الهادية المرشدة إلى الحق.
وسُمي هؤلاء خائنون؛ لأنهم في علم الله كانوا كذلك، وهو يخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخيانتهم، والله تعالى خير شاهد.
وهذا إرشاد لكل قاض أن ينظر إلى المتخاصمين نظرا غير متحيز، لكي يستمع إلى البينات منصفا مقدرا، ويجعل الأدلة توجهه إلى الحق، ولا يوجهها.
وإن على كل قاض أن يستغفر الله دائما في أقضيته؛ لأنه لَا يدري: لعله أصاب الباطل! والعصمة لله تعالى وحده، ولأنبيائه، ولذا قال سبحانه:
* * *(4/1840)
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
(وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
* * *
الأمر في ظاهره للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في عمومه لكل أمته، ولكل قاض يفصل بين الناس. وطلب الاستغفار دائم يوجهه الله تعالى إلى النبي، وإلى كل مؤمن تقي، لأن الاستغفار إنابة، وعبادة، وهي مطلوبة. وإذا كانت القصة قد ذكرت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبادر إلى ذهنه براءة خائن، فإن هذا ليس بذنب، ولكنه يوجب الاستغفار من الرسول، فإن علو مقامه يجعل مثل هذه التي لَا تعتبر ذنبا من الناس، موجبة للاستغفار، على حد قول العلماء: (حسنات الأبرار سيئات المقربين).
وفوق ذلك فإن طلب الاستغفار، مع ما فيه من القنوت والطاعة، حث لكل قاض يفصل بين الناس على الاستغفار في كل قضية، وقد بين سبحانه أن هذا الاستغفار الضارع يقبله الله تعالى؛ لأنه سبحانه قد ثبت واستقر له أن المغفرة بأقصى درجاتها، والرحمة بأوسع معانيها، صفتان له سبحانه، وهذا معنى قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا).
وقد أكد سبحانه اتَصافه تعالى بهاتين الصفتين بأربعة مؤكدات: أولها - (إنَّ) التي تفيد التوكيد، وثانيها - (كان) التي تفيد الاستمرار، وثالثها - صيغة المبالغة في غفور ورحيم، ورابعها - الجملة الاسمية.
اللهم لَا تجعلنا في جانب الخائنين والعصاة، واجعلنا مع الأبرار الأتقياء.
* * *(4/1840)
(وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
* * *
الكلام مستمر في نهي المؤمنين عن أن يدافعوا عن رجل يظهر غير ما يبطن، أو يرتكب أمرا، ويحمِّل غيره وزره، فهو يرتكب الشر مرتين، ويتحمل إثمين: إثم الارتكاب وإثم رمي الأبرياء، والتدليس ولبس الحق بالباطل، وكان النهي موجها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ليبين وجوب الاحتراس على كل مؤمن، حتى لَا يقع في الدفاع عن الآثمين الخاطئين؛ لأنه إذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي ينزل عليه الوحي، إن اعتمد على نظره، قد يلبس الأمر عليه، فالاحتراس عن هذا أولى بكل مؤمن وأجدر، وقد قال سبحانه:(4/1841)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
(وَلا تجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانونَ أَنفُسَهُمْ) الجدال هنا الدفاع وإقامة الدليل لمصلحة الخائنين، وذلك للاسترسال في حسن الظن بالمظهر، وترك ما يختفي ولا يستبين، فإن ذلك إن جاز في السياسة لَا يجوز في القضاء، وإن جاز في حقوق الله تعالى لَا يجوز في حقوق العباد، ليعطي كل ذي حق حقه، ولكيلا تذهب الأموال والأنفس والدماء هدرا، فلا بد لإظهارها من تكشف المستور، وإظهار المخبوء.(4/1841)
والجدال في أصل معناه اللغوي مشتق من الجدْل بمعنى الفتل، أي تقوية الحجة، ويكون المجادل كمن يفتل الحبل ويقويه. وقيل إنه مأخوذ من الجدالة، والجدالة هي الأرض، فكل واحد من الخصمين يكون كالمصارع يريد أن يلقى صاحبه على الأرض. وإطلاق الجدالة على الأرض منه قولهم: تركته مُجَدَّلا، أي مطروحا على الأرض.
والاختيان، الذي هو مصدر (يَخْتَانونَ أَنفُسَهُمْ)، يُعَرِّفه الأصفهاني في مفرداته بأنه: " تحرك شهوة الإنسان لتحري الخيانة "، وتحرك الشهوة لتحري الخيانة قصد إليها وَتَعَمُّد لها، وعمل على إحكامها. والخيانة والنفاف باب واحد، موضعهما من النفس واحد.
ومعنى قوله تعالى: (الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ): الذين يقصدون خيانة أنفسهم، ويتحرونها، ويحكمون إخفاء المستور من جرائمهم. وأضيفت الخيانة للنفس؛ لأن الذين يصنعون ذلك إنما يحدثون في الأمة ذعرا عاما، يعود ضرره على الجماعة، ويعود عليهم أنفسهم، إذ يعيشون في جماعة قد فسد أمرها، وارتابت في شئونها، وضَلَّ عن الناس معرفة الحق، وغاب عنهم لبُّه!! وكذلك لأن تلك الخيانة مغبتها على أنفسهم شديدة أمام الله تعالى، وسيحاسبهم عليها من لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولأن هؤلاء الخائنين الذين يتحرون الخيانة، إنما يحلون فطرهم السليمة عن الفطرة التي فطرهم الله عليها، فيصيب الفساد نفوسهم، وتنحل كل العُرَا فيها، وبذلك تضطرب، وتكون في بلبال مستمر:
(إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) إذا كان الخائنون الذين تحروا الخيانة وقصدوها، وانحرفوا بفطرهم عن أصلها، ينالون العذاب في الدنيا بالحكم عليهم، وإعراض أهل الفضل عن معاونتهِم، فإنهم لَا ينالون حب الله تعالى، والمعنى الظاهر للنص: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ من كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) هو أن الله تعالى العلي الحكيم، الذي لَا تُرجى محبةَ سِواه، لَا يحب من كانت الخيانة وصفا(4/1842)
من أوصافه، وشأنا من شئونه، وخلقا من أخلاقه، ومن صار الإثم عادة له، حتى صار يوصف بأنه خوَّان، وأثيم. فكلمة خوان صيغة مبالغة معناها أن الخيانة صارت وصفا ملازما له، وكلمة أثيم صيغة مبالغة من إثم، تفيد أن الإثم صار وصفا ملازما!. وأن محبة الله تعالى شأن من شئونه سبحانه تليق بذاته الكريمة، وهي تتضمن معنى الرضوان، وتستلزم فيض رحمته ومنح غفرانه، فمن فقد محبة الله تعالى، فقد حرم من الرضوان، وحرم من رحمة الله تعالى التي تكون للتوابين، وحرم غفرانه؛ لأنه لَا يكون إلا لمن أحاطت به خطيئته، حتى لَا ينتقل إلا من إثم إلى إثم!!.
وقد أكد سبحانه نفي محبته لهؤلاء الذين أرْكسَت نفوسهم في الخيانة، ودنَّس الإثم نفوسهم، حتى أصبحوا لَا يعيشون إلا في آثام، بالجملة الاسمية المصدرة بحرف " إن " الدال على التوكيد.
وهنا إشارة معنوية: وهي أنه تعالى وصف الذين حرموا محبته بأنهم خوانون أثيمون؛ وذلك له معناه لأن اختيان النفس، وتعودها الخيانة يجرها إلى آثام كثيرة، فمن خان يسرق ويكذب، ويأكل أموال الناس بالباطل، ولا يتحرج عن إثم، فكأن الخيانة جاذبة معها كل الآثام!.
* * *(4/1843)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ ... (108)
* * *
إن أولئك الخوانين الأثيمين لا تنالهم محبة الله تعالى، ولا رحمته ولا مغفرته، ومن شأنهم أن يكونوا بعداء عن الناس غير ملتقين بهم، فهم دائما يستخفون من الناس ليدبروا ما يدبرون، ولأنهم في جفوة مستمرة، ولا يحبون الناس ولا يألفونهم، ولا يحبون لقاءهم، وإذا لقوهم أظهروا غير ما يكتمون، وأبدوا غير ما يخفون!. فالخائن لمجتمعه وأمته يتسم بسمة تجمع عيوبا ثلاثة: هذه السمة هي الاستخفاء، وهذه العيوب هي الجفوة التي تحمله على ألا يظهر، وكتمانه أمره حتى لَا يكشف، وتدبيره السوء في استخفائه! والباعث على ذلك كله الأنانية الظالمة، والأثَرة القاطعة!.(4/1843)
وإنهم إذ يستخفون من الناس لَا يشعرون برقابة الله على أعمالهم، لأن ذلك الشعور ينبعث من ضمير حي قوي موجه للنفس، والوجدان الديني القوي لا يكون في قلب جاف قاس، قد ترك الناس ولم يألفهم، وهذا معنى قوله تعالى: (وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ)، فهو مطلع عليهم، وإن كانوا لَا يشعرون، وعليم بأمرهم، وإن كانوا يستخفون من الناس، ويبتعدون عنهم.
والاستخفاء المبالغة في طلب الخفاء، والابتعاد، وذلك ليتسنى لهم تدبير ما يريدون، والله سبحانه معهم إذ يدبرون السوء، لذا قال سبحانه تعالت كلماته وجلت قدرته:
(وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) هؤلاء الذين يستخفون من الناس مجافين لهم، ولا يشعرون برقابة الله تعالى عليهم، والله مطلع على أقوالهم وأعمالهم، اطلاع من يصاحبهم في غدوهم ورواحهم، وهو معهم عندما يدبرون الأعمال في خفية من الناس والأقوال التي لا يرضي الله عنها. فالتبييت تدبير الأمر في البيات، أي الليل، وأطلق على كل ما يدبر بعيدا عن الناس، ويقول الزمخشري في معنى النص الكريم: " يدبرون ويزورون - وأصله أن يكون بالليل - ما لَا يرضي من القول. . . فإن قلت: كيف سمى التدبير قولا، وإنما هو معنى في النفس؛ قلت: لما حدَّث بذلك نفسه سمى قولا على المجاز ".
فالتبييت معناه التدبير في الخفاء مطلقا، سواء أكان تدبير قول يسترون به عملهم، ويزينون به مظهرهم، أم ترتيب عمل يخفونه، ويقومون به، فإن أعمال المنافقين جميعها تدبَّر بليل، وتنفذ بليل، حتى تظهر آثارها في الجماعة، ولكن الله سبحانه وتعالى ذكر القول فقط، فقال: " ما لَا يرضي من القول "، فلماذا ذكر القول وحده؛ لقد وجه الزمخشري سؤالا قريبا من هذا، وأجاب عنه، ونحن نقول: إنَّه ذكر القول وحده مقترنا بعدم رضا الله تعالى، لأن أقصى ما يتستر به المنافق قول مزخرف يضل، ولذلك بَيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عليم اللسان منافق القلب هو(4/1844)
أخوف من يخافه على أمته (1)، فعناية المنافق بالقول الذي يستر به عمله هي الجزء الأكبر من تدبيره، وإن عمل الليل سهل، ولكن إخفاءه بزخرف القول صعب عند ظهور آثاره. وفوق ذلك فإن القول إذا كان لَا رضى، فالعمل أبعد عن الرضا.
وقد عبر سبحانه عن فعلهم وقولهم بأنه لَا يرضاه، للإشارة إلى مقته لهم، وحسابهم عليه. وإذا كان الله تعالى عليما بما لَا يرضى من القول علم من يصاحبهم عند التدبير والتبييت، فهو بعملهم عليم أيضا، وهو أيضا لَا يرضى عنه، ولذا قال سبحانه:
(وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) فإذا كان الله تعالى مصاحبهم في قولهم الذي لَا يرضيه، فهو محيط دائم بكل عملهم إحاطة الدائرة بقطرها، لَا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة منه. والتعبير عن علم الله تعالى لأعمالهم بالإحاطة، فيه إشارة إلى أمور ثلاثة: أولها - أن علمه كامل لَا ينقصه شيء، فهو علم إحاطة واستغراق. وثانيها - أن الله معاقب بقدر ما ارتكبوا. وثالثها - أن الله واضع أعمالهم في دائرة، فلا يمكن أن يصل إلى أهل الحق أذاهم؛ لأن الله محيط بهم وبما يعملون:
* * *
________
(1) عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ. رواه أحمد: مسند العشرَة - أول مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(4/1845)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
(هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ... (109)
* * *
يستطيع أهل النفاق بحلو قولهم، وقدرتهم على تزوير الكلام وتحسينه، أن يجدوا لهم أنصارا من أهل الحق، يخدعون بمظهرهم، ولطف مداخلهم، فيظنون بهم الخير، ويندفعون للدفاع عنهم، والله سبحانه وتعالى يبين أن هذا الدفاع إن أجدى في الدنيا لهم، فهو جداء يؤدي إلى إيغالهم في الشر والفجور، وإذا كان ينجيهم من عذاب الدنيا، فلن ينجيهم من عذاب الآخرة، إذ لَا يكون العقاب إلا من علام الغيوب الذي لَا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، والجدال عنهم في الدنيا أمام البشر، أما الجدال عنهم في الآخرة، فهو أمام الله تعالى العليم(4/1845)
الحكيم، والشهود في يوم القيامة عليهم كثيرة متعددة، فإنه تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وألسنتهم بما كانوا يفعلون.
وهنا أربع إشارات بيانية:
أولها - التنبيه إلى مجادلة المؤمنين عن المنافقين، ووقوعها في الماضي، وتوقعها في القابل، وذلك للإشارة إلى حسن ظن المؤمنين بالناس. وقد قرر سبحانه التنبيه إلى ذلك في قوله تعالى: (هَا أَنتُمْ هَؤلاءِ)، فتكررت هاء التنبيه، وذكر اسم الإشارة الذي هو تنبيه ثالث، وذلك التنبيه إلى الواقع والمتوقع للتنبيه إلى الاحتراس، ومراقبة أنفسهم عندما يفرطون في الثقة بمن ليس بها جديرا.
ثانيها - التعبير بالماضي في قوله تعالى (جَادَلْتُمْ) مع أن النهي منصب على المستقبل، لبيان تحقق وقوع المجادلة عن المنافقين مع توقع وقوعها، إذ النهي لا يكون إلا عن أمر محتمل الوقوع في المستقبل، والصيغة تتضمن اللوم على الواقع، والنهي عما يمكن أن يقع.
ثالثها - الإشارة إلى أن المجادلة في الحياة الدنيا، إنما سببها الجهل بالقلوب، وعدم تحري ما تنطوي عليه، وأن حالهم ستنجلي يوم القيامة، فإذا كانوا يخدعون أهل الدنيا، فالله سبحانه كاشفهم وخادعهم يوم القيامة.
رابعها - أن الله سبحانه وتعالى نبَّه إلى أن المجادلة عنهم نوع من المحاماة عن الرذيلة، والدفاع عنها، ولذا قال سبحانه:
(أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) ومعنى النص الكريم: إذا كانوا يحامون عنهم، ويجادلون عنهم في الدنيا، فسيلقون ربهم يوم القيامة غير راض عنهم ولا محب لهم، فلا يُرحمون في ذلك اليوم، ولا يُغفر لهم؛ لأنهم لم يتوبوا، واستغرقت نفوسهم الخطيئة، ولا منجاة لهم من العذاب، ولا مخاصم عنهم أمام الله!! اللهم ارحم أمتك من نفاق المنافقين واجعلنا من عبادك المخلصين.
* * *(4/1846)
(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
* * *
في الآيات السابقة ذكر سبحانه أحوال المنافقين والذين يختانون أنفسهم، وأشار إلى الذين يرتكبون الشر، ويرمون به غيرهم، وما يجب أن يكون عليه القاضي المنصف الذي يرد الحقوق إلى أصحابها، وتكون عنده المقاسم الحقيقية للحق والباطل، وكل ذلك في الأحكام الدنيوية. وفي هذا النص يبين الله سبحانه مراتب العصاة أمام الله تعالى فذكر ثلاث مراتب: المرتبة الأولى مرتبة التوابين، والثانية مرتبة الذين لَا تتعدى آثامهم أنفسهم أو لَا يرمون بها غيرهم، والثالثة، وهي التي تنال أشد الجزاء الأخروى بعد الخزي الدنيوي، هي التي ترتكب الشر وترمي به غيرها. وقد بين الله سبحانه الرتبة الأولى بقوله تعالى:(4/1847)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) السوء هو الأمر الذي يحدث غما وألما، سواء أكان لفاعله، أم كان لغير فاعله، ولكن بمقابلته بقوله تعالى:(4/1847)
(أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) لَا بد من أن تفسر الكلمتان بمعنيين متغايرين، وقد تكلم في ذلك المفسرون، وأحسن ما رأينا هو ما قاله الزمخشري من أن السوء هو ما يكون فيه أذى للغير، كالقذف والشتم والسب، ونحو ذلك، وأما ما يكون فيه ظلم للنفس، فهو ما لَا يكون فيه أذى مباشر للغير ابتداء، كالفاحشة، وشرب الخمر، وترك الصلاة والصوم والحج، وغير ذلك من المعاصي التي لَا تتجاوز غير صاحبها مباشرة وابتداء، وإن كانت في مآلها تتعدى إذا تفشت الأمة وكثرت فيها.
ولا بد أن نذكر بإجمال عبارات في بعض الإشارات البيانية القرآنية: الأولى - عن التعبير بقوله تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا) فإن هذا التعبير يشير إلى أن نفسه لم تركس في الشر، ولم يستغرقها، بل إنه عمل عارض، ولذا كان التعبير (يَعْمَلْ)، وهذا في مقابل قوله في الطبقة الثانية: (يَكْسِبْ)، فإن الكسب كما تبين يشير إلى تدنس النفس، وارتكاسها في الشر، أما العمل ففي ظاهر الأمر إنه لَا يتجاوز الجوارح؛ ولذا كانت التوبة قريبة، وكان الاستغفار غير بعيد.
الثانية - أن التعبير عن المعاصي الشخصية التي لَا تتعدى صاحبها ابتداء بظلم النفس، فيه معان واضحة، فهي تفيد أن كل ما نهى الله عنه فلمصلحة العبد، فإن تجاوز حدود ما نهى الله عنه فقد وقع في ضرر مؤكد. وفيه تنبيه إلى أن المعاصي، سواء أكانت إيجابية كشرب الخمر، أم سلبية كترك الصلاة والصوم، مغبة وقوعها تكون على العبد ابتداء، ثم تكون على غيره من بعد.
وفى الحق أن كل ما نهى الله عنه، وما أمر به فهو لمصلحة الجماعة، ومخالفة أمر الله فيه ظلم للنفس وإساءة للمجتمع، بيد أن بعضه يكون أثره مباشرا، إما على الغير كالقتل والاعتداء بكل أنواعه، أو يكون أثره المباشر على شخص المرتكب، ثم يتعدى إلى المجتمع من وراء ذلك، حتى أن مَنْ ظَلَمَ النفس عده الله تعالى اعتداء على حقه تعالى، كالزنا وشرب الخمر، وكونه ظلما للنفس لا يمنع أنه اعتداء على حق الله تعالى وذلك للمآل والآثار، لَا بالمباشرة.(4/1848)
الثالثة - أن التعبير بـ " ثم " في قوله تعالى: (ثم يستغفر الله) - للإشارة إلى تفاوت ما بين المعصية والاستغفار، فالتراخي الذي دلت عليه كلمة " ثم " تفاوت معنوي، وليس بتراخ زمني لأن من يعمل السوء أو يظلم نفسه من غير أن يحيط بالنفس، توبته قريبة، كما قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17).
والاستغفار هو طلب المغفرة، وذلك يقتضي الإقلاع عن الذنب، والندم على ما كان منه، والالتجاء إلى الله تعالى فالاستغفار هو التوبة النصوح، ومن مقتضيات هذه التوبة أن يرد الحقوق إلى أصحابها، ويطلب العفو ممن أساء إليه؛ لأن حقوق العباد لَا تتحقق فيها التوبة إلا إذا ردت إلى أصحابها، أو كان العفو منهم.
وقوله تعالى: (يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا)، يفيد استجابة طلب الغفران إن تحققت شرائطه، ولم يصب النفس بدنس، فالمعنى إن استغفر وتاب وأناب استحق المغفرة، لأنه يعلم وصف الله تعالى لذاته العلية بأنه المتصف بصفة الغفران والرحمة، وكان من رحمته أن يقبل توبة التائب، ويعاقب العاصي المصر. ثم ذكر سبحانه المرتبة الثانية في المعاصي بقوله:
* * *(4/1849)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
(وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
* * *
الكسب معناه طلب ما يرغبه الإنسان، ويطلق الكسب على ما يناله الإنسان من أمور الدنيا، وما تناله النفس من حظوظها أو ما تراه حظا لها، وقد ورد الكسب في القرآن بمعنى طلب الرزق، وورد بمعنى فعل الخير، وورد بمعنى فعل الإثم.
ولاحظنا في تعبيرات القرآن عن كسب الآثام أنها تقرن بما تدل على استمراء النفس للشر، وتأثرها به، فقد قال تعالى: (. . . أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ. . .)، أي تمنع من الخير بسبب ما كسبته من ذنوب، وقال تعالى: (. . . أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا. . .)، وقال تعالى: (. . . إِن الَّذِينَ(4/1849)
يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ)، وغير ذلك. ولذلك يصح أن نفسر كسب الإثم بأن يتحراه وتَتَدرَّن به نفسه، حتى يصير كسبا رديئا لهأ وذلك أن الشر إذا ارتكبه الإنسان خط في النفس خطا، فإذا تكرر ذلك كثرت الخطوط السوداء، حتى يَرَبدَّ القلب، وبذلك يكون قد كسب الإثم، وهو الذنب المبطئ عن الله تعالى.
ومن وصل الشر في نفسه إلى هذا الحد، فإن ذلك الذي اكتسبه لَا يعود بالشر ابتداء إلا على نفسه، لأنه أفسد فطرتها، وحولها عن طريق الانتفاع بها إلى أركاسها في الشر. وخسارة الشرير في نفسه أكثر من خسارة الناس فيه، ولأنه يصير من الشُذَّاب الذين تلفظهم الجماعات الإنسانية، ولأن عذاب الله يستقبله، ولذا قال سبحانه مهددا بأنه عالم بما يرتكب، ولو أخفاه، حكيم، يضع لكل امرئ ما يستحق، فلا يتساوى عنده المسيء مع المحسن وهو وحده المتصف بأعلى درجات العلم والحكمة.
ويلاحظ في الفرق بين التعبير في الآية السابقة وهذه الآية أمران: أولهما - أنه عبر في الأولى عن مرتكب الشرب " يعمل " وقد بينا ما فهمناه من ذلك، وفي هذه الآية عبر بـ " يكسب "، للإشارة التي تدنس النفس بالشر، واسوداد القلب به، حتى اربدَّ، وأصبح لَا نور فيه.
ثانيهما - أنه لم يعبر عن الشر الذي وقع في الأولى بالإثم، بل عبر بالسوء أو الظلم للنفس، وهنا عبر بالإثم المبطئ المبعد عن الله تعالى، لأن الشخص في الحال السابقة قريب من الخير بالتوبة القريبة، أما هنا فحاله حال من تبطؤ توبته. وقد قال سبحانه في المرتبة الكبرى من الشر:
* * *(4/1850)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
(وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ... (112)
* * *
الخطأ هو العدول عن الجهة، وقد قال في تفسيره الأصفهاني في مفرداته: (الخطأ العدول عن الجهة، وذلك أضرب: أحدها - أن يريد غير ما تَحسُن إرادته، وهو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان، يقال خطئ(4/1850)
يخطأ خِطئا، وخطأة، قال تعالى: (. . . إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا)، وقال تعالى: (. . . وَإِن كنَّا لَخَاطِئِينَ). والثاني - أن يريد ما يحسن فعله، ولكن يقع منه خلاف ما يريد، فيقال: أخطأ، إخطاءً، فهو مخطئ، وهذا قد أصاب في الإرادة، وأخطأ في الفعل، وهذا هو المعنى بقوله عليه الصلاة والسلام: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " (1)، وبقوله عليه الصلاة والسلام: " من اجتهد فأخطأ فله أجره " (2)، وقوله تعالى: (. . . وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. . .)، والثالث - أن يريد ما لَا يحسن فعله، فيقع خلافه، فهذا يخطئ في الإرادة ومصيب في الفعل).
ومنها يتبين أن الخطأ الكامل ما يكون انحرافا في الإرادة، بأن يريد ما لا تصح إرادته، ويأثم بهذه الإرادة، ومن ذلك كلمة " خطيئة " فإنها تستعمل في كثير من آي القرآن فيمن يرتكب الشر، منحرف النفس،، حتى أنه يصدر عنه من غير تكلف، ولا معاناة، ومن ذلك قوله تعالى: (بَلَى من كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بهِ خَطِيئَتُة. . .)، وقوله تعالى أيضا: (. . . وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا (24) مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا. . .)، وكانت الخاطئة هي الذنب العظيم، ومن ذلك قوله تعالى: (. . . وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ).
وعلى ضوء هذه المعاني نقول: إن الخطيئة هنا في قوله تعالى: (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً) هي الذنب العظيم، الذي تمرست به النفس، حتى صار وصفا من أوصافها، يصدر عنها من غير قصد، بل هو انحراف النفس التي أحاطت بها ظلمات الشر، والإثم هو الذنب المبطئ عن الاتجاه إلى الله بالاستغفار.
________
(1) سبق تخريجه.
(2) عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ ". [البخاري: الاعتصام بالكتاب والسنة - أجر الحاكم إذا اجتهد (7352)، ومسلم: الأقضية - أجر الحاكم. (1716)،(4/1851)
وإن جريمة هؤلاء جريمتان: إحداهما ارتكاب الشر والإيغال فيه، والثانية أنهِم يرمون البرآء به، ولذا قال تعالى: (ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينَا).
وإن هذه الجريمة تتضمن هي الأخرى في ثناياها جريمتين: إحداهما - البهتان، وهو الكذب الذي لَا يتصور عند أهل الخير وقوعه، والثانية - إثم واضح، وهو إلقاء التبعة على الغير، إذ إنه كذب حير البريء وأذْهله.
وإن هؤلاء، مع هذه الذنوب التي يرتكبونها، منافقون يظهرون غير ما يبطنون، وهم شر الجماعة الذين يسعون بالفساد في الأرض، وأن السعاية التي يرتكبونها بنفاقهم توجب قطعهم عن الأمة، ولقد أوجب بعض الفقهاء عقابهم. وإن هؤلاء يفسدون الحكام على شعوبهم، ويسعون في الأرض فسادا بجرمهم، وإن الله يحذر نبيه من أمثالهم، وهو قدوة حسنة لكل الحكام.
* * *(4/1852)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
(وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ... (113)
* * *
الضمير في قوله تعالى: (لَهَمَّت طَائِفَةٌ منْهُمْ) يعود على ما يفهم ضمنا من حال هؤلاء الذين أُرِكست نفوسهم في الخطايا، حتى أصبحوا يقدمون عليها من غير قصد خاص إليها، كأن ذلك حال من أحوالهم، فهم منافقون يبتغون الفتنة في الذين آمنوا، وأول فتنة وأقوى فتنة هي التي تجيء في الحكام، فتبعد ما بينهم وبين الأخيار من الأمة، ويتقرب بها الأشرار الذين يرتكبون الشر، ويرمون به الأبرياء. ومعنى النص الكريم: إن أولئك المنافقين العصاة جريئون على رمي الأبرياء وتضليل الحكام. ولولا أن الله تعالى مَنَّ عليك بفضله العميم، ورحمته الواسعة، لهمت طائفة منهم أن يجعلوك في ضلال بالنسبة لمن تحكمهم وتهديهم، فهم لم يهموا بذلك؛ لأنهم يعلمون فضل الله تعالى عليه بالوحي الذي يبين له الحق، ورحمته الواسعة التي يمن بها عليه وعلى قومه، فلا يكون منهم ما يعنتهم، كما قال تعالى في وصف نبيه عليه الصلاة والسلام: (. . . عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رحِيمٌ)(4/1852)
وإن هؤلاء إذا حاولوا هذه المحاولة أو لم يحاولوها، واستمروا في غيهم يعمهون، فإنهم باستمرارهم في هذه الغواية يسيرون إلى أقصى المدى في الشر، فيبعدون عن الهداية، ولذلك لَا يُضلون إلا أنفسهم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لن يضل أبدا، وإنهم لَا يضرونه بأي قدر من الضرر، ولا بأي نوع منه؛ لأن الله حافظه، وحافظ من اتبعوه إلى يوم القيامة. وقد بين الله حصانه نبيه، إذ قال: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) هداية كاملة بالرسالة، بينها الله سبحانه وتعالى بأن الكتاب أنزل عليه مبينا به الشريعة الحق التي لَا يأتيها الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو يحكم بقانون القرآن، وعلَّمه الرسالة، وأنزل عليه الحكمة، وهي الفهم الصحيح، وفقه الوقائع، والمسائل: فلا يقضى إلا بالحق. وقد فسر الإمام الشافعي الحكمة بالسنة، وإن هذا التفسير له موضعه من الحق، فالله تعالى أنزل عليه الوحي بالسنة، فما كان ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى.
وإنه يعلم القرآن، وبالحكمة التي أنزلها على قلبه، قد أنار الله بصيرته، فعلمه علما كثيرا لم يكن يعلمه، وكان فضله بهذه الرسالة، وبهذا القرآن، وبهذه الحكمة، وبهذا العلم النوراني الذي علمه إياه، عظيما لَا حدود لعظمته. وإن هؤلاء الذين يَسعَوْن في الأرض فسادا، كانوا يحاولون أن يضلوا النبي، لولا كتاب الله الذي أنزل عليه، وحكمته التي أوحى بها إليه، وما علمه من علم، وأن أمثالهم في كل زمان، وهم أجرأ على الحكام؛ إذ لَا هداية من السماء تنزل على الحاكمين، فلا حواجز تحجزهم عن السعاية بالشر، فعلى الحكام أن يأخذوا حذرهم منهم، ولا يجعلوا منهم ألسنة تحكي حال غيرهم، بل عليهم أن يقطعوها، والله من ورائهم محيط.
* * *(4/1853)
(لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
* * *
في آخر الآيات السابقة، أشار سبحانه إلى أن هناك طائفة تدبر التدابير للإخلال والإضرار، وأن الله تعالى مبطل مكرهم وتدبيرهم الشر، وفي هذا النص الكريم يشير إلى أن الشر لَا يدبر إلا في خفاء، ولا يكون في إعلان، وأن الناس يعلنون خيرهم ويخفون شرهم. والإسرار بمقتضى الطبيعة البشرية لَا يكون إلا فيما يُخشى إعلانه، ويتقى اطلاع الناس عليه، ولكن مع ذلك قد يكون من الخير الإسرار في بعض الأمور، ولذا قال تعالى:(4/1854)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
(لا خَيْرَ فِي كنِيرٍ من نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) يقول الأصفهاني في مفرداته في بيان النجوى: إن أصل هذه المادهَ الانفصال عن الشيء، والنجوة والنجاة المكان المرتفع، والنجوى عنده اسم مصدر للمناجاة، وهي المُسَارَّة، وهي عنده أن تخلو بإنسان وتخاطبه كأنك تسر إليه شيئا، ولا خير في كثير من هذه المناجاة، إلا أن تكون أمرًا بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. فالأمر الأول من التناجي المحمود هو الأمر بالصدقة، والصدقة هي التبرع والتطوع بفعل الخير، من إنفاق مال، أو مساعدة ضعيف، أو إنظار مدين معسر، أو ترك الدين والعفو عنه، يقول تعالى: (وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لكُمْ. .).(4/1854)
وقال عليه الصلاة والسلام: " ما تأكله العافية فهو صدقة " (1)، أي ما يقدمه الإنسان من قوة بدنية فهو صدقة، فمعونة الضعيف على حمل ما يحمل صدقة، وبهذا التفسير العام لكلمة الصدقة نقول: كل ما يقدم من معونة إنسانية بالبدن أو المال، عطاء أو تركا، وكل ما يتسامح فيه الإنسان: تأليفا لقلب محب، يكون صدقة، بل إن بعض العلماء جعلها تعم كل أبواب الخير، ومن ذلك قوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل معروف صدقة " (2).
والأمر الثاني من التناجي المحمود: الأمر بالمعروف في لغة القرآن الكريم معناها ما يقره العقل ولا يستنكره، ويقوي الروابط الاجتماعية، ويقيمها على دعائم من الفضيلة ورعاية الحقوق والواجبات، فالمعروف لفظ يعم كل أعمال البر، وخصوصا الاجتماعية منها: وإن المعروف مقابل المنكر. من حيث معناه، ومن حيث حكمه. فالمنكر هو كل ما يضر الإنسان والمجتمع، وهو منهي عنه، والمعروف كل ما يصلح الإنسان والمجتمع، وهو مأمور به مطلوب. فالتناجي لتدبير خطة إصلاحية، ومبادئ اجتماعية، وقيام بحق الله تعالى في إقامة مجتمع فاضل، هو من أفضل الفضائل. وإن المعروف يجب القيام به حيثما لاحت فرصته، وقد قال في ذلك الماوردي في كتابه القيم " أدب الدنيا والدين ": " ينبغي لمن يقدر على إسداء المعروف
________
(1) هذا الحديث رواه أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند جابر بن عبد الله (14226)، والدارمي: البيوع - من أحيا أرضا ميتة فهي له (2607). عن جابر رضي الله عنه.
وتأتي رواية مسلم: المساقاة (1552) عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا إِلَّا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ مِنْهُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ ". قلت: فليس المقصود هنا بالعافية القوة البدنية، كما سيأتي بعد. ولا عطر بعد عروس.
(2) رواه البخاري: الأدب - كل معروف صدقة (6021) عن جابر رضي الله عنه، ومسلم: الزكاة - بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (1005) عن حذيفة رضي الله عنه.(4/1855)
أن يجعله حذار فواته، ويبادر خفية عجزه، وليعلم أنه من فرص زمانه، وغنائم إمكانه.
والأمر الثالث الذي يصح التناجي فيه: أمر الإصلاح بين الناس، سوإء كانوا جماعات وأمما، أم كانوا آحادا وأفرادا. والإصلاح بين الناس فريضة اجتماعية تجب على أولي العزم من الرجال، وهي ضريبة ذي الجاه والمنزلة، فإذا كان بين اثنين خصام وأزاله، فقد قرب الله بين قلبين، وإن القضاء والفصل في الخصومات يورث في القلوب إحنا، بينما الصلح بينهم يبقي المودة. ولقد قال في ذلك الإمام عمر - رضي الله عنه - في كتابه إلى أبي موسى الأشعري " رد الخصوم حتى يصطلحوا، فإن القضاء يورث بينهم الضغائن "، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من أصلح بين اثنين أعطاه الله تعالى بكل كلمة عتق رقبة " (1)، وقال عليه الصلاة والسلام لأبى أيوب الأنصاري: " ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله؛ تصلح بين أناس إذا تفاسدوا، وتقرب بينهم إذا تباعدوا " (2).
والإصلاح بين الجماعات المتناحرة أوفر خيرا من إصلاح الآحاد، والله
تعالى يقول: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10). فكرر سبحانه الأمر بالإصلاح قبل القتال وبعده، وفي أثنائه.
وإن الذي أذهب النخوة من المسلمين قتال كبرائهم، وعدم وجود من يصلح ذات البين بينهم، حتى ترامى بعضهم في أحضان أعدائه وأعداء الله، وإثم ذلك على من لم يسع بالصلح، ورأب الكَلْم.
________
(1) ذكره مع ما يليه القرطبي في التفسيرج 5، ص 382. عن أنس بن مالك. وذكر القرطبي أخبارا أخرى ثم قال: ذكر هذه الأخبار أبو مطيع مكحول بن المفضّل النسفيّ في كتاب اللؤْلُئيّات له، وجدته بخط المصنف في وريقة ولم ينبه على موضعها رضي الله عنه.
(2) المرجع السابق.(4/1856)
(وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) العبادات في الإسلام ليست مقصورة على الصلاة والصوم والحج، بل إن كل عمل فيه خير إذا قصد به إرضاء الله سبحانه وتعالى يكون عبادة، ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى " (1) وإن محبة أي شيء لله تعالى عبادة، ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا لله " (2).
ومن أجل هذا كان من يفعل الخير بالتناجي والتعاون على إصلاح الجماعة، بإفشاء البر والإصلاح بين الناس، وإقامة المعروف، وإبعاد المنكر - من يفعل ذلك طالبا مرضاة الله تعالى ولا يبغي سواه، فإن الله تعالى سيؤتيه جزاء عظيما بالغا أقصى درجاث العظمة. وسوف هنا لتأكيد الوقوع في المستقبل.
وعلى الناس من بعد أن يطلبوا مرضاة الله بقوة إيمان في كل ما يتجهون إليه من إصلاح شئون الجماعة، فلا بركة في عمل، مهما يكن صالحا في ذاته، إلا إذا طلب به إرضاء الله، فالقوانين والثظم التعاونية والاشتراكية إذا لم يقصد بها وجه الله لَا بركة فيها. فعلينا أن نتجه إلى الله في كل ما نعمل:
* * *
________
(1) متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
(2) سبق تخريج ما في معناها من حديث صحيح.(4/1857)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
(وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ... (115)
* * *
إن الكثير الذي يتناجى به الآثمون هو في أكثر أحواله يكون منشؤه أنهم لا يندمجون بإحساسهم مع المؤمنين، فهم في جانب بإحساسهم وشعورهم، والرسول والمؤمنون في جانب آخر، وهم في الجانب الذي اختاروه يجعلون السلطان عليهم لجماعة أخرى، كأولئك المنافقين الذين كانوا يجعلون نصرهم في أمرهم لليهود أو للمشركين، وهذا معنى قوله تعالى: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى)، والشقاق أو المشاقة، وهو أن يكون في شق، والآخرون في شق، أي يكون في جانب بإحساسه وولائه، والرسول والمؤمنون في جانب آخر بإيمانهم وولائهم لله تعالى، وذلك كله بعد أن يتبين له الحق وقامت أدلة الهداية.(4/1857)
ومن يفعل ذلك فإنه يكون قد خرج من ولاية المؤمنين ونصرتهم إلى ولاية من يتولونه ونصرته، أي أنهم يكونون قد انضموا إلى أعداء الله تعالى!.
وقد قال الإمام الطبري في تفسير هذا النص: " ومن يباين الرسول من بعد ما تبين له أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ويتبع طريقا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجا غير منهاجهم، وذلك هو الكفر بالله؛ لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجه.
(نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى): يجعل ناصره ما استنصره، واستعان به "، ونرى من هذا أنه يجعل الشاقين كافرين، وذلك حق، ولكننا نخصهم بالمنافقين من الكفار؛ لأنهم الذين كانوا مع إظهارهم الإسلام يكونون في شق، والمؤمنون والرسول معهم في جانب الحق، وقد ذكر سبحانه العقوبة المترتبة على ذلك فقال:
(وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) أصل الصلى إيقاد النار، وصلى بالنار بلى بها، وصلى النار دخل فيها، وأصلاه فيها أدخله فيها، فمعنى قوله تعالى:
(وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) أدخلناه جهنم يشوى فيها كما تشوى الشاة، وأنها باقية، وهو يخلد فيها لَا يخرج منها يوم القيامة أبدا. كذا قال تعالى: (وَسَاءَتْ مَصِيرًا) أي أنها مصيره الدائم الباقي ولا مصير له سوأه؛ لأنه كافر معاند للحق بعد أن تبينت له كل الأدلة المثبتة، وما أشد ذلك المصير سوءا وقبحا، وهو جزاء لما كانوا يعملون.
وقبل أن نختم الكلام في ذلك النص نقول: إن بعض علماء أصول الفقه قالوا إن هذه الآية دليل على أن الإجماع حجة وينسبون ذلك الاستدلال إلى الشافعي، ولم نجد فيما كتبه الإمام الجليل ما يدل على أنه استشهد بها في بيان حجية الإجماع، ولا نجد روح الآية ومعناها يدل على ذلك لأنها كانت في قوم منافقين كافرين، شاقوا الرسول والمؤمنين. وقد رد الغزالي في كتاب " المستصفى " القول بأنها دليل على حجية الإجماع، وكان كلامه حقا، والله سبحانه وتعالى أعلم، اللهم لَا تجعل ولايتنا لغيرك واجعل ولايتنا لك ولرسولك وللمؤمنين.
* * *(4/1858)
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
* * *
كانت الآية السابقة على هذه النصوص مبينة مصير أولئك الذين يكونون في شق، والنبي وأصحابه في شِق آخر، يوالون أعداء المسلمين، ويناصرونهم، ويتخذون النصرة منهم، لَا يرجون خيرا إلا منهم، ولا يقدمون الولاء لغيرهم، وفى هذا النص الكريم يفتح الله تعالى باب التوبة والغفران لهم، حتى لَا يسرفوا على أنفسهم، ويقنطوا من رحمة الله تعالى، وقد نهى سبحانه وتعالى عن ذلك فقال: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).
وفى نص الآية التي نتصدى للكلام في معناها، يبين سبحانه أن كل ذنب قابل للغفران عند التوبة إلا أن يكون مشركا مصرا على الشرك:(4/1859)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ) أي أن الله سبحانه وتعالى لَا يغفر الشرك به، والمراد بالشرك أن يعبد مع الله تعالى غيره، فالشرك في ذاته غير قابل للغفران، لأنه إلغاء لمعنى الوحدانية التي هي سمة الإسلام، وروح العبادة ومعناها. وإنه يدخل في الإشراك بالله إنكار رسالة الرسل، بعد قيام الأدلة القطعية، لأن ذلك تحكيم للهوى، وإبطال للغاية من الوحدانية، إذ هي طريق العبادة الصحيحة، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).(4/1859)
فإذا كانت العبادة الصحيحة هي ثمرة الخلق والتكوين والخضوع المطلق لسلطان الله تعالى، فإن العبادة في القول والعمل ومعرفة الكون لَا تكون إلا برسالة الله تعالى وحده إلى الإنسان، فمن كفر بهذه الرسالة فقد ألغى معنى الوحدانية.
والله تعالى لَا يغفر الشرك، وكان تعبيره سبحانه بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ) للإشارة إلى أنه لَا يغفر ذات الشرك، ولكن يغفر للمشرك إذا خلعه وتاب عنه، ودخل فيما يدعو إليه الرسل، كما قال تعالى: (قُل لِلَّذِينَ كفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ).
ولذلك أضيف نفي الغفران إلى الشرك لَا إلى من تلبس به، فإن الغفران يلحقه إذا خلعه.
وما دون الشرك وإنكار الرسالة من العاصي، يكون تحت غفران الله سبحانه وتعالى، ويتعلق بمشيئته، ومشيئته سبحانه قد أشار إلى بعض ما تتعلق به من أعمال العباد، ومنها التوبة، فإن التوبة النصوح تخلع المؤمن من ذل المعصية إلى عزة القبول، ومنها كثرة الحسنات وقلة السيئات، فان الله تعالى يقول: (. . . إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. . .). فمن رجحت كفة الحسنات في ميزانه يوم القيامة، قد وعدنا رب العالمين بأنه يغفر له، ومشيئة الله تعالى لا حدود لها، ولكن منها ما بينه.
وقد قالوا في سبب نزول هذه الآية: إنه جاء شيخ من العرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني شيخ منهمك في الذنوب، إلا أني لم أشرك بالله منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أوقع المعاصي جرأة على الله تعالى ولا مكابرة له، وما توهمت طرفة عين أني أعجز الله هربا، وإني لنادم مستغفر، فما ترى حالي عند الله؟ فنزلت هذه الآية (1).
________
(1) أخرجه الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما في تفسير الآلوسي، وذكره القرطبي في التفسيرج 5، ص هـ 38 عن الضحاك.(4/1860)
وفيها ما يدل على أن الله يغفر للتائبين المستغفرين الخارجين من نطاق المعصية إلى سعة الفضيلة، وإن ذلك لَا يمنع غفران الله تعالى لمن كانت له معاصي وطاعات، والمعاصي لم تغلب عليه ولم تفسد نفسه، بل استمر قلبه مضيئا بنور الإيمان والحق.
(وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا) قد يسأل سائل: إذا كانت التوبة تجبُّ ما قبلها، والإيمان يجبّ ما قبله، فإذا انخلع الشرك، وحلت محله عقيدة الوحدانية، وغفر الله ما تقدم من الشرك، كما ورد النص الذي تلوناه، فلماذا يفرق بين الشرك وغيره من المعاصي؟ والجواب عن ذلك أن الشرك إذا سكن النفس واستقر فيها، كان الخروج منه صعبا وعسيرا، ولذا قال سبحانه: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا).
والضلال هو السير في غير الطريق الموصل، فالضال في بادية يسير في غير طريق النجاة، وكلما بعد عن الطريق المستقيم أوْغَل في الضلال، والمشرك الذي تدرنت نفسه بالشرك قد ضل عن طريق النجاة، وكلما استمر في سيره كان مستمرا في الضلال، فمن يشرك بالله غيره، فَيدَّعي أن له شريكا في الخلق والتكوين، أو في الوجود مما يماثله ذاتا أو صفات، أو يدعي أنه يستحق العبادة معه، فقد سار في طريق الشر سيرا بعيدا، ومن ضل سيجد كلما سار أبوابا من الشر، فمن كان في بحبوحة الإيمان قريب الرجوع، وتكون له حسنات بجوار السيئات، فيكون باب الغفران مفتوحا، أما من أشرك بالله، فقد كان في معاص مستمرة، وليس له من الحسنات ما يرجح كفة الميزان؛ لأن الشرك يقتل الحسنات قتلا، فلا تقبل فيه طاعة.
والشرك هنا هو نقيض الوحدانية، وهناك شرك خفي، وهو أنه يرائي في عبادته، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك " (1)!.
________
(1) رواه أحمد عن شداد بن أوس، وقد سبق تخريجه.(4/1861)
ولا نرى أن هذا النوع من الشرك داخل في موضوع الشرك الذي ينفي عنه الغفران؛ لأن هذا النوع يقتل ما في العبادة من خير، وقد يكون للمرائي خير آخر، كالبر بأسرته. والعطف على الجيران. والتعاون الاجتماعي الخالص.
وقد بين سبحانه صورا من ضلال المشركين، وهي:
(1) عبادة من لَا يتصور عبادته عاقل مدرك. إدراكا خاليا من التأثر بالباطل.
(2) ومنها خضوعهم المطلق للشيطان.
(3) ومنها توهم التقرب بما لَا يتصور عقلا أنه مقرب، كتقطيع آذان الإبل والبقر والغنم وتغيير خلق الله تعالى فيها، ولذلك قال تعالى:
* * *(4/1862)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
(إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
* * *
" إن " هنا هي النافية، والدعاء هنا العبادة، والالتجاء لإنقاذه من الهلاك أو المرض أو الكوارث بشكل عام. والمعنى: لَا يتجهون في عبادتهم وضراعتهم بعد الله سبحانه ذي الجلال والإكرام إلا إلى إناث قد استبدلوهن بعبادة الله. فهم قد تركوا عبادة القوي القادر القاهر الذي هو فوق كل شيء، إلى عبادة العاجز الذي لَا يستطيع حماية نفسه ورفع الضر عنه! فالعبارة تفيد بمرماها أنهم تركوا عبادة من يحميهم ويكلؤهم إلى من لَا يستطيع حماية نفسه.
ولكن لماذا عبر عن الأوثان التي كانوا يعبدونها بالإناث؟ قد ذكر العلماء لذلك ثلاثة تعليلات مختلفة: أولها - أن العرب كانت عندهم أوثان تتسمى بأسماء إناث، كاللات والعزَّى ومناة؛ وعن الحسن البصري، أنه لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يسمونه: أنثى بني فلان، وثانيها - أنهم كانوا يقولون عن أصنانهم: بنات الله، تعالى الله عما يقولون. وثالثها - ما قرره الأصفهاني من أن المراد جماداتهم التي كانوا يعبدونها، فقال: " لما كانت معبوداتهم من جملة الجمادات التي هي منفعلة، لَا فاعلة، سماها الله تعالى(4/1862)
أنثى، وبكَّتهم بها، ونبههم على جهلهم واعتقاداتهم فيها، مع أنها آلهة لَا تعقل ولا تسمع ولا تبصر، بل لَا تفعل فعلا بوجه من الوجوه ".
وخلاصة هذه التعليلات أن الله تعالى يبين ضلال الشرك بأن العابد فيه لا يعبد إلا ما هو كالإناث، يحتاج إلى من يحميه ولا يحمي أحدا، ويترك عبادة الله تعالى القهار القادر على كل شيء. الذي لَا يوجد ذو قوة في هذا الوجود إلا كان يستمد قوته منه سبحانه.
وإن الذي يدفعهم إلى ذلك هو وسوسة الشييطان الذي كان سلطانه عليهم كسلطان المعبود الذي يعبد! ولذلك يقول تعالى:
(وَإِن يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَّرِيدًا) " المريد " على وزن فعيل من الفعل (مرد)، وهذا الفعل يطلق بعدة إطلاقات، منها أن (مرد)، معناها مَرَن على الشر، ومن ذلك قوله تعالى (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ)، ومنها أنه من يخرج على الطاعة، ومن ذلك (مارد، ومتمرد)، ويطلق على من ظهر شره، وتجرد من الخير، ومن هذا (شجرة مرداء) إذا تساقط ورقها وظهرت عيدانها. وإن الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس ويدفعها إلى الشر، فيه كل هذه الأوصاف، فهو قد تعوَّد الشر، وهو قد عتا، وهو قد خرج على الطاعة لله تعالى، وهو قد تجرد من كل خير، فيكون المعنى على هذا: إنهم يدعون، أي يعبدون، في الواقع شيطانا قد عتا، وتجرد من الخير، وتعود الشر، فلا يكون منه إلا شر، وإذا كان هؤلاء يلجأون إليه في دعائهم، وكأنهم يعبدونه، إذ يعبدون الأوثان التي زينها لهم، فهم في أبعد الضلال، ويسلكون طرقا من الشر متعددة! وقد ذكر سبحانه ما يفعله الشييطان بعقول هؤلاء، فقال تعالى:
* * *(4/1863)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
(لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
* * *
أي إن الله سبحانه وتعالى طرده من رحمته، وأخرجه من جنته، كما عتا وتمرد وخرج عن طاعته، فلم يسجد لآدم، وقد أمره الله تعالى بالسجود له، فلما طرده الله من ظلال جناته بسبب عصيانه بالنسبة لآدم، وجعل عمله في هذا الوجود مصادمة الخير، وجذب(4/1863)
ذرية آدم إلى الشر قال مؤكدا بلسان المقال والفعال: لأتخذن من عبادك الذين خلقتهم من ذرية آدم نصيبا مفروضا، أي مقدارا معينا قليلا كان أو كثيرا. أي أنه سيستهوي طائفة من عباد الله، ويسيطر على نفوسهم، ويجعلهم في طاعته، بدل أن يكونوا في طاعة الله سبحانه وتعالى. ويقول الأستاذ الإمام محمد عبده: إن النصيب المفروض هو ما للشيطان في نفس كل واحد من الاستعداد للشر، الذي هو أحد النجدين في قوله تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، وفي الحق أن هذا ليس من اتخاذ الشيطان، إنما هو خلق الشخص، والشيطان يأخذ من يأخذه من العباد من طريق السيطرة على جانب الشر.
اللهم جنبنا وسوسة الشيطان وتزيينه، واجعلنا معك، ومع القرآن، ومع الرسول، ومع المؤمنين.
* * *
(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
* * *(4/1864)
ذكر الله سبحانه في الآيات السابقة ما عاهد الشيطان عليه نفسه الشريرة، من أنه سيتخذ نصيبا مفروضاً مقدرا من بني آدم عباد الله سبحانه، بيَّن الله سبحانه إضلاله لهم، وطريق هذا الإضلال، وهو أن يُمنِّيهم بالأماني الكاذبة، فيهيموا في أحلام لَا أصل لها، ويجعلهم بها في أوهام، فيقطعون آذان الأنعام من غير مبرر معقول، وَيُغيِّرون خلق الله من غير مبرر، ويحسبون ذلك عبادة يُتقرب بها، ولكنهم بها يتخذون الشيطان وليا فيغرهم ويخدعهم، ويكونون في ضلال، ولذلك قال سبحانه وتعالى:(4/1865)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
(وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ) يؤكد الشيطان كما ذكر الله أنه سيضل عباده، ويبعدهم عن الحق، ليسيروا في الباطل إلى أقصى مداه، ويتجنبوا الحق في كل مسالكه. وإنه قد بين سبحانه طريق الشيطان في الإضلال، كما ذكرها على لسانه فقال: (وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ)؛ أي لأجعلنهم يتمنون الأماني. والمعنى أن الشيطان في إضلاله للعباد يخلق في صدورهم أماني يتمنونها ويطمعون في تحقيقها، فتستولي على نفوسهم، وينفذ إليهم من طريق المطامع، بأن يودع في أنفسهم أوهاما يظنونها تحققها، فكلما تمنوا ألقى الشيطان في أمنيتهم أوهاما معها، فيصيرون خاضعين له على الدوام، والمؤمن يصون نفسه من الأماني، فلا يخضع للشيطان ابتداء. وقد قال تعالى في صور الأوهام التي يضعها الشيطان في نفوسهم، فيكون كالآمر لهم:
(وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ) والبتك معناه القطع، وقد اختص بقطع أعضاء الجسم أو الشعر، والمراد بالقطع هنا ما كانوا يفعلونه، إذ كانوا يقطعون آذان الأنعام، أو يشقونها شقا واسعا، ويتركون الحمل عليها، ويفعلون ذلك كأنه أمرٌ تكليفي مطلوب منهم تقربا للأوثان، وما كان ذلك الأمر إلا من الشيطان الذي زين لهم ذلك فاتبعوه، فهو كالآمر لهم الذي يجعل ما ليس بعبادة أصلا عبادة، وإن ذلك تشويه لما خلق الله سبحانه وتعالى. يروى في ذلك أن أبا الأحوص من الصحابة أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان رث الهيئة فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: " هل لك من مال؟ "(4/1865)
قال: نعم؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فإذا آتاك الله مالا، فليُرَ عليك أثره " (1)، ثم قال عليه الصلاة والسلام: " هل تنتج إبل قومك صحاحا آذانها، فتعمد إلى موسى فتشق آذانها، وتقول: هذه بُحُر (أي جمع بحيرة) وتشق جلودها، وتقول: هذه صرُم (جمع صريمة)؛ قال: أجل. قال: " كل ما آتاك الله حِل، وموسى الله أَحَدُّ من موساك، وسَاعد الله أشد من ساعدك " (2).
(وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرنَّ خَلْقَ اللَّهِ) أي أنه يزين لهم الشر، فيغيرون خلق الله تعالى بتشويه الأجسام بالخصاء، وفقء الأعين، والوشم، وتغيير الفطرة بتحويلها إلى أوهام.
ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه: " إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم، فحرّمت عليهم ما أحللت، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وأمرتهم أن يغيروا خلقي " (3). فتغيير الخلق يشمل التغيير المادي والمعنوي، وكان كل ذلك خضوعا لأوامر الشيطان. فكانوا بهذا أولياءه.
(وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا) ومن يوالي الشيطان فيطيعه مع أنه متمرد عن الحق، داع إلى الشر، ويترك الحق وأمر الله، فإنه بهذا يخسر خسرانا واضحا يخسر الحق فلا يتبعه، ويرتكب الشر، ويترك المعقول إلى المرذول، ويمسخ فطرة الله تعالى، وتنحرف نفسه، ويلتوي تفكيره، وتشوه إنسانيته، وذلك خزي في الدنيا ووراءه عذاب في الآخرة. وأي خسارة أعظم من هذه الخسارة وأوضح منها.
* * *
________
(1) رواه: النسائي: الزينة (5223) وأحمد: مسند الشاميين - حديث أبي الأحوص عن أبيه (16780).
(2) تتمة الرواية السابقة كما في مسند أحمد: مسند المكيين - حديث مالك بن نضلة عن أبيه (15457).
(3) جزء من حديث طويل رواه مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها - الصفات التي يعرف بها في الدنيا (2865).(4/1866)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)
(يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)
* * *
صور الله سبحانه وتعالى حال إغراء الشيطان بأنه عمل عملين، لَا يكون فيهما أي نفع عاجل أو آجل، فهو أولاً يسرف في وعدهم بمتع لَا حد لها، بأن يصور لهم أن فيما يفعلون من شر متعا كثيرة، ونفعا كبيرا، وليس لذلك أي أثر. وثانيهما - أنه يجعل النفس تتمنى ما لَا يعقل ويكون بعيد الوقوع. ومن وراء تلك الأماني تنفذ إلى النفس الأوهام فتسيطر عليها. وما كان ذلك الوعد، وإثارة الأمنيات إلا الغرور والخيبة في ذاتها.
* * *(4/1867)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
(أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
* * *
أولئك الذين يعطون ولايتهم للشيطان، ويخسرون فطرتهم السليمة، ونفوسهم المستقيمة، وعقولهم المدركة، تحت سلطان الأماني الكاذبة والأوهام الخادعة، لَا يكون لهم مأوى يوم القيامة غير جهنم. ولا يجدون ملجأ دونها يلجأون إليه، فلا مفر منها ولا مهرب، وذلك جزاء إضرارهم لفطرتهم وانحرافهم عن الجادة، ويرميهم بغرور الشيطان، وإن ذلك يتبعه الأذى لبني الإنسان، وتركهم عبادة الديان، والإعراض عن الحق، إذا جاءهم به رسل الله تعالى، وأنهم لَا معدل لهم عنها ولا مهرب، وهذا معنى: (وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا) أي معدلا ومهربا، من حاص يحيص عدل وهرب.
ولقد بين الله تعالى في مقابل ذلك جزاء المتقين. فإنه لَا يستوي الذين
يعلمون والذين لَا يعلمون، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى:
* * *(4/1867)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
* * *
إذا كان الشيطان يَعِد أولياءه بالأماني الكاذبة، ويدفعهم إلى أوهام لَا أصل لها، فالله تعالى قد وعد المؤمنين وعدا حقا، وإذا كان المشركون قد رأوا مآلهم جهنم لَا يجدون عنها معدلا، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات جزاؤهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وأولئك يستحقون هذا، أولا - بإيمانهم الصادق، وانفكاكهم عن حبائل الشيطان، وبعدهم عن غروره وخديعته، وثانيا - بأعمالهم الطيبة الصالحة المبنية على أسباب(4/1867)
معقولة لَا على أهواء مرذولة، فهي تفيد أنفسهم ومجتمعهم، ويؤدون بها حق ربهم.
وإن ذلك الجزاء اتصف بأمور ثلاثة:
أولها - أنه نعيم مادي فهو جنات وحدائق فيها كل ما تشتهيه الأنفس.
وثانيها - أن فيها نعيما معنويا تلذ به الأعين، وتنشرح له الصدور، وهو أن الأنهار تجري من تحت قصور، فتريهم منظرا بهيجا يسر الناظرين إليه.
وثالثها - أنها خالدة لَا تنقطع ولا تزول، ولا يعرض لها تغيير ولا تبديل.
وهناك ما هو أغلى من كل هذا، وهو رضوان الله تعالى.
وإذا كان الشيطان قد غر أولياءه فقد صدق الله تعالى أولياءه، فقال: (وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) وعد الله تعالى وعدا، وحقه حقا، فهو وعيد ثابت لَا يقبل تغييرا ولا تبديلا، إذ هو وعد ثابت صادق لأنه وعد الله تعالى، ولا يوجد أصدق قولا من الله تعالى، فالاستفهام في قوله تعالى: (وَمَنْ أَصْدَق مِنَ اللَّهِ قِيلًا) للنفي، والمعنى لَا يوجد في هذا مَنْ أصدق من الله قولا، فقيل معناها قول مؤكد لَا ريب، وصدق وعد الله تعالى، لأنه من ذي الجلال والإكرام المهيمن على كل شيء، فلا يتصور أن يكون من قوله سبحانه غير الحق والصدق، وفوق ذلك هو وحده القادر على تنفيذ ما وعد به.
وهذا في مقابل تغرير الشيطان بالأوهام والوعود الكاذبة؛ لأنه عاجز عجزا مطلقا، والله تعالى هو القادر قدرة مطلقة، اللهم اجعلنا ممن يصدق فيهم وعدك ولا يصدق فيهم وعيدك، وتب علينا إنك أنت التواءب الرحيم.
* * *(4/1868)
(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
* * *
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى أن الشيطان يلقي بالأماني الباطلة في نفوس الذين يوسوس لهم بالشر، فيجعلهم يتمنون الخير في غير موضعه، ويقومون بأعمال يرجون بها نفعا ولا نفع فيها، فليس الخير عندهم بعمل صالح يقومون به، ولكنهم يتمنون المثوبة فيما لَا مثوبة فيه، ويرجون الخير من غير أن يتخذوا أسبابه، وفي هذه الآيات يبين سبحانه وتعالى أن الأمور ليست بالتمني، ولكن بالعمل، ومن يعمل سوءا يجز به، ومن يعمل صالحا ينل جزاءه، فقال سبحانه:(4/1869)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) إن الله أوعد المفسدين بالشر، ووعد الصالحين بالثواب العظيم والنعيم المقيم، ولكن الأمانيَّ تتحكم في النفوس، فتتمنى ما لم تعمل له، وتسير وراء ما تتمنى من غير أن يربطوا بين العمل والجزاء، والسبب والمسبب، فنبه سبحانه إلى ذلك.(4/1869)
الأماني جمع أمنية، وهي ما يتمناه الإنسان، ويرغب فيه، ويحبه، ولو لم يتخذ له أسبابه، والضمير (1) في قوله تعالى؛ (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) يعود على ما وعد به من عذاب وثواب، والمعنى ليس ما ينزل بكم جزاء لما تعملون بالأماني تتمنونها، ولكن لمن الخطاب في قوله: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ)؛ أهو للمشركين أم لعامة المسلمين؟ في ذلك توجيهان: أحدهما - أن الخطاب للمسلمين، والمعنى على هذا: ليس الأمر بما تتمنون أنتم معشر المسلمين وأهل الكتاب، إنما بما تعملون، فمن يعمل عملا لسوء نفسه أو غيره يجز به في الدنيا والآخرة، ولا يجد له غير الله نصيرا ينصره، أو وليا يعاضده أو يواليه في شره بل الجميع يبرأ منه، ويزكي ذلك الوجه ما يروي عن قتادة، لقد قال: ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، نبينا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله، فنزلت الآية (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ).
وقد يكون في هذا الوجه نظر؛ لأنه يضع أهل الكتاب في موضع المؤمنين في الاحتجاج، مع أن كلام أهل الإيمان هو الحق الذي لَا شك فيه، وفيه الإيمان بالكتب السابقة، مع الكتاب الكريم.
والوجه الثاني أن يكون الخطاب لمشركي العرب. ويكون في الكلام التفات فبعد أنه كان يتكلم عنهم بضمير الغائب (2)، التفت وخاطبهم بضمير الخطاب تنبيها لهم وبيانا للحق، وبيان أن العمل هو الذي يقدم صاحبه ويؤخره، ويزكي هذا الوجه ما روي عن مجاهد شيخ مفسري التابعين فقد قال: " قالت العرب: لن نبعث، ولن نعذب، وقال اليهود والنصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، تلك أمانيهم "، فكانت هذه الآية (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) ردا على هذه الأوهام.
________
(1) المقصود بالضمير، أي المستتر وهو اسم ليس.
(2) أي فيما سبق من الآيات البينات قبل هذه الآية الكريمة.(4/1870)
وقد رجح ذلك الوجه ابن جرير الطبري، وقال في ترجيحه: " وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد؛ لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) وإنما جرى ذكر أماني نصيب الشيطان المفروض، وذلك في قوله تعالى: (ولأمنيهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام).
وقوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) فإلحاق معنى قوله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ) بما جرى ذكره قبل، أَحق وأولى من ادعاء تأويل لَا دلالة عليه من التنزيل ولا أثر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا إجماع من أهل التأويل. وإنما نختار ما اختاره ابن جرير، لما ساقه من دليل.
وقوله تعالى: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ). ما هو الجزاء؛ أهو الدنيوي أم الأخروي؟. قال بعض العلماء إنه الجزاء الدنيوي، ويستدل على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام - فيما رواه عطاء - لأبى بكر: يا أبا بكر، إنك تمرض، وإنك تحزن، وإنك يصيبك أذى، فذاك بذاك (1)، وكان هذا تفسيرا للنص. وقال آخرون: إن المراد الجزاء الأخروي، وهو المناسب للنص، وللآيات السابقة، والجزاء القرآني دائما جزاء أخروي، والحق هو القول الأخير، أن الجزاء هو الأخروي، والدنيوي إن كانت حكمة الله تعالى في جزاء دنيوي كالتشريد والذلة، والهزيمة في الحروب.
وقوله تعالى: (وَلا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا) أي أن الشيطان الذي كان يوسوس لهم يختفي سلطانه ولا يكون له ولاء لهم، لَا يوادّهم ولا يحبهم، ولا يناصرهم، كما قال تعالى عنه وعنهم يوم القيامة: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ
________
(1) عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، أَظُنُّهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ الصَّلاحُ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ: " يَرْحَمُكَ اللهُ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَسْتَ تَمْرَضُ؟ أَلَسْتَ تَحْزَنُ؟ أَلَسْتَ تُصِيبُكَ اللَّأْوَاءُ؟ أَلَسْتَ (1) ... " قَالَ: بَلَى. قَالَ: " فَإِنَّ ذَاكَ بِذَاكَ ". [رواه أحمد في مسند العشرة: مسند أبي بكر (70)]. وروى مسلم في صحيحه: البر والصلة والآداب - ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن (2574).(4/1871)
سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22).
هذا جزاء أهل الشر، أما جزاء أهل الخير فقد ذكره سبحانه وتعالى بقوله:
* * *(4/1872)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ... (124)
* * *
وهنا يذكر سبحانه وتعالى جزاء الذين يعملون عملا صالحا، فيعينه، ولا يتركه مجملا، فقد ذكر في الآية السابقة، جزاء الشر به ولم يبينه، ولكنه ذكر أنه على قدر العمل من غير أن يبين صنف الجزاء. والعبرة في ذلك هو المساواة بين الجزاء والعمل، وأنه بهذا لَا يظلم لأن الجزاء على قدر العمل، فالجريمة والعقاب متساويان.
وهنا ملاحظتان، إحداهما أن الله تعالى يقول: (وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ) أي أنه يعمل بعض الصالحات؛ وذلك لأن الإنسان لَا يستطيع أن يعمل كل الصالحات، بل يستطيع أن يعمل بعضها؛ لأن طاقته النفسية والبدنية لَا تمكِّنه من عمل كل الخير، وكل يعمل على قدر طاقته من غير تقصير، والله تعالى يغفر القصور، وفي ذلك إشارة إلى أن الإنسان يطلب من العبادة ما يطيق من غير شُقَّة ولذلك لم يطالب النبي - صلى الله عليه وسلم - بأقصى الغاية من العبادة، بل قال: " سددوا وقاربوا " (1).
والملاحظة الثانية: أنه ذكر الأنثى في قوله تعالى:
(مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى) و (من) هنا بيانية، فهي بيان لمن في قوله تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ) والأحكام الشرعية كلها تشمل النساء والرجال، إلا ما يقوم الدليل فيه على أن أحد الصنفين مختص بحكم؛ لأنه يكون ملائما لطبيعته، وإن ذكر الإناث
________
(1) جزء من حديث متفق عليه، وقد سبق تخريجه من رواية البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.(4/1872)
فى الأحكام العامة فيه إشعار بكمال الإنسانية في المرأة، وأن لها حقوقا، وعليها واجبات اقتضاها التكليف فما من عبادة إلا طولبت بها المرأة كما طولب بها الرجل، وإن كان للرجل اختصاص في بعض العبادات كالجهاد، وسبب ذلك الرجولة ذاتها. والإعفاء من واجب شاق لَا يعد حرمانا، وفي الحق إن المرأة تقوم بواجبات شاقة تنفرد بها أيضا، كالحمل والولادة، والقيام على شئون الأولاد في المهد.
وقد اشترط لاستحقاق الأعمال الصالحة أن يكون من يعملها متصفا بالإيمان، فإن الجزاء من الله تعالى ويجب أن يكون العمل قد قصد به وجهه وحده. فالثواب ليس على مجرد العمل، بل على النية فيه، وقصد الخير، وذلك لا يكون إلا إذا قصد به وجه الله تعالى.
وقد أكد سبحانه وتعالى الجزاء بقوله:
(وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) أي لَا ينقصون من عملهم الصالح شيئا، ولو كان شيئا صغيرا بقدر النقير، وهو العلامة التي تكون في ظهر النواة، فتظهر كثقب صغير، وتسمى نُقْرة كأنها حصلت بمنقار طائر صغير، ويضرب العرب بها المثل في القلَّة.
وإن مثل هذا الجزاء لَا يستحقه العبد إلا بفضل من الله تعالى بدليل أنه يقبل بعض الصالحات ويدخل الجنة عليها، ولا ينقص شيئا فهو يفيض بالثواب، ولا ينقص من عمل الخير.
وقد تساءل الزمخشري لماذا ذكر عدم الظلم ولم يذكره في عمل السوء؟ وأجاب عن ذلك بأن عدم الظلم ملاحظ هناك بذكره هنا. وفي الحق إن عدم الظلم ملاحظ هناك من النص ذاته، فقد ذكرنا أن الله سبحانه وتعالى قال: (مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) وهذا فيه النص على أن الجزاء بقدر العمل، ومؤدى هذا ألا يظلم، وكان الجزاء عمل الغير أكثر منه من أن ينقصوا، أما في(4/1873)
عمل الشر، فالجزاء لَا زيادة فيه، والإيمان الصادق الذي لَا تسيطر عليه الأماني والأحلام هو الاتجاه إلى الله تعالى، ولذا قال سبحانه:
* * *(4/1874)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
(وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ... (125)
* * *
والاستفهام هنا بمعنى النفي، فالمعنى لَا أحد أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن، والنفي هنا هو نفي الحسن، ولكن المراد هو الحق، والمعنى لَا أحد يؤمن بحق إلا من أسلم وجهه لله. ولكن التعبير بأحسن يفيد بأن هذا هو الحق وهو الأمر الحسن في ذاته، الذي لَا تستحسن العقول السليمة سواه، وتستقبح غيره.
ومعنى (أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) أخلص نفسه، وجعلها كلها لله تعالى، لَا يحب إلا له، ولا يبغض إلا له، ولا يطلب جاه غيره. والتعبير (أَسْلَمَ وَجْهَهُ) معناه أسلم ذاته، فالوجه يعبر عنه بالذات؛ لأن به المواجهة، ولأنه أوضح أجزاء الجسم. وإن هذا الدين الخالص لوجهه تعالى لَا يستقيم بمجرد النية، بل لَا بد أن يقترن مع ذلك بإحسان العمل وإتقانه، ولذلك قال تعالى: (وَهُوَ محْسِن) فالدين الحق الخالص يقتضي أمرين لَا محالة: أحدهما إخلاص القلب والنية لله تعالى، بحيث لَا يكون عامرا إلا بذكر الله تعالى، والثاني: إتقان العمل الصالح وإجادته، فلا عمل يكون صالحا من غير إيمان، ولا إخلاص يكون من غير إحسان العبادة والعمل الصالح.
وقد ذكر سبحانه أن الإخلاص والعمل هو دين النبيين أجمعين، ولذلك قال: (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) أي أن هذه الملة هي الدين والمنهج، أي كان في إخلاصه وإتقانه للعمل متبعا منهاج إبراهيم، وإبراهيم أبو الأنبياء، فمنهاجه هو منهاج كل الرسل، واتباع ملته اتباع لكل الرسل. وكان حنيفا أي مائلا إلى الحق متجها إليه دائما، منذ كان غلاما إلى أن بعثه الله تعالى نبيا مرسلا، وقد قال لأبيه " وقومه كما حكى القرآن الكريم: (. . . إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28).(4/1874)
وفى الجملة من أخلص لله وعمل وأحسن، فهو متبع دين النبيين جميعا، وإن اتباع دين محمد هو اتباع الأديان السماوية كلها لأنه إيمان بكل الرسل.
وقد كرم الله سبحانه وتعالى إبراهيم لإخلاصه وتوجهه إلى الله تعالى بقلب سليم، وإحسانه في العمل، بأن جعله خليله، فقال تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) أي اصطفاه من بين خلقه، فأعطاه ذلك الاسم الجليل، وذلك الوصف الكريم. ومعنى الخليل الحبيب الذي يلجأ إلى حبيبه، فهو من الخلة وهي المحبة، أو من الخلة بمعنى الحاجة (1). والحقيقة أن إبراهيم عليه السلام كان فيه الأمران معا فهو من جانبه كان يحب لله، ويبغض لله ولا يطلب شيئا إلا لله. وكان مع ذلك لَا يعتمد في حاجة إلا على الله سبحانه وتعالى وهو يقول في بيان حاجته إلى ربه: (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84).
هذا ما كان من جانب إبراهيم. أما ما كان من جانب الله، فإنه قد أفاض عليه بنعمه ظاهرها وباطنها، وجعل من ذريته النبيين، وحماه من أعدائه، وقربه إليه، وصار من عباده المخلصين، ثم منحه وضعا لم يمنحه غيره، وهو أنه خليله.
* * *
________
(1) الأولى خُلَّة (بالضم)، والثانية وهي الحاجة والفقر - بالفتح.(4/1875)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
* * *
وبعد أن أشار سبحانه إلى أن الله تعالى منفذ عقابه وثوابه، وإلى أن الدين الحق هو إخلاص الذات. والقلب والنفس لله تعالى، بين سبحانه وتعالى أن ما في السماوات والأرض كله له. فمن أخلص لله تعالى، فقد أخلص للقوي القادر القاهر الذي لَا يخرج عن سلطانه شيء في الملكوت. وإن هذا لدليل على أنه وحده المستحق للعبادة، وإسلام الوجه والطاعة له سبحانه وتعالى.(4/1875)
وإنه سبحانه يحيط بكل شيء في هذا الوجود إحاطة قدرة وتصرف، فهو وحده المتصرف في السماوات والأرض وما بينهما، وإحاطة علم فهو يعلم كل ما في الكون وما في النفوس، فلا يخفى عليه شيء في السماوات ولا في الأرض إنه وحده الخالق والمكون والمصرف والسميع البصير. اللهم املأ قلوبنا بذكرك، فبذكرك تطمئن القلوب.
* * *(4/1876)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
* * *
تعرضت سورة النساء لأحكام الأسرة في أولها، وبينت أحكام المواريث، والعلاقات المحرمة للزواج، ثم أشار سبحانه إلى حق الرجل وحق المرأة في الأسرة، وتعرضت من بعد ذلك للعلاقات الاجتماعية بين الناس، وبينت أن أساسها إقامة العدالة، وتنفيذ أحكام الله تعالى ثم ذكرت أدواء الجماعات، وأساسها الاعتداء من الخارج بالحروب ومن الداخل بالنفاق، وما يتبعه من فساد خلقي، وانحلال نفسي، وتعرضت من بعد ذلك لسبب الاعتداء والشرك والنفاق وهو تحكم الشيطان في النفوس.
ومن بعد ذلك عاد إلى بيان العلاقة بين الزوجين وفقه علاجها، وعلاقة آحاد الأسرة، والطب لأدواء الضعف بينهم. وفي خلط أحكام الأسرة والعلاقات فيها، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية العامة إشارة إلى قيام المجتمع على الأسرة وأن صلاحها صلاح له، وأنه من الأخلاق الاجتماعية الفاسدة تجيء آفات الأسرة،(4/1876)
ومن قوة العلاقات الأسرية تجيء قوة المجتمع المتماسكة، فرعاية ضعفاء الأسرة توجد قوة للأمة تشترك في حماية زمارها، ومن إهمالها، تكون عناصر مقوضة لبنائها، والآيات التي نتكلم في معانيها مبينة علاج الضعفاء والعناية بهم، فقد قال تعالى:
(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ) الاستفتاء معناه طلب الفتيا أو الفتوى، ومعنى الفتوى حل ما يشكل من الأمور، وإن العرب قد وقعوا في إشكال بالنسبة للمرأة، فقد كانوا في الجاهلية لا يفرضون لها حقوقا، لَا تأخذ من ميراث، ولا يكون لها أي حق قِبَل زوجها، بل كان عليها تبعات، من غير أن تلاحظ من جانبها واجبات، فجاء الإسلام وأعطاها في مقابل واجباتها حقوقا، فقال تعالى: (. . . وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ).
فكانوا في كل تصرفهم بالنسبة للمرأة تعتريهم حيرة، أينفذون دينهم وحكمهم الجاهلي أم أن للإسلام في كل أمر من هذه الأمور حكما تجب رعايته ويجب اتباعه فكثرت الأسئلة، وتعددت موضوعاتها، فمنهم من يسأل عن الميراث، ومنهم من يسأل عن الصداق. ومنهم من يسأل عن المعاملة، وجاءت الروايات فرادى ببعض الأسئلة، وكلها ينتهي إلى مجموعها، وهو حيرتهم في أمر المرأة وقد أجاب سبحانه هذا الاستفتاء بقوله تعالى:
(قلِ اللَّه يفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تؤْتُونَهُنَّ مَا كتِبَ لَهنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ) أي يفتيكم الله تعالى مبينا أمرهن وما يجب لهن، وقوله تعالى: (وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) قال كثير من المفسرين إن " ما " هنا في موضع الرفع بالعطف على لفظ الجلالة، والمعنى يفتيكم الله ويعلمكم أحكام النساء وحقوقهن، كما يعلمكم ما يتلى عليكم في كتاب الله من أحكام اليتامى من النساء اللاتي كتب لهن في كتاب الله من ميراث وحقت رعايتهن والقسط معهن عند الزواج، وإلا فليتزوج من غيرهن.(4/1877)
وقد قرر سبحانه وتعالى هنا وجوب العدل مع اليتيمة عند الرغبة في الزواج، وصرح بما أشار إليه قوله: (وإِن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى) على ما فهمه بعض المفسرين من أن المراد إن خفتم ألا تقسطوا في النساء اليتامى فتزوجوهن من غير أن تعطوهن حقهن من ميراث أو صداق، وقد قال سبحانه في ذلك: (وَترْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ) والمعنى لَا تؤتونهن ما كتب الله لهن من حقوق، وترغبون أن تنكحوهن.
وهناك نجد قوله تعالى: (أَن تَنكِحُوهُنَّ) مصدرا (1) قد دخل عليه حرف جر محذوف، وهو إما (فِي)، و (إما) عن وعلى أن المحذوف: لَا تعطونهن ما كتب الله لهن من حقوق وترغبون في نكاحهن لأنفسكم، فلا تعطوهن ميراثا ولا صداقا، وعلى أن المحذوف " عن " يكون المعنى لَا تعطونهن ميراثهم، وتمنعونهن من النكاح، وترغبون عنه لكي يبقى المال تحت أيديكم.
ويظهر أن الذين كانوا يقدمون على شأن يتامى النساء فريقان، فريق يأكل مالها ولا يعطيها صداقها، ويرغب في نكاحها لجمالها، وفريق يستبد بمالها، ويرغب عن زواجها من نفسه أو من غيره حرصا على مالها، والآية تشمل الفريقين وتندد بالطائفتين، ولقد رُوي أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه وليّ اليتيمة، فإن كانت حسنة غنية قال عمر: زوِّجها غيرك والتمس لها من هو خير منك، وإذا كانت بها دمامة، ولا مال لها، قال له: تزوجها، فأنت أحق بها، وقد قال علي بن أبي طالب لولي يتيمة: تزوجها إن كنت خيرا لها، فإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير.
ولم تكن رعاية الله تعالى في أحكامه خاصة بيتامى النساء، بل إنها تعم المستضعفين وسائر اليتامى، ولذا قال سبحانه: (وَالْمُسْتَضْعَفينَ مِنَ الْوِلْدَان وَأَن تَقُومُوا لِلْيتامى بِالْقِسْطِ) وصيتان بنوع واحد من الضعفاء في الَأسر وهم اليتامى، بيد أن إحداهما مؤداها إعطاؤهم حقهم من المال. والثانية القيام على رعايتهم، وحفظهم من الضياع، وواضح أن الثانية عامة تشمل اليتيم الذي ترك له أبوه مالا، أو نال مالا من أية ناحية من النواحي، والأولى تكون لذوي المال.
________
(1) أي مصدرا مؤولا، وهو المنسبك من (أن) و (الفعل المضارع).(4/1878)
وبالنسبة لهذه الوصية القرآنية الإلهية نقول: إن العرب كان من عاداتهم ألا يرث إلا من يستطيع حمل السلاح ويغزو ويغنم ويستنصر به، ولذلك ما كانوا يورثون النساء، ولا الصغار الضعاف؛ لأنهم لَا يقومون بذلك: والله سبحانه وتعالى وزع الميراث توزيعا عادلا لم يفرق بين قوي وضعيف بل كانت رعايته للضعيف أشد، ولذلك أعطى الذرية أكثر مما أعطى الأبوين؛ لأن الذرية الضعاف أحوج إلى المال، وهو لهم ألزم، ولذلك قال تعالى في وصيته: (وَالْمًسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ) أي الذيهن هم في حال يستضعفهم غيرهم ولا يعطيهم حقوقهم، وهم ضعفاء في ذات أنفسهم، أي أنه لَا بد أن يعطوا ميراثهم كاملا غير منقوص، وعبر عن هؤلاء بقوله سبحانه: (مِنَ الْوِلْدَانِ) ولم يعبر عنهم بيتامى، مع أنهم يتامى، للإشارة إلى ما يربطهم بالمتوفى، وهو كونهم أولاده، وهذا قدر يشتركون فيه مع الكبار، فالسبب في الميراث هو الولاء، وهم جميعا يشتركون فيه، وإذا اشتركوا في السبب وجب أن يشتركوا في المسبب وهو الميراث، ولا فرق في ذلك بين كبير وصغير.
والوصية الأخرى، وهي القيام على شئون اليتيم برعايته وكفالته، وإصلاح حاله، وتعهده بالعطف والمحبة والإكرام، وقد تكرر في القرآن الكريم الأمر برعاية اليتيم، وتكرر في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر برعايته والتوصية به، ففي القرآن الكريم نجد كثيرا من ذلك مثل قوله تعالى: (فَأمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ).
وفى السنة مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - " أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا. . . " وضم أصبعيه (1) الكريمتين - عليه الصلاة والسلام - وقوله - عليه الصلاة والسلام -: " خير بيت من بيوت المسلمين بيت يكرم فيه يتيم، وشر بيت من بيوت المسلمين بيت يقهر فيه يتيم " (2).
________
(1) رواه البخاري: الأدب - فضل من يعول يتيما (6005)، والترمذي كتاب البر والصلة - ما جاء في رحمة اليتيم وكفالته (1918)، وأبو داود: الأدب - فيمن ضم اليتيم (5150)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (22313) عن سهل بن سعد رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه.(4/1879)
ونجد النص الكريم يقول: (وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ).
وهذا التعبير فيه ثلاث إشارات بيانية:
أولاهما - التعبير بالقيام، فإن مؤداه أن ينهض الولي على القاصر بعناية واهتمام لرعاية حاله، وكون الخطاب للجميع لَا لخصوص الأوصياء يدل على الوجوب على الأمة بشأن يتاماها، أو رعايتهم فرض كفاية فهو على الأمة مجتمعة.
ثانيها - التعبير باللام في قوله تعالى " لليتامى " أي أن يكون القيام والنهوض لمصلحة اليتامى الحقيقية، من حيث التربية والتهذيب، والمحبة من غير تدليل مضعف لقوة النفس والعزيمة والإرادة القوية.
ثالثها - أن يكون ملاحظا في ذلك القسط والعدل، بألا ينقص من ماله شيء ولا يترك هملا إذا لم يكن له مال، فإذا كانت العدالة المالية توجب ألا ينقص من ماله، فالعدالة الاجتماعية توجب أن تسد خلته وضعفه.
وكانت عناية الإسلام باليتامى؛ لأنهم قوة للأمة إن صلحوا، وقوة مدمرة في الأمة إن لم يصلحوا، إذ إنهم لو قُهروا ينشأون وبينهم وبين الناس عداوات مستمرة، ونفور يدفعهم إلى أن يكونوا مدمرين في الجماعة وعنصر تخريب، فإن أكثر الخارجين على الجماعة تبتدئ عقدهم النفسية في طفولتهم بالجفوة معهم، وحرمانهم من المودة والرحمة. (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا).
أي خير تفعلونه، ويكون نافعا لجماعتكم، مصلحا بينكم، فإن الله سبحانه وتعالى يكون عليما به علما دقيقا، لَا تخفى عنه فيه خافية، وفي ذكر هذا النص الكريم بعد الوصايا السابقة إشارة إلى أن هذه الوصايا تنفيذها خير محض، ونفعها لا شك فيه ولا ريب، نفعه لمن يفعله لأن عاقبته حسنى له، وخير للجماعة لأنه يقدم للمجتمع عناصر قوية بانية، وخير للضعفاء في أنفسهم، وهو خير عند الله يحتسب به الجزاء الأوفى عنده.(4/1880)
وإن فعل الخير يعلمه من يستطيع الجزاء علما محيطا دقيقا، فإذا علمه جازى به خير الجزاء، وقد أكد سبحانه علمه الذي يرتب عليه خير الجزاء بثلاثة مؤكدات: أولها - التعبير بـ إنَّ، وثانيها - نسبة العلم إلى الله جل جلاله، فهو علم يليق بذاته، وبقدرته وإرادته. وثالثها - صيغة المبالغة بوصفه بـ " عليم " ثم بلفظ الكينونة وهو كان، فإنه يقتضي استمرار العلم ودوامه، فعلى الذين يقومون على شئون اليتامى أن يعلموا أنهم في رقابة مستمرة من الله تعالى ذي الجلال والإكرام ويعلمون أنه مجاز على مقدار ما يعلم.
* * *
(وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
* * *
وبعد هذه الوصايا في إعطاء الضعفاء من اليتامى حقوقهم والإنصاف لهم ذكر سبحانه وصاياه في علاج ما يكون بين الزوجين، فقال:(4/1881)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
(وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) الخوف توقع الإنسان مكروها يقع به، وقد فسر الطبري النشوز بقوله: " يعني استعلاء بنفسه عنها إلى غيرها أثرة عليها وارتفاعا بها عنها، وإما لكراهة(4/1881)
منه بعض أشياء بها أو لدمامتها وإما سنها وكبرها، أو غير ذلك من أمورها، والإعراض ألا يؤنسها، وأن يصرف عنها وجهه. وقد قال بعض العلماء: إن الفرق بين النشوز والإعراض أن النشوز تباعد، والإعراض انصراف الوجه وعدم الأنس بها مع القرب منها ".
وإن المرأة إذا لَا حظت ذلك من زوجها لَا تقابل النشوز بمثله ولا الإعراض بالصد، فإن ذلك يوسع الهوة بينهما ويفك الأسرة، وينتهي الأمر إلى شقاق لا لقاء بعده، وإن العلاج في هذه الحالة نفسي يختلف باختلاف قوة النفرة، فإذا كانت لم تستحكم ويمكن أن يتوليا علاجها كان عليهما دينا أن يوليا العلاج، وإذا كان مع النفور خصام كان لَا بد من تدخل الغير، لإصلاح ذات البين، وإذا استحكمت النفرة، ولا سبيل للإصلاح فالافتراق، فهذه ثلاثة أنواع. وقد ذكر سبحانه وتعالى علاج المرتبة الأولى، فقال:
(فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْح خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ) ففي هذه المرتبة يكون الواجب الديني على المرأة والرجل أن يعملا بأنفسهما على إصلاح ما بينهما، فتتطامن المرأة للعاصفة ويقرب الرجل امرأته إليه، ويترك شِماسَه (1) وإعراضه، ويتطامن لأهله، ويعلم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي " (2)، وإن التطامن من الرجل لزوجه لتكون العشرة على مودة ورحمة هو عين العزة، فالكريم لَا يذل أهله والذليل هو الذي يهين أهله، وقد لوحظ في التعبير أمور ثلاثة.
أولها - أنه عبر عن طلب الصلح بقوله تعالى: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يصْلِحَا بَيْنَهُمَا) وذلك ترفق في الإيجاب، فعبر عنه بنفي الإثم لكيلا يتوهم أحدهما أن في التساهل عن بعض حقه إثما. والصلح يقتضي أن يتسامح أحد الفريقين في
________
(1) الشِّماس: العداوة الظاهرة والعناد. [لسان العرب - شمس].
(2) سبق تخريجه.(4/1882)
جزء من حقه؛ لينال خيرا أكثر مما تسامح فيه، فإذا تركت المرأة بعض حقها لتدوم العشرة بالمعروف فذلك لَا إثم فيه. بل فيه الخير.
ثانيها - أنه أكد الصلح بقوله " صلحا " للإشارة إلى أن الصلح في هذا المقام لا يكون صلحا ظاهرا، بل يكون نفسيا، بحيث تتلاقى القلوب وتصفو النفوس، ويحل الوئام محل الخصام، فليس الصلح في هذه الحال إنهاء لمشكلة فقط، بل هو تلاقي القلوب على المودة والرحمة.
ثالثها - أن الله تعالى أكد الصلح بقوله تعالى أولا " والصلح خير " أي أنه في ذاته خير يعم الطرفين؛ مَن تسامح يناله من الخير بمقدار ما تسامح أو بأضعاف ما تسامح، فهو قد أعطى ليأخذ وتساهل لتلزم ولتدوم نعمة الزوجية.
وأكد سبحانه الصلح بدعوة الزوجين ألا يشح أحدهما بالعطاء لرفيقه، ولذا قال تعالى: (وَأُحْضرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ) والشح هو البخل، وهو هنا التشاح النفسي بأن يلتزم كل واحد من الزوجين موقفه متمسكا بحقوقه الشكلية، ومعنى قوله تعالى (وَأُحْضرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ) أن الشح جُعل حاضرا لَا يغيب عنها ولا تنفك عنه كأنها مطبوعة عليه، وعلى المتصالحين اللذين يريدان التصافي أن يلاحظا هذا ويعالجاه، فهو الداء، وإذا عرف سهل الدواء، وما دام الصلح كاملا يجب اجتثاث الشح الحاضر، ليكون الصفاء الدائم.
وأكد سبحانه وتعالى طلب الصلح ثالثا بقوله تعالى: (وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) في هذا النص الكريم علاج لشح النفس إذا حضر، ولوقوف كل في الجانب الذي يحفظ به حقوقه، ولا يتحرك، فإن العلاج لهذه الحال هو الإحسان، فليكن محسنا بدل أن يكون مُلحفا، فإذا كان الإحسان ذهب التشاح، والعلاقات في الأسرة لَا تبنى على الظاهر، بل تبنى على القلوب، والقلوب لَا يطهرها إلا تقوى الله في المعاملة، إذ إن المعاملة الطيبة، والإحسان وزيادة العطف وتقوى الله هي البلسم الشافي من الشح النفسي الذي يعتري ما يكون بين الزوجين.(4/1883)
وإن الله تعالى قد وعد بالثواب العظيم لمن يحسن ويلاحظ تقوى الله تعالى في المعاملة من الزوجين؛ لأن الله تعالى يعلم علما دقيقا لَا يغادر شيئا، وهو علم مستمر دائم يليق بجلاله سبحانه، وهذا معنى قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) وإذا كان عليما علما دقيقا بما يعملون، فإنه هو الذي يجازي بمقتضى علمه، فإذا تسامح أحد الزوجين، فإنه مثاب في الآخرة، فإذا كان قد تسامح في بعض حقه الدنيوي، فإنه سيضاعف له الجزاء في الآخرة.
وإنه في الحياة الزوجية تحقيق العدالة الكاملة غير ممكن، ولذا وجب التسامح، فقال تعالى.
* * *(4/1884)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ ... (129)
* * *
إن الله سبحانه وتعالى نفي استطاعة العدالة بين النساء نفيا مؤكدا، لأن حرف (لن) لتأكيد النفي، فالعدالة بمعنى تنفيذ كل الحقوق المقررة والواجبات النفسية أمر غير ممكن مهما يكن حرص الإنسان على العدالة.
وقد فرض العلماء أن هذه العدالة غير الممكنة لَا تكون إلا إذا كان الرجل ذا زوجين فأكثر، وذلك ظاهر؛ لأن العدالة النفسية بالمساواة في الإقبال القلبي والمحبة. أمر غير ممكن؛ لأن الناس بحكم الخلقة لَا يملكون نزعات نفوسهم وميول قلوبهم، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين زوجاته في كل ما هو ظاهر كالمبيت والكسوة والنفقة، وكل ما يتعلق بصورة الحياة الزوجية، ولكنه وهو أكمل البشر لم يستطع العدالة النفسية، ولذلك كان يقول - صلى الله عليه وسلم -: " اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك " (1).
وقد ادعى بعض الكتاب في أول هذا القرن العشرين الميلادي وتبعه غيره، أنه بضم آية (. . . فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً. . .)، إلى هذه الآية التي نتكلم في معناها يكون منع تعدد الزوجات، وما هكذا تفهم النصوص في
________
(1) رواه أبو داود: النكاح - في القسم بين النساء (2134) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها وأرضاها.(4/1884)
القوانين فضلا عن نصوص القرآن فإن البداهة تتجه إلى التوفيق، والتوفيق يبدو بادئ النظر، وهو أن هذه الآية موضوعها نفسي، والآية التي في صدر السورة موضوعها العدالة الظاهرة، وقد وضَّح هذا المعنى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رويناه، وهو عجزه عليه الصلاة والسلام عن العدالة النفسية، وعلى فرض أن التوفيق غير ممكن إن سايرنا تلك المدارك المحدودة، فإن المتأخر ينسخ المتقدم. والمتأخر هو هذه الآية التي نتكلم في معناها، وهي تطالب بالعدالة المطلقة، بل طالبت بالممكن فقال تعالى: (فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا).
المعلقة هي التي تهمل نفسيا ومعنويا وحبا ومودة، فلا هي ذات زوج تنال الحقوق الزوجية أو بعضها، ولا هي خالية الأزواج، ترجو أن يوفقها الله تعالى وهذا تشبيه بالشيء المعلق بشيء من الأشياء، لأنه لَا يكون قد استقر على الأرض، ولا ما علق عليه تحمله، أو يستطيع تحمله.
وإنه لأجل الوصول إلى هذا الحل ألذي لَا يكون فيه شطط يجب التدخل لإصلاح ذات البين، ولذا قال الله تعالى: (وِإن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا) وهذه هي المرتبة الثانية من الشقاق التي يتعذر فيها على الزوجين أن يقوما بعلاجها، ولذا يستمد العلاج من المتصلين بهما وهو المنصوص عليه في قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاحَا يُوَفِقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا. . .)، وعند التدخل للإصلاح يجب أن تكون تقوى الله هي التي تحكم الحكمين ولذا قرن الإصلاح بالتقوى، فإن كان إصلاح القلوب مع تقواها، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر ما عساه يكون من تجاوز للحد قبل ذلك، ولذا ختم سبحانه وتعالى هذا الجزء من العلاج بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) أي أن غفرانه البالغ ورحمته الواسعة المستمرة المؤكدة يفيضان على المصلحين المتقين، فإن لم يجد هذا كانت المرتبة الأخيرة، وهي الفراق، ولذا قال سبحانه:
* * *(4/1885)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
(وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
* * *
أي إنه إذ لم يستطيعا إصلاح ما بينهما، ولم يصلح غيرُهما ذلك الإصلاح لم يبق إلا أن يتفرقا، وهذا ما تقتضيه الفطرة، ولذلك أسند التفرق إليهما معا، لَا إلى أحدهما! لأن التفرق بالطلاق نتيجة تفرق القلوب، وإنه إذا كانت هذه الحال أغنى الله كلِ واحد عن الآخر من سعة الرحمة التي يرحم بها عباده، (وَكَانَ اللهُ وَاسِعَا حَكِيمًا) وكان الله تعالى ولا يزال واسع الرحمة فكلمة " واسعا " على تقدير مضاف، وهو الرحمة، وكان ولا يزال حكيما، يشرع بعباده بمقتضى حكمته ما هو أصلح لهم، ولو كانت النفوس تنزعج له أو تبغضه، وإن المرأة الفاضلة الكريمة إذا أعرض زوجها أو استعلى عليها ولم يمكن إصلاح ستجد من المجتمع من يقدر فضلها، ويبدلها من الناشز عدلا من الرجل، اللهم أصلح أمورنا، وابسط المودة بيننا، إنك سميع الدعاء.
* * *
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
* * *(4/1886)
فى الآيات السابقة ذكر سبحانه وتعالى ما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الزوجين، وما يجب من علاج لأدواء النفوس فيها، ووجوب العدالة الممكنة بها، وما يجب عند تعذر العدالة الحقيقية، وأنه إذا تعصى الداء، وتعذر العلاج كان الفراق آخر الدواء، وفي هذه الحال يكون كلاهما في سعة من رحمة الله الواسعة، وفى هذه الآيات يشير سبحانه إلى سعة ملكه، وأن كل شيء في ملْكهِ وتحت سلطانه، فهو الذي يغني كلا، وهو القادر على كل شيء، وأنه بعد بيان عظم قدرته وسلطانه يبين وجوب العدالة بين الناس في علاقاتهم بعضهم ببعض، كما يقول سبحانه: (يَا أَيّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامينَ بِالْقسْط شُهَدَاءَ للَّه. . .)، وقد توسطت هذه الآيات الدَّالة علي عظم سلطَان الله تعالى بين الأمر بالعدل في داخل الأسرة، وهي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وبين الأمر بالعدالة في المجتمع الأكبر، وكان ذلك التوسط لتربية المهابة من الله في قلب المؤمن، فيتجه إلى العدل الذي هو ميزان العلاقات الإنسانية كلها.
وقد جاء في تفسير الطبري وجه آخر للمناسبة قال فيه ما نصه: " وإنما ذكر جل ثناؤه ذلك بعقب قوله: (وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كلًّا مِّن سَعَتِهِ) تنبيها منه لخلقه على موضع الرهبة عند فراق أحدهم زوجه، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوحشة بفراق سكنه وزوجه، وتذكيرا منه أنه هو الذي له الأشياء كلها، وأن من كان له ملك جميع الأشياء فغير متعذر عليه أن يغنيه وكل ذي فاقة وحاجة ويؤنس كل ذي وحشة ".(4/1887)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) أي لله وحده ما في السماوات والأرض من مطر ينزل، وأرض تنتج، وشمس تمد الكون بالدفء والحرارة والضوء، وقمر منير، ونجوم تزين السماء الدنيا، وهو سبحانه وتعالى يملك ذلك كله ملك اختصاص وسلطان وقدرة وإنشاء، فهو الذي أبدعه على غير مثال سبق، وهو رب الدين في السماء والأرض، وهو الذي يوزع الأرزق بمقتضى حكمته، وهو القاهر فوق عباده، يقيم العدل ويغني كلًّا من سعته بما يشاء، وأنه لم يترك(4/1887)
الناس هملا، بل أنزل عليهم الكتب السماوية تدعو إلى التفكير في ملكه، وخلقه، وتتجه إلى عبادته سبحانه وتعالى وحده وتقواه وحده، ولذا قال: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) الخطاب في هذا النص لأمة محمد)، والكتاب المراد به جنس الكتاب، لَا واحده، أي الذين أوتوا علم النبوة من قبلكم برسل أرسلوا إليهم، وكتب سجلت أوامر الله تعالى ونواهيه، وخطاب من الوحي الإلهي نزل إليهم، وقد دعاهم سبحانه وتعالى كما دعاكم إلى أن تتقوا الله تعالى في كل أعمالكم، بحيث تتربى مهابته في قلوبكم، فتذكرونه في كل تصرفاتكم، فإن وسوست نفوسكم بظلم ذكرتموه فامتنعتم، وإن همت بفساد ذكرتموه فاعتصمتم، وإن أصابكم جزع ذكرتموه فاطمأننتم، وإن أصابكم فاقة ذكرتموه فصبرتم، وإن أصابتكم بَأْساء ذكرتموه فارتضيتم، وإن أصابتكم نعماء ذكرتموه فشكرتم، فالأمر بالتقوى أمر جامع لكل معاني الإيمان والتوحيد.
ولذا أكد سبحانه الأمر بالتقوى بأربعة مؤكدات.
أولها - التأكيد باللام وقد، فـ (قد) وحدها مؤكدة، واللام تتضمن معنى القسم فهي مؤكد آخر، وهذا ما تضمنه قوله تعالى " ولقد " في صدر الكلام. ثانيها - التعبير بقوله - جل جلاله - " وَصَّيْنَا ". فإن التوصية تكون طلبا مشددا لَا يقتصر على زمان الأمر، بل يتعاقب الطلب بتعاقب الأزمان والدهور، ولا يقتصر على زمان دون زمان، وهذا يفيد أن الأمر بالتقوى قانون محكم، لا يعتريه فسخ ولا تغيير مهما تختلف العصور؛ لأنه لب الأديان.
ثالثها - ذكر كتب النبيين السابقين مع خطاب أمة خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإن ذلك الذكر يفيد أن التقوى شريعة السماء.
رابعها - التعبير بـ " أن " في قوله تعالى جلت قدرته (أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) فإنها هي " أنْ " المفسرة، أي أنه سبحانه وتعالى يفسر وصيته الخالدة الباقية بأنها شيء واحد، وهو الأمر بالتقوى، ومن المقرر في علم البيان العربي أن الإبهام ثم البيان(4/1888)
يؤكد المعنى في النفس أفضل تأكيد، وقد قال الزمخشري إن لفظ " أن " يحتمل أن تكون أن فيه مصدرية، والمعنى: وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم بتقوى الله سبحانه وتعالى. والتعبير بالمصدر المؤول المنسبك من " أن " وما يليها فيه تؤكيد لمعنى المصدرية؛ إذ فيه تصوير واضح للفعل والقيام به، وإن قوله تعالى و (إِيَّاكُمْ) هو من قبيل عطف الضمير على الاسم الظاهر، فيكون في موضع النصب، ولذلك انفصل الضمير.
وقد أكد سبحانه وتعالى وصيته الخالدة ببيان نتيجة مخالفتها، وأنها لمنفعة العبادة، فقال سبحانه:
(وَإِن تَكْفُرُوا فَإنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) وإن الأمر بالتقوى فيه خيركم، إذ فيه سلامة اعتقادكم، واطمئنان قلوبكم؛ وصلاح جموعكم، ومنع الفساد في الأرض، وإن جحدتم أوامر الله تعالى، ولم تعبدوه وحده، وتخشوه حق الخشية، فستفسد أموركم أنتم، ولن يضر الله منكم شيء؛ لأنه مالككم، ومالك كل ما في السماوات والأرض، وهو بهذا الملك الظاهر والسلطان القاهر، يستغني عن تقواكم، وهو المستحق للحمد الدازم، والمحمود في ذاته وشرائعه وأوامره ونواهيه وفي إنشائه وإبداعه، فلا يضيره كفر الكافر، ولا ينقص من سلطانه فجور الفاجر؛ لأن الجميع في قبضة يده وتحت سلطانه.
ولقد قال ابن جرير الطبري في معنى هذه الآية الكريمة: " وإن تجحدوا وصيته إياكم فتخالفوها فإن لله ما في السماوات وما في الأرض. يقول فإنكم لا تضرون بخلافكم وصيته غير أنفسكم، ولا تعدون في كفركم هذا أن تكونوا أمثال اليهود والنصارى في نزول عقوبته بكم، وحلول غضبه عليكم، كما حل بهم، إذ بدلوا عهده، ونقضوا ميثاقه، فغير بهم ما كانوا فيه من خفض العيش، وأمن السِّرب، وجعل منهم القردة والخنازير، وذلك أن له ملك جميع ما حوته السماوات والأرض، لَا يمتنع عليه شيء أراد تجميعه. . من إعزاز من أراد إعزازه، وإذلال من أراد إذلاله ".(4/1889)
ويُرى من هذا التخريج أنه يرى أن الخطاب باحتمال الكفر موجه إلى الأمة المحمدية، ويكون قوله تعالى: (وَإِن تَكْفُروا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) كلام مستأنف يبين نتائج مخالفة الأمر بالتقوى المؤكد، والذي جاءت به شرائع السماء كلها، وهذا هو الظاهر.
وقد قرر بعض العلماء أنه يجوز أن يكون في ضمن الوصية المؤكدة، ويكون المعنى: ووصينا أولي الكتاب وإياكم بالتقوى، وقلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض. وإننا نرى أن الأول أظهر، وقد سار عليه ابن جرير، ووضح المعنى على أساسه. . . وقد أكد سبحانه عظيم سلطانه، وحاجتهم إليه وغناه - جل ثناؤه - عنهم، فقال تعالت كلماته:
* * *(4/1890)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
* * *
الوكيل هو من يتولى الأمر ويحفظه ويرعاه، والمعنى: كفى أن يكون الله تعالى حافظا للإنسان يتولاه، ويكلؤه ويقيه، فإذا كان الله تعالى غنيا عن عباده فعباده فقرإء إليه، كما قال سبحانه: (. . . وَاللَّهُ الْغَنِيّ وَأَنتمُ الْفُقَرَاءُ. . .) فعلى المؤمن أن يتقي الله تعالى، وأن يعلم أنه مالك أمره، وهو الذي يتوكل عليه، وأن الله سبحانه يحب المتوكلين لأنهم يحسون بقدرته، وعظم سلطانه، فكل متوكل عليه سبحانه يحس بعظم سلطان ربه، وضآلة سلطانه وقدره وذلك إيمان صادق، إذا قام بما يستطيع، وما تمكنه قدرته المحدودة، ويترك بعد ذلك الأمر لربه، وهنا أمر يجب أن نشير إليه، وهو تكرار قوله تعالى:
(وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) فقد ذكر ذلك القول السامي ثلاث مرات، فلماذا كان ذلك التكرار؟ إنه بلا شك بهذا التكرار يتأكد المعنى الذي يشتمل عليه القول، ولكن هذا التوكيد للمعنى جاء في كل مرة مبينا معنى خاصا، فالذكر الأول كان لتربية الإحساس بعدله، وعظم سلطانه وسعة رحمته، وأنه تسع رحمته كل الناس، فينصف المظلوم، ويبسط الرزق لذي الفاقة، فلا يضيق أحد الزوجين بالفراق، بل الله سبحانه يكلؤه، ويسعه برحمته، وذكر ذلك القول في(4/1890)
المرة الثانية لبيان استغنائه عن خلقه، وأن تقواهم لمصلحة أنفسهم ولخيرهم، وليس له بها حاجة بل هو الغنى المحمود دائما. وذكر هذا الكلام في المرة الثالثة لبيان حاجة الناس إليه، وأنهم فقراء إليه في مقابل غناه عنهم، تعالى الله علوا كبيرا.
وبعد هذا بين سبحانه قدرته القاهرة، وأنه هو الذي أنشأ الناس، وطالبهم بالعبادة، وأن من أنشأ يستطيع الإفناء، ويستطيع التبديل والتغيير في خلقه، فيستبدل بالناس ناسا، وبالأقوام أقواما، ولذلك قال سبحانه:
* * *(4/1891)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
* * *
والمعنى الجملي للنص السامي: إن يشأ الله تعالى أيها الناس إفناءكم ويأت بآخرين، فإنه سبحانه وتعالى يفعل، لأنه على ذلك قادر قدرة مطلقة لَا يحدها حد. وهي العامة الشاملة لكل شيء، وهنا نجد جواب الشرط قد حذف ودل عليه قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا) وحذفه مع ما يدل عليه يجعل الذهن يتجه إلى تعرف مدى عظمته وقدرته، وحذف مفعول الشيئة في قوله (إِن يَشَأ) قد دل عليه جواب الشرط في قوله: (يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ).
ومن هم الناس الذين خوطبوا بذلك الخطاب؛. يحتمل هذا وجهين: أحدهما، أن يكون الخطاب للناس في أمة محمد، ومن كانوا قبلهم، ويكون الكلام تابعا لقول القول المقدر عند من قدره في قوله تعالى: (وَإِن تَكْفرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ) ويكون أيضا قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) له هذه التبعية. ويكون الكلام كله في خطاب السابقين واللاحقين. وقد قلنا إن ذلك غير الظاهر.
والوجه الثاني أن يكون الخطاب في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وهو بهذا يشمل المؤمنين والمشركين. ويكون للمشركين بشكل خاص. وإن اختلاف التوجيه على هذا النحو يترتب عليه الاختلاف في جواب الشرط، وهو من الذين يذهبهم الله تعالى، ويأتي بآخرين، وله القدرة التامة على تنفيذ ما يقول تعالى؟ فعلى الوجه الأول يكون المعنى: إن يشأ سبحانه أن يذهب بهذا العالم الإنساني، ويأتي بعالم(4/1891)
آخر يعبده ويؤمن به، فإنه الفاعل المختار المريد، ويكون القصد بيان قدرة الله تعالى الشاملة، وإثبات أن كفر الكافر ليس بعيدا عن تقديره، وإيمان المؤمن كذلك، فهو الذي خلق الإنسان صالحا لأن يسلك طريق الشر وطريق الخير، وأن ذلك بإرادته، ولو أراد غيره لكان ما أراد لأنه هو الذي يقول للشيءكن فيكون، وهو الذي خلق الملائكة الذين لَا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، ويكون ذلك كقوله تعالى: (إِن يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَأتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ).
وعلى التوجيه الثاني - وهو أن يكون الخطاب للمشركين الكافرين بالرسالة المحمدية والمسلمين الذين يكونون على طرف الإسلام - يكون المعنى إن استمررتم على الشرك أو كان منكم الكفر بعد الإيمان، فإن الله تعالى بمقتضى سننه في الفطرة الإنسانية يفنيكم بإذهاب قوتكم وسيطرة الفساد عليكم، ويجيء من بعدكم من ينصر الحق، ويكون النص كقوله تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدلْ قَوْمًا غَيْرَكُم ثمَّ لا يَكونوا أَمْثَالَكُمْ)، وكقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، وقد ذيل الله سبحَانه النص الكريم ببيان قدرته الكاملة على ذلك التغيير، فقال تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا) أي أن الله سبحانه وتعالى قدير على ذلك التغيير والتبديل الذي تستغربونه وتستبعدونه، وقد قدم الجار والمجرور وهو قوله (عَلَى ذَلِكَ) لموضع الاهتمام وهو التغيير والتبديل، الذي يستبعدونه لفرط إحساس المشركين بقوتهم، وغرورهم بدولتهم، واستضعافهم لشأن المؤمنين الصادقين.
* * *(4/1892)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
(مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ... (134)
* * *
الثواب ما يعود على الإنسان من أي عمل يعمله، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ثم أطلق الثواب في القرآن على الجزاء، وذلك في مقابل العقاب الذي هو جزاء الشر، والمراد هنا على هذا الأساس نعيم الدنيا، والنتائج الطيبة لأعمال الدنيا. ومعنى النص السامي من يكون من شأنه وطوية نفسه أن يطلب نعيم الدنيا وما فيها من خير، فإن الله(4/1892)
تعالى يعطيه ما يطلب إن اتجه إلى طلبها عن طريق الحق والدين، فإن الله تعالى ذا السلطان الكامل في الدنيا والآخرة هو وحده عنده نعيمهما معا، فمن أراد الدنيا عن طريق الخير والحق، فإنه سينال ذلك بتوفيق الله تعالى وتمكينه.
وهذا الكلام يطوي في ثناياه معاني ثلاثة:
أولها - أن الاستجابة لما يطلبه الله سبحانه وتعالى تؤدي إلى خير الدنيا من عزة ورفعة وقوة وسلطان في الأرض، وتعاون على إصلاحها ومنع فسادها، وتواصل وتراحم، من غير تقاطع ولا تدابر.
ثانيها - أن من يطلب الدنيا من غير طلب الآخرة ولا يستجيب لداعي الله، يكون قد طلب الأخس وترك الأخطر منهما، ولا يكون طالبا لها على وجه الحق، ويكون محاسبا على كل ما نال من مغانم في هذه، ولذا قال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا). ثالثها - أن النص الكريم يفيد قدرة الله، وكمال سلطانه، وعدله في الثواب والعقاب، وأنه يعلم الخير ويجزي عليه والشر ويعاقب صاحبه (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8). ولذاً ختم سبحانه الآية بقوله:
(وَكانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) أي أن الله سبحانه وتعالى عالم علما دائما أزليا علم من يسمع ما يجهر به ويسر، ومن يطلع على حركات النفوس، وخلجات القلوب، وما يجيش في الصدور، وعالم علم من يبصر أدق الأعمال وأخفاها من خير أو شر، وإنه مجازي كل إنسان على مقتضى هذا العلم الذي لَا تخفى عليه خافية.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
* * *(4/1893)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
* * *
في الآيات السابقة أمر الله بالعدل، ولو كان في مصلحة الكافرين، وأمر بالعدل بين الأزواج، وإنه أساس قيام الأسرة، وإن كان العدل في الأسرة أمرا شاقا، لأنه يتصل بالنفوس، لَا بالأمور المادلة. إذ العدل في الحقوق الظاهرة يكون ممهلا ليس صعبا، أما المساواة في الأمور النفسية فمن الأمور التي تشق على النفوس. ثم بيَّن سبحانه وتعالى سلطانه الكامل، ورقابته على الأعمال ما ظهر منها وما بطن، وتستوى في ذلك أعمال الجوارح، وأعمال القلوب وخلجات النفوس، وفي هذه الآية يبين أن العدل خاصة أهل الإيمان، وقد أمر الله به المؤمنين، لأنه مقتضى الإيمان، وهذا العدل يعم العدو والوليّ على السواء.
ولذلك قال سبحانه:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) النداء (يَا أَيُّهَا) للتنبيه، وقد اختير اللفظ الدال على النداء. للبعيد لتعظيم التنبيه إلى الأمر الخطير الذي يدعوهم إليه، وهو العدالة التي بها ميزان السماء والأرض، والتي هي دعامة الإسلام الأولى، وسِمَتُهُ ومظهره، ومعنى " قوَّامين " أن تقوموا على القسط وهو العدل وترعوه حق رعايته، فقَوَّام صيغة مبالغة من قام بالأمر، وقام عليه وتعهده، وهو أبلغ من كونوا عدولا، لأن القوَّام بالعدل تكون فيه خصال ثلاث:
أولاها: أن يعدل في ذات نفسه، فلا يظلم أحدا.
والثانية: أن تكون العدالة شأنا ملازما له لَا يفترق عنه، لتكون كالسجية من سجاياه، والملكة من الملكات.(4/1894)
وثالثها: أن يرعى العدل في غيره، فلا يعدل فقط في القضية التي تعرض عليه ليقضى فيها، بل يعمل على منع الظلم حيث كان، وأيا كان، فليس قوَّاما بالقسط من يرى مظلوما يُظلم، أو ضعيفا يهضم، ولا يمنع الاستمرار في ظلمه، ولو لم يكن قاضيا يحكم بين الناس، وهذا تطبيق لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهُوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ الظَّالِمِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَّنَ اللَّهُ قلوب بعضكم ببعض، ثم تدعون فلا يستجاب لكم " (1).
وقد أمر الله تعالى بالعدل بهذه الصيغة فقال: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) فلم يقل تعالت كلماته " اعدلوا "، أو " قوموا بالقسط ".، بل قال سبحانه: (كُونُوا) وهذا التعبير يقتضي أمرين:
أحدهما - أن يروضوا أنفسهم على العدالة، ويربوها ويعلموها لشباب هذه الأمة، وَيفْطِموا النفوس عن شهواتها، فإنه لَا يذهب بالعدل إلا الشهوة، فليربوا أنفسهم على السيطرة عليها، وجعلها أمة ذلولا، لتكون النفس عادلة دائما. وثانيهما - أن ينصبوا أنفسهم لنشر لواء العدل، فلا يتركوا ظالما يرتع، ولا مظلوما يخضع، سواء أكان الظالم فردا أو جماعة، أم كان أمة، فأمة العدل يجب أن تكون قوَّامة بالعدل.
وإن القوامة على العدل توجب عدالة الإنسان في نفسه، وأهله، وولده، وصحبه، وكل من يتصل به، وتوجب منع الظلم أنَّى يكون، وتوجب العدل في الولاية والقضاء، والصلح بين الناس.
وهناك أمر هو سبيل الحق، وطريق معرفته، وهو الشهادة، إذ هي السبيل للعدل في القضاء والولاية والصلح، وهي سبيل إحقاق الحق، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: (شُهَدَاءَ لِلَّهِ).
________
(1) سبق تخريجه.(4/1895)
ومعنى الشهادة لله تعالى، أن يقول الحق طلبا لرضا الحق جلَّ جلاله، لايلتفت إلى رضا المخلوق، أيَّا كان ذلك المخلوق، فإن تحرِّي رضا المخلوق قد يذهب بالحق، ويضعف سلطانه، وإن الشاهد إذا لاحظ جانب الله في شهادته قال الحق من غير تلعثم ولا اضطراب، وأفاض الله تعالى عليه نورا، فلا يضل في شهادته، ولا يخطئ ناحية من نواحي الحق.
وقد فهم بعض المفسرين أن قوله تعالى: (شُهَدَاءَ لِلَّهِ) حال من الذين آمنوا، والمعنى على هذا كونوا قائمين بالحق حال كونكم شهداء به لله تعالى، وعلى هذا التفسير تكون القوامة على الحق مقصورة على الشهادة غير عامة. وقد ضَعَّفَه أكثر المفسرين. وجمهورهم على أن قوله تعالى " شهداء لله " خبر بعد خبر، أي أن هناك أمرين طلبهما المولى جلّ شأنه:
أولهما: القوامة بالقسط، وهذا عام للشَّهادة وغيره.
وثانيهما: أنه خصَّ الشهادة بالذكر، لأنها السبيل للحق، والشهادة لأجل رضا الله تعالى هي السبيل لكل عدل وكل حق.
والشهادة لله تعالى توجب ألا يحابَى قريب لقرابته، ولا يحابى غني لغناه، ولذا قال تعالى:
(وَلَوْ عَلَى أَنفسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) والمعنى اجعلوا الشهادة لله تعالى فلا تنطقوا إلا بالحق، ولو أدى ذلك إلى أن تكون العاقبة ألما ينزل بالوالدين والأقربين، فالمحاباة على حساب الغير ظلم، وصلة الرحم لَا تبرر الظلم، وليس من الإحسان إلى الوالدين أن تقرهما على الظلم، وترضي لهما أن يأكلا الحقوق، كما أنه لَا يصح أن تكون الرحمة بالأقارب الأقربين طريقا للظلم، فإن هذه لا تكون رحمة حقيقية، ولكنها شفقة جنونية، فالأولى حملهم على الحق، وذلك بأداء الشهادة لله، وبالحق.
وقد يسأل سائل: ما معنى الشهادة على النفس، وقد أجاب عن ذلك المفسرون بأن الشهادة على النفس هي الإقرار عليها بما ارتكبت، وقد قال(4/1896)
الزمخشري أن يشهد بما يؤدي إلى وبالها، بأن يشهد على سلطان ظالم فيؤذيه، وقد قال في ذلك - رضي الله عنه -: " ويجوز أن يكون المعنى وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم أو على آبائكم وأقاربكم، وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره ".
وإنه بهذا الذي قرره جار الله الزمخشري ننتهي إلى أن الشهادة على الوالدين والأقربين تكون بإلزامهم بحقوق عليهم مباشرة، وتكون بالنسبة للأنفس بالإقرار بإلزامها، وتكون بالشهادة في الأمور التي ربما تؤدي إلى الإضرار بهم كشهادتهم في أمر عام قد يؤدي إلى حرمانهم من المزايا الاي يطلبونها، كمن يشهد بمجرى ماء لشخص تؤدي إلى حرمانهم من بعض ما يبغون، وقد تكون بالشهادة على أصحاب السطوة الذين يؤذون من يشهد عليهم. . . وهكذا.
وإنه قد قال قتادة في معنى هذه الآية: " أقم الشهادة يا بن آدم، ولو على نفسك أو الوالدين، أو الأقربين، أو على ذي قرابتك، وأشراف قومك، وإنما الشهادة لله، وليست للناس، وإن الله تعالى رضيَ بالعدل لنفسه، والإقساط والعدل ميزان الله في الأرض، به يرد الله من الشديد على الضعيف، ومن الكاذب على الصادق، ومن المبطل على المحق. . . وبالعدل يصلح الناس ".
وقد يكون سبب الانحراف في العدل أو الشهادة أن تكون الخصومة بين غني وفقير، فقال سبحانه:
(إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) أي لَا يصح أن يكون اختلاف المتخاصمين أو المتعاملين، أو المشتركين غنًى وفقرًا سببا في اجتناب العدالة، فلا يمنع الغنى حقا لغناه، ولا يعطى أحد غير حقه لفقره، كما لَا يصح أن يحابَى الغني أو يعفى من العقاب لجاه ماله، ويعاقب الفقير بعقوبة أشد لفقره، فالفقر والغنى بأمر الله تعالى، ولذا قال: (فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا) أي فالله سبحانه وتعالى هو الأولى والأجدر بحساب الغني والفقير، وهو الذي رتب الحقوق والواجبات، وقسم الأموال بحكمته، ونظمها بإرادته، وهو الأعلم بمصالح العباد، وهو الذي(4/1897)
يتولى النظر لكليهما بعين رحمته، ويفيض هدايته، روى ابن جرير عن السُّدَّي أنه قال: نزلت في النبي - صلى الله عليه وسلم -، إذ اختصم إليه رجلان، غني وفقير، وكان ضلعه مع الفقير، يرى أن الفقير لَا يظلم الغني، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير: (إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا).
وإن الذي يستفاد من هذه الرواية مع أصل النص الكريم أن الغنى أو الفقر لا يصح أن يكونا سببا في التفاوت في الحكم؛ لأن الله هو الذي نظم الكون بما فيه ومن فيه، فهو الذي أراد للفقير الفقر مع الأسباب، وأراد للغني الغنى مع الأسباب الظاهرة لدينا، والمصلحة الإنسانية هو سبحانه وحده قدرها، فهو أولى بأن يكون الغني له لأنه هو الذي منحه، وأن يكون الفقير له لأنه هو الذي منعه، فابتلى الأول بالمال، وابتلى الثاني بالحرمان.
هذا حكم الله، وقد رأينا ناسا يحاربون الغنى، ورأينا مع الأسف قضاة يمنعون بعض الحقوق، ويمنحون باسم الغنى والفقر. فهذا " محمد " خير البشر عندما علم الله - الذي يعلم السر وأخفى - أنه يضلع مع الفقير بقلبه، ذكره بأن الله أولى بالغني والفقير، وأنه مقسم الأرزاق، فكيف يسوغ لأحد من البشر أن يظلم غنيا لماله؟!! أو يحابيه لذلك.
وقال الزمخشري: " - فإن قلت - لِمَ ثنى الضمير في (أَوْلَى بِهِمَا) وكان حقه أن يوحد، لأن قوله: إن يكن غنيا أو فقيرا في معنى إن يكن أحد هذين - قلت: قد رجع الضمير إلى ما دلَّ عليه قوله: إن يكن غنيا أو فقيرا إلى المذكور، فلذلك ثنى ولم يفرد، وهو جنس الغنِيّ وجنس الفقير، كأنه قيل: فالله أولى بجنسي الغني والفقير، أي بالأغنياء والفقراء ". . وفي هذا التخريج الذي ذكره الزمخشري إشارة إلى أن الغنَى والفقر أمران ثابتان في هذا الوجوب، لَا يمكن أن تخلو منهما الجماعة الإنسانية، لأن ذلك تنظيم الله تعالى، وإرادته الخالدة، وهو الذي يتفق مع الطبيعة الإنسانية؛ لأن القُدَر متفاوتة والأعمال مختلفة، ونتائج الأعمال كثمرات الزرع والشجر، تختلف باختلاف ما يزرع وما يغرس، وإن(4/1898)
اتحدت الأعمالَ فقَدرُ الله تعالى يسير الوجود، هذان زارعان يزرعان في قطع من الأرض متجاورات يبذران بذرا واحدا، وتسقى أراضيهما من ماء واحد، ومع هذا فذلك يأتي بزرع طيب، والآخر يأتي برديء، أو هذا يبيع بسعر جيد، وذاك يتأخر شهرا أو يتقدم شهرا فيبيع بسعر دون الأول، فمن ظن أنه يستطيع إزالة ما بين الغنى والفقر، فإنه يظن أنه يستطيع مغالبة القدر.
وإن الميل في الشهادة أو في الحكم عن الحق سببه هو اتباع للهوى، ولذا نهى الله تعالى عن اتباع الهوى فقال:
(فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا) " الفاء " هنا هي التي تسمى فاء الإفصاح؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر، كأنه يقول إن اتجهتم إلى الحق ظبونه، (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى)، بل اتبعوا داعي العقل وحكم الشرع، والهوى هو الخضوع للشهوات، وعدم الخضوع لحكم العقل، وما يوجبه الشرع، ومن اتباع الهوى الخضوع للنزعات الوقتية، والظاهر، وعدم البحث عن ذات الحقائق، فمن الخضوع للهوى أن تمنع الغني حقا لمجرد أنه غني، وتحابي الفقير لمجرد أنه فقير، فهذا من قبيل الخضوع لمجرد الإحساس من غير تفكير وبحث عن الحقائق، فإن الغني لَا يحل ظلمه، والفقير لَا يقر على ظلم.
ومعنى النص الكريم: (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى) وتجنبوه لكي تعدلوا، وتتجهوا إلى الحق من غير تعويق من العواطف أو الأحاسيس التي تلقى وهْمًا لَا حقيقة، فقوله تعالى: (أَن تَعْدِلُوا) في مقام بيان الغاية لعدم اتباع الهوى، فهو تعليل للنهي، ولا حاجة فيه إلى تقدير، ومؤدى الكلام على ذلك نهيتم عن اتباع الهوى لتعدلوا.
والكثيرون من المخرِّجين على تقدير محذوف، والمعنى على ذلك لَا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق إن اتبعتم الهوى، فإن الهوى من القاضي أو الشاهد يذهب بالحق ويضيعه، وإن هذا التخريج فيه تقديران:(4/1899)
أولهما: كلمة مخافة
وثانيهما: تقدير أن تعدلوا عن الحق.
والأظهر، والأكثر اتفاقا مع السياق والنسق البياني هو التخريج الأول، وما لا يحتاج إلى تقدير أولى مما يحتاج إلى تقدير.
(وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) قراءة الجمهور في هذا النص الكريم بواوين " وَإِنْ تَلْوُوا "، وقرأ حمزة وبعض الكوفيين بواو واحدة، " وإن تَلْوُا أوْ تعرضوا، (1).
ومعنى النص على القراءة الأولى وَإِنْ تَلْوُوا في الحكم أو في الشهادة بأن تحكموا بغير الحق، أو تشهدوا بغير الحق، أو تحرفوه، أو توجهوا الكلام إلى غير وجهته في الشهادة بأن تظهروا في الكلام معنى، وتُعَرِّضوا بغيره قاصدين له لكيلا تكون الشهادة على وجهها، فإن كل هذا لَيٌّ للكلام، إذ لَيُّ الكلام تحريفه وتوجيهه إلى غير وجهته السليمة، وذلك يشمل قول الباطل والحكم به، وتلوية مقاصد القول وإبهامه، والإعراض معناه الامتناع المطلق عن الشهادة أو الحكم، وجواب الشرط هو التهديد الشديد بالعذاب الأليم، تضمنه قوله سبحانه: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلًونَ خَبِيرًا).
أي أن علم الله المستمر الذي يعلم به دقائق الأشياء والنفوس وخفاياها قائم على أعمالكم وقلوبكم، وظواهركم وبواطنكم فاحذروه. اللهم اجعلنا من القوامين بالقسط، الشهداء بالحق، الذين لَا يتبعون الهوى، ولكن يعدلون في أنفسهم وذويهم وأهليهم، وما وُلُّوا.
* * *
________
(1) قرأها بواو واحدة حمزة وابن عامر، وقرأ الباقون بواوين. [غاية الاختصار (788) جزء2، ص 467].(4/1900)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
* * *
في الآيات السابقة كان الأمر بالعدالة في خاصة الأسرة، وانتهى الكلام إلى الأمر العام بالعدالة مع العدو ومع الولي، ومع الغني ومع الفقير. ومع الأقربين من ذوي القرابة، ومع الغرباء، وبذلك أثبت الكتاب الكريم أن العدالة خاصة الإسلام، ولازمة من لوازمه، ولا تتحقق معاني الإسلام إلا مع العدالة، وإنها قرينة الإيمان، لَا تفترق عنه، ولا تنفصل، ولذلك قرن الأمر بالعدالة بالأمر بأركان الإيمان كلها، فقال سبحانه:(4/1901)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
(يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ) هذه الآية تدل على وحدة الرسالة النبوية إلى الخليقة، إذ إن لبها هو الإيمان بالله ورسله وملائكته والكتب التي أنزلت على رسله، وأن المتأخرين يجب عليهم أن يؤمنوا بما جاء به السابقون لهم؛ لأن الرسالة الإلهية سلسلة متصلة الحلقات، كل حلقة منها تالية لسابقتها، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إن(4/1901)
صرح النبوَّة واحد " (1)، الرسالة المحمدية آخر جزء لذلك الصرح الشامخ، وبها
تمامه وكماله.
ومعنى النص السامي: يا أيها الذين أذعنوا للحق وطلبوه، وصدقوا به اجعلوا إيمانكم مستقرا وثابتا بالله جلّ جلاله، وبرسوله الذي جاء بشيرا ونذيرا وبالكتاب الذي نزَّله منجما مقسطا، وهو القرآن، وبالكتاب الذي أنزل من قبل. والمراد جنس الكتب السابقة، لَا واحد منها.
ونرى أن النص الكريم فيه أجزاء الإيمان التي يلازم بعضها بعضا، ولا ينفصل واحد منها عن باقيها، فهي كل لَا يقبل التجزئة، ولا يمكن أن يتحقق معناه إلا باتصاله بعضه ببعض.
وأول عناصر الإيمان هو الإيمان بالله سبحانه وتعالى. وذلك باعتقاد أنه واحد أحد فرد صمد، فوق كل شيء وليس فوقه شيء، ليس كمثله شيء، منفرد وحده بالألوهية، فهو الواحد في ذاته وصفاته، وهو الواحد في خَلْقه وتدبيره، فهو خالق كل شيء؛ وهو القادر على كل شيء، وهو القاهر فوق عباده، وهو الواحد في استحقاقه للعبادة، فلا يعبدُ بحق سواه.
هذه إشارات إلى معنى الإيمان بالله الرحمن الرحيم ذي الجلال والإكرام.
وإن الإيمان بالله تعالى على ذلك النحو يقتضي الإيمان بأن رحمته توجب ألا يترك الناس هملا يضلون، ولا يهتدون، ولا يقومون بحق الطاعة، بل لَا بد من بشير ونذير، ومن يكون رحمة للعالمين، فلا بد من الرسل يرسلهم، وكان حقا على الذين يدركون رسولا أن يؤمنوا به، فكان حقا على الذين أدركوا محمدا أن
________
(1) في معناه ما رواه البخاري: المناقب - خاتم النبيين (3535)، ومسلم: الفضائل - ذكر كونه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين (2286) وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ " مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ ".(4/1902)
يؤمنوا به، ويكون المراد من رسوله هنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وذلك واضح من الإفراد ومن تكرار كلمة الرسول مقترنة بالكتاب الذي يُنَزَّل تنزيلا.
والكتاب الذي نُزَل على رسوله هو القرآن الكريم، وقد ذكر التعبير عن نزوله بـ (نَزَّلَ) للإشارة إلى نزوله منجما، وأنه لم ينزل جملة واحدة، وأنه كان لا يزال ينزل وقت هذا الخطاب القدسي، ومعنى الإيمان بالكتاب الإيمان بأنه حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه من عند الله العليّ الحكيم، وأنه كلامه سبحانه وتعالى. وأن كل ما فيه من أخبار صادق، وما فيه من أحكام واجبة الطاعة. وأنه حجة الله الخالدة، وأنه حبل الله - تعالى - الممدود إلى يوم القيامة، وأنه محفوظ بحفظه، لَا يعتريه تغيير ولا تبديل، لأن الله تعالى قد وعد بحفظه، وهو صادق، وأنه ما حاربه جبار إلا قصم الله تعالى ظهره.
والكتاب الذي أنزل من قبل هو كتب النبيين السابقين التي أنزلها الله - تعالى عليهم، ومعنى الإيمان بها التصديق برسالات الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى، وذكر فيها كتبهم، وذكر بجوارها أنها أنزلت، لأنها قد مضت وانقطع نزولها.
وعبر عنها بالفرد دون الجمع، للإشارة إلى تصديق معناها الجامع لها، وهو أنها رسالات الله تعالى إلى أهل الأرض، وهو معنى لَا يتغير، بل يشير إلى الوحدة.
وقد يقول قائل ما معنى أمر أهل الإيمان بالإيمان، ألا يكون في هذا تحصيل حاصل، وأمر بما هو كائن؟ لقد أجاب المفسرون عن ذلك بأن المراد بالأمر في قوله " آمِنوا " اثبتوا على إيمانكم واستمروا عليه، ولا تتحولوا عنه، فالأمر أمر بالثبات والدوام.
ويصح أن نقول مع ما قاله المفسرون إن الحال التي عليها المؤمنون حال إذعان وتسليم وتصديق، والأمر بالإيمان مع هذه الحال التي هم عليها واستنارت قلوبهم بها بيان لأجزاء الإيمان، وأركانه وأصوله ومعانيه المتلازمة، فلا يفرقون بين(4/1903)
أجزائه، ولا يفر قون بين أحد من رسله سبحانه، وفي هذا الأمر بيان اتصال المسلمين بالديانات السابقة، وبيان أن الإسلام لَا يهدم الأديان قبله. ولكنه يتممها. وأنه الخطوة الأخيرة في الوحي الإلهي، وأن من يكفر به وقد أدركه يكفر بغيره، وإن ادعى اعتناقه، ومن يصدقه من غير إيمان بالكتب السابقة لَا يكون صادقا.
وننبه هنا إلى أمر لفظي، قد أشرنا إليه، وهو أن الله تعالى عبر عن القرآن بقوله " نزَّل " وعن غيره بـ " أنزل "، لأن القرآن قد نزِّل منجما (1)، وكان لَا يزال ينزل وغيره قد تم نزوله، وفي ذلك إشارة إلى طريقة نزول القرآن وأنه أمر أراده الله تعالى لمصلحة العباد، وتسهيل هدايتهم به، وتسهيل حفظ النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه له، ولأُنس النبي - صلى الله عليه وسلم - باستمرار الوحي ينزل عليه.
وبعد أن بين سبحانه حقيقة الإيمان، ذكر ما يؤدي إليه الكفر فقال سبحانه وتعالى:
(وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا) أي من يجحد بالله، فلا يؤمن بوحدانيته ولا بقدرته المبدعة الخالقة ولا بحق الإذعان له، والعبودية له سبحانه وحده، ومن ينكر الملائكة، والكتب المنزلة، والرسل المرسلة واليوم الآخر، الذي ينتهي إليه أمر العباد، من يجحد ذلك الجحود، فقد حاد عن السبيل، وانحرف عن الجادة، وبُعد في التيه بعدا كبيرا، لَا يمكن معه أن يعود إلى الطريق المستقيم؛ لأنه أوغل في الشر إيغالا شديدا، وهنا نجد عناصر خمسة يجب الإيمان بها، وهي الإيمان بالله جل جلاله، والإيمان بالملائكة وهم عباده المطهرون الغائبون عنا حسنا، القريبون منا ومنهم من ينزل بوحي الله تعالى على رسله، ومن ينزل بالكتب؛ ولذلك قرن بالكفر بهم الفكر بالكتب التي ينزلها تعالى على خلقه مسجلة أحكامه وشرائعه وأوامره ونواهيه، واقترن الكفر بالرسل بالكفر بالكتب؛ لأن الرسل هم الذين يبلغونها، ويبينونها، ويدعون إليها،
________
(1) أي مفرقا بحسب الحوادث.(4/1904)
فالكتاب، ينطق بالحق ببيان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنه يُتبع الكفر بكل ما سبق الكفر باليوم الآخر، والكفر باليوم الآخر هو طريق الضلال البعيد، الذي لَا يستطيع التائه الضال إذا سار فيه أن يعود إلى الحق، إذ كلما أصر على الكفر باليوم الآخر ضل في فهم معنى الحياة، وبذلك ينزل إلى مرتبة الحيوان الذي لَا يعرف أنه موجود لغاية، وأن له نهاية هي ابتداء لحياة أفضل وأبقى، ومن ظن ألا حياة إلا هذه الحياة الفانية، فهو يلهو ويلعب، ويعيث. ويفسد، ولا ينتقل من ضلال إلا إلى ضلال، لَا يهتدي بهدى، ولايسترشد بإرشاد.
وإن قوة الإيمان وعظمة الإذعان تكون في الإيمان بالغيب، لأن المؤمن يخرج من أسر الحسِّ إلى انطلاق الروحانية، فيعلو فيها مدارج، ويسلك سبلا فجاجا.
وإن قوة الإيمان يقين ثابت مستمر، فلا هداية لمن يكون مزعزع العقيدة، مضطرب النفس يعرض له عارض فيرى نور الإيمان، ثم تعرض ظلمة فينطمس، ويستمر حائرًا بائرًا، ولذا قال سبحانه في أصحاب هذه الحال:
* * *(4/1905)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا ... (137)
* * *
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري: إن هذه الآية واردة في أهل الكتاب، فقال في ذلك: " عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة، ثم أقر من أقر منهم بعيسى والإنجيل، ثم كذب به بخلافه إياه، ثم كذب بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فازداد بتكذيبه كفرا على كفره.
ومؤدى هذا الكلام أن هؤلاء هم أهل الكتاب الذين آمنوا بالتوراة، ثم عبدوا العجل وحرَّفوا التوراة، ثم آمنوا بالإنجيل ثم حرَّفوه وكفروا بعيسى وبالله، إذ جعلوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ".
ونرى أن نص القرآن يفيد أن الذين يخبر عنهم - سبحانه طائفة واحدة آمنت ثم كفرت، ثم آمنت ثم كفرت، ثم ازدادت كفرا. . وما قاله ابن جرير يؤدي إلى أن يكون الكلام في طائفتين: إحداهما اليهود والأخرى النصارى، ولذلك نرى(4/1905)
ترجيح قول الذين قالوا إن هذا النص في مرضى القلوب والمنافقين الذين اضطربت عقائدهم، فهم يؤمنون أول النهار، ويكفرون آخره، فيعتريهم قبس الإيمان، فيهتدون حينا فيؤمنون، ثم تعتريهم ظلمة نفوسهم فيكفرون، ثم لَا يزالون يترددون حتى تنطفئ قبسات النور من قلوبهم، وبذلك يزدادون كفرا، وذلك وصف دقيق للمترددين الحائرين، يبتدئون بحيرة مضطربة بين النور والظلمة، ثم يوغلون في الظلام إيغالا.
وإن أولئك الذين يترددون ذلك التردد، ثم ينتهون إلى تلك النهاية الموغلة في الكفر لَا تنالهم المغفرة، ولذا قال سبحانه:
(لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا) هذا نفي مؤكد للغفران والهداية معا، فالله لَا يغفر لهم، ولا يهديهم سبيلا مستقيما، بل هم في حيرة مستمرة، واللام في قوله: (لِيَغْفِرَ)، و (لِيَهْدِيَهمْ) هي اللام التي يسميها النحويون لام الجحود أي النفي المؤكد، وهي تكون بعد الفعل المشتق من الكون،، ككان ويكون، ولتقريب معناها نضرب مثلا من عبارات الناس، فيقول بعض الناس: لم أكن لأكرمك أي لم أوجد لأكرمك، أي ليس من شأني وحالي المستمرة استمرار وجودي أن أكرمك، ويكون معنى النص السامي على هذا ذكر ما يؤدي إليه الكفر.
وبعد أن بين سبحانه حقيقة الإيمان لم يكن من حكمته وعلمه وكمال تدبيره أن يغفر لهؤلاء، ولا أن يهديهم السبيل، والسبب في ذلك أنه لَا تتصور منهم التوبة والرجوع إلى الحق، والإنابة إلى الله، حتى تكون منهم التوبة النصوح التي تجبُّ ما قبلها من الذنوب، إذ أن التوبة تكون لمن يقع في الذنب عن جهالة، ثم يتوب قبل أن يوغل في الشر ويفقد معه كل عناصر، وكذلك لَا يهديهم سبيلا؛ لأن الهداية تكون لمن لم يظلم قلبه، ولمن أراد الهداية، وهؤلاء لَا يريدونها.
فنفي الغفران، ونفي الهداية، بسبب أنهم أركسوا في الشر، وأحاطت بهم خطيئاتهم، ولقد قال في ذلك الزمخشري - رضي الله عنه -: " والمعنى أن الذين(4/1906)
تكرر منهم الارتداد، وعهد منهم ازدياد الكفر، والإصرار عليه يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف، من إيمان صحيح ثابت، يرضاه الله؛ لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب ضربت بالكفر، ومرنت على الردَّة، حيث كان الإيمان أهون شيء عندهم، وأدونه حيث يبدو لهم فيه كرة بعد أخرى ".
اللهم هبنا إيمانا ثابتا وقلوبا مخلصة نقية من أخلاط الريب، إنك سميع الدعاء.
* * *
(بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
* * *(4/1907)
كانت الآيات السابقة، في بيان الإيمان الحق الصادق، وأنه يشمل الإيمان بالرسل وكتبهم، والإيمان برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وكتبه، وكل ذلك في ظل الإيمان بالله تعالى باعث الرسل ومنزل الكتب من عنده، وخالق كل شيء، ومبدع الكون. ثم كانت الآية التي وليت ذلك في ذكر حال هؤلاء المترددين الحائرين الذين لَا يستقرون على حال، وهم قسمان: قسم ضعيف الإيمان مضطرب الاعتقاد، وهؤلاء قد يؤمنون ثم يرتدون لغير غاية. والقسم الثاني يعلن الإيمان ويبطن الكفر، ويتردد مظهره بين الإيمان والكفر؛ إذ إنه مهما يطوِ اعتقاده في نفسه لَا بد أن يظهر على لسانه، كما قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ).
وهذه الآيات في شأن المنافقين:(4/1908)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
(بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
المنافقون هم الذين خلصوا للنفاق، وأصبح الإيمان لَا موضع له في قلوبهم، وهم المنافقون في الاعتقاد بالرسالة المحمدية؛ وذلك لأن النفاق قسمان: نفاق خالص، وهؤلاء كفار في ذات الرسالة المحمدية، وهؤلاء كفار كما قال تعالى في الآيات اللاحقة. والقسم الثاني نفاق ليس خالصا، وهو لَا يتصل بالعقيدة، بل يتصل بالأخلاق، وهو الذي جاء ذكره في الحديث " آية المنافق أربع: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، وإذا خاصم فجر " (1)، وبعض الروايات ليس فيها الخصلة الرابعة (2). وهذا النوع هو الكثير الشائع في عصرنا.
والتعبير بقوله: (بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ) فيه نوع مجاز؛ لأن البشارة لَا تكون غالبا إلا في الخبر السار، ويقول في ذلك الأصفهاني في مفرداته: " وبشرته أخبرته بسار
________
(1) روى البخاري: الإيمان - علامة النفاق (34)، ومسلم: الإيمان - بيان خصال النفاق (58) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمرو.
(2) عَنْ أبِى هُرَيْرَةَ أن رَسُولَ اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وإِذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإِذَا اؤْتمِنَ خَانَ " [رواه البخآرى: الأدب].(4/1908)
بسط بشرة وجهه، وذلك أن النفس إذا سرت انتشر الدم فيها انتشار الماء في الشجر. . ويقال للخبر السار البشارة والبشرى، قال تعالى: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ).
وقالوا إن التعبير بالبشرى في هذا المقام، وهو إنذار المنافقين بالعذارب الأليم فيه نوع تهكم بهم؛ لأن المنافق فيه طمع وهو يريد النفع الدنيوي، أو المادي، فيقال لهم ما تنتظرونه من أمر مبشركم ويرضي مطامعكم هو عذاب شديد. مؤلم أشد الإيلام، فهو ثمرة نفاقكم، فما غرستم من غرس هو شر محض، فلا ينتج إلا شرا.
* * *(4/1909)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
(الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... (139)
* * *
هذه بعض أحوال المنافقين، وموقع (الَّذِينَ يَتَّخِذونَ) إما أنها بدل أو عطف بيان من المنافقين المذكورين في الأولى، وإما أنها في موضع النصب على الاختصاص، ويكون المعنى على هذا: أخص الذين يتخذون. . .
وعندي أن البدل أولى؛ لأن تلك الأحوال تعمهم، ولا تخص فريقا منهم دون فريق.
وما معنى اتخاذهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين - نقول إن الذي يقرب معنى الآية الكريمة أن نقول إنهم يلتمسون النصرة والعزة والكرامة من الكافرين، ويجعلون انتماءهم إليهم لَا إلى الدولة الإسلامية، ويتخذون هذا الولاء ضد المؤمنين، أي أنهم يجعلون الولاء في الأمر الذي يكون فيه خلاف بينهم وبين المؤمنين، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).
أي مخالفين ومعاندين ومباعدين ولاء المسلمين، ومتجهين إلى ولاء الكافرين، ومؤدى هذا أنهم يتركون ولاء المؤمنين، للوصف اللازم لهم وهو الإيمان، ويتخذون ولاء الكافرين للوصف المميز لهم وهو الكفر، وهم بهذا يحاربون الله ورسوله، والله تعالى يقول: (لا تَجِدُ قَوْمًا يؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).(4/1909)
وإن الذين تكون أوصافهم هكذا هم كافرون.
والولاء قسمان: ولاء نصرة وانتماء، وهذا منهي عنه من المؤمنين إلا بالضرورة، وولاء مودة ومحبة، وهذا غير منهي عنه بالنسبة لغير المسلمين إلا إذا كانوا قد حاربوا الله ورسوله وخرجوا محاربين له منابذين.
وقد استنكر سبحانه وتعالى أن يكون لهؤلاء المنافقين ما يبرر هذا الولاء، ولذا قال سبحانه وتعالى:
(أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) إن هؤلاء المنافقين تضل أفهامهم، ويطمس على مداركهم، ويفسد تفكيرهم؛ لأنهم مردوا على الابتعاد عن الحقائق والحكم على الزمان بحالهم الوقتية، ولا تنفذ عقولهم إلى ما وراء ظاهر الأمور، فهم يطلبون العزة من غيره.
والاستفهام هنا لإنكار الواقع، أي للتوبيخ على أمر وقع منهم، وهو أنهم يطلبون العزة ويريدونها إرادة شديدة راغبين فيها من الكافرين الذين لَا يملكون أن يعزوا غيرهم لأنهم يعاندون الله تعالى، ولا عزة لمن يجحد ويعاند الله العزيز الحكيم. وقد أكد الله تعالى ذلك المعنى بقوله تعالت كلماته:
(فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا) أي أنه لَا عزة إلا ما يكون من عند الله تعالى، ولمن يطيع أوامره، وينتهي عن نواهيه، وقد أكد الله تعالى أن العزة له وحده بعدة مؤكدات منها التوكيد بـ " إنَّ "، ومنها ذكر لفظ الجلالة، ومنها ذكر عمومها بكلمة (جَمِيعًا).
إن العزة لله وحده، فليس بعزيز من يعانده؛ إذ ليست العزة غطرسة وكبرياء، ولكنها معنى نفسي يسكن في القلب فيحس باستعلاء على مظاهر الحياة، واستجابة لمعانيها وأولئك الذين يريدون العزة من غيرهم يبنونها على أوهام، وعلى مطامع مادية، وليست هذه العزة، إن كل استعلاء يبنى على أمر مادي، أو جاه خارجي، أو مطمع دنيوي، إنما هو وهم سرعان ما يزول، وتذل النفوس التي(4/1910)
لا تتمسك بالحق، فالحق فيه العزة، وهو الذي يكون من عند الله، فلا عزة إلا من الله، والذل حيث لَا يريد وجه الله.
وإن أولئك المنافقين لفرط كفرهم وإيغالهم في البعد عن الله يشاركون الذين يثيرون السخرية عند تلاوة القرآن، ولذا قال سبحانه:
* * *(4/1911)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا ... (140)
* * *
إن المنافقين يوالون الكفار ويجعلون الولاية لهم، ويجلسون معهم مستهزئين ساخرين معاندين الله تعالى مع أنه سبحانه وتعالى نزل في كتابه المحكم أنكم إذا سمعتم أيها المخاطبون بالحقائق الإسلامية الذين يتحدثون ساخرين بالقرآن، فلا تقعدوا بل اتركوا مجلسهم وأعرضوا عنهم حتى يخوضوا أي يتكلموا في حديث غيره، والذي نزل في القرآن ونهى عن الجلوس مع الذين يستهزئون بما جاء به هو في سورة الأنعامِ المكية التي نزلت قبل سورة النساء المدنية، وهو قوله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِين يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخوضوا فِي حَدِيث غَيْرِهِ).
والخطاب في قوله تعالى: " عليكم " لعامة الذين يتلون القرآن الكريم من مؤمنين صادقين، ومنافقين، ومؤدى الكلام أنه من المنهي عنه أن يجلس المسلم مع مثير السخرية على آي القرآن، والمشركون يفعلون ذلك، ومع ذلك لَا يكتفى المنافقون بهذا، بل إنهم يولونهم أمورهم، ويجعلون عزتهم منهم، ويكون ضمير الغيبة عائدا على الكافرين.
وبعض العلماء قال إن الخطاب للمنافقين وهو لَا يخرج عن المعنى السابق.
وأرى أن الخطاب كله للمؤمنين، وفيه تحذير للمؤمنين من أن يجالسوا المنافقين إذا استهزءوا بآيات الله تعالى، وسخروا من الأحكام الإسلامية؛ لأن سماع الشر شر؛ ولأن سماع الاستهانة بالقرآن قد تؤدي إلى الاستهانة من السامع، فأول الشر سماع الشر، وإن أولئك المنافقين يبدو في مجالسهم كلمات الكفر وكلمات الاستهزاء.(4/1911)
وعلى ذلك يكون ضمير الخطاب للمؤمنين وضمير الغيبة للمنافقين والكافرين.
وقد بين سبحانه أن القعود مع الأشرار، وسماع كلمات الكفر والاستهزاء، يجعل المؤمن كالكافر والمنافق، ولذا قال سبحانه:
(إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ) أي إنكم أيها المؤمنون إن استمعتم إلى الكفار والمنافقين وهم يعلنون الكفر بآيات الله تعالى وجحودها تكونون مثلهم في الاستهانة بكتاب الله تعالى ورسالة الرسول الأمين، والاستهانة بالأحكام الإسلامية، وقد رأينا ذلك عيانا، فإن أولئك الذين يجالسون الفرنجة ويقرءون ما يكتبون عن الإسلام، ويثيرون السخرية على أحكامه تسري إليهم العدوى، ولقد سمعنا بعض هؤلاء ممن يتسمى باسم إسلامي، وهو من أسرة إسلامية، يتهكم على قوله تعالى: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ. . .)، فلعنه الله تعالى، ولعنة الله على كل من لا يؤمن بسلامة هذه القضية، ولعنة الله على كل من ينكر ميراث القرآن أو يهون من شأنه.
وإن الآية يستفاد منها فوائد: أولها أن الاستهزاء بالحقائق القرآنية لَا يقدم عليه مؤمن. وثانيها أن الاستماع إلى الكفر بها والاستهزاء يجعل السامع كالمتكلم؛ لأن السكوت لَا يخلو من رضا ولو كان جزئيا، ثالثها أن الشر يسري من القائل إلى السامع كما يسرى السم في الجسد، وكما يجري الشيطان في النفس.
وقد أكد سبحانه النهي عن مجالسة المنافقين بقوله تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهَ جَامِع الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) أي أنه إذا كان المنافقون يطلبون العزة من الكافرين، ويطلبون الولاء والنصرة منهم ويحاولون بذلك أن يجتمعوا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن الله سبحانه وتعالى جامعهم في الذل والهوان، لا في العز والاستمكان، إنه جامعهم في جهنم جميعا بلا استثناء قط؛ لأنهم تحدوا الله ورسوله، ولأنهم جحدوا بآيات الله تعالى وسخروا منها، ولأن كلمة الكفر تجمعهم وتفرقهم في النوع لَا في الأصل. فإن الكفار قسمان: قسم أعلن الكفر(4/1912)
والمناوأة وأولئك أقوياء الكفار، وقسم كفر وغش وخدع، فادَّعى الإسلام، وكلاهما في جهنم وان كان المنافق في الدرك الأسفل منها.
* * *(4/1913)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
(الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ... (141)
* * *
التربص الانتظار، فيقال تربص بمعنى انتظر، ويقال تربص به إذا انتفره مراقبا له، ففي قوله: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَربَّصْنَ بِأنفسِهِنَّ ثَلاثَةَ فرُوءٍ)، يراد التربص مع مراقبة النفس، وملاحظة حال الحيض وغيرها.
وهؤلاء المنافقون عند اشتداد الشديدة، وقيام الحرب ينتظرون مراقبين المؤمنين وغيرهم، فإن كان النصر الفاتح الفاصل بين قوة الشرك وقوة أهل الإيمان بنصر الله تعالى وتأييده قالوا: نحن معكم لنا حظ في الغنيمة ولابد أن يسهم لنا سهم فيها، وإن كان للكافرين نصيب من النصر قالوا: ألم نحطكم بحمايتنا ورعايتنا ونمنع المؤمنين من أن ينتصروا عليكم، أي أن انتصاركم كان بفضل حياطتنا ورعايتنا، فهم لطمعهم مترددون بين الفريقين كالشاة العاثرة بين غنمين، يذهبون إلى حيث المطمع العاجل، إذا احتدم القتال بين الفريقين، أما إذا كان السلم فقلوبهم وولاؤهم للكافرين دائما لأنهم منهم.
وفى النص القرآني بعض بحوث لفظية تقرب معنى النص الكريم:
أولها - أنه سبحانه وتعالى عبر عن النصر في جانب المؤمنين بأنه فتح؛ لأن الفتح فصل بين الحق والباطل، ولأنه من وراء نصر المؤمنين فتح الطريق لكي يدرك الناس الإسلام، ويدخل فيه من أراد، ولأن النصر للمؤمنين دائم، وقد عبر سبحانه عن الفتح أنه يجيء من الله وفي ذلك معنى الدوام؛ لأن الذي يجيء به هو الله القائم على كل شيء فهو باق ما بقيت الأسباب التي تتخذ للنصر.
ثانيها - أن الاستفهام في قوله تعالى: (ألَمْ نَكُن مَّعَكُمْ) معناه أننا كنا معكم مؤكدين ذلك بالاستفهام، وهو الذي يسمى الاستفهام التقريري وهو في أصله للنفي، وهو داخل على النفي، وهو: لم نكن معكم، فهو نفي لهذه القضية، ونفي النفي إثبات، ومثل ذلك قوله تعالى: (ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ).(4/1913)
ثالثها - أنه عبر عن انتصار الكافرين في الموقعة بقوله: (وِإن كَانَ لِلْكَافرينَ نَصِيبٌ) فلم يقل أن انتصارهم فتح، ولكنه قدر من النصر قلَّ أو كثر، ولا يمكن أن يكون فتحا؛ لأنه لَا ينصر الباطل نصرا دائما، ولا يكون للكافرين نصيب من النصر إلا في غفلة من المسلمين كما في أُحد، ويدوم بمقدار الغفلة، فإن كانت اليقظة كان فتح الله للمؤمنين.
رابعها - أن كلمة استحوذ معناها أحطنا بحاذيكم أي جانبيكم وهذا كناية عن الإحاطة بهم للحماية والمنع.
(فَاللَّهُ يَحْكمُ بَيْنَكمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) وإذا كانت تلك حال المنافقين، في الدنيا وحال الكافرين فيها، فإن مالهم إلى الله تعالى يوم القيامة، وهو الذي سيحكم بالحق وحده، ولا يستوي الذين يؤمنون والذين يكفرون، ومهما يكن من استنصار المنافقين بالكافرين، وتمالؤ الفريقين على المؤمنين، فالله سبحانه ولي المؤمنين سيقطع ما بين الفريقين، وسيكون المؤمنون في النعيم، وأولياء الشيطان في الجحيم.
وإنه في الدنيا والآخرة لن يجعل الله تعالى للكافرين بوصف أنهم كافرون سبيلا أيَّ سبيلٍ للسيطرة على المؤمنين بوصف أنهم مؤمنون، وإذا كنا نرى غلبة من أهل الكفر على الذين يتسمَّوْن باسم الإسلام الآن؛ فلأنهم تخلوا عن أوامر الله تعالى للمؤمنين، وخذلوا الحق، فما كانت الغلبة من كافر على مؤمن بل كانت من كافر على مسلم تخلى عن واجب الإيمان، اللهم ارفع كلمة الحق والإيمان، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لَا يرحمنا، إنك سميع الدعاء.
* * *(4/1914)
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
* * *
الكلام في المنافقين، وقد ذكر سبحانه وتعالى في الآيات السابقة علاقتهم بالمؤمنين، فذكر أنهم يتربصون بهم الدوائر، ويريدون أن ينالوا من الغنائم من غير أن يعملوا، وقلوبهم مع الكافرين.
وقد ذكر سبحانه وتعالى وصفا لأهل النفاق، وهو أنهم يظنون أن أعمالهم مستورة، وأن الناس عنهم غافلون بل إنه ليصل بهم فرط غرورهم إلى أن يظنوا أن الله تعالى لَا يعلم ما يسرون وما يعلنون، ويعاملوا الناس على أساس هذه الخديعة، ولذا قال سبحانه فيهم:(4/1915)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) الخدع أو الخداع أن يحاول المخادع حمل الغير على تغيير اعتقاده فيه، بحيث يعتقد فيه الخير، وليس أهلا لهذا الاعتقاد، فيوهمه أن أمره على ما يحب، وهو على ما يكره، أو أن يظهر من الأفعال ما يخفى أمره، ويستر حقيقته، بغية تضليل من يعامله، وقوله تعالى: (يخَادِعُونَ اللَّهَ) صيغة تدل على مفاعلة من الجانبين، والخداع دائما في ذاته مفاعلة من الجانبين: خادع ومخدوع، فهو معاملة آثمة إذا لم يكن فيه خير، وخداع أهل الخير شر دائما.(4/1915)
وهنا نجد النص فيه عمل أهل النفاق، وهو أنهم يخادعون الله، وعمل الله تعالت قدرته عليهم، وهو أنه خادعهم، وقد تكلم العلماء في معنى مخادعتهم لله تعالى، وكلامهم ينتهي إلى تخريجين.
أحدهما - أن معنى مخادعتهم لله تعالى أنهم يعاملون الله تعالى كأنهم يخادعونه؛ إذ يظنون أنه يخفى عليه أمرهم فيعلنون غير ما يبطنون، ويظنون أن الله تعالى لَا يعلم ما في قلوبهم، وخفايا نفوسهم؛ وذلك لأن المخادع يتوهم أن من يخادعه لَا يعلم أمره، فهؤلاء لفرط جحودهم، وكفرهم بالله وجهلهم لذاته وصفاته يتوهمون أن أمورهم خافية عليه، وأنهم معه كأمرهم مع الناس، إذ يخفون ما لَا يبدون.
والثاني - أن معنى مخادعتهم لله أنهم يخادعون النبي والمؤمنين؛ إذ هم أولياء الله تعالى، ومن يخادعهم كأنما يخاح الله سبحانه وتعالى، وقد وضح هذا التخريج الراغب الأصفهاني، فقال: " الخداع إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه. قال تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ) أي يخادعون رسوله وأولياءه، ونسب ذلك إلى الله تعالى من حيث إن معاملة الرسول كمعاملته، ولذلك قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ) ".
وجعل ذلك خداعا له تفظيعا لفعلهم وتنبيها على عظم الرسول وعظم أوليائه، وقول أهل اللغة إن هذا على حذف مضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، فيجب أن يعلم أن المقصود بمثله في الحذف لَا يحصل لو أتى بالمضاف المحذوف لما ذكرنا من التنبيه على أمرين: أحدهما فظاعة فعلهم فيما تحروه من الخديعة، وأنهم بمخادعتهم إياه يخادعون الله، والثاني التنبيه على عظم المقصود بالخداع، وأن معاملته كمعاملة الله تعالى.
ومرمى هذا الكلام هو بيان منزلة الرسول وأولياء الله، وأن خداعهم خداع لله وهو أمر فظيع، وأن الأصل هو أن الكلام على حذف مضاف وهو الرسول والمؤمنون، وكأن نسق الكلام: يخادعون رسول الله، فحذفت كلمة الرسول،(4/1916)
وأقيم المضاف إليه وهو الله تعالى مقام المضاف تفظيعا لعملهم، وإعلاء لقدر الرسول والمؤمنين.
وفى الحق إن التخريجين يمكن الجمع بينهما، فهم يعاملون الله تعالى معاملة من يظنون أنهم يخادعون لعدم إيمانهم بالله، وهم يخادعون أولياءه ومن هذا الطريق أيضا يخادعون الله تعالى.
ومعنى خدع الله تعالى لهم أنهم مقابل ذلك الخداع الذي يصنعونه يجزون بجزائه، وهو ثمرة له، فمعنى خدع الله تعالى مجازاتهم على نفاقهم، ومحاولتهم خداع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه.
ويصح أن يقال إن معنى خدع الله تعالى أن يرد عليهم كيدهم في الدنيا، فيأتيهم سوء العاقبة في الدنيا من حيث كانوا يظنون أنهم واصلون إلى مقاصدهم؛ إذ يحسبون بنفاقهم أنهم واصلون إلى غاياتهم، فيأتيهم الله تعالى من حيث لم يحتسبوا، ويظنون أنهم مجهولون، والله تعالى كاشفهم.
وهنا إشارة بيانية دقيقة، وهي أنه سبحانه وتعالى عبر عن خداعهم بصيغة تدل على المشاركة والمغالبة، وأنهم قد ينجحون وربما لَا ينجحون، أما خداع الله تعالى لهم، فلم يعبر عنه بصيغة المشاركة بل عبر سبحانه بقوله: (وَهُوَ خَادِعُهُمْ) للدلالة على الغلب، وأن الله تعالى لَا محالة كاشف أمرهم ومزيل مغبة خداعهم، ومحاسبهم لَا محالة على ما يرتكبون.
(وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كسَالَى يرَاءُونَ النَّاسَ) هذه حال من أحوال المنافقين تدل على مقدار نفاقهم وتظهره، وهي أيضا من قبيل الخداع لله ولرسوله، وللمؤمنين وذلك في الصلاة، ففي المظهر الحسي لها يقومون كسالى متثاقلين، لا نشاط يحركهم ولا إيمان يبعثهم، وهذا مظهر يريدون به إظهار الإيمان، وهو يكشف عن خبيئة أنفسهم، ولذلك جعل النبي هذا النوع من الصلاة شيمة النفاق، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - ذامًّا الذي صلى على هذا النحو: " تلك صلاة المنافقين " تلك صلاة(4/1917)
المنافقين، تلك صلاة المنافقين، يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان، قام (فنقر أربعا) لَا يذكر الله فيها إلا قليلا " (1).
والحقيقة النفسية في هذه الصلاة أنهم يتوهمون بها أنهم يخدعون غيرهم، إذ إنهم يصلون هذه الصلاة ليراءوا بها، والرياء أن يقوم الشخص بالعمل الجميل في مظهره لَا لاتباع أمر الله والقيام بحق الغير عليه ونفع الناس به، بل ليخدع به الناس ويظهر بالخير ابتغاء رضاء الناس. والرياء نوع من الشرك، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " من صلى يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك " (2).
وإن هذا النوع من الخداع مكشوف كما رأيت، فهم لَا يقصدون وجه الله بصلاتهم، ولكن يقصدون ستر نفاقهم وتغطية أمرهم، ولذلك قال الله تعالى فيهم:
(وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) أي أنهم لَا يجري ذكر الله تعالى في قلوبهم إلا ذكرا قليلا، أو إلا وقتا قليلا لَا يلبث أن يطفئه النفاق وإذا قامت في قلوبهم شعلة من الإيمان بالله لَا تلبث أن تخبو لغلبة أهوائهم؛ وذلك لأن هؤلاء المنافقين يعرفون الله تعالى، ويدركون معاني الإيمان، ولكن غلبت عليهم شِقْوَتُهم، فكفروا به إذ عرفوه، ومن كانت هذه حاله يعتريه أحيانا تذكر لله تعالى وعظمته.
_________
(1) رواه مسلم بلفظ مقارب بلفظ الفرد (تلك صلاة المنافق) بغير تكرار، كما رواه الترمذي، والنسائي، ورواه أبو داود، وأحمد، ومالك بنحو من الرواية المذكورة في التفسير. أما ما رواه مسلم: المساجد ومواضع الصلاة - استحباب التبكير للعصر (622) عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي دَارِهِ بِالْبَصْرَةِ، حِينَ انْصَرَفَ مِنَ الظُّهْرِ، وَدَارُهُ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا دَخَلْنَا عَلَيْهِ، قَالَ: أَصَلَّيْتُمُ الْعَصْرَ؟ فَقُلْنَا لَهُ: إِنَّمَا انْصَرَفْنَا السَّاعَةَ مِنَ الظُّهْرِ، قَالَ: فَصَلُّوا الْعَصْرَ، فَقُمْنَا، فَصَلَّيْنَا، فَلَمَّا انْصَرَفْنَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا.
(2) سبق تخريجه من رواية أحمد عن شداد بن أوس.(4/1918)
ولكنه تذكر لَا يكون معه إيمان مثمر، ولا تصديق مذعن، فلا خير فيه، ولا ثواب عليه، ولا يمدحون بذلك القدر من الذكر، الذي لَا يجدي. وقوله تعالى:
(وَلا يَذْكُرونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) هو حال لهم ذكرها يفيد أنهم قد طمس على قلوبهم حتى إذا جاءهم بريق من النور أطفأوه، ولا يبقونه. وهؤلاء المنافقون أمرهم عجب هم أحيانا يدعون أنهم من دولة أهل الإيمان وفي ولايتهم إن وجدوا للمؤمنين غلبا، وينتمون إلى دولة الكفر إن كان للكفر نصيب من نصر أو غَلَبَ أهل الحقد على أهل الإيمان، ولذا قال سبحانه:
* * *(4/1919)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
(مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ ... (143)
* * *
الذبذبة الاضطراب، ومن ذلك قول النابغة في مدح النعمان: ألمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أعطاكَ سورةً ... تَرَى كُلَّ مُلكٍ دُونها يتذبذبُ أي يضطرب ولا يصل إليها، كذلك هؤلاء المنافقون في اضطراب دائم مستمر، ويترددون: أيخرجون من الكفر إلى الإيمان، أم يبقون على ما هم عليه من كفران، ثم أهم يجعلون أنفسهم مع محمد وأوليائه، أم مع الذين يحاربونه من أعدائه، وقد أشرنا من قبل إلى ما رواه مسلم من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة، وإلى هذه أخرى " (1).
وهنا أمر لفظي، وهو قوله تعالى: (بَينَ ذَلِكَ) الإشارة في الظاهر إلى المذكور آنفا، في طي الكلام، وهو الكفر والإيمان، أو الاستنصار بأهل الإيمان والاستنصار بأعدائهم، فهم مترددون بين هذين الأمرين وهما المذكوران في مضمون الكلام، فالإشارة إلى المذكور، وهو يتضمن أمرين متعارضين هما الالتجاء لأهل الإيمان أو البقاء مع أهل الشيطان. والتعبير بكلمة (بين) الدال على المكان الذي يكون بين أمرين مؤداه أنهم يكونون في مكان متوسط بين الأمرين،
________
(1) سبق تخريجه.(4/1919)
وهذا التوسط معنوي، من حيث إنهم يدركون الحق ويعرفونه، ولكن لَا يدخلون في وسط أهله، ولا يعرفون الله تعالى حق معرفته.
ويصح أن تكون الإشارة إلى الولاء، فهم مترددون فيه، فإما أن يستنصروا بالمؤمنين ويوالوهم، وإما أن يستنصروا بالمشركين، فهم في هذا الاستنصار مترددون حائرون، لَا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. وإنه لَا سبيل إلى هداية هؤلاء الحائرين، ولذا قال سبحانه:
(وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتمنى الهداية لكل الذين يدعوهم، حتى الذين ينافقون منهم، فبين الله تعالى أن ذلك غير ممكن إلا أن يريد الله، لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستغفر للمنافقين، فبين الله تعالى أن الله لَا يغفر لهم، فقال تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ). وبهذا الحكم الثابت لن تكون لهم هداية لم يُرِدْها الله تعالى.
ومعنى النص: ومن يكتب الله تعالى عليه الضلال في سجله المحفوظ يتردى في مهاوي الرذيلة، حتى يركس فيها، ويتكاثف الشر في قلبه، ويزيد بالخطايا فلن ينفتح باب الهداية له، ولن يشرق عليه نور الإيمان، وبذلك لن تجد سبيلا لهدايته. وإن ما يكتبه الله تعالى إنما هو علمه المكنون الذي لَا يتخلف أبدا، وهو لَا يمنع إرادة الشر من مرتكبه، وإرادة الخير من فاعله، ونسبة الإضلال إلى الله تعالى هي من قبيل المجاز من حيث إنه تركه في غيه ولم يسد عليه طريق الشر؛ لأنه استمرأ الرذيلة، وسار في طريق الضلال إلى النهاية، فكان ضلاله بعيدا، والله تعالى يهدي من أراد لنفسه الخير، وسلك سبيل الرشاد، فإن الله تعالى يوصله الى طريق النجاة.(4/1920)
وإن السبب في ضلال المنافقين الذي لَا هداية معه هو اتخاذهم الكافرين أولياء، ولذا قال سبحانه:
* * *(4/1921)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ... (144)
* * *
النداء للمؤمنين بالبعيد ليكون التنبيه قويا، ونادى بالموصول للإشارة إلى أن الإيمان يقتضي ألا يكون ولاء المؤمن لغير المؤمنين، ومعنى النص: يا أيها الذين آمنوا وحسن إيمانهم بالله، لَا تتخذوا الكافرين بالله الذين لم يخلصوا له نصراء لكم تدخلون في ولايتهم وتكونون تابعين لهم وتتركون المؤمنين، فإن ذلك لا يتفق مع الايمان، فالمراد بالولاية هنا النصرة والانتماء إلى جماعة الكافرين، وإن الولاء يطلق بمعنى المحبة، وبهذا المعنى جاء النهي عنه، وهو التبعية والنصرة، وإن هذا الأخير منهي عنه بالاتفاق، ولا يجوز من المؤمن إلا اتقاء الأذى إن تيقن الإيذاء، أما المحبة فغير منهي عنها إلا أن يكون الكافر قد انتقل إلى المحادة والعداوة، ولا يقتصر على مجرد الكفر، ولذلك قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ).
وقوله تعالى: (دُونِ الْمُؤْمِنينَ) يشير إلى أنهم يتركون المؤمنين لينضموا إلى ولاية الكافرين، وذلك لَا يسوغ من مسلم، ولذلك قال تعالى: (أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا).
الاستفهام للإنكار والتوبيخ إن وقع هذا منهم، وهو يتضمن التهديد لهم بتسليط مقت الله عليهم إن فعلوا فهو استفهام يتضمن إنكارا للوقوع، أي لَا يقع منهم، ولا يصح أن يقع، ويتضمن التحذير والإنذار، والمعنى: إنكم إن فعلتم ذلك فقد جعلتم لله حجة في عقابكم، وتسليط ذنوبكم عليكم وتخليه عن نصركم فإن نصر الله لَا يكون إلا لمن يطلب النصرة من الله وحده، ولن ينصر الله من يستنصر بغير الله كما قال تعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ).(4/1921)
وإذا كان الاستنصار بغير المؤمنين يترتب عليه هذا فهل تريدون أيها المؤمنون أن تجعلوا لله تعالى سبيلا بينا واضحا يخذلكم بسببه بعد النصرة، ويعاقبكم عليه بعد الإيمان، ويذهب شوكتكم؛ لَا يسوغ ذلك منكم، فاحذروه، اللهم اجعل ولاءنا لك، ولا تجعل نصرتنا من غيرك.
* * *
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
* * *
الحديث في أقوال المنافقين، وشئونهم وعاقبة أمرهم لَا يزال مستمرا، وهذا النص القرآني يبين مآل المنافقين يوم القيامة، فهم في خزي دائم في الدنيا، وعذاب شديد مقيم في الآخرة، وجزاؤهم هو أشد جزاء؛ لأن كفرهم أشد كفر، لأنه كفر بالله، وكذب على رسول الله، وافتراء على المؤمنين، واستغلال لإخلاص المخلصين، ومن المشركين من يصدق في القول كما رأينا من أبي سفيان عندما سأله هرقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحواله، وليس من المناففين من يصدق في قول، أو يخلص في عمل أيا كان، ولذا قال تعالى:(4/1922)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه: الدرك كالدرج، لكن الدرج يقال اعتبارا للصعود والدرك اعتبارا بالحدور، ولهذا قيل درجات الجنة، ودركات النار، ولتصور الحدور في النار سميت هاوية وقال(4/1922)
تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) والدرك أقصى بر البحر، وسميت مراتب النزول دركات لأنها متداركة متتابعة. .
وإن جهنم طبقات بعضها أسفل من بعض، وإن أسفلها أقساها عذابا؛ لأنها تتكاثف عليها ما فوقها من طبقات؛ ولأن أعمق النيران أشدها توهجا، وأكثرها لهيبا.
والمعنى: إن المنافقين الذين مردوا على النفاق واستمرءوه، صار وصفا لهم يمالئون الكافرين، ويخذلون المؤمنين، ينالهم عذاب يوم القيامة على أشده، وأشده هو أعماق جهنم، وهي الهاوية التي تهوي بهم أعمالهم فيها، وإن هذا النص الكريم يفيد أن جهنم طبقات ومنازل، وأن العقاب فيها مرتب على طبقاتهم، وهي كلها عذاب أليم، وقد وصفها القرآن الكريم بأوصاف كلها تنبئ عن الشدة في العذاب، فذكرت باسم " جهنم "، وهو ينبئ عن التردي في النار، ووصفت بأنها " لظى "، وبأنها " الحطمة "، ثم " السعير "، ثم " سقر "، ثم " الجحيم "، ثم " الهاوية "، وقال بعض العلماء إنها مرتبة في مقدار شدتها بهذا الترتيب، والله أعلم بما يكون يوم القيامة.
ولماذا كان المنافقون في الدرك الأسفل في الهاوية من العذاب؛ قد أجاب عن ذلك العلماء بأن المنافق أوغل في فساد النفس من أي مشرك كافر، وقد جعل الله تعالى لآل فرعون الذين مالئوه وعاونوه في طغيانه أشد العذاب، فقال سبحانه: (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ).
وأولئك في كفرهم ونفاقهم أكثر إيذاء من أي كافر سواهم، ذلك أنهم جمعوا بين الكفر، والفسق والتضليل والتغرير والكذب، وتعرُّف أسرار المؤمنين وكشفها، وإظهار عورات المسلمين في الحروب، وإفساد لجماعة المؤمنين بإشاعة قول السوء بين المؤمنين، واستغلال ضعف الضعفاء منهم، وتوهين أمر المؤمنين بسبب ذلك الاستقلال، كل هذه جرائم متتابعة تدل على أن نفوسهم قد فسدت، وقلوبهم قد شغرت (1) من كل خير، والكافر الجاحد أقرب إلى الهداية من هؤلاء، فكان عقابهم أشد؛ لأن جرائمهم أشد.
________
(1) أي خلت.(4/1923)
ولكن من هو المنافق الذي يستحق أشد العقاب، ويكون في أعمق النيران يوم القيامة؟ نقول في الجواب عن ذلك إنه المنافق الخالص الذي لم يكن فيه خصلة أو أكثر من خصلة فقط، ولكن هو الذي كفر بالله وبالرسالة المحمدية، وأغلق باب الإيمان في قلبه، ولم يكتف بذلك بل أظهر الإسلام ليفسد بين المسلمين ويتعرف أسرارهم.
ذلك أن النفاق درجات هذا أعلاها، وهو أشد الكفر، ودونه بعد ذلك مراتب تكون بين المسلمين، ولا تخرج المسلم عن إسلامه، وإن كانت تجعل إيمانه ضعيفا، ومن ذلك ممالأة الحكام، والسكوت عن كلمة الحق مع النطق بالباطل ملقا، وخداعا.
وقيل لابن عمر - رضي الله عنهما -: " ندخل على السلطان، ونتكلم بكلام فإذا خرجنا تكلمنا بخلافه، فقال - رضي الله عنه -: (كنا نعده من النفاق).
ولقد جاء في الحديث النبوي الشريف ما يفيد أن المنافقين فريقان، فريق خلص للنفاق، وهذا منكوس القلب والنفس والفكر؛ وقسم فيه خصلة من النفاق، وهذا يتنازعه الخير والشر، ولنضيء القرطاس بنور الرسالة، فقد قال - عليه الصلاة والسلام - فيما رواه الإمام أحمد: " الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ يَزْهَرُ، وَقَلْبٌ أَغْلَفُ مَرْبُوطٌ عَلَى غِلَافِهِ، وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ، وَقَلْبٌ مُصْفَحٌ، فَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَجْرَدُ: فَقَلْبُ الْمُؤْمِنِ سِرَاجُهُ فِيهِ نُورُهُ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْأَغْلَفُ: فَقَلْبُ الْكَافِرِ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمَنْكُوسُ: فَقَلْبُ الْمُنَافِقِ عَرَفَ، ثُمَّ أَنْكَرَ، وَأَمَّا الْقَلْبُ الْمُصْفَحُ: فَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ، فَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ الْبَقْلَةِ يَمُدُّهَا الْمَاءُ الطَّيِّبُ، وَمَثَلُ النِّفَاقِ فِيهِ كَمَثَلِ الْقُرْحَةِ يَمُدُّهَا الْقَيْحُ وَالدَّمُ، فَأَيُّ الْمَدَّتَيْنِ غَلَبَتْ عَلَى الْأُخْرَى غَلَبَتْ عَلَيْهِ " (1).
وإننا لهذا نقول إن النفاق في داخل الإسلام مراتب، وأعلاها أولئك الذين يتملقون الحكام، وينحدرون إلى درجة وضعهم في مقام النبيين ومنهم من يذهب به فرط نفاقه، فيفضل بعض عملهم على عمل النبيين، وهؤلاء نتردد في الحكم بأنهم
________
(1) أجرد: ليس فيه غش ولا خداع. أغلف: عليه غشاء من سماع الحق وقبوله. مصفح: ذو وجهين اجتمع فيه نفاق وإيمان. والحديث رواه أحمد: باقي مسند الكثرين - مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (10745).(4/1924)
مسلمون، وقريب منهم الذين يتأولون النصوص من غير حجة في التأويل ويعبثون بظواهرها القاطعة لهوى الحكام.
هذا عقاب المنافقين في إيمانهم في الآخرة، ولهم عقاب في الدنيا والآخرة، ذكره سبحانه بقوله تعالى:
(وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) نفَى الله تعالى عنهم نفيا مؤكدا، أن يكون لهم نصراء، وجعل الخطاب موجها للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي ذاق آثار نفاقهم، وذاق المؤمنون معه مرارة ذلك النفاق، لأن في ذلك تثبيتا للمؤمنين، حتى لَا يتزلزل أحد منهم بعمل المنافقين الذي مردوا عليه، ولم يتراجعوا عنه، ولأنهم أرادوا بالنفاق الاستنصار بغير دولة الحق، لتفوز دولة الباطل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذكر الله تعالى لنبيه أنه لن يجدهم منصورين عليه أبدا لأنهم لَا ناصر لهم.
وإن هؤلاء لن يكون لهم نصير يوم القيامة، لأنه لله وحده، ولن يجدوا نصيرا يخلص في النصرة لهم في الدنيا، لأن النفاق يسلب الثقة عنهم، فلا ينصرهم أحد ممن يستنصرون بهم، بل إنهم يستخدمون شرهم، ولا يعطونهم خيرا، وما وجدنا منافقا في الماضي أو الحاضر يخون قومه، وينال نصرة صحيحة ممن ينافق لأجلهم، فتلك سنة الله تعالى في المنافمَين: (وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا).
إن الله سبحانه وتعالى ذكر المنافقين بما يدل على أنهم أُركسوا في الشر، وطغى على قلوبهم، وأغلق باب الهداية عليهم، حتى أن رجوع المشرك عن شركه أقرب من رجوع المنافق عن نفاقه، فغلاف القلوب قد ينكشف ولكنه سبحانه مقلب القلوب، فقد تكون من المنافق توبة، ولذلك فتح الله سبحانه وتعالى بابها بقوله سبحانه في هذا الاستثناء:
* * *(4/1925)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ ... (146)
* * *
الاستثناء هنا منقطع، لأن الذي يتوب التوبة النصوح لَا يمكن أن يعد في صفوف المنافقين الذين يستحقون الدرك الأسفل من النار؛ ولذا نقول إن المعنى هو: لكن الذين تابوا من النفاق وخرجوا من صفوفه يكونون مع المؤمنين، وإن أولئك الذين يخرجون من أوكار(4/1925)
النفاق، قد ذكر الله تعالى لهم أوصافًا أربعة هي التي تخرجهم من زمرة المنافقين إلى جماعة المؤمنين.
أول هذه الأوصاف: التوبة، وهي التوبة النصوح، وأركانها ثلاثة - أولها إدراك لقبح العمل ثم الندم على ما كان منه ثم الإقلاع وأن يعزم على ألا يعود إليه من بعد أبدا، فماذا تحققت هذه الأركان فإن الله يفتح قلب العبد لنور الهدى، ويأخذ بيده إلى سلوك طريق الحق المستقيم.
والوصف الثاني: أن يكون التطهير القلبي له مظهر عملي ليقوى، وذلك بالإصلاح، بأن يتجهوا في ذات أنفسهم إلى الأعمال الصالحة التي هي مظهر الإذعان والتوبة، فكل ما يكون في النفس من درن النفاق يطهرها منها بالاستمرار على العمل الصالح ويدوم عليه، فليست التوبة، كلاما باللسان، ولكنها طهارة للوجدان، ومع إصلاح النفص وتقوية عزيمتها يتجه إلى الإصلاح في الأرض وعدم الإفساد فيها، فلا يفسد بين الناس، ولا يغري بالعداوة بينهم، ولا يخذل أهل الحق، وينصر أهل الباطل، فالإصلاح المطلوب يتضمن عناصر ثلاثة، تطهير النفس من أدناس النفاق كلها، فيخرجها منها كما يخرج الذهب الخالص مما اختلط به، والعنصر الثاني العمل الصالح يقوم به لذات نفسه وللناس، والثالث أن يكون بين الناس عنصر إصلاح وتوفيق، لا عنصر إغراء وتوهين للجماعة.
والوصف الثالث: الذي يلتحق به بأهل الإيمان الاعتصام بالله، والاعتصام به سبحانه هو التمسك باوامره ونواهيه والالتجاء إلى كتابه وسنة رسوله، وهذا هو المذكور في قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)، والاعتصام بالله يقتضي ألا يجد المؤمن ملجا إلا في جماعة المؤمنين، فلا يستنصر بغيرهم، ولا يجعل ولاءه لمن دونهم، فذلك شر بلايا النفاق.
الوصف الرابع: الإخلاص في دين الله، بأن يجعل كل قلبه لله تعالى، ولا يجعل في قلبه مكانا لغير الله تعالى، وأن يجعلوا طلبهم الدين لأجل الله تعالى لا لدنيا يصيبونها، ولا لهدف غير الإيمان يستهدفونه، فيطلبون الحق لوجهه، وينفذون كل(4/1926)
أوامر الدين لله، ويتحقق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا لله " (1).
إذا تحققت هذه الأحوال دخلوا في الجماعة المؤمنة، ولذا قال سبحانه: (فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) أي فأولئك الذين اتصفوا بهذه الأوصاف بسببها يخرجون من صفوف المنافقين إلى صفوف المؤمنين، فالإشارة في قوله تعالى (فَأُولَئِكَ) للسابقين، وهم قد عرفوا بأوصافهم، فكانت الإشارة إليهم موصوفين بها، وكانت هذه الأوصاف هي السبب في ارتفاعهم من دركة النفاق السفلى إلى درجة أهل الإيمان العليا، وذكر الله سبحانه وتعالى هذه المعية للمؤمنين لشرف الصحبة مع الأخيار الأبرار، بعد طلبهم النصرة من الأشرار الكفار، فهذا دليل على الرفعة في الصحبة بعد الانخفاض فيها، كما ارتفعوا عند الله، والإشارة بالبعيد للدلالة على رفعة منزلتهم بالتوبة، وفي كل ذلك تحريض عليها وترغيب فيها فإن الله تعالى يحب توبة عبده، وهو الغفور الرحيم، العزيز الكريم.
وإنهم إذا كانوا مع المؤمنين، فإن لهم جزاءهم وقد وعد الله المؤمنين جزاء عظيما، ولذا قال سبحانه:
(وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) والأجر هو الجزاء، وهنا إشارتان بيانيتان:
إحداهما - أن التعبير بـ " سوف " لم يكن استعماله في القرآن، وهو أحكم الكلام للدلالة على مجرد التسويف الزماني، بل هي لتأكيد الوقوع في الأمر المستقبل، وكأن المعنى أنه من المؤكد أنه سينزل المؤمنون بمقام الرضا والجنات في قابل أمرهم كما ظفروا بالرضا والنصر، والتأييد في عاجلهم.
ثانيهما - تنكير الأجر إذ قال " أجرا عظيما "، فنكر الأجر ووصفه بالعظم، والتنكير هنا للتعظيم، فكأنه قد أكد عظم هذا الأجر مرتين مرة بما تضمنه معنى التنكير، ومرة أخرى بالتصريح بوصف العظم، وإن جزاء الله لعظيم أيَّ عِظَم.
________
(1) سبق تخريج ما في معناه من حديث.(4/1927)
ولقد ذكر الله تعالى، أنه سبحانه يحب توبة عبده وجزاءه، ولا يرضى لعباده الكفر وعقابه، ولذا قال سبحانه:
* * *(4/1928)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
(مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
* * *
الاستفهام هنا للنفي، والمعنى ما الذي يفعله الله تعالى راضيا به محبا له بعذابكم وآلامكم إن شكرتم نعمته، وأديتم حقها حق الأداء فآمنتم به، ومن الإيمان به تصديق رسله وإجابتهم وإطاعتهم؟! أي أنه سبحانه لَا يفعل بكم شيئا من العذاب ولا الإيلام في الآخرة إن كان منكم الشكر والإيمان، بل إنه سبحانه وتعالى مجازيكم شاكرا لكم توبتكم بعد الكفر، وطاعتكم بعد العصيان، ولذا قال سبحانه:
(وَكانَ اللَّه شَاكِرًا عَلِيمًا) أي أنه من صفات الله تعالى، وشأنه الدائم أنه مثيب الطائع، عليم بموضع طاعمه، وما تخفي الصدور، فالآية ذيلت بما يدل على الثواب والنعيم لأهل الإيمان، ومن ينضم إليهم من التائبين، وفي الآية الكريمة ثلاث إشارات بيانية:
الأولى - التعبير بالاستفهام للإشارة إلى أن الله تعالى رتب الجزاء على العمل، وأنه يجب على عباده أن يعرفوا ذلك ويدركوه، وأنه ليس من المعقول مع حكمته تعالى، وكريم وعده ألا يعطي عاملا عملا طيبا جزاء عمله.
الثانية - تقديم الشكر على الإيمان، في قوله تعالى: (إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ).
ذلك أن الرجل الذي يتجه إلى الخير تكون نفسه مدركة للنعم التي أنعم الله بها على عباده، شاكرا لأنعمه، قادرا لها حق قدرها، فيكون ذلك سبيلا لطلب الحقيقة فيكون الإيمان، فالشكر يؤدي إلى الإيمان، والإيمان يؤدي إلى أعظم الشكر.
الثالثة - أن الله تعالت عظمته سمى ثواب الطائعين شكرا منه، وذلك إجلال للطاعة، وتشريف للمطيع، ومنة وفضل منه سبحانه فوق منته وفضله، وأن هذا تعليم لنا لنشكر للمحسن فضل الله، اللهم اهدنا إلى أن نشكر لك في ضرائنا وسرائنا، إنك نعم المولى ونعم النصير.
* * *(4/1928)
(لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
* * *
في الآيات السابقة كشف الله سبحانه وتعالى عن أوصاف المنافقين، وبيَّن ظواهر أحوالهم، ومجموع أمورهم، وما يرتكبون من سيئات واضحة معلمة، وما يخفون في صدورهم من أحقاد مكنونة، وبيَّن مآل أمرهم إن استمروا في غيِّهم يعمهون، وبيّن سبحانه وتعالى أن باب التوبة مفتوح، وأن الله تعالى لَا يغلق باب الرحمة بالتوبة على أحد من عباده، ولو كانوا منافقين، فإن الله تعالى يحب التوابين، والتوبة عنده سبحانه تجبُّ ما قبلها من سيئات مهما تكن.
وفى هذا النص الكريم بين أن الجهر بالسوء من القول لَا يكون إلا في أحوال تقتضي ذلك، وقد وجد مقتضاه في أهل النفاق، فليحترز المؤمن من الاسترسال في الجهر بالسوء إلا عند أشد الحاجة إليه، ولذا قال سبحانه:(4/1929)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
(لا يُحِبّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ) السوء هو ما يسوء الناس من أقوال وأفعال، سواء كانت الإساءة عامة أو خاصة، وسواء أكانت الإساءة إلى الإنسان أم إلى الفضيلة، فكل ما يمس المجتمع، ويترتب عليه شر وأذى، فهو من السوء، والحبة شأن من شئون الله تعالى، لَا تتشابه مع محبتنا، ولا مع ما يجري بيننا من حب وبغض؛ لأن ذات الله تعالى منفردة بصفاته، لَا تشابه ذات المخلوقين في شيء: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
والمحبة أكثر من الرضا، والرضا أكثر من الإرادة، فهذه كلها صفات للذات العلية مرتبة في القوة، فالإرادة تتعلق بالخلق والتكوين، فما أراده الله تعالى يقع، وما لا يريده لَا يمكن أن يقع، فلا يمكن أن يقع من أفعال الإنسان ما لَا يريده رب العالمين، ولا يمكن أن يفعل الإنسان شيئا لَا يريده العليم الخبير الذي لَا تخفى عليه الأنفس، وما تكنُّ الصدور.(4/1929)
أما الرضا فمعناه بالنسبة للذات العلية أن يكون العمل أو القول محل قبوله سبحانه وتعالى والمجازاة عليه، ولذلك يتصور أن يفعل العباد ما يغضبون الله به سبحانه وتعالى، وقد جاء في القرآن الكريم عبارات سامية صريحة بأن الله تعالى يغضب على عباده لأفعال فعلوها، وأن الله تعالى لَا يرضى عن بعض أفعال عباده، فلا يرضى من عباده الكفر، والرضا لَا يكون إلا لأعمال المتقين وهو أعلى أنواع الثواب الذي يثيب الله تعالى به عباده، ولذلك قال سبحانه بعد ذكر نعيم الجنة: (. . . وَرِضْوَانٌ منَ اللَّهِ أَكْبَرُ. . .).
والحبة مرتبة فوق الرضا، أو هي أبلغ الرضا، وقد وعد الله تعالى أهل الإيمان الحق الصادق بأنهم ينالون محبته، وهي أقصى درجات الرضا.
ومع أن المحبة من الناحية الإيجابية أقصى درجات الرضا، هي من الناحية السلبية، تكون في مرتبة الغضب، فمعنى (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ). أن الله تعالى يبغض الجهر بالكلام الذي هو سوء في ذاته، ويسيء الناس، ويؤذي الفضيلة، فإن ذلك إعلان سيئ الأعمال، وقبيح الأقوال.
والجهر معناه النطق به في إعلان لَا خفاء فيه؛ ونشر هذا الكلام بين الناس، وإذاعته بين ربوعهم.
والمعنى الإجمالي للنص السامي أن الله تعالى يبغض الجهر بالأمر السَّيئ أو الأفعال السيئة. وكل إعلان للمنافق والفاجر من الجهر بالأمر المسيء هو من قبيل الجهر بالسوء من القول، فـ " مِنْ " هنا بيانية وهي بيان لنوع السوء بأنه من القول، وذلك يشمل كل إعلان للأعمال القبيحة، والترامي بها، فيشمل القذف والسباب وإعلان المعاصي والجرائم، وتفصيل القول فيها من غير حاجة إلى بيانها، ولا إقامة حق في إعلانها، فإن ذلك كله من سوء القول وفاحشه.
وإن الإسلام في سبيل تكوين رأي عام مهذب نهى عن إعلان الآثام والمفاسد الشخصية، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أيها الناس من ارتكب شيئا من هذه القاذورات،(4/1930)
فاستتر فهو في ستر الله، ومن أبدى صفحته أقمنا عليه الحد " (1) ويقول - صلى الله عليه وسلم -: " إن من أبعد الناس عن الله منازل يوم القيامة المجاهرين، قيل: ومن هم يا رسول الله؛ قال: ذلك الذي يعمل عملا بالليل قد ستره الله عليه، فيصبح يقول: فعلت كذا وكذا يكشف ستر الله " (2).
وإن الجهر بالسوء يسهله، فتزداد الجرائم ويسهل ارتكابها لمن هو على استعداد لها، وكثيرا ما نرى الشبان يرتكبون جريمة معينة قد أخذوها من قصة أذيعت، أو نشرت، أو تردد ذكرها، فإن ذكر الشر يستهوي الشباب، خصوصا إذا قدم في عرض منسق يحبب الاستماع إليه، فإنه يسري في النفوس سريان الطعام المسموم في الأجسام.
وفوق ذلك فإن كثرة ذكر السوء والفجور يزيل استنكاره في النفس، ويذهب بروعة الحق، وإن ذكر السوء لأهل السوء يثير عدوانهم ويجعلهم يتبجحون في ارتكابه، ويباعد بينهم وبين الاستجابة لداعي الهدى، ذلك أن الناس إذا استتروا في شرهم، وظنوا أن الناس لَا يعلمونه كان كتمانه مسهلا لقتله في نفوسهم، فإن أعلن وفقدوا حياءهم استمرءوا الشر وأعلنوه، وكل إعلان منهم تغليق لباب الهداية في قلوبهم بيد أن الشر أحيان ايجب إعلانه لدفعه، إذا كان ثمة فريسة لهذا الشر، وتعدٍّ بالظلم، فإنه يجب دفعه، ولذلك ذكر سبحانه بعد أن قرر القاعدة العامة، وهي أنه لَا يحب الجهر بالسوء استثناء حال الظلم فقال:
(إِلَّا مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) الاستثناء هنا عند بعض العلماء استثناء منقطع، فـ " إلا " هنا معناها لكن، والمعنى: لكن من ظلم له أن يجهر بالسوء لدفع
________
(1) موطأ مالك - الحدود فيمن اعترف على نفسه بالزنا (1562) عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ رَجُلًا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ فَقَالَ: فَوْقَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ. فَقَالَ: دُونَ هَذَا فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ وَلَانَ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ. ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا. فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ. فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ، نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ ".
(2) سبق تخريجه.(4/1931)
ظلمه، وحدود الجهر هو مقدار دفع الظلم، فإن أمكن دفعه بغير الجهر لَا يجهر، وإن لم يمكن دفعه إلا بالجهر - جهر حتى يصل إلى حقه.
وقال بعض العلماء إن الاستثناء متصل، وتأويل الكلام أن الله تعالى لَا يحب الجهر بالسوء إلا جهر من ظلم فإنه ليس بخارج عن محبة الله تعالى لأن دفع الظلم واجب ولازم، ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لَتَأْمُرُن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذنَّ على يدي الظالم ولتأطُرُنَّه على الحق أطرا أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض ثم تدعون فلا يستجاب لكم ".
فدفع الظلم واجب، وإذا كان الجهر سبيله فهو واجب؛ لأن ما لَا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب، ولكن ما مدى الاستثناء الذي يسوغ الله سبحانه وتعالى به للمظلوم أن يجهر بالسوء، وأن يعلنه؛. نقول بالإجمال إن مداه هو منع الظالم من الاستمرار في ظلمه وحمله على الانتهاء عن غيِّه، وإن ذلك يشمل الأحوال الآتية: الأولى - أن يجهر الخصم بما ارتكب خصمه من مآثم في حقه أمام القاضي، فإن الجهر في هذه الحال لَا يبغضه الله تعالى؛ لأنه إقامة حق، ودفع باطل، ولقد قال تعالى: (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ).
ولقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ليُّ الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته " (1) والمراد أن يغلظ له في القول، ولا يقول القاضي قولا لينا إذا ثبت مُطله في أداء الدَّين ".
الثانية - إذا كان الحاكم ظالما، فإنه يجب توجيه اللوم الشديد إليه بالنقد من غير إسفاف، ولكن لَا يقول الناقد إلا حقا، ويستر نقده، حتى يرعوى هذا من غيه وذلك إذا لم تُجدِ فيه الموعظة الحسنة، فإن كانت مجدية لَا يصح الاتجاه إلى الجهر بمظالمه.
ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل المجاهدين رجل قال كلمة حق أمام سلطان جائر
________
(1) ذكره البخاري تعليقا: الاستقراض وأداء الديون - لصاحب الحق مقال، ورواه الترمذي: البيوع - مطل الغني ظلم (4689)، وأبو داود: القضية - في الحبس في الدين وغيره (3628)، وابن ماجه: الأحكام - الحبس في الديَن والملازمة (2427)، وأحمد: مسند الشاميين (17486) عن السويد ابن الشريد الثقفي.(4/1932)
فقتله " (1)، وإن ذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن نقد الفساد هو من قبيل الإنكار بالقول، وهو المرتبة الثانية من الإنكار، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان " (2).
الثالثة - الدعوة على الظالم، فإن هذه الدعوة يصح أن تكون جهرا. ومن ذلك دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - على العرب الذين ناوءوه، فقد قال - عليه الصلاة والسلام - في دعائه: " اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " (3). وخص - عليه الصلاة والسلام - أسماء بالدعاء عليهم، وقد أثر عن السلف الصالح الدعاء على من ظلمهم، وكان يوصي الحسن البصري المظلوم بأن يقول في ظالمه: " اللهم أعني عليه، اللهم استخرج حقي منه، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي ".
الرابعة - أن يذكر المظلوم الظالم الذي ظلمه بالسوء في مجالسه من غير كذب ولا بهتان، وقد روي عن بعض السلف أنهم ترخصوا في ذلك، وأجازوا لمن شُتم أن يرد الشتم بمثله، ولكن إن افترى عليه لَا يفتري؛ لأن الكذب حرام لَا يسوغه شيء، فلا تجوز المعاملة بالمثل فيه، وقد روي عن ابن عباس أنه قال: لَا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه، ويجهر له بالسوء من القول. ولقد روى أن عليًّا بن أبي طالب قال: " ادفعوا الحجر من حيث جاء، فإنه لَا يدفع الشر إلا شر مثله ".
________
(1) سبق تخريجه.
(2) رواه مسلم: الإيمان - بيان كون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان (49)، وابن ماجه: الفتن - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4013)، وأحمد: باقي مسند المكثرين - مسند أبي سعيد الخدري (11068)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008)، والترمذي: الفتن (2172)، وأبو داود: الصلاة (1140).
(3) متفق عليه؛ رواه البخاري: الأذان - يهوي بالتكبير (804)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة - استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت نازلة (675). عن أبي هريرة رضي الله عنه.
والحديث أطرافه في البخاري تسعة وفي بعضها زيادة على بعض. فراجعه هنالك إن شئت.(4/1933)
هذه أحوال تُسوغ النطق بالسوء دفع الظلم أهل السوء، وكذلك الجدل في الحق، لا مانع من ذكر ما انغمس فيه أهل الباطل ولا يعد هذا جهرا بالسوء، بل هو كشف للسوء، وإن الأحوال التي يكون فيها دفع الظلم لَا تعد على التحقيق جهرا بالسوء لمجرد الجهر، بل هي كشف للظالم، وإنهاء للظلم، ولذلك رجح بعض العلماء أن يكون الاستثناء منقطعًا.
ومهما يكن من أمر الجهر بالسوء، فإن الله تعالى عليم بالبواعث، سميع لما يجهر به الجاهر، وما يحدث به نفسه، ولذلك ذيل سبحانه وتعالى النص بقوله تعالت كلماته: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) أي أنه تعالى متصف بوصف السمع الكامل، والعلم المحيط الشامل، فهو سميع لما يجهر به الإنسان، وما تحدثه به نفسه، وما هو مطويّ من خلجات وجدانه، وعليم بالبواعث التي تبعثه على المنطق، ومجازيه بقوله وعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهو عليم بكل أعمال الجوارح، وما يرتكبه العباد من خير وشر علما محيطا يليق بذاته العلية.
* * *(4/1934)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
(إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ ... (149)
* * *
بعد أن ذكر سبحانه وتعالى ما لا يحبه من الجهر بالسوء وأشار إلى الترخيص بالنطق به لدفع الظلم أو للقضاء على منكر من الأفعال أو زور من الأقوال، بين سبحانه وتعالى ما يحبه من الخير الإيجابيّ والخير السلبي ويكون بالعفو، فمعنى قوله تعالى (إِن تُبْدُوا خَيْرًا) أن الله سبحانه وتعالى يحب الخير في كل صوره، والخير هو عمل البر، والنفع الإنساني العام، فإن عملتوه فإنكم تعملون ما يحبه الله، فإن تبدوه وتظهروه وتعلنوه، أو تخفوه وتكتموه، فهو مقبول مجزي عليه في كلتا حاليه، فإن أظهرتموه للدعوة إليه، فإلى الخير تدعون، وأن أخفيتموه اتقاءً لله ومنعا للرياء. سترا على ما تعطون فنعمَّا تفعلون.
هذا فعل الخير الإيجابي، وفعل الخير السلبي هو العفو عن الإساءة، والصفح الجميل عن الناس، فإن ذلك مما يحبه تعالى. ولقد روى أحمد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما نقص مال من صدقة، وما زاد عبد بعفو إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه(4/1934)
الله " (1) وقال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199).
وقوله تعالى: (فَإِن اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) موقعها من المعنى أنها تعليل لكلام مطوي تدل عليه إذ المؤدى: وما تفعلوا من خير وتبدوه أو تخفوه أو تعفوا عمن يسيء إليكم، فإنكم تقربون إلى الله تعالى، ويحبكم الله لأنه سبحانه عفو دائما وقدير على أخذ المسيء بإساءته، فتخلقوا بصفات الله تعالى، وله سبحانه المثل الأعلى. وهنا ملاحظات ثلاث:
الأولى: أن الآية الكريمة تفيد أن إبداء الخير محبوب، فهل يدخل في هذا الرياء؛ ونقول في ذلك إن الفعل النافع إذا قصد به الرياء لَا يكون خيرا، بل يكون شركا، فلا يدخل تحت عنوان إبداء الخير، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك " (2) فهذا فعل خارج عن نطاق الخير، فلا يلتفت إليه، إذ لَا يدخل في عمومه.
الثانية: أن العفو عن الأمر السيئ إنما يكون في حال ما إذا كانت الإساءة تمس شخص من يعفو، وهو بهذا بذل حقا خالصا له، أما إذا كان الأمر السيئ يتعلق بنظام في الإسلام، فلا يصح أن يترك، بل لَا بد أن يقاوم، ولا يقال لتاركه إنه عفا، بل يقال عنه إنه قصَّر وترك الواجب.
الثالثة: أن الإسلام دعا إلى الصفح الجميل، فقال الله لنبيه: (. . . فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)، وهو الصفح من غير منٍّ. ولله تعالى ولرسوله المنّ والفضل.
________
(1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ، إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ " رواه مسلم: البر والصلة - استحباب العفو والتواضع (2588)، والترمذي: البر والصلة (2029)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (8782)، ومالك: الجامع (1885)، والدارمي: الزكاة (1676) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) سبق تخريجه.(4/1935)
والآية جمعت مكارم الأخلاق، وقد قال في معناها فخر الدين الرازي: " اعلم أن معاقد الخير على كثرتها محصورة في أمرين: صدق مع الحق، وخُلُق مع الخلق، والذي يتعلق بالخلق محصور في قسمين: إيصال نفع إليهم، ودفع ضرر عنهم، فقوله تعالى: (إِن تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ) إشارة إلى إيصال النفع إليهم. وقوله تعالى: (أَوْ تَعْفُوا عنْ سُوء) إشارة إلى دفع الضرر عنهم، فدخل في هاتين الكلمتين جميع أنواع الخير، وأعمال البر ". اهـ.
اللهم اهدنا لنفع الناس، وجنبنا ضرهم، واعف عنا فيما كان منا، واغفر لنا وارحمنا إنك غفور رحيم.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال المنافقين، وما كانوا يصنعون مع المؤمنين، وذكر سبحانه وتعالى ما تكنه نفوسهم وما هم عليه من تردد وتذبذب، ومع ذلك فتح الله سبحانه وتعالى باب الثوبة لهم إن أرادوا أن يسلكوا المنهاج القويم المستقيم. ثم ذكر سبحانه وتعالى أن الجهر بالسوء إلا ممن ظلم لَا يجوز، وأن إبداء الخير خير، وإخفاءه خير وأن الله تعالى مُجاز به. وجاءت هاتان الآيتان بين ذكر المنافقين، ثم ذكر الكافرين(4/1936)
من أهل الكتاب، وكثيرين من المنافقين منهم لبيان أن الجهر بالسوء لغير مصلحة لا يجوز، فإعلان سوء المنافقين كان ممن يظلمون ويتعدى إليهم شرهم، وفي هذه الآيات يبين الله تعالى حال بعض الكافرين وأسباب كفرهم، ومآلهم، وأحوال أهل الإيمان ونتائج إيمانهم فيقول سبحانه:(4/1937)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150)
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ) الكفر هو الجحود بالحق، والإيمان هو الإذعان له، والسير على مقتضاه، ومن يؤمن بحقيقتين متلازمتين لَا تنفصل إحداهما عن الأخرى لابد أن يكون إيمانه بالحقيقتين معا، فمن كفر بإحداهما، لَا يعد مؤمنا بهما لأنه لَا يمكن فصل الواحدة عن الثانية، إذ اللازم يقتضي أن يوجدا معا، أو ينتفيا معا. ومن المقررات أن الإيمان بالرسالة الإلهية والإيمان بالله حقيقتان متلازمتان، فلا يمكن أن يتحقق الإيمان بالله من غير الإيمان برسله، ولا يمكن أن يتحقق الإيمان بالرسالة الإلهية إلا على وجه الكمال بأن يذعن لكل رسالة تجيء من الله تعالى.
فمن آمن ببعض النبيين وكفر ببعض آخر قامت الأدلة على نبوته لَا يعد مؤمنا برسالة الله تعالى ولا يعد مؤمنا بالله تعالى؛ إذ إنه فصل الجزء الذي لَا يتحقق إلا في كل، وفصل الإيمان برسالة الله عن الله تعالى.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية صفتين لهم، ونتيجتين باطلتين: أما الوصفان فهما الكفر بالله ورسله، ومحاولتهم أن يفرقوا بين الله ورسله.
والكفر بالله تعالى هو هنا جحود رسالته الإلهية التي يبعث بها إلى خلقه؛ لأن جحود رسالة الرسل أو بعضهم مع قيام الدليل عليها جحود بالله الذي بعث بهذه الرسالة؛ لأن إنكار الرسالة الإلهية لنبي من الأنبياء عصيان لله وجحود به، وكفر بأصل الرسالات ومرسلها، إذ إن الإيمان بالله تعالى يستلزم الإيمان بأنه لم يخلق الناس سدى، والإيمان بعقابه وثوابه وحسابه والإيمان بأنه يرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فمن أنكر رسالة رسول من الرسل فقد كفر بالله وكفر برسله؛ لأن الكفر برسول ينسحب عليه بقية الرسل، إذ إن ما ثبت من تكذيب لرسول، فقد كذب الباقين، فمن كفر بموسى فقد كفر بمحمد وإبراهيم وعيسى، وغيرهم من الرسل.(4/1937)
والوصف الثاني إرادتهم أن يفرقوا بين الله والرسل، بأن يعلنوا إيمانهم بالله خالق السماوات والأرض، والإنكار لبعض الرسل، فإن ذلك تفريق بين الله ورسله، إذ إن علاقة الرسل بخالق السماوات والأرض واحدة، ومن كفر ببعض الرسل، فإنه يفرف بين الله وأولئك الرسل الذين كفر بهم، فاليهود يفرقون بين الله ورسله؛ لأنهم لا يؤمنون بعيسى ابن مريم، ومحمد بن عبد الله، وهم بذلك يفرقون، وقد فسر بعضهم إرادتهم التفرقة بين الله ورسله أنهم يؤمنون بالله تعالى، وينكرون الرسالة الإلهية، وهو تفسير يحتمله النص، ولكنه بعيد لأن السياق يأباه.
وأما النتيجتان الباطلتان فهما قولهم نؤمن ببعض ونكفر ببعض، واتخاذهم بذلك سبيلا بين الإنكار المطلق، والإيمان الكامل، وإن ذلك القول متلازم مع الكفر بالله وبرسله إذ إن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان، والتصديق بالرسالة الإلهية حق التصديق يستلزم، كما نوهنا الإيمان بكل الرسل؛ لأنهم جميعا أتوا بغاية واحدة، وهي إصلاح الخليقة في ناحية رسالة كل رسول، وحثها على الجادة المستقيمة والإنذار والتبشير، ولا يصح لهذا أن يقال نؤمن ببعض الرسل ونكفر ببعض لأن الكفر بالبعض كفر بالكل، إذ هو جحود للغاية من الرسالة، وجحود بذات الرسالة.
وأما إرادتهم اتخاذ سبيل أي طريق وسط بين الإيمان الكامل بكل الرسل، والكفر الكامل بكل الرسل، فمؤداه أن يكونوا في حال بين الإيمان والكفر. ولا شك أن هذه الحال ليست إيمانا بالله ورسله وليس بعد الإيمان إلا الكفر، فهم داخلون في سلك الكافرين، سواء أكانوا مؤمنين بالبعض أم كافرين بالكل، ولذلك حكم الله تعالى بهذا الحكم الحاسم الفاصل ما بين الكفر والإيمان بقوله تعالى:
* * *(4/1938)
أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
(أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا ... (151)
* * *
التعبير بالإشارة للإفادة إلى أن هؤلاء الذين قالوا ذلك القول، وجحدوا ذلك الجحود بسبب هذه الأقوال وتلك الأحوال كافرون كفرا لا مجال للشك فيه، وقد أكد - سبحانه وتعالى الحكم عليهم بالكفر بثلاثة مؤثرات: أولها - الإثيان بكلمة " هم " الدالة على تأكيد الحكم، وقصرهم على الكفر وإثبات أنهم لَا يخرجون عن دائرة الكفار يسارعون فيها ولا ينثقلون منها.(4/1938)
ثانيها - تعريف الطرفين وهم أولئك الجاحدون بالإشارة، والحكم بأنهم الكافرون أكد القول، وأفاد من قبيل المبالغة في تأكيد الوصف بالكفر، كأن الكفر مقصور عليهم لا يخرج عنهم، وهم بذلك أوغل في الكفر من الذين لَا يؤمنون بكتاب ولا رسول ولا رسالة؛ إذ هم يسلِّمون بالأصل ويعرفونه، ويكفرون مع ذلك به، ولا يطبقونه.
ثالثها - التعبير بكلمة (حَقًّا)، أي أن كفرهم ثابث قد ثبت وحق حقا، وقد قال الزمخشري في تخريج هذه الكلمة " أى هم الكاملون في الكفر، وحقا تأكيد لمضمون الجملة كقولك هو عبد الله حقا أي حق ذلك حقا وهو كونهم كافرين، أو صفة لمصدر الكافرين، أي هم الذين كفروا كفرا حقا ثابتا يقينا لَا شك فيه ".
ولماذا كان ذلك التوكيد؟ والجواب عن ذلك أن التوكيد يكون حيث مظنة التردد في عقول الذين قالوا ذلك القول، فقد حسبوا بقولهم وإرادتهم أنهم يرضونه بذلك فبين الله سبحانه أنه لَا وسط بين الإيمان الكامل والكفر في شيء، وخصوصا أن جحود هؤلاء ببعض الرسل انبعث من حقد دفين، وتفريقهم بين الأجناس، حتى في مقام الرسالة، وقد قال تعالى: (. . . اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْث يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ).
وإنهم بهذا الكفر يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ إذ إنها كانت في اليهود وأشباههم الذين رفضوا محمدا، لأنه عربي، وليس بعبري، وحيث كان التردد في عقل وجب تأكيد الحق، ليزول التردد، ويتبع التابع عن بينة ويقين، وقد ذكر الله تعالى عقاب هؤلاء، وأمثالهم فقال: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِين عَذَابًا مُّهِينًا).
والمعنى هيأنا للكافرين الذين يندرجون في جمعهم عذابا مهينا يذيقهم الهوان والذل، كفاء استكبارهم في الدنيا، واعتزازهم بالباطل فيها، ويصح أن يقال إن كلمة (الكافرين) لَا تعم كل الكفار، ولكنها تخص الذين ذكروا في الآية السابقة؛ لأن اللفظ إذا أعيد معرفا كان المراد به المذكور أولا، ويكون تخصيصهم بالذكر، لبيان نتيجة ما ارتكبوا وما فرقوا به بين رسله سبحانه.
وهنا بحث لفظي في لفظ " أعتدنا "، وهو تعبير قرآني اختص القرآن به؛ لأن اعتد من العتاد، والتخريج اللفظي هيأنا لهم عتادا هو عذاب جهنم. وقد قال في ذلك(4/1939)
الأصفهاني في مفرداته: " العتاد ادخار الشيء قبل الحاجة إليه كالإعداد. وقوله تعالى: (وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافرِينَ عَذَابًا مّهِينًا) قيل هو أفعلنا. وقيل أصله من أعددنا فأبدل من إحدى الدالين تاء ".
وخلاصة المعنى أن هؤلاء الكافرين ادخر لهم عذابا مذلا جزاء استكبارهم.
هذا شأن الذين كفروا بالله ورسله، وفرقوا بينهم، وما يدخر لهم، ويقابلهم المؤمنون حق اوصدقا، وقال فيهم سبحانه:
* * *(4/1940)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ... (152)
* * *
وصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين حقا وصدقا بوصفين: الوصف الأول الإيمان بالله تعالى ورسله أجمعين، لَا فرق بين رسول ورسول، إذ الجميع يؤدون رسالات ربهم ويبلغونها، والثاني أنهم لم يفرقوا في الإيمان بين رسول ورسول، بل إن الجميع في موضع من نفوسهم، والإيمان من قلوبهم. ذلك أنه حق على المؤمن أن يؤمن بكل رسول أرسله الله تعالى، كما قال تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136).
فإذا كان محمد خاتم النبيين فرسالته متممة للرسالات، وهو آخر لبنة في صرح النبوة الإلهية.
وإذا كان المؤمنون حقا وصدقا هم الذين يذعنون لما أمر الله، ويصدقون برسالاته، ويستجيبون لدعوة رسول الله وهم يناقضون الذين فرقوا بين رسله، فجزاؤهم لذلك مختلف، ولذا قال سبحانه في هذا الجزاء:
(أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) الإشارة هنا إلى الذين آمنوا الموصوفين بالصفات السابقة وتكرار ذكرهم بالإشارة للتوكيد بأن الإذعان الكامل من غير استعلاء، وجحود، وحقد، وعدم التفرقة بين الأنبياء وهو وحده الذي جعل لهم ذلك الجزاء، والأجر هنا هو الجزاء، وهي رحمة الله تعالى عليهم إذ جعل ذلك(4/1940)
الثواب المقيم، والنعيم الدائم، جزاء العمل، وهو أكبر من العمل، بل إن الأعمال ذاتها قد يكون فيها هفوات تستوجب الحساب ويتبعه العقاب، ولكن الله تعالى قرر في كتابه الكريم: (. . . إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ).
ولذلك ذُيلت بقوله الآية تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) للدلالة على أن ذلك الثواب هو من فضل الله وسعة رحمته، وإن ذلك لأنه متصف بالغفران الدائم والرحمة الدائمة.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى الجزاء والثواب بالتعبير بسوف الدالة على تأكيد الفعل في الزمن المستقبل. اللهم اغفر لنا وارحمنا فأنت خير الراحمين.
* * *
(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
* * *
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أحوال بعض أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض النبيين وكفروا ببعض، واعتبروا بهذا كافرين بالله تعالى؛ لأن من كفر برسول، فقد كفر بالرسالة الإلهية، ومن كفر برسالة الله تعالى، فقد كفر به، ثم بين سبحانه وتعالى حقيقة الإيمان واصفا الذين آمنوا بالله ورسوله، ولم يفرقوا بين أحد من رسله موازنا بذلك بين الإيمان والكفر في الحقيقة وفي النتيجة، وأن الكافرين أعد الله لهم عذابا أليما، وأن المؤمنين لهم أجرهم نعيم مقيم، وغفران ورحمة، ورضوان من الله(4/1941)
أكبر، وفي الآيات التالية يبين الله تعالى لجاجة اليهود في كفرهم وإعنات الرسول المبعوث لهم، ولغيرهم، وهو خاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومن هذه اللجاجة ما قاله الله سبحانه وتعالى عنهم بقوله:(4/1942)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ) أهل الكتاب هنا هم اليهود، بدليل ما جاء في السياق بعد ذلك من آيات، وكقوله تعالى: (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ)، وإن هؤلاء اليهود متعنتون، لَا يسألون النبي دليلا لكون الدليل الذي قدمه، وهو القرآن الكريم غير ملزم، ولكن يتعنثون، فيطلبون إعناتا، ولجاجة في العناد والكفر، وقد طلبوا دليلا قريبا، وهو أن ينزل عليهم كتابا من السماء.
وقد اختلف أهل التأويل من السلف الصالح، فقال بعضهم إنهم سألوا أن ينزل على النبي كتاب شامل مكتوب كما نزلت التوراة مكتوبة جملة واحدة، وقال آخرون إنهم طلبوا أن ينزل كتاب خالص في قرطاس يدعوهم إلى الإيمان بمحمد ليكون حجة الله تعالى عليهم، وقال آخرون من السلف إنهم طلبوا أن ينزل ذلك الكتاب الداعي إلى الاستجابة الى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض كبرائهم.
والحق كما قال ابن جرير الطبري إنهم طلبوا كل هذا، فقد طلبوا أن ينزل القرآن مكتوبا جملة واحدة كالتوراة وذلك ليشككوا في حقيقته، وفريق آخر منهم طلب أن ينزل من السماء كتاب خاص يقرءونه داعيا لهم بالإذعان. وفريق ثالث طلب كتابا يُنزل على بعضهم، فالمطالب الثلاثة وجدت، ولو أجيبوا إلى ما طلبوا ما ضمنا إيمانهم، ولأن التعنت لَا يقلعه شيء، وقد قام الدليل القاطع المثبت، وهو القرآن المعجز، ولقد قال تعالى في سورة الأنعام: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9).(4/1942)
فالمتعنت لَا يمنعه دليل مطلقا، وإن ماضي هؤلاء الكافرين ينبئ عن حاضرهم، ولذا قال تعالى: (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) إن الذين سألوا موسى من بني إسرائيل هم الذين التقى بهم، وأخرجهم من استعباد فرعون إلى حيث الحرية والعزة.
وسياق النص القرآني يفيد أنه منسوب إلى اليهود والذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكيف ينسب إلى الخلف ما قاله السلف؟ والجواب عن ذلك أنه سبحانه ينسب القول إلى جنسهم، لَا إلى آحادهم، ولا إلى طوائف منهم، وإذا نسب القول إلى الجنس جاز أن يخاطب به الحاضرون وخصوصا أن التشابه في الجمود والتعنت قائم بين السلف والخلف، فهم يحملون مثل ما وقع من أسلافهم، وإن كان الأول أشد إعناتا؛ لأنه أكبر، ولما أفاض الله به عليهم من نعم على يد موسى عليه السلام - ولكن دأبهم الجمود، فحاضرهم كماضي أسلافهم، لَا يهمهم قوة الدليل، إنما يهمهم إعنات الرسول، واتخاذ فعلات للإنكار بعد أن ثبتت على يد موسى - عليه السلام - البينات الحسية وتكاثرت، حتى وصلت إلى سبع آيات بينات، ومع ذلك طلبوا طلبا غريبا، فلم يطلبوا أن يجيئهم كتاب كما طلبوا منك، بل طلبوا أن يروا الله سبحانه وتعالى جهرة، أي بالعين، وأن يكون أمامهم معاينا، ويطلب إليهم أن يصدقوا موسى، وهو سؤال لا تتصور إجابته في الدنيا، فالله سبحانه وتعالى لَا يمكن أن يرى في الدنيا، وقد روى في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل هل رأى ربه؛ فقال " إنه نور فأني أراه " (1) وقد عاقبهم الله سبحانه وتعالى على ذلك عقابا شديدا، ذكره بقوله سبحانه: (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) الصاعقة - فسرها بعض العلماء بأنها النار التي تنزل، وهي التي يقرر علماء الكون أنها تنشأ من احتكاك سحابة موجبة بأخرى سالبة، فيتكون من احتكاكهما ذلك اللهب، وأنها أصابت هؤلاء فَبُهِتُوا لها، فغشيهم من
________
(1) عَنْ أبِي ذَر قَالَ سَألتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ "؟ قَالَ: " نُورٌ أنَّى أرَاهُ " [رواه مسلم: الإيمان - نور أنى أراه (178)، والترمذي: تفسير القرآنَ ومن سورة النجم (3282)، وأحمد: مسند الأنصار - حديث أبي ذر رضي الله عنه (20884)].(4/1943)
الذهول ما غشيهم حتى صاروا كالموتى من عظم الإغماء الذي أصابهم، وذلك لا يعارض قوله تعالى في أول سورة البقرة: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55).
وقال بعضهم: الصاعقة ما يصيب الإنسان من حال يترتب عليها موته أو إغماؤه إلى درجة الموت، ومن ذلك قوله تعالى: (. . . فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ).
وقد قال الراغب الأصفهاني في مفرداته. " إن الصاعقة على ثلاثة أوجه: أولها الموت كقوله تعالى: (فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ)، وقوله تعالى: (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ).
والثاني: العذاب، كقوله تعالى: (أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ).
والثالث: أن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجو ثم يكون منه نار، وينتهي بأن الصاعقة هي في الأصل بهذا المعنى، ثم تكون منه الآثار فهو سبب الموت، أو يكون إنذارا ".
ولذلك نرجح التوجيه الأول الذي ذكرناه وهو تفسيرها بالنار التي تجلجل بصوت رهيب مفزع، قد يترتب عليه الموت، وهو في ذاته عذاب شديد، وقد يسأل سائل: إن الصاعقة لها سبب طبيعي، وهو احتكاك سالب بموجب، فكيف يكون عقابا أو إنذارا، أو معجزة؟ ونقول إن الأسباب الطبيعية لَا تمنع الإرادة الإلهية، فالله سبحانه وتعالى سير الأكوان، وهي تحت قدرته وإرادته، فهو الذي يُسيِّر السحاب، والرياح، فإذا أراد جلت قدرته إنزال عذاب أو إنذار قوم أرسل الرياح المسخرات بأمره، فكانت منها الصاعقة أو الرعد، أو المطر الغزير الذي يكون غيثا ولا يكون غيثا، وقد صرح الله سبحانه وتعالى بأنه ينزل بالأقوام من الآفات بمقدار جرمهم وذلك لَا يمنع تحقق الأسباب الطبيعية فمسير الكون هو خالقه، ومسبب الأسباب، وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال، وقد قال تعالى في أهل مصر عندما أيدوا فرعون في طغيانه:(4/1944)
(وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135).
ومع هذه البينات اتخذ السابقون من بني إسرائيل العجل معبودا، ولذا قال تعالى:
(ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ) هذا النص الكريم فيه بيان إمعانهم في الكفر والجحود، فهم بعد ما جاءتهم البينات أي الحجج البينة للحق، الثبتة له الدامغة، وبعد أن أنقذهم الله سبحانه وتعالى من جبروت فرعون وطغيانه، واستعباده لهم، وبعد أن رأوا من الآيات ما رأوا، اتخذوا شكل العجل الذي صور من ذهب معبودا لهم، وإطلاق العجل على هذا التمثال الجامد لهم، من قبيل إطلاق اسم الشيء على شبهه في الصورة والهيكل، فهو ليس عجلا حقيقة، ولكنه صورة، وإن اتخاذ العجل بقية من بقايا الوثنية التي كانت تستولي على قلوبهم، ففي مصر كانت عبادة البقر، وفي مصر كانت عبادة نوع من الأوثان فاستمكنت الوثنية من قلوبهم حتى نسوا عقولهم وتفكيرهم، وما آتاهم الله تعالى من عزة، وما قام عليهم من برهان، ولذلك ذكر الله تعالى عنهم أنهم قالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فقد قال تعالى: (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمِ يَعْكُفونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِثكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون).
ولقد نبهوا إلى ضلالهم في عبادة هيكل العجل، فتنبهوا، وتابوا، وأقلعوا عن عبادته، فعفا الله تعالى عنهم؛ لأن التوبة تجب ما قبلها، والإيمان بعد الكفر يذهب بآثار الكفر. (قُل لِّلَّذِينَ كفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ)، ولقد كان ذلك التمرد المتوالي مع ما آتى الله نبيه موسى من حجج باهرة قاهرة، ولذا قال سبحانه:(4/1945)
(وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا) السلطان هو القدرة وهو السلطة وقد أعطى الله سبحانه وتعالى موسى عليه السلام القوة التي تدفع الباطل، وتزيل رواءه المضلل فأعطاه المعجزات الباهرات البينة الواضحة، التي تبين الحق، وأعطاه القوة التي غلب بها فرعون طاغية الدنيا في عصره، ولهذا ألقاه في اليم وخرج ببني إسرائيل، وأعطاه القوة التي بها أخضع أولئك المتمردين من بني إسرائيل على الحق، الذين تعودوا العصيان، وأعطاه القوة فأنزل عليه التوراة، وهي وحدها سلطان مبين؛ لأنها بيان الحق، والحق في ذاته قوة، والتوراة هي ميثاق الله تعالى، وفوق ذلك أخذ الله تعالى ميثاقا بمقتضى الفطرة، وميثاقا على الطاعة، كما في التوراة وقد قال تعالى:
* * *(4/1946)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
(وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ ... (154)
* * *
هؤلاء اليهود في ماضيهم، لَا يتجهون إلى الحق اتجاه المؤمن المذعن، ولكن يحملون عليه حمل الملجأ، فلا تنتظروا أيها المؤمنون بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته أنهم يستجيبون له؛ لأن ذلك لم يكن من طبعهم فهم في ماضيهم لم ينفذوا التوراة ولم يذعنوا ويأخذوا على أنفسهم ميثاقا بتنفيذ أحكامها إلا بعد أن هُدِّدُوا تهديدا حسيا بأن العذاب واقع بهم لَا محالة حسا ونظرا، فقد رفع الله تعالى فوقهم الطور، ليقدموا عهدا بالطاعة. فمعنى قوله تعالى:
(وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) أي بسبب الميثاق الذي يحملون عليه حملا، وهو ميثاقهم الذي كان يجب تمديمه طوعا واخثيارا، فالميثاق أخذ بعد الرفع، وإلى هذا يومئ قوله تعالى في آية أخرى: (وِإذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
فالميثاق هو أحكام التوراة، وحملهم على الخضوع المطلق لله تعالى، وطاعته فيما يأمرهم به من غير تمرد ولا عصيان، وقد صرح سبحانه بأنه أمرهم بما فيه خضوع تعبدي، لكن يتعودوا الطاعة، فذكر سبحانه وتعالى أمرين هما:
(وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) ادخلوا باب المدينة مطأطئي رءوسكم بهيئة الساجدين أمارة الخضوع حِسا، وهو دليل على الخضوع معنًى بالإذعان لأوامر الله تعالى، وفي الآية تصريح بالطاعة المطلقة الذي يتضمنه الأمر(4/1946)
بالدخول سجدا مطاطئي الرءوس فقد قال تعالى في سورة البقرة: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ. . .). ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا، وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة أي خاضعين قد ذهب عنا الكبرياء.
والمدينة أو القرية قيل هي بيت القدس، وقيل غيرها، وقد أبهمها الله، ولم يوجد من السنة الصحيحة ما يبينها، فلنترك أمرها، ولا ينقص ذلك الهدف القرآني من سياق هذه القصة، وهي أنهم أمروا بالطاعة المطلقة.
والأمر الثاني الذي أُمروا - ذكره الله تعالى بقوله (وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) أي لَا تتجاوزوا الحدود التي أمركم بالتزامها يوم السبت، وهي ألا تصطادوا الحيتان في ذلك اليوم، وتكرر قوله تعالى (وقُلْنَا) لبيان تأكيد الأمر ونسبته اليه سبحانه وتعالى: وقد اختبرهم سبحانه وتعالى اختبارا، فقد كانت الحيتان تأتيهم يوم السبت واضحا، وتختفي في غيره، كما قال تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163).
(وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) أخذ الله سبحانه وتعالى عهدا موثقا كامل التوثيق شديدا في قوته وفي موضوعه وأضاف سبحانه وتعالى الأخذ إلى ذاته العلية تقوية له، وتأكيدا، فإن ذا الجلال والإكرام العليم الخبير هو الذي أخذه، وهو الذي يتولى أمرهم إن نكثوا في أيمانهم، وأنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وغلظ الميثاق كما أشرنا في قوة توثيقه، فقد أخذه بعد أن رفع الجبل عليهم كأنه ظلة، وأمرهم بالطاعة المطلقة، وشدته في موضوعه، فقد كلفهم تكليفات شديدة، لإفراطهم في الفساد، فكان السبيل لفطم نفوسهم عن الشهوات، وتربيتها على الضبط والعمل الصالح أن ينص على تحريم أمور كثيرة، ذلك أن النفس التقية تمتنع من ذاتها كثيرا من غير أوامر أو تكليف. أما النفوس المنحرفة، فتحتاج إلى النص على تحريم(4/1947)
الكثير مما يفعلون من غير أن ينالهم تهذيب شخصي من الضمير والوجدان وقد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146).
اللهم ارحمنا، وقنا شر الشهوات وطغيانها، إنك بكل شيء عليم.
* * *
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
* * *
كانت الآيات السابقة في بيان غلظ قلوب اليهود، وعنادهم وامتناعهم عن قبول الحق، وأن حاضر اليهود في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كماضيهم مع موسى - عليه السلام - يتعنتون في طلب الدليل، ولا يهتدون إلى الحق إذا قامت عليهم البينات، حتى إنهم ليطلبون من موسى - عليه السلام - أن يريهم الله جهرة عيانا، وقد أنزل بهم من الشدائد ما يدفعهم إلى الخضوع، فنزلت بهم الصاعقة وارتفع الجبل عليهم، وقد خضعوا ولا يكادون، وأخذ عليهم الميثاق، ولكنهم لم يلبثوا أن نقضوه، وفي هذا النص الكريم يبين سبحانه وتعالى ما ارتكبوا من مظالم، وعواقب ذلك عليهم، ولذا قال تعالى:(4/1948)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
(فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) ذكر الله تعالى في هذه الآيات الظلم الذي وقع منهم، فذكر مظالم كثيرة لهم، فهم نقضوا الميثاق، وكفروا بالحجج والبينات وقتلوا الأنبياء، ونسبوا سبب الكفر إلى غيرهم، وكذبوا على مريم البتول، وادعوا أنهم قتلوا المسيح، وصدوا عن سبيل الله، وأكلوا الربا وقد نهوا عنه. . . إلى آخر ما كفروا به.(4/1948)
هؤلاء هم بنو إسرائيل، دائما ينقضون المواثيق والعهود، ولا يراعون إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، ويكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء، ويظلمون أنفسهم، فيشدد الله عليهم الأحكام، فيحرم عليهم الطيبات التي كانت مباحة لهم، وقد حقت عليهم اللعنة بخطيئاتهم التي اكتسبوها، وقولهم (قلُوبُنَا غلْفٌ) أي هي أوعية للعلوم مملوءة مغلفة، فلسنا في حاجة إلى علم غير الذي عندنا، ولن نقبل شيئا مما تدعونا إليه يا محمد، ورغم العلم الذي وعيناه واستوعبناه فإن قلوبنا غُلف، عليها أغطية تجعلنا لَا نفقه ما تقول، فأرح نفسك، وأرحنا معك، فلن نستمع إليك ولن يصل إلى قلوبنا شيء مما تدعو إليه.
(بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) والحق، أن الله سبحانه وتعالى، لما رأى أنهم لَا يهتدون، ولا يعطون التفاتا للدعوة، ويدرءون حجة الرسل، ويدفعون براهينهم بباطل من عندهم نجزاهم على كفرهم هذا بأن طبع على قلوبهم، وختم عليها، فهم لذلك لَا يهتدون سبيلا، ولا يؤمنون إلا قليلا.
* * *(4/1949)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
* * *
لقد كفروا بالمسيح من قبل، وأتوا ببهتان عظيم، فاتهموا مريم العذراء البتول، بأن لها علاقة بيوسف النجار، ويوسف هذا كان أحد الصالحين من بني إسرائيل، وقد خطب مريم، ورغب في أن يتزوجها، وعندما ولدت المسيح عليه السلام، صدَّقها، ووثق ببراءتها وطُهرها، وبقي معها يرعاها هي وابنها، ولكن اليهود كفروا ورموا مريم ويوسف ببهتان عظيم، ونحن المسلمين نؤمن بطهارة مريم، ونؤمن بعيسى نبيا ورسولا، فويل بعد ذلك للمكذبين.
* * *(4/1949)
(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
* * *(4/1950)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ) هذه إحدى جرائمهم الكبرى، ولكن هل قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم يعد جريمة؟ والجواب عن ذلك أن ما يدل عليه بطريق التضمن هو جريمة، والقول ذاته جريمة؛ وذلك لأن القول يدل على أنهم أرادوا قتله، واتخذوا كل السبل لذلك، فدسوا عليه عند الرومان، وكذبوا عليه وافتروا، وحاولوا أن يسلموه ليصلب، وسلموه في زعمهم، ولكن الله سبحانه وتعالى أنقذه بإلقاء الشبه على أحد الذين دبروا القتل، وكل هذه جرائم، ومن المقرر فقها وقانونا أن من شرع في ارتكاب جريمة واتخذ كل الأسباب وفعل فعلها، ولكن لم تتم بأمر ليس في إرادته يعد مجرما، وظالما يستحق العقاب فكان القول مبنيا على إجرام، ثم القول ذاته إجرام، لأنه تهجم بالكذب على مقام الرسول المبعوث لهم، ثم هم قالوا هذا القول، وقد قامت البينات على صدق رسالته وعلى أنه لم يمت، وقوله (رَسُولَ اللَّهِ) أهي من مقول اليهود أم هي من وصف الله تعالى لمن قالوا فيه؟ يجوز الأمران، وعلى الأول يكون كلامهم فيه نوع من السخرية بالرسالة والرسول كأنهم يقولون إن الله تعالى لم يحمه منهم، وعلى الثاني يكون المعنى أنهم قالوا فيه ما قالوا، وأرادوا به ما أرادوا، وقد قامت الأدلة على أنه رسول الله، وسينزل بهم العقاب على ما فعلوا وأرادوا وقالوا:(4/1950)
(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ)
(وَمَا قَتَلُوهُ) فما ذهبت روحه - عليه السلام - بقتل أنزلوه (وَمَا صَلَبُوهُ).
وما كان صُلب لأنه لم يكن قُتِل، ولكن شبه الأمر عليهم، فظنوا المقتول المصلوب هو المسيح، وما كان هو، بل كان المصلوب المقتول غيره، فخيل إليهم أنه قتل وصلب، وما كان كذلك. وقد يسأل سائل: لماذا ذكر نفي الصلب بعد نفي القتل مع أن نفي القتل يقتضي ألا يكون صُلِب؛ لأن الصلب لَا يكون إلا لمقتول؟ والجواب عن ذلك أن هذا تأكيد في النفي، ولأن النصارى واليهود يدعون أنه صُلِب، فلابد من النص على نفي الصلب، ليكون ردا على هذه الدعوى، ولو اقتصر على نفي القتل ما كان التصريح برد الدعوى، ورد الدعاوى لَا يكتفى فيه ما تضمن عن التصريح، ولو نفي الصلب فقط ما اقتضى نفي القتل، فكان النسق البليغ مقتضيا نفيهما معا.
وقد نسب القتل المنفي إليهم مع أن التاريخ والأناجيل تثبت أن القتل المنفي والصلب كان من حاكم الرومان، ولكن بتحريض اليهود؛ وذلك لأنهم هم الذين ألحوا في طلب القتل حتى إن الروماني يلقى عليهم تبعة قتله، والمحرِّض قاتل، والشاهد الكاذب قاتل، وكل متسبب يعد قاتلا، وهؤلاء قاموا بكل ذلك، فقد دبروا شهادات الزور، وحرَّضوا وتسببوا فكانوا بهذا قاتلين كفعل الجبناء، ولكن الله تعالى أنقذه منهم ومن الرومان معا.
والتشبيه لهم بأن خلق الله تعالى شبهه على أحد الذين خانوه، ودبروا القتل، وقد جاء ذلك في إنجيل برنابا الذي عثر عليه في خزانة أحد البابوات في آخر القرن الخامس عشر، فقد جاء في هذا الإنجيل الذي لَا يوجد ما يدل على أنه ليس في قوة أناجيلهم: (إن يهوذا الأسخريوطي الذي كان عينا على السيد المسيح عليه السلام قد ألقى الله تعالى عليه، شكل السيد المسيح فقبض عليه على أنه هو، فقد قال برنابا في هذا: (الحق أقول إن صوت يهوذا ووجهه وشخصه بلغت من الشبه بيسوع أن اعتقد تلاميذه والمؤمنون به كافة أنه يسوع، كذلك خرج بعضهم من تعاليم يسوع معتقدين أن يسوع كان نبيا كاذبا، وإنما الآيات التي فعلها(4/1951)
بصناعة السحر، لأن يسوع قال إنه لَا يموت إلى وشك انقضاء العالم، لأنه سيؤخذ في ذلك الوقت من العالم) ثم يبين أن يسوع رفع إلى السماء، ولما علم أن بعض المتبعين ضلوا طلب إلى الله تعالى أن ينزله إلى الأرض فنزل بعد ثلاثة أيام؛ ويفول برنابا: (ووبخ كثيرين ممن اعتقدوا أنه مات وقام قائلا: أتحسبونني أنا؟! والله كافر بالله، لأن الله وهبني أن أعيش حتى قبيل انقضاء العالم، كما قد قلت لكم. الحق أقول لكم أني لم أمت، بل يهوذا الخائن، احذروا لأن الشيطان سيحاول جهده أن يخدعكم ولكن كونوا شهودي في كل إسرائيل وفي العالم كله، لكل الأشياء التي رأيتموها وسمعتموها " (1).
ومن هذا يتبين معنى أنه خُيلَ لهم أنهم قتلوه، وما قتلوه، وأنهم قد اعتراهم الشك من بعد ذلك في أمره، ولذا قال تعالى:
(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ منْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) ولقد اختلف اليهود والمسيحيون في شأن السيد المسيح، فمنهم من أنكر أنه نبي، ومنهم من زعم أن فيه عنصرا إلهيا مع العنصر الإنساني، ومنهم من زعم أنه ابن الله تعالى وأن النبوة ليست نبوة ألوهية، إنما هي نبوة ثقة ومحبة ورحمة، ومنهم من قال إن الذي ولدته مريم هو العنصر الإنساني، وفاض عليه من بعد العنصر الإلهي، ومنهم من قال إن مريم ولدت العنصرين، ومنهم من قال إن كلام عيسى وإرادته هي من العنصر الإنساني، ومنهم من قال إن الإرادة وليدة العنصرين. وهكذا كان الاختلاف، وكل كون طائفة وحزبا، كما قال تعالى: (ذَلكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَق الَّذِي فِيهِ يمْتَرُونَ) إلى أن فال تعالى: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
ولا يزالون يختلفون حول حقيقة المسيح وصلبه، ومع أن اليهود هم الذين سعوا بلا ريب لقتله، ولكن ردهم الله تعالى على أعقابهم خاسرين، وأبطل الله مكرهم وكيدهم، مع هذا تجد الآن المجمع المسكوني المسيحي قام باقتراح قسيس
________
(1) كتاب محاضرات في النصرانية للإمام أبو زهرة.(4/1952)
ألماني يدرس تبرئة اليهود من دم المسيح، وأيد ذلك الزعم كبير أساقفة إنجلترا وهم بذلك يضربون بنصوص أناجيلهم عرض الحائط، وإن هذا مصداق لقوله تعالى: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) فهم في ريب دائم، ولا يؤمنون بشيء مما يقولون ويزعمون، وما هم يتبعون إلا الظن، فيظنون ويتوهَّمون، ثم يحكمون بالظن والوهم.
* * *
(وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) أكد الله سبحانه وتعالى نفي قتل السيد المسيح الذي حاوله اليهود، فقال تعالت كلماته:
(وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا).
وهنا تأويلان لكلمة (يَقِينًا) - التأويل الأول: أنها وصف لمحذوف، والمعنى وما قتلوه قتلا قد استيقنوا به وتأكدوه، وهذا فيه ترشيح للاختلاف والشك الذي اعتراهم. التأويل الثاني: أنها تأكيد للنفي، والمعنى وما قتلوه حقا وصدقا، فاليقين منصب على النفي، أي أن نفي كونه قتل أمر مستيقن مؤكد، وليس ظنا كظنكم،
ولا وهما كوهمكم.
* * *
وقوله تعالى(4/1953)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
(بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ... (158)
* * *
إضراب بياني فيه رد لزعمهم القتل، والمعنى بل إنه لم يقتل، وأن الله رفعه إليه، وظاهر القول أن الرفع كان بجسده وروحه، لَا بروحه فقط، وبهذا جاء التفسير المأثور، وعليه أكثر المفسرين، وأيدته السنة، وإن كانت أخبار آحاد، وقد فسر بعض العلماء الرفع بأنه رفع الروح، وأخذوا ذلك من قوله تعالى: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ).
فبمقتضى النسق الظاهر يكون الرفع عقب الوفاة. وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا).
وفي به وصف الله تعالى الدائم بأنه العزيز الرفيع الجناب الذي - لَا يلجأ إليه أحد إلا أعزه، وأعلى قدره، وحماه، كما فعل مع ابن مريم وغيره من أنبيائه عليهم السلام، وهو الحكيم الذي يضع الأمور في مواضعها.
* * *(4/1953)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
* * *
" إن " هنا النافية، والمعنى ما من أحد من أهل الكتاب اليهود أو النصارى، أو بعبارة أدق الذين يسمون أنفسهم نصارى أو مسيحيين إلا ليؤمنن به حق الإيمان، ويخضعون حق الخضوع قبل موته - عليه السلام -، فالضمير في موته يعود إلى المسيح - عليه السلام -، وهذا يسير على أن عيسى سيعود، ويحكم بشريعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويؤمن به أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهناك تخريج آخر، وهو أن الضمير في (موته) يعود إلى أحد المطوية في الكلام ومقدرة، والمعنى ما من أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى عند موت أي كتابي، لأنه عند حشرجة الموت يتنبه الشخص لما أنكر وجحد، فيؤمن، كما كانت حال فرعون إذ قال عندما أدركه الغرق: آمنت أنه لَا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل. وإن عيسى - عليه السلام - سيكون شهيدا بالحق يوم الحق يشهد على اليهود بما كفروا به، ويشهد على الذين يقولون إنهم نصارى، وأنهم كفروا به فادعوا أنه إله أو ابن الله، وأن كلامهم في هذا باطل، وأنه عبد الله ورسوله.
وهنا نريد أن نشير الى موقف الإسلام، ومن يقولون أنهم نصارى - من المسيح عليه السلام: هم يقولون أنه قتل وصلب ليطهر الخليقة من ذنب أبيهم آدم، وأن الله اختار ابنه ليكون فداء، وأما الإسلام فإنه يقول إن الله نجاه، ورفعه إلى المنازل العليا.
ولا نريد أن نقول إنهم يرمون الله تعالى بالجهل إذ سكت أزمانا طويلة - حتى بدا له أن يجعل ابنه فداء، ولا نريد أن نقول إن العنصر الإلهي كيف حل في مريم البتول، ولا نريد أن نقول إن الله عفا عن آدم، وإن لم يعف فإن العقاب يكون عليه ولا يكون على غيره، لَا نريد أن نقول إن هذا كله مخالف لكل معقول، ولكن نقول كيف يتصور أن يكون الفداء للخليقة بإنزال ابنه إلى الأرض ليقتله بعض ذرية آدم الذي عصى؟!! إن المعقول أن يكونوا قد أضافوا إلى قولهم جريمة أخرى هي قتل ابن الله بل إنها جريمة أشد وأنكى، وإذا قيل لهم ذلك(4/1954)
القول قالوا إن الدين له منطق غير منطق العقل. ولكن عيسى ابن مريم، الحق فيه ما قاله القرآن ولكنهم يمترون.
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4).
* * *
(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
* * *
في قلوبهم قسوة، وفي نفوسهم جفوة، وعقولهم غُلْف لَا تنفتح للحق، ولا تذعن له، ظهرت آياته وقامت بيناته، أتتهم آيات الحق والمعجزات فكذبوا بها وطلبوا غيرها، وقالوا أرنا الله جهرة، ورأوا الجبل يعلو عليهم، فقبلوا ميثاق الإيمان، ثم نقضوه، وقتلوا بعض الأنبياء لغلظ قلوبهم، وانطماسها، وغفلتها عن الحق، ورموا مريم البتول ببهتان وكذب، ومحاولتهم قتل عيسى ابن مريم رسول الله، وافتخارهم لقتله وما قتلوه، فهذه مظالم تتلوها مظالم، ولا بد من تربية نفوسهم على الحق، وتهذيبها لتذعن له، والنفس الشرهة الشرسة لَا يهذبها إلا الحرمان أبدا، عسى أن تنقشع عنها غياهب المادة فترى، ولذا قال سبحانه:(4/1955)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160)
(فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) الظلم هنا خاص بالكفر الذي ذكرته الآيات سابقا، كفروا بمواثيق الله، ولم يذعنوا للحق، إذعانا(4/1955)
ظاهرا إلا بعد تهديد غليظ، ثم نقضوا ما عاهدوا الله تعالى عليه وقتلوا الأنبياء وكذبوا على الأبرياء.
فالظلم إذن هو هذا الكفر الذي أوغلوا فيه إيغالا. ولا شك أن ما جاء بعد ذلك ظلم بين، فالصد عن سبيل الله ظلم، وأخذهم الربا ظلم، وأكلهم أموال الناس بالباطل ظلم، وكل واحدة من هذه الجرائم التي أركسوا فيها ظلم وذنب، ولذلك صح أن تذكر كل واحدة منها منفردة، وإن كانت تدخل في عموم كلمة ظلم. ولكن عند اجتماعها مع هذه الجرائم تخصص كل كلمة بما ذكر أولا أنهم ارتكبوه، ودل على غلظ أكبادهم وقسوة قلوبهم، وكفرهم الصريح وهو أشد أنواع الظلم، وإن الشرك لظلم عظيم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى العقوبة بقوله تعالى:
(حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) هذا هو حكم الله تعالى الذي قرره تهذيبا وتأديبا لهم، وفطما لنفوسهم عن الشهوات، ولقلوبهم التي استغرقتها المادة، والنفوس إذا فطمت تتهذب، وقد تذهب قسوتها. حرم الله سبحانه وتعالى أمورا كانت حلالا لهم، وهي بتكوينها من الطيبات التي أحلها الله تعالى، وليست من الخبائث التي يحرمها الله تعالى، فهي في أصل تكوينها طيبات من شأنها الحل، ولكن حرم بعضها عليهم تهذيبا وتربية لكي تذهب عن قلوبهم بعض القسوة، وبعض الأنانية التي استولت عليها، والتنكير في قوله تعالى: " طيبات " فيه إشارة إلى أنه لم تحرم كل الطيبات، بل بعض منها، وقد بينه سبحانه وتعالى بقوله تعالى: (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146).
وإنه يلاحظ أن هذه المحرمات من الطيبات من شأن الإكثار منها أن يوجد شحما في الجسم واسترخاء، وحيث كان الجسم كذلك تضعف الهمة، وحيث ضعفت الهمة، كانت محبة المادة، والكسب الرخيص، وطلب من غير الله، وقد(4/1956)
كانوا كذلك، وقد كانوا لَا همة لهم إلا في الكسب الرخيص ولا همة لهم في دفع اعتداء، فقد كانوا يقولون لموسى: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَربُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)، وهمتهم الكبرى في الإيذاء لخمول قلوبهم بقدر خمول أجسامهم.
وكان في فطمهم عن الشحوم، وما يزيد البدن ترهلا، تهذيبا لنفوسهم، وتقوية لأبدانهم، وفتح باب الهمة العليا لهم.
ومن المظالم التي ارتكبوها صدهم أنفسهم عن طريق الحق، وصدهم غيرهم ومنع غير اليهود من أن يدخلوا في ديانة موسى، ولذا قال سبحانه: (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) أي صدا كثيرا في ذاته أو صدا لناس كثيرين.
وقد ذكر سبحانه وتعالى بقية الأسباب التي أوجبت ذلك التحريم فقال:
* * *(4/1957)
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ... (161)
* * *
كان الظلم الأول موضعه القلب والاعتقاد، وما ينبعث من أفعال شاذة فيها اعتداء على رسل الله تعالى وأنبيائه، فالاعتداء فيها كان على جنب الله تعالى والفساد كان في القلوب، وفى الأعمال التي تمعلق بها. أما الظلم هنا فهو واقع على العباد.
ذلك أن ضعف همتهم في الكسب، وعدم الاتجاه إلى العمل المثمر المنتج جعلهم يتجهون إلى الكسب الفاسد غير المنتج وذلك بالربا، وأكل مال الناس بالباطل، فأما الربا، وهو الزيادة في نظير الزيادة في الأجل فهو كسب الخبيث، وغير منطقي، لأنه كسب بالنقد، والنقد لَا يلد النقد كما قال أرسطو، وهو كسب بالانتظار فالزمن هو العامل فيه، والكسب بالانتظار عمل الكسالى الجبناء، لأنه يجيئهم من غير عمل، ومن غير تعرض للخسارة وهو في الغالب نوع من البطالة، ويؤدي إلى القمار والمراهنات، ولذلك تقترن هذه الآفات الاجتماعية بالتعامل بالربا، وتكون في أكثر أحوالها ممن يتعاملون به، حيث لَا مخاطرة كالتي تكون في التجارة أو الزراعة. ويندر أن تجد يهوديا في أي بلد من البلاد يشتغل(4/1957)
بالزراعة، ولكنهم يتخذون لأنفسهم صفة الوسطاء التي لَا تحتاج إلى همة، ولا تحتاج إلى شجاعة.
وحيث كانت المعاملات اليهودية كان معها أكل أموال الناس بغير الحق الذي فيه أخذ وعطاء، ونفع وانتفاع، بل تكون معاملاتهم قائمة على الاحتكار، والرشوة كيفما كانت تسميتها، وكيفما كانت صفتها، والمخادعات والاحتيال، والنصب الماهر المستور، وغير ذلك من التعامل الذي لَا شرف فيه.
وقد بين سبحانه وتعالى عقابهم بقوله:
(وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) أي بسبب هذه المظالم في الدنيا لا يكتفى بحرمانهم الجزئي فيها، بل لابد للكافرين من عقاب شديد مؤلم في الآخرة، وقد ذكر وصف الإيلام في العذاب، للإشارة إلى أنهم إن كانوا يتمتعون في الدنيا كما تتمتع الأنعام، ويرتعون كما ترتع، فذلك إلى أمد قصير.
إن أولئك الماديين الذين فسدت ضمائرهم وضعفت عقائدهم، وأصبحوا لا يؤمنون إلا بالدنيا، ويقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا نلهو ونلعب وما نحن بمبعوثين. . يكون منهم دائما الاستهانة بحقوق غيرهم وينشرون اللهو والعبث والمجون، وتكون الدنيا متعتهم وتكون هذه المتعة غايتهم، ومطلبهم، فلا يذكرون أن وراء هذه المتعة آلاما، ووراءها عذاب أليم، فليذكروا ذلك، وإن ربك لبالمرصاد.
وليسوا جميعا على هذا النحو، ولذلك قال في العقاب للكافرين منهم، فكل طائفة فيهم الخير والشر، واليهود مع ما كانوا عليه في الماضي كان منهم المؤمنون، وإن كانوا قليلا، ولذا قال سبحانه:
* * *(4/1958)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
(لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ... (162)
* * *
الراسخون في العلم هم الذين أدركوا حقائقه وصدقوها، وأذعنوا لها، وثبتت في قلوبهم ثباتا لَا يكون معه ريب يزعزعه أو شبهة تفسده، أو هوى يعبث به، وقد(4/1958)
قال الراغب في مفرداته في معنى الرسوخ: " رسوخ الشيء ثباته ثباتا متمكنا، ورسخ الغدير نضب ماؤه، ورسخ تحت الأرض، والراسخ في العلم المتحقق فيه الذي لَا يعرضه شبهة، فالراسخون في العلم هم الموصوفون بقوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذينَ آمَنُوا باللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يرْتَابُوا)، وكذلك قوله تعالى: (لَكَنِ الرَّاسِخَونَ فِي الْعِلْم مِنْهُمْ).
وإن الله سبحانه وتعالى الحكم العدل تكون أحكامه على مقتضى عدله، فهؤلاء اليهود، وإن كثر جحودهم فيهم العلماء المحققون الراسخون، وإن كانوا مختفين في لجة من جحود اليهود، هؤلاء الراسخون في العلم الديني، والعلم برسالته، وسائر رسائل النبيين هم والمؤمنون سواء، فهم يعتقدون كل ما يعتقده المؤمنون من صدق رسالة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وصدق سائر الرسالات الإلهية. وهؤلاء قد ضموا إلى صفوف المؤمنين، بل إنهم صاروا منهم، وإنما ذُكروا كأنهم صنف قائم، باعتبار أنهم من اليهود، ولم يكونوا كالمنحرفين البارزين، وهؤلاء اليهود لم يكفروا بموسى كما لم يكفر سائر المؤمنين بموسى، ولذلك قال سبحانه وتعالى: (يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) أي أنهم يؤمنون بالرسالة المحمدية وكتابها ورسالات الرسل السابقة وكتبها، فأولئك الراسخون في العلم من بني إسرائيل هم والمؤمنون لم يخرجوا على موسى، بل آمنوا به أوثق إيمان؛ لأنهم آمنوا بالرسالات كلها.
وقد يقول قائل: إن الله تعالى ذمَّ اليهود عمومًا، ثم خصَّ الراسخين بالثناء، فلم كان التعميم ثم التخصيص؟ والجواب عن ذلك أن أولئك الراسخين لم يكونوا هم الظاهرين منهم، بل كان الشر هو الطافح على سطحهم، فكان من أجل وصفهم عموما بالشر، لأن الجماعة توصف بالشر إذا اختفى الخير فيها، ثم كان الظاهر هو الشر، وكان من إنصاف الله تعالى أن ذكر أولئك العلماء المغمورين في وسط جماعة الأشرار، وبين حقيقتهم، وانضمامهم إلى جماعة المؤمنين.(4/1959)
هذه حقيقة المؤمنين ومن معهم من الراسخين في العلم من أهل الكتاب، ثم بين من بعد أعمالهم، وإيمانهم بالغيب، فقال:
(وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ذكر في هذا النص الكريم أعظم أعمال الخير التي يقوم بها المؤمن الصادق في إيمانه، وهي قسمان: عبادة هي تطهير النفس وتهذيبها، وهي الصلاة، فإن إقامة الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتهذب الضمير. والصلاة عمود الدين، ولب اليقين، وتهذيب الوجدان، وتجعل المؤمن يألف ويؤلف، وتصرفه إلى الخير، ولذلك ذكرت على سبيل التخصيص ونصبت حيث الظاهر، لتقدير فعل يدل على الاختصاص، والمعنى أَخُصُّ الصلاة بالذكر؛ لأنها ذكر الله تعالى الأكبر، وبذكر الله تطمئن القلوب، وتصفو النفوس وتهذب الضمائر.
والقسم الثاني: عبادة هي معونة اجتماعية للمؤمنين، فهي عطاء بنية العبادة، وهي تومئ إلى التعاون بين المؤمنين، بحيث يعين القوي الضعيف، والغني الفقير، وكل امرئٍ في حاجة أخيه وعونه كما قال عليه الصلاة والسلام: " الله في عون العبد، ما دام العبد في عونه أخيه " (1)، وكل امرئٍ مهما يكن يحتاج إلى غيره في ناحية، ويمد الغير بالحاجة من ناحية أخرى.
وقد ذكر سبحانه وتعالى بعد ذلك لب اليقين، ونور الايمان وما يكون الرسوخ في العلم والعقيدة؛ فقال سبحانه:
(وَالْمُؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) فالإيمان بالله جل جلاله، وإدراك معنى صفاته، والإذعان له، واعتقاد أنه فوق كل الوجود وما فيه وأنه القاهر فوق عباده،
________
(1) جزء من حديث رواه مسلم: الذكر والدعاء - فضل الاجتماع على تلاوة القرآن (2699) عن أبي هريرة رضي الله عنه، والترمذي: الحدود - ما جاء في الستر على المسلم (1425)، وأبو داود الأدب - في المعونة للمسلم (4946)، وابن ماجه: المقدمة - فضل العلم (225)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (7379)، وابن ماجه: القراءات ما جاء في نزول القرآن على سبعة أحرف (2945).(4/1960)
ذلك الإيمان بضعف كل شيء، وأنه لَا قادر حق القدرة سواه - هو الذي يتربى به القلب فيؤمن، والجوارح فتذعن، والنفوس فتصفو.
والإيمان باليوم الآخر هو إيمان بالغيب، وهو أخص عناصر الإيمان، وهو الذي يجعل المؤمن يعرف حقيقة الدنيا، ويصبر على سرائها وضرائها، ولا تذهب نفسه حسرات عند الحرمان، ولا يطغى ويغتر عندما يعطيه، ويعلم أنه مجزي بالصبر، محاسب على ما أنعم الله تعالى به عليه.
وقد بين سبحانه من بعد ذلك جزاء هؤلاء المؤمنين، فقال تعالت كلماته: (أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا) أي أولئك الذين نالوا هذه الخصال كلها، فآمنوا بكل الأنبياء وتهذبت ضمائرهم بالصلاة، وتعاونوا فيما بينهم بالزكاة، وآمنوا بالله تعالى حق الإيمان، وصدقوا البعث والنشور، وصبروا في السراء والضراء، هؤلاء المتصفون بتلك الصفات يستحقون بسببها جزاء عظيما. وقد أكد ذلك الجزاء بثلاثة مؤكدات:
أولها - " السين " في قوله (سَنُؤْتِيهِمْ)؛ لأنها لتأكيد الوقوع في المستقبل. وثانيها - إسناد العطاء إلى الله تعالى القادر على كل شيء، وهو لَا يخلف الميعاد.
ثالثها - تنكير الأجر، ووصفه بالعظمة، فهو أجر عظيم لَا يجري في خيال البشر، ويعلمه خالق البشر.
اللهم اجعلنا ممن تغفر لهم، فينالون رضاك يا رب العالمين.
* * *(4/1961)
(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
* * *
الآيات السابقات بينت أحوال القلوب إذا أظلمت، والنفوس إذا انحرفت وعصت أمر ربها، وجعل حال بني إسرائيل في ماضيهم وحاضرهم مثلا واضحا بينا، فقد مالت قلوبهم عن الحق بعد أن جاءتهم البينات، وما من آية أتتهم لتزيدهم إيمانا إلا ازدادوا بها كفرانا، وما تركوا جريمة إلا ارتكبوها باسم أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، ومع ذلك الزعم يقتلون أنبياء الله ويعصون الآخرين من رسله، وهم يعاملون محمدا - صلى الله عليه وسلم - بما عاملوا به من سبقه من الأنبياء، غدروا بعد أن عاهدهم ووفى لهم، وحاولوا قتله غدرا، واشتركوا مع أعدائه لقهره، ولكن الله تعالى منعه منهم، ومكنه من رقابهم.
وبعد أن ذكر سبحانه ما يدل على شدة جحودهم، أشار سبحانه إلى أنه لا يلتفت إليهم، وأنه ليس بدعا من الرسل، بل هو كمال السلسلة من النبوة التي(4/1962)
اختارها الله تعالى من البشر، لتكون حجة الله تعالى إلى يوم القيامة: فقال عز من قائل:(4/1963)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقوبَ وَالأَسْبَاطِ).
هذا النص مربوط في المعنى بقوله تعالى: (يَسْئَلُكَ أَهْل الْكِتَابِ أَن تنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا موسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ. . .).
وقد قالوا غير ذلك في آية أخرى فأنكروا الرسالة الإلهية جملة من بعد موسى، وقالوا: (. . . مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ من شَيْءٍ. . .)، مبالغة في إنكار رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي هذه الآيات وما إليها بيان بوحي الله تعالى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه مثل بقية الرسل، فما كان بدعا من الرسل، بل هو في تلقي رسالة الله كسائر الرسل. ولذا قال تعالى:
(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) والوحي في الأصل الإعلام الخفي، والإشارة والإيماء، والإلهام، وغير ذلك من المعاني التي تدل على أنه إعلام خاص، لَا يكون بطريق الإعلام الظاهر، وقد قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يرْسِلَ رَسولًا)، فالوحي على هذا نوع من خطاب الله تعالى لرسله ويقابله الكلام من وراء حجاب، وإرسال ملك من الملائكة بالخطاب.
والوحي هنا يعم الأنواع الثلاثة من كلام الله تعالى لرسله، كما يدل السياق على ذلك.
والكلام سيق لبيان المشابهة والمشاكلة بين وحي الله تعالى لنبيه الكريم الذي هو آخر لبنة في صرح النبوة والرسائل الإلهية، وبين الوحي للرسل السابقين، وقد أكد سبحانه وتعالى المشابهة بنسبة الإيحاء إليه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، وبـ " إنَّ " المؤكدة، فقال: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ).
وقد ابتدأ سبحانه وتعالى بذكر نوح - عليه السلام -، لأنه الأب الثاني للخليقة، ولأنه أول نبي معروف في القرآن بعد أبي البشر، ولأن في ذكره معنى(4/1963)
التهديد للذين يجحدون ويحاربون الرسالة الإلهية: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27).
فذكره تذكير بتهديده، واستجابة الله تعالى لدعائه. وقد ذكر سبحانه وتعالى نبيين من بعده في الزمان الطويل الذي كان بينه وبين إبراهيم أبي الأنبياء من بعده، ثم قال سبحانه وتعالى من بعد:
(وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ) وقد ذكر سبحانه وتعالى كلمة " وأوحينا " لتأكيد الإيحاء، وللإشارة إلى وجود فترة زمنية طويلة بين نوح عليه السلام وإبراهيم، فإن التكرار في الذكر إيحاء الى التباعد في الزمن؛ ولأن هنا مفارقة بين الأنبياء الذين جاءوا بعد نوح، والمذكورين، لأن أولئك جميعا من ذرية إبراهيم وإن تفاوتت مراتبهم، واختلفت أماكنهم.
وإن القارئ يلاحظ أمرين:
أولهما - أن كل نبي من هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في هذا النص الكريم يختص بصفة! فإبراهيم أبو الأنبياء، وإسماعيل أبو العرب، وإسحاق أبو أنبياء بني إسرائيل ومثله يعقوب، وقد اختص بالصبر على فراق ولده، وحبيبه، والأسباط، وهم أولاد يعقوب - عليه السلام - جمع سبط، وهو ولد الولد - مثل للغيرة البشرية تعتري الشباب في فورته وحدته، ثم يثوب إلى رشده بعد أن يكتمل عقله، وتكتمل نفسه، وقد أوحى الله تعالى إليهم، وبلغوا مرتبة الأصفياء المهديين، ولعل الوحي إليهم كان من قبيل الإلهام، لأنه لم يكن لهم رسالات بشرائع خاصة، وعيسى عليه السلام كان روحانيا في حياته كلها، ولد من غير أب، وعاش طول حياته يدعو إلى الروح، والخروج من سلطان المادة، فله بين الأنبياء خواصه، وهو من البشر الذين خلقهم الله تعالى آية للعالمين، وأيوب عليه السلام له صفة الصبر على المرض الأليم، وقد قال تعالى فيه: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى(4/1964)
رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84). ويونس عليه السلام إذ تخلى عنه الصبر فهذبه ربه في الدنيا، ثم صار من المخلصين وقد قال سبحانه: (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145).
وقد ختم سبحانه ذلك الفريق من النبيين بذكر داود فقال تعالى: (وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) أي كما أعطينا داود كتابا خاصا هو الزبور، والقراءة المشهورة بفتح الزاي، وقراءة حمزة بضمها أي " زبورا " (1)، وعلى الأول يكون معنى زبورا بمعنى الزبور أي المكتوب، وعلى الضم يكون جمعا لزِبر بكسر الزاي، والزبر هو الشيء المكتوب، وعلى أي القراءتين فالمعنى أعطيناه كتابا مكتوبا يقرأ ويرتل.
ويظهر أن كتاب الزبور لم يكن فيه بيان للأحكام، لأن التوراة كانت شرائعها هي النظام المتبع، بل هو حكمٌ ومَواعِظ، وقد قال فيه القرطبي: " الزبور كتاب داود، وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ ".
ولقد أعطى الله سبحانه وتعالى داود صفتين تبدوان بين الناس متعارضتين، إحداهما - أنه كان رجل حرب وجلاد، ورجل حكم وفصل بين الناس. والثانية - أنه كان طيب النفس متواضعا متطامنا، فكان لَا يأكل إلا من عمل يده، ولذلك كان مثلا للنبوة التي تحكم وترشد وتتواضع وتقود الجيوش، وهو الذي كان تحت يده كل خزائن ملكه، ويعف عن أن يمد يده إليه، ويأكل من عمل يده، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيان حاله: " إن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده " (2) فهو
_________
(1) قرأها بالضم حمزة وخلف وقرأ الباقون بالفتح. غاية الاختصار برقم (795).
(2) رواه البخاري: البيوع - كسب الرجل وعمله بيده (2073)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (27377) عن أبي هريرة رضي الله عنه.(4/1965)
النبي الملك القائد الذي أدخل نفسه في زمرة العمال؛ إذ كان لَا يأكل إلا من عمل يده.
* * *(4/1966)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
(وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ... (164)
* * *
هذا بيان إجمالي يقرر أن الله تعالى أرسل رسلا كثيرة، قد قص بعضهم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، والآخر لم يقصه، والقص تتبع الأثر يقال قصصت أثره، ثم أطلق على الأخبار المتتابعة، ونرى هنا أن (قَصَّ) متعدية، مفعولها المذكور من أخبارهم، والمعنى على هذا في النص تتبعنا آثارهم وأخبارهم التي يكون في ذكرها عبره لأولي الألباب، وليكون ضرب الأمثال للنبي - صلى الله عليه وسلم - في صبرهم، وإيذاء أقوامهم لهم، وإن الرسل الذين قصهم الله تعالى على نبيه من قبل كان في السور المكية، فإنها مملوءة بأخبارهم وفيه ذكرى النبوات الأولى السابقة على نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإن أكثر هؤلاء الذين قص الله تعالى أخبارهم ممن كانوا في البلاد العربية أو يجاورونها، أو كانت له صلة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في نسب، أو كان الذين يدَّعون اتباعهم يجادلون النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويمارون في دعوته.
وليست النبوة مقصورة في هؤلاء، إنما هناك نبوات ورسالات أخرى كانت في الأمم البعيدة مثل الصين والهند، وغيرها من الأراضي التي سكنها أقوام كثيرون، وليس لنا إلا أن نفرض أن رسلا بعثوا إلى هؤلاء الأقوام؛ لأن الله تعالى يقول: (أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى)، ولا شك أن تركهم من غير نبي مبعوث ترك لهم سدى، وذلك ما نفَى الله تعالى في استنكار أن يقع، وقد قال تعالى: (وَإن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ).
ولذلك قال تعالى في هذا النص الكريم الذي نتكلم في معناه (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ) ونصبت " رسلا " على الاشتغال أي نصبت بفعل قد تضمن معناه الفعل الذي ولي المنصوب، والمعنى قصصنا رسلا من قبل: (وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ) ويكون الابتداء بذكر الرسل والاهتمام بهم لأنهم المقصودون، وأخبارهم وقصصهم جاء تبعا لهم وختم الله النص بقوله تعالى:(4/1966)
(وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) هذا تخصيص لموسى عليه السلام بالذكر، ولم يذكر في ضمن من ذكروا من السابقين؛ وذلك لأنه هو الذي نزلت عليه التوراة التي كانت شريعة لمن جاء بعده، ولأن اليهود الذين جحدوا بآيات الله كانوا يدَّعون الأخذ بشريعته، ولأنه نزل به اختبار شديد بسبب بني إسرائيل الذين كانوا محل رسالته، وأخيرا لأنه اختص من بين المذكورين بأن الله تعالى كلمه، وقد جاء الصريح بأنه كلمه في هذا النصِ، وفي غيره ومن ذلك قوله تعالى في أول سورة طه: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13).
وإن هذا يدل على أن الله تعالى متصف بصفة الكلام، والمعتزلة من الفرق الإسلامية ينكرون نسبة صفة الكلامِ لله تعالى، ويذهب فرط غلو بعضهم إلى أن يفسروا قوله تعالى (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيمًا) بأنه كَلَّم من الكَلْم لَا من الكلام، أي أن الله تعالى اختبر موسى - عليه السلام - اختبارات شديدة كانت كالكلام والجروح وتلك مغالاة في تفسير القرآن الكريم بالمذهبية، وقد أنكره الزمخشري - وهو منهم - وسماه من بدع التفاسير. والحق أن كَلَّم من الكلام، وقد أكد تكليم الله تعالى لموسى بالمصدر، والظاهر من الكلام إذا أكد، كان غير قابل للمجاز ولا للتأويل، وأنه يجب تفسير القرآن بظواهره، وخصوصا الظواهر المؤكدة ولا تطغى الآراء المذهبية على المعاني القرآنية، فالقرآن منبع الحق، ونور المتقين.
* * *(4/1967)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
(رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
* * *
في هذا النص الكريم بيان لعمل الرسل، والحكمة من بعثهم، وقد أرسل هؤلاء مبينين الحق داعين إليه، يبشرون الطائعين بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وينذرون العاصين بسوء العقبى، وإن وَاتاهم نفع في الدنيا، فالعذاب الأليم يستقبلهم في الآخرة.
وكان بعث الرسل لكي يكون الذين يعصون على علم بما يستقبلهم والذين يطيعون على بينة بأوامر ربهم ويكون الذين يعذبون ليس لهم عذر من جهل،(4/1967)
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (لِئَلَّا يَكونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ). أي لكي يسقط كل اعتذار للعصاة في عصيانهم بعد البيان الحكيم والإرشاد المبين فمن ضل فعن بينة، والله سبحانه برحمته وفضله ومنه يسمى ذلك حجة عليه. (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23).
وقد قال المعتزلة: إن لله دائما الحجة على خلقه بالعقل الذي أودعه خالقهم، وهو هاد مرشد، ولكن إرسال الرسل رحمة من الله تعالى، ولذا قال الزمخشري في تفسير النص: الرسل منبهون من الغفلة وباعثون على النظر كما يرى علماء أهل العدل والتوحيد (أي المعتزلة) مع تبليغ ما حملوه من تفصيل أمور الدين، وبيان أحوال التكليف، وتعليم الشرائع فكان إرسالهم إزاحة للعلة وتتميما لإلزام الحجة لئلا يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فيوقظنا من سنة الغفلة وينبهنا لما وجب الانتباه له.
والحق أن الناس لَا يهتدون في جملتهم إلى الشرائع الصحيحة، بل هم بعدها مراتب منهم من يهتدون بمجرد بيان الحق، ومنهم من لَا يقنعون إلا بالبرهان الملزم، ومنهم من لَا يطيعون إلا بالتهديد ومنهم عصاة جائرون بائرون.
وقد ختم سبحانه الآية بقوله (وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) أي أنه القادر الغالب على كل شيء وهو الحكيم، الذي يدبر الأمر بحكمته وعزته.
* * *(4/1968)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
(لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
* * *
جحد أهل الكتاب وكفروا برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وطلبوا اليه أن يأتي بشهادة من عند الله، وعينوا الشهادة بأن تكون كتابا كما قال تعالى (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ. . .)، فرد سبحانه وتعالى عليهم بقوله تعالى (لَكِنِ اللَّه يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ) فالاستدراك هنا عن مستدرك من كلامهم وجحودهم، فالمعنى إذا كانوا لَا يقرون بالحق، ويذعنون له، فالله تعالى شاهد بالحق وأي بينة أجل من بيان الله تعالى تلزم المنكرين أنى يكونون، والشهادة هي قول الحق المبني على اليقين القاطع، وشهادة الله أقوى وثيقة في هذا الوجود،(4/1968)
وكانت شهادته بالإعجاز في القرآن المحكم الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد أنزله الله تعالى بعلمه، وإرادته وحكمته، فهو حجة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشهادة الله تعالى بالصدق. وشهادة الملائكة تبع لشهادة الله تعالى، وشهادتهم تكون يوم القيامة، يوم الحساب والعقاب، فشهادة الله تعالى للنبي وعليهم، وشهادة الملائكة عليهم يوم الحساب والعقاب.
وقد ختم سبحانه وتعالى الآية بقوله (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) أي أنه لَا عبرة بإنكار المنكرين بعد شهادة الله تعالى، ففيها عزة الحق وخفض الباطل، ولم تذكر هنا شهادة الملائكة لأنها تبع لشهادة الله تعالى، وفي ذكر المتبوع غناء عن التابع، والله سبحانه وتعالى على كل شيء شهيد.
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
* * *
في الآيات السابقة كان الكلام في أحوال اليهود، وسائر الكافرين، وبين سبحانه كيف كانت تأتيهم المعجزات القاهرة، والبينات الباهرة، ومع ذلك يستمرون في إنكارهم، ويلجون في عنادهم، ويطلبون آيات أخرى، والمآل الكفران، حتى إن بعضهم في الماضي ليسألون موسى أن يريهم الله جهرة، وبعضهم في عصر نزول آية يطلب آية أخرى، والنبي يتحداهم بالقرآن أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله ولو مفتراة، وهو يجادلهم بالتي هي أحسن. وقد بين سبحانه أنه تعالى أرسل الرسل ليقيم الحجة، ويختار من عباده للرسالة من يشاء،(4/1969)
وإنكارهم لَا يجديهم ولا يهديهم، ولا ينجيهم، بل إن العقاب يوم القيامة يترقبهم، وإنهم بقدر لجاجتهم في الإنكار يبتعدون عن طريق الهداية، وأوغلوا في طريق الغواية، حتى يصلوا في طريق جهنم إلى نهايته، وإنهم لخالدون فيها، وقد قال سبحانه وتعالى:(4/1970)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ فلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا) " صدَّ " يستعمل متعديا، ومصدره " الصد "، وقد تستعمل كلمة " صَدَّ " لازما، ويكون مصدرها الصدود، وقد جاء في مفردات الأصفهاني معنى الصد: " الصد والصدود قد يكونان انصرافا عن الشيء، وامتناعا، نحو (يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا)، وقد يكون صدا ومنعا نحو: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ)، ونحو: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ... )، وكما قال تعالى: (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ)، ".
والصد هنا في هذا النص الكريم بمعنى التعدي، فمعنى النص السامي، إن الذين جحدوا بالحق إذ جاءهم ولا يكتفون بانصرافهم عن الإذعان والإيمان، بل يصدون غيرهم، ويمنعونهم من الحق بإثارة الشبهات، وإيقاد الفتن بين المؤمنين، يوغلون في الضلال، ويسيرون في طريقه سيرا بعيدا.
ويتضمن ذلك المعنى أمورا:
أولها - أن الكفر بطبيعته انصراف عن الحق وصدود عن طريقه، ولذلك فسرنا كلمة (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) بمعنى منع غيرهم من سلوك الأقوم والهادي إلى الحق الذي لَا ريب فيه، وإن الذي يصد غيره قد ابتدأ بصد نفسه، فالمضل لغيره هو في ذات نفسه ضال، فإن الإضلال من ثمرات الضلال، ولا يضل الناس إلا ضال، وقد ضل مرتين إحداهما بإنكاره للحق، والثانية بمحاولته إضلال غيره.
وثانيها - أن الضلال البعد عن الطريق المستقيم فمن ضل فقد بعد عن الحق، ومن أضل غيره فقد بعد عن الحق بمقدار أوسع، وهكذا كلما سار في التضليل،(4/1970)
وفتنة المهتدين، وإيذائهم وإثارة الشبهات بينهم فهو يسير موغلا في البعد عن الطريق المستقيم، وهذا معنى قوله قد ضلوا ضلالا بعيدا.
ثالثها - أن قوله تعالى (قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا) فيه استعارة تمثيلية؛ لأن فيه تشبيه حال الذين يمعنون في الغي والفساد وإنكار الحقائق عندما يلحفون في الإنكار، وإثارة الشبه بحال الذين يسيرون في بيداء، وقد ضلوا الطريق، وساروا على غير هدى، فكلما ساروا بعدوا عن الجادة، وكان سيرهم ضلالا بعيدا لا يهتدون من بعد، إذ لَا يجدون من يهديهم إلى سواء الصراط.
الأمر الرابع - أن النفس البشرية قد هداها الله تعالى النجدين طريق الحق، وطريق الباطل، وألهمها فجورها وتقواها، فإذا اتجهت إلى الخير سارت فيه، وكلما كثرت خيراتها زاد فضلها، وإذا انحرفت عن الطريق السوي، أو سارت فيه، فإذا نبهت من قريب عادت إلى الفطرة والحق، وأمامها الأمارات والعلامات المبينة المرشدة، وإذا لم تنتبه من قريب، سارت في الشر، وبمقدار سيرها تأخذ أمارات الحق تختفي أمامها، حتى تنطمس فلا ترى. ولذلك لَا يكون ثمة أمل في العودة إلى الجادة، لأنه قد اختفت في النفس أمارات الحق، وانطفأ نوره ولذا قال سبحانه:
* * *(4/1971)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168)
* * *
الظلم هنا ظلم النفس وظلم الغير، وأولئك الذين كفروا ولجوا في كفرهم، واسترسلوا في جحودهم قد ظلموا أنفسهم بأن أبعدوها عن طريق الهداية وطمسوا نور الحق فيها وارتكبوا من المآثم ما تردوا به في مهاوي الرذيلة. وظلموا غيرهم بأن أثاروا الشبهات ليضلوهم، وأوقعوا بهم الأذى ليفتنوهم، والوصفان لطائفة واحدة من الناس، فهم اتصفوا بالجحود المطلق، والظلم، وهي الطائفة الموصوفة بالأوصاف السابقة، فالأوصاف الأولى كانت الكفر، والصد عن طريق الحق، والأوصاف الثانية هي الكفر والظلم، فالكفر مشترك، والاختلاف في الصد، والظلم، وهما متلاقيان، لأن الإعراض عن الحق ظلم للنفس ومنع الغير من الحق ظلم له، كما(4/1971)
أن الأذى والفتنة في الدين ظلم لَا ريب فيه؛ لأنه تضييق على حرية الاعتقاد، وإكراه في الدين ولا ظلم أبلغ من سلب الحرية الدينية، وإرهاق المؤمن في إيمانه.
وإن الذين يوغلون في الجحود والظلم لَا ترجى لهم توبة، وإذا كانت توبتهم لَا ترتجى، فالغفران لهم لَا يرجى، لأن الغفران نتيجة التوبة من الجاحدين الظالمين، وما كانت التوبة للذين يعملون السيئات، وتستغرق نفوسهم، ولا يتجهون إلى الله قط، ولذلك قال تعالى: (لَمْ يَكُنِ اللَّه لِيَغْفِرَ لَهُمْ) اللام في قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَهُمْ) هي التي تسمى في اصطلاح النحويين لام الجحود، أي لام النفي المطلق، أي النفي الذي يكون ناشئا عن طبيعة موضوعة، وعلى ذلك يكون المعنى لم يكن من حكمة الله تعالى، وتدبيره الحكيم أن يغفر لهم، لأن حالهم تنفي الغفران إذ تنفي سببه، وهو الإقلاع عن الكفر والظلم، والندم على ما وقع منهم، وإذا كان ذلك لَا يتحقق، فالنفي المؤكد، والجحود المطلق لاستحقاق المغفرة مؤكد، إذ لَا يقابل جحودهم بالله إلا جحود الغفران لهم، وإن الهداية إلى الحق تبتدئ بالاتجاه السليم إلى طلبه، والسير في طريقه المستقيم، وأولئك الذين أوغلوا في الشر وساروا في طريقه، أو غابوا في صحرائه وبعدوا عن الجادة لَا يمكن أن يهديهم الله تعالى إلى الطريق المستقيم، لأنهم بعدوا عنه بعدا شديدا، ولا يمكن أن يسمعوا نداء الحق؛ لأنه لَا يصل إليهم صوته، وقد اختفت من قلوبهم أماراته، فهداية الله تعالى إنما تكون لمن لم يبعد عن طريق الخير، ولا تكون إلا إذا أتجهت النفوس إلى طلبه، ولم تحط بها الخطايا (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11).
والآية الكريمة تتضمن بيان حقائق:
الأولى - أن الظلم وإرهاق النفس بالإكراه أشد الموبقات التي توبق أعمال العبيد، وترهقهم، وإن ظلم العباد لَا يغفره الله تعالى إلا إذا عفا الذين وقع الظلم عليهم، ولذلك ذكر امتناع الغفران مقرونا بالظلم، ومسببا له، وثمرة مترتبة عليه.(4/1972)
والثانية - أن هداية الله تعالى تكون للنفس الصالحة لقبولها، فهي استجابة من الله تعالى لمن يطلبها، ولا يطلبها من أركس في الشر إركاسا، فمن طلب الهداية نالها، ومن تنكب سبيلها سلب الله تعالى عنه هدايته.
الثالثة - أن التوبة أساس الغفران، والتوبة ندم على الذنب، وإقلاع عنه، واعتزام على عدم العودة.
* * *(4/1973)
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
(إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ... (169)
* * *
الاستثناء هنا من ختام الآية السابقة، أي أن الله تعالى لَا يوصلهم إلى طريق إلا طريق جهنم، ويكون معنى الهداية التوصيل، وليس التوصيل إلى جهنم فيه نوع من الهداية، بل هو التردي في الهاوية، وكان التعبير عن الهداية من قبيل المشاكلة اللفظية، وفيه نوع من التهكم في مثل قوله تعالى: (فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
وفى الكلام تنبيه إلى أن أعمالهم تنتهي بهم لَا محالة إلى جهنم، وعذابها الشديد، فإذا كانوا ممن يظنون أنفسهم في سعادة في الدنيا، فسيجدون الألم الشديد، (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).
وقد ذكر سبحانه أنهم خالدون في جهنم أبدا، فأكد سبحانه العذاب بأنه عذاب خالد دائم، فوصفهم بأنهم خالدون على وجه التأبيد، وقد وصفهم بالخلود الدائم في العذاب ولم يصف العذاب، للإشارة إلى أنهم متلبسون به ولتصوير الآلام التي تنزل بهم، وأنهم لإخلاص لهم منها، بل هي ملازمة لهم ملازمة الوصف للموصوف.
وقد قال الأصفهاني في معنى الخلود: الخلود هو تبري الشيء من اعتراض الفساد، وبقاؤه على الحالة التي هو عليها، وكل ما يتباطأ التغيير والفساد فيه تصفه العرب بالخلود. . ويقال خلد يخلد خلودا قال تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ).(4/1973)
والخلد اسم للجزء الذي يتبقى من الإنسان على حالته. . وأصل المخلد الذي يبقى مدة طويلة. . والخلود في الجنة بقاء الأشياء على الحالة التي عليها من غير اعتراض الفساد عليها. قال تعالى: (وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا).
والأبد قال فيه الراغب: " مدة الزمان الممتد الذي لَا يتجزأ، وأبد يأبد بقي أبدا، ويعبر به عما يبقى مدة طويلة "، وإن تفسير الخلود على ما ذكره الراغب يقتضي بقاء الناس يوم القيامة بأبدانهم من غير أن يعتريها فساد ولا فناء ولا تحلل أجزاء، فأهل الجنة يبقون بقاء تمتع ونعيم وأهل النار تبقى أجسامهم في شقاء وعذاب أليم، لَا تبليها النار ولا يفنيها العذاب، ولا يذهب بالحساسية فيها توالي الاكتواء، (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56).
والأبدية معناها الدوام، كما دل على ذلك مجموع النصوص القرآنية، وإن تأكيد الخلود بالأبدية يدل على بقاء العذاب والنعيم.
ذيَّل الله سبحانه وتعالى الآيات بهذا ليبين لهم أن الله تعالى غالب على كل شيء، وأن عذابهم أمر يسير عليه، لإبطال زعمهم في أنهم لَا يقدر عليهم أحد، ذلك أن كل طاغية من طغاة الدنيا سبب طغيانه واسترساله في شره ظنه أن لن يقدر عليه أحد، مع أن الله تعالى هو القاهر فوق عباده، اللهم أبعد عن خلقك طغيان الطاغين، وغرور المغترين، وأرزق المؤمنين الأمن والاطمئنان.
* * *
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا(4/1974)
عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
* * *
كان كل الكلام السابق في شأن الذين لجوا في الإنكار من اليهود حتى لقد سألوا أن يأتي لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بكتاب من السماء يقرءونه، وكان حاضرهم في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - كماضيهم، وفي هذه الآيات بيان منزلة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه يخاطب الناس جميعا برسالته، ويدعوهم إلى شريعته، وإشارة إلى طائفة أخرى من أهل الكتاب غالوا في تقدير رسولهم، وهم النصارى، فإذا كان اليهود قد لجوا في الإنكار والجحود بالنسبة لرسولهم الذي أنقذهم من فرعون وطغيانه، الذي كان يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم. فالنصارى قد غالوا في تقدير رسولهم حتى جعلوه إلها، وجعلوا الآلهة ثلاثة استرسالا في المغالاة في تقدير المسيح عيسى - عليه السلام -، وهو بريء مما يقولون.(4/1975)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ) الخطاب للناس أجمعين:
أهل الشرك وأهل الكتاب، والعرب والعجم، والأبيض والأسود، والقريب الداني، والبعيد القاصي، فهي رسالة عامة، لَا تختص بجنس، ولا لون، ولا إقليم، فإذا كان موسى يخاطب بني إسرائيل، فمحمد - صلى الله عليه وسلم - يخاطب الناس أجمعين.
وذكر الرسول معرفا بالألف واللام لمعنى كمال الرسالة فيه، فهي للتعيين بالكمال المطلق، أي أنه رسول الأجيال اللاحقة، ولا رسالة من بعده، فالتعريف(4/1975)
هنا للكمال المطلق في الرسالة، وكان كمالها في عمومها، وفي كمال الشريعة التي جاءت بها، وصلاحيتها لكل الأزمان والأقطار والأمصار، ورسالتها فوق ذلك فيها الأحكام الخالدة من كل الرسالات السابقة، فمن آمن به فقد آمن بالرسالات كلها، ومن كفر برسول من السابقين، فقد كفر برسالته، فرسالته هي جماع الرسائل، وهي أوسطها وأشملها وأمثلها.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى فضل رسالته وكمالها وعمومها بثلاثة أمور:
أولها - في قوله تعالى (قَدْ جَاءَكُمُ) أي بعث هذا الرسول الأمين الكامل في معنى الرسالة وأدائها. قد جاءكم أيها الناس جميعا، فهي رسالة جاءت لصالحكم جميعا، أي لصالح البشرية كلها، لَا لجزء من أجزائها.
ثانيها - التعبير بقوله تعالى (بِالْحَقِّ) أي مقرونة بالحق مصاحبة له، متلبسة به، فهي حق ثابت مستقر موافق لفطرة البشر أجمعين، لَا يأتيه باطل قط، وما كان حقا ملائما لفطرة البشر لَا بد أن يكون عاما، شاملا لَا يختص بمكان، ولا بزمان، ولا بعصر من العصور.
ثالثها - قوله تعالى: (مِن رَبِّكُمْ) أي أن رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - جاءت من ربكم الذي خلقكم، وقام على أموركم الذي يعلم ما فيه نفعكم، وما فيه خيركم، ولا يرضى لعباده إلا النفع لعمومهم.
ولذلك كان الإيمان بهذه الرسالة والإذعان لها أمرا واجبا لمصلحة الناس أجمعين، فقال سبحانه:
(فَآمِنُوا خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، وتقدير الكلام: إذا كان ذلك الرسول هو الكامل في رسالته التي جاءت بالحق تلازمه ويلازمها، وفيها مصلحة لكم لأنها من عند ربكم، فآمنوا خيرا لكم، أي فأذعنوا للحق وصدقوه، واعملوا به خيرا لكم. وهنا أمران لفظيان فيهما توضيح المعنى وكشف لبعض أسرار البلاغة القرآنية.(4/1976)
أولهما - في قوله " فآمنوا " فلم يقل آمنوا به، بل أطلق الإيمان للإشارة إلى أن الإخلاص وحده، وهو الإذعان للحق، وعدم التمرد عليه لسبق الإلحاد والإنكار - هو الذي يفتح القلوب للحق، وتصديق ما أنزله الله تعالى على رسوله الأمين - صلى الله عليه وسلم -.
ثانيهما - قوله تعالى: (خَيْرًا لَّكُمْ) ونصبت كلمة " خيرا " وصفا لمحذوف تقديره آمنوا إيمانا هو خير لكم، أو مفعولا لمحذوف وتقديره آمنوا قاصدين خيرا لكم، ويصح أن تكون خبرا لكان المحذوفة في فعل شرط وجوابه، والمعنى إن تؤمنوا يكن خيرا لكم، وذلك مثل (كل امرئٍ مجزي بعمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر).
ومهما يكن فإن النص الكريم يبين أن الإيمان فيه الخير المطلق؛ لأنه الحق، ولأنه من عند رب العالمين.
هذا فضل الايمان وما فيه من خير، وأما الكفر، فإنه الضرر كله للعباد، ولا يرضى سبحانه وتعالى الكفر لأنه لَا يرضى ما يضرهم، وأما هو سبحانه فإنه لا يضره شيء من كفرهم لأنه المالك لكل شيء، مالك لكل السماوات من أفلاك ونجوم ومدارات، وما تحوي من كائنات، وما في الأرض مما هو على ظاهرها وما في باطنها، فهو المالك والسلطان القاهر، فلا يضيره كفر العباد، وإن كان لا يرضاه، ويرضى إيمانهم، وإن كان لَا ينفعه، وهذا تقريب لمعنى قوله تعالى: (وَإِن تَكْفُروا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) هذا ختام النص الكريم فيه وصف الله الدائم بالعلم المحيط الذي لَا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وبالحكمة وحسن التدبير والإبداع في ملكوت السماوات والأرض، إذ يسير الكون بنظام محكم التقدير والتدبير، وبنواميس وأسرار كونية لا يعلمها إلا العليم الخبير الذي خلق كل شيء فقدره وأحسن تقديره، وأنه كان من مقتضى علمه ألا يخفى ضلال الضالين، ولا هداية المهتدين، وكان من مقتضى حكمته، أن يجزي بالكفر عذابا، وبالإيمان نعيما، وأن يجعل من عباده الشكور المهتدي، ومنهم من ضل وغوى.
* * *(4/1977)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ... (171)
* * *
نهى في هذا النص الكريم عن الغلو في الدين، والغلو هو تجاوز الحد سلبا أو إيجابا، وقد تجاوز اليهود الحد في شأن عيسى - عليه السلام -، فأنكروا رسالته لعنة الله عليهم، واتهموا أمه البتول، وغالى فيه النصارى، حتى أخرجوهُ من مرتبة البشرية مع أن البشرية واضحة فيه، وفي ولادته، وفي حياته، وفي كونه لحما ودما يحيا ويموت، ويأكل ويشرب، كما يأكل سائر البشر، وإذا كان الغلو في شأن عيسى وقع من اليهود، ومن النصارى، فإنه يصح أن يكون الخطاب موجها إلى الفريقين، باعتبار أن الغلو وقع مستمرا، فيكون النهي عن الاستمرار، ولكن سياق القول يدل على أن أهل الكتاب المخاطبين في هذه الآية هم النصارى لأنه سبحانه وتعالى يقول: (إِنَّمَا الْمَسِيح عيسَى ابْن مَرْيمَ رسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا) إلى آخره، فالسياق في خطاب النصارى ومغالاة اليهود بشأن عيسى قد سبق بيانها آنفا.
ولقد أردف الله سبحانه النهي عن المغالاة بتجاوز الحق، وبالأمر بالحق، فقال تعالى: (وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ).
أي لَا تقولوا يا معشر النصارى على الله إلا الحق الثابت القائم على الدليل المقنع، لَا على الوهم البعيد، وفي هذا النص السامي إشارات إلى معان، فإن أقوالهم التي قالوها غير الحق هي افتراء وكذب على الله تعالى، وكذلك عدى القول فقال على الله؛ لأن القول يتضمن معنى الافتراء، وفوق ذلك إنها لَا تعتمد على الحق الثابت، وتناقض الدليل الواضح، والبرهان القاطع قائم في أن عيسى ولد، والإله لَا يولد، وعيسى كان يأكل ويشرب، والإله ليس كذلك، وقد زعموا أنهم قتلوه، والإله لَا يُقتل، وزعموا أنه قتل افتداء للخليقة عن عصيان آدم لله تعالى، وليس من المعقول في أي منطق أن يفتدي الله الخليقة عن عصيان أبيها بتمكينهم من قتل ابنه في زعمهم، فإن ذلك القتل جريمة أشد وأشنع، وإذا كانت الأولى تحتاج إلى فداء، فالثانية لَا يغني عنها فداء، ولكن هكذا سوغ الوهم لهم.(4/1978)
وإذا كان ما قالوا باطلا، لَا يمت إلى الحق بسبب، فالحق هو ما قرره الله تعالى في قوله تعالت كلماته.
(إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ منْهُ) صدر الكلام بأداة القصر، وهي " إنما " ومعنى القول ليس المسيح عيسى ابن مريم إلا رسول الله أرسله لهداية الحق، وهو قد نشأ بكلمته، ونفخ بروح منه في مريم، فكان من بعد بشرا سويا، وهو في إيجاده آية قدرة الله تعالى على الخلق من غير تقيد بالأسباب التي تجري بين الناس، فهو سبحانه خالق الأسباب والمسببات بديع السماوات والأرض وليس له ولد: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4).
ولا بد أن نتعرض بقليل من البيان لثلاث عبارات: الأولى - التعبير بـ (الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مرْيَمَ) والثانية (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) والثالثة (وَرُوح مِّنْهُ) فقد تعلقت الأوهام بالعبارتين الأخريين، فوجب بيانهما، مع أن في الأولى إزالة الأوهامهم.
أما العبارة الأولى، وهي (الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) فإن الله تعالى قد ذكر أنه المسيح، وأنه عيسى، وأنه ابن مريم، فأما الأول فهو الاسم الذي يذكر به في القرآن، وذكر بجواره عيسى للإشارة إلى أنه شخص ككل الشخوص فيه إشارة إلى بشريته، والتصريح بالبشرية في قوله تعالى " ابن مريم " فهو مولود خرج من رحم أنثى، كما يخرج الأولاد من أمهاتهم، وإذا كان لم يخرج من صلب أب، فإنه قد خرج من رحم أم، وحسبنا ذلك دليلا على البشرية المطلقة، وفي ذكر الأم من غير ذكر أب دليل على أنه لَا ينتسب إلى أب قط، فليس ابن يوسف النجار، وليس ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
والعبارة الثانية، وهي (كَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) فإن الكلمة هنا قد تكون مجملة، ولكنها ذكرت في آيات مبينة، ذكرت في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، فقد قال تعالى في شأن خلق عيسى عليه السلام: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ(4/1979)
مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21).
هذا ما جاء في سورة مريم، وقد جاء في سورة آل عمران: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47).
وقال في شأن خلق عيسى من غير أب: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ).
وبهذا يتبين أن الله سبحانه وتعالى خلقه بكلمة منه، وهو " كن "، كما خلق آدم، وكان عيسى بهذا كلمة الله لأنه خلقه بها، فقد خلق من غير بذر يبذر في رحم أمه، فما كان تكوينه نماء لبذر وجد، وللأسباب التي تجري بين الناس، بل كان السبب هو إرادة الله وحده، وكلمته " كن " وبذلك سُمِّيَ كلمة الله. وتعلق النصارى بأن كون عيسى كلمة الله دليل على ألوهيته، وما كانت الكلمة من الله إلهًا يعبد، فضلا عن أنه سمي بذلك؛ لأنه فعلا نشأ بكلمة، لَا بمنيِّ من الرجل يمنى، بل كلمته التكوين ألقاها (أي أوصلها) إلى مريم فكان التكوين لعيسى.
والعبارة الثالثة (وَرُوحٌ) وهذه أيضا من العبارات التي تعلقت بها أوهامهم، إذ قد فتحوا باب الوهم فيها حتى غشى عقولهم، فحجبها، فظنوا أن هذه الكلمة تدل على معنى الألوهية في عيسى.
وإن تتبع هذا اللفظ في القرآن يدل على أنه يراد به أحيانا الروح التي ينشئها الله تعالى في الأبدان، وينفخ بها فيها، وتكون بمعنى الملك جبريل عليه السلام، وتكون بمعنى رحمة، وليس في ذلك ما يدل على الربوبية أو الألوهية فيمن تقال فيه أو يسمى باسمه، وقد قيل المعنيان الأولان في شأن عيسى وشأن أمه، فقد قال(4/1980)
فى شأن أمه مريم البتول: (فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحنَا)، وهو جبريل - عليه السلام -، وقد ذكرنا من قبل قوله تعالى (. . . فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17).
وعلى ذلك يكون معنى قوله تعالى: (وَرُوح مِّنْهُ) أي أنه سبحانه أنشأه بروح مرسل منه، وهو " جبريل الأمين "، وقد يقال أنه نشأ بروح منه سبحانه، أي أنه أفاض بروحه في جسمه كما أفاض بها على كل إنسان، ولقد قال تعالى: (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9).
والأول أولى.
وعلى ذلك يكون معنى قوله (وَرُوحٌ منْهُ) أي أنه نشأ بنفخ الله تعالى الروح فيه من غير توسيط سلالة بشرية، ونطفة تتشكل إنسانا، وذلك بالملك الذي أرسله وهو جبريل وقد تمثل لها بشرا سويا.
ولكن قد يسأل سائل لماذا سماه الله تعالى روحا؟ ونقول في الإجابة عن ذلك أن عيسى سمي روحا باعتباره نشأ من الروح مباشرة، ولأنه غلبت عليه الروحانية، وإن كان بشرا كسائر البشر، يأكل ويشرب، ويمشي في الأسواق، ولهذا المعنى سمي روحا، و (مِن) هنا للابتداء أي أن الروح مرسل من عند الله تعالى، ونافخ بإذنه.
وبهذا الكلام يزول الوهم الذي سلطه الله على عقول الذين غالوا في المسيح - عليه السلام - غلوا بعيدا، فنحلوه ما ليس له. وما ليس من شأنه، وجعلوه إلها، وابن إله، ومنهم من جعل أمه مريم إلها، إلى آخر ما توهموا.
ولقد لج الوهم ببعضهم فظن أن في القرآن الكريم ما يدل على ما توهموا، فقد قالوا إن في القرآن ما يدل على أن عيسى - عليه السلام - مؤيد بروح القدس، فقد قال سبحانه: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ).(4/1981)
ونقول في إزالة هذا الوهم إن روح القدس الذي ذكر في القرآن عدة مرات في مقام التأييد لعيسى هو جبريل - عليه السلام -، وقد ذكر بالنسبة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد قال تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102).
وإذن لَا لبس ولا التباس، ويجب أن تفسر بذلك روح القدس التي جاءت في الأناجيل بالنسبة لعيسى، فقد جاء في إنجيل متى: " ولما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا، وجدت حبلى من الروح القدس " وبالتفسير المعقول المتفق مع نص القرآن يكون الحبل بنفخ من روح القدس جبريل، وقد جاء في الإنجيل ما يدل على أن روح القدس هو جبريل - عليه السلام -: " وهذا الرجل كان بارا تقيا ينتظر نفسه إسرائيل والروح القدس "، وجاء في الإصحاح الثاني من إنجيل متى آية 26 (وكان قد أوحى إليه بالروح القدس).
وإذا كان الحق في عيسى - عليه السلام - أنه رسول الله، وأنه تعالى خلقه من غير طريق الأسباب المعتادة، إذ خلقه بكلمة، وأنه روح جاءت من قبل الله إذ نفخ جبريل الروح في مريم فكان منها الحبل، وأنه غلبته روحانية، إذا كان كذلك، فيجب الإيمان بالحق، وإزالة الأوهام، وكذا قال سبحانه: (فآمِنوا بِاللَّهِ وَرسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ) أي إذا كانت تلك حقيقة المسيح، وليس بابن إله، فآمنوا بالله وحده لَا شريك له في العبادة، ولا في السلطان، وليس معه ثان ولا ثالث، وليس بوالد ولا ولد، وآمنوا بالرسالة الإلهية، وآمنوا بالرسل الذين سبقوا عيسى والرسول الذي جاء من بعده، ولا تكفروا بأحد منهم ولا تغالوا فتقولوا ثلاثة، ولذا قال سبحانه: (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ).
وعبر سبحانه وتعالى بقوله: (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) بدل قوله " ولا تؤمنن بثلاثة أو لَا تصدقوا بثلاثة، أو لَا تزعموا ثلاثة "؛ لأن أمر الثلاثة قول يقولونه، فإن سألتهم عن معناه قالوا مرة الأب والابن وروح القدس أي أنهم ثلاثة متفرقون،(4/1982)
ومرة يقولون ثلاثة أقانيم، والذات واحدة، فإن أردت تفسير المعنى الثالث، قالوا كلاما لَا يمكن أن تقبله العقول المستقيمة.
وإن الدارس لتاريخ النصرانية من غير تحيز لهذه الأوهام أو متحيز عليها يرى أنها في ابتدائها ديانة توحيد خالص، وأنه ما كانت ألوهية المسيح عندهم رائجة، ولا يعتنقها الأكثرون، بل كان الأكثرون على أن الله إله واحد ليس له ولد ولا والد، واستمر الحال كذلك إلى أن أراد قسطنطين أن يدخل في المسيحية، وقد كان وثنيا، ولكنه أراد أن يدخلها بعد أن يحرفها، فعقد مجمع (نيقية) سنة 325 ميلادية، وقد ادعى أن انعقاده للرد على أريوس الذي أنكر ألوهية المسيح، فكان المجتمعون أكثر من تسعمائة، وقد كانت الكثرة منكرة ألوهية المسيح، والذين قالوا ألوهية المسيح 318 فاكتفى بهم وأعلنوا الألوهية، وعلى رأسهم أسقف الإسكندرية، ودخل قسطنطين في المسيحية من بعد قرارهم، وقد استنكر أكثر المسيحيين ما قرره مجمع نيقية، ولذلك انعقد فوره مجمع (صور) ورفض دعوى ألوهية المسيح بالإجماع، ولكن استخدمت القوة والإرهاب لتشتيت المجتمعين، وأخذت القوة تعلن الألوهية، وتخفي الوحدانية.
ولم يكن إلى ذلك الوقت أحد يقول إن روح القدس إله، حتى دعا أسقف الإسكندرية إلى عقد المجتمع القسطنطيني الأول سنة 381، فقرر ألوهية روح القدس.
وبذلك قالوا ثلاثة، وبتوالي العصور، وإخفات صوت المخالفين، وتقرير التثليث وتثبيته سيطرت الأوهام، واستقر الأمر على ثلاثة.
وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن أن يقولوا ثلاثة، وأكد سبحانه وتعالى النهي بقوله: (انتَهُوا خَيْرًا لَّكمْ) وفي التعبير بـ " انتهوا " دليل على أنهم لم يعتنقوا ما يدعون اعتقادا جازما، بل إنهم إن فكروا غيروا، فكان الأمر بالانتهاء، وقال انتهوا خيرا لكم، أي انتهوا يكن الانتهاء خيرا لكم؛ لأنكم تخرجون من حيرة الأوهام إلى تفكير العقول، وتدركون الحق، وتذعنون له، وتكونون مؤمنين(4/1983)
بالمسيح حقا وصدقا، والاطمئنان إلى حكم العقل خير من حيرة الوهم والشك، وفى انتهائهم رضا الله والجزاء في الآخرة.
(لَّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكفَى بِاللَّهِ وَكيلًا) أي أن المعبود بحق ليس إلا واحدا، وهو الله تعالى ذو الجلال والإكرام، ووحدانيته تكون في الذات والصفات والعبودية، فليست ذاته الكريمة كذات المخلوقات، وهو وحده سبحانه الجدير بالعبودية والألوهية فلا معبود سواه، وهو وحده الخالق للكون، وقد تنزه سبحانه عن أن يكون له ولد، لأن هذه صفات المخلوقين، وذاته تعالى واحدة ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، لأن كون أحد ولده يقضي الاتصال بالمخلوقين ويكون مثلهم، وهو الخالق لهم ولكل شيء، فكيف يكون المخلوق ولدا. وكيف يكون البشر متولدا من الله تعالى الخالق له المنشئ المكون المربي، ولذا قال سبحانه وتعالى:
(لَّه مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكفَى بِاللَّهِ وَكيلًا) كل ما في السماوات من بروج ونجوم وكواكب، وما في الأرض من أحياء على ظهرها، ومعادن وفلزات وكنوز في باطنها، وما في البحار من أحياء، ومن جواهر ولآلئ، هو ملك لله تعالى، فعيسى ابن مريم وأمه وغيرهما مملوكان لله تعالى: (إِنْ كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا). والله سبحانه هو المدبر للكون الذي وكل إليه أمره، ولذا قال سبحانه وتعالى: (وَكفَى بِاللَّهِ وَكيلًا) أي أن الله تعالى هو الذي قد وكل إليه أمر الكون، وتدبيره ظاهره وباطنه، وما ظهر منه للناس، وما خفي عليهم، وكفى بالله وكيلا ليستقيم الأمر فيه، وليسير على سنن مستقيم لَا اضطراب فيه ولا اختلاف. اللهم أنت بديع السماوات والأرض لا نؤمن إلا بك، ولا نعبد إلا إياك، ولا نرجو الخير إلا منك، اللهم إنك أنت مانح النعم ومجريها، ولا يرجى سواك.
* * *(4/1984)
(لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة مغالاة النصارى في تقدير السيد المسيح - عليه السلام -، وأنهم رفعوه إلى مرتبة الألوهية، وقالوا بألسنتهم إن الله ثالث ثلاثة من غير أن يحددوا معنى الألوهية في الاثنين اللذين زادوهما في أقوالهم، ومن غير أن يميزوا علاقة الثلاثة بعضهم ببعض، إلا أن يقولوا المسيح ابن الله، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، ودفعهم إلى ما يقولون أن عيسى ولد من غير أب، وأنه كان إنسانا روحانيا، فزعموا أنه ليس كغيره من رسل الله تعالى، واستنكفوا أن تكون علاقته بالله تعالى (الخالق لكل شيء) كعلاقة سائر العباد من حيث إنه مخلوق لرب العالمين، وفي هذه الآية يبين سبحانه أن علاقة المسيح - عليه السلام - بربه علاقة عبد بخالقه، وأنه لن يترفع عن هذه العلاقة، ولذا قال سبحانه.(4/1985)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
(لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبدًا لِّلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) ومعنى النص الكريم: لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولن ينزل من مرتبته أن يكون من عبيد الله تعالى، فإن ذلك وضع للأمور في مواضعها، إذ هو مخلوق لله تعالى.
روى أن وفد نجران قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم تعيب صاحبنا؟ فقال عليه السلام: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى (عليه السلام) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وأي شيء أقول؟(4/1985)
قالوا تقول إنه عبد الله ورسوله فقال لأمير القوم " إنه ليس بعار أن يكون عبدا لله، قالوا: بلى " (1).
وهنا بحثان لفظيان نريد أن نلم بهما بعض الإلمام.
أولهما - التعبير بـ " لن " فإن هذا التعبير النافي فيه تأكيد للنفي، وفيه بيان استمراره وفيه فوق ذلك إشارة إلى أن المنفي هو الأمر الذي لَا يتصور العقل غيره، فلا يتصور العقل أن يترفع المسيح عن أن يكون عبدا لله، لأنه هو الذي خلقه، وهو الذي سواه، وهو الذي جعل له كل الصفات التي امتاز بها على غيره من الناس في عهده، إن الكمال للإنسان في أن يحس بعبوديته لله تعالى وحده، فذلك ليس عارا كما ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم -، لأن شكر المنعم هو كمال الإنسان، والمنعم بنعمة الوجود، ومجري النعم هو الله سبحانه وتعالى، فالعبودية له سبحانه شكر وهي كمال الصلة بين الله تعالى وخلقه.
وثانيهما - أصل معنى يستنكف، أنها في مغزاها لن يأنف أو يترفع، ولكن في أصل اللغة لها أصول ثلاثة.
أولها - أنها مشتقة من التنزيه، فالفعل الثلاثى لها (نكف)، دخله السين والتاء فيقال نكفت من الشيء واستنكفت منه، وأنكفته أي نزهته عما يستنكف منه، وروى في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن معنى سبحان الله فقال - عليه السلام - " إنكاف الله عن كل سوء " (2) بمعنى تنزيهه عن كل سوء، ويكون معنى " لن يستنكف ": لن يتنزه عن أن يكون عبدا لله، فالعبودية ليس للبشر أن يتنزهوا عنها، بل عليهم أن يخضعوا لها.
ثانيها - أنها مأخوذة من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك عن خدك سترا
________
(1) ذكره هكذا بلفظ " روى ": الزمخشري، والنسفي، والرازي، والآلوسي، والبيضاوي، سببا لنزول الآية الكريمة.
(2) النهاية في غريب الحديث (نكف).(4/1986)
لمظهر البكاء، ومنه الحديث: " ما ينكف العرق عن جبينه " (1) أي ما ينقطع، ومنه الحديث: " جاء بجيش لَا ينكف آخره " (2). ومعنى (لن يستنكف) أي لن ينقطع أن يكون المسيح عبدا لله. وقد اختار ذلك الزجاج، وارتضاه الزمخشري في الكشاف.
تالثها - أنها مأخوذة من النكف وهو العيب، ويكون المعنى " لن يعاب المسيح أن يكون عبدا لله " وكلها معان متلاقية.
وعطف سبحانه على المسيح - عليه السلام - الملائكة فقال: (وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) أي لَا يستنكف المسيح عن أن يكون عبدا لله، ولا يستنكف أيضا الملائكة المقربون إليه سبحانه كجبريل وإسرافيل وميكائيل، وحملة العرش فإن هؤلاء على روحانياتهم الكاملة، ومع أن الله تعالى خلقهم من غير أب ولا أم لا يترفعون، أن يكونوا عبيدا لله تعالى؛ لأن الله تعالى خلقهم وهم المدركون لجلاله وكماله: (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6).
ولقد أخذ الزمخشري من هذا النص أن الملائكة المقربين أعلى درجة من الأنبياء وقال في ذلك: ولا من هو أعلى قدرا وأعظم خطرا وهم الكروبيون الذين حول العرش كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم، فإن قلت من أين دل قوله تعالى (وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) على أن المعنى ولا من فوقه، قلت من حيث إن علم المعاني لَا يقتضي غير ذلك، وذلك أن الكلام سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم لن يترفع المسيح عن العبودية، ولا من هو أرفع منه درجة، كأنه قيل لن يستنكف الملائكة المقربون من العبودية فكيف بالمسيح! ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين لكونهم أرفع الملائكة درجة وأعلاهم منزلة، ومثاله قول القائل:
وما مثله ممن يجاود حاتم ... ولا البحر ذو الأمواج يلتج ذاخره
_________
(1) السابق.
(2) السابق.(4/1987)
ولا شبهة في أن مقصده بالبحر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود، ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية قوله تعالى: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى)، حتى يعترف بالفرق المبين.
وينتهي من هذا إلى أن الملائكة المقربين أفضل من عيسى - عليه السلام -، وعيسى من أولي العزم من الرسل، فالملائكة أفضل من النبيين.
وقد خالفه في ذلك كثير من العلماء، وردوا عليه بردود لَا تسقط مقدمة الدليل وهو كون النص يفيد الترقي من المفضول إلى الأفضل، فالمسيح مفضول، والملائكة المقربون أفضل، ولكنها تبطل النتيجة في ذاتها، وهي كون الملائكة أفضل؛ ذلك لأن الحديث في الملائكة المقربين، فكيف تكون النتيجة أوسع وتعم الملائكة أجمعين، المقربين ومن دونهم؟.
وعندي أن الترقي قائم، ولكن في المعنى الذي سيق له الكلام، ذلك أن النصارى غلوا غلوا كبيرا في المسيح؛ لأنه ولد من غير أب، ولأنه جرت على يديه معجزات كثيرة، ولأنه روحاني المعاني، فبين الله سبحانه وتعالى أنه مع كل هذا لن يستنكف أن يكون عبدا لله، ولا يستنكف من هو أعلى منه في هذه المعاني وهم الملائكة الذين خلقوا من غير أب ولا أم، وأجرى على أيديهم ما هو أشد وأعظم من معجزات، ومنهم من كان الروح الذي نفخ في مريم، وهم أرواح طاهرة مطهرة، فكان الترقي في هذه المعاني، وهم فيها يفضُلون عيسى وغيره، وبذلك تكون الآيات بعيدة عن الأفضلية المطلقة، فلا تدل على أفضلية الملائكة على الرسل في المنزلة عند الله تعالى ورضوانه، وتكون الآية بعيدة عن موطن الخلاف، والترقي دائما يكون في المعاني التي سيق لها الكلام دون غيرها، وليس المتأخر أعلى في ذاته صن لمتقدم وأفضل، ولكنه أعلى في الفعل الذي كان فيه كقول القائل لَا تضرب حرا ولا عبدا، فالتدرج هنا في النهي عن الضرب، لأنه إذا كان ضرب العبد غير جائز فإن ضرب الحر من باب أولى غير جائز.
* * *(4/1988)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
* * *
بين سبحانه وتعالى في الآيات السابقة جحود المشركين وأهل الكتاب للرسالة المحمدية، وبين بطلان قولهم، والإفك فيما يزعمون من تدين، وأن المسيح - عليه السلام - كان موضع المغالاة، فاليهود غالوا في إنكار رسالته، وزعموا أنهم قتلوه وما قتلوه وما صلبوه، وما مكنهم الله تعالى من أن يقتلوه، كما قتلوا نبيين من قبله، وغالى فيه النصارى فادعوا له الألوهية، بعد أن بين سبحانه وتعالى ذلك أخذ يبين المنهاج المستقيم، والدين الحق الذي لَا يأتيه الباطل، وليس فيه غلو في أمر من الأمور، بل فيه النور والحجة والبرهان، ولذا قال تعالى:(4/1989)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ من رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) الخطاب عام لأهل العقول من الناس أجمعين كافرهم وملحدهم، ومشركهم ويهودهم ونصاراهم والمؤمنين بالله ورسله، وما أنزل على رسوله الأمين محمد - صلى الله عليه وسلم -. والبرهان الذي جاء رب العالمين الناس به هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل إنه القرآن، وقيل إنه القرآن والنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذكر الزمخشري الأقوال الثلاثة على أنها محتملة، ويصح أن يكون آخرها أجمعها وهو أولى بالاعتبار لهذا، وتوجيه القول على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو البرهان، أن شخصه الكريم من يوم مولده إلى أن قبضه الله تعالى إليه برهان صدق الرسالة التي كان يدعو إليها، ويهدي الناس بها، ذلك أنه نشأ يتيما من أبيه وأمه ومع ذلك لم يتدلَّ إلى ما يتدلى إليه اليتامى، فلم يقع منه(4/1989)
ما يتهافت فيه الذين حرموا عطف الأب وحنان الأم، ولم يتجه إلى ما يتجه إليه الغلمان في حياته الأولى، بل كان الجد يغلبه، حتى لقد قال فيه جده وهو لم يبلغ الثامنة من عمره: (إن ولدي هذا سيكون له شأن)، لما رآه من مخايل الذكاء والجد، والعزوف صغيرا عن المعابث، ولما بلغ سن الشباب بدا فيه الكمال وظهر واضحا في كل حياته، فلم يكذب قط، ولم يخن قط، ولم يقع منه ما يقع من الشباب من مجون، ولم يشرب خمرا أبدا مع شيوعها في الجاهلية، والتفاخر بها، ولم يلعب الميسر مع الانغمار فيه، ولم يرتكب ما يخل بالمروءة، ولم يسجد لصنم، بل تاجر، ولم يكن إلا أمينا في تجارته كما كان أمينا في عامة شئونه، حتى لقد لقب في العرب بلقب الأمين، فكان إذا ذكر هذا اللفظ لَا يطلق إلا إليه، كما يحمل الكَلَّ، ويحمي الضعيف، ويعين على نوائب الدهر، كما وصفته زوجه أم المؤمنين خديجة، ولما بعثه الله تعالى رحمة للعالمين، كان أوضح ما يوصف به الخلق العظيم، والعطف الكريم، والجزم في الدعوة إلى الحق من غير وناء، ولا كسل، إذا سالم كان الوفى في عهده، وإذا حارب كان العدل في حربه، وإذا خاصم كان الشريف في خصومته، وإذا تكلم كان العف في قوله، وإذا عامل كان السمح في معاملته، وإذا خطب كان كلامه فصل الخطاب، أوتي جوامع الكلم، كلامه حكم، وعمله سلم، وشرعه صلاح للناس في الدنيا والآخرة.
وإذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - له ذلك السمو، فشخصه برهان الصدق، ودليل الحق، وكثيرا ما كان يراه الرائي، فيسمع قوله، فيحكم بصدقه من غير أن يطلب دليلا من غير شخصه الكريم. رآه أعرابي فاسترعاه منظره الكريم، فقال: مَن أنت؟. قال الرسول الكريم: أنا محمد. فقال الأعرابي الذي يتكلم بما يسمع: " أنت الذي تقول فيك قريش أنك كذاب، لَا، ليس هذا الوجه وجه كذاب " (1).
ثم آمن به بعد أن علم ما يدعو إليه.
________
(1) نقل الآلوسي هذه الرواية عن الفتوحات المكية باب (172، 277). روي نحو هذا عن عبد الله بن سلام في مصنف ابن أبي شيبة، ومسند الشهاب للقضاعي.(4/1990)
هذا تخريج قول الذين قالوا إن البرهان هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم كثيرون من التابعين.
وأما قول الذين قالوا إن البرهان هو القرآن الكريم، فهو واضح لأن القرآن هو معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم - الدالة على صدق رسالته، ولكن الذي يقتضي توضيحه هو قوله تعالى بعد ذلك:
(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا) فإنه واضح أن المراد منها القرآن، لأنه المنزل من رب العالمين، وهو النور الواضح الهادي إلى الرشاد، ويجاب عن ذلك بأن القرآن الكريم فيه المزايا الثلاث، فهو الحجة القائمة، والمعجزة الدائمة، وهو تنزيل من رب العالمين، وهو نور يهدي للتي هي أقوم، وإن النور المبين في القرآن، ما اشتمل عليه من أحكام شرعية خالدة تنير السبيل وتوضحه لمن يسلك سبيل المؤمنين، فهي نافعة في الدين مبينة الحق، ومن اتبع أحكام القرآن هدى، ومن خالفها هوى.
وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا). أنزلنا إليكم مواعظ وقصصا وأحكاما شرعية هي كالنور في هدايته وإرشاده وبيانه للأشياء فهي مبينة للطريق المستقيم، والنهج القويم، والحق الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه.
ولا يتغير المعنى اذا قلنا إن البرهان هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه حينئذٍ يفسر قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا). بأنه القرآن، والمعنى والمؤدى فيهما، لا يختلف.
وهنا مباحث لفظية لَا بد من الإشارة إليها بعبارات موجزة موضحة.
أولها - التعبير بقوله تعالى: (مِّن رَّبِّكُمْ). في قوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ) فيه تقوية لمعنى البرهان، لأن ذلك الدليل إذا كان قد جاء من عند علام الغيوب الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما، لابد أن يكون برهانا صادقا مقنعا لطالب الحق، مفحما لأهل الباطل الجاحدين، وقد زكى معنى التأكيد التعبير(4/1991)
بـ قد وبالمجيء في قوله تعالى (قَدْ جَاءَكم) أي أنه أتاكم كالأمر المحسوس المؤكد الذي يرى ويحس، فهو قائم بين أيديكم وحجة عليكم.
ثانيها - إسناد الإنزال إلى الذات العلية ذات الجلال والإكرام في قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ) فأسند إليه تعالى للإشارة إلى أنه تعالى المرجع وكما أن المآب إليه.
ثالثها - وصف الشرائع والقصص والمواعظ التي نزل بها القرآن بأنها نور مبين واضح، أي أنه لَا يخفى إلا على من أنفت حواسه، وفسدت مشاعره، وأصيب بعمى البصيرة، وكان عليه غشاوة، لَا يرى معها النور الواضح المبين.
وإن الناس الذين خوطبوا بذلك الخطاب الإلهي قسمان، فريق آمن واهتدى، وانتفع بالنور الذي جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - به، وفريق ضل وغوى، ولم ينتفع بالنور الذي حمل مصباحه المزهر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقد بين سبحانه وتعالى الفريق الذي اهتدى فقال تعالت كلماته:
* * *(4/1992)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ ... (175)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى وصفين للذين اهتدوا وزادهم هدى. أول هذين الوصفين أنهم آمنوا بالله تعالى، وثاني هذين الوصفين أنهم اعتصموا به، فلا يلجأون إلا إليه، ولنتكلم في كل من هذين الوصفين، ومقامهما من اتباع الحق، والاهتداء بهديه.
أما الإيمان بالله فمعناه الإيمان بعظمته وجلاله، والإحساس بأنه فوق كل شيء، وهو القاهر فوق عباده والإذعان له، والمحبة لذاته الكريمة واجبة على الإنسان، وأن يذكره دائما كأنه يراه، كما في الحديث، " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك " (1)، والإيمان بالله تعالى يقتضي اعتقاد الوحدانية، وأنه لا منشئ للكون سواه، ولا يعبد بحق غيره، ويقتضي أن يحب الوجود؛ لأن الله تعالى خالق الوجود، ويقتضي ألا يحب شيئا إلا ابتغاء مرضاة الله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
________
(1) سبق تخريجه.(4/1992)
" لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا الله " (1) فالإيمان بالله تعالى يقتضي الإخلاص المطلق لذاته العلية، وإذا وجد ذلك الإخلاص اتجه اتجاها مستقيما، وإذا اتجه ذلك الاتجاه أشرق عليه بنور الحكمة، وطلب الحق لذات الحق، وتجرد من تدرن النفس بالهوى، والشهوة، وبذلك يكون للحق، ولا يكون منه إلا الحق، لأنه أخلص للحق جل جلاله.
وأما الاعتصام بالله تعالى، فإن معناه ألا يجد لنفسه عاصما من الناس إلا هو، ولا ملجأ يلجأ إليه الا هو، ولا معاذ له إلا رب العالمين، وبهذا يعلو عن طاعة المستكبرين، وبتجافى عن الخضوع لذوي السلطان إلا بالحق، فلا يذل ولا يخضع، ولا يجبن، ولا ينافق، ولا يكذب، ولا يكون فيه إلا السلوك الفاضل، ولا يكون إلا المجتمع الفاضل المؤمن بالله، وبالحق لَا يخشى في الله لومة لائم، ولا يدهن في كلامه، ولا أفعاله، ولا يخاف إلا الله تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد، الذي يخضع لكل شيء، تبارك وتعالى بيده الملك وهو على كل شيء قدير.
ولقد ذكر سبحانه وتعالى جزاء هؤلاء، فقال تعالت كلماته:
(فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ منْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) هذا جزاء الذين آمنوا بالله واعتصموا به، وهو جزاء مكون من ثلاثة أجزاء: رحمة وفضل، وهداية إلى الطريق المستقيم الذي لَا عوج فيه ولا أمت.
ولكن ما هي الرحمة؟ وما هو الفضل، وما هي الهداية؟ ثم أهذا الجزاء في الدنيا أم هو في الآخرة؟ أم هو فيهما معا؟ لم يبين النص الكريم مكان ذلك الجزاء المؤكد، وعندي أن هذا الجزاء في الدنيا والآخرة.
وعلى هذا يكون معنى الرحمة في الدنيا أن يكونوا في سعادة واطمئنان وهدوء بال، لأنهم فوضوا أمورهم للعلي الأعلى الذي ليس كمثله شيء، وهو العلي الحكيم، وركنوا أنفسهم إلى الملجأ الأعصم، والركن الأمكن، فاطمأنوا
________
(1) سبق تخريج ما في معناه.(4/1993)
بالله تعالى، وبذكره، وبامتلاء قلوبهم به، كما قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، ولا شك أن شقاء الناس في الدنيا سببه انحرافهم عن الجادة وانشغالهم بامور توجد بلبالا مستمرا، واضطرابا دائما، من خصومات، وأحقاد، وحسد، ولجاجات، ومن شأن المؤمن أن يعلو عن سفساف هذه الأمور، فيكون في راحة واطمئنان بال، وكل آفة بالجسم تهون بجوار الاطمئنان بالله، وكل نعيم مادي دنيوي يذهب به القلق وعدم الاطمئنان.
هذه رحمة الدنيا، أما رحمة الآخرة، فهي النعيم المقيم، وجنات عدن خالدين فيها أبدا.
هذه الرحمة بنوعيها، ومعانيها، أما الفضل، فأصل معناه الزيادة، وهو يطلق على الزيادة في الإحسان، والزيادة في العطاء، والزيادة في المنزلة.
والفضل في الدنيا هو علو المنزلة والسلطان العادل والتمكين لهم إذا كانوا على جادة الايمان لم يجانبوها، كما قال تعالت كلماته: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5).
يؤمنون بالله تعالى ويعتصمون به، وينصرونه وينصرهم، ويمكن لهم في الأرض، ويمن عليهم بالعزة، وإذا وجدت الذين يحملون شعار أهل الايمان في ذلة ومغلوبين على أمرهم بعد أن قامت دولة الحق، فاعلم أن ذلك لأنهم جانبوا طريق الإيمان، وضعف إيمانهم بالله، والأخذ بأوامره. (الَّذِينَ آمَنوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
هذا هو الفضل في الدنيا، وأما الفضل في الآخرة، فهو رضوان الله تعالى، والرفعة في الدرجات، والقرب منه سبحانه، وذلك هو الفضل العظيم.
والجزء الثالث هو الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو في الدنيا السبيل إلى الآخرة؛ وذلك لأن الإيمان بالله تعالى حق الإيمان يضيء في القلب، فيعرفه السبيل القويم، الذي يوصل إليه تعالى، فمن آمن بالله فقد اهتدى إليه، ومن(4/1994)
اعتصم به وبأوامره واجتنب نواهيه، فقد سلك طريقه، ومن سلك طريق الحق في الدنيا، كان في الآخرة أهدى، ومن ضل طريق الحق في الدنيا وغوى، فهو في الآخرة في الهاوية.
وفى الآية بعض مباحث لفظية تؤدى إلى توضيح معاني النص الكريم.
أولها - أن السين في قوله تعالى: (فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ منْهُ) للتأكيد، والسين وسوف في القرآن يدلان على توكيد الوقوع في المستقبل.
ثانيها - الضمير في قوله تعالى: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ)، يعود على لفظ الجلالة، ذلك أن الهداية إلى الله تعالى هي ثمرة الإيمان به، وطريق النجاة، وبها يهتدي المؤمنون إلى أقوم سبيل، وصراط الله تعالى طريقه الذي يوصل إلى الغاية.
ثالثها - إعراب " صراطا مستقيما " لقد قال بعض العلماء إنها مفعول ثان لـ يهدي، وآخرون قالوا إنها مفعول لفعل محذوف، وتقدير الكلام هكذا (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ) ويعرفهم طريقا يوصل إلى أعلى الغايات، وكان قوله تعالى: (ويَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) اشتمل على جزءين ساميين - أولهما - الهداية إلى الله وهو نعمة في ذاته، لأنه معرفة الله تعالى حق معرفته.
وثانيهما - معرفة الطريق المستقيم الذي يوصل إلى الحق، وتلك نعمة أخرى تفضل بها مانح النعم ومجريها رب العالمين.
* * *(4/1995)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
* * *(4/1995)
ابتدأت سورة النساء ببيان أحكام للأسرة، وختمت كما بدأت ببيان أحكام للأسرة، بدئت ببيان أحكام الزواج، وإباحة تعدد الزوجات في الحدود التي رسمها الله تعالى لعباده ثم فصل القول في المواريث ثم فصل القول فيمن يصح الزواج منهن، ثم كان من بعد ذلك الكلام في علاقات آحاد الأمة، ثم في علاقات الناس بعضهم على بعض، وكأنما كان الانتقال من الأسرة التي هي النواة الأولى للبناء الاجتماعي إلى المجتمع الصغير في حقوق الجوار وما يتصل به، ثم إلى المجتمع الكبير في الأمة وعلاج الآفات الاجتماعية فيه، وعلى رأسها النفاق والمنافقون.
ثم انتقلت إلى علاج العلاقات الإنسانية العامة، وضرورة الحرب إن اعتدت الرذيلة على الفضيلة؛ لأن فضيلة الإسلام إيجابية عاملة لَا سلبية خاملة، وتكلمت عن فساد الأمم والجماعات، وسببه التعصب للباطل، وسيطرة الأوهام والغلو في الأحكام مبينة قصة الذين اجترءوا على الحق وأصله وأهله من اليهود، والذين غلوا غلوا خرج بهم عن كل معقول ومقبول، وهم النصارى الذين غلوا في دينهم، ورفعوا المسيح إلى مرتبة الألوهية، وزعمهم أنه ابن الله.
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ). وكان ختام السورة ببعض أحكام الميراث تذكيرا بأمرين:
أولهما - أن الأسرة هي الخلية الأولى التي يتربى فيها النزع الاجتماعي بكل ضروبه، وكل شعبه وأنه لَا يوجد مجتمع صالح إلا بأسر صالحة، وفساد الأسرة فيه فساد المجتمع.
ثانيهما - أن أحكام الأسرة مستمدة من الله تعالى من غير توسط أحد كبيرا كان أو صغيرا، وأن مخالفة أحكام الله تعالى ضلال ليس بعده ضلال، ولذا أختمت السورة بأن بيان الله تعالى لمنع الضلال، كما سنتلو من الآية الكريمة إن شاء الله تعالى.
(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) رويت روايات كثيرة في الاستفتاء الذي وقع من الصحابة، رضي الله عنهم، ويظهر أن السؤال في ميراث الإخوة(4/1996)
والإخوات قد كثر، ولذلك تعددت الروايات، وتعدد أشخاص المستفتين. وأوضح الروايات ما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة وأحمد عن جابر بن عبد الله قال: " دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا مريض لَا أعقل، فتوضأ ثم صب عليَّ، فقلت: إنه لَا يرثني إلا كلالة فنزلت آية الفرائض " (1) وقد فصل القول النسائي والبيهقي في سننهما فقد ذكرا عن جابر قال اشتكيت فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - عليَّ فقلت: يا رسول الله أوصي لأخواتي بالثلث؟ قال: " أحسن ". قلت: بالشطر؟ قال: " أحسن ". ثم خرج ودخل عليَّ فقال: " لا أراك تموت في مرضك هذا، إن الله أنزل وبين ما لأخواتك، وهو الثلثان " (2)، فكان جابر يقول: " نزلت هذه الآية: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة) فيَّ ". وتسمى هذه الآية آية الصَّيف؛ لأنها نزلت في الصيف، وسماها النبي - صلى الله عليه وسلم - آية الصيف، ولقد قال عمر رضي الله عنه: " إني والله لَا أدع شيئا أهم إليَّ من أمر الكلالة، وقد سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بأصبعه في جنبي أو في صدري، ثم قال: " يا عمر، ألا تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء " (3).
والاستفتاء طلب الفتيا، أو الإفتاء، والإفتاء الإجابة السريعة التي تكون جديدة بالنسبة للسائل الطالب لها، وأصل الفتيا من الفتاء والفتى والفتاة الطرى الشباب المقبل على الجديد فيها، وأطلق على العبد فتى، وعلى الأمة فتاة لسرعة استجابتها لحاجة مولاها.
والكلالة كما جاء في مفردات الراغب الأصفهاني وغيره من المعاجم وكتب التفسير والفقه اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة. . وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل
________
(1) متفق عليه، رواه البخاري: المرضى وضوء العائد للمريض (5676) وأطرافه سبعة كلها بلفظ مقارب، ومسلم: الفرائض (1616) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(2) رواه أبو داود: الفرائض - من كان له ولد وليس له أخوات (2887)، وأحمد: باقي مسند المكثرين (13886).
(3) جزء من حديث رواه مسلم: المساجد ومواضع الصلاة.(4/1997)
عنها فقال: " من مات وليس له ولد ولا والد " (1) فجعلها عليه الصلاة والسلام اسما للمتوفى الذي يرثه غير ولده ووالده، وهي تطلق بهذا المعنى، وتطلق على الوارث غير الوالد والولد، وقد ورد اسم الكلالة في الميراث مرتين في لسورة النساء، أولاهما - في آيات المواريث، وهي قوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ).
وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الكلالة هنالك بأولاد الأم، وانعقد الإجماع على ذلك، وأما الكلالة هنا ففسرت بأولاد الأب الأشقاء أو لأب أي العصبات وانعقد الإجماع على أن الميراث يكون للأشقاء، فإن لم يكن أشقاء فإنه يكون للإخوة لأب، على ذلك انعقد إجماع المسلمين ترجيحا لقوة قرابة الأبوين على الأب الواحد.
وقد بين الله ميراث الكلالة من العصبة بقوله تعالى:
(إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ) الأخت هنا هي الأخت الشقيقة أو الأخت لأب، فإنها ترث النصف إذا لم يكن للمتوفى ولد، والولد يشمل الذكر والأنثى، فالأخت الشقيقة أو لأب لا تأخذ النصف إذا كان ثمة ولد ذكر أو أنثى، وكذلك الأخت لأب، وإن كانوا عند عدم وجود الولد الذكر أو الأنثى إخوة ذكورا وإناثا، فإن الميراث يقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كانت عدة من الأخوات الشقيقات أو لأب إذا لم يكن أشقاء فإنهن يأخذن الثلثين، لقوله تعالى:
________
(1) عن أبي بكْرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: " مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلاً وَالِدٌ فَوَرَثَتُهُ كَلالَةٌ " فَضَجَّ مِنْهُ عَليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلى قَوْلِهِ. (عبد بن حميد). جامع الأحاديث (ج 12، ص 192). وفي كنز العمال (ج 1، ص 302) من مسند أبي بكر الصديق: إذا مات الرجل وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة.(4/1998)
(فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) قد أشرنا إلى تقسيم الميراث اذا كان مع الأخوات الشقيقات أو لأب إذا لم يكن أشقاء أخ شقيق أو لأب، وأما اذا تعددت الأخوات من غير أخ يكن عصبة ويقاسمهن للذكر مثل حظ الأنثيين، فإنهن يأخذن الثلثين، لَا يزدن عليه مهما يكن عددهن.
وقد يقال إن النص الكريم جاء في حال ما إذا كانتا اثنتين، ولم يبين حال الأكثر من ثنتين، ونقول أن ذلك فهم من دلالة النص أو قياس الأولى في ميراث البنتين، فإنه جاء النص في ميراث البنتين في قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ).
فذكر في هذا النص السامي أنهن إن كن فوق اثنتين يأخذن الثلثين، وهن أقرب إلى المتوفى من الأخوات فبالأولى الأخوات إذا كن أكثر من اثنتين لَا يأخذن أكثر من الثلثين؛ لأنهن لسن أقوى قرابة من البنات، فحذف من هنا ما بانَ بالمفهوم من الآيات الأولى، وكذلك حذف من الآية الأولى ما يفهم بدلالة النص من هذه الآية، فإن آية البنات قد نص فيها على ميراث الأكثر من ثلثين ولم ينص فيها على ميراث الثنين؛ وذلك لأنه إذا كان الاخوات اثنتين أخذن الثلثين، فبالأولى البنات لأنهن أقرب من الأخوات نزلت في آية الأخوات ما يفهم من آية البنات، وترك من آية البنات ما يفهم من آية الأخوات وذلك من الإعجاز.
وقد بين النص القرآني حال ميراث الإخوة والأخوات الشقيقات أو لأب إذا لم يكن لهن ولد ذكرا كان أو أنثى، ولم يبين حال ما إذا كان ثمة ولد، فبقي على الأصل وهو لَا يستحق شيئا في حال ما إذا كان الولد ذكرا؛ لأنه لم يرد أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يورث الإخوة أو الأخوات عند وجود الولد الذكر، وفوق ذلك فإن(4/1999)
الولد الذكر يكون عصبة بنفسه، وهو أقرب رجل ذكر، فيكون مقدما على غيره بمقتضى النص النبوي، أما إذا كان الولد أنثى، فقد ورد الأثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه ورَّث البنتين الثلثين وأعطى الأخ الباقي (1)، وروى ابن مسعود أنه أفتى في مسألة كان فيها بنت وبنت ابن، وأخت فأعطى البنت النصف وبنت الابن السدس تكملة للثلثين، وأعطى الأخت الباقي تعصيبا، وذكر أن ذلك قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان أبو موسى الأشعري قد رد على البنت وبنت الابن، فلما ذكر ابن مسعود له عدل عن رأيه، وقال: لَا تسألوني وهذا الحبر بينكم " (2) وروى أن ابن عباس - رضي الله عنهما - يرى أن تعطى البنت وبنت الابن نصيبهما، ثم يرد الباقي عليهما بنسبة نصيبهما.
والشيعة لَا يورثون الإخوة والأخوات مطلقا عند وجود الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا، لعموم النص القرآني الذي يثبت أن ميراث الإخوة والأخوات هو بمقتضى الكلالة، والكلالة تقضي ألا يكون هناك والد ولا ولد، فإذا كان هناك ولد كانت الحال كما لو كان هناك والد، والإخوة والأخوات لَا يرثون عند وجود الوالد، فكذلك لَا يرثون مطلقا عند وجود الولد. ولم يصح عندهم حديث ابن مسعود، وإذا فرض وكان رواته ثقات فإنهم لَا يعارضون النص القرآني الذي اشترط ألا يكون ولد، واشترط ثانيا أن يكون ميراث الإخوة والأخوات ميراث كلالة، ولا يرثون إذا كان ثمة ولد.
________
(1) روى الترمذي: الفرائض (2092)، وأبو داود: (2891): وابن ماجه: (2720) والدارقطنِيّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ امْرَأَةَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ سَعْدًا هَلَكَ وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَأَخَاهُ، فَعَمَدَ أَخُوهُ فَقَبَضَ مَا تَرَكَ سَعْدٌ، وَإِنَّمَا تُنْكَحُ النِّسَاءُ عَلَى أَمْوَالِهِنَّ. فَلَمْ يُجِبْهَا فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنَتَا سَعْدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادْعُ لِي أَخَاهُ " فَجَاءَهُ فَقَالَ: «ادْفَعْ إِلَى ابْنَتَيْهِ الثُّلُثَيْنِ، وَإِلَى امْرَأَتِهِ الثُّمُنَ، وَلَكَ مَا بَقِيَ ". وفي رواية الترمذي وغيره: فنزلت آية المواريث. قال: هذا حديث صحيح.
(2) سبق تخريجه.(4/2000)
ويفترق الشيعة الاثنى عشرية عن جمهور الفقهاء بالنسبة لميراث الإخوة والأخوات في أصلين يتفرع عنهما الكثير من المسائل، الأصل الأول أن البنت حيث وجدت ولو منفردة عن الابن استحقت الميراث كله إن لم يكن زوج ولا أم ولا أب كما ينفرد الابن بذلك، ولا تستحق الإخوات والأخوة شيئا، وكذلك لا يستحق بنات الابن شيئا، سيرا على قاعدتهم من أن البنت كالابن تستحق الميراث كله إذا انفردت، تأخذ النصف فرضا، والباقي ردا، وتحجب أولاد الأب فروض، فإنها تأخذ الباقي ردا.
الأصل الثاني - أن الأخت الشقيقة إذا استحقت النصف، فإن الأخت لأب، والأخ لأب لَا يستحقان معا شيئا. بل تأخذ النصف فرضا، والباقي ردا، وتحجب أولاد الأب والجمهور على أن الأخت الشقيقة تأخذ النصف فرضا، والأخت لأب تأخذ السدس تكملة للثلثين إذا لم يكن أخ شقيق أو لأب، وإذا كانت أخت شقيقة أو أخوات، وليس معهن أخ شقيق، وكان هناك أخ لأب، فإن الباقي يكون للأخ لأب هو وأخته التي لأب للذكر مثل حظ الأنثيين وإذا كان أخ شقيق يحجب الأخوة والأخوات لأب.
هذا ما اقتضى التفسير أن نذكره، وهناك فروع كثيرة تركناها لكتب الفقه في السنة والشيعة.
(يُبَيِّن اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هذا النص الكريم يبين أن الله سبحانه وتعالى هو الذي تولى شرح بيان أحكام الميراث، وحسب الميراث فضلا أن يكون تأكيده وتوثيقه ببيان الله تعالى.
وقد ذكر النص الكريم لماذا تولى القرآن الكريم بيانه فقال سبحانه " أن تضلوا " أي خشية أن تذهبوا إلى طرق ضالة بأمور ثلاثة - إما بإهمال الميراث جملة بألا تعطوا أحدا من الورثة شيئا، كما حاول أن يفعل الشيوعيون فأضعفوا الأسرة، وأضعفوا النشاط الإنساني، والإقبال الاختياري على العمل، وتركوا ذرية ضعافا لا يجدون ما يقيم أودهم، وإذا كانت الدولة ترعاهم في بعض الأحيان، فعلى نقص بين واضح.
وإما يجعل الحرية للمورث يوصي بماله لمن يشاء من غير قيد، وفي ذلك ضلال أي ضلال، إذ يترك ورثته ضياعا، ويعطي المال غيرهم.(4/2001)
وإما بحرمان من يشاء وإعطاء من يشاء، وفي ذلك إثارة للبغضاء والعداوة وقد قرر العلماء في كل بقاع العالم أن أعدل نظام للميرات هو نظام القرآن الكريم، ولكن وجد من بيننا من يحاربه، بل وجد من يزعمون أنهم مفسرون للقرآن من يدعي نسخه، وصدق رسول الله تعالى إذ يقول: " إن الفرائض أول علم ينسى " (1) وقد ذيل الله تعالى الآية بقوله (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وفي هذا إشارة إلى أن شرعه أحكم شرع، لأنه شرع من يعلم كل شيء، من يعلم الماضي والقابل، والعدل على أتم وجوهه، والمصلحة المستقرة الثابتة التي لَا تعبث بها الأهواء ثم هو عليم بمن يخالفه ويعصيه، ومن يطيعه ويرضي حكمه.
وتجب الإشارة هنا إلى أمر بياني يقتضي تمام التفسير ذكره هو أن الله تعالى يقول (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) وهنا لم يبين في السؤال موضع الاستفتاء، ولكن الإجابة بينته فاستبان، ويلاحَظ أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولكن الله تولى الإجابة هو، فقال (قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ) ونجد في مثل هذا المقام يقول الله تعالى: (وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتَامى قُلْ إِصْلاحٌ لهُمْ خَيْرٌ).
ولم يسند الأمر إلى ذاته العلية كما أسنده هنا فما السر؟ السر في ذلك هو تأكيد أن شرع الميراث منسوب للذات العلية، وهو الذي يتولى الشرح، وإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتولى الشرح عنه في كثير، فهنا قد تولى هو توثيقا للحكم وتأكيدا له وتربية للمهابة. ويلاحظ أن أحكام الميراث كلها أسندها العلي الحكيم، العليم الخبير لنفسه، فابتدأ آياتها في أول السورة بقوله تعالى (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مثْلُ حَظّ الأنثَيَيْنِ)، وختمها بأن الميراث كله وصية الله تعالى، َ فقال تعَالت كلماته: (. . . وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14).
* * *
________
(1) سبق تخريجه.(4/2002)
(سُورَةُ الْمَائِدَةِ)
تمهيد
هذه سورة المائدة جاءت بعد سورة النساء، وسميت سورة المائدة لأنها اشتملت في آخرها على طلب الحواريين من عيسى ابن مريم - عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم - أن ينزل عليهم ربهم مائدة من السماء، واستجاب عيسى عليه السلام لما طلبوا فطلب من الله تعالى قائلا كما أخبر القرآن الكريم عنه: (. . . اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عيدًا لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).
وقد نزلت بعد فتح مكة، وهي سورة مدنية، وإن قال الأكثرون: إن آية: (. . . الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا. . .) إنها نزلت والنبي - صلى الله عليه وسلم - واقف بعرفات، في حجة الوداع؛ لأنها نزلت على أي حال بعد الهجرة.
وهي من آخر القرآن نزولا، وقد اشتملت على أحكام شرعية كثيرة، وابتداؤها يدل على ما فيها، فقد ابتدأت بوجوب الالتزام بالتكليفات التي كلف الله عبيده إياها، وما يعقده العبد مع الناس، ثم أردفت ذلك ببيان الحلال من الذبائح، والحرام منها، مع الإشارة إلى تحريم الصيد في الحرم من المحرمين، واحترام الشعائر في الحج.
ثم أشارت من بعد ذلك إلى تمام الشرع الإسلامي، وكماله، وتكلمت السورة الكريمة من بعد ذلك في العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب من الناحية الشخصية، وإباحة ذبائحهم، وحل نسائهم.(4/2003)
وبعد أن بينت هذه المباحات من الطيبات، أخذت تتجه إلى غذاء الروح بعد غذاء الجسم، وهو الصلاة، وما يجب أن يتقدمها، وأن العبادات لَا يريد الله تعالى منها بعباده الضيق والحرج، ولكن الطهارة النفسية.
(. . . مَا يُرِيدُ اللَّهُ ليَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ ليُطَهِّرَكمْ وَليتمَّ نعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ. . .)
وإن الطهارة في الصلاة لها غاية اجتماعية عالية، وهي حسن التعامل، وإقامة العدالة، ولذلك أمر من بعد هذا بإقامة العدالة مع العدو، ومع الولي على سواء، ثم ذَكَّر المؤمنين بأن العدالة هي التي تحمي المجتمعات، وأن الله تعالى حماهم عندما هَمَّ قوم أن يبسطوا أيديهم بإيذائهم، ثم ذكَّرهم ببني إسرائيل أنهم عندما نقضوا الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم بإقامة العدل لعنهم الله تعالى، وجعل قلوبهم قاسية قد غلقت عن الحق، وأغلفت على تحكُّم الهوى، فأخذوا يحرِّفون الكتب ويحذفون منها ما لَا تهوى الأنفس، وكذلك فعل النصارى حتى ادَّعوا الألوهية للمسيح عيسى ابن مريم، فكفروا، واسترسلوا حتى ادَّعى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه، ثم وجه الله تعالى الخطاب من بعد للذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم إلى الحق، ويقيم الحجة عليهم بهذه الدعوة القائمة.
وإن الذل يفسد القلوب، وَيُذهب النخوة، وكذلك كان الأمر بالنسبة لليهود، فقد ذكرت السورة الكريمة أنهم بعد أن ضربت عليهم الذلة في مصر أراد موسى - عليه السلام - بأمر ربه أن يجعل منهم قوما ذوي بأس، فأراد أن يقودهم ليدخلوا الأرض المقدسة، ولكنهم آثروا الاستنامة، فأخذوا يتيهون في الأرض أربعين سنة.
وإن النفس البشرية إذا دخلها الحسد فسدت، وصارت العداوة بدل المودة في موضع كان يجب أن تسوده المحبة، وقد ذكر الله تعالى في هذه السورة خبر ابني آدم إذ قتل أحدهما الآخر؛ لأنه قُبِلَ قربانُه، ولما أخذه الندم بعد فوات وقت العمل(4/2004)
حار في مواراة جثة أخيه، حتى تعلَّمها من غراب أخذ يبحث في الأرض ليواري جثة غراب مثله.
وإذا كان الحسد حتى في العبادات يؤدي إلى القتل؛ فلذلك شرعت عقوبة القصاص، كما ذكر النص القرآني في هذه السورة الجامعة.
وإذا كان الحقد البشري في الجماعات هو الذي يؤدي إلى أشد الجرائم فتكًا بها، فقد ذكر سبحانه عقوبات شديدة تناسب الجرائم العنيفة الشديدة، فذكر سبحانه عقوبة الذين يحاربون النظام، وينقضُّون على الشرع ويزعجون الآمنين، ويقطعون الطريق على السابلة (1)، وقد ذكر سبحانه وتعالى - بعد ذكر عقوبة قطع الطريق المغلظة بطبيعتها - ذكر سبحانه أن طلب الحق والجهاد في سبيله، وتثبيت النظام الإسلامي ووضعه في نصابه، هو الوسيلة الكبرى للتقرب إلى الله تعالى.
وذكر من بعد عقوبة الذين يهددون الأمن بقوة قاهرة ظاهرة، وحكم الذين يهددون الأمن في خفية، ويزعجون الناس في مآمنهم، فذكر عقوبة السرقة، وهي قطع اليد.
وبعد بيان هذه العقوبات الزاجرة للجرائم المنبعثة، والتي يسوق إليها الحقد والحسد أخذ يبين سبحانه حال أهل الكتاب من اليهود، وما فسدت به قلوبهم من حقد أثر في قولهم واعتقادهم، وأوجد النفاق في قلوبهم، وجعل أعمالهم إثما مستمرا، وأنهم لم ينفذوا أحكام التوراة في جرائمهم، وأرادوا أن يفروا منها إلى أحكام الإسلام زاعمين أنها تخفف عنهم، وقد بيَّن سبحانه أحكام التوراة. التي نزلت على موسى، ووجوب أن يخضعوا لها، كما يجب أن يخضع أهل الإنجيل لما جاء في الإنجيل، ومنها التبشير بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وأشار سبحانه وتعالى إلى أن لكل أمة جعل - سبخانه - شِرعة ومنهاجا مؤقتا، حتى جاءت شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإنه بعد نزول القرآن لَا حكم إلا له؛ ولذا قال سبحانه: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْا
________
(1) السابلة: أبناء الطريق المختلفة في الطرقات. الصحاح. سبل.(4/2005)
فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50).
وإن الحقد الذي سكن قلوب الذين يخالفونكم من أهل الكتاب لَا يسوغ لكم أن تتخذوا منهم نصراء، فإن بعضهم نصراء لبعضهم، وإن الذي يرضى أن يكونوا أولياء عليه يكون منهم، وإن من يفعل ذلك يكون مرتدا عن دينه خاذلا له، ومن يرتد عن دينه لَا يخسر الله تعالى به شيئا، بل سيخلفه في الإسلام قوم يحبهم الله ويحبونه، بعد أن زال فساد المنافقين المرتدين.
وبَيَّنَ سبحانه وتعالى أن الولاية للَّه وحده وأن اليهود يتخذون الإسلام هزوا ولعبا، وأنهم يسارعون في الإثم والعدوان متنقلين في دركاتهما، وأن الذي أفسدهم أنهم لَا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، وأنهم لم يقيموا التوراة والإنجيل، وقد أمر الله نبيه في وسط ذلك الغبار الذي يثيرونه أن يبلغ ما أنزل إليه، وقد بَيَّنَ سبحانه بعد ذلك أنه من يخلص لله يدخل الجنة؛ لأنه لَا محالة سيدرك ما جاء به محمد ويؤمن به، ولقد بين سبحانه كفر الذين ألَّهوا المسيح، وقالوا: إن الله - تعالى - ثالث ثلاثة، وبَيَّنَ أنه يجب أن يرجعوا إلى الله تعالى، ولكنهم غلوا في دينهم، فغلا النصارى في شأن المسيح فقدسوه وألَّهوه، وغلا اليهود في الطعن فيه، وهموا بقتله، وادَّعوا أنهم قتلوه.
وقد بين سبحانه وتعالى بعد ذلك مراتب أعداء المؤمنين، فذكر أنه في المرتبة الأولى في العداوة اليهود والمشركون، والنصارى أقرب مودة من غيرهم، وذكر سبحانه حال النصارى في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد كانوا يسارعون إلى الإيمان إذا سمعوا الحق كما قال تعالى: (وَإِذَا سَمعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفيضُ مِنَ الدَّمْعِ ممَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ).
بعد هذا البيان المعجز، الذي ابتدأ بذْكر آثار الحسد والحقد في ابني آدم إذ قربا قربانا، ثم ما أدى إليه الحقد من كفر وطغيان، وطمس للحقائق، ومعاندة(4/2006)
لأوامر الله تعالى، وفساد للنفوس، بعد هذا أخذ يبين سبحانه إباحة الطيبات، وأنه لَا يصح تحريمها على النفس، وأن من يحرمها على نفسه بيمين فليحنث وَلْيُكَفِّرْ، وتكفير اليمين عتق رقبة أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فمن لم يجد شيئا من هذا فليصم ثلاثة أيام.
وإذا كان الله تعالى أباح الطيبات، فقد حرم الخبائث، وأول الخبائث الخمر والميسر، وإن الخمر أم الخبائث، وأم الجرائم، وإنه ليس على المؤمنين إثم فيما يتناولون من طيبات إنما الإثم فيما يتناولون من خبائث.
وقد بين سبحانه أن من الطيبات ما يحرم في بعض الأوقات، لَا لذاته، بل للمكان الذي يكون فيه، والحال التي يكون فيها، فحرم الصيد في البيت الحرام للمحرمين، وأن المنع مقصور على صيد البر، ولا يشمل صيد البحر؛ وإن ذلك لمكانة البيت، ولمكانة الإحرام، وقد ذكر سبحانه وتعالى مقام البيت ومكانته.
وأن الخبيث من الأشياء ومن الأشخاص لَا يستوي مع الطيب، وندد سبحانه بالذين يحرِّمون بعض الطيبات على أنفسهم لأوهام توهموها، وأفكار جاهلية اعتنقوها.
وأن الذي يقوم بالواجب ويبين الخير ويدعو إليه لَا يكون مسئولا عمن يضل من بعد.
وفى وسط أحكام الحلال والحرام أخذت السورة تبين سببا من أسباب الملكية، وهو الوصية في السفر، وطريق إثباتها.
بعد ذلك أخذ يبين الضلال الذي وقع فيه الذين ادَّعوا المسيحية وهو ألوهية المسيح، مع ذكر معجزاته عليه السلام، ومنها أنه يخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله، وأنه أخرج الموتى بإذن الله تعالى، وأنه نزلت عليه المائدة من السماء.
ومع هذه المعجزات الباهرة كفر به من كفر، وشهد الحواريون بأنه رسول من عند الله، وغالى غيرهم فزعموا أنه وأمه إلهان، ومنهم من زاد غيرهما.(4/2007)
وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه سيخاطب عيسى يوم القيامة عن هذا الذي افتروه على المسيح، ونذكر هذه المجاوبة بالنص.
(وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
* * *
هذه نظرات كليلة في سورة المائدة، ولننظر في ذكر معانيها.
* * *(4/2008)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
* * *
هذه أول آية من السورة، وهي تأمر المؤمنين بأن يوفوا بالعهود التي أخذت عليهم بمقتضى الإيمان، وهي الطاعة لله تعالى ولرسوله، والقيام بالتكليفات الشرعية، فالعقد هو كل ما يلتزمه المؤمنون، سواء أكان في الأحكام التكليفية أم من العهود التي يلتزم بها العباد، وبذلك تشمل ما يعقده الإنسان مع غيره من عقود واجبة الوفاء، وما يتبادلان فيه الالتزام، كالبيع والإجارة، وغيرهما، وتشمل ما يلتزمه المؤمن من صدقات، وما يلزمه الوفاء به بحكم الإيمان، فإن الإيمان ميثاق يلتزم فيه العبد بالطاعة، فإذا عصى فقد نقض ذلك الميثاق، وذلك كما كان(4/2008)
يفعل اليهود من نقض للمواثيق المؤكدة، وإن الأصل اللغوي لمعنى كلمة عقد أنه ربط لطرفي شيء، ومنه العقدة، وقد أطلق على الربط بين كلامين كالعقود القائمة، وأطلقه القرآن كما في هذا النص على كل الأحكام الواجبة الطاعة لها؛ لأنها تشمل معنى الربط؛ لأن المؤمن بمقتضى إيمانه قد عاهد الله تعالى على طاعته، والأخذ بكل ما يأمر به، وبكل ما ينهى عنه، وقد جمع الراغب الأصفهاني معنى كلمة عقد فقال: " العقد: الجمع بين أطراف الشيء، ويستعمل ذلك في الأجسام الصلبة كعقد الحبل، وعقد البناء، ثم يستعار للمعاني فيقال نحو عقد البيع والعهد وغيرهما، يقال: عاقدته، وعقدته، وتعاقدنا، وعقدت يمينه. . . ".
والعقد على هذا: كل ارتباط يرتبط به المؤمن بموجب النقل أو بموجب العقل، وهو ما يدركه بالبديهة وأدنى نظر، سواء أكان بينه وبين نفسه بمقتضى إيمانه وخُلقه وإنسانيته، أم كان بينه وبين غيره، وكل هذا واجب الوفاء بحكم الله تعالى، فأوامر الله تعالى ونواهيه واجبة الوفاء، وعقود الإنسان مع غيره واجبة الوفاء إلا أن يكون فيها مخالفة لأمر الله تعالى ونهيه، فكل اتفاق على خلاف ذلك رد على صاحبه، ولا وفاء فيه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا " (1) ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، ولوكان مائة شرط " (2) ولأن تنفيذ العقود التي تتضمن خلاف ما جاء عليه الشرع يكون تنفيذها نقضا لعهد المؤمن الذي يجب تنفيذه، وهو طاعة
________
(1) ذكره البخاري تعليقا: الإجارة - أجر السمسرة بلفظ: " المسلمون عند شروطهم " وأخرجه الترمذي: الأحكام - في الصلح (1352) عن عَمْرِو بْنِ عَوْفِ الْمُزَنِيُّ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " الصُّلْحُ جَائِز بَيْنَ الْمُسْلمينَ إِلا صُلْحًا حَرَّمَ حَلالا أَوْ أحَلَّ حَرَامًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلا شَرْطا حَرَّمَ حَلالا أو أَحَلَّ حَرَامًا " قَالَ أبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَن صَحِيح.
(2) ذكره البخاري تعليقا: بَاب الْمُكَاتَبِ وَمَا لَا يَحِلُّ مِنْ الشرُوطِ التي تُخَالفُ كِتَابَ اللَّهِ، ورواه ابن ماجه: الأحكام - باب المكاتب (2521) عَنْ عَائِشَةَ زَوْج النًّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كما رواه أحمد بلفظ مقارب: مسند الأنصار - باقي المسند السابق (25258) عن عائشة رضي الله عنها.(4/2009)
الله تعالى ورسوله، وعهد الله تعالى أولى بالوفاء؛ ولأن عقود الناس تستمد قوة الوفاء من أمر الله، فلا يصح أن تكون على خلافه.
فالعقد: معناه في اللغة العربية ضم طرف إلى طرف، وربطهما ربطا محكما. يقال: عقد الرجل طرفي الحبل أو الحبلين إذا ربط أحدهما بالآخر، وضده الحل أي فك هذا الربط، وسمي الإيجاب والقبول عقدا لأنهما يضمان إرادتي المتعاقدين، ويربطان أحدهما بالآخر.
والعقد معناه في استعمال القرآن الارتباط، والعقود والعهود والمواثيق والمعاهدات والمحالفات والتعهدات والاتفاقات والالتزامات كلها في استعمال القرآن والاصطلاح الشرعي ألفاظ متقاربة المعنى المراد بها الارتباطات، سواء أكانت ارتباطات بين أفراد أو حكومات أو جماعات، وسواء أكانت ارتباطات على عمل أو على كف عن عمل. والفروق التي يقررها علماء القانون الدولي لهذه الألفاظ لا تحرف في الاصطلاح الشرعي.
والإيفاء بالعقد معناه تنفيذ ما يقتضيه والقيام بما يوجبه وافيا تاما غير منقوص، والإيفاء بالعقد والوفاء به والتوفية به ألفاظ مترادفة معناها واحد.
والمعنى بالإجمال: يا أيها المؤمنون نفذوا ارتباطاتكم، وقوموا بما تعاقدتم على القيام به وافيا تاما. وقد ذكر سبحانه العقود التي أمر بالإيفاء بها بصيغة العموم ولم يخصصها بنوع لتشمل كل ارتباط يرتبط به المؤمن، سواء أكان ارتباطه مع ربه أم ارتباطه مع نفسه أم ارتباطه مع فرد آخر، وسواء أكان ارتباط جماعتهم أو حكومتهم على عمل، أو كف عن عمل؛ ولهذا قال المحققون من المفسرين: العقود التي أمر الله المؤمنين أن يوفوا بها تشمل أربعة أنواع:
الأول: العقود التي عقدها المؤمن مع ربه بسبب إيمانه. فكل من آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد التزم لله بأن يطيعه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وإحلال ما أحله وتحريم ما حرمه. فهذا عقد بين المؤمن وربه.
وسبب الالتزام فيه إيمانه. وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ(4/2010)
عَلَيْكُم وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا. . .)، وبقوله: (الَّذِينَ يُوفُون بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ).
الثاني: العقود التي عقدها المؤمن مع نفسه بسبب حلفه على أن يفعل فعلا أو يكف عن فعل، أو نذره أن يفعل فعلا أو يكف عن فعل؛ فكل من حلف على فعل أو كف عن فعل أو نذر فعلا أو كفا عن فعل فقد التزم أن يبر بيمينه، وأن يوفي بنذره. وسبب الالتزام يمينه أو نذره. وإلى هذا أشار الله سبحانه بقوله: (. . . وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ. . .).
الثالث: العقود التي يعقدها الأفراد بعضهم مع بعض من بيع وإجارة ورهن وشركة ومضاربة وزواج ونحوها؛ فكل من ارتبط مع غيره بعقد فعليه أن ينفذ موجب هذا العقد ولا يخل بشيء مما يقتضيه، وسبب الالتزام عقده بإرادته واختياره.
الرابع: العقود التي تعقدها الحكومة الإسلامية مع غيرها من الحكومات في السلم والحرب، فإذا تعاقدت دولة إسلامية مع أية دولة على أحكام عسكرية أو مدنية، دفاعية أو هجومية، إيجابية أو سلبية، فعلى الحكومة أن توفي بعقودها، وتنفذ التزاماتها.
فالله سبحانه أمر المؤمنين بأن يوفوا بكل الارتباطات التي يرتبطون بها أفرادا أو جماعات أو حكومات، مع ربهم، أو مع أنفسهم، أو مع أبناء نوعهم.
قال الإمام أبو بكر الرازي المعروف بالجصاص المتوفى سنة (370 هـ) في كتابه في تفسير آيات الاحكام: العقد ما يعقده العاقد مع نفسه على أمر يفعله هو، أو ما يعقده مع غيره، ويسمى اليمين على المستقبل عقدا، لأن الحالف قد ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من فعل أو ترك. وكذلك العهد والأمان، لأن معطيه قد ألزم نفسه الوفاء به. وكذلك كل شرط شرطه الإنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد. وكذلك النذر وإيجاب القرب وما جرى مجرى(4/2011)
ذلك. وقد اشتمل قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) على كل ذلك، وعلى إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس، وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان. ثم قال: ومتى اختلفنا في جواز عقد من العقود أو فساده أو في صحة نذر ولزومه صح الاحتجاج على جوازه ولزومه بعموم قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا أَوْفوا بِالْعُقُودِ).
وإذا تعارض الإيفاء بعقد من هذه الأنواع الأربعة مع الإيفاء بعقد آخر منها، وجب على المؤمن أن يوفي بعقده مع ربه، ولا يجب عليه أن يوفى بعقده مع نفسه أو مع غيره إذا كان إيفاؤه بعقد منهما يخل بإيفائه بعقد ربه. فإذا حلف على ما فيه مخالفة أمر ربه فليحنث في يمينه وليوف عقده مع ربه ولا يوف بما حلف عليه؛ ولهذا ورد في الحديث " من حلف على شيء ورأى غيره خيرا منه فليأت الذي هو خير منه وَلْيُكَفِّر عن يمينه " (1). وإذا عقد عقدا أو شرط شرطا يقضي بتحليل محرم أو تحريم حلال أو التزام بباطل شرعا فعليه أن يوفي بعقده مع ربه ولا يوفي بما يخالفه من عقود وشروط؛ ولهذا ورد في الحديث: " المسلمون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا " (2).
وقد خاطب الله المخاطبين في أمرهم بالإيفاء بالعقود بوصف الإيمان ليشير إلى أن الإيفاء بالعقود مما يقتضيه الإيمان، وفي هذا حث على امتثال الأمر والإيفاء بالعقد. وهذا الذي أشار إليه القرآن صرح به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سنته إذ عدَّ الوفاء بالعهود من شعائر الإيمان وآيات المؤمن، ففي الحديث: " آية المؤمن ثلاث: إذا حدث صدق، وإذا اؤتمن أدَّى، وإذا وعد وفَّى " (3) وكما ذكرهم بإيمانهم في بدء هذه السورة إذ أمرهم بالإيفاء بالعقود جملة، ذكرهم بإيمانهم في
________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريجه.
(3) سبق تخريجه.(4/2012)
أمرهم بكل عقد فصَّله فيها. ففي تفصيلِ ما حرمه قال:(4/2013)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
(يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ ولا الْقَلائِدَ. . .).
وفى تفصيل التطهر لأداء الصلاة وهي عماد الدين قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجوهَكُمْ. . .).
وفى تفصيل عماد الدنيا وهو الشهادة بالقسط في إقامة حقوق الله قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ. . .).
فالمقصود بهذا إشعار المؤمنين بأن إيفاءهم بالعقود جملة وتفصيلا هو من مقتضى الإيمان، وأن نكث العهود والإخلال بما تقتضيه العقود لَا يتفق والإيمان. فالمؤمن حقا يوفِّي بالتزاماته لربه ولنفسه ولغيره. ومن هنا نفهم معنى الحديث: " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن " (1).
وإن من أوائل الأحكام الشرعية ما أحله الله تعالى، وما أحله سبحانه قيده بقيود، ولذا قال تعالى:
(. . . أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتلَى عَلَيْكمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ. . .) ابتدأ الحكم ببيان الحلال من الأطعمة، لسببين: أولهما - أن العرب كانوا يحرمون في الجاهلية على أنفسهم بعض الحيوان لأوهام ورثوها، لم يأت بها دين، ولم يتصورها عقل، وليس للتحريم سبب يدركه أهل العقول. ثانيهما - أن النص جاء للإباحة مع القيد، فهي حلال بشرط ألا تكون مما يتلى تحريمه، وسيبينه الله تعالى من بعد، والتحريم سببه أحد أمرين: أولهما - ذاتي في ذات الحيوان كالخنزير والميتة، وما يشبه الميتة من التي تردت في منخفض من الأرض فنفقت، أو نطحت فهلكت، والثاني - عرضي بحال معينة كتحريم الصيد، فالنص لإباحة مقيدة مع ذكر القيد بالإشارة إليه ثم بيانه.
________
(1) متفق عليه، وقد سبق تخريجه.(4/2013)
والبهيمة: اسم لكل حيوان أعجم، لإبهامه من جهة نقص النطق، وعدم تمييزه.
والنعم في أصل الإطلاق العربي يكون على الإبل والبقر والغنم، واشتقاقها من النعمة؛ لأنها من نِعَمه سبحانه وتعالى التي أنعم الله بها، كما قال تعالى: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأكُلُونَ).
ويصح أن يكون مثل الإبل والبقر والغنم كل حيوان أو طير يتغذى من النبات، ولم يرد نص بتحريمه فيدخل الظبي وحمار الوحش وغيرهما من آكلات الأعشاب، كما يدخل الطير غير سباعه، وغيرها.
(أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ) البهيمة في اللغة العربية: هي كل ذات أربع من الدواب. والأنعام هي الإبل والبقر والغنم ذكورها وإناثها، وقد بينها الله سبحانه في سورة الأنعام بأنها ثمانية أزواج: من الضأن اثنين (الكبش والنعجة) ومن المعز اثنين (الجَدْي والعنز) ومن الإبل اثنين (الجمل والناقة) ومن البقر اثنين (الثور أو الفحل والبقرة أو الجاموسة). فهذه هي الأنعام في لسان القرآن.
ولما أمر الله المؤمنين بأن يوفوا بالعقود أخذ يفصل لهم العقود التي أمرهم أن يوفوا بها، وبدأ بأولها وأحقها بالإيفاء وهي عقودهم مع ربهم بمقتضى إيمانهم، وبدأ من هذه العقود ببيان ما أباح لهم أكله والانتفاع به من الحيوان، وما حرمه، لأن هذا الأكل والانتفاع أكثر ما يعرض للإنسان، وأكثر ما يحتاج إلى معرفة حكمه، ولأن أهل الجاهلية كانوا قد جاروا وظلموا في حكمهم في الأنعام، وبنوا تحريمهم لما حرموه منها، وتحليلهم ما أحلوه منها على نزعات وثنية، وأوهام لا يصح أن يبنى عليها تحريم ولا تحليل، فجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا، فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم.
(وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ)، (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ(4/2014)
عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ).
وجعلوا من الأنعام بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميا.، وهكذا ساروا في تحريم الأنعام وإحلالها على ما تقتضيه وثنيتهم، لَا على ما تقتضيه مصلحتهم. فالله سبحانه بدأ عقوده مع المؤمنين ببيان أنه أباح لهم الأنعام كلها إلا ما يتلو عليهم تحريمه منها. فهو سبحانه بدأ ببيان ما فيه قضاء على وثنيات الجاهلية، وبما فيه إشعار المؤمنين بكمال النعمة عليهم، إذ أباح لهم الأنعام كلها والانتفاع بها بكل وجوه الانتفاع، ولم يقيد هذه الإباحة بما كانت تقيده به أهل الجاهلية من قيود وشروط لَا تقوم على أساس من المصلحة، وإنما تقوم على أوهام وأباطيل لَا يصح أن يبنى عليها تحريم ما رزق الله به عباده من الطيبات، بل قيدها باستثناء ما فيه ضرر بصحة الإنسان أو دينه. وعلى النفع والإضرار يبنى التحليل والتحريم. ومن هذا نفهم الحكمة في أن الله سبحانه قال: (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ) ولم يقل أحلت لكم الأنعام؛ لأنه أراد سبحانه التنبيه إلى أن الأنعام أحلت بوصف أنها بهيمة، وكل الأنعام ذكورها وإناثها متحقق فيها هذا الوصف، فكل الأنعام حلال لكم. وإضافة لفظ بهيمة للأنعام لتأكيد عموم الأنعام التي أحلت، وللإشارة إلى أن التفريق بين بعض الأنعام وبعضها - مع أنها كلها بهيمة - ظلم وحظر لما لَا مبرر لحظره. وفي سورة الحج: (. . . وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ. . .).
(إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) هذان استثناءان من العموم الذي دلت عليه (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ) لأن معناها أحلت الأنعام كلها لكم جميعا.
استثنى سبحانه من الأنعام التي أحلت الأنعام التي يتلو على المؤمنين آيات تحريمها في قوله سبحانه:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّه وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ. . .)، وفي قوله: (حُرِّمَتَْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه. . .)، وفي قوله: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْق. . .).(4/2015)
واستثنى سبحانه ممن أحلت لهم بهيمة الأنعام المحرمين بالحج أو العمرة أو بالحج والعمرة، والموجودين بأرض الحرم سواء أكانوا محرمين أم غير محرمين بقوله تعالى: (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ).
والإحرام بأحد النسكين أو بهما معا معناه في الشرع نية النسكين أو أحدهما نية مقرونة بشعار من شعائر الحج كالتلبية أو سوق الهدى. فمن أحرم أي نوى أحد النسكين واتخذ شعاره لَا يحل له ما دام محرما أن يصطاد الأنعام ولا غيرها من حيوان البر، سواء أكان الصيد من أرض الحل أم من أرض الحرم. ولا يحل له الأكل والانتفاع بما اصطاده وهو محرم. وأما صيد البحر والأكل منه فهو حلال للمحرم، قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ وَللسَّيَّارَة وَحُرِّمَ عَلَيْبهُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا. . .).
فالمحرم لَا يحل له صيد البر؛ سواء أكان في أرض الحل أم في أرض الحرم.
وأرض الحرم لَا يحل الصيد فيها للمحرم وغير المحرم.
فمعنى (وَأَنتُمْ حُرُمٌ) أي محرمون، أو في أرض الحرم، أي وأنتم في حرمة الإحرام أو حرمة الأرض الحرام. ولله الحكمة البالغة في هذين الاستثناءين، فإنه استثنى مما أحل ما يتلو على المؤمنين من المحرمات دفعا للضرر عن دينهم وأجسامهم. وسيتبين في تفصيل المحرمات أن تحريم كل محرم منها إنما هو لدفع أذى ديني أو بدني. واستثنى ممن أحل لهم فريقين: المحرمين بأحد النسكين، لأنه أراد أن يكون إحرام المحرم شعار السلام والأمان، وتجنب العدوان حتى على الحيوان؛ ومتى عرف المحرم أنه لَا يحل له الصيد تجرد من أسلحته وآلاته وانصرف عن التفكير في إزعاج آمن أو مطاردة ضعيف، والموجود بأرض الحرم مطلقا، لأنه أراد أن تكون أرض الحرم أمنا حتى للصيد (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا. . .).
وقد استثنى سبحانه وتعالى من التحليل ما يتلى من بعد ذلك، وهو ما اشتمل عليه قوله تعالى من بعد: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا(4/2016)
أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ. . .). (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) المعنى: إن الله يحكم الحكم الذي يريده، لا الحكم الذي تهواه النفوس، أو الحكم الذي توارثه الخلف عن السلف. فهو سبحانه إذا حكم بإيجاب الإيفاء بالعقود، وحكم بإحلال بهيمة الأنعام، وحكم باستثناء بعض الأنعام مما أحله، وحكم باستثناء الفريقين ممن أحل لهم، إنما يصدر في حكمه عن إرادته. وسنته في إرادته بينها سبحانه بقوله: (. . . يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. . .).
وبقوله: (. . . مَا يُرِيذ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجِ. . .) فأحكامه التي ذكرها مصدرها إرادته، وهو ما يريد العسر ولا الحرج بحكمه، لَا في تحريمه المحرمات، ولا إحلاله المباحات، وإيجابه الواجبات، وكل ما أمر به أو نهى عنه أو شرعه.
ونرى أن " يحكم " تعدت من غير الباء فلم يقل تعالت كلماته: " إن الله يحكم بما يريده " بل قال: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكمُ مَا يُرِيدُ) وذلك لتضمن الحكم معنى حد الحدود، والمنع عن الموبقات، فكان التعدي بغير الباء.
وقد جاء في تفسير القرطبي: أن " هذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام، فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأول: الأمر بالوفاء بالعقود، والثاني: تحليل بهيمة الأنعام، الثالث: استثناء ما يتلى بعد ذلك، الرابع: استثناء حال الإحرام فيما يصاد، الخامس: ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم.
وحكى النقاش: أن أصحاب الكندي قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما كثيرة، ثم خرج فقال: والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة، فنظرت، فإذا هو قد كلف بالوفاء ونهى عن النكث، وحلل تحليلا عاما، ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته - في سطرين،(4/2017)
ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد (1) اللهم انفعنا بكتابك، واهدنا بهديه، واملأ قلبنا بنوره وعلمه إنك أنت العليم الحكيم.
ومن قرأ سورة الأنعام المكية ووقف على ما كان عليه أهل الجاهلية من تحريم وتحليل بناء على الأهواء والشهوات والتقاليد الوثنية، يفهم الحكمة البالغة فيما ختمت به هذه الآية من قوله سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) أي لَا يحكم الحكم الذي تقتضيه الأهواء، وإنما يحكم الحكم الذي تقتضيه الحكمة والعدالة والمصلحة في الدين والدنيا، وهذا يوجب على المؤمن أن يتقبل أحكام الله بالإذعان والتسليم؛ لأن مصدرها إرادة الحكَم العدل اللَّطيف الخبير.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
* * *
في الآية السابقة أشار سبحانه وتعالى إلى ما أحل من طيبات، وأشار إلى مكان البيت الحرام وحرمته، وأنه لَا يحل صيده والإحرام قائم، وأن الله تعالى يحكم بما يريد، وهذا حكمه وأمره، وما على المؤمن إلا الطاعة فيما أمر به، وفي هذه الآية يبين سبحانه وتعالى ما يجب، وقد بَيَّن الحرمات التي تجب صيانتها ومن تتعلق بهم، وقد ذكر أمورا لَا يصح إحلالها، وهي شعائر الله تعالى، والشهر
________
(1) أجلاد أي مجلدات.(4/2018)
الحرام والهدي والقلائد، والذين يقصدون البيت. وقد ابتدأ بأولها، فقال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ. .)
النداء لأهل الإيمان الصادقين في إيمانهم الذين يعملون بما يأمر، وينتهون عما ينهى، وتصدير الكلام بهذا النداء لبيان ما كان محرما في الحج وما يدعو الإسلام إلى الاستجابة إليه من مقتضيات، والإحلال معناه أن يخالف أمر الله تعالى فما يكون حراما منهيا عنه في الحج يفعله ويستحله، وما يكون مأمورا به لا يستجيب له، وشعائر الله تعالى في هذا المقام المراد بها مناسك الحج، وما حرمه فيه من ثياب في أثناء الإحرام، وما أمر به من أمور فيه من السعي بين الصفا والمروة والطواف بالبيت الحرام، والوقوف بعرفة، ورمي الجمار وسائر الأفعال، فإن هذه كلها شعائر لله تعالى، كما قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّه فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ). وكما قال تعالى في بعض هذه المناسك: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ. . .).
وسميت أعمال الحج شعائر، وهي جمع شعيرة، كما سميت مشاعر جمع مشعر، وهي أمور معلمة محسوسة مرئية، تدل على اتجاه القلوب إليه سبحانه وتعالى، فكان الإحرام مقترنا بمظهر حسي وهو ألا يلبس مخيطا، وأن يجهر بالتلبية، وكان الطواف وهو عمل حسي يدل على الاتجاه إلى ضيافة الرحمن، والإقامة بجوار بيته العتيق - أول بيت وضع - وفي ذلك اتصال دائم بين الرسالة الإلهية؛ إذ إن الذي بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، فكان الطواف به رمز الوحدة في الرسالة الإلهية، وأن آخرها متصل بأولها، وأنها سلسلة متصلة الحلقات تُتم كل واحدة جزءا حتى أوفت على الغاية برسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وكذلك السعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة في المشهد الإسلامي الأكبر، ورمي الجمار، كما فعل إبراهيم عليه السلام من قبل، وذلك مظهر للتطهر التام، والخروج من وسوسة الشيطان، ورميه والإعراض عنه.(4/2019)
والأمر الثاني الذي لَا يحل، ونُهِي المسلمون عن إحلاله، هو الشهر الحرام، والمراد النهي عن القتال فيه، والشهر مفرد أريد به الجمع، وذلك أنه أشهر أربعة كما قال تعالى في سورة براءة:
(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36).
وهذه الأشهر لَا يحل القتال فيها، فلا يبدأ المسلمون القتال فيها، ولكن يدافعون إن اعتُدي عليهم فيها، ولهم أن يطلبوا الهدنة إن جاءت في أثناء القتال فيها، فإن كان الذين يقاتلونهم لَا يؤمنون بها استمر القتال، إذ لَا مناص منه، وقد ادَّعى كثيرون أن منع القتال في هذه الأشهر نسخ، ولا نجد دليلا يدل على النسخ، بل الأدلة تدل على دوام التحريم بل الأدلة متضافرة غلى استمرار تحريمها؛ لأن ذلك جاء في سورة المائدة، وهي من أواخر القرآن نزولا، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر التحريم في خطبة الوداع ولعل الذين ادَّعوا النسخ أخذوه من الحروب الإسلامية، والواقع أن المسلمين كانوا مضطرين للاستمرار.
والأشهر الحرم هي: ذو القعدة وذو الحجة، والمُحَرَّم، ورجب - الذي بين جمادى وشعبان - والأشهر الثلاثة الأولى فيها الحج والذهاب إليه والعودة منه، ورجب فيه العمرة، والتحريم ليكون الطريق آمنا في مدة الحج.
(وَلا الْهَدْي وَلا الْقَلائِدَ) الهدْي جمع هَدْيَة، وهو ما يُهْدَى، ويراد به هنا ما يهدى إلى البيت الحرام ليذبح في الحج، وإحلاله المنهي عنه ذبحه في غير موضع الحج، كما قال تعالى:
(. . . وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. . .)، كما أن من إحلاله اغتصابه أو منعه من أن يصل إلى البيت الحرام، والقلائد جمع قلادة، وهي ما تُقَلَّد به الهدْي، ومن الفقهاء من خصها بالبدن (الإبل والبقر) فلا يقلد سواها، والنهي عن إحلال القلائد قد اختلف المفسرون في معناه، وأحسن ما(4/2020)
قيل هو ما قرره الزمخشري وهو: أن النهي عن إحلال القلائد هو النهي عن إحلال الهدي الذي حمل القلادة، وكان ذكرها بعد ذكر الهدي عامة من قبيل ذكر الخاص بعد العام، وكان المعنى لَا تحلوا الهدي، ولا تحلوا القلائد بشكل خاص، وذلك لأن إحلال الهدي الذي أشعر وأعلم بالقلادة يكون أشد نهيا، إذ إنه اعتداء على ما أعلن بالحس أنه خصص للبيت الحرام، ولم يكتف بالنية وحدها، فما خصص بالنية قد يخفى، وما خصص بالحس لَا يخفى، وذكر الزمخشري وجها آخر، وهو أن النهي عن إحلال ذات القلائد، وإذا كانت القلائد لَا يحل الاعتداء عليها فأولى بذلك الحيوان الذي يحمل شعارها، ومهما يكن من التخريجين فالنهي ثابت عن إحلال الهدي وشعاره.
وإن سوق الهدي وذبحه من مناسعك الحج وفيه توسعة على سكان البيت الحرامِ، وإجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37).
ولكن هل يغني عن الهدي وذبحه في منى ما يُقَوَّم به من نقود؛ لقد أجمع الفقهاء على أنه لَا تغني قيمته عنه، ما دام يستطيع الرجل أن يهدي. وقد جعل الله تعالى الصيام بدل الهدى لمن لَا يجد، فقال تعالى:
(. . . فَإِذَا أَمِنتمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعمْرَةِ إِلَى الْحَجٍّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْى فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتمْ تِلْكَ عَشرَةٌ كَامِلَةٌ. . .).
ولقد ثارت مناقشات حول استبدال الذبح بقيمة الهدي، لأن الناس لا يأكلون كل ما يذبح فيتلف، ووراء ذلك فشو الأوبئة ونحوها، وهذا فوق ما تنشره الدماء من أدواء.
ونقول في الجواب عن ذلك: إن هذا من ضيق عقل الإنسان، لَا من شريعة الديان، والقرآن أمر بالذبح، ولم يقل أحد من الصحابة أو من جاء بعدهم: إن قيمة الهدي تغني عنه، وكان يجب أن يفكر المفكرون في الانتفاع باللحم والدم من(4/2021)
غير أن يتعرضا للفساد والإفساد، وذلك بادخار اللحم، بالتثليج أو نحوه ليمد سكان الحرم الشريف باللحم أكثر العام. لَا في موسم الحج وحده، وأن تقام المدابغ لدبغ الجلود، فتكون مصدر ثروة، والدم يصنع منه أحسن الأواني، والنار تطهره، ولكن العقول تتسع في كل شئون الحياة، فإذا جاءت إلى أوامر الإسلام ضاقت، وذلك من ضعف الإيمان.
(وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ) المراد الذين يقصدون البيت الحرام لأداء الحج، وقد قال بعض العلماء: إن هؤلاء الذين ينهى عن إحلالهم (بمعنى منعهم) هم من كانوا من المشركين يقصدون البيت الحرام يبتغون التجارة ورضا الله تعالى بزعمهم، وقد نسخ هذا بقوله تعالى بعد ذلك: (. . . إِنَّمَا الْمُشْرِكونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا. . .).
ولكن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا، وقد قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: " المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها " وقال الحسن البصري: ليس فيها منسوخ. وعلى ذلك نقول: إن آمِّين البيت (أي القاصدين له حجا) هم من المؤمنين، ومعنى إحلال هؤلاء منعهم من الحج لحرب أو نزاع أو بغي، بل يجب أن يكون مفتوحا للجميع، وإذا كان الله تعالى قد جعله آمنا فقد فتحه لكل المؤمنين يقصدونه، وليس لأحد أن يمنعهم، فلا يحل لأحد أن يمنع أو يُصعِّب على الناس دخول البيت الحرام.
وقد بيَّن سبحانه مقصد هؤلاء الذين يؤمون البيت، وهو أنهم يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا، وفسر بعض العلماء الفضل بأنه التجارة، أي أنهم يبتغون من رضوان الله تعالى غرضا من أغراض الدنيا، وهو التجارة، وقد يكون في التجارة جلب أرزاق لسكان الحرم، فالتجارة غير ممنوعة، ولكن القصد الأسمى هو رضوان الله تبارك وتعالى، فهو العبادة التي يكون لها القصد الأول في البيت.(4/2022)
وفسر آخرون الفضل بالثواب، فالذين يقصدون البيت حاجين أو معتمرين يطلبون الثواب من الله تعالى، وهو النعيم المقيم، ويطلبون ما هو أكبر منه وهو رضوان الله تعالى، كما قال تعالى: (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21).
وهذا هو الذي نختاره، فإن المقام مقام طلب الثواب، لَا مقام طلب المال، ولكل مقام ما يناسبه.
وإن الآية تومئ إلى مناسك الحج والقيام بها، وقد ذكرت الآية السابقة أنه لا يحل الصيد مع الإحرام، وهذه الآية بينت ما يجب على المؤمن من القيام بشعائر الحج، وفتح أبواب مكة لمن يريدها من المؤمنين، وذكرت الآية الكريمة متي يباح الصيد، فقال سبحانه: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا).
معنى الإحلال الخروج من الإحرام بالحج أو العمرة أو هما معا بأن يلبس الملابس كاملة، ويقص شعره وأظافره وغير ذلك مما كان يحرمه عليه الذي هو فيه من الحج مع لبس لباسه، والقيام بمظاهر النسك، والاتجاه إلى الله تعالى، والشعور بأنه في ضيافته عند بيته الحرام.
وإذا تحلل ذلك التحلل أبيح له ما حرمه الإحرام عليه، ومن ذلك الصيد، والأمر بالإحلال هنا ليس للطلب، فليس الصيد بمطلوب، ولكنه مباح، وقد جاءت صيغة الأمر بعد النهي، فكانت للإباحة، وهي كذلك في كل صيغة " افعل " بعد النهي غالبا، مثل قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ. . .).
وذلك بعد أن نهى عن البيع عند النداء للصلاة من يوم الجمعة في قوله تعالت كلماته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ).(4/2023)
وقد روى في ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها " (1).
والخلاصة أن هذا النص الكريم فيه إباحة الصيد بعد الخروج من الإحرام بعد أن كان محرَّما في أثناء الإحرام.
ولقد ساد الإسلام أرض العرب بعد أن كانت حجة الوداع، ولكن قد بقيت بعض الإحن في النفوس، ونفس المؤمن يجب أن تكون طهورا لَا يعيش فيها الحقد، ولا حب الانتقام، ولذا نهى الله تعالى عباده المؤمنين عن أن يدفعهم البغض السابق لقوم لأنهم صدوهم عن المسجد الحرام، أن يمنعوهم كما منعوهم، فإن ذلك يكون اعتداء من أهل الإيمان؛ ولذا قال سبحانه:
(وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا) يجرمنكم معناها يحملنكم؛ لأن " جَرَمَ " في هذا المقام وما يشبهه معناها حمل حملا قاطعا، يقال جرمني كذا على بغضه، أي حملني عليه حملا قاطعا، ومن ذلك قول الشاعر:
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة ... جَرَمَت فزارة بعدها أن يغضبوا
أي حملت فزارة على أن تغضب.
والشنآن: البغض الشديد، يقال شَنِئت الرجل أشْنأ شنآنا وشَنْأ أبغضه، والمعنى. لَا يحملنكم البغض الشديد لقوم بسبب أنهم صدوكم، أي منعوكم من دخول المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بأن تصدوهم، فالجاهلية والشرك يبرران ذلك الصد، والإسلام لَا يبرره، لأنه اعتداء على البيت الحرام، واعتداء على شعائر الله سبحانه وتعالى.
________
(1) جزء من حديث رواه مسلم: الجنائز - استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه (977)، ولفظه عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " نَهَيْتكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة ".(4/2024)
وقد يقال: إن الاعتداء كان وهم في الجاهلية، وقد أسلموا، فكيف يتصور أن يعاملهم المؤمنون بما كان منهم في الجاهلية مع أن الإسلام يَجُبُّ ما قبله؟ والجواب عن ذلك أن جرح النفس قد يستمر أثره، فنهى الله تعالى المؤمنين عن أن يكون منهم ما يكون مجاوبة لما كان من آلام نالتهم بسبب صد المشركين لهم في الجاهلية، وخصوصا أن في بيان ذلك بيانا لأن كل صد عن المسجد الحرام اعتداء على شعائر الله، سواء كان ذلك قبل الإسلام أم كان سببه هوى النفس والشيطان، ومشاحة بين المسلمين أنفسهم كما حدث في عصور سابقة، وكما يحدث الآن مهما تكن الأسباب.
وهنا قراءتان لابد من ذكرهما، - أولهما، قراءة (أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) بفتح الهمزة، وهذه تشير إلى أن الصد كان في الماضي، والاعتداء مجارمة لما كان في الماضي، والقراءة الثانية (إن صَدُّوكُمْ) بكسر الهمزة (1)، ومؤداها أنه إذا كان في المستقبل من يصدكم عن المسجد الحرام، فلا تعاملوه بالمثل وتصدوه؛ لأن ذلك اعتداء.
والنص الكريم يدل على أن كل اعتداء حرام سواء أكان بالصد عن المسجد، أو كان بغيره فما حرم الصد إلا لأنه شعبة من الاعتداء.
(وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) إن الاعتداء والتعاون على البر والتقوى ضدان، وعندما يُذْكَر أمر يَرِدُ على الخاطر ضده؛ ولذا أمر الله تعالى بالتعاون على البر والتقوى بعد النهي عن الاعتداء. والبر: التوسع في فعل الخير للناس والطاعة لله تعالى وتطهير النفس من أدرانها، وهذا إذا لم تذكر التقوى؛ فإذا ذكرت التقوى معه، كما في هذا النص الكريم، كان البر هو الطاعة الظاهرة ونفع الناس، وإسداء المعروف لهم، وكانت التقوى تصفية النفس وتطهيرها وإخلاصها لله تعالى، وقد قال في ذلك أبو الحسن الماوردي: " ندب الله
________
(1) (إن صدوكم) بكسر الهمزة، بها قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وقرأ الباقون بفتح الهمزة. [غاية الاختصار - سورة المائدة (797). ج 2، ص 469].(4/2025)
تعالى إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له، لأن في التقوى رضا الله تعالى، وفي البر رضا الناس، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته، وعمت نعمته " والإثم: أصله اللغوي الأفعال المبطئة عن الخير المانعة له، ثم أطلق على كل ما يفسد النفس ويفسد العمل، ويكون فيه العصيان، ومجافاة الخير، وقرب الشر، وإن الإثم إذا لم يتعد إلى غيره كان على نفسه، وإن تعدى على غيره كان عدوانا، وقد قال تعالى: (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112).
وقد نهى سبحانه عن التعاون على الإثم والعدوان، فنهى عن الإثم الذي تكون مغبته على صاحبه أو تفسد قلبه، وعن العدوان على غيره.
والتعاون: معناه تبادل المعونة، ويكون في الخير بمد يد المعونة في الشدائد، وكل يجود بما عنده لأخيه، فالعالم بعلمه، والشجاع القوي بدفاعه عن الضعيف، وأن يكون المؤمنون يدا على من سواهم، ومنع الظالم من ظلمه، وإرشاد الضال، ومنع الآثام. وهذا تعاون أفرادي عام، وله أشكال كثيرة، والتعاون الجماعي بتعاون الأسرة، وتعاون الحي، وتعاون الأمة، وتعاون الجماعة الإنسانية، وكل ذلك حثَّ عليه الإسلام، ومن التعاون تأليف جماعات له، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أوجد أعظم تعاون جماعي وذلك بالإخاء في الإسلام.
وقد ذيل الله سبحانه النص الكريم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
وهذا إنذار لمن يتعاونون على الإثم والعدوان وترهيب لغيرهم (وقد أكد الله - تعالى - هذا المعنى بثلاث مؤكدات " إنَّ " الدالة على التوكيد)، وبذكر لفظ الجلالة، والوصف بالشدة. . اللهم قِنا غضبك، وامنحنا رضاك، إنك أنت الغفور الرحيم.
* * *(4/2026)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
* * *
في الآية السابقة بَيَّن سبحانه تحريم الصيد في وقت معين ومكان معين، وحال معينة، وهذا في البيت الحرام وفي الأشهر الحرم المخصصة للحج، كما قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ معْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ. . .).
وفى هذه الآية بَيَّن سبحانه وتعالى المحرمات من الحيوان الذي كان في أصله حلالا، ولكن كان التحريم فيه سببه مقترنا بهلاكه، مما يهلك بموت من غير ذبح، وكذلك بعض أجزائه، وبين تحريم حيوانات أخرى وبعض الأفعال التي تقترن بالذبح عند الذين أباحوا الميسر لأنفسهم، ولذلك قال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ) هذه الآية تبين تحريم أربعة أنواع، هي الميتة وما هو في حكمها مما يقتل ودمه لَا يخرج منه، والثاني الدم، والثالث لحم الخنزير، والرابع ما أهل لغير الله به وما ذبح على النصب، وحرم مع هذا فعلا يقترن بالذبح، وهو الاستقسام بالأزلام، أي قسم اللحم بطريق الأزلام، وهي الأقداح التي تستعمل في الميسر، أو كانت تستعمل عند العرب.(4/2027)
والميتة: الحيوان الذي يموت، وكلمة " الميتة " وصف والموصوف هو الجثة، فإن كل جثة لَا تجري فيها الحياة تكون ميتة، والمراد من الميتة هنا ما يموت من غير فعل فاعل، والميتة غالبا تكون مستقذرة في ذاتها تعافها النفس وينفر منها الطبع، وهي رجس قذر، يكون فيه تعفن، أو على الأقل يسارع إليه التعفن، وهي فوق أنها خبث يكون في الغالب سببه مرضًا قد اعترى جسمه، وقد يكون بجرثومة تبقى بعد الموت أمدا غير قصير، ولأن الميتة يكون دمها فيها وقد فسد، ولذلك كله حرمت، فهي قذارة وفيها ضرر كبير.
والدم الذي جاء النص الكريم بتحريمه هو الدم المسفوح، الذي نص عليه في قوله تعالى في سورة الأنعام: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. . .).
والمراد بالمسفوح: الذي يسفح ويراق من الحيوان، وإن غلظ وتماسك من بعد ذلك، فالدم الذي يكون جامدا بأصل خلقته وتكوينه كالكبد والطحال يكون حلالا، كما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أحلت لنا ميتتان حلالان: ودمان حلالان الكبد والطحال، والسمك والجراد " (1).
وكان تحريم الدم لأنه ضار، إذ إنه يعسر هضمه، وسريع التعفن، ويحمل كثيرا من جراثيم الأمراض، ولا يمكن تنقيته من هذه الجراثيم كاللبن إذ يغلى.
وإن دم الحيوان السليم قد ينقل إلى الإنسان محفوظا مصونا من غير أن يتعرض للهواء فيزيدة قوة أو يعوضه عما فقده، ولكنه لَا يمكن أن يكون غذاء يتناول بالفم، ويمر على الجهاز الهضمي، إذ إنه لَا يكون قابلا للتمثيل في الجسم فوق ما يسري إليه من جراثيم تفسده وأن النفس الفطرية تعافه.
________
(1) رواه ابن ماجه: الأطعمة - الكبد والطحال (3314)، وأحمد: مسند المكثرين من الصحابة (5690) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ؛ فَأمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَأمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطحَالُ ".(4/2028)
ولحم الخنزير: حرام لأنه مستقذر، تعافه الفطرة كالميتة والدم، إذ إنه يلازم القاذورات ويتغذي منها، ولهذا المعنى حرمت البهائم الجلالة التي تأكل الجلة وتتغذى بها، فقد روي عن ابن عمر أنه قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الجلالة وألبانها " (1) وهذا النهي للكراهة عند بعض الأئمة، وللتحريم عند الآخرين، وقالوا: لَا تؤكل حتى تحبس، وكان ابن عمر يحبس الدجاجة ثلاثا، ولا يرى بأكلها بعد ذلك بأسا.
وإن المقصد من ذلك ألا يأكل المؤمن إلا طيبا لَا خبث فيه.
وإن كون لحم الخنزير ضارا فهو أمر قد قرره الطب، فلحمه يولد كثيرا من الديدان، كالدودة الوحيدة والشعرة الحلزونية التي تجيء إليه من أكل الجرذان الميتة، وإنه عَسِر الهضم لَا تكاد النفس تستسيغه، والجهاز الهضمي لَا يهضمه، وإن الذين يستطيبونه قد فسدت أذواقهم، والعادة هي التي سهلت استساغته، وكثير من المستقذرات تسهل العادة تناولها، وقد وصفه القرآن الكريم بأنه رجس، وقد صدق فيه الوصف، فهو ضار ضررا بليغا، ومستقذر استقذارا شديدا مهما يقل فيه الذين فسدت أذواقهم. .
(وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) الإهلال: هو رفع الصوت، وأصله رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم أطلق على رفع الصوت لأمر يدعو إلى رفعه، ومنه أهلَّ فلان بالحج إذا رفع صوته بالتلبية والدعاء في كل مكان يناسب ذلك، وعند البيت الحرام، والإهلال لغير الله عند الذبح أن يذبحوا باسم صنم من الأصنام، وإن ذلك فيه عبادة لغير الله تعالى، فنهى عن أكل ما يذبح لذلك منعا لهذا العمل الذي هو شرك بالله تعالى، وكان النهي عن الأكل لأنه ذريعة إلى المنع المطلق. والتحريم في هذا ليس لذات الحيوان، بل لما صحبه من عمل فيه شرك بالله تعالى، وفسوق عن أمره سبحانه وتعالى.
________
(1) رواه الترمذي: الأطعمة - في أكل لحوم الجلالة وألبانها (1824)، وأبو داود: الأطعمة (3785)، وابن ماجه: الذبائح - النهي عن لحوم الجلالة (3189)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.(4/2029)
ولذلك كان تحريم الميتة والدم والخنزير، لأنها رجس، وهذا حرِّم لأنه فسق وإشراك، وهذا مؤدى قوله تعالى: (قُل لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّه رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ).
وإن الذبيحة إنما تحرم إذا كان قد ذكر غير اسم الله تعالى عليها، وإنها حلال إذا ذكر اسم الله تعالى عليها، ولكن إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليها، ولم يذكر غيره، وكان الذابح مسلما، وكان الذبح في مكان لَا يبدو أن فيه تقربا لغير الله تعالى أتكون الذبيحة حراما أم لَا تكون؟.
قال بعض الفقهاء: لَا تحل لقوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. . .)، فإذا لم يذكر اسم الله، فذلك من مواضع النهي.
وقال آخرون: إن موضع التحريم هو فيما أهل لغير الله به، والآخر على أصل الحل، ويدل على ذلك القصر في التحريم في قوله تعالى: (قُل لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا ... ). وبقصر النهي في قوله تعالى: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. . .)، على حال ما إذا ذكر غيره وما كان قبل النهي وبعده يزكي تفسيره بذلك، وسنبين ذلك عند الكلام في هذه الآية إن شاء الله تعالى.
(وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ).
الْمُنْخَنِقَةُ: هي التي تموت بخنق إما باختناقها من وثاقها، أو يخنقها غيرها ويتركها حتى تموت.
والموقوذة: هي التي وقذت بحجر، أو تضرب بعصا حتى تموت من غير تذكية شرعية، فالوقذ الرمي، والضرب الشديد. . وما يرمى بالسهم، فيموت أيعد موقوذا أم لَا يعد؟ روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا رميت بالمعراض (السهم الذي قد يصيب بعرضه لَا بحده) فخزق فكُلْهُ وإن أصابه بعرضه فلا تأكله، فإنه(4/2030)
وقيذ " (1) ومؤدى الحديث أن السهم إن اخترق الجسم وأسال الدم يؤكل الضروب وإلا فإنه لَا يؤكل، فالعبرة إذن بإسالة الدم، فإن أساله أكله، وإلا فلا يؤكل.
والمتردية: هي التي تموت بسبب سقوطها من مكان مرتفع في مكان منخفض، كالتي تسقط من جبل في هاوية، أو تسقط في بئر فتموت.
والنطيحة: هي الحيوان الذي يموت من نطح أو اصطدام، فهي فعيلة بمعنى مفعولة، كذبيحة بمعنى مذبوحة، وقد كان العرب يأكلون كل هذه الأصناف الأربعة، فجاء الإسلام وحرمها، والحقيقة أنها من نوع الميتة؛ لأنها تموت ودمها محبوس فيها لم يخرج منها، ويصح أن تدخل في عموم الميتة؛ ولذلك جاء الاقتصار على ذكر الميتة في قوله تعالى:
(قُل لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمهُ. . .)، وهي بلا شك داخلة في عموم كلمة الميتة.
وما أكل السبع: المراد به ما افترسه ذو ناب وأظفار من سباع الحيوان كالأسد والنمر والذئب والثعلب والضبع، وغيرها من الحيوان، فما افترسه حتى مات يكون حراما سواء أكل منه أم لم يأكل، وذلك لأنه افترسه ليأكله، فأطلق اسم السبب وأريد المسبب، ولإطلاق السبب هنا معنى، ذلك أنه افترسه ليأكله، فيخرج بذلك الكلب المعلَّم الذي أطلق ليصطاد لصاحبه وسمى عند إطلاقه، فهو يفترس لا ليأكل، بل لمن أطلقه، وقالوا: إنه إذا افترسه ليأكله هو بأن أكل أكثره فإنه لا يحل الباقي لمن أطلقه.
وقد استثنى من المحرمات السابقة حال التذكية الشرعية، وهي الذبح أو ما يشبهه مما يريق الدم، ويصفيه، ولذا قال تعالى: (إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ) أي أن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما افترسه السبع إذا أُدرك وهو حي، وذُكي التذكية
________
(1) رواه البخاري: الذبائح والصيد - صيد المعراض (5476). والوقيذ والموقوذ: ما يقتل بغير أداة حادة. راجع أطرافه في البخاري ومسلم، من رواية عدي بن حاتم رضي الله عنه.(4/2031)
الشرعية وأريق دمه، فإنه يكون حلالا. . بسبب هذه التذكية، فهو وما ذُكي ابتداء وهو قوي قادر - على سواء (1)؛ لأن التذكية الشرعية وهو حي هي سبب الحل، وقد تحقق في الحالين.
(وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) النصب: اسم مفرد لحجر كان ينصب فيعبد، وتصب عليه دماء الذبائح، ويشرح اللحم ويوضع عليه، وكانوا يفعلون ذلك تقربا إليها، أو ليتقربوا عن طريقها، فنهى الله تعالى عن أكل ما يذبح على هذه الحجارة قطعا لدابر الوثنية والأفعال التي تؤدي إليها، وتحريم هذا هو من قبيل تحريم ما أهل لغير الله تعالى، فالمعنى فيهما واحد، والتحريم ليس لذات الشيء المذبوح، ولكن لما اقترن بالذبح من آثام وفسوق عن أمر الله تعالى.
والفعل الذي حرمه الإسلام من غير أن يتعرض لتحريم اللحم هو ما جاء في قوله تعالى:
(وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ) فقد وصفه سبحانه وتعالى بأنه فسق، والأزلام جمع زلم، وهو القدح من أقداح الميسر، وهي عشرة أقداح، منها ثلاثة غفل ليس فيها ما يدل على مقدار يؤخذ، وسبعة فيها مقادير تبين مقاديرها، فإذا عقر الجزور (2)، قسم على مقدار ما يشتمل عليه من أجزاء ثم ضربت الأقداح، فمن يخرج له منها قدح يأخذ بمقدار ما يشتمل عليه، وبذلك يطلب كل واحد نصيبه من الجزور بهذا القمار، وقد وصف الله تعالى ذلك الفعل بأنه فسق، أي خروج على المبادئ الإسلامية، والتحريم منصب على الفعل، وليس منصبا على اللحم، وعلى ذلك إذا كانت الذبيحة قد ذكيت بالطريقة الإسلامية، وذكر اسم الله تعالى عليها، فإنها تكون حلالا، والتقسيم بهذه الطريقة يكون حراما.
________
(1) وهو قوي قادر: أي الحيوان قبل أن يصيبه ما أصابه، ما دام ذكي التذكية الشرعية قبل موته.
(2) الجزور: البعير. ذكرا كان أو أنثى. الصحاح (جزر).(4/2032)
(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) اليوم المعرف بأل التي هي للحضور، هو يوم عرفة؛ ذلك أن الآية كلها نزلت في يوم عرفة، وفيها بيان المحرمات، وقد ذكر سبحانه وتعالى عقب بيان هذه المحرمات بيانا قاطعا بين حياة جاهلية فيها أخباث، وحياة إسلامية نظيفة نزيهة ببيان قوة الإسلام، وعلوه في الأرض، وإذلال الشرك، وذهاب سطوته في أرض العرب، ومعنى قوله تعالى: (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَروا مِن دِينِكُمْ) أنهم يئسوا من القضاء عليه، وتغيير حقائقه، وسيطرة الشرك على المؤمنين، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع يوم عرفة، وهو يعرض الحقائق الإسلامية، ويشهد الله تعالى على تبليغها: " إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم هذه " (1) ويأس الشيطان هو يأس أوليائه من المشركين من أن يتغلبوا على ذلك الدِّين المكين الثابت، وإذا كان المشركون قد يئسوا من السيطرة، ووهنت قواهم، فإنه لَا تجوز مسايرتهم في أي أمر من الأمور؛ ولذا قال سبحانه (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) والخشية: خوف يشوبه تعظيم لما يخشى منه، والمعنى لَا تجعلوا للكافرين مكانا للهيبة أو الخوف أو التعظيم، فقد ضعفوا واستكانوا، وإنما الخشية كلها لله الذي نصركم وأنتم أذلة، وأعزكم وقد كنتم مستضعفين في الأرض، وخشية الله توجب طاعته، والأخذ بكتابه وسنة نبيه، وأن تباعدوا بينكم وبين ما كان في الجاهلية، وما عليه عادات الجاهليين، وأن تأخذوا بمبادئ الإسلام وحده، وأنه قد كمل الدين بيانا وعزة وسلطانا؛ ولذا قال تعالى:
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) هذه الآية آخر آيات القرآن الكريم نزولا، وقد نزلت في عرفة في حجة
________
(1) روى الترمذي: الفتن - دماؤكم وأموالكم (2159) عَنْ عَمْرِو بْنِ الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ لِلنَّاسِ: " أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إِلَّا عَلَى نَفْسِهِ، أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ عَلَى وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ عَلَى وَالِدِهِ، أَلَا وَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ أَيِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ فِي بِلَادِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا وَلَكِنْ سَتَكُونُ لَهُ طَاعَةٌ فِيمَا تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَسَيَرْضَى بِهِ " قَالَ أبُو عِيسَى: وَفِي الْبَاب عَنْ أبِي بكرَةَ وَابْنِ عَبَّاس وَجَابِر وَحِذْيَم بْنِ عَمْرو السعْدِيَ وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
ورواه ابن ماجه: المناسك - الخطبة يوم النحر (3055) عن عمرو بن الأحوص بنحوه.(4/2033)
الوداع، وقد مكث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد هذه الآية واحدا وثمانين يوما ثم قبضهُ اللَّهُ تعالى إليه، وفي هذا النص الكريم ذكر حقائق ثلاثا وهي: إكمال الدين، وإتمام النعمة، والرضا بالإسلام دينا.
ومعنى أكملت دينكم: أكملت بيان ما آمركم به وما أنهاكم عنه، وبينت ما يحل لكم وما يحرم عليكم، وأكملت الكتاب الذي تضمن شرعي، والذي هو حجتي عليكم، والحجة لكم في أمر دينكم، وأوضحت فيه الأدلة التي ترشدكم إلى تعرف ما تكون فيه حاجتكم، وما تعرفون منه بالاستنباط والتفكير مما تحتاجون إلى معرفته من أمر دينكم، وخلاصة القول: إن إكمال الدين هو إكمال بيانه. ومعنى إتمام النعمة: هو إتمام النصر، وإتمام السلطان، وذلك بفتح مكة، والسلطان في العرب، وإزالة دولة الأوثان، وجعل الكلمة العليا هي كلمة التوحيد.
ومعنى ورضيت لكم الإسلام دينا: رضيت الاستسلام لأوامري والانقياد لما شرعت لكم من أحكام، وما يجب عليكم التزامه من فرائض ومعالم وحدود (دِينًا): أي أمرا تدينون به وتطيعونه ولا تخرجون عنه، وهذا ما قرره ابن جرير، ويصح أن نقول: إن المعنى رضيت لكم التسليم بكل ما اشتمل عليه القرآن وما دعا إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - دينا تطيعونني بمقتضاه، والمعنيان متقاربان، وان اختلف التعبير، وعبر هنا بكلمة (رضيت) مع أن الأمر هنا أمر إيجاب وتكليف، وذلك للإشارة إلى أن المؤمن الذي يبلغ درجة المحبة لله تعالى يطيعه؛ لأن فيه مرضاته من غير نظر إلى التكليف الذي يتضمن الثواب والعقاب.
وقد جاء في تفسير ابن جرير الطبري: " فإن قال قائل: أو ما كان الله تعالى راضيا الإسلام لعباده إلا يوم أنزل هذه الآية؛ قيل لم يزل الله راضيا لخلقه الإسلام دينا، ولكنه جل شأنه لم يزل يصرف نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه، درجة بعد درجة، ومرتبة بعد مرتبة، وحالا بعد حال، حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه، وبلغ بهم أقصى درجات مراتبه، ثم قال حين أنزل هذه(4/2034)
الآية: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) بالصفة التي بها اليوم، والحال التي أنتم عليها منه اليوم دينا، فالزموه ولا تفارقوه، أي هذا الرضا كان ذكره أنسب عند الكمال.
وإن كان مصاحبا للشرع في مواضع نزوله.
وقد يسأل سائل لماذا ذكر الله سبحانه وتعالى قوله تعالت كلماته: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) في وسط آية محرمات الأطعمة، ومحللاتها كما سيجيء، ونقول إن ذلك تنبيه إلى يوم نزول هذه الآيات، باعتبارها آخر القرآن نزولا، فكان التنبيه إلى اليوم وهو يوم عرفات؛ لأنه ذكرى الكمال، وذكره في جملة معترضة أدعى إلى التنبيه والتذكير.
(فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) التحريمات السابقة كلها في حال الاختيار، أما في حال الاضطرار، بأن يكون الشخص مضطرا للأكل ليدفع عن نفسه الموت جوعا، فإنه في هذه الحال يجوز الأكل.
والمخمصة: المجاعة التي تورث ضمور البطن، وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الضرورة التي تبيح بعض هذه المحرمات بأن يجيء الصبوح والغبوق، ولا يجد ما يأكله، أي يجيء اليوم كله، ولا يجد طعاما يأكله (1)، وشرط رفع الإثم عن تناول المحرم للضرورة ألا يتجاوز حد الضرورة؛ لذلك قال تعالى (غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ) أي مائل إليه راغب فيه يتجاوز حد الضرورة، وهذا يتلاقى مع قوله تعالى في سورة البقرة: (. . . فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. . .).
ومعنى النص الكريم: فمن اضطر إلى تناول المحرم، وهو في حال جوع شديد وهو غير طالب لهذا المحرم، ولا يتجاوز حد الضرورة، فإن الله تعالى يرفع عنه الإثم؛ لأن الله تعالى غفور رحيم، فهو رحيم في جاده؛ ولذا جعل الضرورة مسوغه للمحذور، وهو غفور يغفر الذنوب ويفتح باب التوبة إحباده.
اللهم ارحمنا واغفر لنا، ولا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا.
* * *
________
(1) سبق تخريج ما في معناه من حديث.(4/2035)
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
* * *
كانت الآية السابقة في بيان المحرمات، وبعضها كانت العرب تستبيحه، فالخنزير كان مستباحا عند العرب، وكذلك أنواع الحيوان الذي لَا يذكى تذكية تهرق دمه، وتنقي اللحم والعظم من أوضاره، فكان ذلك التحريم دافعا لأن يتأثم بعض المسلمين، ويسألوا عن المحلل من الأطعمة واللحوم، بعد ذكر المحرم، وقد سألوا عن ذلك، كما يدل النص الكريم(4/2036)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
(يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ).
يتضمن السؤال معنى القول، كأن تأويل الكلام هكذا: يسألونك قائلين: ماذا أحل لنا؟ وكان التفاتا من الحاضر إلى الغائب للتنبيه ولتوجيه الذهن؛ ولأن في السياق حكاية عنهم، كما يقال: أقسم فلان ليفعلن كذا، فتضمن الحكاية جعل للتحدث بضمير الغائب موضعا، ولو كان الحديث بضمير الحاضر لكان له موضع أيضا، ولكن نسق القرآن أبلغ وأقوم، وأدعى للتنبيه والالتفات، وقوله تعالى:
(مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ) يصح أن نعتبر ماذا كلها اسم استفهام مبتدأ خبره جملة أحل لهم، وقد اختار ذلك الزمخشري في الكشاف، فقال: " و " ماذا " مبتدأ، و " أحل لهم " خبره، كقولك أي شيء أحل لهم " وموضوع السؤال هو ما أحل لهم من(4/2036)
مطاعم؛ لأن الآية السابقة كانت في محرمات المطاعم، فكان السؤال عما أحل منها بعد أن بين ما حرم منها من خبائث، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى أن طريق ْالتحليل هو التذكية الشرعية، ولذا كان الجواب في المطاعم الحلال، وبعض طرق التذكية، فقال تعالى:
(قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) أمر الله تعالى نبيه أن يتولى الجواب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبلغ للرسالة، وهو المبين لهم والمرشد، وهو المرجع، ومما يتفق مع مقام الرسالة أن يكون هو المجيب، ولكن إذا كان اتجاه الناس إلى ربهم والضراعة تكون الإجابة منه سبحانه من غير توسط أحد؛ ولذا قال تعالى:
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ. . .)، أمر الله تعالى أن يجيب هو سؤالهم الخاص بالحلال والحرام، لأنه يتعلق ببيان رسالته التي بعث بها، وعمله الذي يتولاه، وهو بيان الشرع للناس، والطيبات التي أحلت - هي غير المحرمات التي حرمت، وما تستطيبه النفوس، ولا تستقذره وتعافه، وبعض الفقهاء ومنهم المالكية فسروا الطيبات بالحلال الذي لم يحرم في نص من كتاب أو سنة، من غير نظر إلى أن الناس يستطيبونه أو لا يستطيبونه، وبعض آخر من الفقهاء ومنهم الإمام الشافعي قالوا: إن الطيب هو الذي تستطيبه النفوس ولا تستقذره، ولم يثبت تحريمه بنص، وعلو، ذلك لا يحل ما نص على تحريمه، لأنه خبيث قذر جاء النص بتحريمه، ولا يحل أيضا المستقذر الذي تعافه النفوس، كالخنافس وشبهها من هوام الأرض، ومثلها كل حيوان أو طعام يثبت ضرره بالإنسان طبيا أو يستقذره طبعيا، لأن هذا الدين دين الفطرة، فما تعافه النفوس المستقيمة لَا يكون حلالا، وعندي أن هذا هو المعنى المستقيم.
وقد بين سبحانه فيما أحل صيد الكلب ونحوه من الفهود والطيور؛ لأن ذلك كان من مواضع سؤالهم، فقال:(4/2037)
(وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) وبعض المفسرين قال: إن في الكلام محذوفا دل عليه السياق، وهو كلمة " صيد "، والمعنى أحل لكم الطيبات، وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح.
وبعض العلماء لَا يقدر محذوفا، بل يجعل الخبر هو الجملة الطلبية: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ) ويكون قوله تعالى: (مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ) حالا بعد حال، وصاحب الحال، ضمير الخطاب في قوله: (وَمَا عَلَّمْتُم) حال كونكم (مُكَلِّبِينَ) معلمين، وتقدير الكلام يكون هكذا. . وأحل لكم ما أمسكن لكم من صيد الجوارح؛ وذلك لأن الخبر محل الفائدة، ودخلت الفاء الخبر؛ لأن الجملة طلبية، ولأن ما موصولة، والفاء تدخل في خبر الموصول، مثل قوله تعالى: (مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا)، لتضمن الموصول أحيانا معنى الشرط.
والتكليب تعليم الكلاب - ومما يشبهها - الصيد، فهو اسم فاعل اشتق من الكلب، أو أخذ من الكلب باعتبار أن الكلب طيع ألوف أقرب الحيوان إلى تعلم الصيد، وقد قال تعالى ما يفيد تعليم كل حيوان له مثل خواص الكلب في الطاعة والمهارة، والاستعداد للتعلم، فقال تعالى: (مِّنَ الْجَوَارِحِ) وهذا يعم كل حيوان يمكن أن يعلم الصيد، والجارح معناه الكاسب، أي الحيوانات التي من شأنها أن تكسب صيدا كما يكسب الإنسان، أو معناه: الذي يخدش الجسم بالجروح، فإن ذلك لَا يستغني عنه الصيد، إذ إنه لَا يمكنه أن يسيطر على الحيوان غالبا إلا إذا جرحه بانيابه، وهذا هو الذي نختاره.
وقوله تعالى: (تُعَلِّمونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ) حال على اعتبار أن من مبتدأ، خبره (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)، وهي حال بعد حال كما أشرنا، وذلك الذي اخترناه، وعلى تقدير محذوف، والمعنى: صيد ما علمتم من الجوارح، تكون جملة تعلمونهن مما علمكم مستأنفة.(4/2038)
ومعنى هذه الجملة السامية: (تُعَلِّمونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُم اللَّه) أي أنكم تعلمونهن مما علمكم الله تعالى بإلهامكم تعليمهن والانتفاع بهن في الصيد، ومن للتبعيض، أي تعلمونهن جزءا مما أودعه الله عقولكم، أي تعلمونهن وسائل التحايل، والسبل المختلفة للاصطياد، وقد أوح الله غرائزهم القابلية للتعلم، وما أودعها إلا لتنتفعوا بها في التعليم. وقد اتفق العلماء على أن الصيد بالكلاب يجوز، ويحل ما تمسكه، وقال الجمهور: إن مثل الكلاب كل حيوان يصنع صنيع الكلب. وكل طير كذلك؛ لأن قوله تعالى (مِّنَ الْجَوَارِحِ) يعم كل حيوان يصنع صنيع الكلب، وكان التعبير بمكلبين؛ لأن الكلاب أكثر الحيوانات استعمالا لذلك، كما أشرنا من قبل، وقال بعض الفقهاء: إنه لَا يحل إلا صيد الكلاب، والأول أظهر وأوضح.
وقد استنبط الإمام مالك من هذا النص أن الكلاب طاهرة، وليست نجسة، وقال: كيف يحل صيدها وينجس لحمها؛ ورد بهذه الآية الخبر الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي جاء فيه " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا أولاهن بالتراب الطاهر " (1) والجمهور على أن حل صيده لَا يستوجب طهارته.
والأمر في قوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكمْ) للإباحة، ومعنى قوله تعالى: (أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ)، أي أمسكنه محبوسا عليكم، ولأجلكم، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله، وإن أمسك عليك وأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل، ولم يأكل منه، فكله " (2)، فإن أخذ الكلب ذكاة.
________
(1) رواه النسائي: المياه - تعفير الإناء بالتراب (337) وبنحوه رواه البخاري: الوضوء (167) ومسلم: الطهارة (418) كما رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد بالفاظ مقاربة.
(2) عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ أَمْسَكَ عَلَيْكَ، فَأَدْرَكْتَهُ حَيًّا فَاذْبَحْهُ، وَإِنْ أَدْرَكْتَهُ قَدْ قَتَلَ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ فَكُلْهُ، وَإِنْ وَجَدْتَ مَعَ كَلْبِكَ كَلْبًا غَيْرَهُ، وَقَدْ قَتَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيُّهُمَا قَتَلَهُ، وَإِنْ رَمَيْتَ سَهْمَكَ، فَاذْكُرِ اسْمَ اللهِ، فَإِنْ غَابَ عَنْكَ يَوْمًا، فَلَمْ تَجِدْ فِيهِ إِلَّا أَثَرَ سَهْمِكَ، فَكُلْ إِنْ شِئْتَ، وَإِنْ وَجَدْتَهُ غَرِيقًا فِي الْمَاءِ، فَلَا تَأْكُلْ ". رواه مسلم: الصيد والذبائح - الصيد بالكلاب العلمة (1929).(4/2039)
وعلى هذا قال الشافعي وأحمد: إذا أكل منه الكلب لَا يحل؛ لأنه لم يمسك على من أرسله، إنما أمسكه على نفسه، وقال الإمام مالك: ما دام قد عاد به ولو مأكولا منه، فقد أمسكه على صاحبه، وقد روي ذلك عن بعض الصحابة، كعبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وأبي هريرة، وسلمان الفارسي، وقد وردت أحاديث تفيد أنه يأكل منه صاحبه، وإن أكل الكلب منه.
والحنفية فصلوا تفصيلا حسنا في تفسير قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمُ) فقالوا: إن عاد بأكثره فقد أمسك على صاحبه، وإن عاد بأقله، فقد أمسك على نفسه، وبذلك يقع النهي عن الأكل الذي ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فكان تفصيلهم تفسيرا لقوله تعالى: (أَمْسَكْنَ عَلَيْكمْ).
والأحاديث الواردة في الباب تشترط كلها أن يذكر اسم الله تعالى عند الإرسال ليقوم الصيد مقام الذبح، وهذا هو قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّه عَلَيْه وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ).
ثبت من الأحاديث - وقد روينا بعضها - أن ذكر اسم الله تعالى يكون عند الإرسال، لَا عند الأكل، وإن التسمية عند الإرسال تقوم مقام التسمية عند الذبح، وإن الإرسال مع التسمية على من أرسله يكون كالتذكية الشرعية إلا إذا أدرك حيا، فإنه لَا بد من التذكية؛ لأن قيام التسمية والإرسال مقام التذكية لتعذرها، إذا جيء به حيا فإن التذكية ممكنة فلا يغني عنها ما يقوم مقامها، عند عدم إمكانها، والواو في العطف لَا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا، وذكرت آخرا لأنها من تقوى الله تعالى، فكان اقتراتها بالأمر العام بالتقوى من التنسيق البياني الحكيم، وهو الذي يتناسب مع الذكر الحكيم.
واختلف العلماء في التسمية عند الإرسال كاختلافهم في وجوب التسمية عند الذبح، فقال الظاهرية: إنها واجبة حملا للأمر هنا على الوجوب، ولقوله تعالى في مقام آخر: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. . .). وقال الشافعي: إنها مستحبة هنا، وقريب من ذلك قال الحنفية: إلا أن يكون الترك(4/2040)
عمدا، وقال المالكية: إنها إن تركت عمدا لَا تؤكل؛ لأنه لَا يبين أن الصيد للمرسل إلا إذا قصد ذلك، وتركها عمدا، ينافي القصد، وإن تركت سهوا فإنها تؤكل، لأن الحيوان المخصص للصيد يكون إرساله المقصود منه الأكل ولا يقصد سواه، إلا أن يقصد اللعب أو اللهو، وعندئذ يكون الترك عمدا لَا نسيانا.
وقد ذيَّل الله سبحانه وتعالى الآية بالأمر بالتقوى والتذكير بالحساب، وذلك لتذكير الناس عند الطعام بأن يكونوا في ظل تقوى الله تعالى بألا يسرفوا في الطعام فيفسدوا أجسامهم، وألا يتعدوا القدر المطلوب، أو لَا يأكلوا حق الغير، وما يكون محرما، لتعلق حق الناس؛ ولذلك يقول الله تعالى بعد الأمر بالأكل: (. . . وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ).
ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّه لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين).
* * *(4/2041)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ... (5)
* * *
الظاهر أن هذه الآية وما قبلها من آيات، من قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكَمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) نزلت في يوم واحد؛ ولذلك كان قوله (الْيَوْمَ أُحِلَّ) إلى آخره. . هو ذات اليوم في قوله تعالى: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ)، وقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى. . .) فهو يوم واحد؛ لأن المعرفة إذا أعيدت معرفة كان المقصود واحدا، وهذا الكلام السامي كله نزل يوم عرفة، وهو تسجيل لأحكام باقية إلى يوم القيامة، والطيبات هي ما ذكر في الآية السابقة، وهي الحلال غير المستقذر طبعا وفطرة، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل أيضا، والجمهور قد اتفقوا على أن الطعام هو الحيوان الحلال لقوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكمْ وَلِلسَّيَّارَةِ. . .)، ولقوله تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسِهِ)، ولقوله تعالى: (قُل لاُّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ محرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا).(4/2041)
وقد قال بعض الشيعة: إن المراد من الطعام هنا هو البُر، وغيره من الحبوب، والأطعمة غير الذبائح، أما الذبائح فلا تحل خشية ألا يذكروا اسم الله تعالى عليها، وفي الغالب يذكرون غيره.
والجمهور على حل ذبائح أهل الكتاب إذا أهريق الدم، وقد اتفق الجمهور على حل هذه الذبائح، والخلاف عندهم فيما عدا الذبائح التي ثبت حلها بالنص، وأما غير الذبائح فهو قسمان: القسم الأول: ما لَا عمل لهم فيه كالفاكهة والبر، وهو حلال بالاتفاق، والقسم الثاني: ما لهم فيه عمل وهو قسمان أيضا: أحدهما: ما يحتمل دخول النجاسات فيه كاستخراج الزيوت من النباتات أو الحيوانات، وهذا قد اختلف فيه الفقهاء، فمنهم من منعه لاحتمال النجاسة ومن هؤلاء ابن عباس؛ لأن احتمال النجاسة ثابت، وهو يمنع الحل، وقد تبع هذا الرأي بعض المالكية، ومن هؤلاء الطرطوشي، وقد صنف في تحريم جبن النصارى، ويجري مجرى الجبن الزيت، وعلى هذا الرأي يجري مجراها السمن الهولاندي وما شابهه. ولكن الجمهور على جواز ذلك ما دام لم يثبت أنه اختلط بهذا النوع من الطعام نجاسة.
والمحرم ما ثبت أنه قد دخله نجاسة، بأن دخله أجزاء من الخمر أو الميتة أو الخنزير، أو غير ذلك من المحرمات.
(وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) الإحصان يطلق على أربعة معان: الإسلام، ولا موضع له هنا؛ لأن الكلام في غير المسلمات، والثاني، التزوج، ولا موضع له هنا أيضا، لأن المتزوجة لَا تحل مسلمة أو كتابية، والثالث، العفة، والرابع، الحرية، وهذان المعنيان لهما موضع القول، فبعض الفقهاء قرر أن المراد بالمحصنات من أهل الكتاب العفيفات، ويكون الوصف للترغيب في طلب العفة، والعمل على الانتقاء والاختيار، وعلى هذا(4/2042)
الرأي يصح الزواج من الكتابيات، سواء أكن حرائر أم كن إماء، ويروى في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوج مارية القبطية، وهي أَمَة (1).
وبعض الفقهاء ومنهم الشافعية قالوا: إن المراد بالمحصنات من أهل الكتاب الحرائر، فلا يحل من نساء أهل الكتاب إلا الحرائر، وقد ذكر هذا بقوله تعالى:
(وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ. . .)،
فقيد زواج الإماء هنا بأن يكنَّ من المؤمنات، كذلك قيد زواج الكتابيات هنا بأن يكنَّ من الحرائر.
والشيعة يمنعون زواج الكتابيات، على اعتبار أنهن يشركن في عبادتهن، والله تعالى يقول: (وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مؤْمِنَةٌ خَيْرٌ من مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ. . .)، ولكن إجماع غير الشيعة قد انعقد على إباحة الزواج من الكتابيات.
وقد ذكر سبحانه وتعالى وجوب المهور لهن، فقال تعالى: (. . . إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ).
أي إذا آتيتموهن مهورهن، وسمي المهر هنا أجرا، لتأكيد وجوبه، وقد قال تعالى من قبل: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً. . .)، أي عطاء، فذكر الأجر في هذا المقام لكيلا يكون ثمة استهانة بأي حق من حقوقهن، كما أكد العمل على عفتهن بقوله تعالى: (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) أي طالبين بهذا الزواج الإعفاف، والصون لأنفسكم وأنفسهن، وحماية عرضكم وعرضهن، فمعنى الإحصان هنا العفة، بأن يجعل نفسه في حصن من الزنى، ويجعلها في حصن
________
(1) عن ابن عباس قال: لما ولدت مارية القبطية إبراهيمَ ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أعتقها ولدُها ". رواه الدارقطني (4148) ج 4، ص 132. قال ابن هشام: وأما إبراهيم فمن مارية القبطية التي أهداها له المقوقس صاحب إسكندرية من كورة أنصنا.(4/2043)
مثله، والسفاح الزنى، والمسافح كالمسافحة الذي يرتكب الفحشاء مع أي امرأة يلقاها، فيقضي معها الفحشاء. واتخاذ الخدن، أي اتخاذ الخليلة، وأن يختص بامرأة وتختص به من غير عقد نكاح مدة أو من غير مدة، وهذه هى المتعة بعينها التي تبيحها بعض الطوائف، وهي بقية من بقايا الجاهلية، والمعنى طالبين حصن الزواج غير طالبين الزنى العلني أو السري والله محيط بكل شيء.
وزواج الكتابيات قد يغري بالانحراف عن الدين كما نرى في عصرنا؛ ولذا كان عمر ينهى عنه كبار الصحابه كطلحة بن عبيد الله؛ ولذا حذر سبحانه من الكفر بعد هذه الإباحة فقد قال تعالى: (وَمَن يَكْفُرْ بالإِيمَان فَقَدْ حَبطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
أصل الحبط: هو تلف الدابة من كثرة ما تتناول من طعام لَا يناسبها، والإيمان هنا الشرائع والأحكام، والكفر بها الاستهانة بها وعدم الأخذ بما تدعو إليه، والمعنى: ومن ينحرف عن دينه، ولا يؤمن ويذعن لأحكام الإسلام فقد تلف ما كان يعمله من خير؛ وذهب، وهو في الآخرة من الخاسرين، ولم يقل سبحانه في هذا المقام - ومن يكفر بالله - بل قال: (وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ) للإشارة إلى أن الإغراء بإفساد الدين من جهة النساء يبتدئ بالأعمال، ثم ينتهي إلى العقيدة، وهو سبحانه الذي يقي النفوس من الزلل، ويحفظها من الشر، اللهم احفظ قلوبنا فلا تزيغ، ونفوسنا فلا تنحرف، وعقولنا فلا تضل، إنك سميع الدعاء.
* * *(4/2044)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ(4/2044)
أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
* * *
كانت الآيات السابقات، في بيان ما يحل وما يحرم من الأطعمة، ومن يحل من النساء، وذلك يتعلق بغذاء الأجسام وتبعتها، وإن هذه الآية الكريمة لبيان غذاء الروح، وهو الصلاة، ففي الأوليات غذاء الأبدان، وفي هذه غذاء النفوس، وفوق ذلك إن هذه الآية بيان للوضوء والاغتسال، وما يقوم مقامهما، وهذان يكونان من نتائج الغذاء والزواج، فكان التلازم بينهما ثابتا، لأن نواقض الوضوء والجنابة إنما تكون من نتائج الطعام في هذه الدنيا، ومن نتائج متعة الزواج بما يكون بين الزوجين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) النداء للمؤمنين، والمنادى به الاستعداد للصلاة، بأخذ وسيلتها، وهو الوضوء والاغتسال إن كان ما يوجبها.
وكان النداء بوصف الإيمان للإشارة إلى أن الصلاة ركن الإسلام الركين، حتى إن بعض الحنابلة قرر أن من تركها عامدا، وداوم على تركها لَا يكون مسلما، وأجمع المسلمون على أن من أنكر فرضية الصلوات الخمس بركعاتها يكون كافرا، ولا يدخل في زمرة المسلمين. كشأن من ينكر أمرا من الدين بالضرورة.
وقوله: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) في ظاهرة أن القيام إلى الصلاة سابق على الوضوء على أن الوضوء سابق على الصلاة، وقد أجاب عن ذلك الزمخشري في الكشاف بجوابين:(4/2045)
أولهما - أن المراد من القيام إرادة القيام، وعلل التعبير عن إرادة الفعل، بكلمة تدل على الفعل بأن ذلك من قبيل المجاز؛ لأن إرادة الفعل سبب الفعل، وقد يطلق المسبب ويراد السبب، كمن يقول إن فلان أسكرني أي سقاني السكر، وفوق ذلك إن الفعل يوجده بالقدرة عليه، وإرادته له. وقصده إليه وميله له وخلوص دواعيه، وإن هذا كله يسوغ أنه يعبر عن الإرادة مع القدرة والقصد بذات الفعل، كقوله تعالى: (. . . كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نعِيدُهُ وعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ).
والجواب الثاني - أن قوله تعالى: (قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) معناه: تهيأتم لها واستعددتم، يقال: قام للأمر إذا تهيأ له وأخذ الأهبة للاستعداد له، والدخول فيه، ويرشح لهذا المعنى في نظرنا التعدية بـ " إلى "؛ إذ مؤاده استعددتم وتهيأتم متجهين للصلاة، وذلك لَا يكون بأدائها، إنما يكون بأخذ الأهبة لها، والسير إليها.
وإن هذا النص الكريم: (قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)، وما اشتمل عليه من عبارات يفيد أمرين بظاهره:
أولهما: أن الوضوء، وهو يشتمل على الأركان الأربعة وغسل الوجه واليدين ومسح الرأس، وغسل الرجلين لَا بد فيه من القصد إليه وإرادته، وعلى ذلك تكون نية الوضوء بالقصد إليه لأجل الصلاة، باعتبار أن قصده لأجل الصلاة، لَا للنظافة ونحوها - لَا بد منها لتحقق الوضوء لأنه للتهيئة لأجل الصلاة.
وقد قال مالك والشافعي؛ وأحمد والليث بن سعد؛ وإسحاق بن راهويه، وأئمة آل البيت: إن النية ركن من أركان الوضوء ومعناها القصد إلى الصلاة بالوضوء طالبا رضا الله تعالى، وقد فسرها البيضاوي بقوله: " النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا، والشرع خصصه بالإرادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضا الله تعالى، وامتثال حكمه ".(4/2046)
وعلى ذلك تكون النية المطلوبة في الوضوء عند الذين قرروها - القصد إلى الوضوء مبتغين رضا الله تعالى، ويستدلون على فرضيتها في الوضوء بأن الوضوء عمل من أعمال القربات، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " (1).
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن النية في الوضوء ليست بفرض، لأن الوضوء ليس عبادة مقصودة، ولكنه وسيلة للعبادة، والنية شرط في العبادة نفسها باعتبارها المقصد، وليست فرضا في الوسيلة، بل الوسيلة تتحقق بمجرد تحقق الغسل للأعضاء المذكورة والمسح للرأس، فمن حصل منه هذا، ولو لم يقصد العمل لأجل الصلاة يتحقق الوضوء، ويستدلون على أن الوضوء وسيلة للعبادة بظاهر الآية، إذا كان النص الكريم: (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) فهو شرع سبيلا لعبادة ووسيلة، وليس غاية.
والأمر الثاني الذي يفيده ظاهر النص (إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ): وهو أن الوضوء واجب عند التهيؤ والقيام لكل صلاة، فالوضوء واجب لكل صلاة، وبذلك قال الظاهرية، فقالوا: إن الصلاة واجبة لكل مفروضة، وأخذوا في ذلك بظاهر النص الكريم، ولكن الثابت في السنة غير ذلك، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم الفتح مسح على خفيه فصلى الصلوات الخمس بوضوء واحد، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه: " صنعت شيئا لم تكن تصنعه " فقال - صلى الله عليه وسلم -: عمدا فعلته " (2). ومعنى ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله عمدا في هذه الجموع الحاشدة ليبين أنه ليس بفرض أن يتوضأ لكل صلاة. فدل هذا على أن
________
(1) متفق عليه وقد سبق تخريجه.
(2) رواه الترمذي: الطهارة - يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد (61)، والنسائي: الطهارة - الوضوء لكل صلاة (133)، عن بريدة بن الحصيب، كما رواه أبو داود وأحمد وابن ماجه بلفظ: " عمدا صنعته ".(4/2047)
الوضوء لكل صلاة ليس بمطلوب على جهة الفرضية، وقد ادعى بعض الناس أن الوضوء لكل صلاة كان فرضا ثم نسخ وإن هذا الكلام منقوض؛ لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا، ولأن أحاديث الآحاد لَا تنسخ القرآن، ولأن الآية ليست قاطعة في وجوب الوضوء لأجل كل صلاة.
والذي نراه أن الآية في الذين قام بهم موجب الوضوء من إحداث ما ينقض الوضوء السابق، والدليل على ذلك قوله تعالى:
(وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) فدل هذا بصريح اللفظ على أن موجب التيمم هو إحداث الحدث الموجب للوضوء، إذا لم يكن الماء، فيقوم التراب مقام الماء، وهذا يدل على أنه لَا يكون الوضوء واجبا للصلاة إلا إذا حدث نقض للوضوء السابق، والآية بيان واحد يتمم بعضه بعضا.
(فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن) ولنذكر هذه الأركان ركنا ركنا وقبل ذلك نذكر أمرين:
أولهما: أنه في قوله (وَأَرْجُلَكُمْ) فيها قراءتان إحداهما بفتح اللام على حذف فعل، والمعنى: امسحوا برءوسكم واغسلوا أرجلكم، والثانية - قراءتها بكسر اللام عطفا على قوله تعالى: (بِرُءُوسِكُمْ) (1) والمعنى: هو الغسل لَا المسح، بحمل القراءة الثانية على القراءة الأولى، ويكون السبب في عطفها على الرءوس، للإشارة إلى وجوب عدم الإسراف، لأن الرجلين مظنة الإسراف في الماء، فعطف وجوب الغسل فيها على وجوب المسح لمنع الإسراف، بحيث يكون الغسل ليس بعيدا بُعدا تاما عن المسح.
________
(1) (وأرجلَكم) قرأها بالفتح: ابن عامر، ونافع والكسائي، ويعقوب وحفص، وأبو زيد عن المفضل عن عاصم، والأعشى إلا النقار، وقرأ الباقون بالجر. غاية الاختصار - سورة المائدة - (799).(4/2048)
والغسل إسالة الماء على العضو، وإمراره عليه، والمسح إمرار اليد المبللة بالماء عليه.
والأمر الثاني: الترتيب بين هذه الأركان بحيث يُغسل الوجه أولا ثم اليدان ثانيا، ثم من بعدها مسح الرأس، ثم غسل الرجلين، وقد قال الجمهور بوجوب ذلك؛ لأنها ذكرت مرتبة في القرآن، وعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على ذلك الترتيب دائما، والنبي هو مفسر القرآن، ولو كان الترتيب غير لازم لخالفه النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو مرة واحدة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: الترتيب ليس بفرض؛ لأن الآية كان العطف فيها بالواو، والواو لَا تقتضي ترتيبا ولا تعقيبا.
ومما يتصل بهذه أيبتدأ في غسل الأيدي والرجلين باليمين وجوبا، أم أن ذلك سنة؟ الجمهور الأعظم على أن التيامن سنة وليس بفرض، ومذهب الشيعة وجوب التيامن في الطهارة.
والموالاة في الوضوء، قد ذهب الأوزاعي ومالك وأحمد إلى وجوبه، وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى سنيته، وعندي أن الموالاة هي الأمر المعقول، وأنه إذا قطع المتوضى وضوءه بعمل أجنبي، وجب استئنافه مبتدئا بأوله.
ولنذكر كل ركن، ونبدأ بالأول وهو غسل الوجه، وهو معروف، ولكن الفقهاء يذكرون له تعريفا، وحدا، فحده من أعلى تسطيح الجبهة إلى أسفل اللحيين طولا، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن عرضا.
وموضع النظر عند الفقهاء هو في وجوب غسل الوجه أيجب غسل الظاهر والباطن فيه، وبعبارة أوضح أيدخل في الغسل المضمضة والاستنشاق، أم أنهط سنتان زائدتان؟ قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور وابن المنذر، وبعض فقهاء الشيعة إن المضمضة والاستنشاق من غسل الوجه، والجمهور على أنه لا يدخل في غسل الوجه إلا ظاهره، وقول أحمد ومن معه.(4/2049)
واليدان ينتهيان إلى المرفقين، والمرفقان: ملتقى عظم العضد بعظم الذراع، وهل يدخل المرفقان في الوضوء فيجب غسلهما. قال ابن جرير الطبري وبعض الفقهاء: إن غسل المرفقين ليس بفرض ولكنه سنة؛ لأن الغاية في قوله تعالى: (إِلَى الْمَرَافِقِ) تحتمل أن يدخل المرفقان في الوجوب، وتحتمل ألا يدخلا، ولا وجوب مع الاحتمال، ولكن الاحتياط في الغسل؛ ولذا كان سنة. وقال بعض الفقهاء: إنهما داخلان في وجوب الغسل، وبنى ذلك على أن (إِلَى) بمعنى (مع) وعلى ما قرره سيبويه مع بعض علماء اللغة من أن ما بعد " إلى " إذا كان من نوع ما قبلها دخل في الحد، وإلا لَا يدخل، وعلى ذلك يكون المرفقان داخلين؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لازم في وضوئه غسل المرفقين، ولم يعرف أنه غسل اليدين من غير المرفقين؛ ولأن جعل ما قبل المرفقين حدا، لَا يكون أمارة واضحة، والأمارات يجب أن تكون معلمة مادية واضحة.
والكعبان هما الجزءان البارزان في أعلى القدم، والخلاف في دخولهما هو كالخلاف في دخول المرفقين، والحجة واحدة.
والمسح يكون في الرأس، لقوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ) وقد اتفقوا على أن مسح الرأس كله مطلوب، ولكن على أنه سنة عند الجمهور، وعند مالك مطلوب على وجه الفرضية.
والشافعي قال: إن المطلوب مسح بعض الرأس؛ لأن الباء للبعضية، وقال الثوري والأوزاعي والليث: يجزئ بعض الرأس ويمسح المقدم، وعلى هذا أحمد والناصر والباقر والصادق من أئمة آل البيت، وقال أبو حنيفة: يمسح ربع الرأس مستدلا بما روى من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى كناسة قوم فبال وتوضأ ومسح في وضوئه على ناصيته (1)، والناصية تساوي ربع الرأس.
________
(1) عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: " كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْتَهَى إِلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا " فَتَنَحَّيْتُ فَقَالَ: «ادْنُهْ» فَدَنَوْتُ حَتَّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبَيْهِ «فَتَوَضَّأَ فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ " رواه مسلم: آلطهارة - الرخصة في ذلك (13)، كما رواه البخاري: الوضوء - البول قائما وقاعدا (224) بغير زيادة " فمسح على خفيه ". والسباطة: موضع رمي التراب والأوساخ. وقد رواه أصحاب السنن بمثل رواية مسلم.(4/2050)
وبعد بيان الوضوء بيَّن سبحانه الاغتسال وموجبة فقال تعالى: (وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطهَّرُوا).
كلمة جنب: وصف للرجل والمرأة، والجمع والمفرد، فيقال: رجل جنب وامرأة جنب ونساء جنب، وهو لفظ مشتق من الجنابة وهي ما يكون بسبب الاتصال بين الرجل والمرأة، وسمي ذلك جنابة لأنه يجنبهما الصلاة، ولما يكون من معنى التقارب بينهما بحيث يكون أحدهما بجنب الآخر، وفي حكم الجنابة بهذا المعنى الحيض والنفاس، ومعنى النص الكريم: أنه لَا بد من التطهر من الجنابة عند القيام للصلاة والاستعداد لها، والتطهر: هو الاغتسال وهو العناية بصب الماء على كل جزء يمكن أن يصل إليه، فالضمضة والاستنشاق لَا بد منهما في الوضوء، وتوصيل المياه إلى منابت الشعر بالنسبة للرجال لازم باتفاق الفقهاء، أما بالنسبة للنساء فقد قال بعضهم ومنهم الحنفية قالوا: إنه إذا كان للمرأة ضفائر لا تحل عند النساء دفعا للحرج، ولكن تحل عند الرجال (1)، وعلى أي حال لَا بد من صب الماء صبا، ولا يكتفى بالمسح.
والتعبير بكلمة " فاطهروا " فيها إشارة إلى وجوب العناية في تعميم الماء وإشارة إلى أن النجاسة المعنوية عمت كل أجزاء الجسم، فوجب أن تكون الطهارة عامة لكل أجزاء الجسم.
وإن غسل الجسم عند توافر سببه، وهو التماسّ أو الحيض أو النفاس - فيه إنعاش للجسم وتعويض بعد الإنهاك الشديد، فوق ما فيه من نظافة، واستمرار لها باستمرار موجبها.
وبعد أن بيَّن سبحانه وجوب الوضوء والتطهر بالماء ذكر ما يحل محل الماء إن لم يوجد أو تعذر استعماله، فقال تعالت كلماته:
________
(1) روى مسلم: الحيض - حكم ضفائر المغتسلة (330) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي فَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةِ؟ قَالَ: " لَا. إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِي عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِينَ عَلَيْكِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ ".(4/2051)
(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) ذكر في هذا النص أمورا أربعة اثنان من الرخص المسقطة لاستعمال الماء، واثنان من الأسباب الموجبة لاستعمال الماء مع عدم وجوده من غير مرض أو سفر، أما الأمران المرخصان لعدم استعمال الماء، فهما المرض الذي يضره الماء كالأمراض الجلدية، أو يمنع من الوصول إليه أو استعماله، كبعض الأمراض التي توجب عدم الحركة أو تمنعها، فهاتان رخصتان تسوغان استعمال التراب بدل الماء، والسفر رخصة لذلك، لأنه مظنة عدم وجود الماء، أو لأنه إذا وجد فلحاجة بدنية أخرى غير الوضوء، وهي تقدم عليه لأنها تدفع الموت عطشا أو احتماله، والله غفور رحيم.
ثم ذكر الله سبحانه وتعالى قاعدة لتسويغ التيمم، وهي ما إذا حدث المسبب الموجب ولم يوجد الماء، فقال:
(أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً) واللفظان الكريمان كنايتان عن أمور يستهجن ذكرها في بليغ الكلام، فمعنى جاء أحد منكم من الغائط كناية عن كل نواقض الوضوء التي تخرج من السبيلين، والغائط: هو الأرض التي يذهب إليها الرجل ليقضي حاجته. ومعنى لامستم النساء: كناية عما يكون بين المرء وزوجته مما يوجب الاغتسال، وهي كناية قرآنية علَّم الله سبحانه وتعالى الناس منها حسن التعبير وعدم الرفث في القول. وهنا إشارتان بيانيتان: إحداهما: في التعبير بـ " أو " في قوله: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكُم) بدل الواو، إذ إن " أو " فيها معنى الإضراب والانتقال من الخاص إلى العام، وكأنه قيل إذا كنتم في مرض أو سفر لَا يمكن معهما استعمال الماء بيسر وسهولة أو بشكل عام حدث ما يوجب الوضوء أو الاغتسال، فلم تجدوا ماء فتيمموا إلى آخره - الثانية: أن قوله تعالى: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ منكُم مِّنَ الْغَائِطِ) بلفظ المفرد إشارة إلى وجوب الذهاب إلى قضاء الحاجة فرادى، والعودة فرادى للاستتار.(4/2052)
(فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ) التيمم: القصد، والصعيد: التراب الذي يكون على ظاهر الأرض أو نحوها، والطيب: الذي لا نجاسة فيه، والتيمم لَا بد فيه من النية باتفاق الفقهاء، وله ركنان: أحدهما: مسح الوجه، والثاني: مسح اليدين إلى الرسغين أو إلى المرفقين على الخلاف في ذلك، ويكون التيمم بضربة واحدة، وقيل بضربتين، وقد ذكرنا ذلك في مثل هذه الآية في سورة النساء، وبينا ما يتعلق بمعاني التيمم في هذه الآية.
(مَا يُرِيدُ اللَّه لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هذا الكلام يفيد النفي المؤكد بأنه ليس في الدين حرج، أي ضيق ومشقة، وقد تأكد النفي بنفي الإرادة، وهي نقيض نفي الوقوع، وبحذف موضوع الإرادة، وهذا يقتضي عمومه والمعنى لَا يريد الله سبحانه أي أمر فيه مشقة أو ضيق لكيلا يترتب عليه أن يكون عليكم حرج وضيق في الدين، وتأكد النفي باللام في قوله: (لِيَجْعَلَ عَلَيْكم) فهي التي تسمى لام الجحود أي النفي المؤكد، والمعنى: ما كان من أمر الله تعالى في عباده أن يجعل الدين عليهم فيه مشقة مجهدة أو ضيق وحرج؛ ولذا شرع التيمم بدل الوضوء، وغير ذلك مما ييسر العبادات ويسهلها، كما قال تعالى: (. . . يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكمُ الْعُسْرَ. . .)، ولكن يريد الله لكم طهارة الجسم من الأرجاس، وليرحض عنه الأوساخ، وطهارة النفس وتزكيتها بالإخلاص لله تعالى، وليتم نعمته عليكم بالتيسير والتسهيل والمداومة على الطاعات، والتأليف بالعبادات بين جماعتكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي يعدكم ذلك الإعداد الطاهر النزه في الجسم والروح لتكون حالكم حال من يرجى منه شكر النعمة، والاستمرار على طاعة الله وتنفيذ أوامره. . اللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين.
* * *(4/2053)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى ما به غذاء الأبدان، وهو كل طيب لَا خبث فيه، ثم أشار إلى ما فيه غذاء الأرواح وطهارة الأبدان، وهو الصلاة والوضوء لها، والاغتسال عند الإقدام عليها، فذكر الأطعمة الحلال، وذكر ما به بقاء أنس البشرى، وهو الزواج، ثم الوضوء وأركانه، والاغتسال والتيمم، وبعد أن ذكر ذلك الغذاء الفردي من جسم وروح ذكر الثمرة الطيبة لذلك، وهي بناء مجتمع إنساني سليم، أساسه الثقة والعدالة، وابتدأ سبحانه وتعالى بذكر نعم الله، ثم بذكر العدالة التي هي قوام هذا الوجود الإنساني، فقال تعالى:
(وَاذْكرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكمْ وَمِيثَاقَهُ الَذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) الخطاب في هذه الآية للذين آمنوا، فهو امتداد للسياق الذي كان يتعلق بالصلاة، وما قبله من بيان الحلال والحرام كان يتعلق بالذين آمنوا، فالآية الكريمة سائرة على هذا النسق البياني الرائع، والأمر في الآية لطلب تذكر أمرين جليلين، وهما نعمة الله تعالى التي أنعمها على المؤمنين، وهي آلاء جليلة عظيمة، وتشمل نوعين من النعم، عامة وخاصة، فالعامة تعم الناس جميعا مشركهم ومؤمنهم، وهي نعمة الوجود، وتسخير الكون بكل ما فيه لبني الإنسان، والخاصة ما أسداه الله تعالى إلى المؤمنين، إذ هداهم وإذ كانوا قليلا فكثرهم، وكانوا متفرقين(4/2054)
فجمعهم، وكانوا أذلاء فأعزهم، وكانوا فقراء فأغناهم، وكانوا مستضعفين فيِ الأرض، فمكَّن لهم فيها بمنه سبحانه وفضله، كما قال تعالى: (. . . فَأَلَّفَ بَيْن قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ. . .).
والأمر الثاني الذي ذكرهم الله تعالى به هو الميثاق الذي عقدوه مع الله تعالى، والميثاق في اللغة: هو العقد الموثق المؤكد بيمين الله تعالى، وقد كان العهد من جانبهم يوجب عليهم السمع والطاعة فيما يأمرهم به الله تعالى، وفيما ينهاهم عنه، فالعهد فيه التزام من جانبهم، وهو السمع والطاعة، ووعد من جانب الله تعالى بأن يوليهم نعمه، ويهبهم النصر من لدنه، وهو العزيز الحكيم، وقد أكد سبحانه وتعالى ذلك العهد، بقوله: (الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ) أي الذي عقده سبحانه وتعالى معكم، وتبادل معكم توثيقه وتأكيده؛ إذ إن واثق تقتضي المبادلة، فالله تعالى ذو الجلال والإكرام هو الذي تولى ذلك الميثاق.
والمفسرون يتكلمون في الميثاق ما هو؛ قيل: هو الميثاق الذي أخذ بمقتضى الفطرة، ولكن ذلك الميثاق لَا يخص المؤمنين، بل يعم البشر، وقيل: إنه الميثاق الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل يثرب في العقبة (1)، ولكن هذا يخص الأنصار، ولا يعم المؤمنين، والحق أنه الميثاق الذي كان التواثق فيه على أساس التزام المؤمنين بالسمع والطاعة، كما عين النص الكريم موضوعه إذ قال سبحانه: (إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) أي في الوقت الذي التزمتم فيه بالسمع والطاعة، وقد اختار ذلك ابن جرير (وهو قول ابن عباس) وقال في اختياره: " وأولى الأقوال بالصواب في تأويل
________
(1) عن عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: " بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ " فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ. رواه البخاري: الإيمان - علامة الإيمان (18)، ومسلم: الحدود (1709).(4/2055)
ذلك قول ابن عباس وهو أن معناه واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله تعالى عليكم التي أنعمها بهدايته للإسلام، وميثاقه الذي واثقكم به، يعني وعهده الذي عاهدكم به، حين بايعتم رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة له في المنشط والمكره، والعسر واليسر إذ قلتم: سمعنا ما قلت لنا، وأخذت علينا من المواثيق، وأطعناك فيما أمرتنا به، ونهيتنا عنه ". . . إلخ.
وكان التذكير بهذين الأمرين ليقوم المؤمنون بحقهما، فيما يتعلق بمعاملة الغير، وفي علاقتهم بالناس من حيث إقامة العدالة لذات الله تعالى لَا يريدون إلا وجهه الكريم، وليكون القسط والميزان أساس أعمالهم.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) بعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بنعمه عليهم وميثاقه الذي واثقهم عليه، على أساس السمع والطاعة، طلب إليهم أمرا آخر هو أساس الاستجابة للميثاق، وهو تقوى الله تعالى بأن يستشعروا دائما عظمته، ويتخذوا وقاية لأنفسهم من معصية الله تعالى، فإن التقوى هي أساس الطاعة، وهي لب الاستجابة لما جاء في ميثاق الله تعالى، وهو أعلى ميثاق في الوجود، لَا ميثاق يدانيه إلا إذا كان مشتقا منه، بأن يكون أساسه السمع والطاعة لله في المنشط والمكره، وفي العسر واليسر، وإن التقوى لله موضعها القلوب، وهي التي تحرك الجوارح، فلا طاعة إلا إذا انبعثت من القلب عن طواعية ورضا واطمئنان؛ ولذا قال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) وتكرار ذكر الله تعالى لإشعار المؤمنين برقابته، وإلى أنه فوقهم ومطلع عليهم، ومراقبتهم بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى، والله تعالى عليم علما لَا يدرك كنهه بكل شيء بما تخفيه وما تكنه الأفئدة. وذات الصدور هي: الأمور الملازمة للصدور التي تخفيها ولا تظهرها، فهي بالنسبة للصدور كالصاحب بالنسبة لصاحبه يلازمه ولا يبعد عنه، ولا ينكشف. فهي من ناحية أنها لَا تخرج من الصدر تعد مصاحبته، ويعبر عنها بذات الصدر، كما يقال: فلان ذو مال. أي ملازم له.(4/2056)
وذكر إحاطة علم الله تعالى في هذا فيه إشارة إلى وجوب تطهير القلوب من الدنس، وتنظيفها من الشر، حتى لَا تربد به وتطمس، وفيه تنبيه إلى أنه من يريد السمع والطاعة عليه أن يتجه إلى قلبه، ويشعر بأن الله عليم به، مطلع عليه، لا تخفى عليه خافية.
* * *(4/2057)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ... (8)
* * *
معنى النص الكريم:
يَا أيُّهَا الذين اتصفوا بالإيمان بالله والخضوع، وكان ذلك الإيمان عنوانهم الذي يعرفون به، وشرفهم الذين يتشرفون به، كونوا قوامين لله، أي اجعلوا أنفسكم وإحساسكم ومشاعركم مطبوعة على أن تقوم لله ولأجل محبته سبحانه وطلب رضاه، لَا لهوى النفس ومنازع الشهوات، وكونوا شاهدين بالحق، لَا تطلبون سواه، وهذا هو المعنى الجلي المقرب لما اشتمل عليه النص الكريم، وهو أعْلى من أن تتسع عبارتنا لمعناه.
وهنا ملاحظات بيانية يجب اعتبارها والإشارة إلى كمال الحكمة في عمومها:
الأولى: (كونُوا) فهو أمر بالكينونة بأن يجعلوا القيام لله تعالى، والاعتبار به، والأخذ بهديه جزءا من كيانهم، وذلك بأن يستمروا على الطاعة ويديموا عليها، فإن الدوام على الفعل والاستمرار عليه يجعل النفس تنطبع به، ويكون جزءا منها، فالأمر بـ " كونوا " يتضمن الاستمرار والدوام، وأحب الأعمال إلى الله تعالى ما أمكن الاستمرار عليه، ليكون عادة للنفس بمنزلة الطبيعة، فالعادة طبع ثان، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلَّ " (1).
ثانيهما: قوله تعالى: (قَوَّامِينَ لِلَّهِ) فإن قوام معناها: من يبالغ بالقيام بالشيء وإتقانه والإتيان به على الوجه الأكمل، وكونه لله تعالى معناه أن تكون تلك المبالغة في الفعل لأجل الله تعالى، لَا شيء سواه، وهذا يتضمن " أمرين "
________
(1) سبق تخريجه.(4/2057)
أحدهما: أن يعمل الشخص على إتقان ما يعمل والمبالغة، فإن كان عبادة أتي بها على أكمل وجوهها، فالصلاة تكون كاملة، وكذلك الصوم. . إلخ. وهذا يشمل ما يعمله الإنسان في الحياة، سواء أكان عبادة أم كان أمرا من أمور الدنيا، وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه " (1).
وثانيهما: أن يكون ذلك لله، بأن يكون أصل العمل لله، وأن يكون إتقانه لله تعالى، فيتجه في كل الأعمال إلى الله تعالى، فالعامل في المصنع يعمل لله إن قصد بذلك نفع عباده، والتاجر كذلك، وإذا قصد بأعماله وجه الله، وما فيها من خير للعموم كان في عبادة مسستمرة، وليست العبادة مقصورة على الصلاة والصوم والحج، بل كل عبادة إذا قصد بها وجه الله تعالى، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤمن أحدكم، حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا لله " (2).
الثالثة: في قوله تعالى (شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) فإن شهداء تدل على الحضور، وعلى الإثبات وأداء الشهادة، وعلى الحكم وهي في النص الكريم تشمل كل هذا، فالمعنى: لَا يحكمون إلا بالقسط أي العدل، ولا يشهدون إلا بالعدل ولا يشهدون الزور، ولا يحضرون، إلا مايكون قسطا وعدلا، وما يكون قسطاسا مستقيما لاتحيّف فيه ولا انحراف، والمؤدى أن يكون حضورهم في القسط، ونطقهم بالقسط، وحكمهم بالقسط، وعملهم بالقسط، فلا يكون إلا للخير، وفي سبيل الخير دائما.
وعبر بالقسط، لأنه شامل للخير كله، ولأن العدل ميزان الخير، ولذا قال من بعد: (وَلا يَجْرِمَنَّكمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا).
الجرم في أصل معناه اللغوي: القطع، فيقال جرم الثمار أي قطعها، ثم أطلق على الكسب، وغلب على الكسب الإثم، ومنه أجرم بمعنى ارتكب إثما، لأنه كسبه، وقد يتضمن معنى الحمل معِ اشتماله على معنى الكسب الآثم، وهذا هو القريب من المعنى هنا، فمعنى (وَلا يجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ) لَا يحملنكم حملا آثما
________
(1) سبق تخريجه.
(2) سبق تخريج ما في معناه من حديث صحيح.(4/2058)
شنآن قوم ألا تعدلوا، والشنآن: البغض الشديد مصدر شنأه بمعنى أبغضه، والمعنى لا يحملنكم البغض الشديد لقوم على ألا تعدلوا معهم، بل أعطوهم حقوقهم، ومكنوهم مما يستحقون، وفي صدر هذه السورة يقول سبحانه: (. . . وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا. . .).
والمعنى هناك: أنه لَا يصح أن يحمل البغض بسبب الصد عن المسجد الحرام على الاعتداء، ففيها أمر بعدم الاعتداء - أما هنا، فإن فيها أمرا بالعدالة حتى مع الأعداء، فالعدالة نظام هذا الوجود الإنساني، وبجمع الآيتين، يكون المعنى المقرب لمراد الله سبحانه أنه لَا يصح أن يكون البغض الشديد حاملا على الاعتداء، ولا أن يكون البغض الشديد حاملا على منع الحقوق، بل يعطي كل ذي حق حقه، ولو كان عدوا مبينا، فالحق ليس منحة من شخص لشخص يسلبه إن أبغض، ويعطيه إن أحب، بل إن التكمين منه واجب مقدس أمر الله سبحانه وتعالى به، وحث عليه، وقد روي في الحديث القدسي: " يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا " (1). ولا ينتظم الوجود الإنساني بغير العدل، وقد روى الطبراني عن جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا ظُلم أهل الذمة كانت الدولة دولة العدو " (2) ومعنى هذا الحديث: أنه لَا يصح أن يظلم غير المسلم الذي يعيش مع المسلمين، والدولة إذا ظلمت رعاياها من غير المسلمين لا تكون دولة الإسلام بل تكون دولة الأعداء.
وازنوا بين حكم الإسلام وحكم الأقوياء في هذا الزمان الذين يستبيحون كل شيء من غير حريجة من أخلاق أو دين.
(اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) الضمير في قوله " هو " يعود إلى العدل الذي تضمنه قوله تعالى: (اعْدِلُوا) وقوله تعالى من قبل: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى
________
(1) جزء من حديث قدسي طويل سبق تخريجه من رواية مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه.
(2) عن جابرِ بنِ عبدِ الله قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِذَا ظُلِمَ اهْلُ الذمَّةِ كَانَتِ الدَّوْلَةُ دَولَةَ العَدُوِّ، واِذَا كَثُرَ الزنا كَثُرَ السِّبَا، وإِذَا كَثُرَ اللُّوطِيةُ رَفَعَ الله - عَزَ وجَل - يَدَهُ عَنِ الخَلقِ فَلا يُبَالِي في أيِّ وَادٍ هَلكوا ". رواه الطبراني.(4/2059)
أَلَّا تَعْدِلُوا) والمعنى: اعدلوا، فالعدل أقرب للتقوى، وفي النص انتقال من النهي إلى الأمر، ففي النص الأول نهى عن أن يحملهم البغض على عدم العدل، وفي هذا النص أمر بالعدل، ولا شك أن النص الأول يتضمن الأمر بالعدل، لأن النهي عن الشيء أمر بنقيضه، فالنهي عن الظلم أمر بالعدل، فكان ثمة تكرار هؤكد، وكان مع التكرار فائدة وهي طلب معالجة النفس، ومحاولة ترويضها على العدل، فإن قوله تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا) فيه أمر بعلاج النفس، وحملها على البقاء في دائرة الاعتدال، وتقوية للإرادة، حتى لَا يستولي عليها الغضب، فتجمح وفي الجموح سير وراء شيطان الغضب، ووراء ذلك منع الحقوق، والظلم. وقوله تعالى: (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) فيه بيان قرب العدالة من التقوى، مع أن العدل من صميم التقوى، فلماذا عبر بالقرب من العدالة مع أن العدالة في ذاتها تقوى مؤكدة، وخصوصا في حال المغالبة النفسية والبغض الشديد؟ والجواب عن ذلك أن قلب المؤمن في معاملته مع غير المؤمن قد تعتريه حال يرى فيه أن من التقوى ألا يعطيه حقه، لأنه في ميدان القتال يستبيح ماله ويستبيح دمه، فيظن حال السلم كحال الحرب، ويظن ذلك قريبا من التقوى، فبين له القرآن الكريم أن القرب من التقوى أن يحسن معاملته، وأن يعطي كل ذي حق حقه، فذلك دفعا للخاطر بمثله، أو بما يقرب إليه المعنى في التعبير، ولأن كمال التقوى بعيد المنال، وأنها إذا كانت مطلوبة، فإن الله يعفو عن كمالها، ويكتفى منا بقربها، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: " لن يشاد أحد هذا الدين إلا غلبه، ولكن سددوا وقاربوا " (1) فالله جل جلاله غفور رحيم يطلب منا المقاربة بعد أن نسدد ونقارب ولقد طلب سبحانه منا أن نسدد، فقال تعالى:
(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أمرنا الله تعالى بالتقوى في كل الأمور في ذات أنفسنا بأن نراقب الله في كل عمل نعمله، فلا نعمل إلا طيبا، ولا نقول إلا طيبا، ولا نأكل إلا طيبا، ونخشى الله حق خشيته، ونقوم بعبادته
________
(1) سبق تخريجه، وهو صحيح رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه.(4/2060)
مسددين مقاربين، ونتقي الله فيما بيننا، ونكون عباد الله إخوانا، ويكون التعاون الحكم بيننا، ونتقي الله تعالى في مخالفينا، فلا يكون منا عليهم اعتداء ولا ظلم، بل تقريب وائتلاف، وإن كان منهم اعتداء دفعناه من غير أن نتجاوز حد الدفع.
وقد ذيل الله سبحانه وتعالى الأمر بالتقوى، بما يدل على علم الله تعالى بكل أعمالنا، حتى خلجات صدورنا، وما يحوك في قلوبنا، فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). أي أن الله جل جلاله عليم علما دقيقا، فالخبرة: هي العلم الدقيق الذي لَا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، عليم، هذا النوع من العلم بكل ما نعمل، وما ظهر منه وما بطن، وهو يجازينا بما نعمل، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ومن ينوي الخير، فهو محتسب له، ومن ينوي الشر، ويعدل عنه اختيارا لَا يحتسب عليه إثم. . اللهم وفقنا لتقواك، واهدنا لما يرضيك، وقربنا ولا تباعدنا إنك عليم حكيم.
* * *
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى غذاء الأبدان بطيب الأطعمة، وغذاء الأرواح بالصلاة، فذكر مقوماتها، ثم ذكر سبحانه وتعالى، التكليفات الشرعية التي هي(4/2061)
بناء الجماعات الإنسانية، وأنها ميثاق الله تعالى واثق به عباده، فوعدهم بالثواب عليه، وتعهدوا موثقين العهد بالسمع والطاعة، والاستجابة لما كلفوا القيام به، ثم بين سبحانه وتعالى أن أساس العلاقات الإنسانية العامة العدالة، وليس الحب والبغض: فإنهما يسيران أحيانا وراء الهوى، والهوى فساد، والعدالة صلاح، وهي التقوى، وما يقرب إليها ويدنى منها، وفي الآية الآتية وما يليها بين سبحانه جزاء المهتدين، وعقاب الكافرين، وهو الوعد الذي وعد به عباده، ويبين سبحانه أنه لا يصح أن تؤدي قوة أهل الإيمان إلى ترك العدل، وذكرهم سبحانه بحالهم أيام كانوا مستضعفين في الأرض، وهم المشركون أن يبسطوا أيديهم بالأذى فكفها سبحانه وتعالى عنهم، فقال:(4/2062)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
(وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) هذا هو الوعد الذي وعد الله تعالى به عباده المؤمنين، وهو الذي واثقكم به من جانبه، جل جلاله، في نظير السمع والطاعة والاستجابة لما أمر الله تعالى به ونهى عنه.
وإن ذلك الوعد إنما يستحقه الذين قاموا بما ألزمهم به الميثاق، وهو الإيمان والطاعة، إذ قالوا سمعنا وأطعنا، وقد عبر الله تعالى عن السمع والاستجابة للسماع والإنصات للأدلة والإذعان لها بالإيمان، فالإيمان: هو العماد الذي يقوم عليه الميثاق الذي التزمه المؤمنون، والطاعة لأوامر الله تعالى ونواهيه هي التي عبر الله تعالى عنها بقوله تعالى:
(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) وما من مقام ذكر فيه المؤمنون بالمدح إلا اقترن به قيامهم بالعمل الصالح، لأن العمل الصالح ثمرته، ومثل الإيمان من غير عمل صالح يقدمه المؤمن كمثل شجرة جرداء لَا تثمر ثمرا ولا تظل مستظلا، والأكثرون من العلماء على أن الإيمان ناقص إذا لم يصحبه عمل، لأن الإيمان يزيد وينقص عند كثيرين ويزيد ولا ينقص عند آخرين، وعند هؤلاء يكون الإيمان من غير عمل إيمانا غير كامل.(4/2062)
والعمل الصالح الذي هو الطاعة، والذي هو استجابة لأوامر الله تعالى ونواهيه هو العمل الذي يكون فيه نفع للناس، ودفع للفساد في الأرض، وليس فيه ما يسوء أهل الخير، وقد جاء في كتاب غريب القرآن للأصفهاني: " الصلاح ضد الفساد، وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال، وقوبل في القرآن تارة بالفساد، وتارة بالسيئة قال تعالى: (. . . خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا. . .)، وقال تعالى: (. . . وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا. . .).
وقال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) في مواضع كثيرة. . . وإصلاح الله تعالى الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحا، وتارة بإزالة ما فيه من فساد بعد إصلاحه، وتارة بالحكم له بالصلاح. . . ".
وإذا كان عمل الصالحات هو استجابة المؤمن لأمر الله ونهيه، أو تنفيذ لقول المؤمنين: " سمعنا وأطعنا " فمؤدى ذلك أن الله تعالى لَا يكلف عباده إلا ما فيه صلاح أمورهم ورفع الفساد عنهم، فما من أمر كلف الله تعالى عباده أن يقوموا به إلا كان فيه صلاح لهم ومنفعة، وما من أمر نهاهم عنه إلا كان فيه مفسدة، وعلى مقدار ما في الشيء من نفع تكون قوة المطالبة به، وعلى مقدار ما فيه من شر يكون مقدار النهي عنه، وبذلك يتبين أن الشرع الإسلامي كله جاء لخير العباد وصلاحهم، والرحمة بهم، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالمِينَ)، وعلى ذلك لَا يصح لمؤمن بالله واليوم الآخر، أن يقول: إن نصوص القرآن أو السنة جاءت بأحكام فيها مضرة؛ فإن ذلك أقصى العناد، وغاية ما يريده أهل الفساد، وما يبتغيه الذين يريدون أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم.
وقد ذكر سبحانه وتعالى ما وعد به الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقال: (لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ). فهذا النص الكريم هو بيان للوعد الذي وعد الله تعالى به عباده المؤمنين، فذكر الوعد بهما في قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). ثم ذكر البيان، وفي ذكر البيان بعد الإبهام فضل تمكين للإعْلام،(4/2063)
وتثبيت للمعرفة، والوعد الذي وعد الله تعالى به يتكون من أمرين عظيمين: أحدهما مغفرة عظيمة، والثاني أجر عظيم، أما المغفرة فمعناها: ستر الذنوب وإخفاءها، وإخفاء الذنوب من الله تعالى معناه ألا يقيم لها وزنا ويعفو عنها ويكفر السيئات ولا يجازى عليها، وأما إخفاؤها في الدنيا، فذلك لأن العمل الصالح يلقي في النفس نورا فيذهب أعتامها، إذ إن المرء إذا ارتكب سيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا استمرت السيئات ولم يكن ثمة عمل صالح، تكاثرت النكت السوداء حتى يربد القلب ويسود، وإن كان العمل الصالح أشرق النور فاختفت السيئات، وهذا معنى قوله تعالى: (. . . إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. . .). ونكرت كلمة " مغفرة " للدلالة على عظمتها، وأنها مغفرة عظيمة لَا تحيط بها المدارك البشرية.
هذا هو الأمر الأول، أما الأمر الثاني: فهو الأجر العظيم، وهو الثواب، وسماه الله تعالى أجرا، أي أنه استحقاق على عمل صالح، وذلك كان من الله تكرما وفضلا، فكل شيء بفضل الله تعالى، وهو ذو الفضل العظيم.
* * *(4/2064)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
* * *
بعد أن ذكر سبحانه جزاء الذين آَمنوا وعملوا الصالحات ذكر سبحانه الذين كفروا وكذبوا بآيات الله تعالى، رهذا النص الكريم يشتمل على وصف الذين لم يؤمنوا، وجزائهم.
وإن أولئك الذين لم يؤمنوا يتصفون بوصفين: أولهما: الكفر، وثانيهما: تكذيب آيات الله تعالى القائمة حجة على رسالة الرسول الذي أرسل إليهم، وقد ذكر الكفر سابقا على تكذيب الآيات مع أن الظاهر أن الكفر نتيجة لهذا التكذيب؛ وذلك لأن الكفر هنا معناه: جحود القلب، وطمس معالم الإدراك فقلوبهم غلف، قد غطيت عنها الحقائق، وغاب عنها الفهم الصحيح، والإنكار يكون مرتكزا في النفس، فلا تذعن ولا تصدق، وإذا كانت النفوس على هذا النحو، فإنه يكون التكذيب لكل ما تدل عليه الآيات الحسية، والمعجزات القطعية؛ لأن(4/2064)
القلب قد شاه وفسد، فلا يرى الحقائق ويكذب بها، كما أن العين إذا شاهت وعشيت أصبحت لَا ترى النور المبصر، وإن عمَّ صاحبَها، وإن التكذيب بالمعجزات أكبر ما يكون عن فساد في الإدراك، إذ يكون لهم قلوب لَا يفقهون بها، ولهم أعين لَا يبصرون بها، ولهم آذان لَا يسمعون بها، وكان التكذيب جرما عظيما؛ لأنه تكذيب بآيات الله تعالى التي كانت للدلالة على الرسالة، والإذعان للحق، فلم يفعلوا، وكان الجزاء ما عبر عنه سبحانه بقوله تعالى: (أُوْلَئكَ أَصْحَاب الْجَحِيم).
أي أولئك الذين كان منهم الكفر والجحود ثم التكذيب للآيات، وقد جاءت معلمة واضحة بسبب ذلك كانوا الملازمين للجحيم، أي النار المتأججة الشديدة اللهب التي تشوي الأجسام والوجوه شيا، فمعنى أصحاب الجحيم: الملازمون لها ملازمة الصاحب لصاحبه الذي لَا يفترق عنه، وكلاهما جدير بصاحبه.
* * *(4/2065)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
* * *
هذا متصل بالأمر بالعدالة مع الأعداء كالعدل مع الأولياء، ففي هذا النص أمر بالتذكير بحال ضعفهم عندما كانوا يلتمسون العدالة، ليعتبروا بماضيهم، ويتخذوا منه عبرة لحاضرهم، فيتذكروا حال الضعف في حال القوة، ليعلموا نعمة الله تعالى عليهم، ولكي يعدلوا مع غيرهم كما كانوا يلتمسون العدل إذ كانوا مظلومين يتخطفهم الناس، وينزل بهم البأس، فالآية تدعو إلى التذكير بنعمة الله ليشكروها، ولكيلا يشتطوا مع غيرهم، وبسط اليد معناه بالقوة والأخذ والسيطرة والصولة، وقد قال تعالى: (. . . وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ. . .)، فالبسط هنا بسط للصولة والقوة، والسيطرة، ومعنى النص الكريم: يَا أيُّهَا الذين أذعنوا للحق واستمسكوا به، واستجابوا لأمر ربهم تذكروا نعمة الله التي أنعمها عليكم إذ هم قوم أن يمتدوا بيد الأذى ويبسطوها، فكفها عنكم وبدلكم من بعد الضعف قوة،(4/2065)
ومن بعد الذلة عزة، ومن بعد أن كنتم تُظلَمون، وتُرامون بالسوء، صرتم يطلب الإنصاف منكم.
وقد أكد سبحانه وتعالى أنه هو سبحانه الذي رد الأذى وئدبير الشر، فقال مكررا كلمة الأيدي (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ) وفي ذلك إشارة إلى أنه سبحانه هو الذي قضى على موضع قوة أعدائهم، ومناط شدتهم، وهي الأيدي التي يكون بها البطش والصولة.
ولقد تكلم مفسرو الأثر وغيرهم في سبب نزول هذه الآية، وخصصوا، واللفظ عام، فقالوا: إن يد البطش والغدر كان قد هم بها ناس للاعتداء على شخص النبي - صلى الله عليه وسلم -، والاعتداء عليه اعتداء على المسلمين، وكف الاعتداء عنه نعمة على كل المسلمين، وقالوا في ذلك روايات مختلفة تنتهي إلى خبرين:
أولهما: أنه روى من حديث جابر وغيره أن رجلا من بني محارب قام على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وقت الراحة ومعه السيف، وقال للرسول من يمنعك؟ قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " الله " فوقع السيف من يده، فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: " من يمنعك مني "، فقال الرجل: كن خير آخذ. قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " تشهد أن لَا إله إلا الله، وأني رسول الله " قال: " أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع من يقاتلونك، فخلى سبيله، فجاء إلى قومه، وقال: جئتكم من عند خير الناس " (1).
ثانيهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب إلى بني النضير ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، يطلبون منهم الإعانة على دية رجلين قتلا، وكان للنبي - صلى الله عليه وسلم - عقد مع بني النضير عهدا على ألا يحاربوه، وأن يعينوه على الديات، فلما طالبهم بحكم هذا العهد أظهروا القبول، وأخفوا الغدر، فقالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلس حتى نطعمك، ونعطيك الذي سألتنا،
________
(1) رواه بهذا اللفظ أحمد باقي مسند المكثرين - باقي المسند السابق (14768)، ورواه البخاري: الجهاد والسير - من علق سيفه (2910)، ومسلم: الفضائل - توكله على الله تعالى وعصمة الله تعالى له (843) عن جابر رضي الله عنه بنحوه.(4/2066)
فجلس بجانب جدار لهم، وقال لهم حُيي بن أخطب: لَا ترونه أقرب منه الآن؛ اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه، فهمّوا أن يطرحوا عليه صخرة، وقد أُعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بنية الغدر، إذ أعلمه جبريل، فانصرف قبل أن ينفذوا ما دبروا (1).
هاتان روايتان في أسباب النزول، ويكون القوم هم الذين دبروا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - فرادى وجماعات، ويكون كف أيديهم نعمة عظيمة على أهل الإيمان.
والذي نراه هو تذكير المؤمنين بما هَمَّ به الأقوام من الاعتداء على النبي - صلى الله عليه وسلم - في هاتين الواقعتين، ومن قبلهما بتدبير قتله يوم الهجرة النبوية، ومن الاعتداء على المؤمنين في غزوة أحد، ومن تضافر العرب في الجزيرة العربية على الذهاب إلى المدينة قصبة الإسلام، واقتلاعها في غزوة الأحزاب، وقد كف الله سبحانه وتعالى في كل هذا تلك الأيدي المبسوطة بالشر، فلا تخصيص في النص، بل يترك على عمومه.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) بعد التذكير بهذه النعمة التي جعلت للمؤمنين كيانا مستقلا عزيزا كريما ينتصف من الظالمين، ولا يظلم أحدا أمر الله سبحانه وتعالى بالتقوى، وتقوى الله تعالى هي: الشعور بعظمته، والإحساس بجلاله، وامتلاء القلب به، واطمئنانه إليه، ورجاء ثوابه، وخشية عذابه، وعبادته كأنه يراه كما ورد في الأثر: " اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (2).
هذه كلمات تقرب معنى تقوى الله تعالى، وهي تتضمن ذكر النعمة، وتتضمن شكرها، وهي في الشكر نص، ولا يكون الشكر من غير تذكر.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله تعالت كلماته: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنونَ) وفي هذا طلب الله تعالى من عباده المؤمنين أن يتوكلوا عليه،
________
(1) سبق تخريجه بهذا اللفظ.
(2) سبق تخريجه.(4/2067)
ولا يتوكلوا على سواه، وقد صيغ الطلب في صيغة الخبر، للإشارة إلى أنه حال ملازمة للمؤمنين لَا ينفصلون عنها؛ لأن من تقوى القلوب ألا يعتمدوا إلا على علام الغيوب، فالتوكل على الله وحده في السراء والضراء، في الشدة وفي الضعف من لب عبادته سبحانه وتعالى.
والتوكل على الله ليس هو التواكل وترك العمل، بل هو الأخذ في الأسباب، ثم الاعتماد في الوصول إلى النتائج على الله تعالى وحده، فإن الأسباب لَا تنتج وحدها، ولكن لَا بد من فضل الله تعالى بالتوفيق، ولطف التقدير.
وفى الجملة الكريمة: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنونَ) إشارات بيانية واضحة منها ذكر لفظ الجلالة، فإنه يشير إلى عظمة من يعتمد عليه إذ يعتمد على منشيء الوجود ومسيره ومبدعه، وفيها لفظ (عَلَى) فإنه يشير إلى علو من يعتمد على الله وسموه، وعدم ذلته لمخلوق، ومنها تقديم الجار وما بعده، فإنه يشير إلى الاقتصار في التوكل على الله، فلا يتوكل على غيره؛ لأن ذلك لَا يخلو من شرك؛ ولأن التوكل من العبادة، والعبادة لله وحده، ومنها لفظ الفاء التي ربطت الكلام، ولا تخلو من معنى السببية، فإنها تدل على أن من ثمرات التقوى التوكل على الله تعالى.
هذا ونكرر أن التوكل على الله تعالى حق التوكل يوجب العمل (. . . رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).
* * *(4/2068)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ(4/2068)
وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
* * *
في الآيات السابقة بَيَّنَ سبحانه طيبات ما أحل الله تعالى، وهي تصور متعة الجسد التي تكون حلالا، سواء أكانت طعاما يؤكل أم كانت تتعلق بما يكون بين الرجل والمرأة، ثم بَيَّنَ طهارة الأجساد والقلوب، بالصلاة وما يتقدمها من وضوء وتيمم، وذلك لتكون متعة الجسد في دائرة الطهارة والسمو، فيتهذب الفرد وينمو، ويقوى، وبذلك يكون قوة في بناء المجتمع الإنساني الذي يبتدئ بمجتمع الأمة أو القوم من غير تعصب ظالم، ولا انحراف لغير غاية فاضلة، وبين سبحانه وتعالى أن العدالة هي نظام العلاقات الإنسانية، وهي التي تنسقها، وكل تنسيق لَا يبنى عليها هو مِعْول هدام، ينقض القائم، ويفسد الصالح، والعدالة الحقيقية لَا تفرف بين عدو مشنوء مبغض، وولي محبوب مقرب، وذكر المؤمنين من بعد ذلك بأوقات ضعفهم، حتى لَا يشتطوا في أوقات قوتهم، ومن بعد ذلك وثق الله سبحانه وتعالى هذه المبادئ الإنسانية العالية التي هي شريعة النبيين أجمعين، وإن يخالفوها ينقض بنيانهم، وتذهب وحدتهم أوزاعا؛ ولهذا ذكر أخذ الميثاق بها على بني إسرئيل وكيف نقضوه، فقال تعالى:
(وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) الميثاق: أصله من وثق، وهي تدل على معانٍ فيها الاطمئنان، فيقال: وثقت به، أي اطمأننت إليه، ومنها الشد، وربط شيئين، ومنه قوله تعالى: (. . . فَشدّوا الْوَثَاقَ. . .)، ومنها ربط الكلامين ربطا موثقا، ومنه هذه الكلمة السامية ميثاق(4/2069)
الله تعالى، وهي تتضمن معنى التشديد في العهد، لأنه مأخوذ مع الله سبحانه وتعالى، وأي عهد أقوى وأوثق من عهد يكون بين العبد والرب؛ ويتضمن ميثاق الله تعالى معنى الاطمئنان، والثقة؛ لأن الاعتماد فيه على الله سبحانه وتعالى، وهو المعاذ الذي يعاذ به، ويلجأ إليه سبحانه وتعالى.
وميثاق الله تعالى الذي أخذه على بني إسرائيل هو التكليفات التي كلفهم إياها، من صلاة وزكاة، وطاعة للرسل في المنشط والمكره، والسلم والحرب، يروى في ذلك عن ابن إسحاق قال: " أُمر موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الأرض المقدسة وقال: إني كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا، فاخرج إليها وجاهد مَنْ فيها من العدو، فإني ناصركم عليهم، وخذ من قومك اثني عشر نقيبا، من كل سبط نقيبا يكون على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به، وقل لهم: إن الله يقول: إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي. . . ".
فالميثاق كما تدل الروايات يتضمن التكليفات كلها، وأخصها الجهاد، وموضوعه يبينه الله تعالى بالنص في قوله تعالى: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ).
ومعنى قوله تعالى: (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيبًا) أن الله سبحانه وتعالى اختار منهم اثني عشر رئيسا على حسب بطونهم، ليوقعوا الميثاق، أو ليتلقوا العهد، فالبعث أصل معناه: الإثارة ثم أطلق على الإثارة التي يتبعها فحص، ثم اختيار، والنقباء جمع نقيب، وأصل النقب: الخرق في الجدار ونحوه، ويقال: نفب عليهم صار نقيبا لهم، أي رئيسا مختارا بما يشبه الانتخاب الطبعي، أي أن رياسته بمقتضى التكوين الفطري فهو رئيس، وإن لم يعين بسلطان، ويقول ابن جرير في تفسير معنى النقيب: " النقيب في كلام العرب كالعريف على القوم غير أنه فوق العريف، يقال منه نقب على بني فلان فهو ينقب نقبا، فإذا أريد أنه لم يكن نقيبا فصار نقيبا، قيل قد نقب نقابة ".
وفسر بعض العلماء النقيب بمعنى الأمين، وإن هذا التزامي لتفسير النقيب على النحو السابق، لأنه لَا يكون له المنزلة السابقة إلا إذا كان أمينا له سابقات في(4/2070)
المكارم والمعارف والصدق والأمانة؛ إذ إن هذه الصفات هي أسس السيادة على الناس، والسيادة بغير ذلك تكون نوعا من العلو والجبروت، ولا تكون نقابة سامية.
ومؤدى القول أن الله تعالى أخذ عليهم الميثاق بالطاعة، والإذعان بما أمرهم به، وبأنه كان في سبط من أسباطهم الاثنى عشر نقيب له عليهم فضل النقابة والشرف يدعوهم إلى تنفيذ ميثاق الله تعالى، والقيام على عهده، وكان ذلك لأن بني إسرائيل توالت عليهم القرون، وهم في حكم فرعون وقهره، وقد استمر العذاب والهوان، وانحلت إرادتهم وعزائمهم، وأصبحوا لَا يؤمنون بفضيلة ولا عقيدة، فكان لَا بد من مذكِّر مستمر من بينهم، ومحرض دائم منهم، ومثل من بينهم تكون عيانا مستمسكة بالخلق والدين، حتى تتربى إرادتهم، وتقوى عزائمهم، ألم تر أنهم مع إنقاذ الله تعالى لهم على يد موسى عليه السلام، وفلق البحر لهم حتى صار كل فرق كالطود العظيم، ومع توالي البينات الشاهدة المثبتة للرسالة والوحدانية قالوا لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، فالحس قد استولى عليهم، والمادية قد استغرقتهم؛ لذلك كان مع ميثاق الله تعالى الذي واثقهم به النقباء الذين كانوا فيهم مع الرسول موسى عليه السلام، وأخيه هارون الذي شد أزره في رسالته. وفي النص الكريم إشارتان بيانيتان:
إحداهما: أن الله تعالى نسب الميثاق إليه جل جلاله بلفظ الجلالة لزيادة توثيقه، ولعظيم توكيده، ثم التفت بنسبته بعث النقباء إليه من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم العظيم؛ لبيان عظم مقام النقباء، فإسناد بعثهم إليه سبحانه هو الذي بينهم وهو الذي كونهم.
والإشارة الثانية يتضمنها قوله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ) وهنا كان الالتفات إلى لفظ الحاضر مرة ثانية، وذكر معية الله تعالى تفيد أمرين، أولهما: أن الله تعالى يعلم حالهم من طاعة أو عصيان عِلْم المصاحب لهم، فإنه لَا يخفى عليه أمرهم، وإنه محاسبهم على تنفيذ العهد والميثاق، وإنه سبحانه وتعالى يجزي(4/2071)
بالحسنة الحسنى وبالسيئة السوءى والأمر الثاني أنه إذا كان جهاد، فالله تعالى معهم مؤيدهم بنصره، إن اعتزموا ونصروه.
وقوله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ) ذكر القول ونسبته إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك فضل تأكيد بالمعية والمصاحبة، والمراقبة والمناصرة؛ لأن الله تعالى هو الذي أخبر بذلك عن نفسه.
(لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) هذا بيان الميثاق الذي واثقهم الله تعالى به، وقد ذكره سبحانه وتعالى مؤكدا بالقسم فضل تأكيد، إذ إن التأكيد بالقسم تبعه لغة التأكيد باللام، والتأكيد بالنون التي تدخل هي واللام في الجواب، وهو هنا قوله تعالى: (ولأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ).
وقد فهم بعض المفسرين أن قوله تعالى: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) داخل في مقول القول في قول الله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ) فيكون ذلك خير تأكيد للعهد بالنسبة لله تعالى، وهو جواب القسم، وعندي أن هذا النص استئناف بياني فيه بيان موضوع الميثاق، فهو عهد بين العبد وربه، كان الالتزام على بني إسرائيل، هو ما اشتمل عليه النص الكريم، وما وعد الله تعالى هو ما جاء في قوله سبحانه: (لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ).
والالتزام الذي أوجبه ميثاق الله تعالى عليه يتصل بتهذيب النفوس، والتعاون الاجتماعي، والجهاد والإيمان، وقد ذكره سبحانه وتعالى في خمسة أركان:
أولها: ما قاله سبحانه في صدر العهد: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ) فالصلاة هي الركن الأول من الميثاق الرباني الإلهي، وابتدئ بذكرها، لأنها طهارة النفوس، وتزكية القلوب، وبها تربية الضمير الذي يكون جماعة مؤتلفة، وإقامتها تنهى عن الفحشاء والمنكر وتربي في النفس روح الخير، والإحساس بعظمة الله تعالى، ولا يمكن أن يكون الوفاء بالميثاق الإلهي من غير إقامة الصلاة؛ فإنها ركن كل دين(4/2072)
وروح التدين الصحيح وقوامه، وعبر بإقامتها دون أدائها، فقد قال: (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ)؛ لأن الصلاة التي تأتي بثمراتها هي الصلاة الكاملة، التي يأتي بها صاحبها مقومة غير ملتوية يتجه فيها بالنية إلى الله تعالى، ويخلص فيها، لَا التي تكون رئاء الناس، أو تؤدى على وجه العادة، لَا على وجه العبادة.
الركن الثاني: من أركان ميثاق الله تعالى على بني إسرائيل، وهو ميثاقه على خلقه عامة لَا على بني إسرائيل، هو إيتاء الزكاة، وإذا كانت الصلاة تربية القلوب وتهذيب الوجدان ليندمج المؤمن في جماعته، فالزكاة فريضة تعاونية لسد خلة الضعفاء، ولإيجاد تعاون بين الغني والفقير، فلا يكون الغني مملوء الجيب، والبطن، والفقير فارغ الجيب، أخمص البطن، فهي التعاون الكامل، وهذا يدل على أن الزكاة ليست في الإسلام فقط، بل هي في كل الأديان السماوية، وهي جزء منْ الميثاق الديني في كل الرسالات السماوية، فليس لأهل دين سماوي أن يفر منها باسم أنها ليست في دينه، وإذا كانت النظم تختلف أحيانا في بعض الشرائع عنها في الآخر، فالأصل ثابت وهو مشترك في الجميع، ولعل الصلاة أيضا قد تختلف أشكالها، ولكن لبها ثابت في الجميع، وليس لأهل دين أن يغير في أمر الله تعالى.
الركن الثالث: ذكره الله سبحانه وتعالى بقوله: (وَآمَنتم بِرُسُلِي) والإيمان بالرسل معناه: الإذعان والتصديق، فمن ميثاق الله تعالى على بني إسرائيل وغيرهم الإيمان برسل الله تعالى بتصديقهم، والإذعان لَا يدعون إليه فلا يقبلون لبعضهم البعض، ويرفضون الآخرين، فيؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض؛ لأن رسالة الله واحدة، ورسل الله تعالى جاءوا جميعا بشرع واحد في أصله، وإن اختلف في بعض فروعه، وقد أضاف سبحانه وتعالى الرسل إليه، فقال: (وَآمَنتُم بِرُسُلِي) لتأكيد معنى رسالة هؤلاء الرسل، وللإشارة إلى أن عدم الإذعان لهم، والتصديق بهم تمرد على الله تعالى، وتكذيب، فمن يطعهم فقد أطاع الله تعالى، ومن يعصهم فقد عصاه سبحانه، فإضافة الرسل إليه سبحانه وتعالى لتعظيم شأن رسالاتهم، وبيان آثار طاعتهم ومغبة عصيانهم.(4/2073)
وقد يقال: إن الإيمان بالرسل مقدم على طلب إقامة الصلاة، وطلب إيتاء الزكاة، فلماذا أخر في الذكر عنه؟ وإن الجواب عن ذلك: أن الميثاق مفروض أنه بعد الإذعان لرسالة موسى عليه السلام، فكان أخذه ثمرة من ثمرات تلك الرسالة، فهناك إيمان ضمني مقدر في ثنايا القول، وإن لم يكن مذكورا، وإن الإيمان بالرسل المذكور من بعد هو الإيمان بالرسل الذين يجيئون من بعد موسى، كعيسى ومحمد صلى الله تعالى عليهما وسلم، حتى لَا يحسبوا أن الرسالة مقصورة على موسى، وأنهم لَا يؤمنون إلا بها، وأن يقولوا: أن غيرهم ليسوا على شيء فإن فعلوا يكونوا بذلك قد نقضوا الميثاق الذي واثقهم الله تعالى.
والركن الرابع من أركان ذلك الميثاق القدسي: عبر الله تعالى عنه بقوله تعالى: (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي قويتموهم ونصرتموهم، فذلك فتح باب الجهاد الواجب لنصرة الرسل، ونصرة الحق دائما، فالتعزير هو النصر، ويطلق على العقاب المانع من الضرر، ويقول صاحب المفردات: إنها من باب واحد، فيقول في ذلك:
التعزير النصرة مع التعظيم قال تعالى: (. . . وَتُعَزِّرُوهُ. . .)، (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ)، والتعزير ضرب دون الحد، وذلك يرجع للأول، فإن ذلك تأديب، والتأديب نصرة، لكن الأول نصرة بقمع ما يضره بالدفاع عنه، والثاني نصرة بقمعه عما يضره، فمن قمعته، فقد نصرته، وعلى هذا الوجه قال - صلى الله عليه وسلم -: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما، قال قائل: أنصره مظلوما، فكيف أنصره ظالما؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " كفه عن الظلم " (1).
والخلاصة، أن التعزير في الآية النصرة مع التوقير والتعظيم، وعدم التهجم عليهم أو الاستهزاء بهم أو السخرية منهم.
________
(1) عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: " تَحْجُزُهُ، أَوْ تَمْنَعُهُ، مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ " رواه البخاري: الإكراه - يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه (6952)، وأحمد: مسند أنس (15538) كما رواه بلفظ: " تكفه عن الظلم " الترمذي: الفتن (2255) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.(4/2074)
والركن الخامس: هو ما عبر عنه الله بقوله: (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) والمراد من إقراض الله تعالى في هذا المقام هو الإنفاق في سبيل الله تعالى عندما تحتاج نصرة الحق إلى جهاد في سبيله، وإعطاء الضعفاء الذين هم عيال الله تعالى في هذه الأرض، فمن أعطاهم ابتغاء مرضاة الله تعالى فقد أعطى الله سبحانه وتعالى، ومن إقراض الله تعالى قرضا حسنا القيام بما طالب به من طاعات، بأداء ما عليه من واجب؛ لأن من يفعل ذلك ابتغاء مرضاته سبحانه فكأنما أقرض الله قرضا حسنا، والله سبحانه سيضاعفه في الأداء له أضعافا كثيرة.
وهنا نجد إشارات بيانية تستوجب ذكرها إجمالا من غير تعرض لتفصيل:
الأولى: أن الله سبحانه وتعالى سمى القيام بالواجبات، والإنفاق في سبيله، وإعطاء المحتاجين - إقراضا له تعالى، وهو الغني، والناس هم الفقراء، وكانت تلك التسمية تحريضا على هذه الخيرات، وتشريفا لمقام القائم؛ وإعزازا لعمله، وكانت التسمية فوق ذلك تأكيدا للجزاء؛ لأن المقترض لَا غني في الوجود سواه، فهو وحده القادر على الجزاء، وأتى تأكيدا للجزاء على الحسنة بأقوى من هذا، وقد صرح سبحانه وتعالى بمضاعفة الأداء في آية أخرى، فقال سبحانه: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245).
الثانية: أن " قرضأ في قوله تعالى: (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) المراد بها العطاء؛ أي الشيء الذي قدمه العبد، وإن كان في إعرابه يصح أن يكون مفعولا مطلقا، ونرى أنه مفعول به (1).
الثالثة: أن الله تعالى وصف القرض بأنه حسن، والحسن في كل شيء يناسبه، ففي الوجوه تَنَاسُبُهَا، وإشراقها، وفي الأشياء تناسقها وتآلفها، وفي الأعمال خلاصها من شوائب الرياء والنقاق، وهو في القرض الاتجاه به إلى الله
________
(1) ويكون مفعولا به على معنى (عطاءً) كما بين الإمام رحمه الله تعالى.(4/2075)
تعالى وطلب مرضاته، والشعور بالشكر له سبحانه، فهو المنعم وهو المعطي، وهو صاحب الفضل العميم.
وقد بَيَّنَ سبحانه بعد ذلك ما وعد به، فقال تعالت كلماته:
(لأكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) هذا جواب القسم الذي أقسم به رب العالمين، منشئ هذا الوجود، وهو يتضمن ما وعد الله به بني إسرائيل إذا قاموا بما يوجبه الميثاق عليهم، وهو يتضمن أمرين أحدهما: غفران ما ارتكبوا من سيئات، وثانيهما: جزاء ما فعلوا من خيرات، وقد عبر سبحانه وتعالى عن الغفران بقوله: (لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) أي لأسترن ما قدموه من أعمال هي سيئة في ذاتها، وهي سيئة لهم، ولمجتمعهم، ومعنى تكفيرها سترها، فلا تفضح بالعذاب، إذ العذاب كشف لها، وإعلام بها، والغفران ستر وعطاء، وقد أكد سبحانه الغفران بلام القسم والنون المؤكدة توكيدا شديدا.
وعبر سبحانه وتعالى عن الجزاء بقوله: (وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِها الأَنْهَارُ) وأكد العطاء بمثل ما أكد الغفران، وقد قدم سبحانه الغفران على الثواب؛ لأن الغفران تطهير، والتطهير مقدم على غيره، أو كما يقول العلماء: " التخلية مقدمة على التحلية ".
(فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) أي أنه من يجحد بآياته ونعمه وآلائه وبيناته بعد ذلك الميثاق الغليظ الذي أخذ عليهم، والوعد الأكيد الذي وعدهم الله به فقد بَعُدَ عن السبيل المستوية المُعَبَّدَةِ المسلوكة، وسار في متاهات الضلال التي لَا هداية بعدها، فمعنى سواء السبيل الطريق المستوية التي توصل، ومعنى ضلالها البعد، وهذا إنذار لله تعالى بعد الميثاق بأنه هو الطريق السوي، فمن حاد عنه، فقد ضل وغوى، وقد كانوا كذلك.
اللهم اهدنا، ووفقنا لاتباع سبيلك السوي، إنك الهادي والنصير.
* * *(4/2076)
(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
* * *
أخذ الله سبحانه وتعالى على بني إسرائيل الميثاق أن يقوموا بالتكليفات التي كلفهم إياها، وألزمهم بمقتضى هذا الميثاق أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وأن يقوموا بالخير الذي رغبهم فيه سبحانه بأن سماه إقراضا له، وهو المنعم بكل شيء الغني الحميد، ووعدهم سبحانه بأن من يقوم بحق الميثاق يستر سبحانه وتعالى سيئاته، ويدخله جنات النعيم الدائم الذي لَا يحول ولا يزول، وأوعدهم بأن من يكفر بالميثاق ينال جزاء الضالين، وأشار لهم بأن الميثاق هو الطريق المستقيم، وأن الخروج عن منهاجه هو الضلال المبين، ولكن ذكر بعد ذلك أنهم اختاروا الضلالة على الهدى ونقضوا الميثاق، وضلوا وبعدوا عن طريق الحق، فطردوا من نعمة الإيمان، واستولى الشيطان على قلوبهم؛ ولذا قال سبحانه:(4/2077)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
(فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) أي بسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم، والتزاموا بأحكامه طردهم الله تعالى من رحمته، وذلك(4/2077)
لضلالهم عن طريق الهداية؛ لأن من ترك طريق الله الذي سنه، فقد ضل، وبهذا الضلال المبين طردوا من طريق الرحمة، وهو الطريق المستقيم الذي يوصل إلى جنات النعيم، فمعنى لعناهم: طردناهم، والطرد هنا هو السير في متاهات الضلال، وفي ذلك تشبيه لحال من يسلك سبيل الضلال بعد أن فُتِح له باب الهداية، وأرشد إلى الطريق المستقيم بحال من يكون في مكان آمن مستقر فيه، قد مكن له في الإقامة ومهد له، ثم طُرد منه مذءوما مدحورا مبغوضا مكروها.
وإنهم إذا ساروا في طريق الغواية، وتركوا منهاج الهداية تفسد مداركهم، فيطمس على عقولهم، وتجمد قلوبهم فلا تلين لحق، ولا يدخل إليها نور؛ ولذلك قال تعالى: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) أي جعلنا قلوبهم غليظة صلبة كالحجارة، منزوعة منها الرأفة والرحمة؛ وذلك لأنهم لما مردوا على العصيان والمخالفة صلبت قلوبهم، فأصبحت لَا تنفتح لإدراك حق، كما قال في شأن هؤلاء اليهود عندما أخذوا في طريق العصيان: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74).
والقراءة المشهورة عند البصريين هي: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) وهناك قراءة أخرى وهي مشهورة عند الكوفيين، وهي: (وجعلنا قلوبهم قَسِيَّة) (1) وقد خرجها بعض المفسرين على معنى القراءة السابقة، بيد أن فيها مبالغة؛ لأنها على وزن فعيلة فهي تدل على تمكن صفة القسوة فيهم، وذكر ابن جرير الطبري لهذه القراءة وجها آخر، وقال: " إنما القسية في هذا الموضع القلوب التي لم يخلص إيمانها، ولكن يخالط إيمانها كفر، كالدراهم القسية، وهي التي يخالط فضتها غش من نحاس أو رصاص " ثم قال رضي الله عنه: " وأولى التأويلين في ذلك بالصواب،
________
(1) قرأها بغير ألف: حمزة والكسائي، وجبلة عن المفضل عن عاصم. وقرأ الباقون بالألف. غاية الاختصار (800).(4/2078)
تأويل من تأول فعيلة من القسوة، كما قيل نفس زكية وزاكية، وامرأة شاهدة وشهيدة، لأن الله تعالى جل شأنه وصف القوم بنقضهم ميثاقهم وكفرهم به ولم يصفهم بأي شيء من الإيمان، حتى تكون قلوبهم موصوفة بإيمان يخالطه كفر، كالدراهم القسية التي يخالط فضتها غش " والحق عندي أن كلتا القراءتين قرآن، وما دامت متواترة فالجمع بينهما ضروري، والجمع بجعل إحداهما تأتي معنى ليس في الأولى يكون أولى وتكون كلتاهما متممة للأخرى، وبالجمع يكون المعنى: وجعلنا قلوبهم قاسية، لأنه اختلط فيها الزيف بأصل الإيمان، فعندهم إيمان بالله من غير إذعان لأحكامه، ولا تصديق لرسله، ولا قيام بالتكليفات، والزيف أكثر من الأصل، والنحاس أكثر من الفضة، فصلبت.
وإن قسوة القلب وفساده يترتبان على الانحراف عن الطريق السوي الذي عبر عنه بالطرد، لأن من ضل الطريق كلما سار في الضلال تاه عن وغاب عنه، ولأن القلب كلما أركس في الشر أربد وأظلم، وصارت غشاوة من الباطل تغطيه فلا يدرك، وتحجره فلا يلين.
وهنا بحث لفظي، وهو في قوله تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ) فإن الفاء هنا تسمى بفاء الإفصاح، وهي تفصح عن شرط مقدر تقديره: فإذا ضلوا ونقضوا الميثاق، فبسجب ذلك يُطردون من طريق الرحمة ومنهاج الاستقامة، و " ما " زيدت في الإعراب لتأكيد معنى السببية بين نقض الميثاق والضلال.
(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) أي يحيلون بالكلام عن الموضع الذي نزل فيه ولأجله، والمعنى المقصود منه إلى طرف بعيد عن لبه، وعن معناه، فالحرف للشيء طرفه الذي يبعد عن قلبه وعن قطبه الذي يدور حوله، والتحريف كما جاء في عبارات المفسرين قسمان، قسم يغيرون به معاني الكتاب، فيتجهون بها إلى أمور ربما يحتملها الكلام، ولكن لَا يحتملها إلا على بعد من موضوعها، كبعد طرف الشيء عن قطبه، وقسم آخر يغير ذات الكلام بزيادة ألفاظ فيه تذهب بأصل المعنى، أو بحذف ألفاظ يذهب بالمقصد من القول، وقد كان من اليهود القسمان،(4/2079)
فهم غيروا معاني الكتاب الذي أنزل وأبعدوه عن معانيه التي قصدت من سَوْقِهِ، وأريدت من شرعه، وهم غيروا وبدلوا في عباراته حتى تذهب تكاليف الكتاب وتطمس معالم أحكامه، ومن ذلك مثلا أنه جاء في كتبهم تحريم الربا بمثل هذا الكلام (أخاك لَا تقرض بالربا) فزادوا كلمة الإسرائيلي: (أخاك الإسرائيلي لا تقرض بالربا) وبذلك تغير المعنى تغيرا جوهريا، والكلم: المراد بها الكلام، فهو اسم جمع يدل على الجمع بحذف التاء، كشجر وشجرة، وتمر وتمرة.
وجاء قوله تعالى: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) ثمرة لقسوة القلوب والطرد بالضلال؛ وذلك لأنهم لما ضلوا وفسدت قلوبهم واختلط فيها الزيف بالجوهر حتى غلب الزيف، ماتت ضمائرهم، وصاروا كذابين يكذبون على الله تعالى، وعلى الناس، فيغيرون معاني التنزيل، ويزيدون فيه وينقصون على حسب هواهم وشهواتهم، وارتكبوا بهتانا عظيما.
ومع التحريف الذي قصدوه، وشوهوا به التوراة التي نزلت على رسولهم قال الله تعالى عنهم: (وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) والنسيان معناه الترك، أو الغفلة عنه. وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني ما نصه: " النسيان ترك الإنسان ما استودع إما لضعف قلبه، وإما عن غفلة، وإما عن قصد، حتى ينحذف عن القلب ذكره " وهذا يستفاد منه أن النسيان ترك عن غفلة أو ترك عن قصد، وقد يكون النسيان سببه أمر خارج عن إرادة الناس، كأن يخفى عدو قاهر ما عند الشخص فيتركه مكرها.
وقد كان عند اليهود - قبحهم الله - الأنواع الثلاثة، فهم قد أصابتهم الغفلة عن كتابهم بسبب فساد قلوبهم، وهم قد تركوا بعضه، وجعلوه مهجورا، لأنه لَا يتفق مع أهوائهم، وقد نزل بهم من الشدائد ما ضيع كتبهم، ولم يبق منها إلا القليل، كما فعل ذلك بختنصر معهم، حتى إذا عاد جمعهم لم يبق من كتبهم إلا متناثرا، لَا يكون مجموعا متناسقا.(4/2080)
وهنا لفظان نقف عند المعاني التي يشيران إليها: أولهما: معنى " حظ " فنقول: الحظ هو النصيب الكبير الذي يعد محظوظا من يأخذه، وهذا يدل على أن الجزء الذي نسي هو جوهر الدين ولبه، وحسبك أن تعلم أن التوراة التي بأيدينا ليس فيها ذكر لليوم الآخر، وما يكون فيه من نعيم مقيم وعذاب أليم، وثاني اللفظين: هو " مما ذكروا به " فإن ذلك يشمل تعاليم موسى وتعاليم الأنبياء من قبله، وكل هذا نسوا الحظ الأكبر منه.
(وَلا تَزَالُ تَطَّلِع عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ) الجماعات الإنسانية تتوارث عادات وأخلاقا، حتى تصير كأنها طبائع وجِبِلَّة، فالكلام في بني إسرائيل الذين سبقوا عصر النبوة، ولكن الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - يحملون الصفات التي كان أسلافهم عليها؛ ولذلك اعتبروا منهم أو مثلهم، فخاطب الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه - صلى الله عليه وسلم - يرى في الحاضرين صورة السابقين، ويرى فيهم طائفة منهم، وإن تباعدت الأزمان، وإذا تخالفت الشخوص لَا تتخالف الصفات؛ ولذلك قال تعالى: (ووَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ منْهُمْ) أي أن صفاتهم مستمرة وهم بذلك مستمرون، فلا تزال تطلع على طائفة خائنه منهم خيانة أسلافهم، فيهم قسوتهم، وفيهم ضلالهم، وفيهم انحرافهم. و (خَائِنَة): وصف لمحذوف تقديره بقية خائنة، أو طائفة خائنة، أو نفوس خائنة منهم، وفسر بعض المفسرين خائنة بمعنى خيانة، والمعنى على ذلك لَا تزال تطلع على خيانة، والمؤدى واحد؛ لأن الاطلاع على فرقة أو بقية خائنة اطلاع على الخيانة، والاطلاع على الخيانة اطلاع على قوم متصفين بها، وفي الكلام إشارة إلى أن هؤلاء اليهود في ماضيهم قد خانوا الله تعالى، وخانوا أنفسهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ موثقا مؤكدا عليهم، فلا تعجب إذا كانوا قد خانوا العهد معك، ونقضوا الحلف الذي حالفوك عليه، على أن أمنك أمنهم، وأمنهم أمنك، وأن تكون العلاقة بينك وبينهم حسن الجوار، والمودة الحسنة.(4/2081)
ولما كان اليهود منهم أمة مقتصدة، وأن كثيرا منهم ساء ما يعملون، اسْتُثْنِيَ أهلُ الخير من أن يكونوا خائنين، كسائرهم، فقال: (إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ) ولقد أجمع المفسرون على أن هذا القليل منهم: اليهود الذين دخلوا في الإسلام، وآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وما جاء به، ويصح أن نعد منهم عددا قليلا محدودا من اليهود قد خالفوا سائرهم عندما كانوا يهمون بنكث العهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهؤلاء، وإن لم يسلموا يصح أن يستثنوا من الذين يخونون وينكثون العهد، ولقد أمر الله تعالى نبيه بأن يأخذ الناس بالعفو والصفح الجميل، ولذا قال تعالى:
(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِن اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) العفو معناه في مثل هذه:
عدم مقابلة الإساءة بمثلها، والتجافي عنها، وترك المؤاخذة عليها، والصفح معناه: ترك المؤاخذة، وترك اللوم والتثريب، بل ترك العتاب عليها؛ ولذلك قالوا: إن الصفح أعلى رتبة من العفو، وقال في ذلك الراغب الأصفهاني في مفرداته: وهو - أي الصفح - أبلغ من العفو؛ ولذلك قال تعالى: (. . . فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا. . .)، وقد يعفو الإنسان ولا يصفح ولكن لَا يمكن أن يتحقق صفح من غير عفو، إذ العفو ترك المقابلة بالمثل ظاهرا، وقد يكون في النفس شيء، أما الصفح فإنه يتناول السماحة النفسية، واعتبار الإيذاء كأن لم يكن، في المظهر والقلب.
والإحسان يطلق على الإتقان، ومن ذلك قوله تعالى: (. . . إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا)، ويطلق على الإنعام على الغير، ومن ذلك قول القائل: " أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم " والإحسان في هذه الآية يشمل المعنيين، والإحسان فوق العدل؛ لأن العدل مع غيرك إعطاؤه الحق الذي له، والإحسان إعطاؤه الحق وزيادة، ومعنى النص الكريم: إذا كانوا على هذه الصفة التي ذكرناها فلا تعاملهم بمثل أخلاقهم، بل عاملهم بأخلاق النبوة التي تدعو إلى الحق، وإلى صراط مستقيم، فاعف عنهم ولا تؤاخذهم بذنوبهم، فلا تعاملهم بالمثل إلا دفاعا عن الحوزة وأصفح الصفح الجميل، ولا تجعل في قلبك غلا(4/2082)
ولا ضغنا، حتى يخلص قلبك من كل ما يعكره، لتصفو الدعوة، وإن الله تعالى يحب الذين يتقنون أعمالهم بسلوك سبيل الدعوة الصحيحة، وأخذ الناس بالرفق، ومعاملتهم بالتي هي أحسن، والإنعام عليهم بالعفو، وخلوص النفس من كل الشوائب بالصفح الجميل.
ولكن من هم الذين يستحقون ذلك العفو والصفح، أو بعبارة أخرى من الذين أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعفو عنهم والصفح الجميل لهم. قال بعض المفسرين: هم العدد القليل الذين استثناهم الله تعالى بقوله تعالت كلماته: (إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ).
وإنا نرى أن ذلك، ولو أنه مستقيم مع سياق اللفظ هو غير مستقيم في سياق المعاني؛ لأن هؤلاء لم يسيئوا ولم يكونوا خائنين، حتى يكون للعفو والصفح موضع.
وقال بعض المفسرين: إن الذين أُمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعفو عنهم هم اليهود جميعا، ولكن نُسخ هذا بقوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ. . .)، وهؤلاء منهم، ولكن يرد عليه بأن النسخ لَا يصار إليه إلا إذا لم يمكن الجمع.
وقال آخرون: إن المراد اليهود ولا نسخ؛ لأن العفو والصفح كان بمساكنتهم وبقبول الجزية منهم مع معاشرتهم للمسلمين على أن يكون لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وفي ذلك النظر وجاهة.
والذي نراه أن الأمر بالعفو والصفح عام لليهود، لكي يؤدي النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب الدعوة، وكذلك الشأن في كل داع إلى دعوة؛ لأنه إذا كانت النفس يشوبها الغضب والألم والإحن ويبدو ذلك في اللسان، فإنه لَا تستقيم الدعوة، ولا تقوم الحجة على من يدعوهم؛ لأن الله تعالى يقول: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ. . .)، ويقول سبحانه: (ولا تجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بالَّتِي هِي أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا منْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)، ولا يمكن أن يكون ذلك قد(4/2083)
نسخ؛ لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا؛ ولأن التوفيق غير متعذر، ولأن الأمر بالعفو والصفح لَا ينافي القتال، لأنه إذا اعتدت طائفة وجب فلّ شوكتها، وقد اعتدت قينقاع وخانت الحلف، ولا يمكن ائتمانها في وقت قتال، فوجب إجلاؤها، وكذلك بنو النضير، واستحقت قريظة ما نزل بها، وما كان ذلك إلا دفاعا عن النفس، وتأمينا لما وراء الظهر، وفي غير هذه الأحوال الاستثنائية يكون العفو والصفح واجبا ليؤدي النبي - صلى الله عليه وسلم - واجب التبليغ، ولا يعمل الأمر بالعفو عند موجب القتال للدفاع؛ إذ إن ذلك يكون إلقاء بالنفس إلى التهلكة، ويطبق الأمر بهذا الشكل في عصرنا، فاليهود الذين يخربون في ديارنا تكَفّ أيديهم ويُخرجون منها، وغيرهم نعاملهم بالخلق الحسن إلا أن يظاهروا الأشرار فيهم، وقليل من لم يظاهروهم.
* * *(4/2084)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
(وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ... (14)
* * *
في الآيات السابقة بَيَّنً الله الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل، ونقضوه، ونسوا حظا مما ذكروا به، وفي هذا النص الكريم يذكر سبحانه وتعالى الميثاق الذي أخذ على قوم عيسى عليه السلام، وهو يشمل ما جاء به ذلك النبي الكريم، والرسول الأمين - صلى الله عليه وسلم - من بيان وحدانية الله تعالى، وأنه ليس بوالد ولا ولد، وأنه ليس له صاحبة، ومن إحياء للتوراة الحقيقية ووصاياها وتكليفاتها، وقد صدَّق الصادق منها.
ولكن النصارى نسوا حظا مما ذكروا، أي نسوا قدرا كبيرا هو لب الديانة المسيحية، وهو التوحيد، وكثير من وصايا عيسى عليه السلام، وما دعاهم إليه من تسامح وحب للسلام.
وسبب نسيان حظ أي نصيب كبير مما ذكروا به هو اضطهاد النصارى اضطهادا شديدا في عهد الرومان، حتى ضاعت كتبهم، ولم يعرف شيء منها إلا قليل غير سليم بعد مائتي سنة من ترك المسيح هذه الدنيا، ثم ظهرت هذه الأناجيل التي يتدارسونها، ولا يزالون يغيرون ويبدلون فيها على حسب الطبعات(4/2084)
المختلفة، بعد أن دخل قسطنطين إمبراطور الرومان فيها، وغير وبدل في مجمع نيقية الذي انعقد في سنة 325 ميلادية، وقد ذهب لب الديانة وهو التوحيد.
وهنا نكتة بيانية أساسها بيان السبب في أن الله تعالى عبر عنهم بقوله تعالت كلماته: (الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى) ولم يقل النصارى للإشارة إلى أن ادعاءهم النصرانية التي هي الدين الذي دعا إليه المسيح عليه السلام قول يقولونه بأفواههم ولا يتبعونه بقلوبهم؛ إذ هجروا لب تعاليم المسيح، وهو الوحدانية.
(فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) " الفاء " هنا للسببية أي أنهم بسبب نسيان كتبهم، وذهاب مصدر دينهم اختلط الباطل بالحق فيما يعتقدون فتفرقوا شيعا، وكانت بينهم العداوة، فمن قائل إن المسيح إله وهو ابن الله، ومنهم من قال إنها بنوة نعمة، ومنهم القائلون بالحق وهم الذين أنكروا ألوهيته كأريوس وأتباعه، ثم الذين قالوا بالألوهية اختلفوا أَوَلِدَتْ مريم اللاهوت من الناسوت، أم ولدت الإنسان فقط، ثم اختلفوا في الإرادة التي تكون من المسيح أتكون منهما أو من أحدهما، وكل فرقة تكفر الأخرى وتعاديها وتضطهدها وترميها بالكفر، حتى إن الملكانيين كانوا يذيقون اليعقوبيين سوء العذاب، ولم ينقذهم من أيديهم إلا الحكم الإسلامي العادل الرشيد، وكانت العداوة في العصور الأخيرة بين الكاثوليك والإنجيليين، وأريقت فيها الدماء، وإن تلك العداوة ستستمر إلى يوم القيامة. وهنا بحث بياني وهو التعبير بـ أغرينا، فإن الإغراء من الغراء وهو ما يلصق به، والمعنى كان الالتصاق والارتباط الذي يربطهم عداوة ظاهرة بالجدل أو المحاربة، وبالكراهية المستكنة بالنفس وهي البغضاء، أي البغض الشديد الذي يسكن القلب، ولا علاج له، وقد بَيَّنَ الله سبحانه وتعالى عاقبتهم بقوله:
(وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُم اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) أي أنهم يستمرون في ريبهم يترددون، وفي عداواتهم يلجون، حتى يوم القيامة، وفي هذا يخبرهم الله تعالى الخبر العظيم بنتيجة ما كانوا يعملون ويصنعون من غير تفكير ولا تدبر، وسوف(4/2085)
هنا لتأكيد الخبر، وبيان أنه وإن تأخر آت لَا محالة اللهم ألهمنا قول الحق والنطق به، وقنا شر أهل العداوة والبغضاء من عبيدك، إنك سميع الدعاء.
* * *
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
* * *
بيَّن الله سبحانه وتعالى الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل، وقد وثقه بشهادته سبحانه وتعالى، وبعث اثني عشر نقيبا عليهم يمثلون أسباطهم، ومع ذلك نقضوه، فطردهم الله من رحمته، فقست قلوبهم إذ مردت على العصيان، وأطفأت النور الذي جاء إليهم من الله تعالى، فحرفوا الكلم عن مواضعه، وأهملوا العمل بالباقي وجعلوا شرع الله تعالى نسيا منسيا، وامتلأت نفوسهم بالخيانة، وابتلى الله تعالى محمدا - صلى الله عليه وسلم - بذريتهم التي ورثت عنهم أخلاقهم ومروقهم عن الحق، مروق السهم من الرمية، ثم كان من الذين نسبوا أنفسهم للنصرانية بعض ما كان من اليهود، فنسوا حظا من الكتاب الذي جاء به عيسى عليه السلام إليهم، وأطفأوا نور الحق الذي جاء به في قلوبهم، وتفرقوا فيما(4/2086)
بينهم، وأغريت بسبب هذا التفريق العداوة والبغضاء بينهم، بعد هذا بين لهذين الفريقين وغيرهما الطريقة المثلى، والصراط المستقيم فقال سبحانه:(4/2087)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكمْ رَسُولُنَا يبَيِّنُ لَكمْ كَتِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفونَ مِنَ الْكِتَابِ) الخطاب لليهود والنصارى الذين نسوا في الماضي حظا مما ذكروا به وحرفوا في الماضي الكلم عن مواضعه، والذين طردوا أسلافهم من طريق الحق لنقضهم الميثاق، وقست قلوب الماضين منهم. . وقد انتقل البيان القرآني من الكلام عن ماضيهم إلى مخاطبة الحاضرين الذين يجري في أوساطهم ما كان يجري في أوساط الذين تقدموهم، فالالتفات من الكلام عن الغائب إلى مخاطبة الحاضر، لأن البيان للحاضرين والتكليف القائم للقائمين، وإن كان يجري في أوساطهم ما كان يجري في أوساط ماضيهم، ولكن لَا بد من أنه يجهر بالحق في أوساطهم، فهم مخاطبون بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقد أفرد الكتاب، والنصارى واليهود لهم كتب وأسفار لَا كتاب واحد، وكان الإفراد لأحد أمرين أو لهما معا - أول الأمرين - أن الكتاب يطلق ويراد به الجمع، لأن (أل) هنا للجنس، كما يقال: السوق، أو: أهل العلم، ويراد العلوم.
وثاني الأمرين: أن العرب كانوا قسمين: أُميين لَا يقرءون، أو ليست الكتابه رائجة عندهم، وأهل كتابة وعلم بالكتاب، ومن ذلك قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75). فالأميون هنا العرب الذين لم تكن الكتابة والقراءة كثيرة عندهم.
وعلى ذلك تكون كلمة " أهل الكتاب " ليست مقابلة فقط للمشركين وعبدة الأوثان، بل هي مقابلة للأميين.
وأهل الكتاب الذين صاحبهم الكتاب وكانوا له كالأهل الذين يرتبطون فيه. وفى نداء اليهود والنصارى فائدتان:(4/2087)
إحداهما: ما يمتازون به عن المشركين بالعلم، وأنهم ليسوا أُميين، بل هم مدركون عمن دونهم.
والفائدة الثانية: تقريعهم ولومهم بأنهم مع أنهم معروفون بعلمهم بالكتابة ومصاحبتهم لهم قد أخفوا كثيرا.
وقوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا) فيه ما يومئ بأنهم مختصون بالخطاب، مع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث للناس أجمعين عربهِم وعجمهم، وأسودهم وأبيضهم، كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَةً لِّلنَّاسِ بَشِيرَا وَنَذِيرًا. . .)، ولكن كان الإيماء بالاختصاص لَا يتضمنه البيان الذي من بعد ذلك، من أنه يبين كثيرا مما كانوا يخفون، فكان هذا نوع اختصاص لهم، وإن كان القرآن قد جاء لعامة المكلفين لَا فرق بين كتابي وأمي، ولا بين من كانت له ديانة سماوية ومن لم يكن له بلاغ من قبل، وكان التعبير بقوله تعالت كلماته بـ (جَاءَكُمْ) بدل " بُعِثَ لكم " للإشارة إلى أنه يحاضرهم ويخاطبهم ومعهم جاء إليهم يرونه ويراهم، وإضافة رسول إلى الله تعالى في قوله سبحانه (رَسُولُنَا) فيه إشارة واضحة إلى أن البيان من الله سبحانه وتعالى، وكأن المعنى، ولكلام الله تعالى المثل الأعلى: قد جاءكم يحاضركم ويخاطبكم رسولنا الذي ينطق باسمنا، ويتحدث عنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون.
(يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) هذا النص الكريم صريح في أنهم كانوا يخفون أمورا من علم الكتاب الذي نزل على موسى، وما جاء به عيسى عليهما السلام، وقد قال تعالى في شأنهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174).
وهنا نتساءل ما الذي أخفوه وبينه القرآن، والجواب عن ذلك: هو كل ما جاء في القرآن من تكليفات دينية تتصل بالفطرة الإنسانية، ولا تختص بقوم دون قوم، مثل الصدق، وحسن المعاملة للناس، وإعطاء الناس حقوقهم لَا فرق بين(4/2088)
جاهل وعالم، وأمي وغير أمي، وقوم وقوم وجنس وجنس، وتحريم الربا وأكله من القريب والبعيد، والقصاص العادل والعقوبات الزاجرة، وقد قال بعض العلماء: إن الذي أخفوه هو عقوبة الرجم، ويروي ذلك ابن جرير الطبري فيقول بسنده: إن نبي الله تعالى أتاه اليهود يسألونه عن الرجم، واجتمعوا في بيت قال: أيكم أعلمكم؛ فأشاروا إلى ابن صوريا فقال: أنت أعلمهم، قال: سل عما شئت، قال: أنت أعلمهم قال: إنهم يزعمون ذلك، فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى، والذي رفع الطور، وناشده بالمواثيق التي أخذت عليهم حتى أخذه أَفْكَلْ (1)، فقال: إن نساءنا نساء حسان، فكثر فينا القتل فاختصرنا فجلدنا مائة.
وقد يكون هذا مما أخفوه، ولكن لَا يمكن أن يكون كل الذي أخفوه، فإن الله تعالى يقول: (يُبَيِّنُ لَكمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفونَ) ولا يمكن أن يكون الشيء الواحد كثيرا، بل إن الكثرة تقتضي التعدد، وأنهم أخفوا كثيرا، فقد أخفوا البشرى بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وحرفوا القول لكيلا تُعلم للناس، وأخفوا العلم بما يكون بعد الموت من بعث ونشور، والحساب والثواب والعقاب والجنة، والنار وما فيها من عذاب أليم، حتى إنك تقرأ التوراة التي بأيدينا، فلا تجد ذكرا للحياة الآخرة، وما يكون من جزاء على ما عمل المرء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وأخفوا تحريم أكل الربا من كل إنسان، وحرفوه وقصروا المنع على أكل الربا من الإسرائيلي، وأخفوا محاولتهم عبادة الأوثان عقب إخراجهم مستنقذين من فرعون، وهكذا فقد أخفوا كثيرا، وبين الله تعالى في القرآن الكريم كثيرا مما يتصل بلب الرسالة الإلهية.
هذا بعض مما أخفوا، وهذا بعض مما بين الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - وأنه سبحانه بَيَّنَ الجوهر الذي أخفوه وهو كثير، لأنه لب الرسالة الإلهية.
ولقد قال تعالى: (وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) أي يترك كثيرا ما كنتم تخفون من غير بيان إذا لم يكن في تركه إهمال لحقيقة دينية، ويكون فيه افتضاح لأمركم كادعائكم أن لوطا عليه السلام زنى بابنتيه، وكادعائكم أن داود أحب امرأة قائد
________
(1) الأفكل: بوزن الأرنب: الرِّعْدة.(4/2089)
فأرسله إلى الميدان ليخلو له وجه زوجته، وغيره مما اشتملت عليه توراتكم التي ألفتموها، وفيها الحق والباطل، وفي التعبير بكلمة " العفو " إشارة إلى أن هذا الترك يتضمن معنى الصفح والغفران إن أحسنتم في حاضركم؛ لأنه ترك لأمر في ذكره مضرة وتحقير لكم.
وقال الحسن البصري: إن معنى (وَيَعْفُو عَن كثِيرٍ) أي لَا يؤاخذكم عليه، ولا يعاقبكم لأجله إن أحسنتم في حاضركم، وإن النسق البياني يقتضي أن يكون موضع الترك مقابلا لموضع البيان، والمقابلة تقتضي أن يكون الترك الكثير كالبيان الكثير، وكل ذلك داخل في عموم ما كانوا يخفونه ولا يبينونه، وذلك هو الظاهر المتفق مع السياق، وغيره ليس متفقا مع السياق.
(قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مبِينٌ) هذه الجملة بيان للجملة السابقة؛ ولذلك كان الفصل بينهما لكمال الاتحاد، إذ الثانية في معنى الأولى مع وصف جديد فيه بيان الحقيقة؛ لأنه إذا كان مجيء الرسول فيه بيان المختفى، وكشف المستور، فهو نور، وبعثه نور، وقد سجل ذلك النور في كتاب مبين، أي واضح في ذاته مبين للشرع الشريف، ولما أخفاه أهل الكتاب وطمسوه من معاني الوحدانية الخالصة، ومن الشرائع المحكمة، وفي هذا النص تأكيد لمعنى الرسالة عن الله تعالى التي ثبتت بقوله تعالى (رَسُولُنَا) وفي هذا النص تصريح بأن ما يجيء به الرسول من نور كاشف هاد، وكتاب مسجل للشريعة هو من الله تعالى، وقد صرح بذلك في قوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّه نُورٌ وَكتَابٌ مُّبِينٌ).
وللمفسرين في بيان معنى (نُورٌ) و (كِتَابٌ) كلام أساسه أن النور يجب أن يكون غير الكتاب؛ لأن العطف بينهما يقتضي التغاير بين حقيقتهما، إما من حيث الذات، أو من حيث الوصف، أو النتيجة، فإن الشيء الواحد قد يكون له وصفان متغايران، وبمقتضى هذا التغاير يكون العطف.(4/2090)
وقد خَرَّجَ بعض المفسرين العطف على أساس التغاير في الذات، ففسروا النور بالرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - فهو نور الأنوار، كما عبر الآلوسي (1)، والكتاب بأنه القرآن الكريم، فهو سجل الإسلام لَا يغادر شيئا منه إلا بَيَّنَه، إما بالتفصيل، أو بالإجمال الذي بينته السنة.
وفسر آخرون النور بأنه القرآن الكريم، كما فسر الكتاب المبين به على أساس المغايرة من حيث الأثر والبيان، فالقرآن نور؛ لأن فيه بيان الحق الذي لا تنكره العقول، والشرع الجامع الذي أتت به كل الرسائل، وهو من ناحية أخرى الشيء المكتوب المسجل الباقي إلى يوم القيامة لَا يعتريه تغيير ولا تبديل، فالمغايرة في العطف مغايرة وصف وأثر لَا مغايرة ذات، إذ القرآن المبين نور، وكتاب مكتوب مسجل باق إلى يوم القيامة. وقد اختار هذا الوجه الزمخشري ولم يذكر غيره.
والذي نراه في تفسير النص السامي، هو أن هذا فيه بيان لعمل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو أنه أتى بعلم كاشف هو نور، فرسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - نور في ذاتها، وأتى بكتاب معجز دال على رسالته، ومشتمل على شريعته، وهو حجته إلى يوم القيامة.
وقد بين سبحانه وتعالى الغاية الكبرى من رسالته إلى أهل الأرض، ومن النور الذي جاء به الرسول والكتاب الذي أنزله، فقال:
* * *
________
(1) قال الألوسي في تفسيره (ج 6، ص 96) (قَد جَاءَكُم مَنَ الله نُورٌ) عظيم وهو نور الأنوار والنبي المختار - صلى الله عليه وسلم -.(4/2091)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
(يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ ... (16)
* * *
هذه هي الثمرات التي ترجى من الرسالة الإلهية إلى أهل الأرض، وكونها نورا يهتدي به الساري، وفيه شريعة قائمة في كتاب محفوظ إلى يوم القيامة، وهذه الثمرات ثلاث أولها: هداية إلى الحق، وإخراج من الظلمات إلى النور، ويهدي به الله سبحانه إلى صراط مستقيم لا عوج ولا أمت.(4/2091)
أما الأولى - فقد عبر الله سبحانه وتعالى عنها بقوله تعالت كلماته: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) والضمير في قوله تعالى: (بِهِ) يعود إلى مجموع ما ذكر، أو يعود إلى القرآن وحده، والظاهر ذلك؛ لأن الضمير يعود إلى أقرب مذكور، وفي عود الضمير إلى القرآن تضمين لكل ما ذكر؛ لأن القرآن هو وعاء الشريعة، وحجة النبي - صلى الله عليه وسلم - القائمة إلى يوم القيامة، وهو مصباح النور المحمدي الذي لَا ظلام فيه، وقد ذكر سبحانه من يهتدي بالقرآن، وموضع الهداية، فليس كل إنسان أهلا لهداية القرآن والانتفاع به، فإن من يهتدي لَا بد أن يكون فيه عقل يدرك لم تظله غشاوة رانت عليه، وبصيرة نافذة، وقلب قد استقام لطلب الحكمة، وقد ذكر سبحانه أن الذي يهتدي بالحق والنور الكاشف من اتبع رضوانه، واتباع رضوان الله تعالى: طلبه ذلك الرضوان، ومعنى طلب ذلك الرضوان: أن يكون قلبه مخلصا لطلب الحق، لم يرنق قلبه بغرض باطل أو أهواء مردية، أو انحراف في طلب عن الغاية، بل يتجه اتجاها مستقيما إلى الحق لَا يبغى سواه، ولا يطلب إلا رضوان الله تبارك وتعالى، فإن الإخلاص يجعل العقل يشرق، والقلب يمتلئ بالحكمة.
وأما ما يهتدي إليه فهو سبل السلامة، والصفاء وعدم وجود البغضاء، فالسلام هو: السلامة من كل أدران الحقد والحسد، والسلامة من كل ما يؤدي إلى البغضاء والعداوة، وسبلها هو: الأعمال الصالحة، فيعمل للدنيا بأخلاق مستقيمة، ونفس لَا يخالطها فساد، ولا تستولي عليه الشهوات، فيكون مع الناس في أمن وسلام، وفي الآخرة يكون في دار السلام، كما قال تعالى في شأن المتقين المهتدين: (لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عندَ رَبِّهِم. . .)، وكما قال تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44).
وأما الثانية - فقد عبر عنها تعالى بقوله: (وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ) ومرجع الضمير هنا هو مرجع الضمير في الجملة السامية السابقة، فالقرآن والنور والهداية المحمدية كل هذا يخرج الناس من ظلمات الباطل إلى النور(4/2092)
الواضح بإذن الله تعالى وبعلمه وتقديره، فالإذن هنا معناه العلم والإرادة، أي أن ذلك الإخراج من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى بعلمه تعالى وإرادته، وإرادته لا تكون إلا على مقتضى حكمته في خلقه، وهو العزيز الحكيم، اللطيف الخبير، السميع البصير، تعالت أسماؤه الحسنى.
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الضلال بالجمع والنور بالإفراد؛ وذلك لأن طرق الشيطان مختلفة، وكل طريق منها ظلمة في ذاته، فالشرك ظلمة، والبغضاء ظلمة، والمعصية ظلمة، وأكل مال الناس بالباطل ظلمة، ووأد البنات ظلمة، واسوداد الوجه بالكآبة عند ولادة المرأة ظلمة، والظلم ظلمات قد تعددت فنونه، وتباينت أقسامه والنور والقرآن والهدى المحمدي هو الذي يكشف هذه الظلمات، وينير الطريق للخروج، بإذن الله تعالى وعلمه وإرادته يخرجهم النور من هذه الظلمات المتكاثفة.
وأما الثالث - فقد قال تعالى: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرِاطٍ مسْتَقِيم) والمعنى أن الله تعالى يهدي طالب إلى طريق مستقيم لَا التواء فيه، والهداية في الحقيقة من الله تعالى، فهو الذي يهدي ويرشد، والمهتدي هو من يطلب الحق إرضاءً لله تعالى، ونسبت الهداية إلى القرآن؛ لأنه الذي اشتمل على ما فيه الهداية من أحكام، وفضائل، وبيان لمعنى الرسالة الإلهية؛ ولأنه هو المعجزة الكبرى للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والطريق المستقيم هو دين الله تعالى القيم، دين التوحيد، دين الإسلام والتسليم والتفويض لله تعالى بعد القيام بالعمل، وهو دين الخير في الدنيا والآخرة، فمن اتبعه فقد رشد، ومن تركه فقد ضل، وهو وإن تعددت أنواع العمل طريق واحد موصل للغاية من أقرب اتجاه، وهو طريق الله تعالى، وقد قال تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153). [الأنعام (1)]
اللهم اهدنا صراطك المستقيم.
________
(1) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنا عنْدَ النبِي - صلى الله عليه وسلم - فخَط خَطًّا وَخَط خَطين عَنْ يَمِينِهِ وَخَط خَطيْنِ عَنْ يَسَاره، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الخَط الأوسَط ققَالَ: " هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ " ثمَ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ). رواه ابن ماجه: المقدمة - اتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (11).(4/2093)
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن اليهود حرفوا الكلم بتبديل عبارات التوراة، وتحريف معانيها وتفسيرها بغير ما يراد منها، ثم بإخفائهم كثيرا مما اشتملت عليه من أحكام تكليفية، ثم تحللهم من أحكام الباقي، وأن النصارى مثلهم نسوا حظا مما ذكروا به، بل أهملوا لب الدين، وحقيقة التوحيد فيه، وتفرقوا فرقا مختلفة وأغريت بينهم العداوة والبغضاء، فكان في الماضي التذبيح بين الملكانية واليعقوبية، وكان من بعد ذلك ما كان بين غيرهم، حتى تركوا الدين من حياتهم، ولم يبق منه عندهم إلا ما يعاند الوحدانية، ويضطهدون به أولياءها وأنصارها، وقد جاء الإسلام منذ تبليغ النبي - صلى الله عليه وسلم - به، يبين كثيرا مما أخفوا، وحقيقة الرسالة التي تنزل من الله تعالى لخلقه، والتي هي لب اليهودية الأولى، ونصرانية المسيح عليه السلام، وفي هذه الآيات المتلوة يبين سبحانه لب ما غيروا فقال تعالى:(4/2094)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) لقد اتفق النصارى على أن يسوع عندهم فيه عنصر إلهي، وفي عصور الإسلام الأولى كان النسطوريون منهم يقولون: إن المسيح ليس ابن الله تعالى في الألوهية، ولكنها بنوة النعمة، وقد ذهبت هذه الفرقة في عبر التاريخ، أو تكاد، فلا تكاد تسمع ذلك الصوت الآن إلا عند بعض الموحدين الذين ظهروا في طائفة البروتستانت، ولكنهم عدد نادر، لَا يعترف بهم على أنهم نصارى.
وإذا كان الأمر المعروف عندهمْ أن يسوع ابن الله، وفيه عنصر إلهي، فقد قالوا: إن الألوهية قد حلت فيه، ولازم ذلك القول أن يكون هو الله، أو هو إله يعبد، ومهما يكن فقد قالوا باتحاد عنصر الألوهية فيه، وقد قال في ذلك البيضاوي: " هم الذين قالوا بالاتحاد منهم، وقيل لم يصرح به أحد منهم، ولكنهم لما زعموا أن فيه لاهوتا، وقالوا لَا إله إلا واحد، لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم " وذلك بلا ريب ينتهي إلى القول بأنهم يعتقدون أن المسيح هو الله، وإن لم يصرحوا بذلك، فهو لازم قولهم باتحاد عنصر الألوهية فيه مع الله.
وإن ذلك الكلام تخريج على أن النصارى مذهب واحد في اعتقاد الألوهية، وأنه ابن الله، وبذلك يكون قوله تعالى في هذه السورة سورة المائدة: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ فَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ. . .) متلاقيا مع هذا النص الكريم، فهنا صرح بلازم قولهم، وهنالك صريح بذات قولهم.
والحقيقة أن النصارى اليوم - وهم لَا يزالون يغيرون ويبدلون - يصرحون بأن الأقانيم ثلاثة، وأنها شيء واحد، وينتهون إلى أن المسيح هو الله، والله هو المسيح، والله هو روح القدس، فقد قال الدكتور " بوست " في تاريخ الكتاب المقدس: " طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر: الله الآب، والله الابن، والله الروح القدس، فإلى الآب ينتمي الخلق بواسطة الابن، وإلى الابن الفداء، وإلى الروح القدس التطهير، غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال(4/2095)
على السواء، أما مسألة التثليث فغير واضحة في العهد القديم، كما هي في العهد الجديد ".
ومن هذا الكلام يتبين أن النصارى يصرحون بأن الابن هو الله، ولا يكون الكلام بطريق اللازم لقولهم، بل بطريق الصريح منه، فهم يصرحون بأن الله هو الابن، كما أن الله هو الآب، كما أن الله هو روح القدس.
وذكر الله سبحانه وتعالى الإخبار عن المسيح بأنه الله؛ لأن فيه إشارة واضحة إلى بطلان العقيدة، لأن المسيح وُلِد، ورئي يتحدث مع الناس، وأكل وشرب، وقتل وصلب في زعمهم! فكيف يكون هو الله تعالى؟!.
والحقيقة أن فكرة ألوهية المسيح عليه السلام ما سادت الفكر النصراني إلا في عهد قسطنطين، وقبل ذلك كان الأكثرون موحدين، ولكن وجد بجوارهم من بقايا الفلسفة الأفلاطونية الحديثة من زعم أن القوى المسيطرة على الوجود ثلاثة، ولننقل لك ما قاله ابن البطريق المسيحي في كتابه " تاريخ البطارقة " قال في مجمع نيقية الذي أعلن ألوهية المسيح ما نصه:
" كتب الملك قسطنطين إلى جميع البلدان، فجمع البطارقة والأساقفة، فاجتمع في مدينة نيقية ثمانية وأربعون وألفان من الأساقفة، وكانوا مختلفين في الآراء والأديان. . فمنهم من كان يقول: إن المسيح وأمه إلهان من دون الله، وهم البربرانية، ويسمون " المريميين ". . ومنهم من كان يقول: إن المسيح من الآب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية. . ومنهم من كان يقول لم تحبل به مريم تسعة أشهر وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب؛ لأن الكلمة دخلت في أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهي مقالة إليان وأشياعه. . ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت، كواحد منا في جوهره، وان ابتداء الابن من مريم، وأنه مصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة؛ ولذلك سمي ابن الله، ويقولون: إن الله جوهر قديم واحد، وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة(4/2096)
أسماء، ولا يسمونه الكلمة، وهي مقالة بولس الشمشاطي بطريرك أنطاكية وأشياعه، ومنهم من كان يقول: إنهم ثلاثة آلهة لم تزل صالح وطالح وعدل بينهما، وهي مقالة مرقيون اللعين وأصحابه، وزعموا أن مرقيون رئيس الحواريين، وأنكروا بطرس، ومنهم من كان يقول بألوهية المسيح، وهي مقالة بولس الرسول ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ".
وذكر فكرة أرتوس، وكانت شائعة، وهي إنكار ألوهية المسيح، والإيمان بالوحدانية، واختار قسطنطين من (2048) الثمانية والأربعين والألفين عدد (318) الذين قالوا بألوهية المسيح، وبذلك ساد هذا القول بسلطان قسطنطين.
وإن ذلك القول بلا ريب باطل، فالله سبحانه وتعالى هو الخالق، وهو الذي يحى ويميت، وقد أمر الله نبيه بالرد عليهم بأمر محسوس.
(قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا) أمر الله تعالى رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم ادعاءهم، بإثبات القدرة لله تعالى، فإن صفة الله الذي يعبد لأجلها أساسها القدرة على الإنشاء وعلى الإفناء من غير قيد يقيدها ولا مانع يمنعها، فإذا كان المسيح لَا يملك أن يدفع عن نفسه الإعدام، فهو أولى بألا يستطيع الإنشاء ولا الإفناء.
والمعنى: قل لهؤلاء الذين يدعون الألوهية للمسيح: من يملك من دون الله أمرا يستطيع أن يمنعه سبحانه بأي قدر من قدرته تعالى إن اتجهت إرادته العالية إلى إهلاك المسيح وأمه، وفي الجملة السامية إشارات بيانية:
منها - في قوله: (فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) لأن (يملك) معناه يتضمن معنى يمنع، أي من يمنع من قدرة الله وأمره شيئا، وتنكير كلمة " شَيْئًا " للتصغير، أي قدرا ولو كان ضئيلا.
ومنها - أن التعبير بـ " يملك " يستفاد منها أن قدرة الله تعالى قدرة من يملك، وليست قدرة مستعارة أو مأخوذة من غيره.(4/2097)
ومنها - أن ذكر الإهلاك في هذا المقام فيه دلالة مادية في زعمهم على بطلان ما يدعون؛ لأنهم زعموا أن عيسى أهلكه الرومان بتحريض وشهادة الزور من اليهود لعنهم الله، فكيف يكون إلها، وهو لَا يملك حماية نفسه، مع أن وصف الإله يوجب أن تكون قدرته على الإهلاك والإبقاء ثابتة.
ومنها - أنه ذكر المسيح مضافا إلى أمه، على أنه متولد منها، فكيف يكون من الفاني الإله الباقي، وهو ابن الله في زعمهم، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وإن الذي يستمسكون به بالباطل في هذا الزعم الباطل أنه خلق من غير أب، وقد رد سبحانه وتعالى زعمهم في قضية عامة بقوله تعالى: (وَللَّه مُلْكُ
السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ).
هذه الجملة السامية مع إبطالها لزعمهم في مقام الحال من الجملة السابقة، فهي مؤيدة لمعنى القدرة على الإبقاء والإهلاك والإحياء، ورادة على زعمهم أن عيسى خلق من غير أب، فيكون ابنا لله، تعالى الله عند ذلك. والمعنى أن لله سبحانه وتعالى الملكية التامة للتصرف في السماوات بطبقاتها المختلفة، والنجوم ومداراتها وما بين السماء والأرض من فضاء تجري فيه السحب بأمره، ويطير فيه الطير، ويسبح فيه، ثم ما يصنعه الإنسان من طائرات تقطع أجواء الفضاء، كل ذلك مملوك ملكية تامة لله تعالى، ولا توجد ملكية تامة في شيء من الأشياء إلا لله سبحانه وتعالى، فكل مالك من الناس ملكيته نسبية، وليست تامة أو مطلقة، بل هي مقيدة.
وإرادته سبحانه وتعالى مطلقة في خلق الأشياء؛ ولذلك قال تعالى: (يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ). وهذه الجملة في مقام الثمرة والنتيجة لما قبلها من قدرة مطلقة لَا حد لها، ومن ملكية مطلقة لَا قيد يقيدها، فهو يخلق ما يشاء ويريد، فيخلق ذكرا أو أنثى فهو يجعل لهذا ذكرانا، ولهذا إناثا، ويجعل من يشاء عقيما، ولا قيد يقيد إرادته، في طريقة الخلق والتكوين، فيخلق الناس من أب وأم، ويخلق آدم من غير أب ولا أم، ويخلق عيسى من أم، ومن غير أب. . وهكذا.(4/2098)
(وَاللَّه عَلَى كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) هو قادر على كل شيء في هذا الوجود، يفعل به ما شاء، يفنيه ويبقيه على ما يشاء، وقد وجد كل شيء بالقدرة والإرادة، لا بالعلية والسببية، فلا يقال: إن الأب سبب للابن، فإن وجد له من غير أب فالله سبحانه أبوه، لَا يقال ذلك؛ لأن الله تعالى لَا يتقيد بالأسباب، فهو خالق الأسباب وخالق المسببات وخالق نواميس الكون، وكل ما فيه، وهو القاهر فوف عباده، فهو خالق عيسى وليس أباه، وإن النصارى واليهود مع أنهم يخطئون في جنب الله، ولا ينزهونه كمال التنزيه، ولا يطيعونه يزعمون أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه؛ ولذا قال سبحانه:
* * *(4/2099)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
(وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ... (18)
* * *
اليهود يعلنون للناس أنهم شعب الله المختار، والنصارى يعلنون أنهم هداة هذا الوجود، وأنه لَا سلامة إلا في دينهم على الوضع الذي وضعوه، وعلى الزعم الذي زعموه، وبذلك يعتبرون أنفسهم أبناء الله وأحباءه، وعلى هذا يكون المراد بالبنوة بنوة مزية الاتصال بالله أكثر من اتصال غيرهم به، وأن الاتصال اتصال إيمان به وإدراك له، وأنهم اختصوا بنعمة المحبة، فالبنوة بنوة الاتصال والمحبة، ويكون عطف أحباء من قبيل عطف التفسير المشير إلى معنى البنوة. وهناك احتمال آخر، وهو أن تكون البنوة هي البنوة التي زعمها اليهود لعزير إذ قالوا: عزير ابن الله، وهم أتباعه وشيعته، وزعم النصارى أن المسيح ابن الله، وهم أتباعه، فهم أبناء الله بهذا الاتباع، وقد قال الزمخشري في توضيح هذا الاحتمال: " أبناء الله أي أشياع ابني الله عزير والمسيح، كما قيل لأشياع أبي خبيب، وهو عبد الله بن الزبير، وكما يقول رهط مسيلمة: نحن أنبياء الله، ويقول أقرباء الملك وذوو حشمه نحن الملوك؛ ولذلك قال مؤمن آل فرعون: (. . لَكُم الْمُلْكُ الْيَوْمَ. . .).
وفى الحق أن كلا من اليهود والنصارى ادعو أن لهم صلة خاصة بالله، وأنهم دعاة الحق، وأنهم وحدهم أحباب الله، وأهل الاتصال به، ولهذا رجح الأول.(4/2099)
(قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) " الفاء " هنا فاء الإفصحاح، لأنها تفصح عن شرط مقدر، والمعنى إذا كنتم كما زعمتم أحباء الله تعالى وأبناءه فلم يعذبكم إن ارتكبتم ذنوبا تؤثمكم؛ فأنتم كسائر الناس تذنبون، ولو كنتم متصلين بالله أكثر من غيركم ما أذنبتم، ولو أذنبتم ما عُذِّبتم، وفي كتبكم التي بأيديكم أنكم تعذبون على ما تقترفون من آثام. وقد أقر اليهود بأن العذاب سيقع بهم، إذ قال الله تعالى عنهم: (وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً. . .)، وإن النصارى يقرون بأنه سيُديِّن الناس يوم القيامة، ويجازي المحسن على ما أحسن، والمسيء على ما أساء.
وقد رد الله سبحانه أصل الادعاء بقوله تعالى: (بَلْ أَنتُم بَشَرٌ ممَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ) أي أن صلة الله تعالى بكم هي صلته بخلقه، وأنتم بعض منهم، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، فهو يغفر لمن يشاء، واقتضت حكمته الغفران له لتوبته ولصغر ما ارتكب، ووازن حسناته بسيئاته، وأن الحسنات يذهبن السيئات، ويعذب من يشاء بمقتضى حكمته؛ لأن الخطيئة أحاطت به، ولم يقلع عما ارتكب وأساء، والله عليم حكيم، وغفور رحيم.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) هذه الجملة من تتمه الرد عليهم، ويحتمل أن تكون من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أمر أن يقوله، ويحتمل أنها من كلام الله تعالى تأكيدا لحكمته تعالى وكمال سلطانه، وقد تأكد الرد بقوله تعالى: (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي أنه سبحانه وحده هو الذي تصير إليه أمورهم يوم القيامة، وهو الذي يعلن حينئذ محبته. لمق استحق محبته بالطاعة والتقوى، ويكون مآله إلى الجنة والنعيم المقيم، ولن تكون للذين غيروا وبدلوا في دينه وأشركوا به - تلك المحبة التي ادعوها، ولا ذلك النعيم الذي وعد به، وسيكون العذاب لمن عصى أمر ربه، وغالى في تقديس عباد الله تعالى وأشرك به، والله هو الذي يتولى الفريقين بعدله وحكمته. .(4/2100)
اللهم اجعلنا من أهل محبتك ورضوانك وإذا لم نستحق، فاجعلنا من أهل غفرانك.
* * *(4/2101)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
* * *
بينت الآيات السابقات حال أهل الديانتين السابقتين على الإسلام، والذين يذكرون أنهم يتبعون رسولين من أولي العزم من الرسل، وهما عيسى وموسى عليهما السلام، وكيف نسوا حظا مما ذكروا به، وكيف أخفوا كثيرا مما ذكروا به، وكيف انحرفوا عن أصل التوحيد الذي هو لب الدين ودعوة كل النبيين الذين بعثوا من رب العالمين، ثم ادعوا مع ذلك التغيير والتبديل والانحراف أنهم الأقربون إلى الله تعالى، وقد رد الله تعالى عليهم قولهم، فبين سبحانه أنهم بشر ممن خلق، وأنه لَا فضل لهم على أحد إلا بالاستجابة لأمر الله تعالى، وفي هذه الآية التالية يبين سبحانه مقام الرسالة المحمدية وأنها جاءت في إبانها، وفي وقت الحاجة إليها، فقال عز من قائل:
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ) الفترة هي الزمن بين زمنين متغايرين في الحوادث، ويكون فيها سكون عما يكون في هذين الزمنين، وقد قال الراغب الأصفهاني في معنى الفترة: " الفتور سكون بعد حدة، ولين بعد شدة، وضعف بعد قوة قال تعالى:
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ منَ الرُّسُلِ) أي سكون خالٍ عن مجيء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقوله تعالى (. . . لَا يَفْتُرونَ)،(4/2101)
أى لَا يسكنون عن نشاطهم في العبادة، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لكل عمل شِرَة، ولكل شرة فترة، فمن فتر إلى سنتي فقد نجا، وإلا فقد هلك " (1) فقوله عليه الصلاة والسلام: " ولكل شرة فترة " إشارة إلى ما قيل: للباطل جولة ثم يضمحل، وللحق دولة لَا تذل ولا تقل، وقوله: من فتر إلى سنتي أي سكن إليها، والطرف الفاتر فيه ضعف مستحسن ".
ويستفاد من ذلك الكلام القيم أن الفترة سكون بين عملين بارزين، فهي سكون بين زمني عمل، ولا شك أن عدم وجود رسالة في زمن بين رسالة مضت، ورسالة آتية، وهو سكون نسبي في الزمن بينهما، وإن كان العمل واجبا بالشريعة السابقة، حتى تنسخها الشريعة اللاحقة، ويكون التكليف منها.
وهنا مباحث لفظية تشير إلى نواحي البيان العالي في النص الكريم: المبحث الأول - في التعبير بقوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ) بدل أن يقال " جاء إليكم " لأن التعدية بغير " إلى " فيها معنى الملاحقة والملازمة، وأنه لَا مناص من اتباعه، ففرق بين أن يقال جاء إليه، وأن يقال جاءه، لأن الثانية تضمن الملازمة، وأنهم لَا يستطيعون الخروج عما جاء به إلا إذا أذنبوا.
الثاني - وإضافة كلمة الرسول إلى الذات العلية في قوله تعالت كلماته: (رَسُولُنَا) إشارة إلى معنى قدسية هذه الرسالة ومكانتها، وأنها ممن لَا تسوغ مخالفته، ولا الخروج عن طاعته.
الثالث - ابتداء الخطاب بقوله: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) تنبيه لهم بأن مصاحبتهم للكتاب، وكونهم أهل معرفة يوجبان عليهم الطاعة، والاستجابة، لأنهم عرفوا رسالة الله تعالى إلى خلقه، وأنه ما خلقهم عبثا، ولا يتركهم هملا، وأنهم إن
________
(1) عَنْ عَبْدِ اللًه بْنِ عَمْرو قَالَ النبِي - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَ لِكُل عَمَل شِرَةً وَلِكُل شِرَّةِ فَترَةٌ فَمَنْ كَانَتْ شِرَتُهُ إِلَى سُنَتِي فَقَدْ أفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ " رواه أحمد: مسند المكثرين (6725).(4/2102)
خالفوا ما جاءهم به الرسول يكون اللوم لهم أشد، إذ يكون عصيانهم عن بينة ومعرفة.
الرابع - في قوله: (يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) فالفعل " يبين " قدَّر له بعض العلماء مفعولا وتقديره: يبين لكم الأحكام، والتكليفات، والأوامر الخالدة، وبعض العلماء لَا يقدر له مفعولا، على أساس أنه منزل منزلة اللازم، وعلى هذا يكون المعنى: جاء رسولنا بالبيان الكافي المشرق الكاشف للظلمة التي وقعتم فيها، وبذلك يشمل كل التكليفات، وكل ما تشتمل عليه رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذلك البيان كان بالقرآن الذي لَا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، وقد روي عن قتادة أنه قال في هذا المعنى: " (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ) وهو محمد - صلى الله عليه وسلم -، جاء بالفرقان الذي فردا الله به بين الحق والباطل، فيه بيان الله تعالى، ونوره وهداه، وعصمة لمن أخذ به ".
الخامس - في قوله تعالى: (عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ) يقول الزمخشري: إن الجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: (جَاءَكُمْ) أي جاءكم على فترة من الرسل، وعندي أن المتعلق يكون بأقرب فعل، وهو " يبين "، والمعنى يبين لكم على فترة من الرسل، أي بعد فترة لم يكن فيها بيان، وقد جاء الرسول الكريم بهذا البيان، ويزكي هذا قوله تعالى: (أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ)
ويفسر كثيرون من المفسرين أن قوله تعالى: (عَلَى فَتْرَةٍ) معناه حين فترة، وعندي أن تفسيرها بظرف آخر، وهو " عند "، يكون أدق، لأن الرسالة كانت نهاية الفترة، فهي كانت عندهم في نهايتها، ولم تكن في حينها ووقتها، والتعبير بقوله تعالى: (عَلَى فَتْرَةٍ) فيه معنى فوقية الرسالة على الفترة، وعلوها عليها كعلو البيان على الجهل، والنور على الظلمة، وفيه لوم، لأنه يشير إلى أنه لَا يسوغ لهم أن يجحدوا رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم ينزلون من الأعلى إلى الأدنى.
(أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِير) المقصود الواضح من هذا النص هو بيان أن حكمة مجيء الرسول هو قطع العذر على من يحتج بالجهل، وعدم معرفة(4/2103)
أوامر الله تعالى ونواهيه، فالمعنى على هذا هو أن رسولنا قد جاءكم يبين لكم الطريق المستقيم وطريق الحق القويم لكيلا تقولوا: ما جاءنا من بشير يبشر بالخير عند الطاعة، وينذرنا بالعذاب عند المعصية، بل إن الله تعالى قطع العذر عليهم وأبلغ الحجة، فلا عذر لجاهل، ولا اعتذار لمتجاهل.
وهذا التعبير: أن تقولوا ما جاءنا من بشير. . . مثله قوله تعالى: (. . . يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، كثير في القرآن الكريم، وفيه يكون التعليل مقتضيا تقدير محذوف، فإن قولهم بنفي البشير لا يمكن أن يكون علة لإرسال الرسول إلا بتقدير محذوف ويقدره الكوفيون بتقدير لا النافية محذوفة، فيكون المعنى جاءكم رسولنا يبين لكم لئلا تقولوا: ما جاءنا من بشير، أو كيلا تقولوا: ما جاءنا من بشير، وقد اختار الطبري ذلك التقدير، ويقدره البصريون بمصدر محذوف مناسب، ككراهة أن تقولوا أو اتقاء أن تقولوا، والمعنى على ذلك، جاءكم رسولنا يبين لكم كراهة أن تقولوا، أو اتقاء أن تقولوا، وقد اختار هذا التقدير الزمخشري.
والحق عندي: أن الآية الكريمة واضحة، ومدلولها بين، لَا إبهام فيه، والمراد منها جليّ، وهو قطع العذر عليهم وإنما هذه التقديرات تخريجات نحوية لتستقيم قواعد النحو، لَا ليستبين معنى الآية، فهي بينة واضحة.
والبشير: المبشر الذي يدعو إلى الحق، ويبين الثمرات الحسنة لمن تبعه في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يبين أن المصالح تتحقق فيما يدعو إليه، وأن العزة الحقيقية تكون لمن اتبعه، والحياة الكريمة الفاضلة تكون لمن أخذ به، وفي الآخرة يبين جزاء الإحسان من جنات تجري من تحتها الأنهار، ونعيم مقيم لَا يبلى، والنذير هو الذي يبين العواقب السيئة لمن يخالف الحق، إذ يكون في اضطراب لا اطمئنان معه، وانزعاج لَا أمن معه، ويعيش في آثام مبطئة، وأوزار مثقلة، وفي الآخرة يكون العذاب الأليم، والمقت والسخط من الله تعالى.(4/2104)
و " من " في قوله تعالى: (مِنْ بَشِير) لتأكيد النفي، والتنكير في بشير ونذير للتصغير لَا للتكبير، وإنما كان للتصغير لأن النفي بعمومه شامل، والمعنى: ما جاءنا أي بشير ولو صغيرا، ولا نذير ولو كان ضئيلا، فقد حرمنا من الهداية وما حرموا منها.
(فَقَدْ جَاءَكم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) الفاء هنا تفصح عن كلام مقدر قبلها، قد يكون شرطا، وقد يكون غير شرط، والمعنى لَا عذر لكم، وقد قطع السبيل عليكم، فقد جاءكم الرسول الذي أرسلناه مبشرا بالحق وغايته وثمرته في الدنيا والآخرة، ومنذرا من يرتكبون المعاصي بالهوان وسوء العقبى، والاضطراب في الدنيا، والعذاب الأليم، فعليكم أن تطيعوا، ولا تحسبوا أن الخير أماني تتمنى، من غير عمل يعمل.
لقد روي في السنة عن ابن عباس أنه قال: " دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود، فرغبهم وحذرهم فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب: " يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله لتعلمن - أنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقد كنتم تذكرونه قبل بعثه، وتصفونه لنا بصفته، فقال وهب بن يهوذا: إنا ما قلنا لكم هذا وما أنزل الله من كتاب من بعد موسى، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده. فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ".
وسواء أصح هذا سببا للنزول أم لم يصح، فإن الآية قد سيقت لقيام الحجة عليهم فيما ينكرون، وأنهم مأخوذون بما يدعون إليه، فإن قاموا بحق الإسلام، واستجابوا للرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد نجوا، وإلا فقد هلكوا، والتنكير هنا للتعظيم في شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولتعظيم بشارته وإنذاره، والمعنى قد جاءكم بشير ونذير هو أعلى المبشرين المنذرين، لأنه خاتم النبيين؛ ولأنه آخر لبنة في صرح النبوة، ولأن تبشيره وإنذاره قائمان إلى يوم القيامة، فلا نبوة بعده، ولا وحي ينزل على أحد من بعده فرسالته خالدة باقية، وبشير ونذير وصفان، وقد عطف ثانيهما على الآخر لتغايرهما في المعنى والمؤدى وإن كانا وصفين لشخص واحد، كما قال تعالى:(4/2105)
(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا)، وكان التعدد لمعنى آخر؛ لأن التبشير عمل غير الإنذار، وكلاهما وظيفة النبوة، فكان العطف بالواو لهذا المعنى، فليسا وصفين ذاتيين ولكنهما وظيفتان متغايرتان للرسالة.
وإن هذا الخطاب لأهل الكتاب وبخاصة اليهود مع ما فيه من بيان الحقائق، وضع الاعتذار فيه تهديد، وفيه إشارة لسلطان الله تعالى، ولهذا ختم الآية الكريمة بهذا النص الكريم: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
كان هذا ختام الآية الكريمة، وفيه إشارة إلى أمور ثلاثة: أولها - أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يختار الرسل، ويختار معجزاتهم، وعلى ذلك لَا يصح لأحد أن يدعي أنه رسول، ولا يأتي أحد من بعده إلا إذا أخبر هو عن إرادته العالية، كما هو الشأن بالنسبة لمحمد - صلى الله عليه وسلم - أما موسى عليه السلام، فلم تكن رسالته خاتمة الرسائل، ولو كان حيا ما وسعه إلا اتباع محمد.
ثانيها - أن تغير المعجزات في دائرة قدرة الله تعالى، فهو خالقها، وهو الذي يختارها بحكمته بما يناسب كل رسول، وليس لمن كانت الرسالة موجهة إليهم أن يختاروا على الله تعالى، فهو المريد المختار، الذي لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
ثالثها - أن الله تعالى هو وحده القادر على تنفيذ ما أمر به رسوله من تبشير وإنذار، فهو المعطي، وهو المعاقب، وهو المانح وهو المانع، وسيكون العقاب الشديد نازلا بهم إن عصوا، وليس بأمانيهم ولا أماني أهل الكتاب.
اللهم اغفر لنا ونجنا من عقابك، ولا تحرمنا من رحمتك وعفوك إنك أنت العفو الغفور.
* * *(4/2106)
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
* * *
في الآيات السابقة بين الله تعالى لجاجة أهل الكتاب في عنادهم وطغيانهم، ونقضهم العهود التي وثقت عليهم، ولَعْنَ الله تعالى لهم وطردهم من رحمته، ومكان العز لهم، وأشار إلى أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لَا يزال يرى طائفة من أخلاف الحاضرين تسير على خطة السابقين من خيانة، وتظهر بما اتسموا به من قسوة جعلت قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، وذكر سبحانه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان منهم لنبي الله موسى عليه السلام الذي أجرى الله تعالى على يده إنقاذهم من فرعون الذي كان يذئح أبناءهم ويستحيى نساءهم، ويسومهم سوء العذاب، ولقد قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في معنى هذا:
" وهذا من تعريف الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - بتمادي هؤلاء اليهود في الغي، وبعدهم عن الحق، وسوء اختيارهم لأنفسهم، وشدة خلافهم لأنبيائهم، وبطء إنابتهم إلى الرشاد مع كثرة نعم الله عندهم، وتتابع أياديه وآلائه عليهم، مسليا بذلك نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم -، عما يحل به من علاجهم، وينزل به من مقاساتهم في ذات الله تعالى، يقول الله تعالى له - صلى الله عليه وسلم -: لَا تأس على ما أصابك منهم، فإن الذهاب عن الله تعالى والبعد عن الحق من عاداتهم وعادات أسلافهم.(4/2107)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) هذا النص وما يليه فيه عزاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - ليصبر على ما يصيبه من المشركين وأهل الكتاب عامة، ومن اليهود خاصة، ففيها بيان لما أصاب موسى عليه السلام، وهو من أولي العزم من الرسل، في سبيل الدعوة، مع ما أجراه الله تعالى على يديه من نعم وآلاء، ومع ذلك جبنوا عندما دعاهم إلى الحق، وكان منهم أعداء له، فمهما ينزل بالنبي من الكفار عامة واليهود خاصة يجب أن يصبر عليه، صبر المتوقع له، الذي ينتظره، كما قال تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أولوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. . .).
ومعنى النص الكريم: اذكر يا محمد حال موسى مع قومه، بعد أن رأوا الآيات المحسوسة، وبعد أن نزل عليهم من النعم والآلاء، وحال قومه معه. لقد دعاهم إلى الجهاد بقوله: (يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) ابتدأ بالنداء بقوله: (يَا قَوْمِ) تذكيرا لهم بما يربطهم من رابطة الدم والقرابة التي تجعله منهم، يهمه ما يهمهم، ويسعده ما يسعدهم ويعزه ما يعزهم، فوق أنه رسول الله تعالى إليهم، وهو بهذا يقربهم إليه، ليقرب إلى نفوسهم، والتذكير كان بنعمة الله تعالى عليهم التي توجب عليهم الطاعة، وقد ذكر سبحانه وتعالى نعما ثلاثا بقوله تعالى: (إِذْ جَعَلَ فِيكمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) نعم ثلاث بينات واضحات، فالنعمة الأولى أنه سبحانه جعل فيهم أنبياء، أي أنه سبحانه بعث فيهم أنبياء منهم يهدونهم ويرشدون، وكانوا كمصابيح في ديجور الظلام، ونورا في عمياء الضلالة، ولا منة أجل من الهداية والسير في طريق الحق، ولا نقمة أشد من نقمة الضلالة والسير في طريق الفساد.
والتنكير في قوله تعالى: (أَنْبِيَاءَ) للكثرة، اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء كثيرين، ويكون ما اختصوا به هو كثرة الأنبياء قبل موسى وبعده، ولا يقال: إن الأنبياء كانت فيهم وحدهم، لآن الله تعالى يقول: (. . . وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)، ويقول سبحانه: (. . . وَمَا كنَّا مُعَذِّبِين حَتَّى نَبْعَثَ(4/2108)
رَسُولًا)، والنعمة الثانية عبر سبحانه عنها بقوله تعالت كلماته: (وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا).
ويلاحظ أنه في النعمة الأولى قرر سبحانه وتعالى أنه جعل فيهم أنبياء، أي جعل بعضا منهم أنبياء، أما النعمة الثانية، فقد قال سبحانه: (وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا) أي لم يجعل الملك في بعضهم، بل جعلهم جميعا ملوكا، ولقد أوّل ذلك بعض العلماء بأن المراد جعل فيهم زعماء منهم مسيطرين على أمورهم، موجهين لشئونهم، كما طلبوا ذلك من بعد، فقد قال الله تعالى عنهم:
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. . .).
والمراد أن يبعث عليهم كبيرا يتبعونه في القتال، ويظهر أن ذلك كان منهم من بعد موسى ومن قبله، والقائد إذا كان من الشعب أو من الجماعة كانوا جميعا ملوكا ومسيطرين على أمورهم، لأنه ينفذ إرادتهم، ويسير مع إحساسهم، ويعمل لمصلحتهم ماظهر منها وما بطن.
وقد يفسر الملك بأنه خروجهم في عهد موسى من ربقة العبودية التي فرضها عليهم فرعون، فقد صارت لهم إرادة حرة، وتوجيه لعامة أمورهم، واختيارهم لحكامهم، وبذلك صاروا ملوكا، وفوق ذلك قد أوتوا رغد العيش وصاروا أحرارا في بيوتهم، بعد أن كان فرعون يذئح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، وفي الآثار أن الرجل إذا كان له ما يكفيه وأهله بالمعروف كان ملكا. سأل رجل عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؛ قال: نعم، قال ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء،(4/2109)
فقال إن لي خادما، قال: فأنت من الملوك، وقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من كان له بيت وخادم فهو ملك " (1) قد آتى الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل الحرية، ومنع ذلهم، ومنحهم رغد العيش، وبذلك جعلهم ملوكا بموسى عليه السلام. النعمة الثالثة - هي النعم التي أفاضها الله تعالى عليهم وقد عبر سبحانه وتعالى عنها بقوله تعالى حاكيا (وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ).
والعالمون: جمع أُريد به العقلاء من أهل هذه الأرض، ويفترق عن مفرده بأن المفرد يطلق على كل من هو على ظهر الأرض أو في باطنها من جماد ونبات، وحيوان وإنسان، بل إنه يشمل الأرض، والسماوات قاصيها ودانيها؛ ولذلك يقول العلماء: إن المفرد هنا أعم من الجمع، لأن الجمع لَا يشمل إلا العقلاء، بينما المفرد يشمل كل شيء، والمفرد هو العالم.
وقد قال العلماء: إن المراد هو العالمون في زمانهم، أما من جاء بعدهم، فقد أعطاهم الله تعالى ما هو أكثر وأبعد أثرا، وذكر الزمخشري هذه النعم، فقال: (مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) من فلق البحر، وإغراق العدو، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، ويصح أن يضاف إلى ذلك إنقادهم من أذي فرعون.
وهذه نعم منها ما أخذها غيرهم ومنها ما اختصوا بها كفلق البحر اثنى عشر فرقا كالطود العظيم، وإنزال المن والسلوى، فهذه قد اختصوا بها دون العالمين، وإن لم يكن أكبر مما أعطاه غيرهم من نصر مؤزر.
* * *
________
(1) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (ج 6، ص 108) عن زيد بن أسلم.(4/2110)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
(يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ... (21)
* * *
كان تكرار النداء من موسى عليه السلام لعِظَم التنبيه، وخطر ما يدعوهم إليه، وعظم شأنه، وكان تكرار كلمة " يا قوم " للإشارة إلى أن فيما يطلبه منهم عزهم جميعا ورفعة أقدارهم، وقد قيلت أقوال كثيرة في الأرض المقدسة، وقد اتفقوا على أن معنى(4/2110)
التقديس البركة والنماء، فهي مباركة، ولكن ما هي هذه الأرض التي عناها موسى عليه السلام بطلبه، وأصح الأقوال وأولاها هو ما قاله ابن جرير الطبري إذ قال: " وأولى الأقوال عندي بالصواب أن يقال هي الأرض المقدسة، كما قال نبي الله تعالى موسى صلى الله تعالى عليه وسلم، لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض لَا تدرك حقيقته إلا بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به، غير أنها لن تخرج من أن تكون الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر، أي أنها تشمل سيناء والشامات كلها بما فيها فلسطين والأردن ولبنان ".
ولا شك أن هذا الكلام جدير بالأخذ، لأن هذه الأرض المقدسة طُلب منهم أن يدخلوها بعد أن اجتازوا البحر الأحمر، وعبروه إلى سيناء، وسمي بعضها الوادي المقدس، كما قال تعالى مخاطبا موسى: (. . . إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طوًى)، وقد خصصها الأكثرون بأرض إيلياء بيت المقدس وما حوله. وقد قرر الله سبحانه أنه كتب لهم أن يدخلوا بقوله تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَكمْ) وهنا نجد المفعول غير مذكور، إلا أن المحذوف قد وجد ما يدل عليه، والمعنى كتب لكم أن تدخلوها، أي قدر لكم أن تدخلوها، وفرض عليكم دخولها لإنقاذكم من الأهوال التي نزلت بكم في أرض مصر من فرعون وأعوانه، وقد تعدى فعل كتب باللام، ولم يتعد بعلى للإشارة إلى أن ما فرضه عليهم إنما هو لأجلهم، ولحفظهم، وللإشارة إلى أنه واقع لمنع ضياعهم.
ولا يصح أن يقدر المفعول ضميرا، كما نهج بعض المفسرين، فيكون تقدير القول " كتبها لكم "، لأن مؤدى ذلك أن تكون لهم دائما، مع أن النص الكريم لا يقتضيه ولا يصرح به، إذ الذي يصرح به أنه سبحانه قدر لهم أن يدخلوها، لَا أن يكون قد كتبها وسجلها لهم.
وقد تمسك شُذَّاب اليهود بأن الله تعالى قد كتب لهم أرض الميعاد، وأن ذلك مذكور في الكتب المقدسة عندهم، والحقيقة أن الله تعالى كتب عليهم أن يدخلوا بعد أن خرجوا مصر ليجدوا فيها مأوى لهم، وإنما الأرض لله يرثها عباده الصالحون، وليسوا منهم.(4/2111)
(وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) توقع موسى عليه السلام أن يتخاذلوا إذ يدعوهم إلى العزة والنصر، فنبههم إلى ما يؤدي إليه التخاذل عن الدخول، وهذا التعبير " ارتد على دبره "، كتعبير " نكص على عقبيه "، وكتعبير " ولوا الأدبار " استعارة تمثيلية فيها تشبيه حال من يرجع عن الجهاد بعد أن توافرت أسبابه بحال من يتراجع سائرا بظهره إلى الوراء بدل أن يسير بمقدمه إلى الأمام، وهذا التعبير يصور قبح التخاذل حسا ومعنى.
ولقد كان رجوع بني إسرائيل - إذا لم يعملوا على دخول الأرض المقدسة - أن يعودوا إلى حكم فرعون، ويخسروا ما كسبوا من عزة وكرامة وحرية ويذهب عنهم، فإن البقاء على العزة يحتاج إلى مشقة الحصول عليها، ولئن ارتدوا عن العزة بعد نيلها، فإنهم الخاسرون، إذ لَا يرضي بالعذاب الهون إلا الأخسرون.
وإن بني إسرائيل كانوا قد ضعفت همتهم، وماتت عزائمهم؛ ولذلك أجابوا دعوة العزة بقولهم:
* * *(4/2112)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا ... (22)
* * *
صح ما توقعه موسى عليه السلام منهم، وما نهاهم عنه؛ إذ إن روح التردد والهزيمة قد ملك قلوبهم، واستولى على نفوسهم، فقرروا له أنهم لن يدخلوا؛ لأن فيها قوما جبارين، والجبار في اللغة يطلق على الطويل القوي، والمتكبر، والعاتي، وهو مأخوذ من نخلة جبارة إذا كانت طويلة لَا ينال تمرها، وقد جاء في لسان العرب (الجبار من النخيل، وهو الطويل الذي فات يد المتناول، ويقال جبار إذا كان طويلا عظيما قويا تشبيها بالجبار من النخل) وجاء في مفردات الراغب أن الجبار من جبر، وهو الإصلاح بقهر وقوة.
ويكون على هذا معنى جبارين أنهم قوم غلاظ شداد عندهم قدرة على القهر، وقد قيل في الأخبار أنهم بنو عناق الذين يسكنون أمامهم في أدنى الأرض المقدسة إليهم، وهم أولو قوة، وأولو بأس شديد ولعلهم الذين قال تعالى فيهم:(4/2112)
(فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6).
امتنع بنو إسرائيل عن القتال وأكدوا المنع بثلاثة تأكيدات:
أولها - في ندائهم بقولهم يا موسى فإن ذلك النداء فيه نوع من التذليل والاستغاثة، ليسكت عنهم.
ثانيها - وصفهم لخصومهم بأنهم جبارون أي أقوياء قاهرون، وأول الوهن الذي يعتري النفوس أن يشعر المجاهد بضعفه أمام خصمه.
ثالثها - أنهم أكدوا النفي بقولهم " لن ندخلها " فهذا التعبير بـ " لن " فيه تأكيد للنفي، وجعل غاية النفي أن يخرج هؤلاء منها، وهم أقوياء فمن يخرجهم، فكأن هذا نفي مؤبد. وهم لَا يريدون قتالا،؛ ولذلك قالوا من بعد ذلك النفي (فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ).
وهذا يدل على أنهم لَا يريدون قتالا، بل لَا يريدون دخولا؛ لأن احتمال خروجهم بعيد؛ ولذلك كان التعبير بإن الشرطية التي تفيد الشك في الخروج، والتعبير بالوصف في قولهم: (فَإِنَّا دَاخِلُونَ) يدل على إرادة الدخول من غير عمل يعملونه، ومن غير معاناة ومجاهدة. . اللهم هب المسلمين العزة والقوة وأبعِد عنهم الوهن الذي هو داء الضعفاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
* * *(4/2113)
(قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
* * *
الكلام موصول في شأن بني إسرائيل عندما طلب إليهم موسى - عليه السلام - أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله عليهم أن يدخلوها، فقد أجابوا راهبين خائفين بأن فيهم قوما أشداء عمالقة، وأنهم لن يدخلوها ما دام هؤلاء، وهم يتكلون على الله تعالى في إخراجهم، كأن الله تعالى يخرجهم من غير عمل يعملونه وذلك لأن خنوعهم لحكم فرعون أمات فيهم روح الهمة والنخوة والمغالبة، ولأنهم أحرص الناس على الحياة، أي حياة كانت، كما قال تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ. . .)، ومع هذا التخاذل في جماعتهم كان فيهم من يريد أن يتقدم، ولكنهم نادرون، وليسوا كثيرين؛ ولذلك قال الله فيهم:(4/2114)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
(قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا) هذان رجلان من بني إسرائيل أعطيا نعمة الصبر وقوة الإيمان، قد خالفا الذين قالوا: لن ندخلها حتى يخرجوا، وقد ذكر المفسرون اسم الرجلين، كما جاء في التوراة، والآية لَا تحتاج في فهمها إلى اسميهما، ولكن تحتاج إلى معرفة أوصافهما، ومؤدى قولهما، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى لهما وصفين: أحدهما - أنهم من الذين يخافون، وثانيهما - أن الله أنعم عليهما.(4/2114)
أما الأول - فقد قال تعالى فيه أنهم " يخافون " ولم يذكر الأمر المخوف، ولذلك كان للعلماء في تقدير المفعول تخريجان: أحدهما - أن يقدر المحذوف في الذكر هو الله سبحانه وتعالى، والمعنى يخافون الله ويتقونه، ويرجحون تقواه، والخوف من عصيانه على الخوف من أعدائه، ولو كان ذوي بطش شديد، أو جبارين في الأرض، فكل قوة مهما عظمت تصغر بجوار قوة الله تعالى.
والتخريج الثاني - أن يكون المعنى يخافون الأعداء ويقدّرون قوتهم، ولكن أنعم الله تعالى عليهم بطاعة الله تعالى.
وذكر الزمخشري وجها آخر، وقد تبعه فيه الكثيرون، وهو أن المراد من الذين يخافون هم بعض الجبارين، والاسم الموصول موضوعه الجبابرة، والضمير محذوف يعود إلى بني إسرائيل، ويكون المعنى على ذلك أن رجلين من الجبارين الذين يخافهم بنو إسرائيل ويرهبونهم، قالوا ادخلوا عليهم، ويكون على هذا التفسير معنى أنعم الله عليهما أنه أنعم عليهما بنعمة الإيمان.
وقد رجح ذلك الزمخشري بأمرين: أولهما - أن هناك قراءة بضم الياء " يُخافون " (1) وهذا يتعين أن يكون المراد اثنين من الجبارين، وإحدى القراءتين تكون مفسرة للأخرى، والثاني - (أنعم الله عليهما) فإن الظاهر منها في هذا المقام هو نعمة الإيمان، وذلك لمن يكونون غير مؤمنين وقد صاروا مؤمنين، ولكن ذلك الأمر غير مؤكد؛ لأنها ليست مقحمة على التفسير الأول، بل لها معناها، وهو أن الله أنعم على الرجلين اللذين قالا الحق من بني إسرائيل بنعمة الصبر، وقوة العزيمة والهمة، فوق نعمة الطاعة وتجنب المعصية.
(ادْخُلُوا عَيهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ). هذه مقالة الرجلين اللذين أنعم الله تعالى عليهما فيما حكى الله تعالى عنهما، أراد ذانكم الرجلان أن يزيلا خوف بني إسرائيل من أهل هذه الأرض إذ إنهم أجسام ليس فيها قلوب قوية،
________
(1) ليست في العشر المتواترة.(4/2115)
وقد ذكر ابن جرير الطبري ما يصور أنه مقالتهم، فقال: " قالوا لجماعة بني إسرائيل: إن الأرض مررنا بها وجسسناها صالحة رضيها ربنا فوهبها لنا، وإنها لم تكن تفيض لبنا وعسلا، ولكن افعلوا واحدة، ولا تعصوا الله ولا تخشوا الشعب الذين بها، فإنهم جبناء مدفوعون في أيدينا، إن حاربناهم ذهبت منهم، وإن الله معنا فلا تخشوهم ".
ويظهر أن هذه العبارات مصدرها إسرائيلي؛ لأنها تتقارب مع نصوص التوراة التي بأيديهم، ومهما تكن صحة النسبة في هذه الأقوال، فإن الآية الكريمة لها مدلولها بعباراتها التي حكاها سبحانه وتعالى عنهم، فإن معنى قوله تعالى: (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ) أي فإذا دخلتموه فإنكم غالبون، ادخلوا مفاجئين لهم فاتحين عليهم الباب، فإنهم عندئذ يصيبهم الذعر، وتأخذهم الفجاءة، ويتحيرون، فتأخذهم السيوف، وتكونون أنتم الغالبين، وفي العبارة ما يفيد تأكيد الغلب؛ لأنه عبر عن الغلب بالجملة الاسمية، وإن التي تؤكد القول.
ولا شك أن غزو قوم في دارهم فجاءة يؤدي إلى هزيمتهم، ولقد قال في ذلك بطل الحروب علي بن أبي طالب: " ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا ".
(وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) قوة النصر تعتمد على أمرين: أولهما - عمل حاسم وعزم أكيد، وثانيهما - تأييد من عند الله، وتوكل عليه وتفويض إليه، وقد بين الرجلان كما حكى سبحانه عنهما العمل الحاسم، وهو الدخول المفاجئ، والثاني هو التوكل على الله تعالى وحده حق التوكل، وألا يعتمد على أحد سواه، وألا يرجى النصر إلا منه، ولذلك قدم الجار والمجرور في قوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا) أي على الله وحده توكلوا أي هو وحده النصير: (. . . وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). وإن التوكل الحق لا يكون إلا من قلب مذعن مؤمن بالله مخلص له، مجيب لما يأمر وينهى؛ ولذلك قرن التوكل بقوله: (إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).(4/2116)
وفى ذلك إشارة إلى أن مقتضى الإيمان أن يعملوا ويجيبوا، وأن يدعوا وساوس الخوف، وأن يشعروا بأن الله معهم، وهو فوق كل جبار، وفي ذلك حث على العمل الحاسم، والعزيمة الثابتة.
* * *(4/2117)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
(قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا ... (24)
* * *
بعد تلك العبارات القوية المثيرة للهمم والعزائم التي نادى بها من الصفوف رجال منهم أو من أعدائهم، أنعم الله عليهم أجابوا بإجابتهم الأولى، وهي أنهم لن يدخلوا فيها، حتى يخرجوا منها، ولكنهم زادوا على الإجابة الأولى تأكيدا، وتهجما على مقام الله سبحانه وتعالى. أما التأكيد فهو إضافة كلمة " أبدا "، وإذا كانت كلمة " لن " فيها معنى تأكيد النفي فكلمة " أبدا " فيها معنى تأبيد النفي ما داموا على قيد الحياة.
(. . . فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) وهذه الكلمة فيها استهانة بأمر الطاعة، واستخفاف بمقام الألوهية والرسالة، وخروج عن معاني الإيمان السليم؛ لأن الله تعالى لَا يعمل أعمال البشر ويقاتل، ولكن ينصر ويخلق والقتال من أعمال العباد، كما يقول رجل لآخر: يأمرك الأمير بالذهاب بالجند والقتال، فيجيبه: قاتل أنت والأمير، ففي ذلك استهزاء بالأمير، وخروج عليه، وفى كل ذلك استخذاء من قوم جبناء؛ ولذلك ختموا كلامهم بالقعود عن القتال والثبات في أماكنهم: (إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)، وإن هذا الوصف الذي وصفوا به أنفسهم يدل على الخسة؛ لأن القعود غير البروز، والقاعد مخذل، والمجاهد عامل والقعود في وقت وجوب النشاط هذا للعمل الصالح هو وصف ذم، كما قال وصفا لأمثالهم: (. . . وَقِيلَ اقْعدُوا مَعَ الْقَاعِدينَ). وقال تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً. . .).(4/2117)
ويقول الحُطيئة:
دع المكارم لَا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي (1)
فهم قد وصفوا أنفسهم بأقبح ما توصف الجماعات الطامحة: ولقد أحس موسى القوي الأمين بالعبء الذي ألقى على هذه الجماعة وتخاذلها عن حمله، فتقدم إلى ربه بالمعذرة يرجو بها المغفرة، فقال ما حكاه الله تعالى عنه:
* * *
________
(1) في البيت أمران يراد منهما التوبيخ، أو التحضيض. ومعنى الطاعم الكاسي: من كفي طعامه وكساءه، فاكتفى ولم يسع للمكارم.(4/2118)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
(قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ... (25)
* * *
ابتدأ موسى عليه السلام قوله بالاتجاه إلى ربه الذي خلقه ورباه وكوَّن جسمه ونفسه، وذلك بالضراعة إليه، وبيان أنه أعلم بحاله، وأنه في طاعته لَا يخرج عنها، ثم قرر المعذرة، وهو أنه لَا يملك من أمرهم شيئا، وإنما الأمر كله إلى الله تعالى، وأنه لَا يستطيع أن يجعل من ضعف نفوسهم قوة، ولا من استخذائهم عزة، ولا من تقاعدهم همة، ولا يملك إلا نفسه وأخاه، فهو لَا يضمن إلا إياهما، وهما وحدهما لَا يملكان الدخول إلى هذه الأرض، والمراد بأخيه سيدنا هارون عليه السلام، وقد أكدت المعذرة بـ " إنَّ " وبالقصر، وعبر عن هارون بأخيه للإشارة إلى قوة إحساسه بأنه معه في طاعة ربه وعدم عصيانه فيما أمر (2).
وإذا كانت تلك حاله، فهي مفترقة عن حال الذين معه؛ ولذلك الافتراق عنهم ما حكاه الله تعالى: (فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).
________
(2) عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ، يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنَ المِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ مَشْهَدًا، لَأَنْ أَكُونَ صَاحِبَهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَدْعُو عَلَى المُشْرِكِينَ، فَقَالَ: لاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَبَيْنَ يَدَيْكَ وَخَلْفَكَ «فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْرَقَ وَجْهُهُ وَسَرَّهُ» يَعْنِي: قَوْلَهُ.
رواه البخاري: المغازي (3952).(4/2118)
الفرق معناه الفصل بين شيئين أو شخصين فصلا حسيا أو معنويا، كما قال تعالى: (. . . لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ. . .).
والمراد هنا والله أعلم؛ اجعل بيننا وبينهم فارقا في الحكم وهو العدل بيننا وبين هؤلاء الفاسقين؛ لأننا لَا نرضى بما يفعلون، ولسنا معهم في الإحساس وهذا التخاذل، فلسنا منهم في هذا، وليسوا منا في شيء وافصل بيننا وبينهم في الآخرة، كما فصلت في الحكم بيننا وبينهم في الدنيا، والمؤدى من قول سيدنا موسى هذا هو أنه يبرئ نفسه منهم، ومن عملهم وخذلانهم، والفاسق هو الخارج المنفصل بالحس أو المعنى، والمعنى: افرق بيننا وبين هؤلاء الذين خرجوا عن الطاعة، وعن مناط العزة، ورضوا بالذلة والهوان.
ولا شك أن هذه الجملة تدل على ألم موسى، واستنكاره لما هم عليه، فقال تعالى:
* * *(4/2119)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
(قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ... (26)
* * *
القول هنا هو قول الله تعالى، كما يدل على ذلك الحكم الذي حكم به، فإنه لله تعالى وحده، وكما يدل عليه من بعد ذلك قوله: (فَلا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ).
والفاء في قوله تعالى: (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ) هي فاء الإفصاح، أي التي تفصح عن شرط مقدر، والمعنى: أنهم إذا كانت حالهم كذلك من الخور، وضعف العزيمة، والخوف من أعدائهم فإنهم لَا يدخلون الآن لضعف بأسهم وشكيمتهم، فإنها محرمة عليهم تحريما واقعيا، لَا تحريما حكميا تكليفيا يتيهون في الأرض، أي يكونون في الأرض تائهين متحيرين يضطرب عيشهم وحياتهم، ولا يستقر مقامهم، بل يعيشون فرادى هائمين على وجوههم، حتى يتربى البأس في قلوبهم.
هذا خلاصة معنى النص الكريم، وهو يدل على أن الله تعالى بسنته التي سنها سبحانه وتعالى في الكون لَا يمكنهم من أن يدخلوها إلا إذا غيروا، وبدلوا حالهم من بعد الضعف قوة، ومن بعد الخور عزيمة: (. . . إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّر مَا بِقَوْمٍ(4/2119)
حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11).
إن بني إسرائيل من بعد أن بعث الله تعالى إليهم من أنفسهم سيدنا موسى عليه السلام كانت كل انتصاراتهم على فرعون بأمور خارقة للعادة، وحياتهم كلها لا تخلو من خارق، فقد أنقذوا بالبحر ينفلق اثني عشر فرقا، وشربوا الماء بالعصا يضرب بها الحجر فينبثق منه اثنتا عشرة عينا لكل إنسان مشربهم، ويشكون الجوع، فيجيء إليهم المن والسلوى. وبذلك استرخت نفوسهم، والله سبحانه وتعالى لم يجعل - فيما سنه في الكون - الأمم تعيش من غير كفاح، وطلب للعزة بجهاد وعمل. فكلفهم سبحانه أن يدخلوا الأرض المقدسة، وهو يعلم حالهم، وبماذا يجيبون، وكان لَا بد أن يربيهم على الكفاح بعد الاسترخاء، وعلى طلب العزة بأنفسهم بعد الاستخذاء، فكان لَا بد من البلاء بتركهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، ويعيشون في الأخبية وينتقلون طلبا للماء والكلأ، ويحيون حياة خشنة.
ولقد قرر ابن خلدون في مقدمته إن الأمم كلما تحضرت استرخت منها العزائم حتى يغزوها من يعيشون في شظف العيش ويسيطرون عليهم، حتى يصيبهم الرفه، ويفكهوا في نعيمه، فيصيبهم ما أصاب من سبقوهم.
كان التيه الذي عاش فيه بنو إسرائيل أربعين سنة لتربى فيهم قوة البأس والعزيمة، ويستهينوا بالصعاب، فيذللوها ويتغلبوا عليها: (فَلا تَأسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) هذا تطمين لموسى عليه السلام، وبيان استجابة معذرته، وإزالة لما علق بنفسه من هم بسبب فعل قومه، وعصيانهم لأمر ربهم، ومعنى أسى حزن حزنا عميقا، يُحدث هما وغما، ومن ذلك قول امرئ القيس:
وقوفا بها صحبى عليَّ مطيهم ... يقولون لَا تهلك أسى وتجمل اللهم هب لأمة الإسلام القوة والعزة والمنعة، وطلب إعزاز الإسلام بالجهاد بالنفس والمال، وألا يرهَبوا عدوَّ الإسلام، ويطيعوا قول الله تعالى ويستمعوا إليه: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُم الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
* * *(4/2120)
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
* * *
هذا النص القرآني فيه تعليل لما كان من اليهود من قبله من بسط أيديهم بالأذى للنبي - صلى الله عليه وسلم - ونقضهم المواثيق، وقتلهم للنبيين، وادعائهم الكاذب الفضل على الناس، فإن علة ذلك هو الحسد الكمين في نفوسهم والحسد قديم في الخليقة قدم الإنسان فيها، فهذا أحد ولدي آدم يحسد أخاه، حتى في العبادة التي تقتضي تنقية النفوس وتقوى القلوب، وذلك دليل على كمون الحسد في بعض النفوس مما لا علاج له إلا الصبر على الذين تصيبهم هذه الآفة، كما صبر الأخ الذي قتله أخوه، فإذا كان في النصوص بيان لآفة الحسد، ففيها أيضا بيان لحلية الصبر والصفح والرضا بما يقدره رب العالمين من أذى المؤذين، والإخلاص لله تعالى.
وكل هذا فيه عزاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - يدعوه إلى الصبر، كما قال تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ ممَّا يَمْكُرُونَ).
وكما أن في النص تعليلا لما سبقه ففيه تمهيد لما يلحقه، فإنه سيجيء بعد ذلك عقوبات رادعة للذين يعيثون في الأرض فسادا، ويخرجون، ويقتلون الأنفس البريئة، ويزعجون الآمنين بالسرقات والاختطاف، ففي هذا النص يبين قسوة المعتدي ليتبين استحقاقه هو وأمثاله من عقاب ردعا وزجرا، ونكالا يمنع غيرهم من العبث؛ ولذلك كانت الآية التي أعقبت هذا النص فيها بيان لسببيته في شرعية(4/2121)
العقاب الرادع، فقال تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).(4/2122)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ابنا آدم، يقول المؤرخون وبعض المفسرين فيهما، كما جاء في التوراة: هما هابيل التقي، وقابيل الباغي، ويقول أكثر المفسرين: إنهما ولدا آدم من صلبه، ولكن الحسن من التابعين قال: إنهما من بني إسرائيل، ولعلِ مما يشير إلى ذلك قوله تعالى من بعد: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ من قَتَلَ نَفْسًا بِغيْرِ نَفْسٍ. .) إلخ.
ولا يهمنا أن نعرف من هما، ولكن الذي يهمنا أن نعرف أن ما يومئ إليه النص من حقائق، والقصص صادق وواقع، ولكن نترك ما تركه القرآن ولا نهيم في إسرائيليات صادقة أو كاذبة، والنص القرآني واضح في مقصده من غير حاجة إلى ما يوضحه من خارجه، ويقول سبحانه: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَاً ابْنَىْ آدَمَ بِالْحَقِّ).
ومعناه اذكر خبر ابني آدم ذكرا متتابعا منسقا يشبه الكلام العظيم المتلو، وأصل التلاوة القراءة المتتابعة الواضحة في مخارج حروفها، والمصورة للمعاني في وقوفها، والمؤدى: أخبرهم بخبر الابنين بعناية، وأخبرهم بهذا الخبر الصادق خبرا قد لبسه الحق، وصار حليته، ومظهره وحقيقته، والنبأ هو الخبر العظيم ذو الشأن الذي يستدعي دراسة وعناية، ولا شك أن خبر ابني آدم (خبر له شأنه) بما فيه من قتل الأخ لأخيه من غير جريمة ارتكبت، ولا شر وقع، ولا اعتداء، بل بسبب العبادة الخالصة لوجه الله تعالى، فما كان سبب الاعتداء إلا ذلك؛ ولذا ذكر سبحانه وقت الجريمة، وهو سببها، وباعثها، مما يدل على أن القلب الخبيث لا يدفعه فعل الخير المقبول إلا إلى الأذى الممقوت، فقال:
(إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ) أي اذكرهما ذكرا حقا صادقا في الوقت الذي قربا فيه قربانا، وكانت نتيجة القربان تقبلا حسنا من(4/2122)
أحدهما وعدم تقبل من الآخر، فكان من وراء ذلك الاعتداء الشنيع من الذي لم يقبل قربانه، والقربان العبادة التي يتقرب بها إلى الله تعالى، وهي تطلق في أكثر أحوال العبادة على الذبائح التي يتقرب إلى الله تعالى بذبحها، كذبح الهدْي في مكة.
والتقبل معناه القبولى بقوة من القابل سبحانه، فهو قبول ورضا وترحيب، وقد ذكر اللفظ في الإثبات لمعنى القصد الطيب والنية الحسنة من الابن الصالح، وذكر اللفظ في النفي بقوله سبحانه: (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ). للمقابلة بين النفي والإثبات، لأن قربان ذلك الآثم لم يقبل أصلا، فنفيه منصب على أصل القبول، لا على وصفه.
وكان عدم قبوله لسوء نيته، ولنقص تقواه؛ ولأنه قصد الخبيث من ماله وأراد به التقرب، ولأنه قصد المباهاة والفخر، ولم يقصد وجه الله، ولأن قلبه متأشب بالآثام كما تبين من سوء فعله وخبثه، وعدم رحمته من بعد ذلك، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن أحدهما لم يتقبل قربانه، ولم يبين سبحانه كيف عرف أنه لم يقبل، ولقد ذكر العلماء كلاما في هذا، فقيل إن القربان تنزل عليه نار فتأكله، والآخر لَا تنزل عليه نار، وقد علم القبول بهذه الأمارة، وقال آخرون: إن ذلك كان بوحي أُوحي إلى نبي هذا الزمان، وعندي أن ذلك كان برؤيا صادقة أو بحالي المتصدق في نفسه، وقد علم من حاله أن تصدقه غير مقبول، وقد يكون بإخبار نبي الزمان إن كانا غير ولدي آدم الصلبيين (1).
وكانت نتيجة ذلك أن كان بين الأخوين تلك المجاوبات الكلامية ثم الجريمة الكبرى التي هي أعظم ما ظهر من جرائم في الوجود الإنساني، ولنذكر المجاوبة بين التقي المؤمن العادل السمح، والفاجر الباغي الظالم الحاسد، قال: (لأَقْتُلَنَّكَ). تلك كلمة الظالم الآثم الذي خلا قلبه من كل شعور بالحق، فلم
________
(1) روى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللًهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأولِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا لأنَهُ أولُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ ".(4/2123)
يشعر بالعدالة في ذاتها، ولم يشعر بالرحم الواصلة بينهما ولم يشعر بحق الحياة التي خلقها الله تعالى وأودعها كل نفس ولم يشعر بحرمة الدم، وبأن القتل أعظم جريمة في هذا الوجود الإنساني، وقد أكد عزمته الآثمة، وإصراره عليها من غير خور ولا ضعف؛ ولذلك أكدهما أولا بالقسم المطوي في القول، والذي تدل عليه اللام، وهي مؤكدة أيضا بنون التوكيد الثقيلة، وكانت المجابهة الآثمة لأخيه بذلك الخطاب المواجه، ولم يستر نيته، فكان التبجح السافر الذي أدى إليه الفجر في القول، والإجرام في العمل، والكسب الآثم.
وإن هذا يدل على تصميمه على القتل، وهذا النص الموجز يبين روح الإجرام في المجرمين الذين يريدون السوء بالأخيار في المجتمع، وكلما زاد خير الأخيار، أوغل المجرمون في الشر والإيذاء، حتى أنهم ليستمرئون الشر، كما يستطيب الأخيار حب الخير، وإن هؤلاء آفة الجماعة الإنسانية، ومن تظهر مآثمه منهم تحق عليه كلمة العقاب زجرا وردعا، وتهذيبا للمجتمع وتطهيرا له، فالذين يذهب بهم فرط رأفتهم إلى الاعتذار لهم آثمون في حق جماعتهم، راضون بأن يعيش الشر في قلوب الاثمين.
(قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) تلك أول كلمة نطق بها التقي البر في مجاوبة اعتداء أخيه، أو الجهر بنية الاعتداء، وهي في ذاتها اعتداء، فقد قال كلمات أربعة، كل واحدة منها تنبئ عن إيمان مكين عميق، وتلك هي الأولى، وهذه الكلمة تفيد السبب في القبول، وترشد أخاه إلى تطهير قلبه، وإلى الاتجاه إلى ربه، وإلى الاستشعار بخشيته، وفي تلك الكلمات الطيبة معان كريمة.
فهي أولا تفيد قصر القبول بلفظ (إِنَّمَا) على المتقين، والقصر نفي وإثبات، أي أن التقوى هي سبب القبول، فإن وجدت كان القبول، وإن لم توجد انتفى القبول، وتفيد ثانيا أن عدم القبول إنما يكون من نفس المتصدق، لَا من أمر خارجي فالجزاء على قدر النية، فالتقوى دائما من القلوب.(4/2124)
وتفيد ثالثا توجيه أخيه الفاسد إلى الإقلاع عن ذنبه بموضع الداء في قلبه، وأن عليه أن يُطب له، والتقوى التي اعتبرت سببا للجزاء الطيب، تتضمن خشية الله تعالى، وامتلاء القلب بطلب رضاه، وتتضمن اتقاء الذنوب والآثام، وتتضمن احترام حق الإنسان على أخيه الإنسان، فهي كلمة جامعة لكل معاني الفضيلة الدينية والخلقية والاجتماعية.
* * *(4/2125)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
(لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ... (28)
* * *
تلك هي الكلمة الثانية، وبسط اليد مدُّها بالاعتداء، ونرى في هذا النص قسما ينبئ عن الطيبة والخلق السمح في مقابل قسم ينبئ عن الشر ونية الأذى والتصميم عليه، وهذا يصور ما بين الاخيار والأشرار من تضاد، فهو يؤكد هنا سلامة القلب وسلامة العمل، أقسم الأول على القتل، وأقسم الثاني على عدم الرد (1)، وقد أكد نفيه بهذا القسم، وبالتعبير بالجملة الاسمية في جوابي القسم؛ لأن جواب القسم: (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ) وقد أكد النفي بأمور ثلاثة: أولها - التعبير بالوصف، فهو ينفي عن نفسه وصف بسط اليد لأجل الاعتداء؛ لأن ذلك ليس من شأنه ولا من رغباته، والثاني - التعبير (باليد) للإشارة إلى أن ما بينهما من رابطة الرحم الموصولة عنده تمنعه من أن يمد إليه يده بالأذى، والمؤكد الثالث - التعبير (لِأَقْتُلَكَ) فيه أن هذه الجريمة تنفر منها الطبائع السليمة، ولا ترضى بها العقول المستقيمة، وخصوصا إذا كان يريد قتله.
وقد أقسم الأول على الفعل فقال (لِأَقْتُلَكَ) وردد كلامه في نية الاعتداء بالفعل أيضا؛ لأن موضوع القول هو ذلك الفعل الذي كان ثمرة للنية الخبيثة من فاعله، أما النفي الذي كان من الشاب الطيب، فقد كان عن نفي الوصف، أي أنه لا يقع منه ذلك الفعل، ولا يمكن أن يقع.
________
(1) وهو القسم المفهوم من اللام الموطئة له في (لأقتلنك)، و (لئن بسطت) أي: اقسم لأقتلنك.
اقسم لئن.(4/2125)
ويثير الفقهاء بحثا في هذا الموضوع، وهو حول ما قرروه من أن الدفاع عن النفس عند محاولة الجاني للقتل أمر مشروع لَا يتجافى مع التقوى، ويقرر الحنفية أن الشخص إذا تأكد أنه مقتول إذا لم يدفع عن نفسه ولو بالقتل، يكون الدفاع واجبا حفظا لنفسه، ويكتفي الأكثرون من الفقهاء بالقول بأن الدفاع يكون مشروعا، ولا يكون لازما، وسواء أكان هذا أم ذاك، فإنه ليس من التقوى أن يقف المجني عليه مكتوف اليد لَا يدافع.
وقد أجاب جمهور الفقهاء بأن التقوى في هذا المقام اختيارية، أي أنه يختار أي الطريقين. فإما أن يدفع الشر وإما أن يكون عبد الله المظلوم، ولا يكون عبد الله الظالم، وليس في كليهما ما ينافي التقوى، أما الحنفية الذين قالوا: إن الدفاع عن النفس واجب، فقد قالوا: إن السكوت واعتباره من التقوى كان شرع من قبلنا، أما شرعنا فهو واضح في قوله تعالى: (. . . فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ. . .)، ونقول: إن موقف ولدي آدم خارج عن موضوع الخلاف؛ لأن موضوع الخلاف هو في دفع الصائل الذي يجيء ليقتل، فإنه يجب دفعه، حتى لَا يستشري شره، أما هنا فأخ يهدد أخاه بالقتل، ولو أنه هدده بمثل ما هدده به لدخلا في ملحمة، ولا يدري أيهما الغالب، ويكون هذا داخلا في معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار "، قالوا: هذا القاتل يا رسول الله، فما بال المقتول؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: " إنه كان حريصا على قتل صاحبه " (1) على أن في الصبر أجرًا وقد قال تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصَّابِرِينَ)، فهذه القضية خارجة خروجا تاما عن موضع الخلاف، وخصوصا أن الأمر بين أخوين، لا بين صائل يضرب بالسيف ابتداء من غير فرصة للموازنة والتفكير. (إِنِّى أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) هذه هي الكلمة الثالثة، وهي تنبئ عن الباعث الذي جعله يقف ذلك الموقف السلبي ويتخلى حتى عن الدفاع عن نفسه، والباعث
________
(1) متفق عليه؛ رواه البخاري: الإيمان.(4/2126)
عليه هو خوف الله تعالى، وفي ذلك إشعار لأخيه الذي يهم بقتله بأن يقف موقفه ويخاف الله تعالى الذي يقبل الطاعات ويرد المعاصي، وهو عليم بكل ما في الصدور، وهو شهيد على حركات الجوارح والأعضاء والقلوب، لَا يخفى عليه شيء في الأرض، وفي النص الكريم إشارات بيانية، يحسن التنبيه إليها: الأولى - تأكيد خوف الله بذكر (إنَّ) المؤكدة للقول.
الثانية - ذكر الله تعالى جل جلاله بلفظ الجلالة، للإشعار بأنه هو وحده، صاحب السلطان على نفسه، ولا سلطان سواه فلا يدفعه غضب أو حب انتقام إلى مخالفة أمره.
الثالثة - وصف الله جل جلاله بأنه رب العالمين، أي منشئ الكون ومن فيه، وهو يتعهدهم بالنماء والتغذية والتربية، فقتل النفس التي حرم الله تعالى قتلها هدم لما بناه الله تعالى، وتخريب في الأرض، ونشر للفساد.
* * *(4/2127)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
* * *
تبوء هنا معناها: ترجع ويلازمك الإثم ملازمة من يقيم في مكان ويبوء إليه، وهنا نتكلم عن معنى " إثمي وإثمك " روي عن ابن عباس أن المعنى إثمي أي إثم قتلي، فهي تشبه إضافة الفعل إلى المفعول، أي الإثم الذي ترتكبه في شأني بقتلك إياي، وإثمك الأصلي الذي عوق صدقتك عن أن تقبل، فترتكب إثمين، وتضيف إلى ذنبك الأصلي ذنبا آخر، فلا تكون قد خلعت نفسك من المعاصي، بل أركست نفسك فيها، وزدتها.
وهذا الذي نختاره وهو معنى مستقيم، وروي عن الحسن أن المعنى أن يحمل يوم القيامة ما عسى أن يكون التقي قد ارتكبه من إثم، فوق آثامه الأصلية.
والزمخشري يقول في تفسير هذه الآية: (إِنِّى أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ).(4/2127)
أن تحتمل إثم قتلي لك لو قتلتك وإثم قتلك لي ثم يقول (المراد بمثل إثمي) وروى ذلك عن مجاهد، وإني أرى في هذا تكلفا، والواضح هو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه.
وهنا قد يسأل سائل أكان من التقوى أن يريد أن يتحمل غيره الأوزار؟ ونقول: إن ذلك بيان للنتيجة لامتناعه عن مقاومة أخيه، فهو إذ أراد الامتناع عن بسط يد الأذى لأخيه فكأنه أراد النتيجة المحتومة لذلك، وهي أن يبوء بإثم نفسه وإثمه، فإن إرادة السبب كأنها إرادة للمسبب.
وقد ختم كلامه السمح بتبصير أخيه بالنتيجة النهائية، وهي أن يكون من أصحاب النار الملازمين لها الذين لَا يخرجون منها يوم القيامة، ثم يبصره بأن ذلك جزاء الظالمين، وأنه في فعلته التي يهم بفعلها، يكون ظالما داخلا في زمرة الظالمين. . اللهم جنبنا الظلم وأهله، وإنك نعم المولى ونعم النصير.
* * *
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
* * *
الآيات المتلوة استمرار في بيان قصة ابني آدم التي ضربها الله تعالى مثلا للشر كيف يستحكم في النفس وينتصر على نوازع الخير والمحبة فيها، وإن فيها مغالبة بين الخير والشر بين أخوين، وكان الشر معتديا، والخير مسالما وكان الخير في قلب الشرير ينازع الشر، حتى انتصر الشر في قلبه، وقد كان أخوه الخيِّر يرجو(4/2128)
أن تثور في قلب أخيه الشرير نوازع الرحمة والمودة والأخوة الواصلة، ولا تقطعها جفوة الحسد العارضة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا، فخذوا من خيرهما ودعوا الشر " (1).
ولقد تمت جريمة الأخ الآثم، ولكن بعد مجاوبات نفسية انتهت بانتصار الشر، ولذلك قال تعالى:
________
(1) روى ابن جرير عن الْحسن مُرْسَلًا، وعن بكر بن عبد اللَّه مُرْسَلًا قالَ النبِي - صلى الله عليه وسلم -: " إِن اللَّهَ ضَرَبَ لكُمْ ابْنَيْ آدَمَ مَثَلًا، فَخُذُوا خَيْرَهُمَا وَدَعُوا شَرهمَا! أورده السيوطي في الجاء ج 2، ص 258 (5379).(4/2129)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
(فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ) هذا النص الكريم يدل على أمرين: أحدهما - أن قابيل الذي قتل أخاه، ولو أنه أكد عَزْمَتَه على الاعتداء بقوله: " لأقتلنك " كانت نفسه يتردد فيها عاملان: الأول عامل الود والرحم الواصلة، والثاني عامل الحسد والضغن، وثانيهما - أن أخاه فيما ساقه من قول كان يريد أن ينمي في نفسه روح المودة والأخوة لتنتصر على الأخرى، ولذلك ما تحرك لمقاومته، بل تحرك لمراجعته ليثوب إلى نفسه.
ومعنى كلمة " طوَّعت " قال فيها مفسرو السلف معاني تدل على أن هناك مقاومة في داخل شعوره قبل أن يقع في الجريمة، وقد فسر مجاهد " طوَّعت " شجعت، وفسرها بعض التابعين بسقلت ووسَّعت، وبعضهم بزيَّنت وحسنت، وكلها يشير إلى أنه كانت هناك معركة في داخل نفسه بين الخير والشر، بين الإقدام على الجريمة، والإحجام عنها، حتى انتصرت، وقرأ الحسن بدل " طوعت " " طاوعت " وهذه الصيغة تدل على المشاركة، وهو يدل على معنى المقاومة، وقد صور السيد رشيد رضا في تفسير المنار معنى المغالبة في النفس تصويرا حسنا فقال:
" إن هذه الكلمة (طوَّعت) تدل على تكرار في حمل الفطرة على طاعة الحسد، الداعي إلى القتل، كتذليل الفرس والبعير الصعب، فهي تمثل لمن يفهمها(4/2129)
ولد آدم الذي زين له حسده لأخيه قتله، وهو بين إقدام وإحجام يفكر في كل كلمة من أخيه الحكيم، فيجد في كل منها صارفا له عن الجريمة، ويدعم ما في الفطرة من صوارف العقل والقرابة، فيكر الحسد من نفسه الأمارة بالسوء على كل صارف من صوارف نفسه اللوامة، فلا يزالان يتنازعان، ويتجاذبان حتى يغلب الحسد ويجذبه إلى طاعته ".
وإن في النص الكريم إشارة إلى هذه المعاني من حيث التردد، فقد عبر عن المقتول بقوله: (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ). والمعنى: أن الأخوة، والاطمئنان إلى القرابة كانا يعارضان دواعي القتل، وعبر عن الجريمة بقوله فقتله، مما يدل على أن التطويع للحسد بعد المغالبة ترتب عليه أقوى شر في هذا الوجود، وهو إزهاق النفس التي حرم الله قتلها من غير جريمة إلا أن يكون قبول الله لقربانه جريمة عند الحاسدين.
والنص القرآني مع كل ما سبق فيه إشارة إلى شناعة الجرم في ذاته من حيث الباعث عليه ومن حيث الصلة بين القاتل والمقتول، ومن حيث ذات الفعل، فإنه أكبر جريمة إنسانية في هذا الوجود، ولكل هذه المعاني أشار القرآن الكريم بأوجه تعبير، وأدق الألفاظ، وهو سر الإعجاز، وفيه بلاغة الإيجاز مع الوضوح، وإشعاع المعاني بالنور من ثنايا الألفاظ.
(فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أي فصار من الخاسرين بعد تلك الجريمة الكبيرة التي تحيط بها الشناعة من كل أطرافها، والتعبير بأصبح هيأ لها المقام في الكلام " لأن " أصبح " تدل على أنه كان مدركا لما ارتكب عندما أشرق نور الصبح، كأنه وقت الحيرة أو إرادة الارتكاب في ظلمة من عقله وقلبه، وفي ديجور من الظلام يشبه ظلام الليل، حتى كان الصبح المنير الذي أراه الأمور على وجهها، وأدرك في ذلك الضوء الذي جاء عند الصباح مقدار الإثم فيما فعل.
والخسران الذي لحقه هو خسران القلب المؤمن إذا أربد بالمعاصي، وطغى عليه الشر، حتى غلبه، وأركس في مهاوي الشر بسبب ضغن نفسه، وامتلاء قلبه(4/2130)
بالحسد، وأحس بأنه خسر أخاه الطيب الطاهر العفيف، وأحس بغضب الله تعالى، وذلك هو الخسران المبين، وهكذا صار ممن غلبت عليه شقوته، وامتلأت نفسه بالحسرة على سوء ما فعل.
وهنا إشارة بيانية، وهي في التعبير بقوله تعالى: (فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
فإن مؤداه أنه صار في زمرة الخاسرين الذين كسبوا السيئات وأركست نفوسهم في مهاوي الخسران، وأصبحوا، ولا منجاة لهم، ولا بقاء، لأنهم نزلوا إلى قاع الهاوية، بارتكاب أعظم الجرائم بإصرار وتصميم.(4/2131)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
(فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَيْحَثُ فِى الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أَخِيهِ) هذا الكلام يتضمن معاني سبقته، ولم يذكرها القرآن الكريم، لأنها تفهم من المعنى والسياق من غير حاجة إلى الذكر، ولا يدرك المعنى ولا يستقيم إلا بتقديرها، وذلك أن القاتل بعد أن ارتكب الجريمة، وأحس بالخسارة الشديدة التي نالته، لم يرد أن يترك أخاه تنهشه السباع، أو تنقره جوارح الطيور، ولا أن يترك جسمه ملقى، وألهم بالفطرة أنه لَا بد من مداراة جسمه، وستره، وإبعاده عن الأنظار، لأنه بعد موته صار جسمه كله سوءة يسوء النظر إليها، ولا تألف الطباع السليمة رؤيته، فالمراد بالسوءة الجسم كله بعد موته؛ لأنه يسوء النظر، وخصوصا بعد أن تتحول حاله ويتعفن، وقد استيقظت الأخوة في نفسه، بعد أن خبت أمدا ارتكب فيه جريمته.
اتجه الأخ القاتل لمواراة جثة أخيه أي سترها، وقد أراد الله تعالى أن يعلمه ذلك، فبعث غرابا، ومعنى بعثه أنه أفهمه أن يفعل ذلك، وقد رأى ذلك الغراب الملهم غرابا آخر ميتا، وأراد أن يستره عن الأنظار، فأخذ يبحث في أرض أي يثيرها ويحفرها برجليه، حتى أوجد حفرة تسع الغراب الميت، فوضعه فيها، فكان هذا إعلاما للقاتل بالطريق التي يواري بها جثة أخيه.
وقد فهم بعض المفسرين من الآية أنه لم يكن ثمة غراب قد مات، أو قتله صاحبه، ولكنه رأى الغراب يبحث في الأرض عن شيء من الأشياء ليدفنه؛ لأن(4/2131)
من عادة الغربان حفر الأرض لدفن الأشياء، فلما رأى قاتل أخيه الغراب يحفر الأرض اهتدى إلى حفر الحفرة التي ألقى فيها جثة أخيه القتيل.
والكثيرون من المفسرين على أن غرابين تناقرا فمات أحدهما، فدفنه الآخر بحفر حفرة في الأرض.
والحق أن الآية الكريمة نصت على أن الغراب قد أخذ يبحث في الأرض، حتى حفر حفرة، دفن فيها شحيئا أو طيرا ميتا، ولم تتعرض لكون المدفون طيرا أو غير طير، ولا لكون الطير مات بقتل الدافن، أو مات بسبب آخر، والآية الكريمة بينة واضحة المقصد من غير فرض واحد من هذه الفروض بعينه، وما دامت الأخبار التي لَا مناص من قبولها لصدقها غير موجودة فليس لنا أن نفرض واحدا من هذه الفروض بعينه، والفرض الواحد الذي يقتضيه بيان الغرض والمغزى هو أن نفرض أن الغراب أخذ يحفر في الأرض، حتى أتم حفرة وضع فيها شيئا، فعلم القاتل الجهول أن ذلك هو الطريق لدفن أخيه.
وأصل كلمة " يبحث " معناها كشف أو دق الأرض أو حفرها، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني: " البحث " الكشف والطلب فيقال بحثت عن الأمر، وبحثت كذا، قال تعالى:
* * *
(فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي ... (31)
* * *
وقيل بحَثَت الناقة الأرض بأرجلها في السير إذا شددت الوطء تشبيها بذلك.
والمعنى: أن الغراب أخذ يدق بمنقاره مثيرا للأرض، حتى حفر حفرة فيها، ثمِ دفن ما شاء أن يدفنه، وأنه دأب في ذلك وقتا طويلا بدليل التعبير بقوله (ييْحَثُ) بالمضارع بدل الماضي، لأن في التعبير بالمضارع إشارة إلى حال استمرت لا إلى واقعة وقعت فقط، فالتعبير بالمضارع عن أمر مضى لبيان أن الفعل مكث وقتا وكان مجال استمرار،(4/2132)
وفى كل هذه الأمور التي كانت بعد قتل أخيه ما يثير العبرة، وإذا كان الغراب قد أراه كيف يواري سوءة أخيه، فإن ضميره قد استيقظ، وأصبح لا يستطيع كيف يواري سوءة فعله التي فتحت باب القتل والقتال إلى يوم القيامة؛ ولذلك صرح القرآن بأنه اعتراه الندم، ولكن في غير مندم؛ لأن الجريمة قد وقعت، ولا منجاة منها؛ ولذلك قال سبحانه: (قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي).
أخذ القاتل تعتريه الحسرة بعد الفعلة التي فعلها، واكتسب بها ذلك الجرم الشديد البليغ الأثر في هذا الوجود، وقد كانت حسرته للفعل الذي ارتكبه، للعجز الذي لحقه، ولصغر نفسه أمام الطائر، وهو الذي أبى واستكبر؛ لأن الله قبل قربان أخيه، ولم يقبل قربانه، وطغى على أخيه وتجبر.
والويلة والويل البلية والفضيحة، والألف في قوله تعالى: (يَا وَيْلَتَى)، هي مقلوب ياء المتكلم، مثل الألف في قوله تعالى: (. . . يَا أَسَفَى عَلَى يُوسفَ. . .). والمعنى يا " يا وليتى " أي يا فضيحتي وبليتي أقبلي فهذا وقتك، لأنى قد نزلت بي أسبابك، وهذا النداء يستعمل للتحسر وإظهار الألم النفسي، وإن هذه البلية والفضيحة اللتين نزلتا به، ويتحسر منهما، ويناديهما، وهما بين جنبيه انبعثا من قلبه، ومن فعلته التي فعلها، ومن جهله وغبائه، وعدم التفاته إلى ما يجب عليه بالنسبة لجثمان أخيه الذي كان سببا في جعله جثة هامدة، بعد أن كان لسانا نقيا وقلبا تقيا، وأخا مباركا. وقد صوَّر جهله بهذا الاستفهام التقريري الذي يصور جهله، وغفلته وحسرته، وقد حكاه الله تعالى عنه بقوله: (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي).
والمعنى: أنه يقرر عجزه عن أن يكون مثل هذا الغراب، ولكنه قال ذلك بصيغة الاستفهام للتقرير والتثبيت وللحسرة على ما وقع منه، وللأسى والألم، ولذلك عبر باللفظ (أَخِي) الذي كان يوجب المودة والمحبة بدل الحسد، وما أدى إليه من قتله، وشطر لحمه، وهو جزء أبيه، فقال سوءة أخي، وحسرته ليست(4/2133)
للعجز، عن مواراتها التراب وغفلته، ولكن لذلك ولأصل الجريمة بالذات، ولذلك كان التعبير بأخي، وإن هذه أولى درجات الندم، إذ إن أولى الدرجات فيه أن يحس بعظم الجريمة التي ارتكبها، وأثر الإثم الذي فعله، فقد فعل ما فعل بعد ترديد الفكرة مرتين، ولكنه ما إن فعل حتى رأى أثر الجريمة مجسما، وبذلك كانت الحسرة، ثم كان الندم، ولذلك قال سبحانه بعد ذلك:
(فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) بعد أن رأى جثة أخيه بين يديه، وغفل عن أن يواريها، وأحس البلية التي وقع فيها من رؤية جثمان أخيه الطيب ملقى، وهو عرضة لسباع البهائم وسباع الطير تنهشه - أدرك مقدار الشر الذي ارتكبه، ومن المقررات العلمية أن أول إحساس بهول الجريمة أن يرى المجرم الفريسة التي افترسها، سواء أكان ذا قربى أم لم يكن ذا قربى، فما بالك إذا كان المقتول لم يرتكب إثما، بل فعل برا، ولم يكن منه شر وأذى، بل كان منه عظة وإرشاد. وإن ذوي الخبرة من رجال التحقيق يستخدمون رؤية المقتول سبيلا لاعتراف القاتل، فإنه بمجرد رؤيته تضطرب أعصابه، ويتخلى عنه ثباته وإصراره على الإنكار، وإن لم يصرح بالاعتراف، فإن قرائن الارتكاب تتكون من اضطراب ظاهر، ومن سرعة نبض، ومن اصفرار وجه، وذلك سبيل لأخذ الاعتراف الصريح، لأن صوت الفطرة المستنكر يستيقظ ويتحرك، ويظهر في حركات الجوارح، وخلجات اللسان، واضطراب الأعصاب، وسرعة النبض، ولذلك كانت الندامة التي اعترت أول حاسد وأول قاتل، وقد صار من النادمين، أي أنه دخل في زمرة النادمين، بعد أن كان في زمرة المترددين الحاقدين الحاسدين الباغين.
وإن هذا الندم لَا يعد غافرا للذنب، وإن كان أول طريق للتوبة هو الندم على الفعل الذي وقع، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " التوبة ندم " (1) كما روى الإمام أحمد والإمام البخاري رضي الله عنهما، وإنما كان ذلك الندم ليس من التوبة لأنه
________
(1) " الندم توبة "، رواه أحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (3588)، وابن ماجه: الزهد - ذكر التوبة (4252).(4/2134)
استجابة لصوت الفطرة، والتوبة المقبولة تكون ابتغاء مرضاة الله تعالى، وتكون في غير الاعتداء على العباد.
وبعد، فإن سبب هذه الجريمة الكبرى التي فتحت باب القتل والقتال هو الحسد، والحقد، وهما يأكان القلوب، ويشعلانها بالشر، كما تشعل النار الحطب، وإن ذلك الحسد كان في العبادة وقبولها، وذكر الله تعالى هذا النوع من الحسد ليبين أن الحسد كيفما كان الباعث عليه شر يؤدي إلى أقبح الشرور والآثام، وإذا كانت أول جريمة في البشرية سببها الحسد، فإن ذلك تنبيه إلى أن الباعث على أكثر جرائم هذا الوجود الإنساني هو الحسد المقيت، فالكفر بالنبيين، وخصوصا نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - كان سببه الحسد، وأكثر الجرائم بين الآحاد سببها الحسد، والحسد دائما يكون على فضل في المحسود، وعجز في الحاسد، وقَى الله العاملين شر الحاسدين.
* * *(4/2135)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
(مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
* * *
يتنازع النفس الإنسانية نزوعان: نزوع الخير ونزوع الشر؛ ولذلك قال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8).
وقال تعالى: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ)، أي: أودع الله تعالى نفسه العلم بالخير والاتجاه إليه، وأودعها الشر والاتجاه إليه، فمن غلبت عليه نزعة الشر كان من الأشرار، ومن غلبت عليه نزعة الخير كان من الأخيار الأبرار، وكل ميسر لما خلق له، وما(4/2135)
يتجه إليه، وقد أودعه الله سبحانه وتعالى مع ذلك عقلا به يميز الخير من الشر، والطيب من الخبيث، ويعتبر بماضيه وحاضره، وحاضر غيره وقابله. ولا بد من زواجر اجتماعية تنبه الضال، حتى لَا يستمر في ضلاله، وتوضح له بالعيان عقبى الشر، وثمرة الخير.
وهذان أخوان أحدهما غلب عليه الخير، حتى أنه لم يبسط يده ليقتل أخاه، مع أنه رأى بوادر الشر، والثاني غلبه الشر، حتى أنه ليستعديه الحسد على أخيه، فيقتله، ولقد ذكر الله تعالى في سابق الآيات ما كان من ابني آدم، ويذكر هنا ما سنه من نظم ليرى فيها النازعون إلى الشر ما يردعهم، فقال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي من جرَّاء هذه الجناية التي ارتكبها أحد ابني آدم، ودلالتها على تغلغل الشر في نفوس بعض الناس، واستعدادهم لأن تكون منهم الجريمة في كل وقت وحين، كان لابد من رادع زاجر مانع، وهو العقاب - فـ " أجل " هنا معناها جناية، وقد فسرها كذلك اللغويون في معاجمهم، فذكر ذلك ابن منظور في لسان العرب، وذكره الأصفهاني في مفرداته، فقال: والأجل الجناية التي يخاف منها آجلا، فكل أجل جناية، وليس كل جناية أجلا، يقال فعلت كذا من أجله، قال تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ)، أي من جراء ذلك، وقد فسر الأجل بالجناية أكثر المفسرين، وقد حقق الطبري الأصل اللغوي واستشهد بقول الشاعر:
وأهل ضباء صالح بينهم ... قد احتربوا في عاجل أنا آجله (1)
يعني بقوله: أنا آجله أي أنا الجارُ عليهم ذلك والجاني.
وقد أشار الأصفهاني إلى معنى جدير بالنظر وترديده، وهو أن الأَجْل هو الجناية التي يخاف منها آجلا، أي تكون لها عواقب وخيمة على الأشخاص، أو على الجماعات، أي الجناية التي لَا تنتهي مغبتها بوقت وقوعها، بل يكون لها آثار
________
(1) قد استعمل الشاعر التورية فعبر بـ (آجله) في مقابل (عاجل)، وأراد المعنى البعيد.(4/2136)
مؤجلة بعدها، إن لم تعالج تلك الآثار. وكذلك كانت جريمة أحد ابني آدم، فإنها جناية قد فتحت باب القتل والقتال إلى يوم القيامة، وهي جناية دلت على مكنون النفس البشرية الذي استتر فيها من غلبة الحق والحسد على بعض النفوس، حتى طغت على كل عناصر الخير فيها، فهي جناية آجلها وخيم كحاضرها، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا تُقتل نفس ظلما، إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه كان أول من سن القتل " (1).
و (من) هنا للسببية، أي سبب هذه الجناية كان ما شرعه الله تعالى من شريعة القصاص الخالدة الباقية لدفع الشر إلى يوم القيامة، وعبر عن السببية بـ " مِن "، لبيان الابتداء في الحكم، فمع كون من أجل ذلك دالة على السببية وتشير إلى ابتداء الحكم، وأنه مقترن بما وقع من جريمة كان لها آجل هو شر إن لم تقمع النفوس وتردع الأهواء التغلبة الطاغية.
وهنا معانٍ بيانية تجب الإشارة إليها:
أولها - في الكلمة السامية " كتبنا "، فانها تدل على تقرير العقاب، وتسجيله حتى لَا يقبل المحو، فإن الواجب الذي يكتب يكون مسجلا على القراطيس، ويبقى أثر الكتابة باقيا غير قابل للنسيان، وفيها إضافة الفرضية والكتابة إلى الله تعالت قدرته، وجل جلاله، وتقدست ذاته، وفي ذلك إشارة إلى عظمة المكتوب المفروض، وهو شريعة القصاص فهي شريعة عظيمة تمد المجتمع بحياة هادئة مطمئنة، إذ تحميه من أوضاره أن تتغلغل في كيانه ومن شراره من أن يتحكموا في خياره.
________
(1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ (أي ابن مسعود) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ ". متفق عليه؛ رواه البخاري: أحاديث الأنبياء - خلق آدم صلوات الله عليه وذريته (3336)، ومسلم: القسامة والمحاربين والديات والقتل - بيان إثم من سن القتل (1677).(4/2137)
ثانيها - أن الله تعالى خص بني إسرائيل بالذكر مع أن القصاص شريعة عامة لم يخل منها دين من الأديان السماوية بل لم تخل منه شريعة وضعية على انحراف في تطبيقه، أو إهمال في العدالة فيه، والنفوس التي انحرفت عنه في الأيام الأخيرة قد غلب عليها هواها، فغلبت عليها شقوتها، وعرَّضت الجماعات فيها لأعظم المخاطر من عدوان الأشرار. فلماذا خص الله تعالى بني إسرائيل بالذكر مع أنه مفروض قبلهم، ومفروض بعدهم، والجواب عن ذلك نتلمسه، ولا نجد نصا يدل عليه، ونقول في ذلك والله أعلم بمراده: إن التوراة فيما بقي منها هي الكتاب الذي اقترن هو والإنجيل بالفرآن زمنيا، فالقرآن جاء مهيمنا عليها، ومصدقا للصادق منهما، فذكر بني إسرائيل دليل على أنه مفروض علينا بحكم الاقتران الزمني، وبحكم أن هذا المبدأ الخالد قرره القرآن، وجدده في مثل قوله تعالى: (وَكتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ. . .).
وفوق ذلك ما يزال هذا المبدأ باقيا في التوراة ولم يندثر فيها، مع أنهم حرفوا ما حرفوا، والأنبياء الذين سبقوا يعقوب، وليست كتبهم قائمة في أيدي الناس في عصر التنزيل، كما بقيت التوراة مع تحريفهم فيها الكلم عن مواضعه - وكانت شريعة القصاص باقية بعد هذا التحريف.
ثم إن بني إسرائيل قد كتبت عليهم شريعة القصاص كما كتبت على غيرهم من قبلهم ومن بعدهم، ومع ذلك هم أشد الناس إسرافا في قتل الأبرياء والأطهار، وما أشبههم في قتلهم أنبياءهم ودعاة الحق بقابيل الذي قتل أخاه هابيل، فهو قتله لما ظهر فيه من خير، وهم قد قتلوا أنبياءهم، لأنهم دعوهم إلى الخير.
ثالثا - أن الله تعالى عندما بين شريعة القصاص، قد ذكر الباعث عليها، وحكمتها، وما يؤدي إليه تنفيذها، واكتفى ببيان ذلك مكتفيا بما فصلته شرائع النبيين فيها، وما أتت به من بينات؛ ولذلك قال تعالى:(4/2138)
(أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) هذا هو ما كتبه الله تعالى، وهو أن من قتل نفسا بغير حق شرعي مبيح لها، فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، وقد بين القرآن الكريم متى يكون القتل بغير حق مشيرا بإيجازه المعجز إلى القتل بحق، فبين أن القتل بغير حق، هو ألا يكون في نظير نفس، فالقتل قصاصا لَا يكون إلا بالحق ولكن بعد أن يقرر القضاء أنه يجب القصاص، أو يمكَّن ولي الدم من القصاص، وكذلك القتل لمنع الفساد في الأرض، كقتل الذين يعتدون على الجماعات المؤمنة، ويرهقونهم في تدينهم، أو من يرتدُّون ليفسدوا عقائد المؤمنين، أو الزنادقة الذين يفسدون العقائد، أو أهل الدعارة والفساد من أهل الحرابة الذين يخرجون على الجماعات ويحاربون النظم التي قررها الشرع الشريف، وهكذا، فإذا كان القتل لغير هذين الأمرين، فهو قتل بغير حق، ومن فعل ذلك فكأنما قتل الناس جميعا.
ولقد تكلم العلماء في معنى هذا التشبيه، وكيف يكون قتل الواحد بغير حق مشابها لقتل الناس أجمعين، قال بعض العلماء: إن المراد نفس الإمام العادل؛ وذلك لأن قتل الإمام العادل الاعتداء فيه ليس على شخصه وحده، ولكن على كل من يسعدون بحكمه ويظلهم عدله، فمن قتله فكأنه قتلهم، إذ يصير أمرهم بورا من بعده، وتضطرب أحوالهم، وذلك قتل للجماعة؛ لأن تفريق الجماعة وحل رباطها هو موت لها، ومع سلامة ذلك التفكير، فإن قصر القتل المفسد على قتل الإمام لَا دليل عليه؛ ولذلك كان الأولى التعميم بدل التخصيص والإطلاق بدل التقييد، إذ لَا دليل من مخصص أو مقيد، فالأولى هو تفسيرها بالعموم، ويبقى مع ذلك التشبيه سليما، لَا شبهة فيه، ووجه الشبه الذي جعل قتل النفس الواحدة كقتل الناس جميعا يكون من نواح:
الأولى - أن من قتل نفسا فقد استباح حق الحياة المصون المحترم الذي حماه الإسلام، ومن استباحه في نفس واحدة فقد استباحه في نفوس الناس جميعا،(4/2139)
وقد أشار إلى هذا المعنى ابن كثير، فقال في تفسيره للقرآن العظيم: من قتل نفسا واحدة بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية، فكأنما قتل الناس جميعا. . . وعن أبي هريرة قال: (دخلت على عثمان يوم الدار، فقلت: جئت لأنصرك، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين، فقال: يا أبا هريرة، أيسرك أن تقتل الناس جميعا، وإياي معهم؟ قلت: لَا، قال: فإنك إن قتلت رجلا واحدا فكأنما قتلت الناس جميعا، فانصرف مأذونا لك مأجورا، غير مأزور، قال فانصرفت ولم أقاتل). وروي عن سعيد بن جبير أنه قال: من استحل دم امرئٍ فكأنما استحل دم الناس جميعا، ومن حرَّم دم امرئٍ، فكأنما حرم دماء الناس جميعا.
الثانية - أن وزر من قتل نفسا واحدة، كوزر من قتل ألفا.
الثالثة - أن عقاب قتل نفس كعقاب قتل الأنفس، وهو في الدنيا بالقصاص العادل، وفي الآخرة بعذاب جهنم، كما قال تعالى:
(وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)، وإذ اكان قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعا، فإحياؤها كإحياء الناس جميعا؛ ولذا قال سبحانه: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا). في هذا النص السامي نتكلم عن أمرين: أولهما - معنى إحياء النفس، وثانيهما - معنى تشبيه من أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا. أما الجزء الأول وهو معنى الإحياء، فقد ذكر العلماء له معاني كثيرة، منها أن إحياءها بمعنى تحريم قتلها على نفسه، والامتناع عن انتهاك حرماتها، ولكن ذلك أقرب إلى المعنى السلبي، اللهم إلا أنه يقال: إنه كب نفسه عن ذلك الفعل الأثيم عندما تساوره قوة الشر دافعة خاملة له، فإن الكف حينئذ ليس عملا سلبيا، بل هو عمل إيجابي، ومنها أن معناها: من أنقذ إنسانا كان مشرفا على الهلاك في حرق أو غرق، أو مصاولة إنسان أو حيوان، فإن ذلك إحياء له، ولكن مع سلامة هذين المعنيين لا يمكن أن يكون تشبيه من يفعل ذلك سلبا أو إيجابا بإحياء الناس جميعا واضحا،(4/2140)
لأنه إحياء لفرد، اللهم إلا أن يقال إن مجرد حماية حق الحياة أو احترامه في فرد هو احترام أو حماية له في الناس أجمعين.
ولقد قال بعض المفسرين: إن المراد بإحياء النفس حماية نفس الإمام، ومعاونته على دفع شرور البغاة، والخارجين عليه، وإن ذلك سير على أن قتل النفس الذي يكون قتلا للجميع هو قتل الإمام، وقد بينا أنه غير الأولى.
والحق الذي نراه أن المراد بإحياء النفس، هو بالتمكين من القصاص؛ لأن الله تعالى قال: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ. . .).
فإحياء النفس المقتولة بالقصاص لها ممن اعتدى وقتلها، وقد وجدنا الآلوسي ذكر ذلك الرأي فقال:
" وقيل المراد، ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما. . . إلخ (1).
وبهذا يتبين بوضوح الأمر الثاني، وهو أن من أحيا نفسا قد قتلت بالتمكين من القصاص لها فقد أحيا نفوس الناس جميعا، بأن يوجد الردع العام عن القتل والاعتداء، فتحيا النفوس، وينقمع الأشرار، وهذا ما أشار إليه ما تلونا من قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ. . .)، (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ) يخبر الله سبحانه وتعالى أن الله تعالى أرسل الرسل لبني إسرائيل يبينون لهم الحقائق التي يقوم عليها بناء المجتمع السليم الذي تحمى فيه الدماء والأعراض، والفضيلة الإنسانية، والتي تشتمل على ما كتبه الله تعالى من أجل اعتداء أحد ابني آدم على أخيه من غير ظلم وقع منه ولا باعث على ما ارتكب إلا الحسد والحقد.
________
(1) قال الآلوسي (ج 6، ص 117): " (وَمَنْ أحْيَاهَا) أي تسبب لبقاء نفس واحدة موصوفة بعدم ما ذكر من القتل والفساد إما بنهي قاتلها عن قتلها. أو استنقاذها من سائر أسباب الهلكة بوجه من الوجوه (فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)، وقيل: المراد ومن أعان على استيفاء القصاص فكأنما إلخ ". اهـ أي: فكأنما أحيا الناس جميعا.(4/2141)
وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه أرسل الرسل بالبينات، وهي الشرائع البينة الواضحة التي تحمل في نفسها دليل صلاحها، وتوضح غاياتها ومراميها، ومعها الدليل القاطع المثبت لصحة الرسالة من معجزات باهرة، وخوارق صارخة، وقد أكد سبحانه بعث هؤلاء الرسل وسلامة ما يدعون إليه بمؤكدات ثلاثة: أولها - باللام وقد، إذ قال: (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا). وقد مؤكدة للخبر، واللام مؤكدة لما بعدها.
ثانيها - بالتعبير بأن الرسل جاءتهم، أي لاصقوهم وصاروا قريبين منهم يخاطبونهم ويحاجونهم ويبينون لهم، ولا يدعون أمرا فيه التباس إلا أزالوا لبسه، ومنعوا الاشتباه عليهم.
وثالثها - أنه سبحانه أضاف الإرسال إلى ذاته العليا، وفي ذلك بيان قدسية الرسالة، وفوق ذلك هي في ذاتها فيها حقائق واضحات منيرة للحق في ذاتها، فلها بذلك شرفان: شرف ذاتي من حقائقها، وشرف إضافي من مُنزلها. ولكن الآيات والنذر إنما تغني من يذعنون للحق ويؤمنون، والبينات مهما تكن نيرة لَا يدرك نورها إلا ذو البصيرة المستنيرة، وليس بنو إسرائيل من هذا الصنف؛ ولذا قال سبحانه:
(ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهم بَعْدَ ذَلِكَ فِى الأَرْضِ لَمُسْرِفونَ) كان العطف بـ " ثم " للإشارة إلى بعد ما بين البينات الواضحات التي جاءت بها الرسل، ونتيجتها في قلوبهم، فهي في ذاتها أمر بين ولكن نتيجتها لم تكن كحقيقتها طيبة مثمرة في قلوبهم، بل كانت كالبذر الطيب يلقى في أرض سبخة لينبت قليلا، ويخرج حبطا (1) في أكثرها، ولم يحكم سبحانه على اليهود جميعهم بأنهم كانوا جميعا مفسدين، بل حكم على كثير منهم ذلك الحكم، كما قال تعالى: (. . . مِّنْهمْ أُمَّة مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ منْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ).
________
(1) الأرض السَبِخة: أي ذات ملح ونز (البور). والحَبَط: أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ بطونها ولا يخرج عنها ما فيها. الصحاح.(4/2142)
وقد وصف سبحانه وتعالى كثيرا منهم بأنهم مسرفون، أي مفسدون، لأنهم قتلوا المخلصين، وعصوا أوامر الله، وعاثوا في الأرض فسادا، ونشروا الشر في العالم، حتى إنك لَا تجد فسادا إلا إذا كانوا مصدره، فهم الذين نشروا الربا والمجون والعبث والخمور، وكل ما هو شر في الأرض، والإسراف: هو الفساد مأخوذ من السُّرفة، وهي: الدودة التي كل الشجر، والإسراف حتى فيما أصله خير يقلبه إلى شر وفساد، وقد أكد الله تعالى إسراف اليهود في الشرب " إنَّ " وباللام في قوله: " لمسرفون "، وبالجملة الاسمية. . وقَى الله المسلمين شرهم، وألبسهم لباس الذل والخوف إلى يوم القيامة، وهدانا جميعا للخير، إنه الهادي إلى قصد السبيل.
* * *
(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
* * *
يبين الله سيحانه وتعالى عقب اعتداء أحد ابني آدم على أخيه، أنه سبحانه وتعالى بسبب ما استكن في النفوس من نوازع الشر والخير، وأن بعض النفوس يغلب الشر عليها، فتغلب عليها الشقوة وأنها لَا بد لها من زاجر يزجرها، ورادع يردعها، فتقرر القصاص الذي تكون فيه حياة الجماعة، والأمن من شرور أهل(4/2143)
الفساد الذين غلب عليهم الشر، وبين سبحانه أن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، وأن من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، وأن صور الفساد الذي يبيح الدم صونا للجماعة، وحفظا للحياة الهادئة المطمئنة - كثيرة، ولكن أبلغها في الفساد، وأبعدها في الشر مدى هو الانتقاض على الجماعة بارتكاب جرائم القتل والعدوان، من غير تأويل، والسرقة، والاتفاق الجنائي على ذلك، ولذلك ابتدأ بهذا سبحانه فقال تعالى:(4/2144)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
(إِنَّمَا جَزَاء الِّذِينَ يُحَارِبونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) هذا النص الكريم يبين جريمة كبيرة هي جماع لعدة جرائم، وهي جريمة الذين يحاربون النظام القائم ويخرجون جماعات ذات قوة وشكيمة ويرتكبون جرائم القتل والنهب والسرقة، لَا في خفية بل في إعلان، معتصمين بقوة مانعة لهم، وقد اتفقوا جميعا على ارتكاب القتل والسرقة وتهديد الآمنين.
وجريمة هؤلاء أقوى من جريمة القتل المجرد، لأن جريمة القتل المجرد، ليست في ذاتها تهديدا للأمن، وإن كان إهمال عقوبتها يؤدي إلى تهديد الأمن، أما هذه فإنها تهديد مباشر للأمن، فالأولى اعتداء ابتداء على الأفراد، أما هذه، فهي اعتداء ابتداء على الجماعة، لأنها تترصد السابلة في الطريق، فتقطع عليهم السبيل.
وقبل أن نخوض في بيان هذه الجرائم، وكلام الفقهاء، وأهل الخبرة في معناها، ونذكر عقوبتها في ظل القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة؛ نتكلم في معاني الألفاظ، ونتكلم على ثلاث عبارات.
أولها - في قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ) فقد كان التعبير بـ " إنما "، وهي من أوائل أدوات القصر والتخصيص، وذكر هذه الكلمات في مقام بيان العقاب الذي سارع ببيانه سبحانه هو لتأكيد العقاب، ولبيان أنه عقاب لَا هوادة فيه، وأنه لا يحل محل ذلك العقاب غيره من دية أو مال، ولا يدخله عفو، لأنه حد من حدود الله تعالى، بل هو أعظم الحدود، لأن جريمته أشد الجرائم خطرا، إذ هي(4/2144)
مقوضة لبنيان الجماعة، وهادمة للأمن، وكان معنى التخصيص واضحا، إذ هي عقوبة ليس لها بديل من سواها، أي لَا جزاء للجريمة ولا كفاء لها إلا ذلك العقاب.
العبارة الثانية - هي قوله تعالى: (يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). ومعناها: يحاربون شرع الله ورسوله بالانتقاض على أحكامه، ومقاومة الحكام الذين يقومون على حفظ الأمن، ويقاومون الجرائم، ويكون المؤدى أن الله سبحانه وتعالى ليعتبر كل من يهدد أمن الجماعة، ويعتدى عليها بالقتل والسرقة والنهب، ويمنع السابلة محاربا لله تعالى ولرسوله، لأنه يشيع الجرائم، ويناصب أحكام الشرع ومن يقومون على تنفيذه وأنهم يقومون بكل الجرائم مجتمعين متفقين، فيكون لهم صولة تعطيهم وصف المحاربين، وكان التعبير بمحاربة الله ورسوله من نوع المجاز؛ لأن الذي يقوم بالسلب والنهب وقتل السابلة يؤدي عمله إلى نقض النظام والاطمئنان، فهو إن لم يقصد بفعله المحاربة هو يؤدي إليها، أو يقال إن ذات الفعل محاربة، فلا يكون مجازا، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من حارب مسلما على ماله فهو معاد لأولياء الله تعالى محارب لله ".
والعبارة الثالثة - (وَيَسْعَوْنَ فِى الأَرْضِ فَسَادًا). السعي: هو الحركة السريعة المستمرة، وقوله تعالى: (فَسَادًا). هو من قبيل التمييز، أي أن سعيهم لأجل الفساد لَا لأجل الخير، وفي ذلك الكلام إبهام بعده بيان، فيكون فيه تأكيد في البيان، فذكر السعي مبهما ثم بين بأنه من نوع الفساد، لَا من نوع الخير. وإن أولئك الذين يحاربون النظام، وعقوبتهم التي ذكرها الله سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته: (أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يصَلَّبُوا). إلى آخر الآية الكريمة - هم الذين يعبر عنهم في الفقه بقطَّاع الطريق، ويسمى فعلهم قطع الطريق، ويسمى الحرابة، وَيُعَنْوَنُ له بذلك في الفقة الإسلامي، والعقوبة المذكورة في النص الكريم خاصة بهم.(4/2145)
وقد التبس - على بعض من لَا دراية له بأحكام العقوبات في الفقة الإسلامي - هؤلاء بالبغاة، والتبس على بعض آخر أمر هؤلاء بأمر الخوارج، والواقع أن الذين ينقضون النظام أقسام ثلاثة متمايزة متغايرة، فالبغاة: هم الخارجون ذوو القوة والمنعة الذين يخرجون على الإمام العادل بتأويل، أي بوجه مسوغ لهم الخروج، كأولئك البغاة الذين خرجوا على الإمام علي كرم الله وجهه، والذين وصفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله لعمار بن ياسر رضي الله عنه: " تقتلك الفئة الباغية " (1) وهذه تقاتل حتى تسلم، كما قال تعالى (. . . فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9).
وهؤلاء البغاة لَا يستبيحون من الأموال والدماء إلا معسكر السلطان، إذ هم لا يحاربون غيره، ويحسبون أنهم يحسنون صنعا.
والخوارج: هم الذين خرجوا على الإمام العادل بتأويل، ولكنهم لا يستبيحون معسكر السلطان فقط، بل يعتبرون مخالفيهم في الرأي كافرين، بل يعتبرونهم مشركين، وهؤلاء يعاملون معاملة البغاة، يقاتلون حتى يفيئوا فإذا كانت الفيئة فالإصلاح والقسط، ورد القضب إلى أجفانها.
وقطاع الطريق، أو أهل الحرابة: وهؤلاء مجرمون يخرجون لارتكاب جرائم السلب والنهب والقتل، وسائر الموبقات، بلا تأويل يتأولونه، ولا تفسير يفسرون، بل يرتكبون ما يرتكبون إثما وعدوانا مقصودا، ولا يقصدون إلا العدوان، كالعصابات الإجرامية التي نراها معتصمة في بعض الجبال أو الكهوف، وكالعصابات التي تزعج الآمنين بقوة إرهابية.
فهي إذن أقسام متمايزة متغايرة، وما لأحد من بعد أن يخلط، فيجعل حكم واحدة الأخرى، ولا وصف واحدة الأخرى.
________
(1) رواه مسلم: الفتن وأشراط الساعة - لَا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل (2916) عن أم سلمة رضي الله عنها، وأحمد: مسند الأنصار - حديث أم سلمة زوج النبي (26023).(4/2146)
إن النص الكريم ينطبق كل الانطباق على الذين يخرجون بقوة، ويقطعون على السابلة الطريق وتكون لديهم القدرة على المنع، ولا يكون للمعتدَى عليه من يحميه من خطرهم ما داموا قد تعرضوا في طريقه، فهم حينئذ يعدون قطاع طريق، ويعد عملهم حرابة، ولكن اختلف الفقهاء من بعد ذلك في أمور أربعة من حيث انطباق النص القرآني. . . هذه الأمور الأربعة، هي: الأول - المكان الذين يعدون باتخاذه مقاما لهم قطاع طريق، والثاني - في طريقة إجرامهم، والثالث - في عددهم وقوتهم، والرابع - في الجرائم التي اتفقوا على ارتكابها، أو اعتزموا ارتكابها، أهي القتل والسلب فقط أم تشمل كل المعاصي كالزنى، وشرب الخمر، وتناول ما يشبهها وغير ذلك.
أولا - المكان الذي يتخذه قطاع الطريق، فإنه يجب أن يكون في داخل الدولة الإسلامية لأنهم من رعاياها، ولأن قطع الطريق على جماعة المسلمين من غير المسلمين هو الحرب الحقيقية، وليس هو الحرابة التي تتلاقى معها في الاشتقاق؛ وتختلف عنها في حقيقتها، فإن الحرب قد اختصت بمدافعة الأعداء من خارجها، أما هذه فقد اختصت بمحاربة الفساد في داخلها، والحرابة بهذا المعنى: الخروج على المارَّة لأخذ المال على سبيل المغالبة، ولو بالقتل على وجه يمنع المرور، ويقطع الطريق سواء أكان القطع بسلاح أم بغيره مثل العصا والحجر والخشب ونحوها، لأن قطع الطريق يكون بكل ذلك.
واختلف الفقهاء في المكان الذي يتحقق به هذا أيمكن أن يكون في داخل المدينة أو القرية أم لَا يتصور إلا في خارج الأمصار كالصحارى والجبال، والبراري من المزارع الشاسعة، لقد قال أبو حنيفة: إن قطع الطريق لَا يتصور في داخل المصر، إذ يمكن الإغاثة عند الاستغاثة، ويد السلطان مبسوطة في داخل الأمصار والقرى.
ومالك والظاهرية لَا يشترطون لقطع الطريق مكانا معينا، فحيث تتحقق إخافة المارة فهي حرابة لَا فرق بين أن يكون ذلك في الفيافي والقفار، أو في(4/2147)
القرى والأمصار، فحيث لَا يأمن السابلة الطريق، ولا يجدون من يسعفهم بدفع الشر عنهم فإن الحرابة تتحقق.
وهناك رأي ثالث، وهو أن الأمصار والقرى تصلح مكانا لقطاع الطريق ليلا، ولا يصلح نهارا إلا الصحارى والحق الذي نراه متفقا مع مرمى النص الكريم وغايته أنه حيث تحقق الوصف، وهو محاربة الله ورسوله بمحاربة الآمنين وحيث كانت القوة، وحيث كان سلطان الشر، فإن الحرابة تتحقق، وأننا نراها عيانا بيانا في مدن أمريكا وأوربا فالعصابات المخربة التي تحارب الأمن هنالك، وتغير على الآمنين تتخذ أوكارها في وسط الأمصار، وإن خفيت عن الأنظار.
وننتقل بعد ذلك إلى الأمر الثاني: وهو عددهم ونوعهم، وإنا نقول: إن الذي عليه كثرة الفقهاء أن العبرة في الأمر هو في قوة الإخافة لَا في مقدار عدد المنفذين، ولا في نوعهم أهم ذكور أم إناث، فلو أن واحدا استقر في كهف، ومعه سلاح مدمر، وكل من يمر من الضعفاء، أو من لَا حول لهم ولا سلاح استلب ماله أو نفسه فإنه يعد قاطع طريق، ولو أن جمعا فيهم ذكور وإناث تعاونوا على الإثم والعدوان وقطعوا الطريق على الآمنين وقاموا بالاستلاب غير مراعين حرمة مال، ولا عصمة دم، فإنهم قطاع طريق محاربون.
ثالثا - طريقة الإجرام أتكون بالمجاهرة والعصيان أم تكون ولو بالاختفاء، قال جمهور الفقهاء: إنه لَا بد من المجاهرة بالعصيان، والظهور علنا، حتى يتحقق معنى الحرابة، وحتى يتحقق معنى التسليم، وقال مالك: إنه تصح المحاربة بالاختفاء، كالاتفاق على القتل غيلة، والاستيلاء على الأموال بالهجوم على مكامنها خفية كالعصابات التي نسمع عنها، ويراها شبابنا على شاشة الخيالة (السينما)، والإذاعة المرئية (التليفزيون)، وقد حرر القرطبي في تفسيره رأي الإمام مالك، فقال: " والذي نختاره أن الحرابة عامة في المصر والقفر، وإن كان بعضها أفحش من بعض، ولكن اسم الحرابة يتناولها، ومعناها موجود فيها، ولو خرج بعصا في المصر يقتل بالسيف، ويؤخذ فيه بأشد ذلك، لَا بأيسره، فإنه سلب(4/2148)
غيلة، وقتل الغيلة أقبح من قتل المجاهرة، ولذلك دخل العفو في فعل المجاهرة، ولم يدخل في قتل الغيلة ".
وإن الذي نميل إليه هو مذهب مالك بلا ريب، لأن معنى المحاربة، وهو إزعاج الآمنين ثابت في الاختفاء، بل هو أمكن، كما هو ثابت في المجاهرة، بل أشد وأحكم.
رابعا - بالنسبة لجرائم المحاربة أهي مقصورة على الاعتداء على الأموال والأنفس؟ قال جمهور الفقهاء ذلك، وقال مالك رضي الله عنه، كل اتفاق على ارتكاب المعاصي يعد من قبيل الحرابة، فالاتفاق على الزنى أو فتح بيوت له يعد من الحرابة، ويستحق عقابها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقبل أن نترك الكلام في الجريمة لَا بد من الإشارة إلى أمرين: أولهما - أنه لا بد في اعتبار هذا الفعل جريمة أن يكون القائمون به مكلفين تكليفا شرعيا بأن يكونوا بالغين عقلاء، لأن الفعل لَا يوصف بأنه جريمة أو معصية إلا إذا كان الفاعل مكلفا تكليفا شرعيا، فإذا قام بالعمل صغار لَا يعدون قطاع طريق، وإذا كانوا مميزين، فإنهم يؤدبون، أو يعزرون على أن يكون تعزيرهم تأديبا، ولا يكون عقابا على ما هو مقرر في باب التعزير، وإذا كانوا مجانين، فإنهم يحجزون في المصاح أو نحوها، ولا يعزرون، لأن عقابهم يكون تعذيبا، إذ لَا تبعة يتحملونها، ولا يصلحون للتأديب لفقد عقولهم.
ثانيهما - أيعدون محاربين، ولو لم يرتكبوا جريمة من جرائم قطع الطريق، فلم يسرقوا، ولم يقتلوا، ولكن اتخذوا مكانا قصيا لكي يرتكبوا الجرائم متفقين على الفعل، وقصدوا الفعل، ولم يفعلوا، إما لأنهم لما يبدأوا، وإما لأن الأحوال لم تواتهم.
وبذلك يكون مجرد الاتفاق والأهبة للتنفيذ يعد جريمة في ذاته؛ الظاهر من أقوال الفقهاء ذلك، وسيتبين، وبذلك يكون الاتفاق الجنائي في الشريعة له مكانه من العقاب.(4/2149)
والآن نتصدى لبيان العقاب الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، فقد قال سبحانه:
(أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ) هذه عقوبات أربع قد ذكرت كلها معطوفة بـ أو التي تفيد التخيير في الجملة، ولنتكلم في كل واحد منها بتفسير معناه اللغوي: التقتيل هو القتل، ولكنه ذكر بصيغة التضعيف، وهي تدل على الشدة في القتل، وذلك بعدم التجاوز عن الذين ارتكبوا ما يوجبه، وتفيد التكرار، أي أنه يقتل من يرتكبونها مهما يكن عددهم، فمن استحق القتل قتل ولو كانوا مائة قد قتلوا واحدا، ولأن التضعيف يفيد الاستمرار في التقتيل ما داموا قد استمروا في الجريمة، فكلما كان منهم قتل قتلوا، ولإثبات أنه لَا يقتل المقتول فقط، بل يقتل هو ومن يعاونه، ومن اتفق معه على جريمة من غير تفرقة بين مباشر، ومحرِّض وراض قد اتفق معهم على جريمة الخروج، و " التصليب " الصلب على مكان مرتفع يرى بعد القتل، وصيغة التضعيف تفيد التشديد في العقوبة، وإثبات أنه لَا هوادة فيها، ولا مناص منها، وتكرارها، واستمرارها، ويصلب الشخص ثلاثة أيام عبرة وردعا، وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف معناه أن لَا تكون اليد والرجل المقطوعتان من جانب واحد، بل تكونان من جانبين مختلفين، فإذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى، فمعنى من خلاف، أي من جانب خلاف الجانب الآخر، ومعنى قوله تعالى: (أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ). قال بعض الفقهاء: المراد نفيهم من الأرض التي اتفقوا فيها على الإجرام إلى أرض أخرى، ليتفرقوا، ولا يجتمعوا على ذلك الشر الذي ارتكبوه أو هموا بارتكابه، وفسر الإمام أبو حنيفة النفي بالحبس؛ لأن فيه إبعادا وتفريقا، وهو أمنع لتجمعهم، وأوغل في تفرقهم.
ذلك هو عقاب الدنيا، أما عقاب الآخرة، فهو العذاب العظيم؛ ولذلك قال تعالى: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).(4/2150)
أي أن ذلك العقاب الرادع الزاجر فيه كسر شوكتهم، وإذلالهم وقهرهم، وهو بذلك خزي لهم، إذ إنه كشف جريمتهم، وأذلهم وأخزاهم، وجعلهم عبرة لغيرهم، وأي خزي أشد من أن يُرَوْا مقطوعين من خلاف، أو يراهم الناس مصلوبين، أو يحبسوا، أو يبعدوا في أقاصي الأرض فهو خزي نالهم، وفيه عبرة لغيرهم.
هذا هو عقاب الدنيا، أما عقاب الآخرة، فهو عذاب عظيم، شديد، عظيم في شدته جزاء ما اقترفوا وإن ذلك العقاب ثابت لهم ما استمروا على غيهم، فإن تابوا فهي تجبُّ ما قبلها؛ ولذا قال سبحانه:
* * *(4/2151)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
* * *
أي أن العقاب لمن استمروا في جريمتهم، حتى غُلِبوا، واستمكن الحاكم من جمعهم، وصاروا في قبضة يده، ولكن من تاب قبل ذلك فإن العفو يشملهم والرحمة تعمهم من الله الغفور الرحيم.
انتهينا من الكلام في عقوبات الذين نصبوا أنفسهم لمحاربة الأمن في الدولة والخروج على النظام من غير تأويل يتأولونه، ولا غاية دينية يحققونها، بل خرجوا قاصدين الإجرام لأجل الإجرام، ومحاربة الآمنين وإزعاجهم، وبينا من الذين ينطبق عليهم وصف الحرابة، واختلاف الفقهاء في ظل معاني الآية الكريمة، وفسرنا الآيتين تفسيرا لفظيا، ولكن لم نتكلم في معنى التخيير في قوله تعالى: (أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ)، ولم نتكلم في حقيقة التوبة ومعناها في هذه الآية الكريمة، كما لم نتكلم عن آثارها، وعن نوع العقوبة أهي حد من حدود، أم هي قصاص، وما أثر ذلك بالنسبة للتوبة وفي الحكم، ولا يتم جلاء ما اشتملت عليه الآيتان الكريمتان من أحكام إلا بالتعرض لهذه الأمور في إيجاز من غير إطناب.
ونبتدئ بالتخيير الذي دلت عليه " أو " في النص الكريم، أيقصد به التنويع بتنويع العقوبة على حسب الجرائم، فإذا قَتلوا قُتلوا، وإذا سرقوا قطعت أيديهم(4/2151)
وأرجلهم من خلاف، وإذا سرقوا وقتلوا قتلوا وصلبوا، وإذا تجمعوا واتفقوا على ارتكاب الجرائم من غير أن يرتكبوا بالفعل كان النفي من الأرض، أم تقصد حقيقة التخيير بأن يكون الإمام مخيرا غير مقيد بنوع في حال، وبنوع آخر في حال أخرى يرتكبون فيها جريمة معينة، بل ترك الأمر لتقديره، وهو ينظر إلى مقدار الترويع بما يتناسب مع قوة الجناة من غير نظر إلى نوع ما ارتكبوا من جرائم، ولا إلى مقداره إنما ينظر إلى مقدار الزجر والردع.
ولقد قال بالقول الأول، وهو أن " أو " لتنويع العقوبات بتنوع الجرائم بعض الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء، وقال بالقول الثاني بعض التابعين، ومالك والظاهرية.
لقد روي عن ابن عباس أنه قال: (إذا قتلوا وأخذوا المال قُتلوا وصُلبوا، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا نفوا من الأرض، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا نفوا من الأرض) وبهذا القول أخذ الشافعي وأحمد وأبو حنيفة، وبذلك تكون العقوبات أربعة أقسام، مقسمة على أقسام الارتكاب، والحجة لهذا الرأي الآثار المروية عن الصحابة، والفقه في الموضوع أن هذه العقوبات لجرائم مختلفة المراتب، فيجب أن تكون تابعة لقوة الجريمة، وليس من المعقول أن جريمة الاتفاق والإرهاب تتساوى مع الإرهاب والقتل بالفعل، أو الإرهاب والقتل والسلب، أو الإرهاب والسلب بالفعل، فالعدالة توجب ذلك التنويع وعلى ذلك يكون التخيير المأخوذ من كلمة " أو " هو لتنويع العقاب وليس لمطلق التخيير، وإلا كان مؤدى التخيير أنه يجوز للإمام أن يكتفي بنفي الجناة إذا قتلوا أو سرقوا، وأن ذلك باطل بالإجماع؛ لأن السرقة توجب القطع، فكيف بالسرقة الكبرى التي يكون فيها ذلك التجمع الآثم، وإذا كان التخيير لَا يمكن أن يفسر بالتخيير المطلق لهذا المعنى، فإنه يجب أن يفسر بالتنويع، لأنَّ تفسيره بغيره يؤدي إلى ذلك الوجه الباطل، وما يؤدي إلى الباطل باطل، وإن التخيير المطلق في العقوبات إذا كان السبب الموجب للعقاب واحدا،(4/2152)
ككفارة اليمين، فإن السبب هو الحنث وهو واحد، وكان التخيير في الكفارة بين العتق، وإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أما إذا اختلف السبب، فإنه لَا بد أن يكون التخيير للتنويع، والعقوبات هنا قد اختلفت أسبابها، فإن منها القتل، ومنها السرقة، ومنها الجمع بينها، ومنها مجرد الإرهاب والإزعاج، ولا يمكن أن تكون العقوبة واحدة لكل من هذه الجرائم، فلا بد من أن تختلف باختلاف أسبابها، وتكون لذلك " أو " لترتيب العقوبات تبعا للجرائم، ويذكر الكاساني أنه روي خبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا، فقد قالوا: أنه لما قطع أبو بريدة الأسلمي بأصحابه الطريق على أناس جاءوا يريدون الإسلام، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن من قَتل قُتل، ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، ومن قتل وأخذ المال صلب، ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان قبله من الشرك " (1). ويكون هذا النص النبوي معينا أن " أو " ليست لمجرد التخيير ولكن للتنويع، وقد وردت الصيغة التي تدل بظاهرها على التخيير، فقد قال تعالى: (. . . قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا).
ولا شك أن اللفظ، وإن كان ظاهره تخيير ذي القرنين بين أي الأمرين يختار، ولكن لَا يمكن أن يكون له الحق في أي الأمرين من غير مرجح لأحدهما في الاعتبار، ومنطق العدل الذي أوجبه الله على ذي القرنين والحكام العادلين أن يعذب من أبى وفسق عن أمر ربه ليرتدع غيره وينزجر، وأن يتخذ الأمر الحسن والرفق مع من استقام أو ترجى استقامته.
وعلى ذلك لَا تكون " أو " ممحضة للتخيير، ولكنها تحتمل التخيير والتنويع، وقد ورد النص النبوي والآثار الصحاح عن الصحابة الذين تلقوا علم النبوة عن
________
(1) روى ابن جرير الطبري (ج 6، ص 132) عن ابن عباس، قوله تعالى: (إنما جَزَاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللّة وَرَسُولَه. . .) إلى قوله: (أوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ) قال: إذا حارب فقَتَل، فعليه القتل إذا ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ المال وقَتَل، فعليه الصلب إن ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخذ ولم يقتل، فعليه قطع اليد والرجل من خلاف إن ظُهِر عليه قبل توبته. وإذا حارب وأخاف السبيل، فإنما عليه النفي.(4/2153)
الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما يفيد أنها للتنويع في العقوبات تبعا لقوة ما ارتكبوا، لَا لمجرد التخيير للإمام (1).
وهذا هو الرأي الأول الذي يقوم على أن التخيير هنا ليس مطلقا، ولكنه منوع تبعا لقوة الجريمة، أما الرأي الثاني فهو يقرر أن " أو " للتخيير المطلق، وأن الإمام له الحق في اختيار أي عقوبة من هذه العقوبات، فإما أن يقتلهم لمجرد إزعاجهم للآمنين، ليجتث من أول الأمر شأفتهم، كما أن له أن يقتل السارقين، وأن يصلبهم ولو لم يقتلوا، والتخيير هنا فيه إجازة مطلقة لولي الأمر ليعالج الجريمة، بما يراه أقرب إلى المصلحة وإقامة الأمن على أسس سليمة.
ووجهة ذلك الرأي أن " أو " الأصل فيها أنها للتخيير، ولا يعدل عن الأصل إلا لما يوجب العدول، ولم يوجد ما يوجب العدول، وما ورد منسوبا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن أقوال الصحابة فهو علاج لأحوال وقعت، والتخيير لَا يمنع ولي الأمر من أن يختار التنويع، فإن اختاره فهو من حقه، ويدخل في باب الإذن المطلق بالتخيير، فإذا اختار أن يقتل من قتل ويصلب من قتل وصلب، ويقطع فقط من سرق فهو من حقه، وليس عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من هذا القبيل إن صح ما نسب إليه (2)، وهذا التنويع ليس ملزما بأصل النص، ولكن قد تلزم به المصلحة، إن رأى أن ذلك هو طريق الردع.
_________
(1) انظر السابق.
(2) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوْا المَدِينَةَ «فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» فَانْطَلَقُوا، فَلَمَّا صَحُّوا، قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، " فَأَمَرَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ، وَأُلْقُوا فِي الحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ فَلاَ يُسْقَوْنَ». قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: «فَهَؤُلاَءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ". [رواه البخاري في ثلاثة عشر موضعا أولها: الوضوء - أبوال الإبل (233)، ومسلم: القسامة والمحاربين والقصاص (1671)] كما رواه أصحاب السنن وغيرهم وله طرق.(4/2154)
وإنه على هذا الرأي جمع من التابعين منهم عطاء وسعيد بن المسيب ومجاهد، والحسن البصري والنخعي، وأبو الزناد، وهو مذهب الإمام مالك والظاهرية كما قلنا.
وإن الفقه في التفرقة بين الرأيين أن الرأي الأول يحد جرائم معينة ويعتبرها موضوع قطع بفعلها أو بالشروع فيها، وهي القتل والسرقة، وأن الجرائم لَا تخلو عن ذلك؛ ولذلك كانت العقوبات مترددة بين القطع والقتل، وأنه قد يكون ثمة تغليظ إذا ارتكبت الجريمتان معا، وإن كان الشروع بالتجمع واتخاذ الأسباب، فإن العقوبة تكون بمنع الجريمة من الوقوع باتخاذ أسباب الوقاية بالنفي من الأرض بالتغريب أو زجه في غيابات السجون؛ ولذلك كان التنويع، وكان تخريج " أو " على ذلك الأساس، ليكون التكافؤ بين الجريمة والعقوبة، وإن لم تكن جريمة كانت الوقاية.
أما الرأي الثاني - فهو يتجه إلى أن عقوبة الحرابة لذات الحرابة والسعي في الأرض بالفساد، ومنع الناس من السير والاستمتاع بأموالهم، وحرياتهم الشخصية، وظاهر هذا الرأي أنه لَا ينظر إلا إلى ذات الحرابة التي هي التخويف والإرهاب، ولا ينظر إلى الجرائم التي ارتكبوها فعلا؛ ولذلك يعمم الجرائم ولا يقصرها على القتل والسرقة كالرأي الأول، ويرى أن العقوبات في جملتها هي لعلاج ذلك الشر، وحسم مادته، والقضاء على التفكير لمن يهم بمحاكاة من وقعوا فيه؛ ولذلك يجب إطلاق يد ولي الأمر، واعتبار تلك العقوبات في يده كالدواء بين يدي الطبيب يختار من أصنافه ما يراه أنجع في علاج الآفة التي أصابت الجسم الاجتماعي.
وإنا نرى الرأي الأول بالنسبة لتنويع العقاب، ونرى الرأي الثاني بالنسبة لتعميم الجرائم التي تفسد المجتمع الإسلامي، فإذا كانت عصابة تعمل لجمع الرجال على النساء، وتخطف النساء لذلك الغرض، أو كانت عصابة لتجميع المواد المخدرة المحرم دينا وقانونا تناولها فإنهم يكونون كقطاع الطريق، ويدخلون في باب الحرابة.(4/2155)
ونتكلم من بعد ذلك عن عقوبة الحرابة، أهي من قبيل الحدود أم من قبيل القصاص؛ لقد نص الفقهاء بالإجماع على أنها من قبيل الحدود، فهي حد من حدود الله تعالى، وليست قصاصا؛ ولذلك لَا يصح العفو عنهم، وأنهم لَا بد مأخوذون من تلك العقوبات التي قررها القرآن الكريم، فإن إقامة الحدود من العبادات بالنسبة لولي الأمر، ولا يصح أن يتخلى عن العبادة بأي صورة من الصور، ولأنهم قد وصفهم الله تعالى بأنهم يحاربون الله ورسوله، ووصفهم سبحانه بأنهم يسعون في الأرض فسادا، وهم بذلك يعتدون أبلغ اعتداء على الجماعة المؤمنة، وكل ما يكون اعتداء على الجماعة يكون اعتداء على حق الله تعالى، والحدود عقوبات لاجل حق الله تعالى؛ ولأن هذه العقوبات حد تجب إقامته على ولي الأمر كان قابلا للتوبة؛ ولذلك قرر الله تعالى فيه قبول التوبة، فقال تعالت كلماته: (إِلَّا الَّذينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
وقد تكلمنا في معنى هذه الآية الكريمة، وبقي أن نتكلم في أمرين: أحدهما - كيف تكون التوبة قبل القدرة عليهم، وثانيهما - عن آثار هذه التوبة.
أما عن الأمر الأول، وهو حقيقة التوبة في هذا المقام. . فنقول إن التوبة العامة تقتضي ثلاثة آمور: اثنان منها نفسيان، والآخر مادي، والنفسيان أن يعترف بالذنب ويندم عليه، وأن يعتزم ألا يعود إليه من بعد توبته. وأما الأمر المادي، فهو الإقلاع عنه بالفعل.
وبتطبيق هذا على توبة قطاع الطريق لَا يتعرض الفقهاء للناحية النفسية بل إن ذلك أمره إلى الله تعالى، ولكن يتجهون إلى الأمر المادي الذي يدل ظاهره على المعنى الباطني، وإن هذا الأمر المادي يتحقق بأمرين، أو بأحدهما أولهما - بأن يُؤمِّن الناس قطاع الطريق، ويتركوا المكان الذي يباشرون فيه جريمتهم، وثانيهما - أن يقدموا الطاعة لولي الأمر، وهنا يجيء نظر الفقهاء أيكتفون بالأمر الثاني وهو تقديم الطاعة أم لَا بد من الأمرين معا؛ اخلف الفقهاء في ذلك ففريق(4/2156)
قال: تحقق أحد الأمرين كاف، وهو تقديم الطاعة، أو ترك السلاح ومغادرة المكان إنما لَا بد من إفادة دالة على إنهاء قطع الطريق. وفريق قال: لَا بد من إلقاء السلاح وتأمين الناس وتقديم الطاعة.
ومهما يكن من أمر الاختلاف، فقد كان الاتفاق على أنه لَا بد من إنهاء قطع الطريق بالفعل، وتأمين الناس، وإلقاء السلاح.
وأما الأمر الثاني المتضمن لآثار التوبة فقد قد فرض الفقهاء حالين للتوبة قبل القدرة عليهم:
إحداهما - أن تكون التوبة قبل أن يرتكبوا أي جريمة غير مجرد الحرابة، فلم يقتلوا، ولم يسرقوا، ولم يزنوا، بل أنابوا إلى الحق قبل أن تسلط عليهم سيوفه.
وهؤلاء لَا عقوبة عليهم، لأن الحرابة قد عدلوا عنها، وهم في فسحة غير مضطرين إذا كانت قبل القدرة عليهم، ولم يتعلق بهم حق لآدمي، وحق الله تعالى موضع عفوه ورحمته؛ ولذلك قال: (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ). فهذا النص الكريم يقرر أن الله تعالى قد عفا عنهم، ولأن الحرابة من غير تنفيذ الجرائم أو واحدة منها يعد شروعا، أو نية للسيئة قد هموا بها، وقد عدلوا مختارين عنها بغير قوة غالبة منعتهم.
والحال الثانية - أن يكونوا قد ارتكبوا جرائم لها حدود، ولها قصاص كأن يكونوا قد قتلوا، أو سرقوا، أو زنوا على مقتضى مذهب مالك الذي أدخل في الحرابة الاتفاق على ارتكاب أي معصية من غير قصر على القتل والسرقة، فإذا كان شيء من هذه المآثم ثم تابوا قبل القدرة عليهم، فهل يسقط حق القصاص، وهل تسقط الحدود؟
قال جمهور الفقهاء: إن ما ارتكبوه من الجرائم التي تثبت حق القصاص لا يسقط؛ لأن القصاص من الحقوق التي يغلب فيها حق العبد، وحقوق العباد لا تسقط إلا أن يعفو صاحبها. وفي هذه الحال تنتقل العقوبة من حد إلى قصاص، ولا بد من أن تستوفي شروط القصاص؛ بأن يطالب ولي الدم، وله أن يعفو، وله(4/2157)
أن يقتص، وفي حال العفو تجب الدية أو ما يتفقان عليه من المال عملا بقوله تعالى: (. . . فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخيه شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوف وَأَدَاءٌ إِلَيْه بِإِحْسَانٍ. . .)، وأثر التوبة قبل القدرة في هذه الجريمة أَنها كانت قَبلها حدا لا يقبل السقوط، وبعدها صارت قصاصا يقبل العفو من صاحبه، وإذا ارتكبوا ما يكون في أصله جريمة حد، كالسرقة، والزنى عند مالك، وتناول المخدرات والمسكرات واتخاذ أوكار في الكهوف والصحارى لنشرها وسلب أموال الناس في سبيلها، فإنه لاحد عند من يدخلها في الحرابة.
وإن ذلك يحتاج إلى بعض البيان.
فنقول: إن الفقهاء اتفقوا على أن السرقة تدخل في الحرابة فإذا سرقوا ثم تابوا، فإن الحد يسقط، ولكن يجب رد المال إلى صاحبه؛ لأن الحد يقبل السقوط بالتوبة، ولأن الله تعالى قد وعد بغفران ما ارتكبوا إذا تابوا فحق وعد الله وأما حق العبد فإنه لم يدخل في الوعد ابتداء، ولأن الحرابة وهي الجريمة الكبرى قد غفرت، فيغفر ما في أطوائها من حدود هي في ذاتها دونها.
وأما الحدود الأخرى من حدود المسكرات والمخدرات والقذف والزنى إذا ارتكبوها في أثناء حرابتهم، فهل تسقط؛ لقد قال الإمام مالك: الذي جعلها تدخل في ضمن أعمال المحاربين، ويعاقبون من أجلها، ويعدون محاربين، ولو قصروا عملهم على ارتكابها، كالعصابات التي تتجر في أعراض النساء، وتسمى في لغة العصر. (الاتجار في الرقيق الأبيض)، قال مالك فيها: إن التوبة تجبها، لأنها داخلة في الحرابة وهي حقوق الله تعالى، وقد وعد سبحانه بغفرانها إذا ارتكبوها وتابوا قبل القدرة عليهم، وهي حقه، وهو سبحانه غفور رحيم. وقال الشافعية: لَا تسقط؛ لأنها غير داخلة في الحرابة، والتوبة هنا تكون توبة خاصة بها، ولا تكون توبة الحرابة شاملة لها، فإن تابوا عنها توبة خاصة - والأصغر يدخل في الأكبر - بها قبلت ما عدا القذف، وقال أبو حنيفة: لَا تقبل عنها توبة ولو خاصة، وقال الحنابلة: تدخل التوبة عنها في ضمن التوبة عن الحرابة، لأنها أصغر منها.(4/2158)
هذه أحكام قطاع الطريق الذين سماهم القرآن الكريم محاربين لله ولرسوله، وسمى الفقهاء عملهم حرابة، وقد تكون العقوبة شديدة في مظهرها، ولكن لو وزنت بالجرائم، ونظر فيها إلى الأثر لكانت منطقية وضرورية، وسل الذين تنفطر قلوبهم شفقة على المجرمين، كم ترتكب العصابات في أمريكا من جرائم قتل، وجرائم سرقات، وإفساد للضمائر، وإشاعة للرشوة وتهديد للأمن حتى تقف الحكومات مكتوفة أمامهم، سلهم ليوازنوا بين العقوبة العادلة، والجريمة الظالمة، سلهم إن كانوا يدركون وينطقون والله هو العزيز الحكيم، وشرعه هو العدل الرحيم.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
* * *
في الآيات السابقات بيَّن سبحانه ما أوغر به الحسد أحد ابني آدم، حتى قتل أخاه، إذ قربا قربانا، فقُبل من أحدهما فحسده أخوه، فقتله بعد أن كانت منازعة نفسية انتهت بأن طوعت نفسه له قتل أخيه فقتله، وبهذا صور القرآن أصل الجرائم البشرية والبواعث عليها، وهو الحسد الذي يربي الضغن في النفوس وحب الاستعلاء بأي طريق الذي يسهل الظلم للقريب والبعيد من غير أي حريجة مانعة، ومن غير نفس لوامة وازعة، ولقد أشار من بعد ذلك إلى جرائم الآحاد، وجرائم(4/2159)
الجماعات، وبين أنه إذا لم يكن وازع النفوس كافيا، فلا بد من ردع بعقوبات زاجرة فيها إيلام للآثمين، ونكال يجعل غيرهم يفكر فيما يترقبه من عقاب إن حدثته نفسه بالآثام، فإنه لم يكن له من نفسه واعظ، كان له من العقاب أعظم رادع.
ثم بين سبحانه الطريق لمحاربة الآثام في النفس قبل أن يظهر الشر ويطفح على الألسنة والجوارح، فقال سبحانه:(4/2160)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا اتَّقوا اللَّهَ وَابْتَغوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) النداء موجه للمؤمنين بوصف أنهم مؤمنون؛ لأن مقتضى الإيمان أن يربوا أنفسهم على الخير، وينزعوا منها نوازع الشر، وقد ذكر سبحانه وتعالى الطريق لتربية النفس وتغليب جانب الخير فيها على جانب الشر، وجانب الصلاح على جانب الفساد، وتلك الطريق المثلى مكونة من نقط ثلاث يتكون منها الخط المستقيم الموصل للغاية الفضلى، وهذه النقط الثلاث هي التقوى، وابتغاء الوسيلة، والجهاد في سبيله، والغاية الحسنى هي الفلاح في الدنيا والآخرة، ولنشر بكلمة موجزة إلى معاني التربية في كل نقطة من هذه النقط.
(اتَّقُوا اللَّهَ) أي: اجعلوا بينكم وبين غضب الله تعالى وقاية، بحيث تكون نفوسكم في حصن لَا يدخل إليها الشر وهي فيه، وهذا الحصن هو التقوى التي تملأ القلب بذكر الله تعالى، فلا تحس النفس إلا به سبحانه مسيطرا على كل ما في هذا الوجود، وتحس به رقيبا لَا تخفى عليه خافية من خلجاتها، يعلم ما يخفى كل إنسان وما يعلن، وما يسر به وما يجهر، فيتجه إليه سبحانه وتعالى كأنه يرى ربه في كل عمل يعمله، فإن لم يكن يراه سبحانه فإنه يراه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (1).
________
(1) سبق تخريجه.(4/2160)
ولا شك أن النفس إذا امتلأت بالتقوى ذلك الامتلاء، جانبها الهوى والحقد والحسد، وحب الاستعلاء الباطل، وصار صاحبها ممن ينطبق عليهم قول الله تعالى في أوصاف أهل الإيمان: (. . . لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا. . .).
(وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) هذه هي النقطة الثانية من الخط المستقيم الذي لَا عوج فيه، فالنقطة الأولى ملء القلب بذكر الله تعالى وخشيته، وجعلها دائما في إحساس برقابته، وإنه يترتب على إدراك هذا الجزء من الخط المستقيم الوصول إلى النقطة الثانية، وهي طلب ما يتوسل به إليه لنيل رضاه وإدراك حق طاعته، فالوسيلة: هي ما يتوسل بها إلى رضا الله تعالى، وهي طاعته راغبا فيها محبا لها قاصدا إليها، وزكى لذلك طلبها بقوله تعالى: (وَابْتَغُوا) أي اطلبوا رضاه وطاعته سبحانه طلب من يحبه ويبغيه لثواب، وتلك أعلى الدرجات، ومن دون ذلك له فضل كبير ما دام قد طلب رضا الله تعالى.
فالوسيلة على هذا هي الطاعة برغبة، ولقد قال في ذلك الأصفهاني: " الوسيلة التوصل إلى الشيء برغبة لتضمنها لمعنى الرغبة قال تعالى: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ). وحقيقة الوسيلة إلى الله تعالى مراعاة سبيله بالعلم والعبادة، وتحري مكارم الشريعة، وهي كالقربة، والواسل: الراغب إلى الله، وعلى هذا التفسير اللغوي القرآني يكون معنى الوسيلة: الطاعة والتقرب إلى الله تعالى وطلب مرضاته. وقد جاءت بهذا المعنى في آية أخرى هي قوله تعالى: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ. . .). وعلى ذلك تكون النقطة الثانية من صراط الحق وخط الإيمان المستقيم هي الطاعة وطلب رضا الله تعالى وحده.
وهنا مسألة لفظية نشير إليها، وهي تقديم الجار والمجرور في قوله جل جلاله: (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ).(4/2161)
وإن التقديم هنا للقصر، والتخصيص، والمعنى اطلبوا برغبة وشدة إلى الله وحده الوسيلة إليه والتقرب، فلا تطيعوا سواه إلا في ظل طاعته، ولا تتقربوا إلى غيره إلا في ظل طلب رضاه، فإنه لَا تقرب لسواه، ولا محبة إلا لأجله، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا الله " (1) فالحب لله والبغض لله هما أقوى دعائم الإيمان، وأن المؤمن يتوسل إلى الله تعالى بالقربات التي شرعها، حتى يكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويمتلئ قلبه ونفسه بنوره، فيكون ربانيا.
وإنه قد جاء في العبارات الإسلامية معنى للوسيلة على أنها درجة من أعلى الدرجات في الجنة، بل أعلاها، وهذا المعنى متلاق مع أصل المعنى، وهو التقرب إلى الله والتوسل إليه وحده بالطاعات، ولقد كان من الدعاء الذي يردد في الآذان ما رواه البخاري: فقد روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته حلَّت شفاعتي له يوم القيامة " (2). وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليَّ، فإنه من صلى على صلاة صلى الله تعالى عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لَا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الوسيلة حلت له الشفاعة " (3).
________
(1) سبق تخريج ما في معناه من حديث.
(2) رواه البخاري: الأذان - الدعاء عند النداء (614)، وبلفظ: " إلا حلّت ": الأذان - الدعاء عند الأذان (680) عن جابر رضي الله عنه.
(3) رواه مسلم: الصلاة - استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه (384)، والترمذي: المناقب - في فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - (3641)، والنسائي: الأذان - أملاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - (678)، وأبو داود: الصلاة - إذا سمع ما يقول المؤذن (523)، وأحمد: مسند المكثرين - مسند عبد الله بن عمرو (6532).(4/2162)
(وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ) هذه هي النقطة الثالثة من الخط المستقيم، وهو الصراط القويم، وهو الجهاد في سبيل الله تعالى، وسبيل الله هو الطريق المستقيم الذي ينتهي إلى الغاية العليا من شرائع النبوة، وهو السبيل الذي يكون فيه صلاح الإنسان، ودفع الفساد في هذه الأرض، وإقامة مجتمع فاضل بين العالمين، يسعى في ظله التقي البر، ويستمتع فيه الفاجر من غير عدوان ولا فساد، والجهاد: معناه بذاط أقصى الجهد في تحقيق تلك الغاية الإنسانية العليا، وهي الإصلاح في الأرض، ودفع الفساد عنها، وإقامة الحق، وخفض الباطل، وسيادة الفضيلة ودفع الرذيلة. والجهاد ذو شعب، الأولى جهاد النفس، ومغالبة الأهواء والشهوات، ومقاومة نزعات الشيطان، ومراقبة النفس، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - الجهاد الأكبر، والشعبة الثانية من شعب الجهاد، العمل على تكوين رأي عام فاضل يحث على الخير، ويقاويم الشر، ويمنع الظلم، ويقيم العدل ويحمل الظالمين على الجادة المستقيمة، ويصح أن يسمى ذلك جهادا داخليا؛ لأنه حماية للأمة من الآفات الاجتماعية، ووقاية لها من الشر الذي يقع فيها، فهو جهاد لحماية المجتمع من آحاده كما أن الشعبة الأولى حماية للفرد من آفات نفسه.
والشعبة الثالثة من شعب الجهاد العمل على حماية المجتمع من الظلم الخارجي، ونشر لواء المحبة والمودة بين الشعوب، وجعل العدل يسود العلاقات الدولية، ومدافعة الظالمين، وذلك النوع من الجهاد ذو ثلاث شعب، أولاها - نصر الحق بين العالم بالدعوة إليه باللسان والقلم، ومقاومة الشر من أن يستشري بالدعاية للحق والعدل ودفع الظلم، والثانية - مد الضعفاء بأسباب الحياة ومعاونتهم، والثالثة - مقاومة الظلم بالحرب العادلة دفعا للظالمين، كما قال تعالى: (. . . وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذو فَضلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ).
ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " جاهدوا المشركين بأنفسكم وألسنتكم وأموالكم " (1).
________
(1) سبق تخريجه.(4/2163)
وإن نقطة الجهاد هي آخر الخط المستقيم، وهي نهايته، وفيها غايته، وهي تحقيق مجتمع فاضل، والثمرة المرجوة من هذا هو الفوز والفلاح " ولذا قال سبحانه: (لَعَلَّكُم تُفْلِحُونَ).
إن تلك هي الثمرة المرجوة لهذه النقط الثلاث التي تكوِّن ذلك الخط المستقيم النير، وهو سبيل الله تعالى سبيل الفوز والنجاح، وأطلق، فلم يقيد بفلاح الدنيا، ولا بفلاح الآخرة؛ ولذلك كان شاملا، فإن الإنسانية إذا تهذبت نفوس الآحاد فيها، فاتخذت وقاية تمنعها من سخط الله تعالى، وإذا اتجهت إلى طلب رضاه والعمل في طاعته سبحانه، وصارت لَا تعمل إلا لله تعالى وابتغاء مرضاته، وجاهدت لإعلاء كلمة الحق في شتى نواحيه، وترابطت برباط المودة والمحبة والعدل والفضيلة - إذا كانت الإنسانية كذلك علا ابن الأرض في هذه الأرض، وعم الصلاح واندفع الفساد، وتحققت خلافة الإنسان فيها.
والرجاء في قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) من الناس لَا من الله، أي أن المؤمنين إذا اتقوا الله وطلبوا مرضاته وجاهدوا في سبيله، كانت حالهم حال من يرجو الفوز، بل إن عليهم أن يرجوه، لأنهم ساروا في طريقه، وأنه يتميز رجاء المؤمنين حينئذ عن خيبة الكافرين الذين لم يسيروا في ذلك الخط المستقيم؛ ولذا ذكر سبحانه حالهم في مقابل حال المؤمنين، فقال سبحانه:
* * *(4/2164)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ... (36)
* * *
في هذا النص الكريم يبين سبحانه المقابلة بين جزاء المؤمنين وجزاء الكافرين، فالمؤمنون يفوزون في الدنيا بنعيم الاطمئنان، والإحساس بالرضوان من الله تعالى، ونصره سبحانه، وتأييده، وفوز الآخرة بالنعيم المقيم، أما الكافروفي فإنهم إن نالوا ظاهرا من الحياة الدنيا، يستقبلهم في الآخرة عذاب مقيم دائم مستمر وإنه لو وزنت الدنيا بحذافيرها، وكل ما فيها بعذاب يوم القيامة، ما ساوت شيئا في جانبه وإنهم لو ملكوا الدنيا بما فيها، وأرادوا أن يقدموه فداء لأنفسهم من عذاب القيامة، ما قبل منهم ذلك، بل يرد عليهم ما يقدمون.(4/2164)
وإن الله سبحانه وتعالى قد ذكر كفر الكافرين مؤكدا بـ " إن "، وذكر الموصول للإشارة إلى أن الكفر الثابت المؤكد الذي لم يقترن بالتوبة والانخلاع منه بإيمان يجب الكفر هو سبب لعذاب وهول يوم القيامة صوره الله سبحانه وتعالى بقوله:
(لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) والافتداء تخليص النفس، والعمل على الحفاظ عليها بمال أو أي نفيس يبذل في سبيل ذلك الخلاص، والمعنى الجملي: لو ثبت أن الذين كفروا يقدمون كل ما في الأرض تخليصا لأنفسهم ومثله معه في قيمته وكمه ما قبله الله تعالى منهم؛ لأن الجزاء الذي ادخره الله تعالى لهم من عذأب أليم يتكافأ مع ما في الدنيا مضافا إليه مثله، وهم لو ملكوا كل ذلك لقبلوا أن يقدموه، فكيف وهم لا يملكون إلا قدرا ضئيلا لَا يساوي ذرة صغيرة في هذه الدنيا، والله لَا يتقبل ذلك الفداء مهما يكن قدره؛ لأنه قرر العذاب المؤلم المؤكد، وقد أكد نفي القبول بقوله تعالى: (مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) أي ما قبل منهم بأي قدر ولو كان ضئيلا، وكان من تأكيد النفي بصيغة التقبل، والمراد هنا من التفبل تكلف القبول، أي أنه لَا يمكن القبول، ولو بطريق المحاولة والمعاناة.
وقد أكد سبحانه وتعالى العذاب بقوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي أن الذين يملكونه في الآخرة بدلا في مقابل ما كانوا يملكون في الدنيا عذاب مؤلم مستمر لَا يزول ولا يفارقهم، وهم يريدون أن يخرجوا منه، وهو ملازمهم لا يفارقهم؛ ولذا قال سبحانه:
* * *(4/2165)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
(يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا ... (37)
* * *
صور الله سبحانه وتعالى حالهم بهذا النص الكريم، وهو أنهم اجتمع لهم العذاب الشديد المؤلم، والرغبة في الخروج منه، ولكنه أمر لازم غير قابل للانفصال عنهم، فهم يريدون راغبين ملحفين أن يخرجوا من النار وعذابها الشديد، وكلما نضجت جلودهم بدلهم الله تعالى جلودا غيرها، وهم يريدون(4/2165)
الخروج منها ولو بالموت والفناء، ولكنهم ليسوا بخارجين منها، وقد عبر سبحانه وتعالى عن رغبتهم بالفعل، فقال سبحانه: (يرِيدُونَ أَن يخْرُجُوا مِنَ النَّارِ).
أي أنهم يريدون أن يقع الخروج على أي صورة كان، فهم يطلبون الخروج من العذاب، ولو كان بعده الموت، وقد نفَى الله تعالى الخروج بنفي الوصف، لا بنفي الفعل فقال: (وَمَا هُم بِخَارِجِينَ) أي أنه ليس من شأنهم أن يخرجوا، ولا يصح أن نثبت لهم وصف الخروج، لأن العذاب هو الجزاء الحق الوفاق لما ارتكبوا، فلا يسوغ أن يقع الخروج منه أبدا، وقد أكد سبحانه بقوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَابٌ مقِيمٌ).
هذا النص الكريم يفيد دوام ذلك العقاب من غير زمن محدود، بل هو دائم ملازم ثابت، وهنا نصان كريمان متقابلان: أولهما - قوله تعالى: (وَلَهُمْ عَذَاب أَلِيمٌ) قد وصف فيه العذاب صراحة بأنه مؤلم، وجاء الثبات من صيغة اللفظ بوزن فعيل، ثانيهما - هذا النص وقد وصف بالإقامة والاستمرار والدوام صراحة، وفُهِم الإيلام من التعبير بكلمة " عذاب ".
ولا شك أن العذاب المؤلم الدائم هو الجزاء لمن فرط في أمر دنياه، وجعلها رجسا وفسوقا، فقد اشترى هذه الحياة الفانية، بالحياة الباقية، فكان حقا أن يجعل الله تعالى جزاءه أن يحرمه من كل ما في الحياة الآخرة من الخير، ويذيقه وبال أمره جزاء وفاقا لما قدمت يداه، واجترح من سيئات. . اللهم اكتب التوبة لنا، ولا تؤاخذنا بما يفعل السفهاء منا، واغفر لنا وارحمنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
* * *
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ(4/2166)
عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
* * *
بين الله سبحانه وتعالى مقدار الإثم في الاعتداء على أنفس الآحاد، وذكر سبحانه وتعالى أن من قتل نفسا، فقد اعتدى على حق الحياة عند كل الناس، (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا). ومن أحياها بالقصاص لها، فكأنما أحيا الناس جميعا؛ لأنه يمكن للناس من حياة رافهة هادئة، فيها أمن وفيها استقرار واطمئنان، كما قال سبحانه في آية أخرى، (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ. . .)، ثم ذكر سبحانه وتعالى، الجريمة الكبرى في الاعتداء على الجماعة وخرق حرمات النظام، والانتقاض على الحكام الذين يقيمون الحق والعدل والشرع، وارتكاب القتل والسرقة والاعتداء على الأموال والأنفس والأعراض، وانتهاك الحرمات من غير أي حريجة دينية، وبين أنهم ينالون أقسى العقاب، لأنهم يرتكبون أفحش الجرائم وأفجرها.
وقد ذكر سبحانه وتعالى أن العقوبات لَا تكفي وحدها لإيجاد مجتمع فاضل، بل لَا بد من تهذيب الأرواح بالتقوى وطلب الوسائل الفاضلة، والغايات العالية، وأن يعرفوا أن عقاب الدنيا يهون بجوار عقاب الآخرة، وقد بين بعد ذلك العقوبة المقررة للاعتداء على الأموال، بعد أن ذكر عقوبة الاعتداء على الأنفس منفردة، ثم اجتماع الجرائم بالاعتداء على الأنفس والمال، والخروج على النظام.
وقد توسطت بين هذين النوعين من العقوبة آية الأمر بالتقوى وتذكر الآخرة وما فيها، الأن في ذلك بيانا بأن الصلاح الأول للمجتمع هو اجتثاث الجريمة من(4/2167)
النفس بزرع التقوى، ولأن القرآن ليس كتاب قانون تسرد فيه العقوبات سردا، بل هو كتاب هداية وتهذيب وإرشاد وتوجيه إلى الطريق المستقيم، تذكر فيه العقوبة على أنها علاج للجريمة في المجتمع، ثم يذكر مع العقوبة المادية العلاج النفسي والروحي، وهو أجدى وأقوى وأبعد أثرا، وقد ذكر سبحانه وتعالى عقوبة المال في أغلظ جرائمه وهو السرقة، فقال تعالى:(4/2168)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) الواو هنا في معنى الواو العاطفة، إذ هي عطفت حكما مقررا لازما، وهو قطع أيدي السارقين، على جزاء المحاربين، وكان ما بينهما من طلب المؤمنين بالتقوى وطلب القربى إلى الله تعالى في معنى الجملة المعترضة بين معطوف ومعطوف عليه، ولها معناها السامي، وهو بيان العلاج النفسي التهذيبي بجوار العلاج المادي الجزائي.
والمعنى فرض عليكم، فيما فرض، حكم السارق والسارقة، كما فرض عليكم من قبل حكم الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك الحكم بقوله تعالت كلماته: (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا). والفاء هنا للربط بين الكلام، وهي في معنى بيان السببية الرابطة بين الجريمة والعقوبة، فهي تبين أن سبب قطع الأيدي هو السرقة وكونهم قد اتصفوا بها، وكان ثمة تجانس بين الجريمة والعقوبة فاليد التي امتدت بالأخذ سرقة هي التي تصير موضعا للعقاب، وهو القطع.
وقد بين سبحانه وتعالى الباعث على ذلك العقاب، كما ذكر السبب، فالسبب المباشر هو السرقة، والحكمة أو الوصف المناسب هو ما اشتمل عليه قوله تعالى: (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ) أي أن ذلك العقاب هو كفاء لما كسبا من فعل شيء له آثار سيئة، وإن ذلك العقاب نكال أي زجر من الله تعالى لمنع هذه الجريمة وتقييد الأيدي، حتى لَا ترتكبها.
وظاهر الأمر أن قطع اليد لَا يمكن أن يكون كفاء لليد المقطوعة، ولكن عند النظر الدقيق يتبين أن المقابله ليست بين ذات القدار المسروف، وبين اليد(4/2168)
المقطوعة، إنما المقابلة بين الأثر الذي يكون للفعل الذي يفعله السارق وبين العقاب، فإن السرقة في حي أو قرية تفزع أهل القرية أجمعين، فيندفعون إلى جلب الحراس ووضع المغالق وإحكام الأبواب، فوق ما يكون بين الناس من اضطراب؛ إذ يفقدون الأمن والاطمئنان، وتستيقظ أعين الحكام، ويزداد عدد القائمين على الأمن، فالمقابلة ليست بين ذات الفعل والعقاب، بل المقابلة بين أثر الفعل، وما يعقبه من انزعاج، وليست العقوبة مقصودة فقط لذلك الجزاء، بل هي مقصودة لما يعقبها من خوف الفاسدين، وفزع الجرمين، فيقل الإقدام عليها، بل لا يكون، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: (نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ). فالعقاب عادل في ذاته؛ لأنه مناسب لأثر الجريمة، وإصلاح لأنه يؤدي إلى ذهاب الجريمة أو تقليلها.
ونريد أن نقف للكلام في أمرين في معنى نكال، وفي السرقة التي تعد جريمة توجب قطع اليد.
ونقول: إن معنى كلمة نكال الزجر والمنع، فهو منع للغير من الارتكاب، وقد جاء في مفردات الراغب الأصفهاني في أصل معنى كلمة نكال واشتقاقها: يقال نكل عن الشيء ضعف عنه وعجز، ونكلته قيدته، والنكل قيد الدابة. وحديدة اللجام لكونهما مانعين، والجمع الأنكال، قال تعالى: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا). ونكلت به إذا فعلت ما ينكل به غيره (أي يمنع غيره من أن يفعل فعله) قال تعالى: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لّمَا بيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا. . .). وقال: (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ الَلَّهِ).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله يحب النكل على النكل أي الرجل القوي على الرجل القوي " (1).
________
(1) جاء في النهاية في غريب الحديث جزء 4، ص 176 (نكل) " إن الله يُحِب النَّكَلَ على النَّكَل)، قيل: وما ذاك؟ قال: " الرجُل القويُ المُجَرِّب المُبدِئ المُعيد، على الفرس القويّ المُجرَّب " النَّكَل بالتحريك: من التنكيل، وهو المنع والتنحِيَة عما يريد.(4/2169)
وإن هذا التحليل اللغوي يفيد أن معنى قوله تعالى: (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ). أن هذا العقاب فيه جزاء للجريمة وكفاء لها، وقد أشرنا إلى معنى ذلك، ويفيد أن هذا العقاب منع من الارتكاب، فإنه ينكل بالجاني، لكيلا يقع في الفعل غيره، أي لكي يكون ذلك التنكيل سببا في أن ينكل الغير عن الفعل.
والآن نتكلم عن معنى السرقة التي توجب قطع اليد، وهنا ننتقل من المعنى اللغوي للكلمة، إلى المعنى الشرعي المستمد من أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن المأثور عن صحابته، ومما فهمه السلف من فقهائنا الأمجاد، رضي الله تبارك وتعالى عنهم.
لقد اتفق علماء الشريعة على أن السرقة أخذ المال على سبيل الاستخفاء، وهذا معنى فقهي يلتقي مع المعنى اللغوي، ولكن الفقهاء زادوا قيدا في هذا المعنى، وهو أن يكون الأخذ من حرز مثله، أي يكون المال محرزا مصونا محفوظا معنيا بحفظه العناية التي تليق، وقد قال الفقهاء رضي الله عنهم: إن الأخذ على سبيل الاستخفاء هو ركن السرقة، وكون الأخذ لمال محزر محفوظ حفظا يليق بمثله شرط لاستحقاق العقوبة المحدودة التي ذكرها الشارع الحكيم.
وإذا كانت السرقة لَا يتحقق ذكرها إلا إذا كان الأخذ على سبيل الاستخفاء، فإنه لَا يكون المغتصب سارقا، ولا يكون المختلس سارقا، وقد فرقوا بين المختلس والسارق فقالوا: إن السارق يكون مختفيا غير معلوم للمسروق منه، أما المختلس فإنه لَا يكون مختفيا، بل يكون ظاهرا ولكن يأخذ في غفلة من صاحب المال، والجمهور على أن الاختلاس لَا يعد من السرقة فلا تقطع فيه اليد، ولقد خالف الجمهور إياس بن معاوية القاضي، وأوجب القطع على اعتبار أن فيه نوع استخفاء، وإن كان في العمل، ولم يكن في الشخص، وأن لذلك الرأي وجاهته من ناحية العمل، ومن ناحية المعنى.(4/2170)
ولقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل: أنه عد من السرقات جحود العواري (1) والودائع؛ لأنه ثبت أن المخزومية التي قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - يدها، كانت تجحد ما تستعيره من الناس (2).
وإن ذلك غير الرواية الراجحة عن الإمام، بل إن الرواية الراجحة مع الجمهور، والحق هو أنها لَا تعتبر سرقة وإلا اعتبر جحود الحقوق سرقة موجبة للقطع، لأنه لَا فرق بين جحود العواري والودائع، وجحود الديون وسائر الحقوق المالية. وإن الفارق بين السرقة وجحود العواري كبير، فإن السرقة أخذ، وهذه منع للحقوق، والفرق بين المنع والأخذ كبير، وهذه أخذت بتمكين من المالك، والسرقة أخذ بغير تمكين من المالك.
هذا هو أصل معنى السرقة في ذاته، وهذا القدر قد اتفق عليه العلماء في الجملة، وقد اختلف العلماء من بعد في الشروط الواجبة للحد، ولنذكر بعض هذا الاختلاف:
* فقد اشترط أكثر أهل العلم لتحقق السرقة الوجبة للقطع أن يأخذ المسروق ويخرج به من مكان حرزه، ومقتضى تحقق السرقة مع هذا الشرط، أن يدخل ويأخذ مستخفيا، ويخرج من المكان الذي فيه المال إلى خارجه فإن ضبط قبل أن يخرج به لَا يقام عليه الحد. وقد خالف في اشتراط الخروج بالشيء من حرز - إبراهيم النخعي التابعي، وفقهاء أهل الظاهر.
في وقد اشترط الحنفية وبعض الفقهاء أن يكون الدخول إلى مكان الحرز بغير إذن صاحبه، فلو كان بإذنه وسرق لَا تقطع يده، فالضيف إذا سرق من مضيفه لا تقطع يده؛ لأنه دخل بإذنه، فلم يحدث هتك حمى الحرز وكأن هؤلاء يشترطون
________
(1) العواري: جمع عارية، وفي القاموس المحيط (عور): والعَارِيةُ، مُشَددَةً وقد تُخَففُ، والعَارَةُ: ما تَدَاوَلُوهُ بَيْنَهًم. الجمع: عَوَارِيّ، مُشَدَّدَةً ومُخَففةً.
(2) عَنْ سَعِيد بْنِ الْمُسَيَّبِ ان امْرَاةً مِنْ بَنِي مَخْزُوم اسْتَعَارَتْ حُلِيا عَلَى لِسَانِ أنَاس فَجَحَدَتْهَا فَأمَرَ بِهَا النبي - صلى الله عليه وسلم - فَقُطِعَتْ. رواه النسائي: قطع السارق - ما يكون حرزا وما لَا يكون (4892).(4/2171)
مع الشرطين السابقين أن يتحقق معنى هتك حمى الحرز، وهو موضع الأمانة التي تنتهك حرماتها.
* ويظهر أن الكثيرين من الفقهاء يشترطون مع ذلك أن يكون المكان المسروق منه في وسط الأحياء العامرة في المدائن أو القرى، ليتحقق معنى الحرز والمحافظة، وكذلك قرروا أن البيوت التي تكون في البساتين أو الطرق أو الصحراء وليست في العمران إذا لم يكن بها أحد وسرقت مع اتخاذ المغاليق، وضبط الأبواب، لَا يكون ثمة قطع يد؛ لأن من ترك متاعه في مكان خال من الناس والعمران لَا يعد حافظا له، وإن أغلق بابه وأحكم الإغلاق.
بينا في هذا معنى السرقة الموجبة للقطع من حيث ذات الفعل، وبقي أن نتكلم في محل السرقة،، وهو المال المسروق، فليس كل مال يؤخذ ولو كان محرزا ومحفوظا، وبين الناس، يعد أخذه موجبا للقطع، وقد قالوا: إن المسروق يجب أن يكون مالا متقوما، لَا شبهة فيه، ولا قصور في ماليته بأن يكون مما يتموله الناس، ويعدونه لأغراضهم المختلفة، ويتنافسون في طلبه، وعلى ذلك لا يصح أن يكون المال من توافه الأموال كالتراب والطين وما يشبههما مهما تبلغ قيمته.
ولا بد أن يكون المال المسروق مملوكا لمن سرق منه ملكية قطعية لَا شبهة فيها، فلا قطع في أخذ مال مباح، ولا في المال الذي كان أصله مباحا، وامتلك بالإحراز كالماء والصيد (1).
وهناك نوعان من المال قرر الفقهاء أنه لَا يقطع من أخذهما استخفاء من حرز مثلهما:
________
(1) روى الترمذي: الحدود - ما جاء في درء الحدود (1324) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ادْرَءُوا الحُدُودَ عَنِ المُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي العَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي العُقُوبَةِ ". وَفِي الْبَاب عَنْ أبِي هُرَيرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو.(4/2172)
أولهما - أموال بيت المال، فقد قرر الأكثرون أنه لو أخذ مسلم من بيت المال لا يقطع، ولنترك الكلمة لابن جرير في هذا الموضوع فهو يقول: " لا قطع على من سرق من بيت المال إذا كان مسلما، ويروى ذلك عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وبه قال الشعبي والنخعي وأصحاب الرأي، وقال مالك وحماد يقطع بظاهر الكتاب (أي النص وهو (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) ولنا ما روى ابن ماجه بإسناده أن عبدا من رقيق الخمس (أي الخمس المخصص لبيت المال من الغنائم) سرق من الخمس، فدفع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يقطعه، وقال: " مال الله سرق بعضه بعضا " (1)، ولأن له في المال حقا، فيكون شبهة تمنع وجوب القطع، كما لو سرق من مال له فيه شركة. ونرى أن الذين أقاموا الحد طبقوا النص باعتبار أن السرقة قد تحققت، فوجب تحقيق العقاب، وأن هذا المال مال الله ومال الله تعالى أوجب أن تراعى حرمته، ولأن إهمال الحد فيه معنى إباحته، وذلك لَا يجوز.
والذين لم يقيموا الحد، وهم الأكثر عددا بنوه على أساس أن لكل مسلم حقا فيه، فهو مال الجماعة كلها، وإذا كان كذلك فللآخذ حق أو شبهة حق، والحدود تسقط بالشبهات.
وإن الرأي الذي يوجب الحد أحرى بالقبول، حتى لَا تكون أموال الأمة نهبا للناس ينالونها من غير أي حريجة دينية، ويحسبون أنهم يأخذون حقا لهم، وإن لم يكن مقسوما، فالأولى بالحماية مال الله حتى لَا تمتد إليه الأيدي الآثمة، ولعل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم الحد على الرقيق الذي كان غنيمة إذ أخذ منها؛ لأن الحرز لم يكن ثابتا بالنسبة له، وللرفق بالرقيق الذي لم يكن على علم بالشرع وما يجب عليه، ولأن حماية مال الدولة أوجب رعايته، لأن ما سرقه من حيثما القيمة دون ما ينقص من قيمته بقطع يده، وفوق ذلك نتلف جزءا من بيت المال بإتلاف برء
________
(1) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عَبْدًا مِنْ رَقِيقِ الْخُمُسِ سَرَقَ مِنَ الْخُمُسِ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَقْطَعْهُ وَقَالَ: " مَالُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا ". رواه ابن ماجه: الحدود - العبد يسرق (2590). والخمس أي خمس الغنائم المفروض لله ورسوله.(4/2173)
آخر، فيكون الإتلاف مضاعفا، وليس هذا متفقا مع ما عرف عن النبي -صلى الله عليه وسلم - من حكمة، ولعل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " مال الله سرق بعضه بعضا " (1) يشير إلى هذا المعنى إشارة واضحة.
ويجب التنبيه هنا إلى أنه إذا لم يقم الحد عند من لَا يقيمونه تجب عقوبة شديدة، وإن لم تكن قطع اليد، ولتكن الجلد أو الحبس، أو النفي من الأرض، أو ما يراه ولي الأمر عقابا رادعا، ونكالا مانعا.
ثاني الفرعين من المال الذي لَا يكون فيه قطع - كل مال يكون للسارق نوع شركة فيه أو يكون بين السارق والمسروق منه صلة تجعل لكل واحد منهما حقا في مال الآخر، وذلك يشمل ما يأتي:
(أ) سرقة أحد الاصول من الفروع، فإنه لَا قطع فيها، لأن للأب أو للأم أو الأصول نوع شركة في مال الفرع، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " أنت ومالك لأبيك " (2) وكما ورد عنه: " الولد كسب أبيه " (3) وكل أصل أب أو أم.
(ب) إذا سرق أحد الزوجين من الآخر لَا قطع؛ لأن ثمة شركة أدبية بين الزوجين توجد ما يشبه الشركة المالية؛ ولأن مال أحد الزوجين غير محرز بالنسبة للآخر، وفي هذا الموضع خلاف كثير، ذلك القول في عمومه أرجحها وأقواها.
(جـ) لَا يقطع الفروع إذا سرقوا من مال أصولهم لمعنى الشركة الذي بيناه فهو من الجانبين، وقانون التساوي في المعاملة يوجب ألا يقطع الفرع إن سرق من الأصل، كما لَا يقطع الأصل إن سرق من الفرع.
________
(1) السابق.
(2) عَن جَابِرِ بْنِ عَبْد اللَّهِ أن رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِن لِي مَالا وَوَلَدًا وإِن أبِي يُرِيدُ أنْ يَجْتَاحَ مَالِي. فَقَالَ: " أنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ " رواه ابن ماجه: التجارات - ما للرجل من مال ولده (2291).
(3) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " إِن أطْيَبَ مَا أكَلَ الرجلُ مِنْ كَسْبه وَاِن وَلَدَ الرجلِ منْ كَسبِهِ ". رواه الترمذي: البيوع - الحث على الكسب (4449).(4/2174)
(د) سرقة الأرحام المحارم بعضهم من بعض فإنها عند الأكثرين من الفقهاء فيها شركة أوجبتها القرابة، وجعلت المحرمية مقياسا بهذه القرابة التي توجد الشركة المالية من بعض نواحيها.
وهكذا نجد الحد يضيق تطبيقه إذا كان للسارق نوع حق في المال المسروق، ولو كان ضعيفا، وأنه كلما اتسع نطاق الموانع لإقامة الحد ضاق تطبيقه، وإننا لو أردنا أن نقيم حد السرقة في حال أجمع الفقهاء على وجوب إقامته فيها لوجدنا العدد يضؤل ويضيق النطاق، حتى إننا نجد أنه في كل عشرة آلاف حالة سرقة لا تقطع يد واحدة، وإنها كافية للرح والزجر في ألوف الألوف، وقد ثبت أن ما دونها لَا يزجر مثلها، ولو في هذا النطاق الضيق، والله عزيز حكيم يضع العقاب في موضع الداء، فيحسمه القليل، ولا يحتاج فيه إلى الكثير، إنه خبير بما يعملون.
وإن الفقهاء الذين قرروا أن السرقة لَا بد أن تكون من حرز، وأن يخرج بها السارق من الحرز، وألا يكون قد دخل ذلك بإذن أهله بأن يكون منتهكا للحرمات، قد قرروا كما رأيت إعفاء السارقين من العقاب إذا كانت الأموال لهم شبه حق فيها، وذلك كأموال بيت المال عند الأكثرين وأموال الآباء والأبناء، وأموال الأقارب بعضهم مع بعض والزوجة مع زوجها.
كذلك قرروا أن بعض الأموال لَا يجري فيها قطع اليد، كالأموال التي تكون مباحة، ونالها بالاستيلاء مالكها، فقد قال الأكثرون: إنه لَا قطع فيها، وأجمعوا على أن مال المحوز إذا سرق لَا قطع فيه، وذلك لأن الشركة الطبيعية لا تزال قائمة ولو بطريق الشبهة ما دام المالك هو المستولي.
ولقد قال بعض الفقهاء: إنه لَا قطع في الأموال غير القابلة للادخار أي التي يتسارع إليها الفساد، كاللحم والفاكهة الرطبة واللبن والخضر غير القابلة للادخار؛ وهكذا، فقد قال أبو حنيفة ومالك والثوري: لَا قطع في هذه الأموال، والشافعي وأحمد ومن تبعهم أجازوا القطع في هذه الأمور.(4/2175)
وهكذا يجري الخلاف في بعض الشروط وفي بعض أنواع الأموال، وقد اتفقوا على أن سرقة ما يحرم تناوله أو استعماله لَا توجب قطع اليد، فسرقة الخمر أو الخنزيز، ولو كان يملكها غير مسلم لَا توجب القطع باتفاق علماء المسلمين، وسرقة أدوات اللهو والمجون وما لَا يتخذ في حلال خالص لَا توجب القطع.
وإنك إذا تلمست الصور التي اتفق الفقهاء على وجوب القطع فيها بالنسبة للشروط الواجبة للاستيفاء في الفعل، وفي الأموال تجد تلك الصور نادرة، لَا تقع في كل خمسمائة سرقة واحدة متفق على وجوب القطع فيها، ويزيد ندرة الصورة المتفق عليها اختلاف الفقهاء في نصاب السرقة.
وقد اتفق الفقهاء في الجملة على أن اليد لَا تقطع إلا إذا بلغ المسروق قدرا من المال، فقد اتفق الرواة على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع يد السارق فيما قيمته مجنّ، (وهو ما يتقي به المقاتل ضربات العدو) فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قطع في ثمن مجَنٍّ وقد قدرته رضي الله عنها بربع دينار (1).
واختلف العلماء من بعدها في قيمته، والأكثرون على أن قيمته ربع دينار، فأقل مقدار تقطع فيه يد السارق ما قيمته ربع دينار، ولكن الحنفية قدروا النصاب بعشرة دراهم، كما روي عن ابن مسعود: أنه لَا قطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم، ولأنه قد اختلف في تقدير المجن، فقيل قيمته أربعة دراهم، وقيل قيمته ربع دينار، وقيل قيمته دينار، والاحتياط يوجب الأخذ بالأكثر وتقدير أم المؤمنين عائشة اجتهاد منها يعارضه اجتهاد عبد الله بن مسعود، فيؤخذ به؛ لأنه أكثر احتياطا،
________
(1) عن عَائِشَةَ ان يَدَ الَارِقِ لَمْ تُقْطَعْ عَلَى عَهْدِ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلا فِي ثَمَنِ مِجَن حَجَفَة أوْ تُرْس. [متفق عليه؛ رواه البخاري: الحدود - والسارق والسارقة (6792)، ومسلم: الحدود - حد السرقة ونصابها (1685).
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - " تُقْطَعُ الْيَدُ فِي رُبُع دِينَارٍ فَصَاعِدا ". [متفق عليه، رواه البخاري: الحدود - السابق (6989)، ومسلم: السابق (1684).(4/2176)
هذا وهناك ملاحظة لفظية يجب اعتبارها، والوقوف عندها وقد وقف بعض الباحثين عندها، وهو أن الله سبحانه وتعالى عبر عن الذي يستحق القطع بقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا).
فقد قرر بعض الباحثين أن كلمة " السارق "، و " السارقة " وصفان وليسا فعلين، والوصف لَا يتحقق في الشخص إلا بالتكرار، فلا يقال لمن ظهر منه الجود مرة أنه جواد، ولا لمن وقع منه الكذب مرة ولم يتكرر كذاب، ولا للفاسق الذي لا يقول الحق، والمنافق الذي يخفي ما لَا يبريه إذا صدق مرة أنه صادق أو صدوق، إنما تقال هذه الأوصاف لمن يتكرر منه فعلها، حتى تكون اسما له وعنوانا يعرف به.
وبتطبيق هذا القول على من تقع منه السرقة لَا يكون مستحقا للقطع إلا من تكررت منه السرقة، وعلى حد تعبير القانونيين يكون ذلك العقاب للسارق العائد.
ويزكي هؤلاء الباحثون نظرهم - أولا - بأنه ثبت في أخبار المخزومية التي سرقت وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها (1) أنها كانت معتادة السرقة، لأنها كانت معروفة بأنها لَا ترد الودائع التي تودعها، ولا العواري التي تستعيرها، فكان الأمر بالقطع من النبي - صلى الله عليه وسلم - واقعا على امرأة قد اعتادت الاعتداء على الأموال بجحود الودائع والعواري والسرقات.
وثانيا - أنه روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه. . لما أراد قطع يد شاب سرق قالت له أمه: اعف عنه يا أمير المؤمنين، فإن هذه أول مرة، فقال عمر
________
(1) عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمُ المَرْأَةُ المَخْزُومِيَّةُ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ، قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ، لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا ". [متفق عليه، رواه البخاري: الحدود - كراهية الشافاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان (6788)، ومسلم: الحدود.(4/2177)
لها: (إن الله أرحم من أن يكشف ستر عبده لأول مرة) ويظهر أن الإمام عمر رضي الله عنه يرى أن القبض على السارق متلبسا ووجود شهود يشهدون يدل على التكرار.
وثالثا - بأن كثيرين من الفقهاء اعتبر توبة السارق قبل إقامة الحد عليه تسقط الحد، فلا يقام عليه، ولا تكون التوبة عند التكرار، بل يكون موضعها عند الارتكاب الأول، ولنتكلم في موضوع التوبة فقد قال تعالى:
* * *(4/2178)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
(فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
* * *
الفاء هنا للإفصاح عن شرط مقدر، والمعنى إذا كان قطع اليد هو العقوبة الرادعة، فإن التوبة تجبها وتقطعها في الدنيا والآخرة، أو في الآخرة فقط، فمن أقلع عن الذنب وأحس بالندم على ما ارتكبه، واعتزم على ألا يعود إليه، فإن الله سبحانه وتعالى يقبل توبته، وعبر سبحانه وتعالى عن قبوله توبته بقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ).
أي أنه جلت قدرته، وتعالت عظمته يقابل عمله القلبي في التوبة، والعمل الخارجي بالإصلاح ومنع الإفساد، بعمل من جانبه سبحانه وهو أنه يتوب عليه، أي يعينه على التوبة ويقبلها، فقوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) يتضمن ثلاثة معان - أولها - المعاونة على التوبة إذا أخلص العبد، وخلص العمل له سبحانه، وأصلح في الأرض بعد الإفساد فيها. وثانيهما - قبول التوبة، وثالثها - تطمين التائب بتأكيد القبول.
وذكر سبحانه أن التوبة الخالصة لَا بد أن تقترن بالإصلاح؛ لأن الإذعان القلبي لَا يكون كاملا وناميا إلا إذا اقترن به العمل الصالح، لأنه يزكيه ويسقيه.
والتعبير بقوله تعالى: (مِنْ بَعْد ظُلْمه) إشارة إلى أن السرقة خاصة وارتكاب الذنوب عامة ظلم كبير، وقوله تعالي: (وَأَصْلَحَ). فيه إشارة إلى أن السرقة إفساد في الأرض والأمانة إصلاح أي إصلاح.
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بإثبات رحمته، وأنه سبحانه من صفاته الثابتة الغفران فقال: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رحِيمٌ). أي أن الله يتوب على عبده إذا أذنب؛(4/2178)
لأن من صفاته أنه غفور كثير الغفران يتجاوز عن السيئات، ويكافئ على الحسنات؛ لأن ذلك مقتضى رحمته، وهو الرحيم الدائم الرحمة، وقد أكد سبحانه ذلك فضل تأكيدب " إنَّ "، وبإعادة لفظ الجلالة.
وقد أشرنا من قبل إلى أن كثيرين من الفقهاء يقولون: إن التوبة تسقط الحد، وكانت هذه الآية الكريمة: (فَمَن تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) من شواهد ذلك.
والقول الجلي في هذا أن التوبة قبل الترافع إلى السلطان إذا صحبها رد المسروق إلى مالكه تمنع إقامة الحد بالاتفاق، ولكن الخلاف القائم بين الفقهاء في التوبة إذا كانت بعد الترافع وإثبات السرقة، فقد قال أبو حنيفة ومالك: إن التوبة لا تسقط الحد؛ لأن الأمر بالقطع عام يشمل التائب وغير التائب، والتوبة المنصوص عليها في هذه الآية هي ما يكون بعد إقامة الحد وقطع اليد، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا قطعت يد السارق فتاب سبقته يده إلى الجنة، وإن لم يتب سبقته يده إلى النار " وفوق ذلك فإن التوبة في السرقة كالتوبة في الزنى لا تسقط (الحد) (1)، ولقد أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - حد الزنى، وقال في امرأة أقام عليها الحد: " لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم " (2). وفوق هذا وذاك الحد كفارة للذنوب في الدنيا والكفارات تجب مع التوبة.
________
(1) عن مُحَمد بن الْمُنْكَدِرِ رضيَ اللَّهُ عنهُ: " أن النَبِي - صلى الله عليه وسلم - قطَعَ سَارِقًا، ثُمَ أمَرَ به فَحُسِمَ، ثُمَ قَالَ: تُبْ إِلى اللَّهِ، قَالَ: أتُوبُ إِلى اللَّهِ، قَالَ: اللهُم تُبْ عَلَيْهِ، ثُمَ قَالَ النبِي - صلى الله عليه وسلم -: إِنَ السارِقَ إِذَا قُطِعَتْ يَدُهُ وَقَعَتْ فِي النار، فَإِنْ عَادَ تَبِعَهَا، وَإِنْ تَابَ اشْتَلاهَا - يَعْنِي: استَرْجَعَهَا - ". (الجامع للسيوطي ج 21، ص 431 (20011)].
(2) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ أَتَتْ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَى، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ، فَدَعَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِيَّهَا، فَقَالَ: «أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي بِهَا»، فَفَعَلَ، فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللهِ وَقَدْ زَنَتْ؟ فَقَالَ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ، وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى؟ ". [رواه =(4/2179)
وقال أكثر الشافعية والحنابلة: التوبة تمنع إقامة الحد وأقاموا على ذلك الأدلة الآتية:
أ - قوله تعالى: (فَمَن تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمه وَأَصْلَحَ). وهذا النص مقترن بقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا). فكان مخصصا للعموم في الأمر بالقطع، وإلا ما اقترن به.
بـ - أن الله تعالى اعتبر التوبة مانعة من إقامة حد الحرابة (1)، والحرابة فيها جرائم سرقة وقتل وسرقاتها كبيرة، فكيف تقبل التوبة في السرقات الكبرى، ولا تقبل في الصغرى.
د - ما ورد في الآثار الصحاح مما يثبت أن التوبة تجب ما قبلها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " التائب من الذنب كمن لَا ذنب له ".
د - أن التوبة السريعة تدل على أن النفس لم تدنس بالرجس، وقد قال تعالى في تحقيق هذا المعنى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّه للَّذينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بجَهَالَةِ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبً. . .).
والذي نراه في هذا الموضوع أننا نأخذ برأى الإمامين أبي حنيفة ومالك في الذين يعدون عائدين، فإن هؤلاء لَا تقبل منهم توبة. ولا تأخذ العدالة فيهم رأفة، أما الذين لم يكونوا عائدين، فإن التوبة تعفيهم من العقاب إقالة لعثرتهم، ونأخذ في أمرهم برأي أكثر الشافعية والحنابلة.
وإذا كان لنا أن نطالب بإقامة حدود الله، وهو واجب علينا، فإننا إذا طالبنا بإقامة حد السرقة نطالب به في الحدود الآتية:
_________
= مسلم: الحدود - من اعترف على نفسه بالزنا (1696)، كما رواه الترمذي: الحدود (1435)، والنسائي: الجنائز (1957)، وأبو دود: الحدود (4440)، وابن ماجه: الحدود (2555)، وأحمد: أول مسند البصريين (19360)، والدارمي: الحدود (2325)].
(1) إشارة إلى قوله تعالى في سورة المائدة (34): (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، وقد سبقت.(4/2180)
أولها - أن يقام الحد على السراق العائدين ليكونوا عبرة المعتبرين.
الثاني - ألا يقام الحد إلا في الحال التي اتفق الأئمة على إقامتها فيه، فلا يقام الحد، وبعض الأئمة لَا يرى إقامته.
الثالث - ألا توجد أي شبهة في الإثبات أو في غيره، والله سبحانه بكل شيء عليم، ولقد قال سبحانه:
* * *(4/2181)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
(أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ... (40)
* * *
بعد أن بين سبحانه وتعالى العقاب الذي ينزل بالمفسدين في الأرض محاربين أحكام الله تعالى والنظام الذي يقرره الإسلام، وبين أن باب التوبة مفتوح، لن يريد الإصلاح، ويقلع عن الإفساد - ذكر سبحانه وتعالى أن تلك هي أحكام العليم الحكيم، صاحب السلطان القاهر الذي هو فوق كل سلطان، وأن كل ذي سلطان مهما يكن اتساعه وسطوته، فهو في ملك الله تعالى، وأن ما يكون من عقاب أو غفران فهو من واسع حكمته، ومن شمول رحمته؛ ولذلك قال سبحانه مبينا سلطانه مخاطبا كل أهل للخطاب، أو مخاطبا النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء، ومخاطبا غيره اتباعا، وهذا ما نرجحه؛ ولذلك أردف هذا النص الكريم بقوله تعالى: (. . . لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ. . .)، كما سنتكلم في الآيات الآتية بمعونته تعالى ومشيئته.
وقوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ). هذا التعبير السامي من قبيل الاستفهام الإنكاري الذي يؤكد ما في مضمونه ويبعده عن كل احتمال، ويقال إنه للنفي، فهو نفي للجهل، ونفي الجهل تأكيد للعلم، والمعنى أبحثت الأدلة، ودرست الكون وما فيه، والخلائق ومبدعها فعلمت أن أحدا له ملك السماوات والأرض غير الله، وإذا كان بحثك وتنقيبك واستدلالك قد أدى بك إلى نفي العلم بأحد له ملك في السماوات والأرض غيره فالدليل نفسه هو الذي يؤكد علمك بأنه وحده صاحب السلطان المطلق في السماوات والأرض.
وإذا كان سبحانه وتعالى هو صاحب الملك المطلق، والحكم الذي لَا معقب له في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم، فهو وحده المنفرد ببيان العقاب الرادع، والتجاوز السمح حسب ما يرى بحكمته؛ ولذلك قال سبحانه:(4/2181)
(يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ) وإذا كان سبحانه وتعالى هو صاحب السلطان المطلق، فإنه لَا يسأل عما يفعل وليس وراء ما يأمر به معقب من أحد، فهو يعذب من يشاء عقابا رادعا في الدنيا، ليمنع غيره من أن يقع في الشر، كما وقع هو، ويغفر لمن يسلك طريق التوبة، والأمر في كل ذلك إلى مشيئته هو وحده، وهو العليم الخبير اللطيف بعباده، الذي لَا يكون معه إلا ما فيه خيرهم، وإن علا على إدراكهم، وعسر على فهمهم، فمشيئته مطلقة تعلو حكمة ما يفعل - على عقولنا ومداركنا.
ولقد كانت مشيئة الله تعالى مقترنة بقدرته، ولذلك قال سبحانه: (وَاللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو سبحانه قادر على كل شيء، فكل ما في هذا الوجود خاضع لإرادته وقدرته وسلطانه، لَا يخرج عنه شيء، ولا يعجز عن شيء؛ اللهم أظلنا برحمتك وعفوك وغفرانك، إنك على كل شيء قدير.
* * *(4/2182)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
* * *(4/2182)
بعد بين الله سبحانه وتعالى حسد أحد ابني آدم لأخيه وكيف أدى الحسد والحقد إلى أن يقتل الأخ أخاه، بين سبحانه وتعالى ما هو نتيجة للحقد، من قتل النفوس، وقيام المجرمين بالشر فرادى وجماعات، وآثار هذه الجرائم في الجتمع، وبين أشد أنواع جرائم الفتك والاعتداء في الجماعة وهي الحرابة، ثم ذكر السرقة، وهي في معنى الحرابة؛ لأنها سطو على الأمن، وإزعاج للناس، وجعلهم في اضطراب مستمر وبلبال دائم، وهمّ مقيم، وذكر عقوبتها الزاجرة، وآثارها الملقية بالأمن والاستقرار في النفوس.
وبعد هذا البيان من آثار الحقد، والحسد في الجرائم الحسية ونشرها، ذكر سبحانه أثر الحقد والحسد في الجرائم المعنوية والاعتقادية، وهي التي يجمعها جحود الحق حسدا وحقدا واستكبارا، كحسد أحد ابني آدم على أخيه إذ حقد واستكبر، وذكر حقد اليهود والمنافقين على النبي - صلى الله عليه وسلم -وحسدهم له ولقومه على ما آتاهم الله من فضله، فأرسل في العرب رسولا يدعو إلى الحق وإلى صراط مستقيم، وقد كان سياق قصة ابني آدم مبيت، استمكان الحقد والحسد في نفوس الأشرار، وإذا علم ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا ينبغي له أن يحزن على ما يصيبه نتيجة للحقد والحسد؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى:
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ) النداء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والنداء له عليه السلام بـ (يَا أَيُّهَا) - التي تدل على نداء البعيد مع أنه من الله قريب وهو له مجيب؛ لبيان الشأن العظيم لما يدعوه إليه ويناديه لأجله، وللموضوع الذي ينبهه إليه، وهو حال الذين يخاطبهم وتدبير الدعوة على مقتضى حالهم، وتوقع ما يقع منهم.
وقد قال فخر الدين الرازي: إن نداء الله تعالى له عليه السلام يكون بـ " يا أيها النبي " ما عدا موضعين: أحدهما - هذا الموضع، والثاني - في قوله تعالى: (يَا أيُّهَا الرسول بلغ ما أنزل اليك). وقال إن النداء: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ) فيه زيادة تشريف للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الرسالة أخص من النبوة، والحق أن النداء بالنبوة(4/2183)
وبالرسالة كلاهما فيه تشريف للنبي - صلى الله عليه وسلم - بدرجة واحدة، لأن في كليهما بيان صلته بالله تعالى بها، ولكنا نرى أن النداء بـ " يا أيها الرسول " ونهيه، ويبلغ رسالته التي شرفه الله تعالى بها ولكنا نرى أن النداء " يا أيها الرسول " يناسب ما يطلبه الله تعالى منه، وهو تبليغ الرسالة؛ إذ يقتضي أن يلاقي الأخيار والأشرار، وأن يتوقع من الأشرار ما قد يثير النفس فإن لج به الألم ذهبت نفسه حسرات، ولا يتفق ذلك مع العزمة الواجبة لأداء الرسالة.
وقد كان النهي منصبا لَا على ذات الحزن، بل قال سبحانه: (لا يَحْزُنكَ) أي لَا تجعلهم يدخلون الحزن على نفسك باستعظام ما يفعلون، وبذلك يندفع الاعتراض القائل أن الحزن ألم نفسي يدخل على النفس إجبارا من غير استئذان، والنهي عنه ليس نهيا عن أمر للنفس فيه اختيار، بل هو نهي عن أمر للإرادة فيه سسلطان بالصبر وضبط النفس، وتوقع الأمور قبل وقوعها فمن توقع النائبات قبل وقوعها يخف وقعها، ويسهل احتمالها، وأولئك الذين يسارعون في الكفر يتوقع منهم الشر فلا يحزن الرسول عند وقوعه، فمعنى النهي في قوله تعالى: (لا يَحْزُنكَ) يتضمن أمرين:
أولهما - قبل وقوع شر أولئك المنافقين يتوقعه، فلا يحزن إذا وقع، وثانيهما - ألا يبقى أي أثر من ألم لوقوع الشر، والمعنى الضمني لهذا النص: لَا تعبأ بما يصنع هؤلاء مما من شأنه أن يحزن، فلا ينبغي أن تحزن.
وقوله: (الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) معناه: الذين يتنقلون بحركات سريعة في دركات الكفر فينحدرون من دركة إلى دركة ويوغلون فيه إيغالا من غير مواناة ولا تدبر ولا تفكر، وهذا سر التعدية بـ " في " دون " إلى "، لأن التعدية بـ " إلى " تفيد الدخول فيه بعد أن لم يكن، أما التعدية بـ " في " فإنها لَا تفيد الدخول بعد أن لم يكن، بل تفيد الانتقال في مداخله من حال إلى أسوأ منها في سرعة من غير تفكير.(4/2184)
وهذا يزكي معنى النهي عن أن يكون منهم ما يحزن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يتوقع من الكفار الذين مردوا على النفاق إلا الإيغال فيه، والازدياد في الشر.
وقد بين سبحانه نوع هؤلاء الناس، فقال تعالت كلماته: (مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ). (مِنَ) هنا بيانية، فهي تدل على أن ما بعدها بيان للذين يسارعون في الكفر متنقلين في دركاته موغلين في الجحود، وقد كان أول وصف يدل على جحودهم الشديد، وإمعانهم في الضلال والتضليل هو أنهم يقولون: " آمَنَّا " بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وقوله تعالى بأفواههم متعلق بقوله تعالى: (قَالُوا).
وقدم قوله تعالى (آمَنَّا) على قوله تعالى (بِأفْواهِهِمْ) للإشارة إلى مسارعتهم بقول الإيمان وإعلانه وذكره، إمعانا في التضليل والنفاق، ولأن قول الله تعالى (بِأَفْواهِهِمْ)، ولو أنه متعلق بكلمة (قَالُوا) فيه حكم على ادعائهم الإيمان والحكم يتأخر دائما عن واقعة الحكم، فالواقعة قولهم (آمَنَّا)، والحكم من الله تعالى بأنه إيمان بالأفواه، لَا بالقلوب فهو إعلان عن الإذعان، ولقد أكد سبحانه وتعالى ذلك الحكم بقوله تعالى: (وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) أي لم تذعن للحق وتسلم به وتخضع له قلوبهم، وليس المعنى لم تصدق قلوبهم؛ لأنَّ الإيمان ليس هو المعرفة الجردة، بل إنه إذعان وخضوع لما تقتضيه المعرفة ويقينها، فإن من أولئك يهودا كانوا يعرفون محمدا كما يعرفون أبناءهم، ولكن معرفتهم هذه صحبها تمرد على الحقائق، وعبث، وسير في الجحود، فلا يمكن أن يتحقق الإيمان منهم، وإن كانت لديهم المعرفة بالحقائق، إذ لم يذعنوا لها، والتعبير بالأفواه بدل الألسنة - إشارة إلى تزيين كلامهم فقط حتى صار الفَم كله يشترك في ادعاء الإيمان لَا طرف اللسان فقط.
(وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) هي داخلة في البيان الذي دلت عليه " من " الأولى، وعلى ذلك يكون هؤلاء داخلين في الذين يسارعون في الكفر، فإنهم فريقان، فريق المنافقين، وفريق اليهود الذين(4/2185)
تميزوا بهذا الاسم، وإن اشتركوا معهم في معنى النفاق، ويكون قوله تعالى (مِنَ) بعد (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ) وصفا للفريقين معا، لأنه يجمعهم المسارعة في الكفر، هذا أحد مخرجين للآية الكريمة، وهو يتفق مع إحدى القراءتين (1)، وهي التي لَا يكون فيها الوقف عند قوله تعالى: (وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) بل تكون القراءة متصلة. والقراءة الثانية أن يكون الوقف عند قوله تعالى: (وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) ويكون قوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا). استئنافا لفريق آخر، ويكون قوله تعالى (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ)، وصفا لليهود، ويكون المعنى أن الذين يعاندون النبي - صلى الله عليه وسلم - فريقان: أحدهما - منافق يعلن الإيمان، ويبطن الكفر وسبب جحودهم أنهم مردوا على النفاق، وضعفت نفوسهم، وانحل موضع اليقين في قلوبهم لسماع الباطل من القول، والزور من الدعاوى، حتى اختلط عندهم الحق بالباطل، وفقدوا التمييز بينهما بسوء ما يصنعون، وكلا الفريقين يلتقي عند مصب الجحود والنكران، والمسارعة في الكفر، وإن كان قوله تعالى: (يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ). غير متجه إلى اليهود من حيث النسق البياني على القراءة الثانية فإنه من حيث التضمن والواقع ينطبق عليهم وصف المسارعة على الكفر، والتنقل في دركاته.
وفى الحق، إن القراءتين (2) مقصودتان من حيث المعنى، والقراءة الأولى معناها مقصود بالنص، والقراءة الثانية (كذلك) وكلتاهما قرآن يتلى ويفهم، ويراد معنى، كُلا ومنفردا.
وقوله تعالى: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ). هو وصف للفريقين على إحدى القراءتين، أو على مجموع القراءتين، وسمَّاع صيغة مبالغة من سامع، أي من صفاتهم التي صارت فيهم خصلة من خصالهم أنهم كثيرو سماع الكذب، قد استمرأته قلوبهم وأسماعهم، يجدون لذاذة في الاستماع، ويصل إلى قلوبهم
________
(1) عبر بالقراءة، وأراد الوقف (في أثناء القراءة).
(2) أي الوقفين. والقراءات المتواترة توقيفية من عند الله تعالى.(4/2186)
فيفسد موضع التفكير والتدبر، كأولئك الذين يلقون بأسماعهم في الخرافات، فيتقبلونها كأنها حقائق ثابتة لَا مجال للريب فيها عندهم، فهم بهذا ضالون، وتكون اللام في قوله تعالى: (لِلْكَذِبِ)، للتعدية، أو لتقوية التعدية، وأن السماع منصب على الكذب، وقال بعض اللغويين: إن اللام للتعليل أي سماعون لأجل أن يكذبوا، وأحسب أن التخريج الأول أقرب إلى القبول؛ لأن ذلك وصف لهم، فهو غير معلل، وهو يدل على فساد قلوبهم من داخلها، لَا من أمر خارج فقط، وقد بين سبحانه الذين يستمعون إليهم، والذين يغذون قلوبهم المملوءة بالصديد والدم، فقال سبحانه وتعالى: (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأتُوكَ) أي أنهم يكثرون سماع الباطل ويكثرون من سماع قوم آخرين لم يأتوك لهم تأثير فيهم، فاجتمع فيهم فساد الباطن الذي جعلهم لَا يستمرئون إلا سماع الشر، ووجود من يستغلون فيهم ذلك الضعف القلبي، فيعملون على استهوائهم إلى الباطل، والتعبير بـ " قوم آخرين "، فيه إشارة إلى أن أولئك الذين يستمعون إليهم بعيدون عن سلطان الدعوة الإسلامية، إذا كان البعد حسيا، أو بعيدون عن قبول قوله إذا كان البعد معنويا، وكلاهما يشمله القول.
وفى الجملة: إن في هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - من حيث إن الذين يسارعون الكفر من المنافقين واليهود إذا كانوا يتنقلون في دركات الجحود، ولا يستمعون إليك، فلأنهم يجيئون إليك وقلوبهم مملوءة بالباطل، والإيمان الصافي يحتاج إلى آنية صافية من كدرة الهوى، وأخباث الشر، وإذا كان فيها شيء من ذلك فإشراق الإيمان قد يذهب به إذا لم يكن ثمة تغذية له من كلام الآخرين، واستمراء الباطل.
وقد وصف الله الذين يمرقون عن الحق مروق السهم من الرمية ويدعون إليه بقوله تعالت كلماته: (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ) الكلم اسم جنسي جمعي لكلمة، فهو معناه كلام، والتحريف أصله من(4/2187)
الحرف، وهو طرف الشيء، ومعناه إمالة الكلام عن معناه، وإخراجه عن أطرافه وحدوده، والتحريف يكون على ضروب شتى فيكون بتغيير الألفاظ والزيادة فيها والنقص منها، وذلك تحريف في اللفظ والمعنى، وإما أن يكون التحريف بتفسير الكلام بغير ما تدل عليه الألفاظ، وتوجيه المعاني إلى غير مقاصدها، ويكون التحريف بإدخال احتمالات في الألفاظ، وهي غير قابلة لها، وقد قال الأصفهاني في هذا المعنى: " وتحريف الكلام أن تجعله على حرف من الاحتمال يمكن على الوجهين " وقد خرج على هذا المعنى النص الكريم الذي نتكلم في معناه.
واليهود حرفوا التوراة بكل أنواع التحريفات، فزادوا فيها كلمات ليغيروا المراد فيها، ففي تحريم الربا زادوا كلمة " أخاك الإسرائيلى " ليجعلوه محرما بين الإسرائيليين فقط. وحذفوا منها عبارات، وأتوا بقصص مكذوبة كقصص ابنتي لوط، وحملوا ما بقي من عبارات من غير زيادة فيها أو نقص على غير معانيها، أو جعلوها محتملة لغيرها، ورجحوا غير الظاهر على الظاهر، وحذفوا منها ما كان فيه التبشير بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
وقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ). أي من بعد استقرار مواضعه، وبيان حلالها وحرامها، وفي آيات كثيرة كان التعبير القرآني، يحرفون الكلم عن مواضعه، أي يصرفونه عن مواضعه بزيادة أو نقص، والتعبير هنا هو قوله تعالمت كلماته: (مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ). أي من بعد استقرار أحكامه وهو مناسب للمقام هنا؛ لأن الموضوع، كما تدل الآيات التالية مسوقة لتغييرهم في الأحكام، ومحاولتهم العبث بها.
وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ما كان يقوله القوم الآخرون الذين يسمعون لهم؛ فهم يعطونهم معلومات محرفة باطلة عن التوراة وما فيها، ويقولون للسامعين لهم: إن أوتيتم هذا فخذوه، أي إن آتاكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بمثل هذا الذي هم عليهم فإن لهم أن يقبلوه، وأن هذا كقول الله تعالى فيهم حاكيا عنهم قوله:(4/2188)
(وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ. . .)، وإن هذه الحال هي أبلغ الضلال الذي ينال العقول، وهو الفتنة التي تعتريها، ولذلك قال سبحانه:
(وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا). الفتنه هنا: الضلال واستهواء النفوس إليه، وذلك أن الفتنه تطلق بمعنى الاختبار الشديد، والوقوع في البلايا والشدائد والنوازل، وأن هؤلاء قد اختبرت نفوسهم بما سلط عليهم من باطل ودعوات إليه، وسقطوا في الاستجابة لهذا الشر، فكانت هذه هي الفتنة التي وقعوا فيها باختيارهم، واستهوتهم الأهواء الردية، ووقعت بهم البلايا الشديدة، وقد أراد الله تعالى أن يقعوا فيها باختيارهم، فالضلال باختيارهم وسلوكهم سبيله، وتجانفهم عن طريق الحق، والله تعالى أراد لهم ما اختاروا.
وقد بيَّن الله تعالى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لَا يملك أن يزيل عنهم ذلك الضلال لأن من يرد الله فتنته وضلاله بكتابة ذلك عليه، وتسجيله في لوحه المحفوظ، فلن يملك أحد دون الله شيئا في ذلك، فلا يستطيع تغييره، وأنت يا نبي الله لا تستطيع التغيير فلا تحزن لضلالهم، ولا تهتم لما يقعون فيه: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدي مَن يَشَاءُ. . .). (أولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّه أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ).
إن هؤلاء الذين أركست نفوسهم في الشر والضلال، حتى صار النفاق دأبهم، وتحريف القول بعد استقرار مواضعه طريقهم، واستمراؤهم للكذب يستمعون إليه وصفهم - أولئك المتصفون بهذه الصفات لم يرد الله تعالى أن يطهر قلوبهم، ذلك أن قلوبهم اكتسبت سيئات تراكمت وتكاثفت، حتى أربدت، وخالطها الشر وأصبح ملاصقا لها كأنه جزء من كيانها، والله سبحانه يأخذ بيد من يرتكب الشر عن جهالة، أما من اكتسبت نفسه الخطايا وأحاطت به، فإنه سبحانه وتعالى يتركه، لينال جزاء ما كسبت يداه؛ ولذا قال سبحانه:(4/2189)
(لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) هؤلاء هم الذين فتنوا في دنياهم بوقوعهم مختارين في بلائهم، فأولئك المنافقون والذين هادوا لهم - بسبب ما وصفوا - خزي في الدنيا وعذاب عظيم في الآخرة، يبلغ من الإيلام والأذى ما لا يدرك كنهه ولا يعرف حقيقته إلا رب العالمين، وما أعطانا من علم في كتابه الحكيم، وعلى لسان رسوله الأمين.
وأما الخزي في الدنيا، فهو الذل الدائم المقيم مهما يكن من مظاهر القوة، ذلك أن النفاق وحده ضعف في النفس واضطراب في العقل، وكشف لحاله مهما يكن عنده من قدرة على الإخفاء والتستر، فإن ثوب النفاق شفاف دائما، وذلك فوق ما يتسم به من جبن وخور إن لم يكن معلوما لكل الناس فإنه يكون معلوما بينه وبين نفسه، وهم يحسبون أنهم يستهزئون بالناس، والناس يعلمونهم، والله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون.
واليهود لَا يعيشون إلا في كنف غيرهم من الناس أو على خداع الناس، وحسبهم ذلك خزيا وعارا.
وقانا الله تعالى شر هذا الخزي، ووقَى المسلمين من شر النفاق والمنافقين، وحمى الأمة الإسلامية منه، وهو العليم بذات الصدور.
* * *
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
* * *(4/2190)
الكلام مستمر في بيان أوصاف الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم، والذين غلبت عليهم الشقوة والضلالة، حتى صاروا لَا يخضعون إلا لأهواء قوم لم يشرق في قلوبهم نور الإيمان، ولم تطمئن قلوبهم ببرد اليقين للإذعان للحقيقة بعد أن يعرفوها.
وقد انتقلت الآيات من التعميم إلى التخصيص، فخصت اليهود بوصف آخر غير أنهم سماعون للكذب بأنهم أكالون للسحت.(4/2191)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) هذا وصف للذين يسارعون في الكفر عامة وفي اليهود خاصة، وهم مرنوا على سماع الباطل واستمرءوه وأضافوا إلى ذلك وصفا من بابه، وهو أنهم يستمرئون المال الخبيث الذي ينبت من باطل، وإذا كانت آذانهم تستمرئ باطل القول وزوره، فأفواههم وذممهم تستمرئ أكل أموال الناس بالباطل، والسحت كما يفهم من مصادر اللغة وآثار التابعين والصحابة، كل كسب يكون بطريق آثم، ومن ذلك الرشوة والربا، وأخذ الأجور في الشفاعات، وقد سئل عبد الله بن مسعود عن السحت، فقال: الرجل يطلب الحاجة للرجل فيقضيها فيهدي إليه هدية فيقبلها (1)، وإذا كانت الهدية في مقابل قضاء الحاجات سحتا، فماذا يكون كسب الجاه والمال والمناصب، وما تدر عليه من مال بطريق النفاق والفتاوى الباطلة في الدين، ولقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به " (2).
وذكر الطبري الأصل اللغوي لكلمة سحت، فقال: " وأصل السحت (3) كَلَبُ الجوع، يقال: فلان مسحوت المعدة، إذا كان أكولا، لَا يلفى أبدا إلا جائعا،
________
(1) عَنْ أبِي أُمَامَةَ عَنْ النبِي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " منْ شَفَعَ لأَخِيهِ بِشَفَاعَة فَأهْدَى لَهُ هَدِيَةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أتَى بَابًا عَظِيما منْ أبْوَابِ الربا " [رواه أبو داود: البيوع - الهدية لقضاء الحاجة (3541)، وأحمد: باقي مسند الأنصار (21748)]. أوردته لغلبة الغفلة عنه.
(2) سبق تخريجه.
(3) كما في جامع البيان ج 6، ص. 14.(4/2191)
وإنما قيل للرشوة السحت تشبيها بذلك، كأن بالمسترشي من الشره إلى أخذ ما يعطاه من ذلك - مثل الذي بالمسحوت - المعدة من الشره إلى الطعام، يقال منه: سحته، وأسحته لغتان محكيتان عن العرب. . . ومنه قوله تعالى: (. . . فَيُسْحِتَكم بِعَذَابٍ ... ). وتقول العرب للحالق: " اسحت الشعر، أي استأصله ".
ونرى أن ابن جرير ذكر الرشوة فقط هنا، وإن كان السحت يشمل أكل مال الناس بالباطل، ولو كان هدية في نظير مسعى حميد كما ذكرنا عن ابن مسعود، وقد روي عن مسروق التابعي أنه شفع لرجل في حاجة، فأهدى إليه جارية فغضب غضبا شديدا، وقال: لو علمت أنك تفعل هذا ما كلمت في حاجتك، ولا أكلم فيما بقي من حاجتك، سمعت ابن مسعود يقول: " من شفع شفاعة ليرد بها حقا، ويرفع بها ظلما فأهدى له فقبل فهو سحت ".
وإن هذا الكلام المروي يبدو منه أمران: أحدهما أن كل أكل لمال الغير بالباطل يعد سحتا سواء أكان برضاه أم كان بغير رضاه. وثانيهما - أن الصحابة والتابعين لهم بإحسان كانوا لفرط إيمانهم بالحق ووجوب نصرته يرون أن نصرة الحق ودفع الباطل يجب أن تكون لله، وأنه لَا يصح أخذ أجر في نظيرها، ولو كان هدية تعطى في مسمحة ومحبة، حتى لَا يرنق قول الحق بغرض من أغراض الدنيا، وحتى لَا يستغل الجاه، ولكي تعلو معنويات الأمور، ولا تسيطر مادياتها.
وإن اليهود قد اشتهروا بالسحت، وخصوصا في الحكم، وقد أرادوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحكم بينهم بشرعته رجاء أن يكون في حكمه ما هو أخف من حكم ما عندهم، لَا طاعة لحكمه، وخصوصا للحق عنده، ولذا قال سبحانه: (. . . فإن جَاءوكَ فَاحْكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) يومئ هذا النص الكريم إلى أنهم سيتحاكمون إليه، وقد تحاكموا إليه بالفعل لَا طلبا للحق والعدل، ولكن رجاء التخفيف عمن أرادوا التخفيف عنه، وروى في موضوع التحاكم الذي ذهبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحكم فيه عدة روايات تنتهي إلى خبرين:(4/2192)
أولهما - أنهم كانوا يقيمون حد الزنى، إلى أن زنى منهم شاب ذو شرف، فقال بعضهم لبعض؛ لَا يدعكم قومه ترجمونه، ولكن اجلدوه، فجلدوه، وحملوه على إكاف حمار؛ (برذعة) وجعلوا وجهه قبل ذنب الحمار، ثم زنى بعد ذلك وَضِيعٌ ليس له شرف وليس له من يحامي عليه، فقالوا: ارجموه، ثم وجد من بينهم من استنكر تلك التفرقة، فقالوا: كيف لم ترجموا الذي قبله، ولكن اصنعوا بهذا مثل ما صنعتم بسابقه، ثم قالوا: سلوه لعلكم تجدون عنده رخصة. وكأنهم استثقلوا إقامة الحد، وأرادوا أن يترخصوا، ويقبلوا حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فبين لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه حكم توراتهم يجب أن ينفذ، وأنه لَا يصح الفرار من هذا الحكم، وإن ذل الأمم يكون إذا غيرت الأحكام فيها لأجل الأقوياء، وبدلت على حسب الأهواء.
ثانيها - أن اليهود ما كانوا يعدلون فيما بينهم، ولا تتكافأ دماؤهم في نظرهم، فكانت قريظة إذا قتلت قتيلا من بني النضير كانت تَجِب الدية كاملة في حال وجوب الدية، وإذا قتلت النضير من قريظة كانت نصف الدية لشرف في الأولى ونقص في الثانية، ويروى أنهم كانوا إذا قتل رجل من بني النضير قرظيا لا يقتل به ووجبت الدية، وإذا كان المقتول نضيريا قتل به، فكانت في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بينهم دماءٌ، فتحاكموا، فحكم بالتسوية، لأن ذلك هو العدل، وهو حكم التوراة.
وقد خير الله تعالى نبيه في أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم، ولماذا كان ذلك التخيير، وإقامة العدل واجبة، وقد مكن من إقامته بتحكيمهم؟ والحقيقة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مخيرا ذلك التخيير، ليتعرف أمرهم، فإن كانوا يريدون الحق ويطلبونه ويذعنون له استجاب للأمر وحكم، وإن كان يعلم أنهم جاءوا مغرضين في قلوبهم مرض، لَا ينفذون إلا ما يتفق مع أهوائهم وليسوا خاضعين لسلطانه - ينفذ فيهم الحق الذي يراه، أما الذين يكونون تحت سلطانه وينفذ الحق فيهم، فإنه لا تخيير بل يقضى بينهم، وكذلك الأمر من بعده - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك قرر الفقهاء أن(4/2193)
الذميين في المعاملات المالية والزواجر الاجتماعية خاضعون للأحكام الشرعية، ولا يجيز الحاكم في الحكم بينهم بشرع الله تعالى؛ لأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، أما رعايا الدول الأخرى الذين يقيمون في ديارهم ويربطهم بالمسلمين الجوار وميثاق عدم الاعتداء، كما كان الشأن في يهود المدينة في أول أمرهم، قبل أن تظهر خيانتهم، ويضطر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى إجلائهم.
وهنا ملاحظة لفظية، وهي في قوله تعالى: (فَإِن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ).
لماذا كان التعبير بـ " إن " الدالة على الشك ولم يكن التعبير بـ " إذا " الدالة على التحقيق، مع أنهم جاءوا إليه فعلا؟ والجواب عن ذلك أن الشك كان بالنسبة لحالهم، فهم كانوا مترددين في التحاكم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهم بعد الحكم لم ينفذوا، فحالهم حال شك ابتداء وحال شك انتهاء، وعدم إذعان في الحالين؛ لأن في قلوبهم، كما قال تعالى في أشباههم: (أَفِي قلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّه عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ. . .).
ولقد زعم بعض العلماء أن الحكم الشرعي كان هو التخيير عند تحاكم غير المسلمين ثم نسخ، وصار الحكم لازما، والحق أن التخيير لَا يزال قائما بالنسبة لغير المسلمين الذين يطلبون حكم الإسلام من الحاكم المسلم لينفذوه في ديارهم، والتخيير ليتعرف الحاكم حالهم، فيحكم حتما إن كانوا طلاب حق، وله أن يرفض إن كان في قلوبهم مرض، ولا ضرر من الإعراض، ولذلك قال سبحانه: (وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا).
وإنه في حال الإعراض يصاب أولئك الذين يريدون الحكم لهواهم لَا للحق في ذاف - بخيبة أمل قد تحرك فيهم عناصر الضغينة والمقاومة، وإشاعة قالة السوء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فبين الله سبحانه وتعالى في ذكره الحكيم أنه لَا تضره هذه الأفعال، وقد نفَى سبحانه وتعالى الضرر نفيا مؤكدا بـ " لن " " لبيان أنهم لَا طاقة عندهم في أن يضروه، وكان نفي الضرر في هذا المقام له مغزاه، لأنَّ احتكامهم إليه - صلى الله عليه وسلم - فيه نوع من المسالمة والإذعان في الظاهر لما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو إعلان للتصديق،(4/2194)
فإذا أعرض، فقد يكون ثمة احتمال الضرر الذي ينال الدعوة الإسلامية، وشدة لجاجتهم في الباطل، فنفَى الله سبحانه وتعالى ذلك الضرر؛ لأن الإعراض يكون حيث يدرك النبي عليه الصلاة والسلام أنه لَا مجال لأن ينفذوا ما يحكم به، وأنهم يريدون أن يطوعوا أحكامه لأهوائهم، أو يتأولوها بغير المقصود منها، فيكون أكرم للدعوة، وأكرم لمقامه عليه الصلاة والسلام أن يذرهم في غيهم يعمهون، والله سبحانه وتعالى غالب على أمرهم.
(وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) القِسط هو:
النصيب بالعدل الذي لَا وكس فيه ولا شطط، وتوصف به الأعمال الطيبة، فقد قال تعالى: (. . . لِيَجْزِيَ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات بِالْقِسْطِ. . .).
وقال تعالى؛ (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ. . .).
والقَسْطُ أخذ نصيب غيره، والإقساط إعطاء غيره نصيبه غير منقوص؛ ولذلك قال العلماء: إن القاسط هو الظالم، ولذا قال تعالى: (وَأَمَّا الْقَاسطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا). والمقسط هو العادل، ومنه قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). والمعنى الجملي للنص الكريم: إن اخترت أن تحكم بينهم لرجاء أن ينفذوا الحكم ويذعنوا له، فلا تتبع أهواءهم واحكم بالعدل والقسطاس المستقيم، وذلك العدل بين الله تعالى حكمه، وشرع لزومه في كتبه المقدسة فإذا كان هناك زنى فالقسط أن يحكم بالحد، لَا فرق بين شريف وضعيف، وقادر وغير قادر، بل الجميع أمام الحق على سواء، فالقسط هو إعطاء كل ذي حق حقه، وتنفيذ حدود الله تعالى بالمساواة، فلا يعفى منها شريف دون ضعيف، فإن في هذا هلاك الأمم، وذل الشعوب.
وقد ذيل النص الكريم بقضية عامة شاملة، وهي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ). وفي ذلك تزكية للعدل وتأكيد لطلبه، فقد أكد الكلام بالجملة الاسمية، وبـ " إنَ " المؤكِّدة، وبتصدير الكلام بلفظ الجلالة، وببيان أن محبة الله تعالى لَا تكون إلا للعادلين المقسطين الذين لَا يجورون، وكان التعبير بـ " إنْ " في(4/2195)
قوله تعالى: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم). وهي تفيد الشك في اختياره عليه الصلاة والسلام الحكم بينهم لأنهم ليسوا طلاب حق وإنصاف بل يريدون الحكم كما يهوون، والدليل على أن اليهود ليسوا طلاب حق أن التوراة التي بأيديهم فيها الحكم صريح في الموضوع الذي تحاكموا فيه.
* * *(4/2196)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
(وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ... (43)
* * *
الاستفهام هنا للتعجب واستنكار حالهم، أي أن حالهم حال مستنكرة. عندهم النص الصريح في القضية التي يتحاكمون فيها، ومع ذلك يلتمسون الحكم في غير ما عندهم رجاء أن يكون على ما يهوون ويبتغون، وإن كان غير ما يؤمنون فهم ممن اتخذ إلهه هواه، وممن يريدون أن يتبع الحق أهواءهم، لَا أن تكون أهواؤهم تابعة للحق تسير في مداره، ولا تخرج عن إطاره، والتعجب والاستنكار يتجهان إلى أمرين:
أولهما - أنهم يتحاكمون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أن الحكم عندهم في التوراة صريح لَا مجال للريب، فلماذا يعدلون عن تنفيذ ما عندهم إلى طلب شيء عند النبي عليه الصلاة والسلام، إلا أن يكونوا مؤمنين بصدق ما جاء به، وذلك لم يكن منهم.
والأمر التالي - الذي هو موضوع الاستنكار والعجب أنهم يطلبون من النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يعرضون من بعد بيانه لهم. فهم متناقضون في جملة أحوالهم يطلبون الحكم ممن لَا يؤمنون بدعوته، مع أن الحكم صريح فيما يؤمنون ثم يعرضون عن الحكم الذي يتلاءم مع ما عندهم.
ويلاحظ أن القرآن الكريم يقرر أن التوراة فيها حكم الله في المسألة التي يختصمون إلى النبي عليه الصلاة والسلام في أمرها، فهي تصديق للتوراة في تلك الجزئية، وهي إقامة حد الزنى دون غيرها، فليس لأحد أن يحتج بأن القرآن يقر أحكام التوراة اقى كانت بأيدي اليهود في عصر النبي عليه الصلاة والسلام والتي بأيديهم في هذه الأيام، فإن تصديق ما بأيديهم في جزئية من الجزئيات لَا يقتضي(4/2196)
تصديقها في كل ما جاء بها مما في أيديهم، فقد نسوا حظا مما ذكروا به، وحرفوا الكلم عن مواضعه ولا شك أن التحريف لم يتناول الجميع، بل لَا تزال فيها أثارة مما نزل على موسى.
ومن المباحث اللفظية في النصِ الكريم التعبير بـ " ثم "، وبقوله تعالى " من بعد ذلك "، في قوله سبحانه: (ثُمَّ يَتَولَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ).
فإن الئعبير بـ " ثم "، والبَعدية والإشارة للبعيد للتفاوت النفسي المنطقي الكبير والتراخي المعنوي بعد الاحتكام إلى النبي عليه الصلاة والسلام والإعراض عن قوله بعد أن بين حكم التوراة فيما يحتكمون، ولكن المنافق المبطل في مفارقات مستمرة بينه وبين الحق، والمنطق السليم، والعقل المستقيم.
(وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) في هذا النص الكريم نفي لصفة الإيمان المطلق عن اليهود وأشباههم ممن يجعلون الحق تبعا لأهوائهم، والله سبحانه وتعالى ينفي صفة الإيمان بأي عقيدة أو مذهب؛ لأن الإيمان يقتضي طلب الحق وإدراكه والإذعان له وهذه ليست صفات هؤلاء، فهم لَا يطلبون حكم الحي بل يطلبون حكم الهوى، وأركسوا في الأهواء فلا يدركون، وبعدوا عن المنهاج المستقيم فلا يذعنون، فهم لا يؤمنون بالتوراة وإلا أذعنوا لحكمها، ولا يؤمنون بما جاء به النبي عليه الصلاة والسلام لأنهم جحدوا قوله وناوءوه، وناصبوه العداء فهم لَا يؤمنون بشيء.
والإشارة في فوله تعالى: (وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) إليهم بأوصافهم كلها من أنهم لا تستمرئ أسماعهم إلا الكذب، ويأكلون أموال الناس بالباطل، ويتميلون بالحق، ويفرقون في الحكم بين القوي والضعيف ومن كان هذا شأنهم لَا يمكن أن يدخل شيء من الإيمان قلوبهم. . اللهم احفظ الناس من شرهم، وهبنا الإيمان الصادق والإذعان للحق.
* * *(4/2197)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
* * *
ذكر سبحانه في الآيات السابقة ما عليه اليهود من أنهم كانوا سماعين للكذب، وأنهم يأكلون السحت، وأنهم لَا يتبعون الحق في أحكامهم، بل يجعلون الحكم تبعا لأهوائهم يفرقون في الأحكام بين الشريف والضعيف، والغني والفقير، والقوي المستعلي، والضعيف المستخذي، وأنهم جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض قضاياهم راجين أن يكون عنده ما يرضي أهواءهم، فكشف الله سبحانه وتعالى خبيئة نفوسهم، وبين أن الحكم عندهم ثابت فيها، وأن الإسلام لم ينسخه، وقضى عليه الصلاة والسلام به أو أشار عليهم باتباع ما عندهم في هذه المسألة إن كانوا طلاب حق، ثم بين سبحانه أن التوراه التي بأيديهم لَا يزال بها ذلك لم يغيروه.
وقد بين سبحانه وتعالى من بعد ذلك مقام التوراة في الأحكام التي قررتها لليهود، وتململوا بها، وخرجوا عليها، وكان ذلك من أسباب ضياعهم، وقساوة قلوبهم. فقال سبحانه: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ).
في هذا النص الكريم بيان لشرف التوراة قبل أن يحرفوها ومكانها من الحق، فبين سبحانه شرفها الذاتي، وشرفها الإضافي، بين أنها منزلة من عند الله(4/2198)
تعالى، فقال تعالت كلماته: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ) هو سبحانه وتعالى المنزل لها، وأكد ذلك الشرف بـ (إِنَّا)، وبإضافة ذلك التنزيل إلي " تعالت كلماته، وتقدست كتبه.
وبين سبحانه وتعالى شرفها الذاتي بما اشتملت عليه من هداية ونور، والهداية أو الهدى ما اشتملت عليه من بيان الأحكام في المعاملات والزواجر الاجتماعية وما يرشد إلى التطبيقات العملية، وأما النور فهو ما تشتمل عليه من مواعظ مبصرة، وأخلاق منيرة للحق، مقومة للسلوك مكونة للرأي العام الفاضل، وعبادات مطهرة للنفوس منيرة للقلوب، وبذلك تكون الهداية ما يتعلق بمعاملات الناس وتنظيم الجماعة والنور ما يتعلق بالعقيدة والعبادة والمواعظ، وسائر ما يتصل بالتوجيه النفسي وتطهير القلوب.
وقد فسرت الكلمتان بغير ذلك، فقد فسر الزمخشري كلمة " الهدى " بأنه: يهدي إلى الحق والعدل، و " النور " بما فيه بيان ما اسْتُبْهِمَ من الأحكام، والمؤدى على التفسيرين هو الرد على اليهود، وبيان وجه العجب في قوله تعالى: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ) بأنهم لو كانوا طلاب حق فالتوراة عندهم فيها الهداية إلى العدل وهي كاملة في بيانه وتوضيحه، لَا تحتاج إلى مبين، ولا إلى موضح.
ويجب أن ننبه هنا إلى أن التوراة التي فيها هذه الأوصاف من أنها منزلة من عند الله، وأنها هدى ونور - إنما هي التوراة التي لم يحرفوها، ولم يزيدوا عليها أو ينقصوا منها، فإنها دخلت فيها الزيادة والنقص عندما ضُربت أورشليم (1) بأيدي التتار والرومان، وحرقوها، فلا يحتج بهذا الكلام للتوراة التي بأيدي اليهود وغيرهم في هذه الأيام، فقد نسوا حظا مما ذكروا به، وزادوا ما لم ينزل من عند الله.
(يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ) التوراة الصادقة التي أنزلت من الله تعالى لم تكن شرائعها معَطلة بل كانت ثابتة معمولا بها، والذين
________
(1) أورشليم: بيت المقدس بالعبرانية.(4/2199)
كانوا يعملون هم النبيون الذين جاءوا من بعد موسى، فقد كانت التوراة الشريعة التي ينفذون أحكامها، ولم يكن عندهم ما ينسخ شريعة التوراة أو يبدل أحكامها أو بعض هذه الأحكام، ولقد وصفهم الله تعالى بأنهم: (الَّذِينَ أَسْلَمُوا) أي أخلصوا لله ولتنفيذ أحكامه، وأذعنوا للحق، ولا يحاولون أن يجدوا منه مناصا بتأويل، أو لإرادة تخفيف لشريف، وتشديد على ضعيف، وفي ذلك تعريض بما كان من اليهود من جعلهم للضعيف حكما صارما، وللشريف تهاونا ظالما، فإن خُلق النبيين الإخلاص وهو الإسلام والانقياد وتنفيذ حكم الله تعالى بقلب سليم، فذكر وصف الإسلام للنبيين، لبيان ما أوتوا من شرف الإذعان، وللإشارة إلى أن تنفيذ الأحكام من غير عوج ولا التواء هو خلق كل النبيين، ويقول بعض العلماء: إن ذلك تشريف لمعنى الإسلام إذ هو خلق الفضلاء، وخلق النبيين الصديقين، ويقول الإمام ناصر الدين بن المنير الإسكندري في ذلك: " إن الصفة قد تذكر للعظم في نفسها، ولينوه بها إذا وصف بها عظيم القدر، كما يكون تنويها بقدر موصوفها، فالحاصل أنه كما يراد إعظام الموصوف بالصفة العظيمة قد يراد إعظام الصفة بعظم موصوفها. . . فكذلك والله أعلم جرى وصف الأنبياء في هذه الآية بالإسلام تنويها به، ولقد أحسن الناظم في مدحه عليه الصلاة والسلام، إذ قال:
فلئن مدحت محمدا بقصيدتي ... فلقد مدحت قصيدتي بمحمد
فيقرر ذلك العالم الجليل أن وصف النبيين بالإسلام تنويه بشأنه، وإعلاء لقدره؛ إذ إن النبيين هم المصْطَفوْنَ الأخيار، فالصفات تعلو بهم، وهم قد علوا باختيار الله تعالى لهم.
وحكم هؤلاء الأنبياء الذين جاءوا من بعد موسى بالتوراة التي نزلت عليهم كان لليهود، فكانت فاصلا بينهم مقيمة الحق فيهم، فما بال اليهود يتململون من حكمها، ويخرجون عن سمتها، ويطبقونها على الضعفاء، ويعفون من أحكامها الزاجرة الأقوياء، إنما أهلكهم ذلك الجور، وهم لَا يعيشون إلا في أزمان الجور، وحيث كان العدل أذلتهم أخلاقهم، وأركستهم أهواؤهم.(4/2200)
(وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) وهذا النص يبين أن التوراة ما كان يطبق أحكامها النبيون فقط، حتى لَا يقال لسنا كالنبيين، وإن تطبيقها مقصور عليهم، ولكن الذين يطبقونها من غير النبيين يتصفون بصفتين: الإخلاص، والاتصال الروحي بالله، حتى يكون سمعهم الذي يسمعون به، وبصرهم الذي يبصرون به، والصفة الثانية: العلم الدقيق العميق، والإحاطة الكاملة بعلم الكتاب، بحيث لَا يكونون ممن يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض وهؤلاء هم الربانيون والأحبار.
والربانيون هم المنسوبون إلى الرب، وقد قال في تفسير هذا اللفظ الأصفهاني في مفرداته: " والرباني قيل منسوب إلى الربان، لفظ فعلان من فعل يبنى، نحو عطشان، وسكران، قلما يبنى من فعل، وقد جاء نعسان، وقيل هو منسوب إلى الرب الذي هو المصدر وهو الذي يرب العلم كالحكيم، وقيل منسوب إليه، ومعناه رلت نفسه بالعلم، وهما متلازمان؛ لأن من رب نفسه بالعلم فقد رب العلم، ومن رب العلم فقد رب نفسه، وقيل هو منسوب إلى الرب أي الله تعالى، فالرباني كقولهم إلهي، وزيادة النون كزيادته في قولهم لحياني وجسماني، قال على - رضي الله عنه -: " أنا رباني هذه الأمة ".
وخلاصة ذلك الكلام: أن كلمة رباني إما منسوبة إلى الرب بمعنى تربية النفس وتهذيبها، وجعلها خاضعة لله تعالى ولمقتضى العلم والتهذيب، فهو قد صفى نفسه من أدران الهوى، وإما منسوبة إلى الرب الخالق المبدع المتصرف، أي أن الشخص قد جعل نفسه خالصا لله تعالى كإلهي، أي أنه عابد عبادة جعلت لكل شيء في نفسه لله تعالى، والمعنيان وإن افترقا في التصريف والاشتقاق متلاقيان في المؤدى، إذ المؤدى أن الربانيين هم الذين صفوا نفوسهم، حتى كانت لله تعالى خالصة لَا تزيفها الأهواء ولا الشهوات، فالحق ملء قلوبهم، ولا يشغلها غيره (1)، والأحبار هم العلماء جمع حَبْر، أو حِبْر، وهما لغتان، وهو مأخوذ من
________
(1) أي لَا يشغل قلوبهم غير الحق.(4/2201)
معنى التزيين والتحسين؛ لأن الحبر هو الأثر الحسن ذو الرونق، ويكون المعنى الذين يجمعون العلم ويدرسونه ويزينونه بالقول الحسن والتطبيق الجيد، أو هو مأخوذ من الحبر مادة الكتابة لعنايتهم بتدوين علمهم وعرضه للناس، وإبقائه أثرا خالدا من بعدهم، والمفسرون على أن الربانيين والأحبار نوعان قد طبقوا حكم التوراة فالأولون صفت نفوسهم وربوها بالعلم والعبادة، والآخرون جمعوا العلم ورتبوه وعرضوه، وعلى هذا التفسير الذي يجعلهم نوعين متغايرين، نوجه القول فيه بأن الذين قاموا على التوراة صنفان: أحدهما - جمع علمها واستخرج ينابيعها، وأحاط بها، وآخرون طبقوها في الأقضية، أي أن الفقهاء وهم الأحبار قدموا خلاصة ما علموا نقيا محبرا تحبيرا جيدا، والآخرون وهم الربانيون طبقوه مجردين أنفسهم من كل شهوة وهوى، فالضعيف عندهم قوي، حتى يأخذوا الحق له والقوي منهم ضعيف حتى يأخذوا الحق منه، كما يفعل الربانيون من أمة محمد أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم رضي الله عنهم، وقدم الربانيون على الأحبار؛ لأنهم الذين يطبقون العلم على العمل، والمقام في الآية هو مقام التطبيق، فالعمل الواضح هو عمل الربانيين؛ لأنهم الذين يحكمون بحكم التوراة، وقد خص الله تعالى الفريقين بقوله تعالت كلماته: (بمَا اسْتُحْفطوا من كتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ).
" الباء " هنا متعلقة بـ " يحكم "، أي أن النبيين والربانيين والأحبار يحكمون بما في التوراة لأنهم حُمِّلوا أمانة حفظ كتاب الله، بحيث لَا يضيعونه، ولا يهملون أحكامه، وقد يقال إنها متعلقة بالربانيين والأحبار، على معنى أنهم أوتوا هاتين المنزلتين منزلة الربانية والعلم بسبب أنهم حملوا أمانة الكتابة وقاموا، و " استحفظوا " بالبناء للمجهول فيه بيان أنهم بمقتضى ما مُنحوا من صفات عهد إليهم أمر المحافظة على كتاب الله المنزل على نبيه، والمراد بكتاب الله هنا التوراة، وعبر عنها بكتاب الله تعالى للإشارة إلى منزلتها إبان نزولها قبل تحريفها، وإلى شرف من يقومون بحفظها، وإلى مكان التكليفات والأحكام التي اشتملت عليها، والاستحفاظ هو الحفظ المطلوب؛ إذ إن السين والتاء للطلب، والمعنى: أن الربانيين(4/2202)
والأحبار حفظوا كتاب الله تعالى بإلهامهم طلب الحق والعلم وتوجيههم نحو الخير، وكان حفظهم مؤكدا؛ لأنه استجابة لطلب الله تعالى الخبير، وحفظ الكتاب بعلم ما اشتمل عليه، ومنعه من الضياع والتحريف، وتنفيذ الأحكام التي يأمر بها، وطاعته فيما ينهى.
وكان أولئك الربانيون والأحبار شهداء، أي رقباء يحافظون على نصوصه كاملة، ويشهدون بصدق ما نزل من عند الله، ويردون المحرف، وكانوا أيضا رقباء على تنفيذه، بحيث ينفذ من غير عوج.
(فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) الخشية هي الخوف مع تعظيم المخشي ومحبته، فليست مرادفة لمعنى الخوف؛ لأن الخوف أعم من أن يكون من مرهوب معظم محبوب، أو مرهوب مبغض ذميم، أو فيه مهانة لا عظمة فيه؛ ولذلك عبر عن الأخيار بالنسبة لله تعالى بالخشية دون الخوف، ومن ذلك قوله تعالى: (. . . إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عبَاده الْعلَمَاء. . .).
وقوله تعالى: (. . . وَخَشيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْب ... ). وقال سبحانه: (. . . وَيَخْشَوْنَ ربَّهمْ وَيَخَافَونَ سُوءَ الْحِسَابِ).
و" الفاء " في قوله تعالى: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) هي للإفصاح، والمعنى: إذا كان الكتاب قائما وثابتا، ونفذه السلف والخلف إلى ما بعد عصر النبيين، فلا تخشوا الناس، والتعبير عن خوف الناس وملامتهم بالخشية من قبيل المشاكله اللفظية، في مقابل قوله تعالى: (وَاخْشَوْن). أي أن الله تعالى هو وحده الجدير بأن يخشى، كما قال تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ).
والخطاب موجه إلى اليهود المعاصرين للنبي - صلى الله عليه وسلم -وعلمائهم، وفي الكلام يكون التفات إذ انتقل الكلام من أخبار الأخيار منهم إلى خطابهم، والمعنى: لا تخافوا ملامة الناس ولكن اخشوا الله تعالى وحده، فلا تمالئوا الأقوياء وتركنوا إليهم، بل اجعلوهم جميعا سواء مع غيرهم من الضعفاء كما كان يفعل النبيون(4/2203)
والربانيون، الذين اقتفوا أثر النبيين ويكون معنى (وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا) لا تستبدلوا بأحكام آياتي، فتتركوها هاجرين لها معرضين عنها، في نظير رشوة أو ممالأة، فإن ما يكون ثمنا لترك الآيات قليل مهما يكن مقداره، ومهما يكن اعتباره، فآيات الله تعالى أغلى ما في الوجود؛ لأنها هدايته.
ولكن الخطاب " لا تخشوا "، و " اخشوا " ربما يكون أعلى من أن يكون لليهود الذين عاصروا النبي عليه الصلاة والسلام فقد وصفهم الله تعالى بأنهم سماعون للكذب أكَّالون للسحت، ولذلك أحيلُ إلى ما روي عن الحسن البصري من أن الخطاب للمؤمنين، فهم الجديرون بخشية الله تعالى، وهم الجديرون برفعة هذا الخطاب، وربما كان ما روي عن ابن مسعود من أن الخطاب عام للناس أجمعين هو الأسلم، وهو ما تدل عبارة صاحب الكشاف.
(وَمَن لَمْ يَحْكُم بمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) الإشارة في قوله تعالى: (فَأُولَئِكَ) للذين لَا يحَكمون بما أنزل الله، فهي إشارة تفيد أن النتيجة سببها الفعل، وهو تجنب حكم الله تعالى، وقد أكد سبحانه الحكم بالكفر عليهم بهذه الإشارة وبالجملة الاسمية، وبالفاصل (هم)؛ وبالقصر إذ هم مقصورون على الكفر، والكفر مقصور عليهم قصرا إضافيا، بمعنى أنهم بلغوا في الكفر أقصاه، حتى لَا يعد كفر غيرهم بجوار كفرهم شيئا مذكورا.
وهل يعد كل من يحكم بغير حكم الله تعالى الذي أنزله على رسله كافرا؟
يظهر لي أن الذي يحكم بغير حكم الله مستهينا به مستنكرا له، وقد يبلغ به الاستنكار درجة التهكم عليه يعد كافرا؛ لأن ذلك جحود وإنكار أو استهزاء بآيات الله إن كان يعلم أنها من عند الله تعالى، ويستنكر مؤداها، ومن جحد أحكام القرآن فقد كفر، وقد قال في ذلك عبد الله بن عباس: " من جحد حكم الله كفر، ومن لم يحكم به وهو مقر فهو ظالم فاسق " وبذلك يكون هذا النص واردا فيمن حكم بغير حكم الله تعالى منكرا. . اللهم املأ قلوب قومنا بالإيمان حتى يألفوا حكم الله، ويرتضوا كتابه حكما بينهم، ولا يجدوا حرجا في حكمه، إنك خير الحاكمين.
* * *(4/2204)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
(وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
* * *
هذا وصل لما ابتدأه الله سبحانه وتعالى من بيان مكانة التوراة التي أنزلت على موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، إذ قد بين سبحانه وتعالى أن التوراة فيها هدى ونور، وأنها قد طبقت أزمانا، وأن الذين طبقوها أنبياء موحى إليهم، وفقهاء استخلصوا أحكامها، وأرشدوا الناس إلى معانيها مؤمنين بها، ونفذها ربانيون يحكمون بالحق مبتغين مرضاة الله تعالى، ولا يبغون عن الحق حولا.
وفى هذه الآيات يبين الله تعالى من شريعة القصاص، فقد قال تعالت كلماته: (وَكتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ).
ومعنى النص الكريم أننا فرضنا وقررنا حكما مكتوبا خالدا غير قابل للمحو في أي عصر من العصور أن النفس مقابلة بالنفس تؤخذ بها، وتكون بدلا، النفس مأخوذة بالنفس، أو أن النفس عنها، فالباء هنا للمقابلة، كمقابلة بين الثمن والبيع، فكما أن المقابلة تكون في البيوع تكون في النفوس إذا اعتدت، وتصير نفس الجاني كأنها شيء من الأشياء وهو الذي أهانها.
وقوله تعالى: (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) يبين أن النفس بعمومها من غير تخصيص مقابلة بالنفس بعمومها من غير تخصيص، فالعبرة بالتساوي في الإنسانية، وفي النفس الآدمية، فلا تفاضل بين نفس غني وفقير، ولا نفس أمير وخفير، فالنفس بالنفس إن كان اعتداء، ونفس المرأة كنفس الرجل على سواء، ولا التفات لقول(4/2205)
الشذاذ الذين قالوا: إن نفس المرأة دون نفس الرجل، وبمثل قول هؤلاء الشذاذ كان يقول بعض الطوائف من اليهود، كما أخبر ابن عباس رضي الله عنه، وكان ذلك النص الكريم للرد عليهم، وبيان الحق الذي جاءت به التوراة التي أنزلت على موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وإن نفس الحر كنفس العبد بمقتضى ظاهر هذا النص الكريم، لأن كليهما يشترك في وصف الآدمية، وبذلك جاء الحديث النبوي الكريم: " من جوع عبده جوعناه، ومن قتله قتلناه " (1) فإن هذا الحديث صريح في المساواة بين نفس الحر ونفس العبد، ولو كان القاتل له مالكه الذي يملكه.
وإن هذا غير رأى جمهور الفقهاء إذ إنهم ينظرون إلى مالية العبد، ولا ينظرون إلى آدميته، وأما الذين قرروا أن السيد يقتل في نظير العبد، وأن العبيد يقتص لهم من الأحرار بمقدار ما أجرموا، فإنهم نظروا إلى آدميته والمساواة في النفس الإنسانية من غير نظر إلى كونه مملوكا أو مالكا، ومن غير نظر إلى كونه رقيقا أو حرا.
ولنا أن نقرر أن المساواة في الدماء بين الأحرار والعبيد هي الأمر الذي يتناسب مع مقاصد الإسلام إذ إن مصادر الإسلام وموارده تقرر منع ظلم العباد الذين كتب عليهم الرق، ولا شك أن أبلغ الظلم أن يقتلوا، والنبي عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة أوصى بالرحمة بهم، ولا شك أنه من الرحمة بهم احترام نفوسهم، وصيانة دمائهم، وأن الرق أمر عارض بالنسبة للعبيد، ولا يصح أن يكون الأمر العارض مزيلا للمعنى الإنساني الأصيل، بل هو ثابت فيهم لا يزول.
والنصوص العامة المتضافرة مثبتة وجوب القصاص في الأنفس من غير تفرقة بين نفس حر ونفس عبد، فالله تعالى يقول: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي
________
(1) سبق تخريجه.(4/2206)
الأَلْبَابِ. . .). ويقول تعالى: (يَا أَيُّهَا أذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى. . .).
والمقابلات التي جاءت في الآية من بعد، إنما هي لبيان اتحاد الأنفس ولنفي ما كان عليه أهل الجاهلية من تفرقة بين النفوس. بدليل تضافر الفقهاء على قتل الأنثى بالرجل، والرجل بالأنثى خلافا لبعض الشذاذ.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: " المسلمون تتكأفا دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم " (1). ومن التكافؤ في الدماء أن يقتل الحر بالعبد المسلم. وقال عليه الصلاة والسلام: " دماؤكم وأموالكم حرام عليكم " (2). ولم يفرق بين عبد وحر، ولو كان الحر لَا يقتل بالعبد، يكون ذلك في معنى إباحة دماء بعض المسلمين، وفوق ذلك ما ورد بالنص على أن المالك يقتل إذا قتل مملوكه الذي رويناه من قبل، والذي قرر أن العبد إذا قتله مولاه قتل به.
وقد استدل جمهور الفقهاء بما روى من أن علي بن أبي طالب قال: " إن رجلا قتل عبده عمدا متعمدا فجلده النبي - صلى الله عليه وسلم - مائة ونفاه عاما ومحا سهمه من المسلمين " (3)، وما روى من أن عمر - رضي الله عنه - قال: لو لم أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " لا يقاد المملوك من مولاه، ولا الوالد من ولده " (4)، لأقدته منك يخاطب من قتل عبده.
________
(1) سبق تخريجه.
(2) جزء من حديث رواه البخاري: العلم - رُبَّ مبلغ (67)، ومسلم: القسامة والمحاربين - تغليظ تحريم الدماء والأموال والأعراض (1679).
(3) عَنْ عَلِي وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدهِ قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ عَبْدَهُ عَمْدًا مُتَعَمِّدًا فَجَلَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِائَةً وَنَفَاهُ سنةً وَمَحَا سَهْمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. رواه ابن ماجه: الديات - هل يقتل الحر بالعبد (2664). والسهم النصيب من الغنيمة.
(4) روى أحمد: مسند العشرة (99) عَنْ مُجَاهد قَالَ: حَذَفَ رَجُلٌ ابْنًا لَهُ بِسَيْفٍ فَقَتَلَهُ، فَرُفِعَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: لَوْلا أني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لا يُقَادُ الْوَالِدُ مِنْ وَلَدِهِ لَقَتَلْتُكَ قَبْلَ أنْ تَبْرَحَ ".(4/2207)
وما روي من أن أبا بكر وعمر قالا: من قتل عبده جلد مائة، وحرم من سهم المسلمين. هذا ما استدل به جمهور الفقهاء، ونرى أنه لَا يقف أمام عموم النص، وأمام النص الخاص الذي رويناه، وفوق ذلك هو وارد في قتل المالك المملوك، وقد عارضه النص الصريح.
ولهذا نرى الأخذ بالمبدأ الإسلامي العام الذي يقرر حقوق العبيد على مواليهم ويحدد حقوق الموالي، وليس منها إباحة دمائهم.
(وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) هذا النص فيه القصاص بين الأطراف، فالعين تفقأ بالعين، أي أنها في مقابل العين أيضا، فـ " الباء " هنا باء المقابلة التي تدل على أن شيئا في مقابل شيء، وهي تدخل على المتروك، فالنفس المجني عليها تؤخذ بها النفس الجانية، والعين المجني عليها تؤخذ بها عين الجاني، وكذلك أنف الجاني تؤخذ بالجدع في نظير أنف المجني عليه، وكذلك أذن الجاني تصلم (1) في نظير أذن المجني عليه، وكذلك سنه بسنه، ومثل هذه في الحكم اليد باليد والرجل بالرجل، والإصبع بالإصبع، وهكذا كل طرف من الأطراف يمكن أن يجري فيه القصاص، فالقصاص ليس مقصورا على ما اشتمل عليه النص من العين والأنف والأذن والسن، بل يشمل هذا وغيره مما يمكن أن يتحقق فيه معنى القصاص، وقد أيدت ذلك النصوص القرآنية، فالله تعالى يقول: (. . . فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْه بمثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ. . .).
ويقول سبحانه: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقبُوا بمنلِ مَا عُوقبْتُم به وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ).
وهنا يجري القول في تساوى الأعضاء يالنسبة للأشخاص، فأشخاص النساء كالرجال، والأحرار كالعبيد على النحو الذي بينا من حيث قاعدة المساواة المطلقة
________
(1) أي تقطع أذنه، والصَّلْم الاستئصال، والأصلم: مقطوع الأذن، وهي صلماء، والجمع: صُلُم.
[الوسيط - صلم].(4/2208)
فى الإنسانية المعتدى عليها، وقد خالفنا بذلك النظر جمهور الفقهاء بالنسبة للمساواة بين الأحرار والعبيد، ووافقنا جمهورهم في المساواة بين الذكر والأنثى، وقررنا أن الذين خالفوا في ذلك من الشذاذ، كالطائفة التي قالت ذلك من بني إسرائيل، بل جاء النص الكريم الذي نتصدى الآن للكلام في معناه يرد الحق إلى نصابه، ويبين أصل الحكم في التوراة التي نزلت على موسى.
وجمهور الفقهاء على أن من يجري القصاص فيه في النفس يجري القصاص في الأطراف بالنسبة له، فأطراف المرأة كأطرف الرجل على سواء بينهما فإذا فقأ عين امرأة تفقأ عينه، وإذا كسر ثنية امرأة تكسر ثنيته.
وقد خالف فقهاء الحنفية جمهور الفقهاء، فلم يقرروا المساواة بين أطراف الرجل وأطراف المرأة، وبنوا ذلك على قياس عندهم قرروا فيه، أنه يلاحظ في الأطراف المنافع، ولا شك عندهم في منافع الأطراف عند النساء دون منافع الأطراف عند الرجال.
وفى الحق أن رأي الحنفية بنوه على قياس في معان ارتأوها، فقالوا: إن العبرة في الأطراف بمنافعها، ومنافع أطراف المرأة دون منافع أطراف الرجل، وإن الرأي لَا يقف أمام عموم النصوص والنصوص العامة لَا تخصص بالقياس، على أن القياس في ذاته غير سليم، لأن من المنافع المؤكدة ألا يكون الجسم شائها، والتشويه أضر بالمرأة من الرجل.
وقبل أن نترك الكلام في القصاص في النفس والأطراف لَا بد أن نشير إلى أمور ثلاثة:
أولها - أن جمهور الفقهاء قرروا أن الجماعة تقتل بالواحد، وقد يقول قائل: إن ذلك لَا يتفق مع معنى القصاص الذي أساسه التساوي، فلا تساوي بين الواحد والجماعة، وبذلك قال بعض الفقهاء، والحق ما عليه الجمهور؛ لأن كل واحد من الجماعة قد اشترك في القتل، فيسمى قاتلا، وقد أزهق نفسا فتؤخذ بها نفسه،(4/2209)
ولأنه اعتدى على حق الحياة، فكان الجزاء أن تؤخذ حياته، ولأن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، وقد قال سبحانه: (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا. . .).
وإن القصاص شرع للزجر العام، ولحفظ الدماء، ولو أعفى الشركاء في القتل من القصاص لكان من السهل على من يريد قتل إنسان أن يشرك معه غيره، فلا يكون قصاص من أحدهما، ولذلك شدد عمر وغيره من الصحابه في ضرورة قتل الجماعة بالواحد، وقد روي أن رجلا قتله جماعة بصنعاء، فاقتص عمر - رضي الله عنه - منهم، وقال - رضي الله عنه - " لو تمالأ أهل صنعاء عليه لقتلتهم. ثانيها - أن المساواة في الأطراف من حيث السلامة لازمة للقصاص، فلا تقطع السليمة في مقابل المعيبة، ولكن لَا يشترط التساوي من حيث القصر والطول، ولا من حيث الضعف والقوة، ما دام كلتا الجارحتين سليمة.
وحيث يتعذر التساوي لَا يكون القصاص بل تكون الدية، ويجب مع ذلك التعزير شفاء لغيظ المجني عليه.
ثالثها - أن بعض الذين لَا يدركون الأمور على وجهها يقولون: إن القصاص في الأطراف يكثر المشوهين، ويقلل المنافع، ويضعف إنتاج الأمة، والجواب عن ذلك أن القصاص في الأطراف من شأنه أن يقلل التشويه ويكثر النفع، لأنه إذا علم المعتدي أنه سيقطع طرفه إن قطع طرف غيره، وأنه ستفقأ عينه إذا فقأ عين غيره، فإنه سيكف عن الاعتداء، وبذلك تصان الجوارح جميعا، فلا - يكون إيذاء، وبذلك يقلل عدد المشوهين ولا يكثر، ويكثر النفع ولا يقل. (وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) والجروح غير قطع الأطراف المتميزة التي يجري فيها التماثل، مثل الشجاج بكل مراتبها، ومثل الجروح في أجزاء الجسم، وفصل بعضها عن بعض، والقصاص المقاصة، أي العقوبة بما يساوي الجريمة وما أنزلت(4/2210)
من أذى، والمعنى هنا أن الجروح ذات قصاص أي يجري فيها القصاص بالمساواة بين الجريمة وعقوبتها على أن تكون من جنسها وفي الوضع الذي كان فيه الجرح، فإن تعذر التساوي فإنه تكون دية الجريمة ويعبر الفقهاء عن العويض بالأرش.
والتعزير مع هذا ثابت شفاء لغيظ المجني عليه، ومنعا لإهدار الدماء بالثارات، وتبادل الأذى.
والقصاص يجري في الجروح إذا أمكنت المساواة على ما أسلفنا، ومهما يكن فالقصاص متى أمكن، ولو بالتقارب أولى، فإن المساواة من كل الوجوه غير ممكنة، فإن الأجسام متفاوتة، وآثار الجروح فيها متفاوتة، والأذى فيها غير ثابت المقدار حتى يقاس بالأشبار.
ولا شك أن القصاص الممكن، والتعزير مع الأرش (1) إن لم يكن هو أقرب إلى العدالة، وإلى حقن الدماء، واحترام الأنفس والمحافظة على الكرامة الإنسانية والمساواة هو الأردع للجناة، فإن من يعرف أنه ستُشَج رأسه إذا شج رأس غيره لا يقدم على الأذى، بل يتردد، وأنه كلما كانت العقوبة من جنس الجريمة كان ذلك مع عدالته أشد زجرا وتأثيرا، وإنه من يوم أن تغيرت العقوبة عن الجريمة استهين بالأنفس والأطراف، وأهدرت الدماء.
وهناك أمر اختلف فيه الفقهاء: أيجري القصاص في الضرب، كما يجري في الجروح؟ الظاهر ذلك من روح الشريعة وما تومئ إليه نصوصها وهو ما كان يسير عليه السلف الصالح رضي الله عنهم، وقد قاله بعض الحنابلة والظاهرية،
________
(1) الأرْشَ: ما يؤخذ عوضا عن كسر أو جرح. روى البخاري: الصلح - الصلح في الدية (2703) عن أنس أَنَّ الرُّبَيِّعَ وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ، فَطَلَبُوا الأَرْشَ، وَطَلَبُوا العَفْوَ، فَأَبَوْا، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُمْ بِالقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا، فَقَالَ: «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ القِصَاصُ»، فَرَضِيَ القَوْمُ وَعَفَوْا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» زَادَ الفَزَارِيُّ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، فَرَضِيَ القَوْمُ وَقَبِلُوا الأَرْشَ.(4/2211)
ولكنّ الكثيرين من الفقهاء لَا يلزمون بالقصاص في الضرب واللطم، بل يجرون فيه التعزير، وقد يكون بالتوبيخ. أو بالحبس أو بالضرب، وحجتهم أن الضرب واللطم لَا يمكن أن يجري فيه القصاص، بل المماثلة متعذرة، وحيث تعذرت قام التعزير مقامه في العقاب، والتعزير يكون على حسب تقدير القاضي المفوض إليه أمره.
وإننا نختار القصاص؛ لأنه الأقرب إلى العدالة، ولأنه يشفي غيظ المجني عليه، ولأنه هو الذي دعا إليه السلف الصالح وكانوا يسيرون على أساسه، وقد أيد ذلك النظر ابن القيم فقال رضي الله عنه:
" إن ضمان النفوس والأموال مبناه على العدل، كما قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مثْلُهَا. . .)، وقال سبحانه (. . . فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ. . .)، وقال عز من قائل: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صبرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصَّابِرِينَ)
، فأمر بالمماثلة في العقوبة والقصاص، فيجب اعتبارها بحسب الإمكان، والأمثل هو المأمور به، فهذا الملطوم المضروب قد اعتدى عليه، فالواجب أن يفعل بالمعتدي كما فعل به، فإن لم يمكن كل الواجب كان ما هو الأقرب والأمثل، وسقط ما عجز عنه العبد من المساواة من كل وجه، ولا ريب بأن لطمة بلطمة وضربة بضربة في محلها بالآلة التي لطمه بها، أو بمثلها، أقرب إلى المماثلة المأمور بها حسا وشرعا من تعزيره بغير جنس اعتدائه وقدره وصفته، وهذا هَدْيُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين ومحض القياس " ثم يقول: " فهذه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا إجماع الصحابة، وهذا ظاهر القرآن، وهذا محض القياس فعارض المانعون هذا كله بشيء واحد، وقالوا: اللطمة والضربة لَا يمكن فيها المماثلة، والقصاص لَا يكون إلا مع المماثلة، ونظر الصحابة أكمل وأصح، وأتبع للقياس، كما هو أتبع للكتاب والسنة، فإن المماثلة من كل الوجوه متعذرة، فلم يبق إلا أحد أمرين: قصاص قريب إلى المماثلة، أو(4/2212)
تعزير بعيد عنها، والأول أولى؛ لأن التعزير لَا يعتبر فيه جنس الجناية ولا قدرها، بل يعزر بالسوط أو العصا، وقد يكون من لطمة أو ضربة بيده، فأين حرارة السوط ويبسه إلى لين اليد، وقد يزيد وينقص، وفي العقوبة بجنس ما فعله تحرٍّ للمماثلة بحسب الإمكان، وهذا أقرب إلى العدل الذي أمر الله تعالى به وأنزل به الكتاب والميزان، فإنه قصاص بمثل ما نزل بذلك العضو في مثل المحل الذي ضرب به بقدره، أو يزيد قليلا أو ينقص قليلا، وذلك عفو لَا يدخل تحت التكليف ".
سقنا هذا الكلام مع طوله لأن فيه توضيحا للنظرة الإسلامية السليمة في المساواة والتماثل بين الجريمة والعقوبة، وإن ترك تلك السنة إلى التعزير أدى إلى التفاوت بين الناس في العقاب، وذلك ما لَا يقره الكتاب ولا السنة ولا يؤيده قياس، بل يؤيده أعراف فاسدة، وأخذ ظالم بنظام الطبقات المفرِّق. (فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كفَّارَةٌ لهُ) الكفارة ستر الذنوب، بألا يحاسب عليها بين يدي الله تعالى، بل يغفرها الله تعالى له ويسترها فلا يظهرها، بل تكون عند الله تعالى من التائبين المنيبين إليه سبحانه، تقدست ذاته، وتعالت صفاته.
وهذا النص يفتح باب التسامح من المجني عليه، وهذا يدل على أن العقوبة لم يقصد بها الانتقام المجرد، بل قصد الزجر، وإشعار الجاني بأن سوط العقاب مسلط عليه؛ ولذلك دعا القرآن الكريم إلى العفو إن كان له موضعه، فقال تعالى: (. . . فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ. . .).
فكان في هذا النص تحريض على العفو بذكر الأخوة الرابطة، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما حكم بالقصاص دعا إلى العفو، ولكن بعد أن يعطي لولي الدم أو المجني عليه زمام الأمر وتمكينه من القصاص ليشفي غيظه، ويردع الجاني بجعل حياته أو جسمه رهن إشارته.
وفى قوله تعالى: (فَمَن تَصدَّقَ بِهِ) الضمير يعود إلى القصاص، والمعنى من تصدق بهذا القصاص على الجاني، فإنه صدقة كسائر الصدقات، والصدقة كما(4/2213)
قال عليه الصلاة والسلام " تطفئ الخطيئة، كما يطفئ الماء النار " (1) وإذا كان العفو صدقة فهو كفارة ساترة للذنب مذهبة للعقاب، ويرجى معها الثواب، وقد قال تعالى: (. . . إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ. . .).
ومذهب الإسلام في إلزامه القضاء الحكم بالقصاص وفتح باب العفو - توسط بين ما جاء في التوراة من القصاص، وما جاء في المسيحية من عفو، فكان المسلمون أمة وسطا.
ويلاحظ أن العفو أو التصدق بالقصاص يسقط حق المجني عليه، ولكن لا يسقط حق المجتمع من ضرورة العمل على منع ارتكاب الجرائم، فلولي الأمر أن يحكم بتعزيره إذا عفا ولي الدم، والتعزير عقوبة غير مقدرة يراها ولي الأمر رادعة.
(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُم الظَّالِمُونَ) ختم سبحانه وتعالى الآية الكريمة بهذه العبارة، وفيها إشارة إلى أن هذا القصاص حكم الله تعالى الذي لا يتغير ولا يتبدل؛ ولذلك كان في شريعة موسى عليه السلام، وفي شريعة النبيين من بعده، وجعلها القرآن الكريم شريعته، وفيه إشارة إلى أن العدالة التي أوجبتها المساواة بين الجريمة وعقوبتها من غير هوادة من أخذ المجرم بجريمته إذا أصر عليها ولي الدم أو المجني عليه - هي حكم الله تعالى الخالد الباقي المنزل على رسله.
ونجد النص هنا يحكم بأن من لم يحكم بما أنزل الله تعالى يكون ظالما، وفى الآية السابقة نص على أنه كافر، والسبب الذي يظهر لنا في ذلك أن الآية الأولى كانت تذكر ما اشتملت عليه التوراة من هداية ونور، فكان الذين لَا ينفذون أحكامها مع ما هي عليه منكرين لتلك الأوصاف العالية التي اشتملت عليها من غير تبديل، فكانوا بذلك كافرين، أما هذه الآية فإنها تشتمل على أحكام عملية، فعدم الأخذ بها يتضمن ظلما؛ لأنها عدل في ذاتها، ومشتقة من قانون الفطرة
________
(1) سبق تخريجه.(4/2214)
الإنسانية. . وفق الله تعالى المسلمين للعمل بشريعته، والأخذ بكتاب الله وسنة رسوله فبهما عزُّوا، وبهما يعتزون إن شاء الله تعالى.
* * *
(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
* * *
ذكر الله سبحانه وتعالى ما يتعلق بالتوراة من وجوب التزام أحكامها، وتنفيذها، وأنه قد نفذت تلك الأحكام على يد النبيين، وطبقوها على أكمل وجوه التطبيق، وجاء من بعدهم العلماء الذين فقهوا معانيها ودونوا فقهها، والقضاة الذين خلصوا أنفسهم من أدران الهوى، وسلطان الشهوات، حتى صاروا ربانيين يقومون على الحق والقسط، ويشهدون الله على ما يفعلون، فهم شهداء الله تعالى، لَا يخضعون لغيره، ولا يريدون إلا رضاه، ولا يبتغون غير سبيله سبيلا.
وفى هذا النص الكريم يذكر سبحانه أن عيسى - عليه السلام - جاء من بعدهم يصدق ما بين يديه من التوراة، وأتى معه بالإنجيل وفيه أحكام مقررة للتوراة، أو ناسخة أو مبينة، وأن على أهل الإنجيل الذين نزل عليهم وخوطبوا به أن يطبقوه، حتى تأتي الأحكام الخالدة القررة الثابتة إلى يوم القيامة التي نزلت بها شريعة القرآن كما ستدل على ذلك النصوص القرآنية التالية.(4/2215)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) أي أرسلنا من بعد الذين حكموا بالتوراة من النبيين كداود وسليمان ومن قبلهما ومن بعدهما(4/2215)
- بعيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسلام - مقتفيا آثارهم مصدقا لما بين يديه من التوراة. . . وهنا بحوث لفظية تتبين من ذكرها معاني النص الكريم: أولها - في معنى " قفينا "، فقد قال علماء اللغة ومفسرو البيان: إن " قفَّى " معناه عقب، ويقال قفَّيته بكذا أي أتبعته به، وهنا نجد المفعول محذوفا، فلم يكن النص قفيناهم بعيسى ابن مريم، وحذف لأن كلمة (عَلَى آثَارِهِم) تدل على المحذوف، إذ إن المحذوف هو النبيون السابقون الذي يحكمون بالتوراة، وكلمة " على آثارهم " تدل على أنهم هم الذين اقتفيت آثارهم.
وذكر كلمة " على آثارهم " تدل على أن عيسى - عليه السلام - لم يكن بدعا من الرسل، بل سبقه آخرون سلك مسلكهم في إقامة التوراة وما بقي منها غير منسوخ بحكم ما جاء في الإنجيل، وآثار أولئك النبيين هي الحكم الخالص لله الذي اتبعوه في تنفيذ أحكام التوراة، فآثارهم معنوية وليست مادية.
وقال علماء الاشتقاق في اللغة: إن كلمة قفى مأخوذة من القفا، وهو مؤخر الرقبة، يقال: قفا أثره إذا جاء من ورائه واتبعه في سيره حسا، ثم صار يطلق على السير وراءه معنى، كالشأن في كثير من الألفاظ التي تدل على معان حسية، فإنها تنتقل من بعد إلى مدلولات معنوية.
ثاني الأمور البيانية - هو في ذكر عيسى في القرآن مقرونا بكلمة " ابن مريم "، لأن ذلك يتضمن ولادته الحسية منها، وأنه قد تكون جسمه من جسمها كسائر كل المولودين من أمهاتهم، وفي ذلك إشارة إلى أنه محدث ككل المحدثات، وأنه كان من بعد أن لم يكن، وأنه لَا نسب له إلا من جهة أمه البتول عليها وعليه السلام، فليس له أب، وليس ابن الله تعالى، بل هو ابنها وحدها، ولا نسب له إلا إليها.
ثالثها - قوله تعالى: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ). وتصديق سيدنا عيسى للتوراة، لأنها كتاب في أصلها منزل من عند الله تعالى، فعيسى عليه(4/2216)
السلام يصدق أصل نزولها، وينفذ أحكامها إلا ما جاء نسخه في الإنجيل منها، ولو سايرنا الواقع عند النصارى في هذه الأيام لكان لذكر كلمة التصديق في هذا المقام معنى أعمق من مجرد التصديق بأصل النزول، بل بالتنفيذ، لأن الإنجيل ليس فيه أحكام عملية كثيرة، فأحكام الأسرة كلها مأخوذة عند النصارى من التوراة، وليس ثمة نص قاطع في الأناجيل التي بين أيدينا يغاير ما جاء في التوراة من أحكام تتعلق بالأسرة، ولا بأحكام العقوبات من حدود وقصاص، ولقد رويت عبارات عندهم منسوبة للمسيح - عليه السلام - تدل على العمل بأحكام التوراة، مثل قوله عليه السلام: " ما جئت لأنقض الناموس " وهو التوراة، ولعل التعبير بآثارهم يدل من بعد أو قرب على معنى هذا التصديق العملي، فضلا عن التصديق الاعتقادي والقولي.
وكلمة " بين يديه " تعبير قرآني، للدلالة، على أن التوراة كانت حاضرة قائمة وقت مجيء عيسى - عليه السلام - وعلمها عنده، وهو علم خالي من التحريف والتبديل، أوحى الله تعالى به إليه، ولفظ بين يديه في دلالته على الأمر المهيأ القائم من الاستعارات الرائعة، ومضمونها أن الأمر معلوم علما يقينا لعيسى ابن مريم عليه السلام كعلم المحسوس يكون موضوعا بين يديه.
ومن الفروق الدقيقة أن الله تعالى عبر عن مجيء عيسى بالإنجيل بقوله تعالت كلماته: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم). وعندما أخبر عن مجيء محمد - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن قال تعالت كلماته: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ. . .). فهو ليس منفذا، ولكن هو مسيطر وحاكم على ما سبق من كتب.
(وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) عقب السيد المسيح - عليه السلام - الأنبياء الذين نفذوا أحكام التوراة، وطبقوها تطبيقا دقيقا من غير هوادة، ولا ظلم، ولا شطط مع الضعفاء، ومحاباة للأقوياء، وقد أعطاه الله تعالى قوة في رسالته، فأعطاه كتابا هو الإنجيل، وهو البشارة برحمة الله(4/2217)
تعالى، والبشارة بمجيء نبي الرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم - والتعبير بـ " آتيناه الإنجيل " فيه إشارة إلى تقوية ما جاء به، وإشارة إلى أنه ليس كل ما في التوراة نافذا وإن كان جله نافذا، وخصوصا ما يتعلق منه بتنظيم المجتمع في كل درجاته من الأسرة الصغرى إلى الأسرة الكبرى، وهي الإنسانية في أقاليم الأرض، فالإنجيل قد جاء بشريعة متممة لما جاء في التوراة من غير نقض لها.
وقد وصف الله سبحانه الإنجيل بأوصاف ثلاثة، وبين أنه مشتمل على أمرين، وجملة ما ذكر القرآن الكريم - تعالت كلمات الله - أن فيه خواص خمسا؛ وهي أن فيه هدى، وأن فيه نورا، وأنه مصدق للتوراة، وأنه هو ذاته هدى، وأنه موعظة للمتقين.
ولنتكلم بكلمات موجزات في معاني كل خاصة من هذه الخواص، لتتبين المغايرة بينها، ولتتميز كل خاصة عن أخواتها وإن كانت متقاربة في معانيها، ومتلاقية في غايتها:
والخاصة الأولى - أن فيه هدى؛ أي أنه اشتمل على الهدى، وهو الدلالة الحق على تنزيه الله تعالى ووحدانيته، وأنه المستحق للعبادة وحده، وأنه ليس بوالد ولا ولد، وأن عيسى هو ابن مريم وحدها، ونسبه إليها، وليس له لله تعالى نسبة إلا أنه خلقه بكلمة كن فيكون، فهو بهذا المعنى كلمة الله تعالى، وقد ألقاها إلى مريم، وروح القدس وهو جبريل الذي بلغها، وفيه بيان أن عيسى - عليه السلام - رسول الله تعالى وقد خلت من قبله الرسل.
وهذه الهداية تقرير للحقيقة الثابتة من مبدأ الوجود؛ لأنها تدل على صفات منشئ هذا الوجود.
أما الخاصة الثانية - فهي أنه مشتمل على نور مرشد موجه هاد، فإذا كانت الخاصة الأولى مقررة لأمر ثابت قد وقع، فالخاصة الثانية مثبتة لأمر آخر يتعلق بالمستقبل، وهو أنه يضيء وينير لتمييز الحق من الباطل، وبين ما جاءت به رسالة(4/2218)
المسيح من دعوة البشر إلى الخير وإلى صراط مستقيم فالإنجيل بإضافة هذه الخاصة إلى سابقتها يكون مشتملا على أمرين: أولهما - تقرير للحقيقة الثابتة الخالدة، وهي وحدانية الله تعالى في الإنشاء والتكوين، والذات والعبادة. وثانيهما - أنه مرشد إلى مكارم الأخلاق ومنير العقول لإدراك المستقبل، ويدخل في ذلك بشارته بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو " البارقليط " كما جاء في نسخة متى، وكما قال تعالى على لسان عيسى عليه السلام: (. . . وَمبَشِّرًا بِرَسولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ. . .).
والخاصة الثالثة - وهي وصف لذات الإنجيل، وقد ذكرها سبحانه بقوله تعالى: (مصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ). أي أن الإنجيل قد كان بذاته مصدقا للتوراة من حيث صدق نسبتها إلى الله تعالى قبل تحريفها، وقبل أن ينسوا حظا منها. ولا تكرار في وصف التصديق، لأن ما ذكر أولا كان وصفا لعيسى - عليه السلام - إذ قال سبحانه: (وَقَفَّيْنَا عَلَى آتارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا). وأما ما ذكر هنا فهو وصف للإنجيل نفسه، وكأن التصديق من جانب عيسى - عليه السلام - للتوراة جاء من ناحيتين، من عيسى، ومن الإنجيل ذاته، وتلاقى التصديقين يفيد إقرار أكثر أحكام التوراة الاجتماعية والقانونية، ويفيد أن رسالة الرسل متصلة موصولة، حتى يختمها محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو خاتم النبيين، وآخر لبنة في صرح الرسالات الإلهية.
والخاصة الرابعة - وهي من صفاته الذاتية أنه هو ذاته هدى، وسبب وصفه بهذا الوصف بعد ذكر أنه قد اشتمل على هدى ونور هو استمرار الهدى له، وللإشارة إلى أنه منزل من عند الله تعالى، وهو بهذا الوصف يكون فيه دلالة ذاتية على الحق، ولأنه بشارة بنبي يرسل من بعد عيسى اسمه أحمد، وكان الهدى في هذا المقام وصفا ذاتيا؛ لأنه مأخوذ من اسمه؛ إذ إن الإنجيل معناه البشارة، ولعله سمى إنجيلا، لأنه الكتاب المنزل الذي كان فيه البشارة المباشرة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - بعبارات إن لم تكن صريحة فهي واضحة كالصريحة.(4/2219)
والخاصة الخامسة - أنه " موعظة للمتقين " والموعظة هي التذكير بما يرق له القلب، وتصفو به النفس ويستقيم به العمل، فقد قال الخليل بن أحمد في تفسير الوعظ: (هو التذكير بما يرق له القلب) والإنجيل كان كذلك، لأنه توجيه بني إسرائيل ومن كان على شاكلتهم من الماديين الذين أركستهم المادة واستولت على قلوبهم - إلى الحياة الروحية، والتهذيب النفسي، وجعل الروح هي المسيطرة من غير ترك لحظوظ الدنيا المباحة التي لَا تستغرق النفس.
ومن أجل ذلك وصف بأنه موعظة، ولكن لَا يستفيد منه إلا الذين امتلأث نفوسهم بالخوف ورجاء ما عند الله، وهم طالبو الحق المهتدون، لأنهم هم الذين يستفيدون من العلم الذي يلقى، فالنفوس أقسام ثلاثة: قسم يطلب الحق، ويثمر فيه بيانه، وقسم يجمد على ما عنده، ويكون صلدا لَا ينفذ العلم إلى قلبه، إذ تحول بينه وبينه غشاوة من الباطل فهو أغلف، وقسم متردد حائر، تسيره الأجواء التي تحكمه وتسيطر عليه، ولا شك أن الذي يستفيد من المواعظ هو طالبها المتقبل لها، الذي تتشبع نفسه منها، وأولئك هم المتقون، وأما القسم الثالث، فإنه ترجى له الهداية رجاء غير محقق، وإن مثل العلم النافع لمثل الغيث لَا ينتفع منه إلا الأرض الطيبة التي تخرج نباتها بإذن ربها، والعلم لَا ينتفع به إلا القلوب الطاهرة التي لم ترنقها أغراض الدنيا وأهواؤها.
* * *(4/2220)
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
(وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ... (47)
* * *
في هذا النص الكريم قراءات نذكر منها قراءتين في قوله: " وَلْيَحْكُمْ ": أولاهما - قراءة حمزة بكسر اللام وفتح الميم (1)، وتكون اللام للتعليل، ويكون في مقام العطف على ما سبق، لأنه في معنى التعليل، ويكون المعنى على هذه القراءة: (وآتينا عيسى ابن مريم الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين. وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل فيه)، وأهل الإنجيل هم من عاصروا المسيح عليه السلام، ومن
________
(1) قرأها بكسر اللام وفتح الميم حمزة، وقرأ الباقون بإسكان اللام والميم. غاية الاختصار - أبوالعلاء الهمذاني العطار ج 2.(4/2220)
جاءوا بعدهم حتى بعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، إذ يجب العمل بشريعته حتى يجيء ما ينسخها، فالعمل واجب بشريعة الإنجيل من أهل الإنجيل، فلما جاءت شريعة محمد عليه الصلاة والسلام صاروا أهل شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
والقراءة الثانية بسكون اللام، وسكون الميم على أن اللام للأمر (1)، وسياق الكلام على هذا يوجب تقدير محذوف، وهو (قلنا) مثلا ليكون متقابلا مع أهل التوراة الذين قال تعالى فيهم: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. . .).
فالمعنى: وقلنا ليحكم أهل الإنجيل. وعلى هذا التقدير يكون العمل بالإنجيل سابقا على نزول القرآن.
وإذا لم تقدر كلمة قلنا، فإن الكلام لَا يدل على إقاء شريعة الإنجيل للنصارى؛ وذلك لأنه بعد بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - صاروا هم أهل القرآن؛ لأنهم هم الذين يخاطبون برسالته، ومعهم غيرهم من الخليقة، فكل الذين يدركون نبيا هم أهل رسالته التي يخاطبون بها، لَا فرق بين قريب دان، وبعيد قاص، وأيضا فإن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - قد نسخت ما يخالفها مما سبقها، إذ شربعة القرآن هي المهيمنة على ما عداها، كما قال تعالى:
________
(1) السابق.(4/2221)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْن يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ). وهذه الهيمنة توجب العمل بما أقره من الكتب السابقة، وبطلان العمل بما نسخه منها. الإنجيل الذي له تلك الأوصاف السابقة هو الذي لم يجرِ فيه التحريف، وهو خاص بالحكم فيما قبل البعث المحمدي.
(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) في هذا النص الكريم الحكم على من لم يحكم بما أنزل الله تعالى بالفسق، أي الخروج عن جادة الحق، والسنن المستقيم والخلق الكريم، وكان الحكم بالفسق هنا مناسبا لمواعظ الإنجيل الذي نزل على عيسى وهدايته؛ لأن تعريف القرآن الكريم له فيه إشارة إلى ما اسشمل من أخلاق روحانية قويمة، وهداية سليمة، والمناسب لمن لم يحكم به أن(4/2221)
يكون فاسقا خارجا شاذا تاركا لمعاني الإنسا نية الروحانية العالية، وهنا بحث لفظي يتكون من عناصر ثلاثة.
أولها - أن التعبير بـ " مَن " يدل على الجمع هنا بدليل قوله تعالى: (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)؛ لأن أولئك إشارة إلى الجمع، وهم ضمير الجمع، وكأن التعبير بالموصول للدلالة على أن الحكم الفردي كالحكم الجماعي، فكل من تتحقق فيه الصلة، وهو ألا يحكم بما أنزل الله تعالى - يكون فاسقا آحادا أو جماعات.
ثانيها - أن المراد بالحكم يشمل حكم القضاء وحكم العمل، فمن لم يعمل بما جاء في الإنجيل، وهو من أهله فقد فسق عن أمر ربه.
ثالثها - أن النص يفيد أن علة استحقاقه لوصف الفسق هو أنه لَا يحكم بما أنزل الله تعالى.
والحكم بالفسق شرطه ألا يكون ثمة جحود لما أمر الله وإلا كان كفرا. .
اللهم ثبتنا على قول الحق والعمل به، واكتبنا في عبادك الصالحين.
* * *
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
* * *(4/2222)
هذا تتميم لما ذكره سبحانه وتعالى من كتب، وبيان تعاقب الرسل المعروفين ذوي الشرائع التي سنت الأحكام وعبّدت المناهج، فقد ذكر سبحانه وتعالى أنه أنزل التوراة وشرع ما فيها من أحكام، وأن على أهل التوراة أن يحكموا بها، ثم أعقب الإنجيل التوراة، وأتى بأحكام يجب تنفيذها، وأكد ما اشتملت عليه التوراة مما لم يجئ نسخ بها، وأتم الله سبحانه وتعالى البيان بذكر رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وبه تمت الرسالة الإلهية، وكملت شرائع الله تعالى، وقد قال تعالت كلماته: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) في هذا النص السامي، نجد بعض إشارات بيانية تشير إلى مكانة القرآن بين الكتب السماوية، وتبدو هذه الإشارات في ثلاث نواح:
الناحية الأولى - أنه سبحانه لم يقل وقفينا على آثارهم بمحمد أو نحو ذلك، بل بين سبحانه أنه أنزل الكتاب، وفي ذلك إشارة إلى معنى استقلاله، وأنه لم يكن فيه تبعية لغيره من الكتب، بل هو مستقل بالمكانة منفرد بها من غير تبعية أيا كان نوعها، وأيا كان مقدارها، وذكر الكتاب دون ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - صراحة للإشارة إلى مكانة الشريعة الإسلامية وكتابها الكريم الباقي والخالد إلى يوم القيامة، وهو معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا ذكرها سبحانه في مقام الإكبار والتفخيم يكون بيانا لمكانة الرسالة المحمدية، وبيان أن حجتها أقوى الحجج، وأشدها تثبيتا، وأبقاها في هذا الوجود، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الكتاب من غير تعريف سوى ذلك، و (أل) كما قال علماء اللغة للعهد، وفي ذلك إشارة إلى كماله، أي أنه " الكتاب " الذي هو جدير باسم الكتاب، بحيث إذا أطلق اسم الكتاب لا ينصرف إلا إليه؛ لأنه الفرد الكامل من بين الكتب في هذا الوجود.
وقد زاده الله تعالى شرفا فنسب الإنزال إليه سبحانه، وفي ذلك تأكيد لمنزلته العالية السامية.
الناحية الثانية - من الإشارات البيانية المبينة لمكان القرآن - هو بيان أنه سجل الرسالات السابقة، والشاهد بصدقها فهو مصدق لكل الكتب السابقة،(4/2223)
المنزلة قبل تحريفها، وفيها دلائل نبوة الأنبياء السابقين، ومعجزاتهم، والكتاب الآخر في قوله تعالى: (مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ). هو جنس الكتب السماوية السابقة، فـ (أل) فيه للجنس، أي أنه في القرآن الكريم الدلائل المثبتة لصدق ما يصح أن يسمى كتابا سماويا من الكتب السابقة بما فيها الإنجيل والتوراة والزبور، ويصح أن يكون (أل) للعهد أيضا، وهو العهد الذكرِي، إذ ذكر من قبل كتابان من الكتب السماوية وهما التوراة والإنجيل، وعبر عنهما بالكتاب باعتبار الجنس، ولأن كليهما متمم للآخر، فهما في معنى كتاب واحد.
والناحية الثالثة مما يدل على مكانة القرآن - هو أنه يهيمن على الكتب السابقة، فقد قال تعالى في مقامه بالنسبة لغيره من كتب السماء: (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ). والمعنى أنه حاكم بصحة ما فيه، وشاهد بصدقه، ومقرر لمعانيه الباقية التي لم يعترها نسخ، وفوق ذلك يتبين الصحيح الذي نزل، ويشير إلى المحذوف الذي حذفه الأخلاف، إذ نسوا حظا مما ذكروا به، وهناك قراءة بفتح الميم، ذكرها الزمخشري في الكشاف (1)، ويكون المعنى أنه (مهيمَن) عليه أي مراقَب محفوظ، كما قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وِإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ). وقد وضح الزمخشري المعنى على هذه القراءة بقوله رضي الله تعالى عنه: " أي هُومِنَ عليه بأن حفظ من التغيير والتبديل، كما قال تعالى: (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ. . .). والذي هيمن عليه الله عز وجل أو الحفاظ في كل بلد، لو حُرِّفَ حَرْف منه أو حركة أو سكون لتنبه له كل أحد، ولاشمأزوا رادين ومنكرين ".
أي أن الله تعالى هيمن عليه وحفظه إلى يوم الدين، والحفَّاظ للقرآن جيلا بعد جيل هم بتوفيق الله تعالى شاهدون مانعون لكل تغيير وتبديل؛ لأنهم يحفظونه في صدورهم، ولا يتركونه للقرطاس الذي قد يرد عليه المحو والإثبات والتغيير والتبديل، وبذلك اختص القرآن بالصيانة من بين الكتب السماوية، وهو
________
(1) وهذه القراءة ليست في العشر المتواترة.(4/2224)
قد حفظه بنصه وقراءاته، وطريق تلاوته، فالله سبحانه وتعالى هو الذي رتله ترتيلا، بتعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك كما قال تعالى: (وَقَالَ الَّذينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا).
(فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) الفاء هنا للإفصاح؛ لأنها تومئ إلى شرط مقدر، والمعنى على هذا: إذا كان الكتاب قد أنزل إليك من لدن الله العلي القدير عالم غيب السماوات والأرض، وأنه يهيمن على الكتب السابقة ومحفوظ بحفظ الله تعالى إلى يوم الدين؛ فاحكم بين اليهود والنصارى ومن يعاصرونك من الناس بهذا الذي جاء به، لأنه نزل لتحكم به أنت ومن يتولى الحكم من بعدك، ولم يقل سبحانه وتعالى لتحكم به، بل ترك الضمير، وعبر بالموصول للإشارة إلى أن السبب الموجب للحكم أنه منزل من عند الله، إذ إن الموصول إذا كان في ضمن حكم تكون الصلة هي علة الحكم، والسبب فيه، وعلى ذلك يكون حكم القرآن وهو حكم الله تعالى الذي لَا يختلف باختلاف العصور، ولا يتغير بتغير الأوقات؛ لأنه شريعة الله الذي هو بكل شيء عليم، يعلم الناس وما يصلح لهم في ماضيهم وقابلهم، وهذا يفيد أن اليهود الذين عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن جاءوا بعدهم مخاطبون بشريعة القرآن، وأنه نسخ ما قبله من الشرائع، إلا ما جاء النص بوجوب العمل به كالقصاص، أو ما لم يثبت أنه نسخ، والمعول في الحالين هو القرآن وما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام، ولقد روى أنه عليه السلام ذكر أن موسى لو كان حيا ما وسعه إلا الإيمان به عليه الصلاة والسلام. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) الضمير في قوله تعالى: (أَهْواءَهُمْ) يعود إلى اليهود الذين تحاكموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأرادوا أن يحكموا بما لم ينزل من عند الله، مع أن الحكم عندهم في التوراة التي بأيديهم منصوص عليه، ولم ينسخه القرآن الكريم، وكان مما بقي وهو القصاص العادل.
وقوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) فيه إشارات بيانية نتكلم فيها، وذكرها فيه بيان معنى النص الكريم.(4/2225)
أولاها - " قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) أكثر العلماء قالوا إن قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ). متضمن معنى لَا تنحرف، بدليل أنه تعدى بعن في قوله تعالى: (عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ). والمعنى في الجملة لَا تتبع أهواءهم منحرفا عما جاءك من الحق، وهو ما نزل به القرآن الكريم، ولذلك نرى أن قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهمْ). لَا تضمين فيها، بل قوله تعالى: (عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ). يتعلق بحال محذوفة، والمرمى من هذه الجملة السامية أن الخروج عما أنزل الله تعالى باتباع أهوائهم الفاسدة المردية فيه انحراف عن الحق، وخروج عن الجادة المستقيمة، وبعد عن الإنصاف في ذاته، وكذلك الشأن فيمن يعدل عن حكم الله تعالى اتباعا لأهواء الناس، وإرضاء للشهوات والرغبات المنحرفة.
الإشارة البيانية الثانية - في قوله تعالى: (عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ). فيه إشارة إلى أن الذي يبتلى بأمثال هؤلاء اليهود ومن سار على طريقهم في هذه الأرض يكون بين أمرين، إما أن يطيع الهوى والشهوة وفيهما الفساد، وإما أن يطيع ما جاء من عند الله، وفيه العدل والهدى والرشاد، وأي الطريقين أهدى للوصول إلى الصلاح الذي لَا فساد يعكره.
الإشارة الثالثة - فيها بيان أن ما يحكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الحق والعدل في ذاته، وبذلك يكون حكم النبي - عليه الصلاة والسلام - قد تأيد بأمرين: أحدهما - أنه الحق في ذاته الذي لَا مرية في أنه العدل والأمر الثابت الذي لَا تجوز مخالفته في ذاته، ثانيهما - أنه جاء من عند الله الذي لَا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وهو بكل شيء عليم.
(لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) الخطاب لليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم من الذين أوتوا كتابا نزل بشريعة من عند الله تعالى، ويكون في الكلام التفات، فقد كان الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمتحدث عنهم أولئك الذين اتبعوا وحرفوا الكلم عن مواضعه، والمعنى على هذا لكل نبي من الأنبياء السابقين شرعة يسير نحوها، ويتجه إليها، ومنهاج واضح بين يسير في طريقه، ولا يلتوى عنه،(4/2226)
ولا يخرج منه، فإن ما عداه متاهات لَا يلتفت إليها، والذين يعاصرونه هم الذين يخاطبون بشرعته، ويسيرون في منهاجه، فالذين نزل فيهم القرآن مخاطبون بما جاء في القرآن، وشرعته ومنهاجه لهم؛ لأن شرعة الأنبياء السابقين ومنهاجهم قد انتهيا بمبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - وبقي من شرائعهم ما يقره القرآن، وما جاء النص بإقراره.
وتفسير الشرعة قد اتفق الفقهاء على أن المراد بها الشريعة، وهي ما جاء من أحكام تكليفية يجب العمل بها أمرا ونهيا وندبا وإباحة، والمنهاج على هذا هو الطريق الواضح لتنفيذها، وبيان مجملها، وتفصيل أحكامها الجزئية؛ ولذلك روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الشرعة هي النصوص التي تجيء في أصل الكتاب المنزل، والمنهاج هو ما يبينه النبي الذي أنزل عليه الكتاب، وفصل به الأحكام الجزئية (1).
هذا كله على أساس أن ضمير الخطاب قد وجه إلى اليهود والنصارى ممن كان لهم كتاب منزل، وقد يرد على هذا أن الرسالة الإلهية واحدة، فكيف يجيء فيها الاختلاف، وقد قال تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ. . .).
ونقول في الإجابة عن ذلك: إن الوحدة الجامعة بين الرسالات الإلهية هو ما يتعلق بالعقيدة منْ إيمان بالوحدانية ونفي للوثنية، وإيمان باليوم الآخر، وما يجري فيه من حساب وعقاب، ونعيم وجنات تجري من تحتها الأنهار، وجحيم وسعير إلى آخر ما ورد في الغيبيات. أما الشرعة التي يجيء فيها الاختلاف فهو الأوامر والنواهي، وبعبارة عامة فهي التكليفات من حلال وحرام، فقد يشدد الله تعالى على بعض الأقوام لغلظ قلوبهم، ويخفف على آخرين، كما قال تعالى:
________
(1) ذكر البخاري تعليقا: الإيمان (بَاب قَوْلُ النبِي - صلى الله عليه وسلم - بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسِ). وَقَالَ ابْنُ عَبَّاس: (شِرْعَة وَمِنْهَاجًا) سَبِيلا وَسُنَّةً.(4/2227)
(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146).
والمنهاج يختلف، فمن الأنبياء من دعا دعوته، وكان فريسة لاعتداء أعدائه من غير أن يقاوم بالسيف، ومنهم من شرع له أن يدفع الاعتداء بالسيف، وهكذا.
هذا الكلام كله على أساس أن الخطاب موجه إلى أهل الكتاب الذين سبقوا بكتاب أنزل عليهم، ونسخته شريعة القرآن، وقد جاء بعض المفسرين فقرر أن الخطاب لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، أي للمسلمين في حاضر أمرهم وقابله، وقد ذكر هذا الرأي ابن كثير في تفسيره، فقد قال: " وقيل المخاطب بهذه الآية هذه الأمة، ومعناه لكل - جعلنا القرآن - منكم أيتها الأمة شرعة ومنهاجا، أي هو لكم كلكم تقتدون به " ومؤدى هذا الكلام جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا لكل منكم، أي واحد منكم، فليس المضاف إليه المحذوف من بعد كل الأمم بل الآحاد، أي أن كل واحد من أمة محمد - عليه الصلاة والسلام - مخاطب بتكليفات الشريعة، وتنفيذ منهاجها المستقيم، الذي لَا عوج فيه ولا أمت.
والعلماء على التخريج الأول وهو ظاهر اللفظ ولا يخرج المعنى عن ظاهر اللفظ الذي يتبادر ويتجه إلى غيره إلا لعيب بياني في الظاهر، ومعاذ الله تعالى أن يكون ذلك في كلام الله جل وعز.
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكمْ) فعل المشيئة محذوف دل عليه ما بعده، وهو جواب لو، والمعنى لو شاء سبحانه أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكم كذلك، والمعنى على هذا لو شاء تعالى أن يجعل الإنسانية كلها أمة واحدة، يصلحها شرع واحد، وتتفق بالتكليفات الموجهة، لاتفاق الإنسانية الموحدة، لفعل سبحانه وتعالى، ولكنه سبحانه وتعالى عاملكم معاملة الختبر لكم بما آتاكم من مواهب مختلفة، وفيما ينزل عليكم من خيرات السماء، وفيما تجود(4/2228)
الأرض من زروع وثمرات، وفي اختلاف الأجواء، والإرادات الإنسانية ليتم التكليف، ويكون الاختبار.
وبيان ذلك أن الناس يختلفون أمما وعناصر، وقد توزعتهم أقاليم الأرض، فقوم تعالج قلوبهم الغليظة بما يفطمها عن شهواتها، ويجعلها في جادة الاعتدال، وأخرى تعالج بالتخفيف ليحيي موات النفوس فيها، وثالثة تعالج ببعض الحرمان، ورابعة بالاعتدال، وهكذا كانت الشرائع السابقة علاجا لأهواء النفوس التي تعامل معاملة المختبرة بتنازع الإرادات وسيطرة الأجواء، ومنازع الأهواء، ومضطرب الأحوال، فمن سلك الجادة وصل إلى الحق، ومن خالف كان له جزاء مخالفته، ولما جاءت رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ومعها القرآن كان العقل البشرى في طريق الكمال، وكانت بكلياتها صالحة لكل زمان، وكان الابتلاء قائما في منازعة الهوى، ومغالبة النفس الأمارة بالسوء، والتي ألهمت فجورها وتقواها.
وإن الابتلاء في الماضي والحاضر بالتخالف في الطبائع، وتخالف جزئيات الشرائع، وبعد رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - كالتخالف في الإرادات والمنازع، وفي كل هذا الابتلاء، والنجاح في هذا الامتحان الفطري هو بطلب الخيرات؛ ولذا قال سبحانه: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ).
إذا كان الله سبحانه وتعالى يعامل الناس في الماضي والحاضر معاملة الذين يختبرهم وهو العليم بحالهم، ومآل أمورهم، وهم يشعرون بكمال اختيارهم، وأنهم يختارون، ويتخيرون، فإن عليهم أن يحسنوا الاختيار ويسرعوا إلى الخير.
واستبقوا في أصل معناها: التسابق، ولكن لتضمنه السبق والابتدار تعدى من غير إلى، كما في قوله تعالى: (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ. . .). أي حاول كل واحد منهما الابتدار والوصول إلى الباب قبل الآخر، ومرمى النص أنه ليس لليهود أن يقولوا: نتبع شرعنا، بل عليهم أن يبتغوا الخير، ويسرعوا إليه، وهو في ذاته معلوم ببدائة العقول تدركه من غير عوج، وفوق ذلك فإن الدليل قد قام بما لَا يقبل الشك على رسالة محمد - عليه الصلاة والسلام - وهي الخير كله،(4/2229)
فليتركوا اللجاجة في هذا الأمر، وقد كانوا يتطاولون على المشركين بمبعثه، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
(إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفونَ) أي إليه وحده جل جلالة، وعظم ملكه مرجع الناس أجمعين من أهل الملل والنحل قبل القرآن والذين استمروا بعده فهم جميعا سيلقون الله تعالى يوم لَا ملك إلا ملكه، ولا سلطان إلا سلطانه ويخبرهم بالخبر العظيم الشأن، والنبأ الخطير الذي كانوا يتساءلون عنه في الدنيا، فيعلمهم بالصدق، وفي ضمن هذا الصدق جزاء ما عملوا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، فهو إنباء القول والعمل، حيث تجزى كل نفس ما كسبت، ففي هذا النص إنذار لمن بغى وعصى، وتبشير لمن أطاع وعدل واتقى، اللهم أحسن إلينا ووفقنا في أعمالنا، واغفر لنا ذنوبنا، واجعل نتيجة الابتلاء خيرا لنا برحمتك وعفوك إنك أنت الغفور الرحيم العفو الكريم.
* * *
(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
* * *
في الآيات السابقة ذكر سبحانه الأحكام في الكتب السماوية وأن اتباعها واجب لمن أرسلت إليهم، وقد أشار إلى أحكام خالدة، ومنها شريعة القصاص، لأنها شريعة العدل والمساواة، إذ فيها أن العقوبة كفاء الجريمة وأن العقوبة من جنس الجريمة، فمن أجرم فإن فعله يطوي في ثناياه استحقاقه للعقوبة على ما ارتكب، وله المثلاث فيما ارتكب.(4/2230)
ثم ذكر سبحانه أن التوراة لأهل التوراة، وأن الإنجيل لأهل الإنجيل، ولكل شرعة ومنهاج، أما القرآن فهو المهيمن على الجميع، ويجب أن يسود حكمه الجميع بلا استثناء ولو كان لكل شريعة ومنهاج، وقد أمر بالحكم به بين اليهود، وبين جميع الناس، لَا فرق بين يهود وغيره، ولا بين أبيض وأسود، ولقد كرر سبحانه وتعالى الأمر بالحكم بالكتاب، فقال تعالت كلماته:(4/2231)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)
(وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ). وكان تكرار الأمر بالحكم لتأكيده في مقام يستدعي التأكيد، لأنه جاء في الكلام ما ربما يوهم أن لكل قوم شريعة خاصة بهم، وأن حكم القرآن وما نزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس له صفة العموم فكان ذكر الأمر بالحكم مرة أخرى نفيا لهذا الوهم، وتأكيدا لمعنى عموم شريعة القرآن، وأن منهاج القرآن الكريم هو منهاجهم وأنهم قوم محمد - عليه الصلاة والسلام - وأن شريعة موسى وعيسى قد انتهت بنزول القرآن، يبقى منها ما يبقى ويشتمل عليه، ويبين ما انتهى حكمه بنزول القرآن الحكيم، وأنه لو كان موسى حيا ما وسعه إلا أن يتبع النبي - صلى الله عليه وسلم - (1).
وهنا بحث لفظي فيه تقريب لمعنى النص الكريم، ذلك هو بيان المعطوف عليه في قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُم) فلذلك عدة تخريجات كلها تتلاقى في تأكيد الأمر بالحكم بما أنزل الله تعالى.
أول هذه التخريجات أن تكون " وأن احكم " معطوفة على الكتاب، وتفسير الكلام على هذا التخريج أن يكون المعنى فيه وأنزلنا إليك الكتاب، وقولنا أن احكم - أي أنزلنا الكتاب، وقد اقترن به الأمر بأن تحكم بين الناس به، وبما أنزلناه عليك من وحي أوحى به إليك.
ثاني هذه التخريجات أن تكون " أنْ " مصدرية، وقد جوز الزمخشري دخول " أنْ " على أي فعل، ويكون المعنى: وأنزلنا إليك مع الكتاب والحكم بما أنزل الله تعالى، فما كان كتابا معطلا لمجرد التلاوة، بل كان شرعا معلوما متبعا مأمورا
________
(1) سبق تخريجه.(4/2231)
باتباعه، وكان دخول " أنْ " المصدرية على الفعل الأمر، للدلالة مع المصدرية على الطلب وتأكيد معناه، وهي معطوفة على: " بالحق ".
ثالث هذه التخريجات هو أن تكون " أنْ " هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن اسمها محذوف، أي الحال والشأن أن تحكم به بينهم، وتكون معطوفة على الكتاب، و " أنزلناه " بمعنى أعلمناك، لأن العلم هو الغاية.
وقد كان النهي عن اتباع أهوائهم فيه إشارة إلى أن الحكم إما أن يكون بما أنزل الله تعالى وأعلمه بحكمته وهدايته، وإما أن يكون اتباعا لأهواء الناس ورغباتهم، وذلك لأن القوانين البشرية تتبع الأعراف الاجتماعية للناس، وما تواطئوا عليه وما ارتضوه لذات أنفسهم، وقد يكون ظلما طبقيا، وقد يكون هضما لحقوق ذوي الحقوق التي اكتسبوها بما ينمي ثروة الجماعة ويزيد خيراتها، وشرع الله تعالى مخالف لحكم الهوى والشهوة وهو الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال.
(وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) هذا أمر موجه للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو موجه إلى الأمة الإسلامية، ولعل توجيه الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو المعصوم الذي يوحى إليه، ليكون تحذيرا لغيره؛ إذ غيره أولى أن يَغُره الغرور، وتفتنه الفتن، من شهوات مسيطرة، وأهواء متحكمة، وبذلك يكون الخطاب لجميع المخاطبين بالقرآن الكريم في كل العصور، ومختلف الدهور؛ لأنه إذا كان النبي عليه السلام يجب أن يحذر من أن يُفتن فلا ينفذ أحكام الإسلام في الحكم بين الناس، فغيره الحذر عليه أوجب، وأشد إلزاما.
والفتنة هنا معناها وقوع البلاء والشدة بعدم الحكم بما أنزل الله، ولقد قال في معنى هذا النص وما يشبهه الأصفهاني في مفرداته: " وقال تعالى: (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ) أي يوقعونك في بلية وشدة في صرفهم إياك عما أُوحي إليك ".
فالفتنة المراد بها هنا النتيجة المترتبة عن ترك الحكم بما أنزل الله تعالى، وأنه ليسبق تلك النتيجة إغراء من جانب الذين يتبعون أهواءهم، ويحاولون أن يكون(4/2232)
الحق تبعا لما يهوون، لَا أن يكون هواهم تبعا للحق، وكان إغراؤهم من الفتنة لأنه يؤدي إلى وقوع الشدائد، ولأن الإغراء، كيفما كانت صورته فيه اختبار للنفوس، فالهداية البالغة أقصى الحكمة ترد الإغراء كيفما كانت صورته، وضعفاء النفوس أو العقول يفترون، فيقعون في البلية والشدة، وفي التفسير المأثور، أن بعض أحبار اليهود، قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه، فقالوا: يا محمد، إنك عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وسادتهم وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود، ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قومنا خصومة، فنحاكمهم إليك، فتقضي لنا عليهم، ونؤمن ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنزل (وَأَن احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ).
وإننا نرى في عصرنا بعضا من هذا الصنف، فلا تزال تطلع على طائفة منهم يقولون: إن التشدد في الأخذ بأحكام القرآن وما جاء به محمد - عليه السلام - ينفر الناس من الإسلام، ويبعدهم منه، وإنا لنسمع كلام هؤلاء وليسوا من غير المسلمين بل المسلمون تتلوى بذلك ألسنتهم، فمنهم من ينفر من تحريم الإسلام للربا، لأنه ضد الاقتصاد، ومنهم من يمنع إقامة حدود الله، ويقولون: إن ذلك يتنافى مع الحضارة، وينفر الناس من الإسلام. . . يرددون ذلك في مجالسهم، ويقولونه وهم على الأرائك متكئون، ويغمزون في القول لمن يتشدد، وجاراهم مع الأسى بعض من يتكلمون باسم العلم الإسلامي، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقد حذر الله تعالى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبالأولى المؤمنين من أن يفتنوا عن بعض ما أنزل الله تعالى، وتشديد التحذير من الفتنة في البعض، يتضمن التحذير من الفتنة في كل ما أنزل الله تعالى، إذ الفتنة في الكل أشد إيجابا للتحذير من الفتنة في البعض، هذا وإن الفتنة في بعض ما أنزل الله تعالى تؤدي إلى الفتنة في كل ما أنزل الله سبحانه، لأن ما أنزل الله سبحانه وتعالى وأوجب الأخذ به مرتبط الأجزاء متماسك، فإذا حلت عروة منه انحل سائره، كالبنيان المرصوص، وإذا تهدم جزء منه تداعت لبناته وانهار البنيان، وصار أجزاء منثورة لَا تربطها رابطة.(4/2233)
وإن الوقائع بين أيدينا مُعْلِمةً شاهدة، فمن يوم أن ترك المسلمون أمورهم لحكام يعصون، ولم يلتفتوا إلى ما يدعوهم إليه ما أنزل الله تعالى على نبيهم - صلى الله عليه وسلم -. ذهب حكم الإسلام، وتداعت أركانه، وصار المسلمون مستضعفين في الأرض، ودينهم يدعوهم إلى أن يكونوا ذوي بأس شديد، أشداء على غيرهم رحماء بينهم.
ومن أجل ذلك جاء التحذير من الفتنة في البعض لكيلا يستسهل ويستصغر، فيجيء الأكبر، وهو حل عرا الإسلام عروة، عروة، وقد حذر الله سبحانه من عاقبة الذين يعرضون عن أن يحكموا بما أنزل على نبيه، فقال تعالت كلماته:
(فإن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يصِيبَهم بِبَعْضِ ذنُوبِهِمْ) ظاهر السياق أن الضمير في قوله تعالى: (فَإِن تَوَلَّوْا) إلى آخره يعود على اليهود، ومن لَفَّ لَفهم ممن يسيرون في الحكم على هواهم، وعاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعندي أن الضمير يعم كل من يخاطبهم القرآن، وهم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في كل الأجيال، وفي كل الأزمان، وإن كان اليهود وغيرهم ممن عاصروا النبي - صلى الله عليه وسلم - داخلين في حكم عموم الأمة ابتداء، والمعنى فإن أعرضوا عن تنفيذ حكم الله تعالى، فإنه سينزل بهم من الشدائد ما يتناب مع جعل شرائع الله تعالى معطلة لَا يقام العدل الذي تتضمنه، بل يكون حكم الهوى، وحسب ذلك فسادا (1).
________
(1) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ". رواه ابن ماجه: الفتن - العقوبات (4019).(4/2234)
وهنا يتكلم العلماء في بعض الذنوب التي سببت ما أصابهم الله تعالى، وما هي هذه الإصابة التي يصيبهم الله تعالى، وقد ذكروا وجهين، وأرى وجها ثالثا.
الوجه الأول - ما ذكره الزمخشري: أن هذه الذنوب التي هي بعض ذنوبهم، إهمالهم لحكم الله تعالى، واختيارهم حكما جاهليا يخضع للهوى، لا للعدل، والإصابة التي يصيبهم بها هي هذا الذنب الذي ارتكبوه، وما يترتب عليه من ظلم يقع، وشر لَا يدفع، لتنفيذ حكم الله مع أنه طاعة وهو العدل، والعدل إذا ساد عاشت الجماعة كلها في أمن وسلام، ورحمة واطمئنان، وعدم تنفيذ حكم الله هو الظلم والاضطراب والفساد.
الوجه الثاني - هو ما ردده أكثر المفسرين من أن الذنوب التي ارتكبوا بعضها يعاقبهم الله تعالى عليها بالشدائد تنزل بهم، ومن أعظم هذه البلايا أن يعم الفساد، وتصير أمورهم فوضى، لَا ميزان يضبطها ولا قسط يقيمها، وتكون الجماعة متدابرة متنازعة.
الوجه الثالث الذي اختاره، أن عدم تنفيذ العدل أو عدم الخضوع لأحكام الشرع هو في الواقع ثمرة لمفاسق تسبقه، فالنفس تتردى في مهاوي الرذائل، وتحيط بها الخطايا، ويتحكم فيها الهوى، وتصير أمة للذات والشهوات فتتمرد عن حكم الله تعالى، ويكون ذلك نتيجة لإصابتهم بذلك الذنب الكبير الخطير، وهو الإعراض عن حكم الله، وهو ذاته إصابة وكارثة، لأنه العدل والقسطاس، وأي جماعة تعرض عن العدل والقسطاس مآلها الخراب والدمار، وذهاب القوة، وإصابتها بالذلة، فلا عزة إلا عزة الحق، ولا ذلة إلا في الظلم.
وإننا رأينا هذه الحقيقة ثابتة، فأولئك الذين يتمردون على حكم القرآن والسنة قد مست نفوسهم معاص جعلتهم يستبيحون المحرمات من زنى وشرب للخمر، وإدمان في الربا، أو بناء الاقتصاد عليه، وهذه الذنوب هي التي منعتهم من إطاعة حكم الله، وإن الله يصيبهم بنتائج ذلك وهو الخراب الناشئ من(4/2235)
الظلم، والفساد الذي يعم وأولئك كثيرون، ولذلك قال سبحانه (وَإِنَّ " كَثِيرًا مِّنَ النًاسِ لَفَاسِقُونَ).
هذا النص فيه عزاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - من تمرد الناس على حكم العدل وحكم الحق، وعزاء لكل داع للخير من بعده، لكيلا ييئس داع؛ لأنه يحسب أن الخير يسير بمنطق مستقيم في النفوس، كما هو في ذات نفسه، فالله سبحانه وتعالى ينبه دعاة الخير إلى أنهم لَا يتوقعون الاستجابة من الأكثرين، كما قال تعالى لنبيه: (وَمَا أَكثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ). وقال سبحانه: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ. . .). ولأن دعوة الخير لا تجد الاستجابة بيسر، وكانت جهادا، وكانت تعبا، وعلى الداعي ألا تذهب نفسه حسرات إذا لم يجد الأكثرين يجيبونه، وليعلم أن دعوة الحق لها صدى يسمع في الأجيال وإن كانت لَا تسمع في زمان صاحبها.
والفسق معناه في الأصل خروج اللب عن قشرته التي تحميه من الفساد، وأطلق على الخروج عن الحق والتمرد عليه؛ لأن الحق هو الذي يحمي النفوس، ويكلؤها من عفن الرذيلة وفسادها، ومؤدى الكلام أن الذين ينغضون رءوسهم عن سماع الحق ودعوته، وعن الخضوع لحكمه ليسوا عددا قليلا ولكنهم كثير، وقد أكد سبحانه وتعالى كثرتهم بـ " إنَّ "، وبـ " اللام " في خبرها، والله سبحانه هو الهادي إلى سواء السبيل، وقد استنكر سبحانه فعل الفاسقين، ولو كانوا كثرة كاثرة، فقال تعالت كلماته:
* * *(4/2236)
أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ... (50)
* * *
هذا استفهام إنكاري توبيخي، أي أنه إنكار للواقع الذي يقع من الفاسقين عن أمر ربهم، وعن الحكم الذي يحكم به الله تعالى، والفاء هنا هي التي تفصح عن شرط مقدر، أي إذا كانوا يخرجون فهم يبغون حكم الجاهلية، وقدمت الهمزة على الفاء، لأن الاستفهام له الصدارة في الذكر دائما، ولو كان استفهاما إنكاريا لاستنكار الواقع، وسوق الكلام بشكل الاستفهام الإنكاري فيه تأكيد لمعنى ابتغائهم حكم الجاهلية، ثمة تأكيدان آخران، لارتضائهم الحكم الجاهلي: أولهما - تقديم(4/2236)
المفعول على الفعل، وفي ذلك إشارة إلى أنهم بإعراضهم عن حكم القرآن لا يبتغون ولا يريدون إلا الحكم الجاهلي، أي أنه لَا يخضع الشخص إلا لأحد نوعين من الحكم حكم القرآن، والثاني حكم الجاهلية - وقد يقال: بينهما ثالث، وهو حكم العقل والقسطاس، ونقول: إن من يبني حكم العقل والقسطاس لا يمكن أن يتولى عن حكم القرآن، إنما يتولى عن حكم القرآن من يريد حكم الهوى والشهوة، وحكم العقل وحكم الشهوة نقيضان لَا يجتمعان.
والتأكيد الثاني لارتضائهم حكم الجاهلية - هو التعبير عن رضاهم عنه بقوله تعالى: (يَبْغُونَ)؛ لأن البغي هو الطلب بشدة تؤدي إلى الظلم.
وإنه لَا وسط بين حكم الجاهلية وحكم القرآن؛ لأن حكم القرآن هو العدل وهو النظام، وهو المساواة في الحقوق والواجبات، لَا يعفى من حكمه شريف، ولا حاكم، وليس فيه مَن ذاته مصونة لَا تُمس، بل الجميع أمام الله تعالى على سواء، وأما حكم غير القرآن ففيه التفاوت بالطبقات، وفيه السيطرة التي لا يسوغها منطق ولا عدل، ولا نظام، وفيه أكل أموال الناس بالباطل، كالربا، وسائر أنواع السحت، وقد قال بعض التابعين: من حكم بغير الله فهو حكم الجاهلية.
وقد جاء في التفسير الأثري لابن كثير المحدِّث والمؤرخ ما نصه:
" ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، كما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم " الياسق "، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية، والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله. . . .(4/2237)
وما أشبه " الياسق " الذي وضعه جنكيزخان بـ " قانون نابليون " وما جاء بعده من قوانيننا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي القدير.
(وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) الاستفهام هنا إنكاري فيه إنكار للوقوع، أي أنه بمعنى النفي المؤكد، كأنه استفهم عن أن يكون ثمة من هو أحسن حكما من الله، فأجيب بالنفي المؤكد الذي لَا يتصور فيه أن يكون من هو أحسن حكما، والمعنى لَا أحد أحسن حكما من الله لقوم يوقنون، وهنا يرد سؤال هو لقد ذكر أنه لَا أحد أحسن حكما من الله لقوم يوقنون، مع أنه سبحانه أحسن حكما لمن يوقنون ومن لَا يوقنون، إذ هو العدل والمصلحة. وبها ينتفع البر والفاجر، والسليم والسقيم، فهو الخير الوارف الظلال، فلماذا القيد بقوله تعالت كلماته: (لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)؟. والجواب عن ذلك يتكون من جزءين: أولهما - أن أولئك هم الذين ينتفعون به، فكان الأحسن لهم والأقوم، أما غيرهم فهم قوم بور، وهم في غيهم يعمهون.
* * *
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
* * *(4/2238)
فى الآيات السابقات ذكر سبحانه وتعالى كتب اليهود الأولى، وكتب النصارى الأولى التي لم يعرها تغيير وتبديل، وبين أن القرآن هو الحاكم المهيمن على ما جاء قبله من الكتب، وأنه الحاكم عليها، وأنه المتبع ولا شريعة من الله سواه، بعد أن نزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأن الذين يتبعون غيره خارجون عن مبدئه، ويبغون حكم الجاهلية، إذ فارق ما بين حكم الجاهلية وحكم العدل هو الحكم بالهوى، وإذا كان ما مضى من آي كريمة قد تعرض لعلاقات الكتب فكان من المناسب أن يبين القرآن الكريم علاقة الجماعة الإسلامية بغيرها من الجماعات اليهودية والنصرانية، فجاء قوله تعالى ناهيا:(4/2239)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) الأولياء جمع ولي، والولي يطلق بمعنى الودود المحب، أو الصديق، ومن ذلك قوله تعالى: (. . . ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). ويطلق بمعنى النصير الحافظ، ومن ذلك قوله تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ. . .).
وهو في هذا النص الكريم يجمع بين النصرة والمحبة، والتوفيق والهداية، ويطلق الولي بمعنى من يتولي الأمر، ومن يكون صاحب الولاية، كما قال تعالى: (إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا. . .). وما المراد من اتخاذ الأولياء المنهي عنه في هذه الآية، يفسره الزمخشري بأنه الاستنصار والمودة والمحبة، ونفسره بأن يجعلوا ولايتهم لغيرهم في الانتماء، والنصرة، ويقبلوا أن يكونوا هم أهل ولايتهم التي ينتمون إليها، وينضوون تحت لوائها، فهي مثل قوله تعالى: (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28).
وهذا الرأي يؤيده ما جاء في سبب النزول، وتذكره كتب التفسير وهو أن بعض الأنصار كان يتولى بعض اليهود لما كان يرى فيهم من عدد كثير، وما عندهم(4/2239)
من سلاح. فتبرأ منهم لما نهي عن أن يكون عليه أو له أولياء غير المؤمنين واستمر على ولايتهم بعض المنافقين، فدل هذا على أن المراد بالولاية هنا الاستنصار بهم، والاندماج في ولايتهم، ولو سرا.
وهنا يرد سؤال أيجوز لنا أن نتخذ منهم بطانة ومعاونين؟ والجواب عن ذلك أنه لَا يجوز، وقد ورد بذلك النص القرآني، فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118).
ولقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينهى عن أن يستخدم غير المسلمين في الدولة الإسلامية، ويروى في ذلك أن أبا موسى الأشعري كان له كاتب نصراني، فأرسل إليه أمير المؤمنين عمر ينهاه عن ذلك، وجاء في آخر كتابه: (لا تقرِّبوهم إذ أقصاهم الله) فرد عليه أبو موسى يقول له: (لا قوام للبصرة إلا به). فكتب إليه عمر مرة أخرى كلمة موجزة: (مات النصراني والسلام) وقد فسر الزمخشري تلك الكلمة الموجزة بقوله: (يعني أنه قد مات، فما كنت تكون صانعا حينئذ فاصنعه الساعة، واستغن عنه بغيره).
والسؤال الثاني الذي يرد؛ أيجوز للمسلم أن تكون بينه وبين غير المسلم مودة؛ أم يجب التباعد عنه ما أمكن؟ ونقول في الجواب عن ذلك: إنه قد ورد في هذا نصان يبدو أنهما بادي الرأي متعارضان، أولهما - قوله عليه الصلاة وأتم التسليم: " لا تراءى ناراهما " (1) أي لَا تجمعهما نار يستدفئان بها أو يستضيئان بضوئها، أي لَا يجتمعان على مودة واصلة. والثاني - قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8).
________
(1) عَنْ قَيْسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً إِلَى قَوْمٍ مِنْ خَثْعَمَ، فَاسْتَعْصَمُوا بِالسُّجُودِ، فَقُتِلُوا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِصْفِ الْعَقْلِ وَقَالَ: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا». [رواه النسائي: القسامة - القود بغير حديدة (478)، وأبو داود: الجهاد - النهي عن قتل من اعتصم بالسجود (2645)].(4/2240)
والتوفيق بين النصين أن الأول جاء في الذين يشاقون الإسلام، ويتآمرون عليه، والثاني بصريحه جاء في الذين لم يأتمروا بالإسلام وأهله.
ونقول في ذلك: إن غير المسلمين أقسام ثلاثة:
القسم الأول - يعيشون مع المسلمين ويسالمونهم، ولا يعملون لحساب غيرهم، وهؤلاء لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وتصح مواداتهم، كنص الآية الكريمة: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ).
والقسم الثاني - الذين يقاتلون المسلمين، ويدبرون لهبم المكايد، وهؤلاء لا تجوز مواداتهم، وقد قال سبحانه في ذلك: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22).
وقال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجوكُم مِّن ديَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُم الظَّالِمُونَ).
القسم الثالث - طائفة لم تعلن المجاهرة بالعداوة، ولكنهم في قلوبهم يتمنون في ذات أنفسهم خذلان المسلمين، ونصرة غيرهم، فظاهرهم مع المسلمين، وقلوبهم مع أعدائهم وهؤلاء نعاملهم بما عامل به النبي - صلى الله عليه وسلم - المنافقين، نسالمهم، ولا نكشف خبيئة نفوسهم، ولكن نأخذ حذرنا منهم.
ومهما تكن أحوال المخالفين فإنه لَا تجوز الاستعانة بهم في خاصة شئون الدولة الإسلامية حتى لَا يكون منهم بطانة لَا تألوننا خبالا، وقد علل سبحانه النهي عن توليهم بقوله تعالت كلماته: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ).
أي أن السبب في منع المؤمنين من أن يستنصروا بهم أو يجعلوا منهم أولياء عليهم أو لهم، أنهم لَا يوالون المسلمين في ذات أنفسهم بل تكون نصرتهم فيما(5/2241)
بينهم، فالنصارى أولياء ونصراء لإخوانهم النصارى، واليهود أولياء ونصراء لليهود، فكل طائفة تنحاز ولايتها إلى أهل دينها، فالنصارى منحازون في الولاية إلى النصارى واليهود منحازون إلى اليهود.
ويصح أن نفسر النص بأنهم يوالي بعضهم بعضا أي اليهود يوالون النصارى ضد المسلمين، فكلتا الطائفتين تتولى الأخرى.
ويظهر لي أن الآية تدل على المعنيين، فالنصارى يوالي بعضهم بعضا واليهود كذلك، وهما دائما إلبٌ على المسلمين كما نرى في عصرنا الحاضر، فالعالم المسيحي كله يؤيد اليهود في اغتصابهم أرض الإسلام ووضعها تحت أيدي اليهود ومع أنهم يدعون عدم التعصب، يتعصبون ضد المسلمين ويؤيدون قيام دولة على أساس الدين.
(وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنً اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إن من يجعل نصرته منهم ويخضع بالولاية لهم فهو منهم. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن النص يفيد التشبيه أي أنه مثيلهم في معاداة الإسلام وأهله.
ولكن كثيرين من المفسرين يعتبرونهم منهم حقيقة، ولا تشبيه في القول ولا تمثيل، فيقولون: إن من اتخذ منهم نصراء وحلفاء وأولياء دون أهل الإسلام، فإنه منهم في التحزب على الله تعالى، وعلى رسوله والمؤمنين وأن الله تعالى ورسوله منهم بريئان، ويقول في تقرير هذا المعنى ابن جرير: " ومن يتول اليهود والنصارى دون المؤمنين فإنه منهم، فإن من تولاهم ونصرهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لَا يتولى متول أحدا إلا وهو به وبدينه، وما هو عليه راض، وإذا رضيه ورضي دينه فقد عادى ما خالفه وسخطه، وصار حكمه حكمه ".
وإن ذلك التولي بلا ريب ظلم للنفس. وظلم للمسلمين، ومن أركست نفسه في هذه الضلالة حتى صار لَا يطيق تركها، فقد استضعف نفسه، وظلمها، ثم ظلم المؤمنين، وبعد عن هداية أهل الإيمان، وارتضى حكم الطاغوت ولذلك(5/2242)
ذيَّل الله سبحانه وتعالى النص بقوله تعالت كلماته: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
وهذا النص بعمومه يشير إلى أن أعداء الإسلام ظالمون مهما يكن تعدادهم، وأن من يواليهم هو من القوم الظالمين، ولا تدخل الهداية قلبه؛ لأنه مرد على النفاق، ولأنه استضعفت نفسه والمسلمين، ولأنه لم يعمر الإيمان قلبه فكان قلبه ظلمات متكاثفة لَا يدخل من خلالها نور، ولا حق مبين، وقد صور سبحانه من يوالونهم، فقال:
* * *(5/2243)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
(فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ... (52)
* * *
بعد أن أشار سبحانه إلى أن الذين يجعلون نصرتهم من قبل المخالفين، وولايتهم لهم، ويقبلون أن يكونوا لهم تبعا - أخذ يبين أنه من بين الصفوف الإسلامية من ينتمون إليهم بقلوبهم، وهم بين المسلمين بمظاهرهم سواء أكانت هذه الظاهرة لها صلة بالخضوع الظاهري والحقيقي كضعاف المسلمين، أم كانوا لَا يخضعون لمبادئ الإسلام بأي نوع من الخضوع كالمنافقين الذين لَا يذعنون إذعانا ضعيفا أو غير ضعيف بل يقولون بأفواهم ما ليس في قلوبهم.
وهنا نقف أمام العبارات السامية ونحاول أن نذكر بعض ما تشير إليه من بيان، ونتعرض في ذلك لأمور بيانية:
أولها - قوله تعالى: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم).
الفاء تفصح عن شرط مقدر، مؤداه أنه إذا كان الذين يتولونهم منهم، فإنك واجد من بين صفوف المسلمين من في قلوبهم مرض يسارعون فيهم. . . إلى آخره. والتعبير بقوله تعالى: (فَتَرَى). تصوير للحال الواقعة من أولئك الضعفاء في إيمانهم، والمنافقين في قلوبهم - بأنها كالمرئية الظاهرة التي لَا تخفى على ذي البصيرة المدركة، وفي هذا تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وتنبيه للحال الواقعة ليعالجها بهداية الله تعالى، وما آتي به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حكمة، وليحتاط عليه الصلاة والسلام منهم، وليهيمن على توجيه قلوب الضعفاء، وتربية من يصلح منهم للتربية على(5/2243)
الإيمان، ممن لم يرشدوا ولم تمس بشاشة الإسلام نفوسهم، ولم تشرب قلوبهم حبه.
ثانيها - التعبير بقوله سبحانه: (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يسَارِعُونَ فِيهِمْ). وفي التعبير السامي، إشارة إلى أن الذين يعطون لهم حق الولاية والنصرة دون المؤمنين، سبب هذا الأمر منهم هو أن في قلوبهم مرضا، ومرض القلوب يكون إما من خور العزيمة، وعدم الإحساس بالقوة الدافعة لأن ينتصروا مما يقع عليهم من أذى، وإما من النفاق.
والمسارعة. المبادرة، وتعدى الفعل هنا بـ " في " مع أن المبادرة تتعدى بـ " إلى "، والحكمة في ذلك الإشارة إلى أنهم لَا يدخلون ابتداء فيهم، بل إنهم فيهم بقلوبهم من قبل، فالمسارعة انتقال من حال إلى حال في صفوفهم أي أنهم منغمرون قيهم دائما، ولا يخرجون عن دائرتهم.
ثالثها - أنهم في مسارعتهم وبقائهم على الولاء لهم والانتصار بهم يقولون بأفواههم: (نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَة). الدائرة ما يصيب الجماعات من شدائد ونوازل بسبب أعدائهم، ويقول الواحدي في أصل معناها: الدائرة من دوائر الدهر كالدولة، وهي التي تدور من قوم إلى قوم، والدائرة هي التي تُخشى كالهزيمة والحوادث، ومقتضى كلام الواحدي أن الدائرة كالدولة، إذ تتداول بين الناس، كما قال تعالى: (. . . وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).
والدائرة تدور بين الناس والجماعات، بيد أن الدولة تتداول بالقوة والسلطان والعزة، والدائرة تدور بالهزيمة والجائحات، فهي تدور بين الناس من جماعة إلى جماعة، ومن يخشى الدائرة من الجزع والهلع يتوقع الأذى والشر، ولقد قال الشاعر في معنى الدائرة:
ترد عنك القدر المقدورا ... ودائرات الدهر أن تدورا
وإن أولئك المتصفين بهذه الصفات من مرضى القلوب لَا يثقون بنصر الله، أو على الأقل حالهم ليست حال المطمئن إلى نصر الله، لخور نفوسهم، وضعف(5/2244)
إيمانهم، أو امتلاء قلوبهم بالنفاق، وإن إنهاء هذه الحال يكون بالنصر المؤزر، ولذا يقول سبحانه في توقع النصر المؤزر، والفتح المبين: (فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ منْ عِندِهِ). الفتح يطلق بمعنى التوسعة، كما قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ. . .).
ويطلق بمعنى الفصل بين الحق والباطل، ومن ذلك قوله تعالى: (. . . رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ. . .). ويطلق بمعنى الظفر والنصر، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا).
والفتح هنا يراد به المعاني الثلاثة، فهو السعة بعد الضيق، والفصل بين حق صادق، وباطل طاغ، والنصر والظفر.
ومعنى الرجاء من الله تعالى الوعد القاطع، لأنه من القادر على كل شيء الذي لَا يصعب عليه شيء، والتعبير بالرجاء لتعليم المؤمنين ألا ييئسوا من رحمة الله ونصر المؤمنين؛ لأنه وليهم وناصرهم، فالله تعالى يعد المؤمنين، وهو الذي لَا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض، فالله سبحانه وتعالى ينبه المؤمنين إلى رجاء النصر والسعة والفصل بينهم وبين أعدائهم وذلك كله من الله تعالى.
(أَوْ أَمْرٍ منْ عِندِهِ) والأمر الذي يجيء من عند الله هو خضد شوكة غير المؤمنين، حتى يرجى نصره، ولا يخشى من الدوائر أو تزول دولتهم.
ومعنى النص الكريم أن الله سبحانه وتعالى قد وعد المؤمنين بالفتح القريب الذي يرجوه المؤمنون، وأنه سبحانه وتعالى سينجز وعده الذي وعد به عباده الصالحين، وعندئذ تكون العزة لله ولرسوله والمؤمنين، ويكون الندم والحسرة على ضعفاء الإيمان، ولذا قال سبحانه:
(فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ) وعند الفتح، أو الأمر الذي يزيل سلطان من يستنصز بهم مرضى القلوب يفرح المؤمنون بنصر الله، ويصبح الذين أسروا في أنفسهم خذلان المؤمنين، ورجاء ما عند غيرهم نادمين على ما(5/2245)
أسروه، وخيب الله ظنهم فيهم، إذ رجوا ما عند الناس، ولم يرجوا ما عند الله، ورضوا بنصرة الطاغوت، وتركوا نصرة الله تعالى، وهنا نتكلم في أمرين: أولهما - معنى الندم على ما أسروه، أن الندم في هذه هو الظن الفاسد الذي وقعوا فيه، وخيبة الأمل فيما يرجونه، فليس ندمهم كندم التائب الذي يرجع إلى الله، وإنما ندمهم كندم المغيظ المحنق الذي كان يتوقع - أمرا فتبين له غيره.
الأمر الثاني - أن الله عبر عن ندمهم بالوصف لَا بالفعل للإشارة إلى أن هذا الندم حال دائمة مستمرة تتضمن الحسرة والغيظ، والألم المستمر.
* * *(5/2246)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ... (53)
* * *
ذكرنا ما حكاه الله عن المنافقين وضعفاء الإيمان، وفي مقابلة قول الأولين مرضى القلوب الذين استولى عليهم اليأس من رحمة الله تعالى، كان ما قاله أهل الإيمان قبل النصر وبعده، فقبله كان الرجاء يغمرهم، وبعده كان الفرح يملؤهم، وينددون بحال مرضى القلوب، ويستنكرون فعلهم فقد حكى سبحانه استنكار حالهم بقوله:
(أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أي هذه حال أولئك الذين أقسموا بالله بأقصى طاقة ما عندهم من إيمان، أنهم لمعكم، أي أن هؤلاء مرضى القلوب أعلنوا مقسمين بأقصى الأيمان، بأن يكونوا مع المؤمنين والرسول في ولايتهم ونصرتهم، ومعاونتهم، وقد أكدوا ذلك بعدة تأكيدات بأقصى الطاقة في القسم وتوثيق الكلام، وأكدوه بـ " إن " وبـ " اللام " المؤكدة، ومع هذه التوكيدات ما كانوا صادقين، بل كانوا خادعين، لأنفسهم وللمؤمنين، كما قال سبحانه: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهمْ وَمَا يشْعُرُونَ).
ولا يمكن أن ينجح من يكون هذا شأنه، ولذا قال سبحانه:
(حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأصْبَحُوا خَاسِرِينَ) تحتمل أن تكون هذه مما حكاه الله تعالى عن المؤمنين، ونميل إلى أنها من كلام الله تعالى، وهو حكم الله تعالى عليهم بثمرة ما كان من فساد قلوبهم، وهو إن ما يتوهمونه وما يعملون على(5/2246)
أساسه، ومن امتناعهم عن أن يكون ولاؤهم للمؤمنين وموالاة غيرهم دونهم - مآله الفشل والحبوط، وأن الله هو العزيز الذي ينصر من ينصره، ويعز من يعتز به، ومن يعتز بغيره يذل ويهون، وبذلك أصبحوا خاسرين، ولقد قال الزمخشري: إن الجملة في معنى التعجب، أي ما أعجب حبوط أعمالهم وما أعجب أن أصبحوا خاسرين، وهذا الكلام على أساس أن الجملة محكية عن المؤمنين، ونميل أنها حكم الله تعالى وهو العلي الحكيم، اللهم أعزنا بعزة الإسلام، وامنع عن قلوبنا الولاء لأهل الكفر والطغيان.
* * *(5/2247)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
* * *
في الآيات السابقة نهى الله سبحانه وتعالى المؤمنين عن أن يتخذوا من اليهود والنصارى نصراء يستنصرون بهم، ويعطونهم حق الولاية عليهم، فيجعلون الولاء لهم، وهم أعداء الإيمان وأعداء المؤمنين، وإن أظهروا الولاء لدولة الإيمان فهم في قلوبهم لَا يألونهم خبالا، وإن ذلك موضوعه علاقة دولة الإسلام بغيرها من الدول التي تعاديها، ولا يدخل في هذا الذميون الذين يعيشون في ظل الإسلام والمسلمين إلا إذا مالئوا الأعداء، فإنهم يكونون قد نقضوا العهد الذي عاهدوا المسلمين عليه.
وفى هذه الآيات، يومئ سبحانه وتعالت كلماته، إلى أن الذين يوالون دولة معادية للإسلام وأهله يسيرون في طريق الردة، لأنهم تركوا ولاية الله(5/2247)
والرسول والمؤمنين، وولايتهم هي الحق، وهم حزب الله، وحزب الله تعالى هم الغالبون.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأتِي اللَّهُ) الارتداد معناه الرجوع من غير هداية وإرشاد، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى. . .). ومن ذلك قوله تعالى: (. . . وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِر. . .).
فالارتداد في الآية الكريمة التي نتكلم في معانيها السامية معناه الخروج عن الدين، ويسمى ذلك ردة؛ لأنه انصراف عن الحق بعد أن اهتدى، ورجوع إلى الظلام بعد أن خرج إلى النور، وهو كمن يرتد على أدباره غير مبصر الطريق الضال الذي يسلكه لأنه لَا يواجهه.
وفى النص إشارة إلى أمرين - أولهما - أن فيه إيماء إلى أن العرب فيهم من سيرتد بعد إيمان، وذلك قد كان، فإنه بعد أن انتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى ارتدت قبائل عربية ولم تبق مساجد تقام فيها الصلوات إلا مسجد المدينة ومكة وعبد القيس، وقد تصدى لهم الصديق، وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى أزالوا شوكة الردة، وخيرهم الصديق بين سلم مُخزية أو حرب مُجلية، فاختاروا السلم لتوالي هزائمهم الأولى، وكان منهم من اشترك في الفتوح الإسلامية التي كانت من بعدها كلمة الله هي العليا في المشرق والمغرب، وفتح الله معها قلوب الناس، فدخلوا في الإسلام أفواجا، أفواجا.
وإن الآية الكريمة تومئ ثانيا إلى أن تولى الكفار أعداء الإسلام واتخاذ النصرة منهم على المؤمنين، وجعل الولاية لهم دون المؤمنين طريق إلى الارتداد؛ لأن من يعتز بغير عزة الله تعالى ينقص من إيمانه بمقدار موالاته لأعداء الله تعالى، واستمراره في الموالاة وإعطاء الولاية، ولقد قال سبحانه: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. . .).(5/2248)
وهنا يسأل سائل عن أمرين: أولهما - ما الموالاة التي تجر إلى الارتداد؟ وثانيهما - ما حقيقة الردة؟ ونقول في الإجابة عن السؤال الأول - إن الموالاة التي تفضى إلى الارتداد مراتب أعلاها أن يستنصر بهم على أهل الإيمان، كما كان يفعل بعض الملوك في الماضي، وكما فعل بعض الوزراء الذين مالئوا التتار على المؤمنين، حتى تمكنوا من أهل بغداد وغيرها من المدائن الإسلامية تقتيلا وتذبيحا، وهذه المرتبة أحسب أنها في ذاتها ردة، وليست ذريعة إليها فقط.
المرتبة المتوسطة - أن يواليهم في أوطانهم، ويستنصر بهم ويجعل ولايته لهم من غير معاونة لهم على أهل الإيمان، ولا تمكين لهم من رقاب المؤمنين، وتكون هذه للمستضعفين في أرضهم، وهؤلاء قد يفيض بهم الاستضعاف إلى أن يكونوا منهم، وبذلك يسيرون في طريق الخروج عن الدين.
المرتبة الأخيرة - أن نقدس تعاليمهم، ونحول مجتمعنا الإسلامي بما يشبه مجتمعهم، حتى يكون ما عندهم أمرا غير قابل للمناقشة، وما عندنا ولو كان من هَدْي الإسلام يكون قابلا للنقض، بل للاستهانة ووضعه دبر الآذان مما نراه من بعض المثقفين الآن في الديار الإسلامية، الذين لَا يتبعون أعداء المسلمين ويقلدونهم في الصناعات والعلوم الكونية، بل يقلدونهم في أهوائهم وشهواتهم ومجونهم، ومعابثهم، ويحسبون ذلك تقدما، وما هو إلا ارتداد إلى الحيوانية البهيمية، والأدهى من ذلك أن يعتبروا قوانينهم محكمة لَا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ويجعلوا شرع الله هملا مطويا في زوايا النسيان.
والجواب عن السؤال الثاني وهو تعرف حقيقة الردة، أن الردة مراتب أيضا.
أعلاها - إنكار ما جاء في كتاب الله تعالى، وإنكار الوحدانية والرسالة، وإنكار كل أمر علم من الدين بالضرورة ككون الصلوات خمسا، وكفرضية الزكاة والحج إلى آخر ما يُعَدُّ إطار الإسلام، من يخرج عنه قد خرج عن الإسلام، ومن ذلك أحكام الزواج والطلاق.(5/2249)
ووسطها - إهمال الأحكام القرآنية، واستبدال غيرها بها، وزعم صلاحية غيرها، وعدم صلاحية الأحكام القرآنية، ومن ذلك قول الذين يقولون: إن أحكام القرآن خاصة بزمان نزوله دون غيره، وإن للناس أن يبدلوا فيها ما شاء لهم التبديل.
وأدناها - تقليد غير المسلمين فيما عندهم من شر، وجعل القرآن وآدابه، والسنة وما اشتملت عليه أمرا مهجورا.
وإن المرتبة الأولى تبيح قتل معتنقيها، والأخريان يحبس أصحابهما، ويمنعوا من الجهر بنحلهم، وذلك لولي الأمر، وإن ذا النورين الإمام عثمان - رضي الله عنه - قال: " إن الله يزع بالسلطان ما لَا يزع بالقرآن " (1) وإن الله وعد. وإن وعده لصدق أنه إذا ارتد عن الإسلام من يرتد، فيكون من بعدهم من يعتز الإسلام بهم، ويرفعون شأنه، ولذا قال تعالت كلماته: (فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).
هؤلاء هم الذين وعد الله بأنهم سيزيدون عدد المؤمنين، إذا خرج من صفوفهم المنافقون، والذين يوالون أعداء الله، وإن (سوف) هنا لتأكيد وقوع الأمر في المستقبل، والتعبير - بـ (يَأتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ) فيه إشارة إلى أمرين: أحدهما - أن الله سبحانه الذي خلقكم، وهو ولي المؤمنين هو الذي يأتي بهؤلاء الأقوام الذين يحبهم ويحبونه. . .، وثانيهما - أنهم يكونون قوما متحدة مشاعرهم وأحاسيسهم، قد كانت قوميتهم نصرة الله ورسوله بنصرة الدين الحكم، ولذا عبر عن هؤلاء بأنهم قوم، أي عنصر قوي متآزر وحدته مكونة من الإيمان، ولا يكونون تابعين لغير دين الله تعالى.
وقد وصف الله تعالى أولئك الذين يأتي بهم في المكان الذي أخلاه المرتدون بأربع صفات هي من نعم الله تعالى عليهم، أولها - أن الله تعالى يحبهم وهم
________
(1) ذكره ابن كثير في البداية والنهاية: ج 2، ص/9.(5/2250)
يحبونه، وإن محبة الله تعالى للمؤمنين أعلى ما يصل إليه أهل الإيمان من نعمه، ومحبة المؤمنين لله أعلى درجات الطاعة والإيمان.
ومحبة الله تعالى لعباده التي تليق بذاته الكريمة المنزهة عن مشابهة الحوادث، هي أعلى درجات الرضا، فهي ليست الجزاء على النعيم وحده، ولا الغفران وحده، ولكنها مع الرضوان أكبر من ذلك، وقد قال تعالى في جزاء المؤمنين الخالصين لله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالدينَ فيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةَ فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ منَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
وعندي أن مكافأة الله تعالى لعباده بفضل منه ثلاث مراتب: المرتبة الأولى - الغفران والنعيم المقيم، والمرتبة الثانية - رضاه سبحانه وتعالى، والمرتبة الثالثة - وهي أعلى درجات المحبة، وهي الرضوان الكامل، ومحبة الله حال تليق بذاته العلية.
هذه محبة الله تعالى، ومحبة العباد له سبحانه - الإحساس بتجاه النفس إلى الله تعالى، والشعور بأنه ملء نفسه وقلبه، وأنه لَا يدخل في قلبه شيء غير عظمة الله تعالى وجلاله، فلا يحس بأن في الوجود غيره، وأن تلك المحبة ثمرتها القريبة الدانية الطاعة المطلقة لله ولرسوله، فلا يكون محبا من يعصي حبيبه، ولذا قال الله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّه غَفُورٌ رحِيمٌ).
فالمحبة لله وطاعته، والقيام بالتكليفات الشرعية أمران متلازمان، فالطاعة لازمة للمحبة، وليس بصحيح ما يجري على ألسنة بعض مدعي التصوف، من أن المحبة لله إذا وصلت إلى أعلى درجاتها، سقط التكليف بالأعمال الظاهرة، بل إن المحبة البالغة تزيد الطاعة تثبيتا، وأحب خلق الله تعالى لله، وأكثرهم محبة له سبحانه هو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما قصَّر في تكليفه قط، ولا يتصور منه ذلك، وقد طالبه الله تعالى بأكثر مما طالب به غيره، فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا(5/2251)
الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6).
الصفتان الثانية والثالثة - هما اللتان ذكرهما سبحانه وتعالى بقوله تعالت كلماته: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) والمعنى السامي لهذين الوصفين الكريمين أنهم أرقاء على المؤمنين في معاملتهم يخفضون جناحهم، كما قال تعالى في رفق الولد للأبوين: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرحْمَةِ. . .).
فهي ذلة حانية لأن خفض جناح الأخ لأخيه غير المتحكم فيه هي من قبيل التآلف العاطفي، لَا من قبيل الخنوع الذميم.
ومعنى قوله السامي: (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ). أنهم ينظرون إليهم نظرة العزيز الغالب لَا نظرة الذليل الخانع، فهم لَا يتملقونهم، ولا يترضونهم في غير مرضاة الله، و (عز) في أصل معناها غلب، كما قال تعالى: (. . . وَعزَّنِي فِي الْخِطَابِ). أي غلبني في الخطاب، وسيطر على الخصومة.
وهنا يرد سؤال لماذا تعدت كلمة أذلة على المؤمنين بـ " على " دون اللام، وقد أجاب الزمخشري في الكشاف عن ذلك بقوله: " فيه وجهان: أحدهما - أن يضمن الذل معنى الحنو والعطف، كأنه قيل عاطفين عليهم على وجه التذلل والتواضع - والثاني - أنهم مع شرفهم وعلو طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم، ونحوه قوله عز وجل: (. . . أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ. . .).
وخلاصة القول، أن هؤلاء المؤمنين يعاملون إخوانهم برفق ومحبة وبشاشة وعطف، ويعاملون أعداء الإسلام بغلظة وخصوصا في الميدان، كما قال سبحانه: (. . . جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ. . .). وقد جاء في(5/2252)
الآثار في صفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنه " الضحوك القتال " (1) فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه.
الصفة الرابعة بينها سبحانه وتعالى بقوله: (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ).
المجاهدة المغالبة وبذل الجهد، وهو أقصى الطاقة، في سبيل الله أي: في سبيل رفعة كلمة الحق ونصر دينه وإعلاء شأنه، وكل مجاهدة في إعلاء حق وخفض باطل هي في سبيل الله؛ لأن طريق الله تعالى هي طريق الحق أيا كان موضعه، وأيا كان باعثه؛ لأن شرع الله تعالى يدعو إلى الحق، وإلى صراط مستقيم.
وإن الجهاد تتنوع ضروبه، وتختلف أساليبه، فقد يكون بالسيف لإعلاء كلمة الله، ورد الأعداء عن أهل الإيمان، وقد يكون ببذل المال لنصر الدين والحق، وإعلاء كلمة أهل الإيمان، وقد يكون باللسان ببيان الحقائق الإسلامية، وتأليب الناس على المشركين، ولقد قال - عليه السلام - " جاهدوا المشركين بأنفسكم وألسنتكم وأموالكم " (2).
وإن الجهاد في الحق يوجب على المجاهد ألا يخشى غير الله، ولذلك وصف الله سبحانه أولئك المجاهدين بأنهم: (وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ). أي لا يخافون لومًا قط من أي لائم كائنا من كان، واللومة هي المرة من اللوم، وكان التعبير باللومة دون اللوم للمبالغة في نفي الخوف لأنها منكَّرة، ومن تصدر عنه منكَّر، أي لَا يخافون أي لومة سواء أكانت شديدة أو كانت رقيقة، ومن أي لائم سواء أكان كبيرا أم كان صغيرا، وسواء أكان ينفع ويضر أم كان لَا خير فيه، هذا ما ذكره المفسرون، ونلتمس وجها آخر للتعبير، باللومة، وهو أن التعبير بفعل المرة يفيد وقوع اللوم، لَا مجرد توقعه، أي أن هؤلاء لَا يخافون اللوم الواقع، بل
________
(1) ذكره ابن كثير في التفسير: ج 3، ص 123، وقال في ج 4، ص 208.
(2) سبق تخريجه.(5/2253)
يتحملونه مع ما فيه من ابتلاء واختبار قد يكون شديدا، وقد حبب الله تعالى لعباده الجهاد في سبيل رفع الحق، فقد جاء على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام: " أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر " (1) وقال عليه السلام: " ألا لَا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده، فإنه لَا يقرب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقول بحق " (2). وقال عليه السلام: " لا يحقرن أحدكم نفسه، بأن يرى أمرا لله فيه مقال فلا يقول فيه " (3).
(ذَلِكَ فَضْل اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) الإشارة في هذا النص السامي، إما أن تكون لكل ما سبق من إيمان صادق، ومحبة من الله ورضوان منه، ومحبة من العبد ومعها الطاعة المطلقة لله ولرسوله، وتعاطف وتراحم بينهم، وشدة على أعدائهم وجهاد سبيله، وإما أن تكون لأقرب مذكور، وهو الجهاد في سبيل الله، واطراح لوم اللائمين وعدم الالتفات إليهم، وإنه على الاحتمالين ذلك من فضل الله تعالى، الذي يصطفي من عباده من يكون أهلا لذلك، ويعمل بإرادته ليصل إلى هذه، وكانت هذه الصفات من فضل الله تعالى؛ لأن الإخلاص لله تعالى، والفناء في محبته نعمة لَا يدركها إلا من يذوق حلاوتها، والتآلف بين المؤمنين والتعاطف والبر فضل كبير تعتز به الأمم، والوقوف أمام الأعداء، والجهاد في سبيله، والرضا به، والعمل فيه فوز عظيم لأنه حماية للحوزة، ومنع للذلة.
وقد ذيل سبحانه وتعالى النص بقوله تعالت كلماته: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
________
(1) رواه النسائي: البيعة - فضل من تكلك بالحق عند إمام جائر (4209)، وأحمد: أول مسند الشاميين - حديث طارق بن شهاب (18349).
(2) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ رَهْبَةُ النَّاسِ، أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا رَآهُ أَوْ شَهِدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ، وَلَا يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ، أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ ". رواه أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند وأبي سعيد الخدري (11082).
(3) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا يَحْقِرَنَّ أَحَدُكُمْ نَفْسَهُ أَنْ يَرَى أَمْرًا لِلَّهِ عَلَيْهِ فِيهِ مَقَالًا، ثُمَّ لَا يَقُولُهُ، فَيَقُولُ اللهُ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَقُولَ فِيهِ، فَيَقُولُ: رَبِّي خَشِيتُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: وَأَنَا أَحَقُّ أَنْ تَخْشَى ". رواه أحمد: باقي مسند المكثرين - مسند أبي سعيد الخدَري (10862).(5/2254)
أى والله سبحانه وتعالى جل جلاله واسع الفضل والجود والرحمة، يجود بفضله على من يشاء من عباده، وهو عليم بمواضع الفضل ومن يستحقه ومن لا يستحقه، وأطلق الوصف لله تعالت ذاته المقدسة للإشارة إلى السعة في كل شيء، فهو يوسع في الرزق لمن يشاء، وييسر من يشاء للجهاد بنفسه أو بلسانه أو بماله، وهو يسع الناس جميعا برحمته، اللهم اجعلنا في سعة رحمتك.
* * *
(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
* * *
الكلام السامي موصول في بيان نهى المؤمنين عن أن يتخدوا نصراء من اليهود والنصارى وسائر الكفار، وفي هذا النص الكريم يبين سبحانه أن هؤلاء(5/2255)
اليهود والنصارى لَا تصح موالاتهم لَا للأسباب السابقة من أنهم يوالي بعضهم بعضا ولا يوالونكم، ومن أنه لَا يواليهم إلا من يكون في قلبه مرض، ومن أن موالاتهم تؤدي إلى استحسان ما عندهم، وإن ذلك يؤدي إلى الارتداد، ولا من أن موالاتهم مناقضة لولاية الله ورسوله والمؤمنين، وهم الأولياء حقا وصدقا، لا تصح موالاتهم لهذه الأسباب فقط، بل لها ولأمر واقع منهم، مستمر فيهم، وهو الاستهزاء بدينكم، واللعب به، والعبث المستمر، ومن يواليهم وهم على هذه الحال، فقد تخلى عن دينه وإيمانه، ولقد قال تعالى:(5/2256)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55)
(إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) الولي هنا النصير الموالي، وولي الأمر الكالئ الحامي، والأنيس الذي يرجى في الشدائد، ويرجع إليه في الكروب، والملجأ والمعاذ.
وقد قصرت الولاية على هؤلاء بأداة القصر " إنما "، والمعنى أن الله تعالى ورسوله والمؤمنين الصادقين في إيمانهم الذين لم يعترهم زيغ ولا ضعف، ولا استخذاء واستكانة للذل، واستسلام للأعداء، ولا ولي للمؤمن غير هؤلاء، فلا يصح للمؤمن أن يطلب بأي صورة النصرة من غيرهم؛ لأن قلوبهم مهما يكونوا مطوية على ضغن شديد، وحقد مستمكن، وهم لَا يريدون بالإسلام وأهله إلا الهوان، بل الفناء.
وفى هذا النص عبرة للمعتبرين الذين يرتمون في أحضان أعداء الإسلام، ويوالونهم، وهم الذين يؤذون المسلمين، ويخرجونهم من ديارهم، ويظاهرون على إخراجهم، والنبي عليه السلام يقول: " المسلم أخو المسلم لَا يحقره، ولا يظلمه، ولا يسلمه، ولا يخذله " (1).
(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعونَ) هذه أوصاف المؤمنين الجديرين بأن يكونوا مع الله ورسوله في ولاية المؤمنين، وقد ذكرت لهم أوصافا
________
(1) متفق عليه، وقد سبق تخريجه، واللفظ لمسلم.(5/2256)
ثلاثة: كل واحد منها يومئ إلى معنى اجتماعي يدخل في تكوين الجماعة الربانية التي لَا تعمل إلا لله، ولا تقوم إلا له، الوصف الأول إقامة الصلاة، أي أداؤها مقومة كاملة لَا اعوجاج فيها، لتؤدي غايتها وهي تربية الوجدان الاجتماعي الذي يكون معه الإيثار، والسيطرة على الأهواء المردية المخزية، وهي الصلاة التي قال الله تبارك وتعالى فيها: (. . . إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ. . .).
والوصف الثاني أنهم يؤتون الزكاة، أي يعطونها سمحة بها نفوسهم، راضية بعطائها قلوبهم يحسبون أن عطاءها مغنم لَا مغرم، وذلك هو التعاون المادي المنبعث من القلب. وإذا كانت الصلاة مبعث التآلف الروحي، فالزكاة مظهر التعاون المادي الخالص.
والوصف الثالث ذكره سبحانه وتعالى بقوله: (وَهُمْ رَاكِعُونَ).
لقد قال كثير من المفسرين: إن هذه الجملة حالية من قوله تعالى: (وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ). أي أن إعطاء الزكاة يكون في حال الركوع، ويقولون: إن سبب ذكر ذلك أن إمام الهدى عليًّا أعطى صدقة وهو راكع، ولا نرى ذلك؛ لأن ذلك قطع للصلاة وانصراف عنها، ولا يكون ذلك من على كرم الله وجهه، وثانيا - أن اللفظ، ومؤدى ذلك أنه يكون محمودا من المؤمنين أن يؤدوا زكواتهم وهم يركعون ركوع الصلاة.
والذي نراه أن الركوع هنا ليس هو ركوع الصلاة المفروضة، إنما هو الخضوع المطلق لله تعالى في كل أعمالهم، في مصانعهم، ومتاجرهم ومزارعهم، وسياستهم، بحيث يكون كل شيء لله تعالى؛ ويتحقق فيهم قول النبي عليه السلام: " لا يؤمن أحدكم، حتى يحب الشيء لَا يحبه إلا لله " (1). سبحانه في الغدوات والروحات.
________
(1) سبق تخريج ما في معناه من حديث صحيح.(5/2257)
جاء في مفردات الأصفهاني ما نصه: والركوع يطلق بمعنى الخضوع لله.
" الركوع: الانحناء، فتارة في الهيئة المخصوصة في الصلاة، كما هي، وتارة في التواضع والتذلل، وإما في غيرهأ. والله أعلم.
* * *(5/2258)
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
(وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
* * *
الحزب معناه:
الجمع المتضافر المتآزر القوي الذي يمانع ويقاوم، سواء أكان في الخير أم كان في الشر، وحزب الله تعالى حزب الخير، ولا خير أعلى مما يجتمع عليه.
ومعنى النص الكريم: من يجعل نصرته من الله ورسوله وولاءه لهما، وأمره إليهما، فإنه سيكون حزب الله المتضافر على الخير، وسيكون هو الغالب إن شاء الله، وهنا إشارتان بيانيتان ننوه عنهما:
إحداهما - أن قوله تعالى: (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ). يومئ إلى مقدر محذوف من القول يُبيِّن في المعنى، وهو أن الذي يتولى الله ورسوله يكون من حزب الله القوي المتضافر على الخير، وإن حزب الله وجماعته هم الغالبون.
الثانية - أنه في قوله: (فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ). لم يذكر اسم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي ذلك إشارة إلى أن الرسول لَا يعمل إلا بأمر من الله، فيكتفى هنا بذكر الله؛ لأنه المسيطر الغالب القاهر فوق عباده، اللهم اجعل ولايتنا لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين، اللهم اجعلنا من حزب الله دون غيره.
* * *(5/2258)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا ... (57)
* * *
النداء للمؤمنين بالوصف الذي ميزوا به، واختصوا به دون الناس، وهو مناط رفعتهم وجامع وحدتهم، وإذا كان الدين هو الجامع لهم فالذين يسخرون منه، ويستهزئون به يصيبونهم في صميم ما عليه جتمعون، وبه يعملون، وفي سبيله قدَّموا، ويقدمون الفداء، والمعنى: يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان، لَا تتخذوا نصراء وأحبابا أولئك الذين يسخرون من دينكم بجعله لعبة يلعبون بها، ومسلاة يتسلون في عبثهم بها، ويستهزئون به مستخفين، فهذا النص تحريض على عدم الانتماء إليهم(5/2258)
بذكر ما هو سر اجتماعهم، وفيه إشارة جلية إلى أنهم لَا يمكن أن يكونوا نصراء يريدون العزة لهم؛ لأن ما به عزتكم واجتماعكم يتخذونه سخرية يلهون به ويعبثون.
وهنا مباحث لفظية في بيانها تقريب لمعنى النص السامي.
أول هذه المباحث - التفرقة بين الهزء واللعب؛ فهما في النص الكريم معطوف أحدهما على الآخر، وبمقتضى هذا العطف هما متغايران، وإن كانا ينتهيان إلى معنى واحد، وهو السخرية بالاستهزاء، والعبث، فهم يسخرون من الدين، ويسخرون من أهله، ويستهزئون بأهله، ويتعابثون به ويلعبون بحقائقه.
والهزء معناه المزح في خفة، أو المزح في مقام الجد للسخرية بموضوعه، والعبث به، وقد يكون بالقيام بظاهر بعض الأعمال، وهو يخفي نقيضها، كما قال سبحانه وتعالى عنِ المنافقين (وَإذَا لَقُوا الَّذينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ).
وعلى هذا يكون معنى الاستهزاء أو الهزء مشتملا على معاني الاستخفاف والتهكم، والمزح العائب.
واللعب أصل معناه من لعاب الطفل، ويقال عن الطفل لعب بفتح العين إذا سال لعابه، ومعناه - على العموم - العمل الذي لَا يقصد به نفع، ولا طلب ثمرة، بل يقصد به مجرد إزجاء الفراغ، والتسلية.
والمعنى الجملي للفظين: أنهم يسخرون من الدين باتخاذه موضع استهزاء ومزح، وموضع لعب وعبث لَا يقصدون نحوه بشيء إلا بما يقصد به اللاعب للعبته وهذا أبعد ما تكون عليه الاستهانة، فهل يجوز لمؤمن أن يقبل موالاة هؤلاء، وهو لايزال على صفة الإيمان.
وقد وصف عملهم بأنهم اتخذوا الدين هزوا، أي جعلوه هزوا ولعبا، أي جعلوه مستهزئا يمزحون به ولعبة يلعبون بها، وقد قدر بعض العلماء محذوفا، وهو أن يكون موضع استهزاء ولعب.(5/2259)
المبحث الثاني من المباحث اللفظية - قوله تعالى:
(مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ) و (مِّنَ) هنا بيانية فيها بيان لأولئك الذين يستهزئون ويلعبون بدين الله دين الحق، وهم اليهود والنصارى، وعبر عنهم بـ " أوتوا الكتاب "؛ لأن أصل شرعهم ينتمي إلى كتاب منزل، وإن حرفوا فيه الكلم عن مواضعه وغيروا وبدلوا ونسوا حظا مما ذكروا به، وهم كفار، وليس كفر أعظم من كفر، إلا أن تكون بقية علم عندهم، وهي لا تجعل لهم مقاما أدنى في الكفر، ولو كانت تجعل في الإمكان التلاقي في بعض المعلومات الدينية التي لم يعبثوا بها.
وقد تكلم العلماء فقال الأكثرون: إن الكفار هم المشركون، وأطلق عليهم الكفار دون إطلاقه على أهل الكتاب، وقد علله بعضهم بأن كفرهم أشد، وعندي أنهم جميعا كفار، لقوله تعالى: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُئم الْبَيِّنَةُ) أالبينة]. وليس كفرهم أعظم من كفر أهل الكتاب؛ لأن كفرهم عن جهل، وكفر المشركين عن علم، ولا يمكن أن يكون الجهل عنصرا مشددا، والعلم عنصرا مخففا، ولكن ذكروا بوصف الكفار؛ لأنه لا وصف لهم غيره، إذ لم يؤتوا بكتاب.
على أننا نرى أن عطف الكفار على أهل الكتاب من باب عطف العام على الخاص، فكلمة كفار تشمل كل كافر بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، على أنه خص أهل الكتاب بالذكر، لأنه الموضوع من الأصل في عدم موالاة المؤمنين لليهود والنصارى، ثم عمم الحكم على الجميع ممن كفروا بمحمد - صلى الله عليه وسلم -.
المبحث الثالث - في قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
وكان الأمر بالتقوى في هذا المقام، للإشارة إلى أن ذلك هو الحصن الحصين الذي يغني عن طلب الأولياء، لأن معنى التقوى اتخاذ الله سبحانه وتعالى وقاية دون شر الأشرار إذ إن النصرة لَا تكون إلا منه، وهو المعاذ، والملجأ والناصر والولي، ولأن اجتلاء النفس بتقوى الله تعالى وخشيته تجعل كل قوى مهما تكن(5/2260)